سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةصفحات الحوار

سمير سعيفان: الموارد السورية قادرة على النهوض باقتصاد البلاد

حاوره: عماد كركص

27 مايو 2025

للحديث مع الخبير الاقتصادي السوري سمير سعيفان أهميته في هذه المرحلة، مع الحدث الأبرز، بعد سقوط نظام الأسد، قرارات رفع العقوبات الغربية عن البلاد، وأهمها الأميركية، ما يجعل سورية أمام فرصة تاريخية لإعادة إعمارها، وبناء اقتصادها المتهالك، وفتح أبوابها للاستثمارات المحلية والأجنبية، على أمل انتعاش الوطن وإنعاش المواطن.

 نبدأ من الحدث المعلن أخيراً الأهم.. ماذا يعني رفع العقوبات الأميركية عن سورية بالنسبة للجانب الاقتصادي، وهل هو رفع لهذه العقوبات أو تجميدها؟

رفع العقوبات بالنسبة لسورية مسألة حيوية، لا سيما العقوبات الاقتصادية بشكل أساسي، وأهمية هذا الأمر بما نعلمه من معاناة عاشها السوريين، فالعقوبات زادت بشكل كبير بعد عام 2011. ورغم أنها كانت موجودة قبل ذلك، إلا أن تأثيرها كان محدوداً، سواء عقوبات 1979 أو عقوبات 2004، لكن العقوبات التي فرضت بعد 2011 كانت قاسية جدا، فأصبحت سورية معزولة عن العالم وطاردة لرؤوس الأموال، فلم يكن هناك ما يكفي للحصول على فرص العمل والغذاء والدواء وغيرها من الحاجيات الأساسية، ومعدلات الفقر ارتفعت إلى نحو 70% و80% بين السوريين، تضاف إليها مشكلة النزوح واللجوء، لذلك، رفع العقوبات حدثٌ بالغ الأهمية بالنسبة للسوريين، الذين ينتظرون ويحتاجون فرص العمل لتحسين دخولهم، لأن مبلغ 20 دولارا أو 30 دولارا دخلاً شهرياً لأسرة من فردين أو ثلاثة لا يكفي، فكيف لأسرةٍ أكبر، علما أن أغلب الأسر السورية تتضمّن خمسة أفراد وأكثر.

يبدو أن قرار الرئيس ترامب رفع العقوبات يحتاج إلى تشريعات تنفيذية في المؤسسات الأميركية ليصبح ساريا، ماذا لو اعترضت عليه تلك المؤسسات، لا سيما الكونغرس؟

قبل أن أجيب، أوضح مسألة: هناك ثلاثة جوانب لرفع العقوبات ستكون لها أهمية حاسمة، أولاً: إعادة ارتباط سورية بالنظام البنكي العالمي، لأنه في الوقت الحالي لا توجد إمكانية لتحويل أي أموال من سورية وإليها، وهذا ما يجعل البلاد معزولة. ثانياً: العقوبات على الاستثمار، بشتى أشكاله، فأي شخص أو كيان يريد أن يستثمر في سورية كان يناله جانب من العقوبات. ثالثاً: رفع العقوبات عن المساعدات المقدمة إلى الدولة، ورفع هذه العقوبات بالجوانب الثلاثة سيكون له أثر على الأرض، إلى جانب رفع العقوبات على التجارة، بما يتضمّن الاستيراد والتصدير، وهناك سلعٌ ممنوع دخولها إلى سورية.

أما إجابة عن السؤال، يتعلق رفع العقوبات بالجهة التي وضعت العقوبات، فهناك عقوبات فرضها الرئيس الأميركي وأخرى فرضها الكونغرس. وهناك أيضاً عقوبات أوروبية وأخرى فرضتها جامعة الدول العربية ثم رفعتها أخيراً، وتفكّكت العقوبات الأوروبية تدريجيا حتى الإعلان عن رفعها. لكن العقبة الكأداء هي العقوبات الأميركية التي فرضها الرئيس وبإمكانه رفعها بقرار منه، أما التي فرضت في الكونغرس فتحتاج قراراً من الكونغرس لرفعها، وهذا ليس بيد الرئيس، وقد يكون هناك “معركة” حولها، فالرئيس يمكن أن يجمّد العقوبات أو يعطلها مرحلياً، مثل ما يفعل حاليا، لكن رفعها نهائياً بالتأكيد يحتاج قرار الكونغرس. وهناك عقوبات مجلس الأمن، ويحتاج رفعها أيضاً قراراً منه لرفعها، وهذا ليس سهلاً، لكن العقوبات الأصعب والأكثر تأثيراً هي الأميركية، وقد بدأت مفاوضات داخل المؤسسة الأميركية لإيجاد آليات لرفع العقوبات، لكن ما نعرفه عن الأمريكان أنهم يفرضون العقوبات بسهولة ويرفعونها بصعوبة كبيرة، ولا نعلم كيف سيجرى التعامل مع تفكيك هذه العقوبات،  بسرعة أو ببطء، وعلينا انتظار الأيام المقبلة.

بالتالي، هل يحتاج الأمر لانتظار مدة كالتي استغرقتها العقوبات للإقرار؟

كان واضحاً أن الطلب من ولي عهد السعودية وأمير قطر والرئيس التركي، وحتى الأوروبيين، من الرئيس ترامب تفكيك العقوبات بسرعة. ولكن يبدو أنه كانت هناك شروط، منها ما نعرفه ومنها غير معلوم، خصوصاً إذا ما علمنا أن الخطّة كانت لرفع العقوبات بموجب “خطوة مقابل خطوة”، والأمر حالياً غير واضح، وهناك عدة سيناريوهات، منها إلغاء كل العقوبات التي فرضتها الرئاسة مع تجميد قانون قيصر، ما يجعل الانفراج في سورية أسرع، أو قد نجده غير متحمّس وفعّال كما بدا في الرياض، ومع أن هناك أكثر من سيناريو، إلا أن الواضح أن التوجه الأميركي يسير إلى رفع العقوبات بأسرع وقت ممكن.

يبدو أن النيّة تتجه إلى التخلي عن أصول الدولة للقطاع الخاص، وليس فقط القطاع العام الصناعي الفاشل. هل تعتقد أن قراراً بهذا المستوى يمكن اتخاذه من دون هيئات تشريعية منتخبة؟ وفي حال اتخاذه، هل سيخدم الاقتصاد السوري على المدى الطويل؟

عندما بدأت السلطة الجديدة والحكومة الأولى التي جاءت من إدلب، كانت لديهما تصريحات متسرّعة عن النية إلى الاتجاه نحو الخصخصة، والذهاب من الاقتصاد الاشتراكي نحو اقتصاد السوق. وللتوضيح، هناك وهم أنه كان لدى سورية اقتصاد اشتراكي. والحقيقة أن اقتصاد سورية كان خليطاً من هذا وذاك، فكان هناك قطاع عام كبير موروث، له أهداف اجتماعية وسياسية. وإذا أردنا أن نتّجه حالياً إلى اقتصاد السوق، فلهذا الشكل من الاقتصاد قواعد مستقرّة يمكن الاطّلاع عليها، ليس من الكتب فقط لكن من ممارسات العديد من دول العالم أيضاً، فهناك نماذج مختلفة من اقتصاد السوق. وإجابة عن السؤال، فإن الدولة تمتلك نحو 200 – 250 مصنعاً ومنشأة مختلفة صناعية وزراعية وغيرها، ولا يمكن التخلي عن هذه الثروة الكبيرة التي ضخت فيها المليارات ببساطة، فالموضوع يحتاج إلى دراسة وتصور، فالانتقال من النظام الاقتصادي السابق في عهد الأسدين الذي كنا نطلق عليه بحسب المصطلح المصري “اقتصاد المحاسيب” وكانت الدولة خلاله تمارس الكثير من الأدوار، إلى اقتصاد جديد، لا يمكن أن يكون بخبطة عشواء، فهو بحاجة إلى طريق وأن نرسم أي اقتصاد سياسي اجتماعي نريد، ونحدد فيه أي دور للدولة، الدور التنظيمي كونها منظماً ومراقباً وحكماً بين قطاعات المجتمع، والدور الاقتصادي من دون هيمنة. وهنا لا يجوز أن نطرح القطاع الحكومي الكبير للخصخصة بهذا الشكل، ويجب أن تعرف الدولة أيّ القطاعات التي يجب أن تحتفظ بها، من جهتي، أفضل أن تحتفظ الدولة بقطاع النفط، أو تحتفظ بقطاع توليد الكهرباء، أو يمكن أن تحتفظ بإنتاج الخبز لما له من دلالة سياسية واجتماعية. وأيضاً يجب أن تبقى الدولة في قطاعي التعليم والصحة، بحيث يستطيع أي سوري الحصول على التعليم والخدمات الصحية بالمجان، مع وجود قطاع خاص لمن يريد ويملك المال لذلك. ثم على الدولة أن تقرّر أي قطاعاتٍ تريد أن تنسحب منها، فالصناعات الغذائية والألبسة وما يشبهها ليس من اختصاص الدولة. وعموماً، يجب أن يكون هناك تقييم لما تريد أن تحتفظ به الدولة أو تفكيكه بشكل نهائي أو بيعه للقطاع الخاص أو مشاركته وفق تقييمات الخبراء.

الاجتماعات الكثيفة التي تجرى حالياً بين الحكومة السورية والمؤسسات المالية الدولية، لا سيما الصندوق والبنك الدوليين، تدل على أن سورية ستصل، في النهاية، إلى تمويل إعمارها بالديون الدولية. إلى أين سيصل بها ذلك؟

لا يمكن إعادة إعمار سورية بالديون الدولية، لأن المبلغ كبير جداً. قال البنك الدولي إن عملية إعادة الإعمار تحتاج 250 مليار دولار، ومن جهتي، أقدر أن المبلغ أقل، قد يكون ما بين مائة مليار و150 ملياراً، ورغم ذلك، لا أحد يقرضك مائة مليار دولار. وبالتالي، ستمول هذه العملية من عدة مصادر، منها المساعدات النقدية (الكاش) التي قد تأتي من دول الخليج بشكل أساسي، مساعدات وليس ديوناً، ومنها المساعدات العينية تأتي من خلال المنظمات الدولية أو الاتحاد الأوربي ببناء مشاريع محددة وبناء القدرات، ولدينا أيضاً صندوق النقد والبنك الدوليان، يمكن أن يساعدا بأشكال مختلفة، لكن المبلغ الرئيسي لا يأتي من خلال مساعدات، بل من خلال استثمارات سورية أو أجنبية، فيمكن أن يكون هناك دور للمستثمرين الخليجيين والأتراك وربما الصينيين، والاستثمار الأجنبي ممكن بعدة طرق، إما بشكل منفرد أو بالمشاركة مع نظرائهم السوريين أو الحكومة. والمصدر الأخير لإعادة الإعمار هو القروض، وليس شرطاً أن تكون من البنك الدولي، وإنما من البنك الإسلامي أو بعض الصناديق العربية، لكن الأهم أن توجه الاستثمارات ومجمل عملية إعادة الإعمار لكي تنعش الاقتصاد السوري ليكون منتجاً. وما يجعل جميع هذه المصادر تعطي نتائج هو الإدارة الحسنة ومحاربة الفساد في ظل ما ستشهده العملية من منافسة، وأيضا إيجاد بيئة صديقة للاستثمار من خلال سيادة القانون والشفافية والمحاسبة، فأي مستثمر محلي أو عربي أو أجنبي تهمّه هذه الجوانب قبل أن يفكر في وضع أمواله في أي مشروع استثماري، سواء في سورية أو غيرها.

أي استثمارات أو قطاعات جديدة يمكن أن تدخل إلى سورية لم تكن في السابق؟

أولاً، لدينا القطاعات التقليدية التي تُدخل ربحاً سريعاً، كصناعة النسيج والزراعة، ويمكن أن نستغلّ موقع سورية الاستراتيجي للاستثمار في الطرق و”الترانزيت” ومرور أنابيب النفط والغاز، ويجب أيضاً أن نفكّر في قطاعات محدّدة، فاقتصاد سورية سلعي يعتمد على يد عاملة كثيفة. ويمكن أن توضع خطط للوصول إلى مكننة بعض القطاعات التي تحتاج كثافة اليد العاملة لتقليل ذلك في المستقبل. وبخصوص القطاعات الجديدة التي لدى السوريين شطارة فيها، صناعة البرمجيات والتصاميم الهندسية مثلاً، فهذه الصناعات لا تحتاج رأس مال كبيراً، وإنما يحتاج كفاءة وشراكات خارجية، وأيضاً يجب أن تدرس أي نوع من القطاعات والخدمات يجب أن تدخل إلى البلد. ولدينا ثروة كبيرة لم تستثمر، مثل السياحتين الدينية والثقافية، فلدينا أماكن كثيرة مقدّسة، إسلامية ومسيحية، من الممكن أن تجلب نوعاً جديداً من السياح.

الخزينة العامة فارغة، القطاعات الإنتاجية متوقّفة، البنية التحتية مدمّرة. من أين يجب أن نبدأ؟

سنفترض أن الدولة حصلت على عشرة مليارات دولار، أين يمكن أن تضعها؟ وهنا يجب التفكير في الاستثمار في الإنتاج، فأي قطاع يجب أن نضخّ فيه هذه الأموال يجب أن يكون قادراً على إحداث دورة إنتاجية، بمعنى لو وضعتها في قطاع السكن، فستحل مشكلة السكن لناسٍ كثيرين، فيما العمالة في هذا القطاع ستدفع أموالاً في قطاعاتٍ كثيرة، كالغذاء واللباس والنقل وغيرها، ما يخلق هذه الدورة، لكن الموضوع يحتاج دراساتٍ وافية، لكي نبدأ بقطاعات ومشاريع تعطي منفعة في أقرب وقت.

نجاة سورية ستكون باستثمارات أبنائها الموزعين في شتات الأرض، كيف يمكن جذب هذه الاستثمارات؟

هناك رغبة واضحة لدى السوريين بالعودة للاستثمار في بلادهم، لكن دافع رأس المال دائماً مسألة الربح، فالوطنية وحب الوطن يأتيان بعد تقدير المستثمر أن ربحه مضمون. ولذلك أكرّر أن إيجاد مناخ صديق للاستثمار شرطاً رئيسياً، من خلال القوانين الواضحة والشفافية سواء للضرائب أو التأمينات الاجتماعية، فرأس المال يكره الغموض ويجب أن تعد خطط وقوانين واضحة لتكون أمام المستثمرين لا سيما السوريين، ومن سياسات الاستثمار الناجحة، حماية المستثمرين المحليين الذين لديهم تخوفات من دخول شركات أجنبية عملاقة لا يستطيعون منافستها، وبالتالي، حماية هؤلاء تكون من خلال ما يعرف بـ”التمييز الإيجابي” الذي يحمي اقتصاد البلاد ومستثمريها ضمن قوانين تدفع إلى المشاركة بين المستثمرين الأجانب والمحليين، ما يقوي المستثمر المحلي ويطوره.

في ظل هذه الظروف، وبالنسبة لما سبقها من حالة معيشية واقتصادية صعبة، ما هي أولويات المواطن السوري في هذه المرحلة؟

أن يكون لديه دخل يكفيه، ومدرسة لأولاده، وأن يكون لديه أمن وفرصة عمل وأن يحفظ كرامته. وهناك أولوية للنازحين واللاجئين بأن يعودوا إلى منازلهم، فهناك لاجئون كثيرون يحضرون أنفسهم للعودة عندما تسنح لهم الظروف، وهذا مرهون بتحسين الظروف، لا سيما إيجاد فرص عمل، فأولويات السوريين في الداخل والخارج أولاً إيجاد فرصة العمل داخل البلاد وتحسين الظروف المناسبة للعيش.

ما المنتظر والمطلوب من الإدارة السورية الجديدة من ناحية التشريعات وبناء المؤسّسات بهدف تحسين دخل المواطن، وبالتالي تحسين الوضع المعيشي للسوريين بشكل عام؟

المطلوب كثير من الحكومة الحالية. والظروف صعبة حالياً والإمكانات ضعيفة، فمن جهة، فرّط النظام السابق بكل الإمكانات، وتصرّف بها بشكل سيئ جداً. وبالمناسبة، كان لدينا في سورية احتياطي 20 مليار دولار بين المصرفين المركزي والتجاري، كانت تُوظَّف في بعض البنوك والأسواق لتنتج بعض الفائدة. وبعد 2011، بدأ النظام يستخدم هذه الأموال لقتل الشعب السوري من جهة، وربما نهبَ جزءاً كبيراً منها، من ثم حوّل كل طاقات البلاد إلى مجهود الحرب ضد السوريين، ثم جاءت العقوبات لتحدّ من قدرة سورية على الإنتاج، فانخفض الاقتصاد السوري من 60 مليار دولار بحسب إحصاءات عام 2010، إلى 10 -15 ملياراً حالياً، فدمّرت الإمكانات. ولذلك، مطلوبٌ من السلطة الحالية الكثير، كالكهرباء والتعليم والاحتياجات المعيشية اليومية، علاوة على مسألة دعم الاقتصاد والقطاع الصناعي. ويحتاج هذا مليارات الدولارات، ولا توجد إمكانات حقيقة، لكن الأهم أن تبذل السلطة جهداً أكبر كي تحقق الاستقرار، لكي تتنظم الحياة بشكل أفضل. وربما تبدأ السلطات الحالية بفتح حوار مجتمعي لتقريب وجهات نظر السوريين، من ثم يتحوّل هذا الحوار إلى طرح أسئلة حول آلية تطوير البلاد، وكيفية عملية إعادة الإعمار وغيرها من أمورٍ تعطي أيضاً انطباعاً للمجتمع الدولي بإرادة السوريين الاستقرارَ، وبالتالي المساعدة في تجاوز عقباتٍ كثيرة.

هناك اعتقاد سائد بأن سورية، ومنذ استقلالها، لم تكن لها هوية أو سياسية اقتصادية واضحة، هل هذا صحيح، وما هو توصيفك لشكل الاقتصاد السوري وهويته في الأعوام الـ25 الأخيرة، لا سيما بعد تسلم بشّار الأسد الحكم خلفاً لأبيه؟

نشأ في سورية منذ الاستقلال اقتصاد سوق مع قواعد له، ومناخ مشجّع للاستثمار، فمعملا الزجاج والإسمنت اللذان تأسّسا في دمشق كانا ضن إطار الشركات المساهمة، وكان هناك نظام بنكي، كما نشأ نظام بورصة بشكل أولي. وتوقّف هذا الوضع في العام 1958، أي مع الوحدة بين سورية ومصر. وبعد الانفصال، أخذت الدولة تتدخل من خلال عمليات التأميم، لا سيما مع العامين 1964 و1965 بمصادرة الأراضي وتأميم المعامل وسيطرة الدولة على الاقتصاد، وهنا تشكّل اقتصاد مختلط، ولا أفضل أن اسميه اقتصاداً اشتراكياً، وأميل إلى توصيفه بـ”رأسمالية الدولة”، حيث بقي الاقتصاد الخاص موجوداً في عهد البعث، ومن ثم وصول حافظ الأسد إلى السلطة، فقطاع الزراعة في معظمه خاص، وكذلك القطاع التجاري الذي يقوم على بحر من “الدكاكين”. وقطاعات كثيرة مهمة كان الاقتصاد الخاص فيها حاضراً وبقوة. بقي هذا حتى مع وصول بشار الأسد إلى السلطة، لكن الفرق بين الأب وابنه أن حافظ الأسد كان يخشى نمو القطاع الخاص، وأخضعه لكثير من الضغط والضوابط. وفي الثمانينيات، نما هذا القطاع عندما صعدت طبقة من السلطة بات لديها المال، فأنشأت شركاتها الخاصة فنما قطاع خاص ينتمي للنظام. ثم جاءت موجات من الانفتاح الاقتصادي أولها كان عام 1986 ثم عام 1991، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وصدور القانون رقم 10، وفتح المجال أمام القطاع الخاص بشكل أكبر، لكن حافظ الأسد لم يكمل هيكلة أو بناء مؤسسات القطاع الخاص، خصوصاً النظام البنكي الخاص، أو أن يسمح مثلاً لقطاع التعليم بالدخول في مجال العمل الخاص. وعندما جاء بشّار الأسد، سمح لبعض القطاعات التي كان الاستثمار فيها حكراً على الدولة. ورغم ذلك، لم يتغير الشكل كثيراً وبقي هذا الاقتصاد لدينا خليطاً حتى العام 2010.

بين العامين 2004 و2006، بدأ النظام ترويج أن سورية ذاهبة إلى تطبيق اقتصاد السوق ابتداء من “النموذج النيوليبرالي الريعي”، ثم المضي نحو “اقتصاد السوق الاجتماعي”، مع تدخل للدولة بدور تنموي، وتصدر رئيس هيئة تخيط الدولة آنذاك، عبدالله الدردري، لهذه المهمة. ثم سرعان ما تبين أن الخطط والنظريات في مواجهة حادّة مع الواقع. … ما الذي حدث وأوقف هذا التحول؟

لم يبدأ كي يتوقف، أو يمكن القول إنه بدأ بالإعلام فقط، فكان النظام دائماً يعمل على تعبئة البعثيين لترويج أن للقطاع العام اليد العليا، وأن النظام الاقتصادي اشتراكي. ولم يكن فعلياً كذلك، إذ كان الاقتصاد الخاص يساهم كثيراً في الناتج المحلي الإجمالي، ويقدم الحجم الأكبر من فرص العمل، ثم اتخذت خطوات لفتح الباب أمامه، أولاً بالسماح للمصارف الخاصة، ومن ثم تحرير سوق الإيجار من خلال قانون خاص، وأيضاً قانون العلاقات الزراعية الذي غيّر العلاقات القديمة. ورغم ذلك، بقي هناك تخوف من القطاع الخاص ومصطلح “اقتصاد السوق” عموماً. وضمن هذا المناخ، وجدوا مصطلح “اقتصاد السوق الاجتماعي”، وأضاف الكلمة الأخيرة لتخفيف وطأة مصطلح “اقتصاد السوق” ليقولوا إنهم محافظون على الدور الاجتماعي للدولة في الاقتصاد، وهذا النموذج بالأساس رأسمالي ألماني، والألمان يصفونه بأنه “رأسمالية منظمة”، لأن هناك اتجاهين في اقتصاد السوق العالمي، الليبرالي والنيوليبرالي الذي يعتقد بآلية تنظيم السوق من دون تدخّل الدولة أو بدور ثانوي لها، والنموذج الآخر الاجتماعي الأوروبي ونجد مثل هذا النموذج في ألمانيا، والذي يعتقد بأن السوق ليست آلية التنظيم، إنما السوق لديها اختلالات كثيرة ويجب أن تتدخل الدولة لتنظمها، وهذا هو “اقتصاد السوق الاجتماعي”، لكن عندما أراد النظام تطبيق هذا النموذج، لم يدرسه ولم يضع خططاً للوصول إليه.

وعبد الله الدردري (الرئيس الأسبق لهيئة تخطيط الدولة، ومسؤول أممي حالي)، كان يروج ما يريده رامي مخلوف (رجل أعمال متسلط وابن خال بشار الأسد) أكثر من ترويج اقتصاد السوق الاجتماعي. وبالتالي، لم يكن لدى سورية خطة حتى للانفتاح، وأريد أن أذكر بعض الحوادث، فبشار الأسد عندما شكل لجنة الـ18 (خبراء) وكنت واحداً منهم، أعددْنا دراسة خلال ستة أشهر ولم تكن دراسة حقيقية. ورغم ذلك رميت الدراسة والتقرير الذي نتج عن اللجنة، ثم شكل رئيس الوزراء لجنة إصلاح القطاع الصناعي العام والخاص، وقدّمت أيضاً هذه اللجنة تقريراً جرى تجاهله. ثم شكلت لجنة الإصلاح الاقتصادي ككل، وأيضاً كنتُ من ضمن اللجنة، ووضعنا برنامجاً شاملاً للإصلاح الاقتصادي، أُرسل إلى القيادة القُطرية لحزب البعث، وأيضاً رمته هذه القيادة وضربت به عرض الحائط. في المحصلة، كان لدينا اقتصاد على مبدأ “خبزنا كفاف يومنا”، ومن يدير الاقتصاد رأسماليو السلطة بشكل أساسي، فلم يكن هناك برنامج ولا خطط واضحة. لذلك يسمّى هذا الشكل المصري كما ذكرت سابقا بـ”رأسمالية المحاسيب” أو اقتصاد ريعي، وضمن ذلك كان يفرض على المستثمرين عندما يأتون الدخول من بوابة هذا أو ذلك من المتنفذين الاقتصاديين للنظام للحصول على حصة من دون مساهمة. ولذلك لم يكن هناك استثمارات أجنبية كبيرة في سورية، فبعض المستثمرين الخليجيين والحديث عن أسماء مهمة كـ”الخرافي” و”الفطيم” و”الغرير” عانوا كثيراً عندما حاولوا سابقاً الاستثمار في سورية، وهذا ما يجب ألا يتكرّر في المرحلتين، الحالية والمقبلة.

ترك “الخرافي” على سبيل المثال مشروعاً استثمارياً ضخماً في الترانزيت (طريق حلب – اللاذقية) نتيجة مثل هذه العقبات والصراعات، لكنه عاد بعد سقوط النظام واجتمع مع الحكومة الحالية… كم هو مهم عودة المستثمرين الذين طردتهم بيئة الاستثمار السابقة لاستئناف أعمالهم اليوم؟

نعم، عودتهم مهمة، وأكثر من ذلك الاستفادة من الموقع الجيوسياسي لسورية ما سيجعل هناك تنافساً بين المستثمرين. الأتراك من جهة والخليجيين من جهة أخرى، والسلطة حالياً تمد يدها في الجهتين، وسورية بحاجة لدخول جميع المستثمرين، لكن وفق خطط مدروسة تقوم أساساً على المنفعة للبلاد وتحقق لهم عامل الربح الذي يطمحون إليه. ولذلك يجب أن ندرس أخطاء النظام السابق والعوامل الطاردة للمستثمرين ورؤوس الأموال وتلافيها، والأمر أيضاً يحتاج رقابة شعبية وإعلاماً حرّاً يصوب إلى الأخطاء.

ما هو الشكل أو الهوية الأنسب للاقتصاد السوري، سواء في المرحلة الحالية أو المستقبل؟

– أولاً، يجب أن يكون لدينا في سورية اقتصاد سوق، تكون فيه حرية للدخول إلى السوق والخروج منها، أي عدم منع المستثمرين من قطاعات والسماح لهم بأخرى، ويضمن حرية تشكيل أسعار من دون تدخل الدولة. ومن الممكن أن يكون لهذا النوع من الاقتصاد دور اجتماعي، وهذا تشجع عليه الدولة من خلال حوافز تقدّمها للقطاع الخاص لدعم الجانب الاجتماعي، وأيضاً يكون هناك دور للدولة في هذه السوق بأن تكون منظماً جيداً وتخلق المناخ المشجع من خلال التأسيس للاستقرار وسيادة القانون والشفافية. ويجب أيضاً أن تلعب دوراً اجتماعياً. وهناك سياسة تسمى “إعادة توزيع الدخل”، لأن السوق توزع الدخل بشكل غير عادل، وهناك سياسات كثيرة يمكن للدولة التدخل بها في هذا الجانب لتلافي وجود فوارق طبقية كبيرة بين فئات المجتمع.

هل تستطيع موارد سورية، بحد ذاتها، من بناء اقتصاد قوي أو على الأقل يحقق الاكتفاء، أو أن الاقتصاد السوري بحاجة للنهوض والاستمرار أكثر مما تختزنه البلاد من موارد؟

لدى سورية قدرات كبيرة، وكانت تدار بشكل سيئ وغير كفوء في السابق وفاسد، فبلادنا في الخمسينيات كانت في طليعة بلدان العالم الثالث، عندما كنّا نصنع ونصدّر إلى المنطقة بكاملها. وجواباً على السؤال: نعم، يمكن لمواردنا بناء اقتصاد قوي، ولكن بإدارة ذكية تستفيد من قدرات السوريين وكفاءة رجال الأعمال وبناء مناخ استثماري جيد، فلدينا اقتصاد سلعي ينتج سلعاً كثيرة، وقطاع خدمي يجب تفعيله. وأيضا لدينا موقع استراتيجي مهم، ويمكن لأي إدارة سورية كفوءة تنظيم هذه الموارد بالشكل الأمثل للنهوض باقتصاد البلاد.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى