جامعات في سوريا بعد الأسد: ملامح “الأسلمة” والتخبّط المؤسّساتي/ مرام أحمد

24.05.2025
بات الدفع واضحاً باتّجاه أسلمة الفضاء الأكاديمي في سوريا، إذ اقتحمت ملصقات دعائية ودعوية دينية جدران الجامعات، ملصقات تحثّ على تجنّب “الملهيات الدنيوية” بدءاً من غضّ البصر وصولاً إلى العزوف عن المحاضرات الدراسية، كما نصبّ بعض الطالبات أنفسهنّ داعيات للدين في الحرم والسكن الجامعيين، وقمن بحملات على غرار حملة “الشيخ الذهبي”.
منذ سقوط نظام الأسد، شهدت سوريا سلسلة من التحوّلات التي طالت مختلف القطاعات، وكان قطاع التعليم العالي من أبرز القطاعات تأثراً، إذ بعد إعلان فرار الأسد بأيّام، كأن أوّل “بناء” أُقيم، هو مصلّى في منتصف كليّة الآداب في جامعة دمشق، مصلّى أنشئ بـ”مبادرة فردية”، حُفرت الأرض إثرها، وصُبّت الدعائم حتى قبل أن يعرف الطلّاب مصير دروسهم.
مع مرور الوقت، تكشّفت ملامح أسلمة الفضاء الأكاديمي، إذ رُفع الأذان، وأُقيمت صلوات جماعية في ساحات الحرم الجامعي، بل حتى في أكثر المواقع غرابة كأسقف مواقف السيارات؛ وهو ما مثّل نوعاً من التعبئة العلنية للممارسة الدينية داخل الحرم الجامعي، تبع ذلك، حملات “إرشاد ديني” اقتحمت هذا الفضاء عبر ملصقات دعائية ودعوية تحثّ على تجنّب “الملهيات الدنيوية” بدءاً من غضّ البصر، وصولاً إلى العزوف عن المحاضرات الدراسية.
نصبّت بعض النساء أنفسهنّ داعيات للدين في الحرم والسكن الجامعيين، وقمن بحملات على غرار حملة “الشيخ الذهبي“، وحملة “حجاب المرأة المسلمة“، عكسن من خلالها تصوّراً إقصائياً، مفاده أن النقاب فقط هو المظهر الشرعي المقبول دينياً وأخلاقياً.
السلطة الجديدة منذ لحظة تسلّمها الحكم عيّنت شخصيّات ذوات توجّهات إشكالية في مواقع أكاديمية، كان من بينهم عميد كليّة الإعلام في جامعة دمشق خالد زعرور، صاحب مفهوم “مجتمع الدال” أي “مجتمع الدياثة”، لما فيه من مشاركة صور نساء العائلة على مواقع التواصل الاجتماعي حسب رأيه، وهو ما عكس رؤية ضيّقة وقاتمة عن مستقبل الحياة الأكاديمية، على رغم تبريره لاحقاً استخدام هذا المصطلح، وفصل واجبه الأكاديمي عن آرائه الشخصية.
لم تبقَ هذه الممارسات على هيئة سلوك فردي وإجراءات عشوائية؛ بل امتدّ تأثيرها ليطال البنية التحتية للجامعات، حيث تمّ افتتاح مصليّات رسمية في الكليّات، أي أن المصليّات ما عادت مجرّد غرف معزولة داخل كليّات الجامعات كما كانت في السابق؛ بل أصبحت جزءاً من البنية التحتية الرسمية لبعض الجامعات. وعلى الرغم من أن هذه المنشآت غالباً ما تُبنى بتمويل خارجي، وتبرعات تطوّعية، وأحياناً برعاية مؤسّسات دينية خيرية، مثل “مؤسّسة التميّز لكفالة اليتيم” و”مؤسّسة الرزّ للرعاية والتنمية“، فإن بناء منشآت كهذه أو حتى ترميمها؛ لا يمكن أن يتمّ من دون طلب صريح أو ضمني من قِبل إدارة الجامعة، ما يعكس حالة من التبنّي والتناغم؛ وحتى التقاطع بين توجّهات المؤسّسات الدينية والإدارة الأكاديمية.
بالتدريج، تطوّر الأمر ليصل إلى إدماج فترات مخصّصة لصلاة الجمعة ضمن الجداول الدراسية الرسمية لبعض الجامعات الخاصّة، مثل الجامعة العربية الخاصّة للعلوم والتكنولوجيا في حماة، وجامعة الشام الخاصّة بفرعيها، بحيث أصبح أداء الصلاة جزءاً مبرمجاً من الدوام الرسمي.
حتى وإن سلّمنا أن صلوات الجماعة التي أُقيمت في الحرم الجامعي بُعيد “التحرير”، كانت مجرّد طقوس احتفالية عابرة، فإن استمرارها يكشف تحوّلاً بنيوياً، إذ لم تعد مجرّد استثناءات، بل تسرّبت بشكل ممنهج إلى الحياة الجامعية. وبهذا يكون الدين قد تحوّل من كونه خياراً شخصياً يتّخذه الفرد بحرّية، إلى إطار ترعاه المؤسّسات الرسمية، ما يضع فئة من الطلاب تحت المجهر، ويدفعهم للمشاركة تجنّباً للإحراج، أو الوصم، أو التمييز الطائفي.
قيود اللباس وضبط السلوك في الجامعات
تزامناً مع الصبغة الدينية للفضاءات الجامعية، بدأت الإدارات بفرض قيود على الطالبات داخل الحرم الجامعي، سواء بشكل مباشر أو ضمني، كان أبرزها ما صدر مؤخراً عن جامعة المنارة، التي حظرت دخول الطلّاب إلى الحرم الجامعي بلباس وصفته بـ “غير اللائق”، وهو توصيف فضفاض شمل: “البيجاما، البلوز القصير، وحتى التيشرتات بأكمام قصيرة…”. تعزّزت هذه القيود بإجراءات عقابية شملت فرض غرامات مالية، وإحالة المخالفين إلى لجان انضباط، وهي آليات قانونية تُوحي بأن الجامعات باتت تدين الحرّية الشخصيّة بأبسط صورها.
تقول بلقيس، طالبة في جامعة دمشق وتُقيم في السكن الجامعي: “لا أعلم إلى أين أهرب، نحن محاصرون من جميع الجهات، في السكن صار لدينا إمام معتمد، يحذّرنا من أي نشاط يُلهي عن العبادة، ويكفّر من أراد، متى أراد، ويهدّدنا حرفياً بالإبادة إذا لم نذعن لأوامر الدين”.
وتضيف: “أما الحرم الجامعي، فتحوّل إلى كابوس فعلي لكلّ من لا ينتمي إلى دينهم وفكرهم، خصوصاً الإناث منّا، فهناك طالبات امتهنّ الدعوة ونصّبن أنفسهن مفتيات علينا، يظهرن في كلّ مكان، ويدعَوننا إلى وضع النقاب، ويُعيبن علينا إذا تبادلنا حديثاً عابراً مع زملائنا الطلّاب”.
السكن الجامعي في دمشق-طريق المطار ، الوحدة الخامسة، وحدة الفتيات
في حين تبقى الطالبات الطرف الأكثر تضرراً من تفلّت الأوضاع الجامعية، إذ تجاوزت الضغوط حدود التعليمات الرسمية لتتسلّل إلى تفاصيل حياتهن، بخاصّة المُقيمات منهنّ في السكن الجامعي، عبر توجيهات تصل إلى أعتاب غرفهن السكنية، حيث تُطرق عليهن الأبواب لتلقينهنّ نصائح مغلّفة بالوعظ الأخلاقي، تهدف إلى وصاية تربوية عليهنّ ودفعهنّ قسراً للامتثال للمعايير الدينية الإسلامية.
بالمقابل، تزايدت حدّة التوترات في السكن الجامعي، حيث سُجّلت سلسلة من الخلافات والاعتداءات أساسها تحريض ممنهج وهتافات طائفية متعصّبة، تصاعدت لتصل إلى مشاحنات واعتداءات جسدية خطيرة، تلاها تبادل خطابات كراهية وتهديدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما ساهم في تأجيج الصراعات وزيادة الانقسامات بين الطلّاب. على إثرها، أصدر وزير التعليم العالي مروان الحلبي قراراً يمنع أي تحريض طائفي أو عنصري في الجامعات والمعاهد السورية، سواء شفهياً أو عبر الإنترنت.
ويذكر أنه اليوم، لا يوجد في سوريا من يمثّل صوت الطلّاب وينقل احتياجاتهم؛ إذ يسود المشهد الجامعي شعور عامّ بالخوف والحذر، نتيجة هشاشة الوضع السياسي والاجتماعي والأمني، وغياب أية كفالة فعلية لحرّية التعبير، مما دفع الغالبية إلى الانكفاء وتجنّب إبداء آرائهم تفادياً للمجهول.
مع وصول أحمد الشرع إلى السلطة تمّ حلّ جميع الأطر التمثيليّة السابقة للطلبة، وجُمد “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا”، الذراع الطالبية الأمنية للنظام البائد، منذ 26 كانون الأول/ ديسمبر، بالرغم من أنه لم يكن قط أداة فعّالة في الدفاع عن مصالح الطلّاب، وفي ظلّ هذا الفراغ التمثيلي، بدأت تظهر كيانات طالبية جديدة يُفترض بها تمثيل الطلّاب، غير أن صلاحياتها ما تزال محدودة وغامضة، مما يفرّغها من مضمونها التمثيلي في الوقت الحالي.
ومن اللافت أن النهج نفسه كان يُمارس في إدلب، عندما كان أبو محمد الجولاني على رأس القيادة هناك، من قِبل “اتّحاد طلبة هيئة تحرير الشام”، قبل تجميعهم في كيان مركزي، وإطلاق اتّحاد طلّاب لجميع الجامعات في مناطق نفوذها، يحمل اسم “اتّحاد طلّاب سوريا”، الجهة كانت تقوم بدور رقابي على الطلّاب داخل الحرم الجامعي وخارجه، وحتى على حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وشملت مهامها إجراءات صارمة، كفصل الإناث عن الذكور حتى في مجموعات “الواتساب”، ومراقبة عدم إنشاء أي تجمع أو مجموعة على تطبيق “واتساب” خارج إشرافها المباشر.
ما مصير الجامعات السورية الخاصّة؟
“تصوّرت أن سقوط النظام سيكون نهاية لحقبة الفساد والقمع في جامعتي، لكن مع عودتنا ومراقبة ما جرى في (حفل النصر) أدركت أن الجامعة لم تتحرّر، بل انتقلت من قبضة إلى قبضة، قد تكون أشد تقييداً وقمعاً”، هكذا وصفت مرح، طالبة صيدلة في الجامعة السورية الخاصّة، التحوّل الذي طرأ على جامعتها.
تضيف مرح: “فُصل الطلّاب عن الطالبات، واستُبعد أحد الزملاء من تلاوة قسم الطلّاب، فقط لأنهم وجدوا على صفحته صورة قديمة يحمل فيها كأساً من الكحول، ومنذ ذلك اليوم، توالت التصرّفات المشابهة”.
وتتابع: “أكثر ما آلمني كان بثّ خطاب أحمد الشرع عبر المذياع الجامعي، تحديداً في أوّل يوم من الفصل الدراسي الجديد، حين أُذيعت كلمته عن “الفلول” التي جاءت عقب مجزرة الساحل. أعادت هذه الكلمة شريطاً من الذكريات المريرة، لسببين: الأول هو المجزرة الرهيبة نفسها، والثاني هو كلمات آل الأسد التي حُشرت في أذنيّ طوال سنوات حياتي”.
صور من احتفال النصر في الجامعة السورية الخاصة
مع سقوط نظام الأسد، انتقلت ملكيّة عدد من الجامعات الخاصّة وإداراتها، إلى وزارة التعليم العالي التابعة للحكومة الجديدة، في إطار عملية إعادة هيكلة للمؤسّسات التعليمية. فقد عادت جامعة الشام الخاصّة، التي كانت مملوكة سابقاً لحزب “البعث”، إلى إشراف الوزارة، ولحقت بها جامعة المنارة، التي كانت تُدار من قبل “الأمانة السورية للتنمية” التابعة لأسماء الأسد. وعلى النسق ذاته، عادت الجامعة السورية الخاصّة، التي كانت ملكيّتها تعود إلى إيهاب مخلوف ابن خال بشار الأسد، بنسبة 99% إلى وزارة التعليم العالي، بينما تبقّى 1% من الملكيّة قيد النزاع بين الوزارة والملّاك السابقين (عبد المجيد سعدون وأولاده).
في هذا السياق، ترأسّت هذه الجامعات شخصيّات كانت تشغل مناصب قيادية في الجامعات الخاضعة لـ”هيئة تحرير الشام” شمال غرب سوريا، حيث عُيّن الدكتور عبد المنعم عبد الحافظ، وزير التعليم العالي السابق في “حكومة الإنقاذ”، رئيساً لجامعة الشام الخاصّة، بينما تولّى الدكتور محمد عبد الحي، الرئيس السابق لجامعة الشمال الخاصّة في إدلب، رئاسة فرع الجامعة ذاتها في اللاذقية.
كذلك، تمّ تعيين الدكتور خالد الطويل، الذي عُرف بمسيرة مثيرة للجدل، بخاصّة خلال فترة شغله منصب رئيس جامعة ماري الخاصّة في إدلب؛ حيث وُثق استخدامه عبارات عنيفة وشائنة، واصفاً طلّابه بـ”الهمج” لمجرّد احتجاجهم على سياسات “حكومة الإنقاذ”، بينما أصبح الدكتور عبد الرزّاق الحسين، عميد كليّة هندسة العمارة في جامعة إدلب سابقاً، رئيساً للجامعة السورية الخاصّة.
هذا التعيين لشخصيّات أكاديمية مرتبطة بـ”هيئة تحرير الشام”، بإمكانه أن يُبعد هذا القطاع عن الحياد والعلمية والمدنية، ويُعتبر مؤشراً حتمياً إلى إعادة تموضع نفوذهم داخل قطاع التعليم العالي. وأوضحت مصادر مطّلعة لـ”درج” أن “هذا التحوّل ترافق مع تراجع واضح في المستوى الأكاديمي والخدماتي داخل هذه الجامعات، وسط حالة من الإهمال الإداري، والشكاوى المتكرّرة من الطلّاب بشأن ضعف متابعة حساباتهم الأكاديمية، وسوء إدارة الوثائق الرسمية والملفّات التعليمية”، وتشير المصادر إلى أن “هذه البيئة الجديدة، التي تُغلّف بخطاب أخلاقي أو ديني، تأتي على حساب جودة التعليم والمناخ الجامعي المدني الذي يفترَض أن تحافظ عليه جامعاتهم”.
منذ نشأتها، ارتبط اسم الجامعات السورية الخاصّة بفضائح تتعلّق ببيع الشهادات، والتلاعب بمعدّلات القبول الجامعي، وشراء النجاح في بعض الموادّ من دون الحاجة إلى التقدّم الفعلي للامتحانات، إلى جانب فرض أقساط دراسية مرتفعة بشكل مبالغ فيه (قد تصل إلى 700 ألف ليرة سورية أي ما يقارب 65 دولاراً للساعة الواحدة) وقد انعكس هذا الوضع سابقاً على فرص معادلة شهاداتها في الخارج، حيث اضطرّ العديد من خريجيها بعد التقدّم لتعديل الشهادة في أوروبا، إلى إعادة الدراسة من السنة الثانية، بسبب ضعف الاعتماد الأكاديمي، وعدم مواكبة المناهج للمعايير الدولية.
وبرغم التغييرات السياسية والإدارية التي شهدتها البلاد، لا يزال مصير هذه الجامعات غامضاً ومبهماً، إذ لم تُطرح حتى الآن أي خطط إصلاحية واضحة تتعلّق بتخفيض الأقساط، أو تحسين جودة التعليم، أو تعزيز العدالة في معايير القبول. وفي هذا السياق، ورغم إدراج جامعات إدلب ضمن قائمة الجامعات المعترف بها محلّياً، فإن غياب الاعتراف الدولي الرسمي بها لحدّ اللحظة، بما في ذلك من دول الجوار مثل تركيا، يجعل شهاداتها بلا وزن خارج سوريا، ويؤثّر سلباً على ترتيبها الأكاديمي، وفرص خريجيها في متابعة الدراسة أو العمل خارج البلاد.
تعيين لجنة من فلك المنظومة الحاكمة أُنيط بها تعديل قانون تنظيم الجامعات، يتيح التنبؤ أن دورها لن ينتج عنه إلا تعميق الأزمة، ومحاولات تجميل السطح عبر لقاءات رسمية بين الرئيس الشرع ووزير التعليم العالي، ولجان تحقيق محدودة التأثير وغير شفّافة في قضايا الفساد الجامعي، يتغلغل التديّن داخل جسد الجامعات السورية الهزيل، في وقت لا يزال الكثير من الموضوعات معلّقة، سواء قضايا الفساد التي تلاحق مدرّسين في الكليّات، أو عودة أشخاص محسوبين على النظام إلى وظائفهم من دون محاسبة.
درج