أبحاثالتدخل الاسرائيلي السافر في سورياالعقوبات الأميركية على سورياسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعلقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا

العلاقات الأميركية السورية… دبلوماسية الاحتواء الصعب والجمود التكتيكي/ محمد خالد شاكر

26 مايو 2025

ظلّت العلاقات الأميركية السورية، بشكل عام، محكومةً بالعامل الجيوبوليتكي لسورية، وموقعها الروحي مركزاً تاريخياً للحضارة الإسلامية، والمسيحية المشرقية ببعدها العربي، محدّدات أضافت ثقلاً سياسياً وروحياً لسورية في منطقة الشرق الأوسط والعالم، وأضفت نوعاً من الندّية في العلاقة، بين دولة عظمى كالولايات المتحدة، ودولة صغيرة كسورية.

لم تكن سورية يوماً دولةً هامشيةً في محيطها، فقد ظلّت إلى عهد قريب عاصمة بلاد الشام سياسياً وثقافياً، قبل أن تتلاقفها رياح الأيديولوجيا، والشمولية، والظروف الدولية، التي حولتها، تارّةً دولةً قلقةً داخلياً، ومقلقةً خارجياً تارّةً أخرى، سواء في محيطها العربي أو الإقليمي أو الدولي، خصوصاً في علاقتها المعقدة والصعبة مع واشنطن؛ فبدت العلاقات الثنائية بين البلدَين ذات طبيعة متمايزة، ومختلفة اختلافاً جذرياً عن سائر علاقات الدول العربية والإسلامية مع الولايات المتحدة.

ونحاول هنا تتبع مسار العلاقات السورية الأميركية وتحولاتها في مراحل مختلفة منذ الاستقلال وصولاً إلى لقاء الشرع ترامب في الرياض، لتدخل معه العلاقات الأميركية السورية مرحلة انفتاح حذر.

تفاوت التمثيل الدبلوماسي

مع بدايات الاستقلال (1945- 1947)، شهدت العلاقات الأميركية السورية نوعاً من التعاون والانفتاح والودية، إذ نكّست سورية أعلامها ثلاثة أيّام حداداً على وفاة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (في السلطة: مارس/ آذار 1933- إبريل/ نيسان 1945)، وأقام البرلمان السوري حفلاً تأبينياً ألقى خلاله رئيس الوزراء بالوكالة خليل مردم بك كلمةً وصف فيها الراحل روزفلت بـ”العظيم” و”الثمرة الطيّبة من ثمار الديمقراطية”. في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول 1945، أصدر الرئيس شكري القوتلي المرسوم القاضي بتعيين ناظم القدسي وزيراً مفوّضاً في الولايات المتحدة، لحق ذلك دعم واضح من قبل الولايات المتحدة لاستقلال سورية. وفي إبريل 1946، شغل فايز الخوري منصب سفير لسورية في واشنطن؛ وشهدت هذه المرحلة توقيع عدد من الاتفاقات التجارية، من بينها اتفاق التطوير والتحديث بين شركة بان أميركان والشركة السورية للطيران في يوليو/ تموز 1947. وفي العام نفسه، اجتمع السفير الخوري مع الرئيس الأميركي هاري ترومان (في السلطة: إبريل/ نيسان 1945 – يناير/كانون الثاني 1953) وشرح له رفض سورية قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1947.

مع اعتراف الولايات المتحدة بـ”إسرائيل” 1948 واندلاع الصراع العربي الإسرائيلي، توتّرت العلاقات بين سورية والولايات المتحدة، لكنّها لم تصل إلى حدّ العداء والقطيعة، بقدر ما حدّدتها طبيعة ومستويات تعاطي الولايات المتحدة مع القضية الفلسطينية، التي تراوحت تاريخياً بين الوساطة والتفاوض والتسويات والقطيعة.

طوال عقدي الخمسينيّات والستينيّات، لم تنقطع العلاقات بين البلدَين، لكنّها شهدت تفاوتاً في درجة التمثيل الدبلوماسي. ففي العام 1961، شغل الشاعر عمر أبو ريشة منصب سفير سورية في واشنطن، والتقى الرئيس الأميركي جون كينيدي.

كيسنجر وسياسة “خطوة خطوة”

مع وصول حزب البعث إلى السلطة 1963، توتّرت العلاقات بين البلدَين بسبب تبنّي الحكومات السورية اللاحقة توجهات اشتراكية، تقاربت مع الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق إبّان الحرب الباردة؛ فدعمت القضية الفلسطينية التي أصبحت القضية المركزية لدى السوريين، ما أوصل العلاقات الثنائية إلى حدّ القطيعة بعد هزيمة حزيران 1967.

في الخامس من يونيو/ حزيران 1970، طرح وزير الخارجية وليام روجرز مبادرته الشهيرة لوقف حرب الاستنزاف والبدء بمفاوضات بوساطة أميركية تؤدّي إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 242، إلا أن هذه المبادرة أُجهِضت بسبب استقالة روجرز من منصبه بسبب تدخّل مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر في الشؤون الخارجية، بعد زيارة الأخير إلى الصين سرّاً؛ فجمع كيسنجر بين منصبَي وزارة الخارجية ومستشار الأمن القومي، آخذاً على عاتقه نقل الدور الأميركي في التفاوض مع سورية من الوساطة إلى الانحياز التام لإسرائيل عقيدةً ثابتةً للاستراتيجية الأميركية، أراد لها كيسنجر ألّا تتغيّر بتغير الرؤساء الأميركيين. وتُعدّ مرحلة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (في السلطة: 1969- 1974) ووزير خارجته هنري كيسنجر (في السلطة: 1969 – 1977) من أعقد وأهم المراحل التي مرّت فيها العلاقات الأميركية السورية، إذ تراوحت بين القوة والدبلوماسية والتفاوض، والصفقات التي انفرد بها كيسنجر بشكل شخصي.

مع اندلاع حرب 7 أكتوبر (1973)، اضطلع كيسنجر بهندسة العلاقات بين سورية وبلاده من خلال سياسته الشهيرة المعروفة بـ”خطوة خطوة”، التي شكّلت منعطفاً في تاريخ منطقة الشرق الأوسط بدءاً من العلاقة مع سورية. آمن كيسنجر أن لا سلام من دون سورية، وكونه رجل دولة بخلفية تكنوقراطية، آمن بالبعد السيكولوجي لصانع القرار، فعرف مداخل الضعف والقوة لدى الرئيس حافظ الأسد، وتاريخه الموسوم بالنزوع إلى السلطة غايةً. اشتغل كيسنجر على تفكيك وبناء السياسة الخارجية الأميركية التي وصفها بأنها ” لعبة من دون قواعد” و” سياسة في مهبّ الريح”. فاشتغل على فكرة ثبات هُويَّة السياسة الخارجية الأميركية بدءاً بحماية وضمان أمن إسرائيل، فأسس لفكرة التفاوض المنفردة مع الأسد، منذ الأيام الأولى لحرب أكتوبر وصولاً إلى اتفاقية فضّ الاشتباك بين سورية وإسرائيل 1974، وانتهاءً بعزل مصر عن الصّف العربي مقدّمةً لتفكيك النظام الإقليمي العربي وعزل سورية بالانفتاح بدلاً من المواجهة.

انفتاح في ظلّ إدارة الصراع

شهدت مرحلة ما بعد حرب أكتوبر انفراجاً كبيراً في العلاقات الأميركية السورية من خلال سياسة أميركية تقوم على مبدأ إدارة الصراع وليس حلّه، بما يحقّق رغبات الطرفَين السوري والأميركي، ويضفي على العلاقات بين البلدَين طابعاً تفاوضياً بصفقات سرّية؛ حقّق من خلالها حافظ الأسد في مراحل لاحقة استئثاره بالسلطة، واحتكاره التفاوض باسم القضية الفلسطينية، وإطلاق يده في لبنان.

في 15 يونيو/ حزيران 1974، وصل إلى دمشق الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وزوجته ووزير خارجيته كيسنجر، في زيارة وصفت حينها بـ”التاريخية”، بل تجاوزت العرف الدبلوماسي بسبب عدم وجود سفارة أميركية في دمشق حينها، فكانت رسالةً أميركية لبدء مرحلة من العلاقات بعيدة من القواعد والتقاليد الدبلوماسية، ورغبة في توطيد العلاقات بين البلدَين، التي انقطعت منذ حرب 1967. في العام نفسه 1974، عين الرئيس حافط الأسد صباح قباني سفيراً لسورية في واشنطن، لتتوالى بعدها القمم السورية الأميركية التي جمعت حافظ الأسد بالرؤساء الأميركيين جيمي كارتر، وجورج بوش الأب، وبيل كلينتون الذي زار هو الآخر دمشق واستقبل بحفاوة في أكتوبر/ تشرين الأول 1994، في مرحلة كانت منطقة الشرق الأوسط تغلي على نار حرب الخليج الأولى.

اتسمتْ الدبلوماسية الأميركية خلال هذه المرحلة بديناميكية إيجابية، انعكست بشكل واضح على تطوير العلاقات بين البلدَين، وأظهرت بأن جميع مفاتيح الأبواب المغلقة في الشرق الأوسط بيد السلطة في دمشق. واعتبر الرئيس الأميركي نيكسون أن الانفتاح على سورية خطوة نحو تسوية شاملة في الشرق الأوسط؛ بالرغم من قناعته التامة بمعرفة السوريين بالانحياز الأميركي لإسرائيل، إلا أنّ ذلك لايعني، حسب نيكسون، عدم قدرة الولايات المتحدة على لعب دور الشريك والوسيط في عملية التسوية والتفاوض مع سورية. أمّا كيسنجر، فقد كان له رأيٌ آخر، فقد كان مؤمناً بعدم جدوى إعادة الأراضي المحتلّة إلى العرب من خلال تسوية شاملة تعيد ما خسروه قبل 4 يونيو، على طريقة نيكسون، ومبادرة روجرز.

أولويات الأمن القومي الأميركي

طوال فترة السبعينيّات، ظلّت العلاقات الأميركية السورية محكومةً برؤية كيسنجر، والتفاوض مع كلّ دولة عربية على انفراد. استمرأ حافظ الأسد ذلك، فتراوحت العلاقات الثنائية بين الاحتواء والتفاوض، والقوة المحدودة والدبلوماسية، ما ساعد كيسنجر على تطبيق دبلوماسية إدارة الصراع، وليس حلّه، تاركاً عامل الوقت والمتغيّرات الدولية والإقليمية تفعل فعلها، وهو ما حصل بالفعل مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي تصدّر فيها الأسد وكيسنجر واجهة الأحداث.

حتى العقد الأخير من حكم الأسد الأب، ظلّت العلاقات بين دمشق واشنطن تدور في فلك الجمود التكتيكي، ففي الفترة ما بين 1990 إلى 2000، شغل وليد المعلّم منصب سفير سورية في واشنطن، وهي المرحلة التي ترافقت مع سعي الإدارات الأميركية (من دون جدوى) نحو مفاوضات سورية مع إسرائيل اتساقاً مع اتفاقات السلام العربية إبّان تلك المرحلة.

في عهد جورج بوش الابن (في السلطة: 2001 – 2009)، وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر (2001)، أصبحت مسألة الحرب على الإرهاب من أهم أولويات الأمن القومي الأميركي، وخلال هذه المرحلة، أبدت المخابرات السورية تعاوناً كبيراً مع واشنطن، إلا أن هذه العلاقات تراجعت بعد أقلّ من عامَين بسبب الحرب الأميركية على العراق سنة 2003، والمواقف السورية الرافضة لها، وتزايد التدخّل السوري في لبنان، ودعم حزب الله، وتوسّع الدور الإيراني في العراق؛ فشهدت العلاقات الأميركية السورية تراجعاً وصل إلى حدّ العداء المُعلَن مع إصدار الكونغرس الأميركي، في ديسمبر/ كانون الأول 2003، قانون محاسبة سورية، الذي طالب السلطة في دمشق بالانسحاب من لبنان، ووقف تطوير أسلحة الدمار الشامل، وعدم دعم المقاتلين ضدّ القوات الأميركية في العراق. ونصّ القانون على مجموعة من العقوبات، أبرزها منع الشركات الأميركية من العمل في سورية، وتقييد سفر الدبلوماسين السوريين داخل الولايات المتحدة، وحظر تصدير منتجات الولايات المتحدة غير الغذائية إلى سورية، وحظر الطيران السوري في الأجواء الأميركية.

من سياسة الانكفاء والعقوبات إلى الانفتاح الحذر

تدهورت العلاقات بين دمشق وواشنطن أكثر فأكثر مع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير/ شباط 2005، فاستدعت الولايات المتحدة على الفور سفيرها في دمشق، وبعد أقلّ من ثلاثة أشهر، انسحبت القوات السورية من لبنان تاركةً ورائها أقوى نقاط قوتها في المنطقة.

في نوفمبر 2010، خلال فترة الرئيس الأميركي باراك أوباما (في السلطة: يناير/ كانون الثاني 2009- يناير 2017) وجّهت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون رسالةً قاسيةً إلى القيادة السورية، أكّدت فيها أنّ الانفتاح على دمشق مرتبط بضرورة الابتعاد عن المحور الإيراني، وتحقيق التعاون بشأن العراق، وعدم التدخّل في لبنان، والتوقّف عن دعم حزب الله، واستئناف محادثات السلام مع إسرائيل. هذه المطالب رأتْ فيها دمشق ضرباً من المحال، فدخلت العلاقات بين البلدَين في أسوأ مراحلها من القطيعية والعداء، تمظهرت تداعياتها مع اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، التي أوصلت العلاقة بين البلدَين إلى مستوى الحرب، حين أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما، في يوليو/ تموز 2011، أن الرئيس السوري “فقد شرعيته، وعليه أن يرحل”، قبل دعم فصائل سورية بالسلاح.

طوال سنوات الثورة السورية (2011- 2024)، دخلت الحالة السورية في تعقيدات وانقسامات محلية وإقليمية ودولية عديدة تركت آثارها في طبيعة تعاطي واشنطن مع الملفّ السوري، ففي مراحل لاحقة من عمر الثورة، فضّلت الولايات المتحدة سياسة الانكفاء تاركةً القوى المحلّية والإقليمية تصفّي حساباتها بنفسها؛ فاكتفت بالعقوبات الاقتصادية، مع صدور قانون قيصر لحماية المدنيين في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2019.

مع انتصار ثورة السوريين في 8 ديسمبر (2024)، تنفّست البلاد هواء الحرية، وغطّت نشوة الفرح جراحات سنوات الحرب في وطن ممزّق وهشّ في جميع بناه السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية.

وبين حراك سياسي ودبلوماسي سوري محملاً بتضحيات السوريين، وحراك عربي أعاد إلى سورية هويتها التاريخية قوةً مضافةً ببعدها العربي، شهدت العلاقات السورية الأميركية انفتاحاً حذراً شعاره الترقّب والانتظار، حين أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 14 مايو/ أيار 2024، من الرياض، رفع العقوبات عن سورية، بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لحقته، في اليوم التالي، قمّة ثلاثية، انضمّ إليها الرئيس السوري أحمد الشرع والرئيس التركي رجب طيب أردوغان هاتفياً، أعرب خلالها الرئيس الأميركي عن رغبة بلاده في “إعطاء فرصة” للحكومة السورية الجديدة، والتفكير بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع سورية.

العربي الجدبد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى