سوريا بين سباقين: مشاريع النهوض الاقتصادي والانفجار الاجتماعي/ إياد الجعفري

الأحد 2025/05/25
قبل عقد ونصف، كانت سوريا في المركز من معظم خرائط ومشاريع الممرات التجارية وخطوط نقل الطاقة المتنافسة. قبل أن يخرجها نظام بشار الأسد من كل تلك الآفاق، حينما ارتضى تحويلها ساحة للتصويب على ما لا يُرضي حليفيه الإيراني والروسي من مشاريع إقليمية لوجستية واقتصادية. اليوم، تستعيد سوريا مكانتها سريعاً، وبصورة دراماتيكية أيضاً.
خلال الشهر الجاري، تم الحديث عن كثير من اللقاءات والنقاشات مع مستثمرين وشركات تستقصي فرص العمل في “سوريا الواعدة”. لكن أربعة مشاريع ملفتة وضخمة وجدت طريقها، سريعاً، لتتحول إلى اتفاقات موقّعة، بالتزامن مع تغيّر نوعي تاريخي بالعُرف السوري الممتد لأكثر من 46 عاماً. إذ باتت سوريا غير معاقبة دولياً، أو على الأقل، في طريقها لذلك، بصورة شبه كاملة.
أولى تلك الاتفاقات التي جرى توقيعها مطلع الشهر الجاري، مع شركة CMA CGM -أيقونة الشحن الفرنسية- التي حصدت محطة الحاويات بميناء اللاذقية لـ30 عاماً، باستثمارات تقدّر بنحو 260 مليون دولار. وبضجيج إعلامي وترويجي أقل، وقّعت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية مذكرة تفاهم جديدة مع الشركة الفرنسية ذاتها، قبل يومين، تنص على إنشاء وتشغيل موانئ جافة في كل من المنطقة الحرة السورية الأردنية المشتركة، والمنطقة الحرة في عدرا بريف دمشق. بالتزامن، وقّعت هيئة المنافذ أيضاً، مذكرة تفاهم مع شركة Fidi Contracting الصينية، تقضي بمنح الشركة حق استثمار كامل المنطقة الحرة في حسياء بمحافظة حمص، بمساحة تُقدّر بنحو 850 ألف متر مربع، بهدف إنشاء منطقة صناعية متكاملة تحتوي على مصانع متخصصة ومنشآت إنتاجية. وشملت مذكرة التفاهم أيضاً منح الشركة الصينية حق استثمار 300 ألف متر مربع من المنطقة الحرة في عدرا بمحافظة ريف دمشق، لترسيخ مشاريع تجارية وخدمية تواكب متطلبات السوق المحلي والإقليمي، حسب بيان هيئة المنافذ. اللافت، أن استثمار الشركة الصينية في المنطقة الحرة بعدرا، يتلاقى -أو لنقل يتكامل- مع استثمار شركة CMA CGM الفرنسية. وكما نذكر، في منتصف الشهر الجاري، وقّعت هيئة المنافذ السورية، مذكرة تفاهم بقيمة 800 مليون دولار، مع شركة موانئ دبي العالمية، لتطوير ميناء طرطوس، إلى جانب التعاون في تأسيس مناطق صناعية ومناطق حرة، إضافة إلى موانئ جافة ومحطات عبور للبضائع في عدد من المناطق الاستراتيجية في البلاد.
هناك بطبيعة الحال، جملة نقاط مثيرة للاستفهام حول هذه الاتفاقات. أبرزها، غياب التفاصيل في الاتفاقات الثلاثة المعلنة أخيراً. ففي الاتفاق مع شركة “موانئ دبي”، لم يتم الكشف عن المدة الزمنية لاستثمار ميناء طرطوس، أو مواقع الموانئ الجافة ومحطات عبور البضائع المزمع تنفيذها. أما في حالة العقد مع الشركة الصينية Fidi Contracting، وبغض النظر عن الشكوك التي أثارها نشطاء حول هوية الشركة المجهولة للكثير من رجال الأعمال السوريين ذوي الخبرة في السوق الصينية، تبقى المشكلة الأبرز، في غياب التفاصيل عن قيمة العقد، وطبيعة المشاريع المزمعة. مع الإشارة إلى أنه تم الكشف عن مدة العقد -20 عاماً- فيما تغيب أية تفاصيل تماماً، عن طبيعة العقد الأخير الموقّع مع CMA CGM الفرنسية، بخصوص إنشاء موانئ جافة. فلا تفاصيل عن مدة العقد أو قيمته المالية.
وإن تركنا مصادر القلق الناجمة عن غياب التفاصيل، جانباً بصورة مؤقتة، يمكن النظر بإيجابية عالية إلى طبيعة المشاريع الموقّعة ودلالاتها. فهي شملت الميناءين البحريين الرئيسيين في سوريا. مع الإشارة في مشروعين، إلى إنشاء موانئ جافة في مواقع استراتيجية بسوريا. والموانئ الجافة، كما هو معروف، مراكز مخصصة لاستقبال البضائع وتخزينها وشحنها، تكون داخل اليابسة، بدلاً من تنفيذ هذه الخدمات في الموانئ البحرية. والجدوى من هذا النوع من الموانئ، هو توفير خيارات إضافية تزيد من سلاسة سلاسل التوريد والشحن، وإتاحة مساحات أكبر لتخزين البضائع وصيانة مركبات الشحن والحاويات، وتنفيذ خدمات الفحص والتخليص الجمركي. إن وضعنا ما سبق في الصورة إلى جانب الدخول الصيني في مجال الاستثمار الصناعي الإنتاجي بسوريا، عبر استثمار منطقة حرة بأكلمها، تفيد الصورة الإجمالية حينها، بأن سوريا اليوم، في نظر المستثمرين أصحاب المشاريع الأربعة –على الأقل- هي ورشة تصنيع جذّابة، وممر لوجستي نوعي، على طرق التجارة الإقليمية، البرية والبحرية.
سرعة توقيع اتفاقات من هذا النوع، خلال أسابيع فقط، يوحي وكأن سباقاً من لاعبين إقليميين ودوليين، يتم على الاستثمار في سوريا. ويبدو هذا السباق في مسافاته الأولى. والملفت، رغم مصادر القلق الناجمة عن غياب التفاصيل، أن السلطات السورية المعنية، منخرطة في هذا السباق، بوتيرة سريعة من التجاوب والانفتاح. سرعة الوتيرة ذاتها تقلق الكثيرين أيضاً. لكن، يمكن تفهّم الحاجة الملحة لهكذا وتيرة سريعة، للنهوض بمعيشة السوريين، من الدرك الكارثي الذي وصلت إليه. إذ أن هناك سباقاً آخر، داخل سوريا، بين نوعين من العوامل، الأول يحث على الانفجار في العلاقة بين مكونات وأطياف الشعب السوري، لا المذهبية والعرقية فقط، بل والمناطقية وتلك المتعلقة بالفروق على صعيد طبيعة التديّن والأعراف الاجتماعية أيضاً. فيما النوع الثاني من العوامل يحث على الاستقرار وإعادة ترميم الشروخ بين السوريين، وإعمار البلاد. نهضة السوريين المعيشية هي المدخل لتثبيط النوع الأول من العوامل التي تحث على الانفجار.
لذا، يمكن تفهّم الوتيرة السريعة –أو ربما المتسرعة أيضاً- من جانب السلطات السورية في توقيع الاتفاقات النوعية. ويبقى التحدّي الأبرز أمام هذه السلطات، لترجيح كفة النوع الثاني من العوامل التي تحث على الاستقرار، هو التحدّي الأمني، المتعلّق بضبط الفصائل والقوى والأفراد المنخرطين داخل تركيبة أجهزة الأمن، كي يخضعوا للقانون، قبل أن يكونوا أدوات إنفاذٍ له.
المدن