سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 أيار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
—————————-
سورية في قلب التحوّلات الإقليمية والدولية/ برهان غليون
26 مايو 2025
لم يرَ بعضهم في سقوط الأسد وانتزاع هيئة تحرير الشام السلطة في دمشق سوى أحمد الشرع، وتجربته مع “القاعدة”، ثمّ هيئة تحرير الشام، فصارت القضية الرئيسة عندهم تتلخّص في محاربة الإرهاب والتطرّف والقيم السلفية. ومنهم من غضّ الطرف عن هذا الوجه، ونظر إلى ما حصل حلقةً أخيرةً من ثورة الحرية، واكتمالها بالقضاء على ما تبقّى من حكم الأسد وإرثه وبراميله ومجازره الدموية، فاعتبر الشرع محرّراً، بل مخلّصاً. ومنهم من نظر إليه باحثاً عن مُلكٍ واعتبر استئثاره بالسلطة مقدّمةً لتجديد عصر الديكتاتورية الفردية ونظمها، ولو بوجهٍ مختلف. ومنهم من نظر إلى مجيئه إلى السلطة بوصفه إحدى أدوات الصراع على النفوذ في سورية، بين تركيا وايران والسعودية وإسرائيل، فاخترع الهُويَّة الأموية حين كانت دمشق عاصمة أكبر إمبراطوريات زمانها. ومنهم من رأي فيه تأكيداً لانتصار الأصولية الإسلامية على الأيديولوجيات الحداثية العلمانية والغربية، وتعميم القيم السلفية على شعبٍ متنوّع الأعراق والأديان والمذاهب، وتهديد وحدة المجتمع السوري وسلامته. وفي هذه الحالة، اعتبر هؤلاء أن السكوت عن السلطة الجديدة، أو السماح لها بالاستقرار، يعني خسارة معركة الحداثة والتحديث والعلمانية والدولة الديمقراطية والوطنية.
والواقع أن ما حصل كان فيه من ذلك جميعه، فكلّ واقع يتشكّل من عقدة من العلاقات وأنماط من التفاعلات، تجعل منه ظاهرةً مركّبةً تسمح بتأويلاتٍ وتحديداتٍ متعدّدة، بحسب ما يركّز فيه الملاحظ من أوجه أو مُخرجات. هكذا انطوى سقوط الأسد على تحوّلٍ لمصلحة الأيديولوجيات الإسلاموية السلفية، وأنتج سلطةً سياسيةً جديدةً تغيّرت في سياقها (أيضاً) التوازنات الطائفية على الصعيدَين الوطني والإقليمي، وعبّر عن تغيير جيواستراتيجي نقل سورية من “محور المقاومة” و”العداء للإمبريالية”، المنهار، إلى المحور العربي، المحافظ، في الخليج وفي تركيا. كما فتح على صعيد العلاقات الدولية طريق التفاهم مع الولايات المتحدة، وربّما التطلّع إلى التحالف معها. وبينما تخوّف بعضهم من إقامة نظام يهدّد وجود الطوائف والأقليات الإثنية، أو يدينها بتهميش مديد، حتى لو لم تكن شريكةً للأسد في ارتكاب الجرائم والانتهاكات الخطيرة السابقة، راهن آخرون على عداء الغرب للسلطة الجديدة اعتقاداً أنه لن يقبل بتسليم سورية، وهي دولة ذات موقع مركزي شديد الحساسية في الشرق الأوسط، إلى سلطة هيئة سلفية.
انهيار الشرق الأوسط القديم
في الواقع، ما سمح للشرع و”هيئة تحريره” بإسقاط نظام الأسد، والحلول محلّه بعد 14 عاماً من الكفاح الدامي والمُحبط لشعب بأكمله، ليس بالدرجة الأولى العقيدة السلفية، ولا القوة العسكرية الخارقة، ولا العصبية الطائفية، ولا الشعبية الجماهيرية، ولا حبّ الزعامة، وكلّها كانت موجودة أيضاً، وإنما انهيار التوازنات الإقليمية التي حكمت على سورية بأن تكون عقوداً طويلةً منطقة عازلة، وإلى حدّ كبير منزوعة السلاح، بين خصمَين تنازعا الهيمنة العسكرية على المشرق، إيران وإسرائيل. فعلى هذا الصراع عاش نظام الأسد، ومنه استمدّ سبب وجوده وبقائه. فقد مثّل هذا الوجود مصلحةً لإسرائيل التي ضمنت حياد سورية وتحييدها، وضمّ الجولان المحتلّ. ومصلحة مماثلة لطهران، التي جعلت من سورية واسطةَ العقد في مشروع الهلال الشيعي، الذي بفضله أرادت فرض سطوتها وهيمنتها الإقليميتَين. هكذا ضمنت “سورية الأسد” للطرفَين خوض نزاع مضبوط وموزون، يحقّق لكليهما ما يحتاجه من استعراض القوة لتأكيد الهيمنة وعدم التورّط في حرب مباشرة كُبرى، واستمداد الشرعية المحلّية أو الدولية للتوسّع الجغرافي والاستراتيجي على حساب جميع دول الإقليم الأخرى.
كان منطلق هذا الانهيار خروج الصراع المدروس عن السيطرة مع انفجار “طوفان الأقصى” (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) في غزّة، الذي سرعان ما تحوّل حرباً إيرانية إسرائيليةً بالوكالة، ذهب ضحيّتها خلال أشهر قليلة عشرات آلاف القتلى والجرحى، كما فقد فيها حزب الله، وهو الجيش الرئيس لطهران في هذه المواجهة التكتيكية، قياداته التاريخية. وخسارة الطرفين، طهران وتلّ أبيب، هذه الحرب غير التقليدية، أخرجتهما عملياً، ورغم استمرار إسرائيل في القتال (بل أيضاً بسببه)، وأدّت إلى خسارتهما كليهما الرهان، أي السيطرة على الشرق الأوسط وقيادته، وفرض أجندتيهما القوميتَين على جميع دوله وشعوبه، فقد تجلّى في هذه المعركة ضعف الاستراتيجية الإيرانية التي وضعت كل رهاناتها على مليشيات تابعة، أبرزها حزب الله، كما تجلّى عجز إسرائيل البنيوي عن تحقيق انتصار حاسم وسريع، حتى أمام قوة محدودة العدد والتسليح مثل حركة حماس. وبينما فقدت إيران أذرعها المسلّحة في لبنان وسورية وانحسر نفوذها إلى العراق، انهارت عقيدة إسرائيل الاستراتيجية المبنية على أسطورة فائض القوة وقوة الردع، القادرة على مواجهة جميع دول المنطقة منفردة ومجتمعة. كما أفقدتها حربها الإبادية، التي لم تستطع حسمها ولا هي قادرة على قبول خسارتها فيها، ما كانت قد جمعته من “الرصيد الأخلاقي والمعنوي” الذي كانت تراهن عليه، وسمح لها منذ 77 عاماً بالعمل خارج القانون الدولي، وضدّه، بوصفها الدولة الضحية، التي يمثّل وجودها (وبالتالي الحفاظ عليه) التعويض العادل عن جريمة اللاسامية والإبادة النازية.
وبينما انكفأت طهران إلى حدودها، وغرقت تلّ أبيب في وحل حربها الإبادية المستمرّة، احتلّت الفراغ الذي تركه انهيار القوتَين المتنافستَين (تلقائياً تقريباً) قوّتان إقليميتان جديدتان، دول الخليج العربي الغنيّة التي أصبحت طرفاً بارزاً في الاقتصادات العالمية بعد النهضة الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها السعودية، والجمهورية التركية التي تحوّلت في عهد رجب طيب أردوغان لاعباً إقليمياً ودولياً رئيساً في الشرق الأوسط، بعد إنجاز ثورتها الصناعية، وتطوير قوتها العسكرية أيضاً، في العقود الثلاثة الماضية.
من مسرح حرب إقليمية دائمة إلى جسر للتواصل والسلام
دفعت عدة عوامل إلى الجمع بين دول الخليج، وفي مقدمها السعودية، وتركيا، أبرزها تحالفهما المشترك مع الكتلة الأطلسية، والولايات المتحدة بشكل أخص. لكن ما هو أهم، وما جعلهما قوتَين مبادرتَين ولاعبَين إقليميَّين نشطَين، نجاحهما في بناء اقتصادات قوية مؤثّرة في الاقتصاد العالمي، والأكثر أهمية تجاوزهما منطق التبعية في العلاقات الدولية، واكتسابهما نزعةً استقلاليةً تعزّز التفكير لدى نُخبهما السياسية بالدفاع عن مصالحهما الوطنية. والواقع أن التقارب بين القوّتَين العربية والتركية لم ينشأ بعد “طوفان الأقصى”، وإنما مع بداية الثورة السورية عام 2011، واستمرّ التعاون بينهما في الأعوام الماضية بشكل وثيق في إدلب وشمالي سورية. وكان مشروع “ردع العدوان”، الذي تحوّل إلى “فجر الحرية”، استمراراً لهذا التعاون، الذي أتاح لهما استعادة المبادرة والقضاء على النظام السوري السابق الذي فقد وظيفتيه، الخارجية والداخلية، ولم يعرف كيف يتجاوب مع انهيار أوضاعه السياسية والاستراتيجية.
أصبح خروج إيران من دائرة التنافس على قيادة الإقليم واضحاً اليوم، فقد خسرت طهران حربها التوسّعية والهيمنية نهائياً، وما يجري اليوم من حوار مع واشنطن والغرب محاولة لنزع سلاحها بالمفاوضات بعد الضربة القاصمة لأذرعها العسكرية. أمّا إسرائيل التي سقطت في وحل حرب خسرتها سياسياً، ولا تزال غير قادرة على أن تنهيها بعد 19 شهراً، فقد قضت على أيّ أمل لها بلعب دور إقليمي قيادي مهما كان نوعه في المنطقة، بالرغم من التفوّق العسكري الساحق الذي تمتلكه، وتحوّلت قوّة تخريب وإرهاب وزعزعة للاستقرار في نظر موكّليها الكبار أنفسهم. وقد أظهرت جولة الرئيس الأميركي في المنطقة، منتصف الشهر الجاري (مايو/ أيار)، أن التوجّه العام، في واشنطن والغرب عموماً، إلى الحفاظ على مصالحهما وتعظيمها، لم يعد في المراهنة على استدامة حالة التوتّر والحرب، التي صيغت على أساسها إسرائيل واستثنائيتها، وواجب انتصارها مهما كان الخصم، وإنما على تطوير المصالح الاقتصادية المشتركة، وبالتالي، بسط الاستقرار والأمن إلى حدّ كبير، والاعتماد في ذلك على أبرز قوَّتَين صاعدتَين، تركيا وبلدان الخليج، وفي مقدمها السعودية. وفي هذا السياق نفسه، تغيّرت مكانة سورية في الصراع الإقليمي ودورها من النقيض إلى النقيض، فبدلاً من أن تبقى منطقةً عازلةً بين طهران وتل أبيب، وبالتالي مسرح حرب مفتوحة بوتيرة محدودة تضمن مصالح الطرفَين، يراد لها أن تكون منطلق إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد، ليس كما أراد له بنيامين نتنياهو أن يكون تحت سيطرة إسرائيل وخدمةً لمصالحها، وإنما على النقيض من ذلك تماماً، حلقة تواصل وجسراً للسلام الإقليمي المأمول، ومركزاً للتفاهم والتعاون بين دول المنطقة جميعاً. وهذا هو المعنى الاستراتيجي لرفع واشنطن العقوبات وإعطاء سورية فرصةً للعب دورها الجديد.
لقد أظهرت حرب غزّة حدود الرهان على التفوق العسكري وحده في تحقيق الأهداف السياسية، ولم تنجح في تجنيب إسرائيل خوض حرب إبادة جماعية لا تزال مستمرّةً، ربحت فيها عسكرياً، لكنّها خسرت فيها حصانتها السياسية والأخلاقية، وتكاد تتحوّل بسببها دولةً منبوذةً بالرغم ممّا كانت تتمتّع به من رعاية عالمية استثنائية. في المقابل، غيّرت التحوّلات الاقتصادية الكبيرة في السعودية ودول الخليج، والنجاحات الاستثنائية التي حقّقتها هذه الدول في العقدَين الماضيَّين، من مقاربة المؤسّسة الأميركية في ما يتعلّق بالحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. فصار الاستثمار في الشراكة والتعاون مع بلدان الخليج الغنّية، وتركيا، أكثر فائدةً وتعظيماً للأرباح وجذبَ الاستثمارات، في نظر إدارة ترامب، من الرهان على إسرائيل قاعدةً عسكريةً مدجّجةً بالسلاح لتحييد البلدان العربية وابتزازها. ولهذا السبب أيضاً، صارت تكاليف الدعم المطلق والدائم لإسرائيل من أدوات السيطرة على المنطقة بوسائل التهديد والحرب أعلى بكثير ممّا تضمنه من مكاسب. أضف إلى ذلك ما أدّى إليه الدعم المطلق وغير المشروط لحكومات إسرائيل من تغذية أطماعها التوسّعية من دون حدود، وجعلها تنزع إلى الاستقلال في سياستها بشكل أكبر عن واشنطن وأجندتها الإقليمية. لن يعني هذا أبداً أن الغرب سوف يتخلّى عن دعم إسرائيل والدفاع عنها، وإنما لن تكون مصالح إسرائيل وحدها التي تحدّد الخيارات الاستراتيجية والسياسية للكتلة الغربية في المنطقة العربية.
شكّل هذا التحوّل انقلاباً حقيقياً في العلاقات الدولية في المنطقة، فقد عاش الشرق الأوسط منذ نشوء إسرائيل على وقع تماهي السياسات الغربية مع سياسة تلّ أبيب والالتزام الدائم السياسي والأخلاقي بتعزيز قوّتها وتمويل حروبها مهما كان الثمن، ليس ضدّ الفلسطينيين فحسب، ولكن ضدّ الأقطار المجاورة جميعاً. وهذا ما أحدث هوّةً كبيرةً بين الغرب والبلدان العربية، وكان يقف وراء سياسة السعي إلى تحييدها وتفريق صفوفها وتقييد تقدّمها في جميع المجالات التقنية والصناعية والسياسية، حتى لا تؤثّر في تفوّق إسرائيل وأمنها واستقرارها. وتغيّر هذا الموقف، بمقدار ما يعني تقليص دور إسرائيل في تحديد سياسات الغرب في المنطقة، سيقود إلى إعادة بناء علاقات أكثر توازناً مع البلدان العربية. وهذا ما يثير قلق إسرائيل، الذي تعبّر عنه بالاعتداء المتكرّر على سورية، منطلق هذا التحول في السياسة الشرق أوسطية، وباحتلال مزيد من أراضيها، والدعوة السافرة إلى تقسيمها.
ستكون لهذا التحول إن ثبت انعكاسات في عموم أقطار المنطقة، تخسر إسرائيل فيه (شيئاً فشيئاً) الرعاية الاستثنائية التي تمتّعت بها خلال العقود الطويلة الماضية. وإذا وفّى الرئيس ترامب بوعده في الاعتراف بدولة فلسطينية، مهما كان وضعها، ربّما يصبح الطريق معبّداً لتحقيق المزيد من التقدّم في بسط السلام والأمن، وبالتالي إلى إحلال منطق التعاون والعمل من أجل التنمية المشتركة في عموم دول المنطقة. وربّما يفتح الطريق إلى إقامة منظّمة إقليمية للأمن والتعاون والتنمية على مستوى الشرق الأوسط، تعيد للمنطقة مكانتها الحقيقية ووزنها في العلاقات الدولية. وهذا ما تحتاجه شعوبها لمواجهة آثار الدمار الذي ألحقه بها الصراع الطويل على السيطرة بين قوَّتَين سلبيَّتَين، إسرائيل وإيران، جمع بينهما التمحور حول الذات وتجاهل مصالح الدول والشعوب الأخرى جميعاً، والسعي إلى التقدّم على حسابها.
أي مستقبل للديمقراطية
في هذا المسار الإقليمي الجديد، يحاول أن يتموضع نظام أحمد الشرع الجديد، إن لم تكن ولادته جزءاً من هذا المسار. وإدراك هذا التحوّل والجرأة على الانخراط فيه هو الذي أوصله إلى دمشق، وضمن له الانتصار العسكري اللافت، كما ضمن لنظامه سرعة الاحتضان من الدول المعنية بهذا التغيير الاستراتيجي الكبير. وهذا ما يفسّر لماذا لم تلقَ الأخطاء التي أشار إليها (وفي أحيان كثيرة بحقّ) ناقدوه، في ما يتعلّق بسياساته الداخلية وتقاسم السلطة، أو بالأحرى الاستئثار بها، صدىً كبيراً في المحيطين، الإقليمي والدولي، ولا لدى الجمهور السوري، الذي أدرك بالحسابات البسيطة أن القضية أبعد من انتصار طائفة على طائفة أو أيديولوجية سلفية على أيديولوجية حداثية أو تقدّم مواقع أكثرية على أقلّيات. لقد كان الصراع على سورية، التي تمثّل قلب الشرق الأوسط الحي وملتقى توازناته محور صراع أكبر على السيطرة الإقليمية، أشدّ أثراً في تقرير مصير بلدانها من أثر الصراعات والحسابات الداخلية، وسوف يبقى على الأغلب زمناً طويلاً، فهو يندرج في صراع جيواستراتيجي أشمل، لا يكاد يبدأ، يغذّيه صعود الصين اللافت، وتقدّمها في ميادين الصناعة والتجارة والتقنية الحديثة والذكاء الاصطناعي، المستمرّ منذ أكثر من عقدَين، وبروزها ندّاً منافساً الولايات المتحدة التي تربّعت على عرش الهيمنة العالمية، على الصعد، الاقتصادي والتقني والعلمي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن الماضي. وهو الصراع الذي دفع إلى المؤخّرة العداء القديم بين الغرب الأطلسي والشرق الأوراسي، كما أدّى إلى إضعاف حلف الأطلسي (ناتو)، وربّما تفكيكه في المستقبل لصالح نشوء تحالفات دولية جديدة أكثر أهمية وديمومة. ومنذ الآن، يبدو أن الشرق الأوسط أصبح أكثر أهميةً من الناحية الاستراتيجية من أوروبا في هذا التنافس العالمي الجديد.
من هنا، يمكن أن نفهم النجاح السريع الذي حقّقه “انقلاب” الشرع، والترحيب الكبير الذي لقيه في العالم العربي خاصّة، وفي أوروبا وأميركا والعالم. ومنه نفهم أيضاً توجّس الإسرائيليين وخوفهم من تراجع دعم واشنطن التاريخي غير المشروط لمشاريعهم التوسعية والإبادية، ونفهم أيضاً ضياع بوصلة أوروبا، وتردّدها، وخسارتها نفوذها في الشرق الأوسط.
والواقع ان أوروبا تدفع ثمن خطئها الكبير في العقود الماضية، عندما لم تشأ أن ترى في المشرق والعالم العربي سوى آبار نفط، وقوافل جمال مفيدة للصور السياحية، وخامات رخيصة، ومهاجرين بأجور زهيدة، وفشلت في أن تعيد النظر في تعاملها مع هذه المنطقة شعوباً طامحةً في التقدّم والبناء والاندماج في مسار المدنية الحديثة. هكذا فشلت في توطيد أسس قوية للتعاون معها وتحويلها شريكاً رئيساً ومتميّزاً في علاقاتها الدولية، وراهنت في المقابل على إسرائيل للإبقاء على نفوذها في البلاد العربية، والدفاع عمّا تسميه مصالح استراتيجية. ولو نجحت في تعديل نظرتها، لجعلت من العالم العربي شريكاً اقتصادياً كبيراً ومربحاً في مواجهة إعادة تشكيل التكتّلات والتحالفات الدولية. لكنها استمرّت في تجاهل تطلّعات الشعوب العربية، والتقليل من إمكاناتها وقدراتها على التقدّم في طريق التنمية الحضارية. على أوروبا اليوم أن تركض بسرعة حتى تستدرك بعض تخلّفها عن ركب التحوّلات الإقليمية والعالمية، ولكيلا تترك الولايات المتحدة تقطع الطريق عليها.
في النتيجة، أي أثر لهذه التحوّلات الإقليمية والدولية في تطوّر الوضع السوري الداخلي، الذي هو اليوم أكثر ما يشغل الرأي العام السوري؟… دخلت سورية في معادلة إقليمية ودولية تتجاوز رهاناتها مسألة توزيع السلطة السورية، والمشاركة فيها، وتخضع في حساباتها وأشكال تطوّرها والتعبير عنها بدرجة أكبر لعوامل تتعدّى إرادة السوريين أنفسهم، نظاماً وجماعات معاً. وبمقدار ما سيُعاد دمج الأقطار التي تخلّفت عن هذا الركب (منها سورية ولبنان بشكل خاص بسبب تغوّل المشروعَين الإيراني والإسرائيلي عليها) في الاقتصاد الإقليمي القائم الذي يقوده الخليج العربي منذ عقود، الغني بالموارد النفطية، سوف تسيطر على توجّهاتها الخيارات النيوليبرالية والاقتصادية السائدة فيه، أي تقدّم مجتمع المال والأعمال والتجارة والاستهلاك على جميعَ القيم الأخرى. وللأسف! لن تكون الديمقراطية الهمّ الأوّل للنُخب الاجتماعية، وإنما المصالح والمصائر الشخصية، وتقليد الغرب في كلّ شيء، كما هو الحال في المدن الخليجية الناهضة من العدم، وربّما تتحول دمشق إلى رياض أو دبي أو أبوظبي أخرى، على عكس ما كنّا نأمله من نمط تنميةٍ أكثر إنسانية وانسجاماً مع الطبيعة والبيئة والثقافة والهُويَّة الاجتماعية. لكن، من يدري، ربّما هذا ما تحلم به النُّخبة السورية الصاعدة في دمشق وبيروت وعمّان وبغداد وبقية مدن المشرق، كما حلمت به نُخب الخليج من قبل. ودمشق التي كادت تتحوّل عاصمةً لـ”الشيعية السياسية” في العقود الماضية، سوف تصبح ربّما درّة العقد في هذه الحداثة العربية الخليجية الراهنة، إذ يقود الجميع حلم التقنيات المتقدّمة، والانخراط في العالم، والبحبوحة الاقتصادية، والرفاه الاستهلاكي، وتتحوّل المدن الشرقية الجميلة غاباتٍ من ناطحات السحاب المصنوعة من الحديد والإسمنت المسلّح والزجاج.
ليس هذا ما كان يتمناه جيلنا الذي قادته قيم الحرية والعدالة والمساواة والسيادة والازدهار والإبداع الفكري والسمو الروحي والمعنوي. لكن هذا ما قضت به الأحداث، وحمل به التاريخ، الذي مهما كانت إرادتنا قوية وتضحياتنا كبيرة، ما كان من الممكن (وليس بإمكاننا) أن نصنعه بمفردنا ولا على هوانا، لا نحن ولا أعداؤنا. فهو ثمرة تفاعلات أشمل وأبعد غوراً، وأكثر تعقيداً ممّا تفيده النظريات الجاهزة، وتتصوّره الأيديولوجيات الحالمة من قواعدَ وقوانين.
وعلى الصعيد السياسي، غيّر هذا التوجّه (أكّده رفع العقوبات) حسابات الأطراف المتنازعة، وغيّر المزاج العام. وبمقدار ما طمأن النظام على مستقبله، وعزّز شرعيته أمام شعبه، وأحبط إرادة التمرّد عليه، أعطى للأطراف التي خافت من تطرّفه، وأظهرت الشكّ في خطابه، ما يشبه الضمانات الدولية بمراقبة سلوك أطرافه وقيادته إلى الاعتدال. أمّا في ما يتعلّق بحلم الديمقراطية القديم والدائم، فأنا أرى أنه لا توجد سلطة، حتى تلك المنبثقة من انتخابات شرعية، تلتزم بمبادئ الديمقراطية، إن لم تجد في مواجهتها قوىً اجتماعيةً منظّمةً وأفراداً أحراراً يدافعون عنها ويضحّون من أجلها. ولا ينبغي أن تقتصر هذه النُّخبة على مجموعة صغيرة من الناس الأحرار، وإنما تحتاج إلى أن يتمثّل الجمهور أو جزء كبير منه معنى الحرية، وهنا يكمن دور المثقّفين والسياسيين الديمقراطيين وواجبهم. من دون ذلك، وفي غياب قوىً اجتماعية منظّمة وحيّة، يسهل على أي حكومة (في منطقتنا بشكل خاص) أن تكسب النُّخب الاجتماعية بمقايضة المشاركة السياسية بالمشاركة الاقتصادية، وتقاسم الريوع والأرباح.
العربي الجديد
————————–
قراءة في المشهد السياسي والمحلي في سوريا 25 مايو/ أيار 2025/ أسامة الإبراهيم
مايو 26, 2025
ما يزال مستقبل سوريا رهن المخاطر؛ قد يُطلق رفع العقوبات شرارة تحوّل اقتصادي وسياسي عبر جذب استثمارات واعتراف دولي، لكن غياب إصلاحات جذرية (سياسية-اقتصادية-أمنية) واستمرار عدم الاستقرار الداخلي، يبقي البلاد في دائرة التبعية للتدخلات الخارجية، وستظل فرص التحول محدودةً وهشّة.
الوضع السياسي: واشنطن تطبع مع دمشق وتركيا تسعى لاختراق ملف “قسد”
– يمثّل رفع العقوبات الأوروبية والأمريكية عن سوريا، عبر الرخصة العامة رقم 25 والإعفاء المؤقت من عقوبات قيصر لـ 180 يوماً، منعطفاً جيوستراتيجياً يعكس تحولاً في الرؤية الغربية من سياسة العزلة إلى إعادة دمج سوريا في المحيط الإقليمي والدولي، وفي إطار استراتيجية أمريكية أوسع تهدف إلى “تصفير النزاعات” بالشرق الأوسط لتركيز الموارد على مواجهة الصعود الصيني.
ويمكن القول إن التقييم الأمريكي بات يرى أن سوريا المستقرة، المنفتحة على تركيا والخليج شريك في مكافحة الإرهاب وعنصر مهم لضبط الاستقرار في المنطقة، ولعل ذلك ما أشار إليه وزير الخارجية ماركو روبيو الذي ربط رفع العقوبات بالتحذير من انهيار وشيك للسلطات السورية الانتقالية، وعودة البلاد إلى حالة الحرب والتقسيم، ورغم رفع العقوبات المؤقت -6 أشهر- ليس كافياً لجلب استثمارات خارجية أو حتى تأسيس بنية تحتية سوريّة، لكنه يؤكد أن سوريا أصبحت جزءاً من خطة وترتيب أكبر تقوم به الولايات المتحدة في المنطقة، يدفعها لمواصلة التطبيع السياسي مع دمشق ورفع العقوبات بشكل كامل، ما يوفر بالنسبة لسورية فرصة للحصول على الدعم الخارجي، بالإضافة للمنافع السياسية كالاعتراف بالدولة السورية وتبادل التمثيل الدبلوماسي مع بقية الدول، وبناء المؤسسات الأمنية والعسكرية السورية.
يبقى نجاح هذه الخطوات وتحويل الفرصة الاستراتيجية الحالية إلى مسار تعافٍ دائم مرهوناً بمدى استعداد السوريين حكومة وشعباً، للاستجابة لهذا التحدي والانخراط مع المحيط الدولي، ثم الانخراط الجاد في مشروع وطني شامل لإعادة البناء السياسي والاقتصادي، واستعادة الثقة عبر عقد اجتماعي يُخرِج السوريين من دوامة الانقسام، وتجنب الوقوع مرةً أخرى في حلقة العنف التي قد تُعيد إنتاج الأزمات ذاتها بأشكالٍ أكثر تعقيداً.
– تأتي زيارة الرئيس السوري المفاجئة إلى تركيا في سياق متعدد الأبعاد، حيث تَلَتْ الزيارة اجتماعاً سريّاً بين رئيس المخابرات التركية إبراهيم قالن والمسؤولين السوريين في دمشق، وتزامنت مع إعلان أمريكي أوروبي رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا. كما تُجسّد الزيارة امتداداً لمساعي أنقرة تحقيق اختراق أمني يُقلص الوجود الكردي المسلح على حدودها، ويعزز نفوذها داخل سوريا. ومن الواضح أن المحادثات السورية التركية تُركّز على إدارة الأزمات عبر حوار مباشر بين القيادات العليا بهدف متابعة الملفات ذات الاهتمام المشترك، كتنفيذ اتفاق دمج “قسد” في الحكومة السورية، وتعزيز التعاون الأمني ضد “داعش” وإدارة سجون عناصره ومخيمات عائلاته، فضلاً عن مواجهة التهديدات الإسرائيلية. وتجدر الإشارة إلى أن الخطوات التركية الأخيرة تتزامن أيضاً مع تنسيق تركي أمريكي وثيق عبر إطلاق مجموعة “العمل المشترك حول سوريا”، ورعاية أنقرة للقاء الشرع مع المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا “توماس باراك”، ما يؤكد توافقاً تركياً أمريكياً متنامياً على رؤية مشتركة تهدف إلى تحقيق سوريا مستقرة وموحدة، وقادرة على إعادة بناء جسور الثقة مع محيطها الإقليمي.
الوضع الاجتماعي: العدالة الانتقالية بين الترحيب والتشكيك
– أصدرت الرئاسة السورية مرسوماً بتشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” و”الهيئة الوطنية للمفقودين”، بهدف كشف انتهاكات الماضي ومحاسبة المسؤولين وجبر ضرر الضحايا، وسط ترحيب عربي ودولي، وتفاؤل حذر من منظمات دولية كـ”هيومن رايتس ووتش” التي انتقدت حصر اختصاص “هيئة العدالة الانتقالية” بجرائم نظام الأسد وإقصاء ضحايا الجماعات المسلحة.
تُعد العدالة الانتقالية عبر محاورها الأربعة (المحاسبة، كشف الحقيقة، التعويض، الإصلاح المؤسسي) ضرورة مُلحة لسوريا في منعطفها المصيري ما بعد سقوط نظام الأسد، كركنٍ جوهري لمواجهة إرث عقود من الانتهاكات الجسيمة التي خلَّفت ملايين الضحايا والنازحين، ودمَّرت البنى المادية والاجتماعية، وتستمد العدالة الانتقالية أهميتها الخاصة من إسهامها في إعادة الثقة بين مكونات المجتمع السوري، ومن كونها تمثل حجر أساس في أي عملية انتقالية، يفترض أن تنتهي في نهاية المطاف بالمصالحة الوطنية، لكنها تتطلب قبل ذلك مراعاة كافة الظروف السياسية والاجتماعية السورية وتعقيدات المشهد المحلي والخارجي.
الوضع الاقتصادي: رفع العقوبات يفتح الباب أم تحوُّلات اقتصادية مرتقبة
– يُمكّن رفع العقوبات عن المصارف الحكومية السورية من إعادة دمجها في نظام “سويفت” الدولي، ما يُسهّل المعاملات المالية الآمنة والسريعة، ويعزز كفاءة الخدمات المصرفية وتقديم خدمات مالية متطورة للشركات والأفراد، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على جذب للمستثمرين الأجانب، نحو قطاعات واعدة كالطاقة والتكنولوجيا والبنية التحتية، حيث تتنافس الشركات الدولية على مشاريع الاستثمار وإعادة الإعمار. ومن المتوقع أن تحقق البلاد نتائج اقتصادية فورية وأخرى متوسطة المدى، تبدأ بتحسن ملموس في المؤشرات الاقتصادية خلال عام على الأقل، وعودة الصادرات السورية (الغذائية والنسيجية والزراعية) تدريجياً إلى الأسواق الخارجية، ولتحقيق الاستفادة القصوى من هذه الفرص فلا بد من تحديث البيئة الاستثمارية عبر إعفاءات ضريبية وضمانات تُطمئن المستثمرين.
– ويبدو أن الحكومة السورية بدورها، تحرص على تنويع شراكاتها الاستثمارية مع دول مثل الإمارات وفرنسا والصين، في إطار خطط تشمل مشاريع ضخمة كالاستثمار بالموانئ والمناطق الصناعية السورية وأخرى في المناطق التجارية الحرة، في محاولة منها لاستعادة الثقة الدولية باقتصادها المنهك. وسط تعقيدات الملفات السياسية والأمنية، التي قد تُعيق تحوُّل هذه المشاريع إلى حافز حقيقي للانتعاش.
– على الصعيد الدولي: يُبرز التحرك الأوروبي (وخصوصاً الفرنسي) والصيني والتركي تنافساً دولياً للاندماج المبكر في فرص إعادة إعمار سوريا، حيث وقّعت الحكومة السورية سلسلة اتفاقيات استثمارية دولية لدفع عجلة التعافي الاقتصادي، منها مذكرة تفاهم مع الشركة الصينية “Fidi Contracting” لاستثمار منطقتي حسياء (حمص) وعدرا (ريف دمشق) الحُرّتين بمساحة إجمالية تصل إلى 1.15 مليون متر مربع، بهدف تطوير مشاريع تجارية وخدمية.
كما أبرمت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية اتفاقية مع الشركة الفرنسية “CMA CGM” لإنشاء موانئ جافة في المناطق الحرة السورية الأردنية وعدرا، وكانت الشركة قد وقّعت مع الحكومة السورية اتفاقية لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية بقيمة 230 مليون يورو لمدة 30 عاماً. وفي قطاع الطاقة، أُعلن عن اتفاق سوري تركي لمد خط أنابيب غاز وربط شبكة كهرباء بجهد 400 كيلو فولت، يُتوقع تشغيله بنهاية 2023، مما سيساهم في توليد 1300 ميغاوات من الكهرباء، كما بدأت تركيا بتزويد سوريا بملياري متر مكعب من الغاز. هذه المشاريع تُقلل في محصلتها من اعتماد السوريين على المولدات الخاصة، مما يُخفض تكاليف التشغيل ويُحفز الصناعة، إلى جانب جذب استثمارات من دول أخرى، حيث يُعد استقرار الكهرباء ركيزةً لإعادة بناء الاقتصاد.
الواقع الأمني: هجوم على حميميم والداخلية تعيد هيكلتها
– تشير تقارير إعلامية روسية إلى وقوع هجوم مسلّح على قاعدة “حميميم” الروسية في ريف اللاذقية السورية خلال الأسبوع المنصرم، نتج عنه مقتل جنديين روسيين على الأقل، وفقاً لموقع “ريبار” العسكري الروسي، بينما نقل موقع “ستار غراد” الروسي عن مراسل حربي مقتل 4 مهاجمين وجنود روس في اشتباكات مع مجموعة مجهولة حاولت اقتحام نقطة أمنية قرب القاعدة. ورغم تضارب الروايات، تبقى التفاصيل غامضة في ظل غياب تعليق رسمي من الجانبين الروسي والسوري، ما يفتح الباب لتكهنات حول طبيعة الهجوم وهوية المهاجمين، وتُبرز أيضاً التحديات الأمنية المتجددة التي تواجه الوجود العسكري الروسي في سوريا، والذي يُعاني من هجمات متكررة رغم تراجع حدّة الحرب. ويُلاحظ أن عدم الإعلان الرسمي عن الحادث قد يُشير إلى سعي موسكو لتجنب تسليط الضوء على نقاط ضعف في منظومتها الأمنية، أو لعدم استفزاز الرأي العام لتكاليف الوجود في سوريا، في وقت تُواجه فيه تحديات جيوسياسية أخرى، مثل الحرب في أوكرانيا.
– يشكّل إعلان وزارة الداخلية السورية عن هيكلة شاملة، تتضمن استحداث إدارات جديدة مثل “مكافحة الإرهاب”، “حرس الحدود”، “السجون والإصلاح”، ودمج جهازي الشرطة والأمن العام تحت قيادة واحدة، محاولة إعادة تشكيل الصورة الأمنية السورية بعدما ارتبطت الأجهزة الأمنية السابقة لسنوات طويلة بانتهاكات حقوق الإنسان والفساد. التغييرات أيضاً، تهدف إلى تعزيز السيطرة على التهديدات الأمنية المتنوعة (كالتهريب والاتجار بالبشر)، وتحسين التعامل مع الملفات الشائكة التي خلفها النظام السابق، ما قد يُخفف من حالة الاستقطاب المجتمعي. وتُثير هذه الإصلاحات تساؤلات حول فاعليتها في معالجة الواقع الأمني المُتفاقم، الذي ما يزال يعاني من ارتفاع معدلات الجريمة وتنامي المجموعات المسلحة خارج سيطرة الدولة. كما تُلمّح الهيكلة الجديدة إلى كونها جزءاً من “استراتيجية اتصالية” تهدف إلى تقديم صورة مُحسّنة عن الحكومة دولياً، عبر تبني خطاب يتبنى مصطلحات مثل “حقوق الإنسان” و”الإصلاح”، في محاولة لامتصاص الضغوط الدولية وتحسين الشرعية في ظل تعقيدات المشهد المحلي وتدخلات فاعلين إقليميين ودوليين.
– تُمثّل عملية دمج الفصائل العسكرية السورية تحت مظلة وزارة الدفاع ومهلة الأيام العشر لانضمام بقية المكونات العسكرية، محاولة لبناء جيش موحد يُعيد هيكلة المؤسسة العسكرية المنهارة بعد سقوط نظام الأسد، وسط تحديات تتعلق بكفاءة الوحدات المدمجة وتناقضاتها الأيديولوجية، إلا أن غياب معايير الكفاءة وتباين الولاءات يثير شكوكاً حول تماسك الجيش خاصة في ظل استمرار تأثير العشائرية والمناطقية على بعض التشكيلات بالإضافة للنفوذ التركي على تشكيلات “الجيش الوطني”.
– تُظهر التطورات الأمنية والعسكرية في سوريا خلال الفترة السابقة بيئةً معقدةً من العنف وعدم الاستقرار، وتُبرز الاغتيالات المستهدفة لشخصيات أمنية سابقة ومدنيين متهمين بالتعاون مع فصائل إيرانية أو النظام السابق استمرار الصراعات الداخلية والانتقامية، وتعزز ثقافة الخوف وعدم الثقة بين المجتمعات المحلية. أيضاً ما زالت حوادث الألغام والمتفجرات في دوما وطرطوس وإدلب تُذكِّر بمخلفات الحرب المستمرة وتأثيرها المدمر على المدنيين، خاصةً مع استشهاد عناصر الدفاع المدني خلال مهام إنسانية، مما يُعمق الأزمة الإنسانية. من جهة أخرى، تنشط الحملات الأمنية ضد المخدرات وضبط مستودعات الأسلحة وحملات مكافحة التطرف والمخدرات والجريمة المنظمة، لكنها قد تبقى محدودة التأثير في ظل استمرار انتشار المليشيات والتدخلات الخارجية وعودة تنظيم “الدولة”، الذي أظهر مؤخراً تصاعداً في الهجمات واستقطاب المقاتلين، وفق تقارير أمريكية، حيث سجل التنظيم أكثر من 10 هجمات منذ مطلع أيار الحالي.
شمال شرق سوريا: خيارات قسد تتقلص
– تشهد المناطق الشرقية السورية تصاعداً في التوترات بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والقوات الحكومية، مع تحركات عسكرية متبادلة، منها سحب التحالف الدولي معدات من دير الزور إلى الحسكة، واشتباكات حول سد تشرين شرق حلب، في صراعٍ يعكس التنافس على السيطرة على الموارد الاستراتيجية كالمياه والطاقة.
سياسياً، تُواجه “قسد” تحدياً وجودياً مع تراجع الدعم الأمريكي، وتفاهمات تركيا وواشنطن مع دمشق، ما يُضعف ذريعتها الأمنية القائمة على مكافحة الإرهاب.. بالإضافة لغموض آلية حل حزب العمال الكردستاني الكردي؛ الذي قد لا يضمن حقوقاً ديمقراطية للأكراد في تركيا، وسط أنباء خلافات وضغوط من مسؤولي حزب العمال الكردستاني على قائد “قسد”، مظلوم عبدي، بهدف التماطل في تنفيذ بنود الاتفاق مع الحكومة السورية، مما يُبقي بذور التوتر قابلة للاشتعال. بدورها تحاول “قسد”، التكيّف عبر التفاوض للحفاظ على مكاسبها الذاتية، واستغلال تنافس القوى الإقليمية والدولية على إعادة تشكيل خريطة النفوذ بسوريا. لكن البدائل السياسية والعسكرية المتاحة تتقلص شيئاً فشيئاً، ومن المتوقع تحقيق تطورات ملحوظة سلماً أو حرباً في اتفاق قسد مع دمشق قريباً.
السويداء: تراجع الدعوات الانفصالية
– أدى رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا إلى تحوُّل جذري في المشهد السياسي بمحافظة السويداء، حيث تراجعت الدعوات الانفصالية لصالح تعزيز الانتماء الوطني، في ظل اعتراف دولي مُتزايد بشرعية الإدارة الحالية، هذا التحوّل تجسّد في تحوُّل خطاب حكمت الهجري (الزعيم الروحي للدروز) نحو الدعوة لـ”شراكة حقيقية” تحت سقف الدولة السورية، كتعبير عن تغير ومرونة القيادات المحلية في التعاطي مع المتغيرات. لكن التحديات الأمنية ما تزال قائمة، حيث كشفت حادثة اقتحام مبنى المحافظة واحتجاز المحافظ مصطفى البكور، التي عبّرت عن هشاشة الوضع رغم الاتفاقات الأخيرة بين الحكومة ووجهاء المنطقة. يُبرز الحادث استمرار نفوذ الجماعات المسلحة المحلية، وتردُّد الدولة في المواجهة المباشرة لتجنب التصعيد. وتوضح هذه الأحداث أن الاستقرار في السويداء رغم التحوّلات السياسية يظلّ هشّاً وقابلاً للانهيار مع أي أزمة.
التدخل الإسرائيلي: زخم سياسي لإعادة رسم الترتيبات الأمنية
– أفادت مصادر تركية مطلعة بأن تركيا وإسرائيل أطلقتا خطاً ساخناً على مدار الساعة لتجنب أي تصعيد عسكري أو سوء تفاهم في سوريا، وكشف موقع “ميدل إيست آي” عن تقبُّل إسرائيل تدريجياً لنشر تركيا قوات برية (مشاة ودبابات) في سوريا، لكن التحدي الأبرز يتمثل في مواقع أنظمة الدفاع الجوي والرادارات التركية، حيث تُركّز إسرائيل على ضرورة الحفاظ على حرية التحليق فوق الأجواء السورية، في إطار معادلة أمنية معقدة تزاوج بين التعاون التكتيكي والتنافس الاستراتيجي بين أنقرة وتل أبيب.
– من جانبها، قدّمت دمشق إشارات تطمين عبر تسليم أرشيف الجاسوس “كوهين” لإسرائيل، محاولة تهدئة التوتر وكسب ثقة واشنطن، في وقت يشهد الملف السوري زخماً سياسياً، خصوصاً في ظل الحديث عن لقاءات غير معلنة جرت بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين في أذربيجان بدعم إماراتي أو قطري.، ما يعني تحولاً في الموقف الإسرائيلي من الرفض المطلق للتعامل مع دمشق، نحو مرونة تكتيكية تستجيب للمتغيرات الإقليمية، وبالتالي إمكانية إعادة رسم الاتفاقيات الأمنية والسياسية داخل سوريا.
سطور
————————————
المجتمع المدني والانتقال إلى سوريا التعددية/ سمير الزبن
سقط النظام السوري وترك وراءه بلداً مدمراً، فالنظام لم يدمر البلد ويرتكب جرائم الحرب في حق شعبه فحسب، بل حطم الجغرافية السكانية للبلد بالتجريف السكاني أيضاً. لم تكن هناك دولة في سوريا في زمن النظام البائد، بل عصابة مجرمة ممسكة بأدوات القتل، وبأجهزة المخابرات الممسكة بدورها بمفاصل البلد، ولا يعني لها المواطن السوري شيئاً، فكانت المذابح الجماعية، وتدمير أي مظاهر للحياة في المناطق التي اعتبرتها العصابة الحاكمة معادية لها، وسيلتها لبقائها في السلطة، ولأن البلد كله عدو من وجهة نظر الطاغية، فلم تنجُ منطقة، أو عائلة في سوريا من الجرائم التي ارتكبها النظام بحق المواطنين.
هرب الطاغية وانهارت الدولة الورق التي حكمها، وترك وراءه تركة هائلة من المشاكل التي تنتظر السوريين وسلطتهم الجديدة. إن واحدة من أخطر الجرائم التي ارتكبها النظام بحق البلد، ومنذ استلام البعث للسلطة، هو تفكيك نواة الهوية الوطنية السورية، التي بدأ رجالات الاستقلال ببنائها بعد رحيل الفرنسيين، لذلك، فإن واحدة من أهم القضايا التي على السوريين إعادة تأسيسها هي الهوية الوطنية السورية، على أساس جامع بعد التفتيت الطائفي والجهوي والاجتماعي، الذي عمل النظام على تكريسه على مدار تاريخه، والمذابح الطائفية، التي جرت في الساحل في مارس/آذار المنصرم، والصدامات الطائفية مع الطائفة الدرزية، تجعل من إعادة تأسيس الوطنية السورية من جديد، مسألة ملحة، والأساس لحل الكثير من القضايا المرتبطة بها.
تحتاج سوريا إلى حوار وطني حقيقي وعميق ومستمر، من أجل تأسيس وطنية سورية جديدة، وليس إلى مؤتمر للحوار مبستر وتبريري، كالمؤتمر السريع الذي عقدته السلطة الجديدة في دمشق، فالحوار الوطني، ليس انتقاء مجموعة متحاورين من بطانة السلطة الجديدة ومقربيها، وعقد جلسة لساعات، والخروج ببيان بائس. الحوار الوطني في البلدان التي عانت صراعات دموية لفترات طويلة، لا بد له من أن يكون حوارا دائما بين الجميع، وعلى كل القضايا الوطنية الأساسية، وليس المطلوب منه بيانات تبريرية لسلطة استئثارية، بل بناء هوية وطنية جديدة، وهذه لا تُبنى في يوم وليلة وفي جلسة حوار يتيمة، بل هي عملية مستمرة بين كل المكونات السياسية والاجتماعية في البلد. واليوم، الحوار الوطني، أكثر ما يحتاجه البلد، من أجل التأسيس للنظام السياسي الجديد، والاتفاق على القواعد التكوينية له، ليتم تكريسها بدستور دائم للبلاد، يؤسس لعلاقات صحية بين مجموع السوريين، ويحفظ الحقوق والحريات الأساسية. ولا أعتقد أن الإجراءات التي اتخذتها السلطات الجديدة، صالحة لمعالجة مشاكل سوريا، ولا يتم حل المشكلات الداخلية، بإنجازات خارجية، بإرضاء الخارج والقبض بيد من حديد على الداخل، وانتهاك حريات وحقوق المواطنين. ما زالت سوريا بحاجة إلى حوار وطني، حاجتها إلى المواد الغذائية الضرورية. المسألتان ليستا على تناقض، وعلى الرغم من الإجراءات الاستئثارية التي اتخذتها المجموعة الحاكمة، فما زالت الفرصة سانحة لتغيير المسار، فمساحة الحريات التي وفرها سقوط النظام البائد، تمنح الفرصة لمساهمة قوى سياسية وهيئات مجتمع مدني، في إجراء حوار وطني بين الجميع، حتى من دون موافقة أو اشتراك المجموعة الحاكمة.
لأن المشاكل التي تواجه السوريين هائلة، حتى بعد رفع العقوبات الأمريكية، على السوريين قوى سياسية ومدنية كبيرة وصغيرة وأفراد، الخروج من عقلية المعارضة، التعامل مع المشاكل والقضايا السورية، على قاعدة أن الجميع أصحاب الثورة والبلد، والجميع انتصر، لا أن ينتظروا السلطة الجديدة أن تحل مشاكلهم، فلن يحل أحد مشاكلهم لا السلطة ولا غيرها، عليهم أن يأخذوا مصيرهم بأيديهم. لا توجد سلطة سياسية في العالم قادرة على حل كل المشاكل التي يعاني منها هذا البلد أو ذاك، وهذا في الحالة الطبيعية، فكيف حال بلد خرج من دمار ثلاثة عشر عاماً بالحديد والنار، تضاف إلى أربعة عقود وعائلة مجرمة تدمر وتنهب في البلد! سوريا اليوم تحتاج إلى مجتمعها المدني ومؤسساته، التي منعت من العمل في سوريا خلال النصف قرن المنصرم. هذه المؤسسات التي تملك القدرة على العمل بين تجمعات السوريين في كل مكان في البلد، وهي القادرة على تحديد أكثر الاحتياجات والمشاكل إلحاحاً لهذه المناطق، وقادرة على المساهمة في حلها لحد كبير في حال استطاعت أن تبني شبكاتها مع الداخل والخارج، وبناء هذه المؤسسات والشبكات على أسس الديمقراطية والشفافية، التي تشكل واحدة من أهم مرتكزات الهوية الوطنية الجديدة. ما يُنتظر من مؤسسات المجتمع المدني لا يقل أهمية عما ينتظر المؤسسات السياسية السيادية الأساسية، وإذا كان من الصحيح أن هذا العمل لا يظهر في وسائل الإعلام، وقد تكون هذه ميزة، لأنه ليس عملاً استعراضياً، إنما هو حفر في الصخر مع الكم الهائل من المشكلات الكثيرة والمعقدة، التي تعاني منها سوريا، وهي أدوات فعل مجتمعي ضرورية لإمساك المجتمع السوري مصيره بيده، وموازنة السلطات السياسية، وحماية الحريات في المجتمع، من خلال عمل هذه المؤسسات التي لها دور أساسي ليس في حل المشكلات المحلية فحسب، بل وفي إنتاج وطنية سورية جديدة تشاركية، وبالتالي، تقع على عاتق هذه المؤسسات مهمات جليلة في الكشف عن حقيقة الجرائم التي ارتكبها النظام من المعتقلات والمقابر الجماعية والإخفاء القسري، وصولاً إلى حفظ هذه الذاكرة للجميع حتى لا تعود سوريا مرة أخرى إلى نظام طاغية آخر.
كما يقع على عاتق هذه المؤسسات العمل على قضايا «العدالة الانتقالية» التي لا تكفي المؤسسة الحكومية لوحدها للتعامل معها، والتي لا يبدو أنها تتعامل معها بالجدية المطلوبة. ولا شك في أن مؤسسات مدنية تقوم على شعارات «كي لا ننسى» أو «إنصاف الضحايا» وغيرها من التسميات التي يمكن أن تحافظ على هذا الإرث، ووضعه في مكانه البارز حتى يبقى يُذكّر السوريين بما عانوه، وعدم ترك ذلك للنسيان. لهذه المؤسسات الدور الكبير في المصالحة المجتمعية، بين أطياف المجتمع السوري، بوصف الجميع مواطنين لهم القيّمة والمكانة ذاتها، وليس المصالحة بين طوائف لها خصائصها ومصالحها الطائفية، إنما مواطنون في وطن للجميع. إنها ليست دعوة لاستبدال العمل السياسي بالعمل المدني، فعلى الجميع الانخراط في العمل السياسي لتأسيس سوريا الجديدة، وهذا التأسيس لا يستقيم، من دون مؤسسات مجتمع مدني قوية، فهي الأكثر قرباً من الناس وقضاياهم ومشاكلهم، وبذلك يشكل التأسيس الصحيح لمؤسسات المجتمع المدني وتشبيكه الصحيح، البنية التحتية للنظام السياسي الجديد، وهي تستطيع أن تخوض الصراع من أجل مسار تعددي ديمقراطي مطلوب لسوريا الجديدة ومستقبلها.
كاتب فلسطيني
القدس العربي
————————————-
الهجوم على قاعدة حميميم: استهداف للوجود الروسي أم تحدٍّ للقيادة السورية الجديدة؟/ طه عبد الواحد
2025.05.26
مضت عدة أيام على هجوم بري تعرضت له قاعدة حميميم الجوية الروسية على الساحل السوري، ولم يصدر حتى الآن أي تعليق أو توضيح رسمي لا من موسكو ولا من دمشق بشأن ما جرى. إلا أنه لا يمكن استبعاد أن اتصالات غير معلنة، قد جرت بين مسؤولين من البلدين على مستويات رفيعة، لبحث الهجوم، ومسائل أخرى تتعلق بالقواعد الروسية في سوريا، وبعض ملفات العلاقات الثنائية. وبانتظار أي تصريحات رسمية قد تصدر عن مسؤولين في موسكو ودمشق، تضع النقاط على الحروف بشأن ما جرى، تباينت وجهات نظر الخبراء والمحللين السياسيين حول الهجوم على حميميم، خلفيته وتداعياته ودلالاته.
وكانت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي ذكرت أن قاعدة حميميم الجوية الروسية الواقعة في ريف اللاذقية تعرضت لهجوم مسلح صباح يوم الثلاثاء 20 مايو 2025، نفذته مجموعة من أربعة إلى خمسة مسلحين يُعتقد أنهم من أوزبكستان. وكان لافتاً أن أشارت تلك الحسابات إلى أن المهاجمين “يُعتقد أنهم يعارضون الرئيس أحمد الشرع”.
وأسفر الاشتباك مع القوات الروسية عن مقتل ثلاثة إلى أربعة من المهاجمين، وفرار واحد منهم، يُقال إن القوات الروسية أطلقت نحوه قذيفة مضادة للدبابات، لكن مصيره غير مؤكد، كما قُتل جنديان روسيان خلال المواجهة، وأُصيب آخرون بجروح.
الهجوم عقب التطورات الإيجابية بين دمشق والغرب
وسارع جزء كبير من الخبراء إلى ربط الهجوم بالتطورات الإيجابية التي طرأت مؤخراً على العلاقات بين دمشق والغرب.
ويُعيد هؤلاء الخبراء إلى الأذهان أن الاتحاد الأوروبي كان قد أكد على ضرورة “خروج الروس من سوريا” كشرط لإلغاء العقوبات والتطبيع مع دمشق، واعتبروا الهجوم على حميميم “رسالة” موجهة إلى روسيا بضرورة سحب قواتها من الأراضي السورية. إلا أن هذا الفريق من الخبراء الذي تبنى هذه القراءة لم يحدد من هي الجهة التي تقف خلف هذا الهجوم، وقررت توجيه “الرسالة” للروس بهذا الأسلوب.
ولا يتفق آخرون مع وجهة النظر السابقة، ويشيرون إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يشر، لا قبل ولا أثناء ولا بعد إعلانه عن قرار رفع العقوبات عن سوريا، إلى مسألة القواعد الروسية في سوريا.
ولا يبدو أن الوجود العسكري الروسي على ساحل المتوسط في سوريا يثير اهتمام أو قلق الولايات المتحدة، في ظل الإدارة الحالية على الأقل. وبالنسبة لأوروبا، فإنه وعلى الرغم من أن كايا كالاس مفوضة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، اشترطت بشكل واضح خروج روسيا بالكامل من سوريا، كي تتعاون أوروبا مع القيادة السورية الجديدة، إلا أن الاتحاد الأوروبي قرر رفع العقوبات عن سوريا ولم يعد إلى ذكر أي شيء عن هذا الشرط، ما يعني وفق أقل تقدير أن هذه المسألة ليست ضمن أولويات الأوربيين في التعامل مع سوريا حالياً، ويرجح أنهم سيركزون في المرحلة الأولى على الجانب الاقتصادي بما يضمن مصالحهم، وعلى الجانب الحقوقي في سوريا.
أما موقف السلطات السورية الجديدة من العلاقات مع روسيا ومصير القواعد الروسية على الساحل السوري فهو معروف وأعلن عنه الرئيس السوري أحمد الشرع بوضوح عندما كانت صفته قائد العمليات العسكرية أثناء معركة التحرير، وقال حينها: “أرسلنا إلى روسيا رسائل عبر وسطاء بأن ضرب قواعدها وارد، لكننا نفضّل إعطاء فرصة للطرفين من أجل بناء علاقة جديدة”. وشدد الشرع حينها على أن الإدارة السورية الجديدة مهتمة “ببناء علاقات استراتيجية وإعادتها مع روسيا على أساس سيادة الدولة السورية واستقرار أمنها واستقلال قرارها”. وقال بشأن مصير القواعد إن السلطات السورية تريد بحث هذا الأمر مع الجانب الروسي.
بعبارة أخرى يمكن القول إن القيادة السورية ليست بحاجة إلى هذا الأسلوب لإيصال رسالة للروس بشأن قواعدهم في سوريا، ولديها قنوات اتصالات مباشرة مع موسكو، يمكن استخدامها عند الضرورة لإبلاغ الروس بأي قرارات، وإطلاق محادثات ثنائية للتوصل إلى اتفاق بشأن مصير تلك القواعد، دون الحاجة إلى خطوات تؤدي إلى تصعيد في العلاقات بين الجانبين.
ولا يمكن استبعاد، لا بل ويرجح، أن اتصالات بين القيادات الروسية والسورية جرت على خلفية ذلك الهجوم، إما عبر القنوات الدبلوماسية، أو عبر قنوات وزارتي الدفاع في البلدين، دون أن يعلن عنها. ويبدو أن الجانبين يفضلان أن تكون الاتصالات بعيدة عن الأضواء والإعلام، ربما تجنباً لإثارة ردود فعل وجدل قد يؤثران على محاولاتهما إعادة ترتيب العلاقات الثنائية بعد التفاهم بشأن ملفات خلافية من مخلفات حقبة النظام البائد والدعم الروسي له.
ولن تكون هذه المرة الأولى التي تجري فيها اتصالات بين المسؤولين السوريين والروس دون الإعلان عنها. وعلى سبيل المثال اجتمع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أنقرة نهاية شهر فبراير، ولم يعلن أي من الطرفين عنها في حينه، إلى أن كشف لافروف نفسه في تصريحات بتاريخ 11 مارس أنه عقد اجتماعاً خلال زيارته لأنقرة يومي 23 و24 فبراير ، مع الوزير الشيباني.
وبينما لم تظهر بعد الهجوم الذي تعرضت له قاعدة حميميم أي تداعيات أثرت بشكل ما إن كان على العلاقات بين موسكو ودمشق، كما وفيما يخص مصير القواعد الروسية في سوريا، رأى خبراء روس أن الهجوم رسالة للرئيس السوري أحمد الشرع.
رسالة للشرع؟
وفي حديث لموقع تلفزيون سوريا رجح المحلل السياسي كيريل سيمينوف، الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، أن الهجوم على القاعدة الروسية مرتبط بصورة أكبر بالفتوى التي أصدرها مؤخراً المدعو أبو محمد المقدسي، والتي كفَّرَ فيها أحمد الشرع وكل من يتبعه.
وأشار سيمينوف إلى ما وصفه “تنامي حالة الاستياء من الشرع بين صفوف بعض مؤيديه ومجموعات تم دمجها سابقاً في الجيش السوري، بذريعة أنه يسير على نهج يتناقض مع نهجه السابق ومع الشريعة”.
وأضاف: “هؤلاء قرروا أن يتحركوا، لكن ليس بفتح مواجهة مباشرة مع الرئيس الشرع، وإنما من خلال هجوم على القاعدة الروسية، معلنين بذلك رفضهم الانصياع للرئيس السوري ومعارضتهم سياساته، بما في ذلك فيما يخص نظرته للعلاقات مع روسيا، ومع الدول الأخرى التي طبعت العلاقات مع سوريا”.
تلفزيون سوريا
——————————
من هم “سرايا أنصار السنّة”؟/ حسام جزماتي
2025.05.26
لا نعرف بالضبط السبب الحقيقي للبيان الذي أصدرته «سرايا أنصار السنّة» قبل أسبوع، وأعلنت فيه عن إيقاف إعلامها العسكري الذي ينقل أخبار العمليات. أهو تنبّه من الجماعة إلى أن تبنيها لهذه الهجمة أو تلك مؤشر يمكّن أعداءها من تتبع أماكن وجودها؛ أم عجزها عن تنفيذ أعمال بالزخم السابق بعد ملاحقة «جهاز الأمن العام»، التابع للسلطة الجديدة، لها؟ خاصة وأن البيان يذكر أن القيادة قررت ذلك «وهي في غمرة الكرب، وقد اشتد الخطب، وضاق السَّرب». رغم أنها تعد بأنها ستزيد «من وقع الضربات، ونضاعف الموجات، ونرسل النقمات» ضد أعدائها المستهدفين؛ العلويين والشيعة والدروز وقسد.
ويبدو أن كرب أبي عائشة الشامي، وهو اللقب الذي قدّمت به الجماعة أميرها، وصل إلى درجة تكليف مسؤولها الشرعي، الذي يسمّي نفسه الدكتور أبا الفتح الشامي، بصياغة البيان الذي ظهرت فيه لغته المجلجلة المتقعرة، كما حين يتوعد بأن العمليات القادمة ستكون مدروسة «لا يُسمَع لها جَرَسٌ، ولا يُبصَر لها نَفَسٌ، وتخلُفُ في الديار هاجساً لا يُحبَسُ، سلاحها كاتمٌ يهمِسُ… ». فيما أكد البيان على الاستمرار في الإعلام الشرعي، الذي يتولاه أبو الفتح بنشاط في قناته الخاصة على تطبيق تليغرام.
والحال أن «السرايا»، منذ أن أعلنت عن نفسها قبل أشهر، بدت جماعة عامية صغيرة قيد التشكل، تُعنى بالقتل أكثر مما تهتم للغة أو الإصدار. كما تدل بياناتها الأولى التي اتسمت بالقصر والارتجال وقلة العناية.
وبخلاف مطوّلات أبي الفتح، الذي ظهر في مرحلة لاحقة من عمر الجماعة، كانت قد أعلنت عن عقيدتها، في التاسع من نيسان الماضي، ببيان من صفحة واحدة صغيرة. قالت فيه إنها من أهل السنّة على منهج السلف. ترى كفر جميع الروافض (الشيعة) والنصيريين (العلويين) والدروز و«من حكم بغير ما أنزل الله ومن والاهم أيدهم ونصرهم». ورغم أن البند الأخير يشمل السلطة الآن في دمشق، كما سيوضح أبو الفتح مراراً، إلا أن «السرايا» تحافظ على بقية من سياسة حين تقرر أنه لا يمكن قتال الأعداء جميعاً دفعة واحدة، وأنها متفرغة حالياً للنيل من مجرمي الطوائف.
بل إن الجماعة قالت، في بيان صدر عن إدارة غرفة عمليات محافظتي اللاذقية وحماة فيها، ظهر في 30 آذار، إنها، على الرغم من تكفير الطائفة النصيرية ومن والاها، تعمل على عدم استهداف المدنيين منها، وإنما توجه عملياتها ضد من كان يعمل في صفوف النظام البائد، وإنها تتمنى من المدنيين عدم احتواء المطلوبين لأن كل من يساند مطلوباً فهو معه، نقلاً عن أمير الجماعة في المنطقة أبي حمزة السوري الذي كان قد جرى تعيينه قبل ذلك بأيام. وقال في كلمته بتلك المناسبة: «سنعمل جاهدين بشتى الوسائل على طرد المستوطنين النصيرية ومن والاهم من أرضنا المباركة». في حين قال بيان آخر، صدر قبلاً، إن الجماعة «مستمرة في تنفيذ مخططها الديمغرافي» الذي يشمل، فضلاً عن الاغتيالات والتفجيرات والذبح، إحراق الأراضي الزراعية وتدمير المقامات المذهبية، بهدف «تهجير أكبر عدد ممكن من الطائفة النصيرية ليحل مكانهم أتباع أهل السنّة والجماعة الحقيقيين وليس المتلونين»، كما ورد في بيان أسبق.
والحق أن «السرايا» أعلنت عن قتلها بعض أبناء الطائفة السنّية، ممن كان لهم دور في سفك الدماء في أثناء سنوات الثورة. وعيّنت، مثلاً، أبا معاوية القرشي أميراً لها في محافظة حلب إثر تخطيطه لاغتيال اثنين من هؤلاء، ونائبه مكافأة على التنفيذ.
منذ ما أسمته العدد الأول، الصادر عن «مؤسسة العاديات الإعلامية» الناطقة باسمها، أوضح «مجلس إدارة» الجماعة أنه يعيش في توتر وخطر محدق لما يراه من «تصالح وتهاون»، داعياً «أهل السنّة» إلى التجهز بالسلاح والعتاد لمواجهة الصعوبات التي «يبدو أن الحكومة الجديدة لا تريد مواجهتها».
وبعد إصدارها بيانها عن عقيدتها بأقل من عشر ساعات، كما يقول بيان تالٍ مباشرة؛ سارعت المنصات الرسمية إلى وسم «سرايا أنصار السنّة» بالإرهاب وزعزعة السلم الأهلي. ورغم ذلك قالت الجماعة إنها لن تهاجم قوات ومؤسسات الحكومة ما لم تبادر الأخيرة إلى الصدام، لتتحملوا «نتيجة حرب أنتم من أشعلها»، على حد تعبير البيان الذي يتابع: «لن نتردد في قتال كل من يريد الوقوف في وجه مشروع إقامة إمارة إسلامية».
كما أوضحت، في مناسبات عديدة، أنها لا تعمل لصالح «الدولة الإسلامية» (داعش) ولا تنسيق بينهما في الوقت الراهن، غير أنها ترى أن من يقاتلهم «بسبب تطبيقهم أحكام الشريعة الإسلامية فهو مرتد واجب قتاله».
في نهاية رمضان الفائت، الذي صادف آذار الذي حدثت مجازر في الساحل، أصدرت الجماعة حصيلة عملياتها خلال الشهر. ونرصد منها «15 عملية إعدام لنصيرية عشوائيين في قرية قرفيص»، و«إشعال حرائق في قرية بارميا النصيرية»، و«تدمير مقام زين العابدين في حماة»، والعديد من العمليات الفردية في حمص وريفها.
لا تفصح «السرايا» عن أعدادها وأماكن وجودها. غير أن المتوقع أنها لم تتجاوز العشرات، كلهم أو معظمهم من السوريين، ربما مع بعض اللبنانيين بدليل الإشارة إلى طرابلس أكثر من مرة. يتوزعون في مدن وبلدات وأرياف عديدة. بعضهم من المقاتلين السابقين في «هيئة تحرير الشام» وغيرها. ومن الاستفتاءات التي توجه إلى أبي الفتح يبدو أن هناك عناصر اعتقلوا بسبب الاشتباه ولوحق آخرون. غير أن الأمر ليس محصوراً بجماعة تبدو الفوضى من سماتها الهيكلية، ما دامت هناك أرضية غاضبة ممن يشعرون بأن العدالة لم تتحقق بوسائل المحاسبة المعروفة، ويحسّون بالخيبة لأن السياسة العامة للبلاد لا تسير على النهج الذي أعدوا أنفسهم له.
تلفزيون سوريا
———————————–
عن القوى الديمقراطية وأزمتها المتجدّدة/ حسن النيفي
2025.05.27
جسّدت القوى السياسية السورية اليسارية (شيوعية – قومية) حضوراً في المشهد السياسي المناهض لحكم الأسد بشطريه (الأب – الابن) منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، إذ يمكن الإشارة إلى أكثر من تكتّل سياسي خلال العقود الماضية، كان الحضور اليساري فيه بارزاً، مثل (التجمع الوطني الديمقراطي 1979 – إعلان دمشق 2007 – هيئة التنسيق الوطنية 2011)، إضافة إلى عدد من الأحزاب والشخصيات اليسارية التي لم تكن ضمن التجمعات السابقة.
بعد انطلاقة الثورة (آذار 2011)، نشأ العديد من الأحزاب والتشكيلات والتجمعات ذات الصبغة اليسارية، ولكن ربما كان من العسير إحصاؤها أو الوقوف على مقدار تأثيرها أو ماهيتها التنظيمية، نظراً لنشوئها خارج البلاد من جهة، ولكون معظمها لا يحظى سوى بوجود افتراضي على وسائل التواصل من جهة أخرى. ولكن ما يجمع بين جميع تلك القوى السابقة، سواء التي وُجدت قبل الثورة أو بعدها، هو (يساريتها)، أي تمركز شعاراتها حول (علمانية الدولة)، علماً أن العديد من هذه القوى ذات الانتماء الشيوعي، قد تجاوزت الإيديولوجيا الماركسية وباتت شعاراتها أكثر ميلاً نحو القيم الليبرالية، كقضايا الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، الأمر الذي أدّى إلى تداخل وتشابه كبير في مجمل ما تطرحه هذه القوى من شعارات وأفكار، ما أدّى إلى شيوع مصطلح (القوى الديمقراطية) على مجمل القوى ذات التوجه (العلماني)، علماً أن المصطلح المشار إليه ليس دقيقاً، إذ ليس كل علماني هو ديمقراطي بالضرورة، ولكننا هنا نقف عند دلالته (الإجرائية) فحسب.
خلال عقود مضت، لم تشهد الحالة السورية تنسيقاً أو تعاوناً إيجابياً مثمراً بين القوى الديمقراطية والقوى الإسلامية، باستثناء تجربتين، شهدتا حضوراً لجماعة الإخوان المسلمين، هما (إعلان دمشق 2007) و(المجلس الوطني السوري 2011)، وهما تجربتان لم تنطويا على مُنتَجٍ سياسي يؤسس لعلاقة مستقبلية بين الطرفين.
وعلى مدى أكثر من عقد من عمر الثورة، اتسعت الفجوة بين الإسلاميين والقوى الديمقراطية، وربما كان لدخول تشكيلات إسلامية جديدة إلى المشهد السوري، وخاصة أن هذه التشكيلات الجديدة هي كيانات مسلّحة ذات إيديولوجيا متطرفة، منها ما له صلة مباشرة بتنظيم القاعدة (تنظيم داعش – جبهة النصرة)، و(حركة أحرار الشام) التي تؤكّد على منشئها المحلي واستقلاليتها عن القاعدة، كما ظهرت كيانات أخرى ذات وجهة (سلفية علمية)، مثل (جيش الإسلام) الذي أحكم نفوذه على الغوطة الشرقية حتى عام 2018.
مع بدء تغلغل النفوذ الدولي في سوريا منذ أواخر العام 2012، وانحسار الحراك الثوري السلمي، بات خطاب القوى الديمقراطية يتوجّه بكثير من النقد، الذي تطور إلى اتهام صريح للقوى الإسلامية بأنها اخترقت الثورة السورية وعملت على تشويهها، من خلال فرض أجنداتها الخاصة، ومجافاتها لتطلعات السوريين الذين انتفضوا في آذار 2011 مطالبين بالحرية والتغيير نحو دولة القانون والديمقراطية والعدالة. كما أسهمت القوى الإسلامية – وفقاً للقوى الديمقراطية – في تشويه الوجه الحقيقي للثورة، لأن لجوءها إلى فرض تصوراتها الإيديولوجية على الناس بالعنف والإكراه، إنما هو إرهاب حقيقي تمارسه تلك القوى بحق السوريين، فضلاً عن أن هذه الممارسة قد سهّلت شيوع سردية نظام الأسد عن الثورة واتهامها بالإرهاب والتطرف.
حملت السنوات الممتدة من 2015 وحتى سقوط نظام الأسد 2024، تغيّرات كبيرة من الناحيتين السياسية والعسكرية، لعل أبرزها هزيمة تنظيم داعش وتلاشي نفوذه، وتحوّل الجغرافيا السورية إلى مناطق نفوذ تحكمها سلطات أمر واقع، وفقاً لانتماءاتها وولائها. فمن الناحية العسكرية، أصبحت المعارضة المسلّحة تتموضع في بقعتين جغرافيتين: (جبهة النصرة) التي تحوّل اسمها إلى (هيئة تحرير الشام 2017) إثر انضمام تشكيلات إسلامية أخرى في كيان واحد، واتخذت من مدينة إدلب منطلقاً لنشاطها ونفوذها، فيما باتت معظم فصائل الجيش الحر منضوية في تشكيل يحمل مسمّى (الجيش الوطني 2017) والذي بات تحت إشراف مباشر من الحكومة التركية، واتخذ من مناطق وبلدات شمال غربي سوريا منطلقاً لنشاطه ونفوذه.
خلال سنوات مضت، كانت قد تكرّست شبه قطيعة كاملة بين القوى الديمقراطية، التي لم تكن تملك أي نفوذ ميداني على الأرض بحكم تكوينها المدني السياسي، وبين الكيانات الإسلامية ذات القوّة والنفوذ السلطوي على الواقع، فضلاً عن أن القوى الديمقراطية في حالة شديدة البعثرة والتشظّي من الناحية التنظيمية، فهي عبارة عن قوى وجماعات متفرقة، تتحاور فيما بينها وتقوم بندوات وأنشطة مشتركة، ولكنها لا تلتقي تحت مظلة تنظيمية واحدة، الأمر الذي جعل حضورها على المستوى السياسي عديم التأثير.
مع نهاية عملية (ردع العدوان 8 – 12 – 2024) وسقوط نظام الأسد، وحيال غبطة جماهيرية واسعة بهزيمة الأسد، نشأت حالة من الاضطراب الممزوج بالذهول لدى القوى الديمقراطية، ربما كان مبعثها استبعاد كثيرين لهزيمة الأسد بعملية عسكرية اتّسمت بهذه السرعة والسلاسة. ثم تحوّلت حالة الاضطراب إلى انقسام بدأ يتبلور بالتدريج بين فئتين من هؤلاء، إذ ترى فئة من هذه القوى أن عملية (ردع العدوان) هي فعل تحرّري ثوري حقق منجزاً ثورياً ووطنياً طالما تطلّع إليه السوريون طيلة أربع عشرة سنة، وبالتالي هو تجسيد لإرادة السوريين التي انتصرت على نظام الطغيان الأسدي.
وبهذا النصر يعود الاعتبار لتضحيات السوريين العظيمة، ويعود النازحون والمُهجّرون إلى بيوتهم، ويخرج المعتقلون من السجون. وعلى الرغم من حالة الخراب الفظيع التي حلّت بالبلاد، إلّا أن هزيمة الأسد هي فرصة للسوريين ليستعيدوا المبادرة للنهوض ببلدهم من جديد. ويعلّل هؤلاء موقفهم بتأييد حركة التغيير بالتحوّل النوعي الذي طرأ على القوى العسكرية التي قادت عملية ردع العدوان (هيئة تحرير الشام)، سواء على مستوى الخطاب السياسي الذي بات يتنصل تدريجياً من يقينياته الإيديولوجية السابقة، أو على مستوى السلوك الذي بات ينزاح من الطور الحزبي المتصلّب المؤدلج إلى منطق بناء الدولة بمفهومه المدني العام. كما ترى هذه الفئة أن منطق التغيير نحو الأفضل يستدعي المشاركة من الجميع، كما يستدعي مزيدا من الحوار وبناء جسور الثقة بين السوريين للوصول إلى برنامج وطني مشترك يحظى بقبول الجميع. ولعلّه من الطبيعي في هذا الحال ظهور كثير من الاختلاف في الرؤى والتصورات والممارسات، ولكن الوصول إلى الأهداف المنشودة لا بدّ أن يمرّ عبر نضال سلمي يحدّده الدستور والقوانين المنبثقة عنه، وهذا هو التجسيد الحقيقي للأعراف الديمقراطية في الدولة الحديثة.
في حين تبدي الفئة الأخرى من القوى أو الجماعات أو الشخصيات (الديمقراطية) تحفظها حيال عملية التغيير التي حصلت في سوريا، مبرّرةً موقفها بجملة من الأمور، لعل في طليعتها انحدار السلطة الجديدة من خلفية إيديولوجية دينية متطرفة (السلفية الجهادية)، وهي بهذا لا تأخذ بعين الاعتبار ولا تعطي أي قيمة لأي تحوّل فكري أو سياسي (لهيئة تحرير الشام)، بحجة أن ما تبديه السلطة الجديدة من تحولات لا يتعدّى كونه نزوعاً براغماتياً للتمكّن من السلطة فحسب. ثم تمضي في بناء مواقفها التالية استناداً إلى الجذر (الإيديولوجي) الذي تحاول أن تفسّر أي موقف أو سلوك للسلطة استناداً إليه، كما تعمد هذه الفئة – في الغالب – إلى تحاشي مناقشة التوجهات العامة والأساسية للسلطة، وتحاول التركيز على كثير من المواقف والسلوكيات التي هي من مفرزات ضعف السلطة، وعدم تمكّنها من بسط السيطرة وحفظ الأمن وتأمين الخدمات، وحالة الفلتان التي ما تزال قائمة لدى بعض الفصائل والجماعات العسكرية. وبالمجمل، فإن جوهر رأي هذه الفئة، والذي لم تقله جهاراً بلسانها ولكن تفسّره مواقفها، هو الركون إلى الحكم السابق المنبثق من سلطة الإيديولوجيا، وليس من استلهام الوقائع مهما كانت بالغة الدلالة، وهي بهذا الموقف تناقض، بل تناهض ما يتكرّر في الأدبيات الديمقراطية: (ليس المهم من يحكم، بل كيف يحكم) أو المثل القائل (اعرف الحق، تعرف أهلَه).
ويبقى السؤال الأهم الذي يردّده حال الجميع: أليس التحوّل الذي طرأ على مواقف وسلوك القوى الدينية الحاكمة هو تحوّل لصالح القيم التي ينادي بها الديمقراطيون؟ أليس من المفترض في هذه الحالة أن يُواجَه هذا الموقف بالتشجيع وليس الشجب والرفض؟ ليس المطلوب الآن أو في أي وقت مجاراة السلطة أو الكفّ عن مراقبتها ونقدها وتصويب سلوكها، بقدر ما هو المطلوب النظر بموضوعية إلى توجّهاتها بعيداً عن اليقينيات السابقة. بل السؤال الأكثر أهميةً: ما هو المشروع الذي تملكه هذه الفئة من (الديمقراطيين) ويمكن أن يكون مشروعاً مقنعاً لدى السوريين وبديلاً عمّا لديهم الآن؟
—————————————
المخاض السوري… ضرورة تغيير المسار/ علي العبدالله
28 مايو 2025
لا يشكل رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن سورية عاملاً حاسماً في إخراجها من عنق الزجاجة؛ فهو مشروطٌ بتنفيذ طلبات كبيرة وحسّاسة لهذه الدول، كما لا يمكن أن يكون له تأثير كبير على قرارات الدول والشركات الخاصة للاستثمار في سورية ما لم توفر السلطة السورية الجديدة بيئةً مناسبةً للاستثمار تبدأ باستقرار سياسي وضمانات مالية للمستثمرين، بدءاً من تحرير سعر صرف العملة الوطنية إلى قانوني استثمار وضرائب مشجعين وقضاء مستقل وضمانة لتحويل الأرباح إلى الشركات الأم في الخارج، خصوصاً أنّ الظروف الراهنة تحتّم الاعتماد على الاستثمارات العربية والأجنبية الخاصة، التي تسعى نحو الربح المضمون، بسبب اهتمام دول الخليج باسترضاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عبر الاستثمار المكثف في الاقتصاد الأميركي، بدءاً بضخ مليارات الدولارات في المجمّع العسكري الصناعي من خلال العقود العسكرية والاستثمارية، ووجود ساحاتٍ أخرى تستدعي مشاركة مالية خليجية فيها، مثل إعمار قطاع غزّة، قدّرت كلفة إعادة اعماره بـ 52 مليار دولار. وهذا مع توجّه أسعار النفط إلى الانخفاض تحت ضغط رفع سقف الإنتاج بطلبٍ من ترامب، ما سيقلّل عائدات دول الخليج من البترودولار ويدفعها إلى الوقوع في حالة عجز مالي، وفق تقديرات الخبراء، وتوجه دول أوروبية إلى رفع سقف ميزانياتها العسكرية لمواجهة التغوّل الروسي؛ ما سيحد من قدرتها على الاستثمار في سورية.
يستدعي تفعيل رفع العقوبات من السلطة السورية الجديدة تنفيذ المطالب الأجنبية أو تقديم إجاباتٍ مقنعةٍ كي تضمن رفعاً دائماً للعقوبات وعدم العودة إلى فرضها ثانية؛ كما يستدعي منها تبنّي سياسة شفافة عن توجهاتها وخياراتها السياسية والاقتصادية الوطنية لتوفير استقرار سياسي، مع ضرورة انطواء هذه التوجهات والخيارات على توفير شرطي النجاح: العقلانية والعملية، أي أن تكون قراراتها وإجراءاتها إن في مجال ردّها على المطالب الأجنبية أو في مجال خياراتها الوطنية قابلة للتبرير عقلياً وللتنفيذ عملياً في الوقت نفسه، فإصدار قرارات وإجراءات عامة لا تعتبرها الدول الأجنبية كافية أو مقنعة تبرّر ديمومة رفع العقوبات سيضيع فرصة ديمومة رفعها؛ وغياب الشفافية والوضوح عن السياسات والأهداف المنشودة وطنياً سيجعل حصول إجماع وطني حول هذه الخيارات، سياسياً واقتصادياً، مستحيلاً ما يبقي على التوتر والانقسام ويقضي على فرص حصول استقرار سياسي. الموقف دقيق وخطير في ضوء وجود طلباتٍ خارجيةٍ تتعارض مع الخطوط الحمر الوطنية، مثل التطبيع مع الكيان الصهيوني من دون ربط ذلك بإعادة الأراضي السورية المحتلة كاملة، واعتماد السلطة السورية الجديدة في تعاطيها مع القضايا الوطنية سياسة غير شفافة وتجاهلها تحفظات قوى سياسية واجتماعية على توجهاتها السياسية والإدارية وعلى عدد كبير من قراراتها، سيدفع الحالة العامة نحو الترهل والاستنقاع.
يشكّل الاستقرار الداخلي العامل الرئيس في توفير مناخ إيجابي للولوج إلى تفاعلات سياسية واجتماعية بين مكوّنات المجتمع السوري والسير نحو اندماج وطني، وتحقيق الاستقرار الداخلي يقتضي اعتماد سياسات داخلية تستبطن توفير عوامل رضا مجتمعي على الصعيدين السياسي والاقتصادي، تكون أساساً لعقد اجتماعي وطني متفق عليه، فعدم استهداف تحقيق رضا وطني عام بمثابة زرع حقل ألغام في المجتمع والدولة السوريين، حيث إن الاتفاقات القائمة على الغلبة أو على الإرادة الناقصة لا تحقّق استقراراً مستداماً. وهذا للأسف ما قامت وتقوم عليه سياسات السلطة السورية الجديدة، إنْ بتجاهلها تحفظات مكونات وقوى سياسية واجتماعية سورية، الكرد والموحدين الدروز والعلويين بشكل خاص، أو في فرضها أمراً واقعاً عبر القرارات والتعيينات ذات اللون الواحد، بما في ذلك منح مقاتلين من هيئة تحرير الشام رتباً عالية، عمداء وألوية، مع أن أعمارهم وخبراتهم لا تتناسب مع هذه الرتب، لتبرير تسليمهم مناصب حساسة في وزارة الداخلية أو بعدم اعتمادها الشفافية في خياراتها السياسية والاقتصادية والإدارية، ناهيك عن ما تثيره طروحات ودعوات تطرحها شخصيات من محيط السلطة، مثل الدعوة إلى بعث الأموية، أي إقامة سلطة عربية سنّية، أو الدعوة إلى إقامة نظام ملكي دستوري في سورية، بذريعة أن النظام الملكي يحقق الاستقرار أكثر من النظام الجمهوري، أو ترويج إقامة نواة سنّية عربية صلبة، تكون عصبية للسلطة وأداة لتحقيق الغلبة والسيطرة على المجتمع والدولة، وما تثيره من هواجس ومخاوف وانعكاسها شديد السلبية على وحدة سورية واستقرارها وسيادتها في ضوء ما يترتّب عليها من انقسامات داخلية ومداخل لقوى خارجية تبحث عن النفوذ والمكاسب الجيوسياسية. أهي طروحاتٌ ودعواتٌ إلى تشتيت الانتباه أم بالونات اختبار لمعرفة رد فعل المجتمع تمهيداً لتبنّي أحدها أم تعبير عن عدم امتلاك السلطة الجديدة رؤية موحّدة وخيارات نهائية سوى خيار السيطرة وفرض أمر واقع على المجتمع؟.
تعتمد السلطة السورية الجديدة سياسة كسب الوقت والعمل على تسجيل نقاط لصالحها، خاصة في مجال العلاقات الدولية ونيل رضا قوى دولية وإقليمية، لإقناع مكوّنات سورية، الكرد والموحدين الدروز والعلويين، بأن معركتها خاسرة وأن الأجدى لها الالتحاق بالرّكب والقبول بما يُعرض عليها قبل أن تضيع عليها الفرصة وتكون خسارتها شاملة. تعتمد السلطة الجديدة هذه السياسة في ضوء قناعة لديها أن القوى الدولية والإقليمية موافقة على ما تفعله في معركة عضّ الأصابع مع المكونات القومية والمذهبية المتحفظة على سياساتها وخياراتها بدليل أنها باركت كل قراراتها وخطواتها وساعدتها سياسياً وعملياً في احتواء مشكلات عديدة، مثل مجازر الساحل ضد المدنيين العلويين، ومنحتها فرصة لتسجيل نقاط لصالحها، مع تركيزها، القوى الأجنبية، على مطالب تتعلق بأمنها الوطني، مثل قضايا اللاجئين والإرهاب وإيران وروسيا والكبتاغون، ومصالحها الجيوسياسية عبر العمل على تحقيق استقرار إقليمي والانفتاح على الكيان الصهيوني؛ ما يدفعها إلى التركيز على الاستقرار وعدم الاهتمام بحقوق المواطنين السوريين والمكونات القومية والمذهبية وتطلعاتهم إلى الحرية والكرامة، خصوصاً إذا تحولت هذه المطالب إلى سببٍ لعدم الاستقرار، وهو ما عكسته تعليقات هذه الدول المرحبة، إن على همروجة مؤتمر الحوار الوطني أو على الإعلان الدستوري، وتجاهلها ما انطوى عليه من عيوبٍ وعلى تشكيل لجان وظيفية، لجنة للعدالة الانتقالية، ولجنة للبحث عن المفقودين بشكل خاص، حيث اكتفت بالعنوان من دون تدقيق بالصيغة كاملة وبمدى صلاحيتها لتحقيق الهدف المعلن من تشكيلها. وهذا شجع السلطة الجديدة على استخدام المواجهات الدامية في الساحل وجرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء في صياغة توازن قوى يخدم هدفها في السيطرة أساسه تجييش السُنّة عبر تخويفهم من ضياع انتصارهم وعودة النظام البائد وردع بقية المكونات باتهامها بالانفصالية والسعي لإقامة نظام محاصصة طائفي من دون اعتبار للآثار السلبية التي تترتب على ذلك بتدمير الثقة المتبادلة التي تمس الحاجة إليها من أجل نجاح العملية الانتقالية؛ فجوهر السياسة يكمن في إدارة الاختلافات ومعايرتها بحيث تحقق هدفاً رئيساً، وهو التعايش السلمي بين مكوّنات المجتمع؛ ما يعني أن المواجهات التي حصلت قرينة على فشل السلطة الجديدة في تمثيل كل السوريين وفي طمأنة المكوّنات السورية على مصيرها ومستقبلها.
لن يتحقق الاستقرار الداخلي من دون مواجهة استحقاقاته بشكل مباشر عبر الدخول في مفاوضات جدّية بشأن مطالب هذه المكونات والبحث عن صيغ مرضية حولها؛ ووضع عقد اجتماعي يحمي التنوع ويمنح جميع المكونات ضمانات دستورية في دستور أساسه التشاركية والتعدّدية والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات وسيادة القانون والفصل بين السلطات وتشكيل جيش وأجهزة أمنية مهنية وعلى أسس وطنية، فالتهديد الحقيقي لا يكمن في وجود تعدّد وتنوّع قومي وديني ومذهبي، بل في إنكار حقيقة أن بناء سورية الجديدة يتطلب شراكة وطنية تشعر أطراف هذا التعدّد والتنوع أنهم شركاء حقيقيون في الدولة السورية.
وعليه، سيشكل رفع العقوبات سلاحاً ذا حدّين، يساعد من جهة في تخفيف القلق والتوتر الداخلي بالمساعدة على حل مشكلات الحياة اليومية للمواطنين، الغذاء والخدمات، ويمنح، من جهة أخرى، السلطة السورية الجديدة فرصة تنفيذ تصوّرها لضبط المجتمع عبر توفير الأمن والغذاء وإغلاق باب الحرّيات العامة والخاصة، كما فعلت في مرحلة إدلب، سياسة لم تنجح في تحقيق الاستقرار في إدلب، حيث خرجت تظاهرات كبيرة واعتصامات طويلة، كان شعارها المركزي حل جهاز الأمن العام واستقالة الجولاني؛ لكنها قد تستمر بعض الوقت مستفيدة من تأييد السُنّة العرب أو صمتهم. وهذا يستدعي من السلطة الجديدة التدقيق في خياراتها وإعادة النظر في خياراتها وصياغة توجهاتها بدلالة تحقيق الاستقرارين، السياسي والأمني؛ فالاستقرار لا يتحقّق بالاستثمارات الخارجية، بل من خلال إطلاق مسارٍ سياسي داخلي يحقق التوازن والتكامل بين المكونات المجتمعية، فالمخرج يبدأ في السياسة وينتهي فيها ولا بديل عن ذلك.
العربي الجديد
———————————–
هل تعبر سوريا أزمة القمح عبر بوابة الاستيراد؟/ هيام علي
إنتاج دمشق من المحصول عند أدنى مستوى فيما البلاد في حاجة إلى 4 ملايين طن
صحافية مختصة في الشؤون الاقتصادية
الثلاثاء 27 مايو 2025
متخصصون في الزراعة ينصحون بتغيير السياسات الزراعية وتأمين مستلزمات إنتاج القمح وإقامة مشاريع بالتعاون مع دول الخليج
رست في مرفأ طرطوس قبل أيام قليلة باخرة محملة بنحو 28 ألف طن من القمح وسط ترقب وصول مزيد من البواخر التي يأتي استيرادها في إطار تعزيز احتياطات البلاد من القمح.
إلى ذلك أرسلت السعودية شحنات طحين إلى سوريا كمساعدات في وقت يواصل فيه العراق إرسال شحنات من القمح “الهدية” إلى المدن السورية لدعم حاجاتها.
وتلقت البلاد حتى الآن 50 ألف طن من أصل 220 ألف طن، ويمكن لسوريا أن تستورد من قمح العراق الذي أعلن أن هناك مليون طن فائض يرغب بتصديره وفقاً لأسعار البورصة العالمية، إذ يجري التفاوض لشراء كميات من القمح المعروض للبيع تجارياً عبر تجار سوريين.
750 ألف طن فقط إنتاج القمح
يأتي ذلك في وقت ابتعدت فيه سوريا كثيراً عن تحقيق أمنها الغذائي من القمح المنتج محلياً بعد تضرر المحصول بصورة كبيرة بسبب انحباس الأمطار والجفاف.
وقدر المعدل الوسطي للهطول في سوريا بين 300 و350 مليمتراً سنوياً، أما هذا العام فالتقديرات في أفضل الأحوال تصل إلى 210 مليمترات، إلى جانب نقص مستلزمات الإنتاج واستبدال الفلاحين للقمح بمحاصيل أخرى أقل كلفة وحاجة إلى المياه.
ووصف متخصصون زراعيون هذا العام بأنه “عام جفاف” إذ تشير المعلومات إلى تراجع الإنتاج هذا الموسم إلى أدنى مستوى له على الإطلاق بفعل تضرر المساحات المزروعة بنسبة كبيرة وصلت إلى 70 في المئة وأكثر.
وتلفت التوقعات الأولية أن إنتاج سوريا من القمح هذا العام في حدود 750 ألف طن، بينما كان في العام الماضي مليوني طن، وكان قبل عام 2011 يراوح ما بين 3 و4 ملايين طن كانت تكفي الاستهلاك المحلي ويصدر الفائض إلى أوروبا خصوصاً.
وتظهر هذه الأرقام تراجعاً صادماً في زراعة القمح هذا العام، مما يمكن اعتبارها مؤشرات خطرة تحمل معها تحذيرات من مستوى الأمن الغذائي للسكان، مما يتطلب تحركاً سريعاً من قبل الحكومة والجهات المعنية لإنقاذ الزراعة في سوريا من الانهيار.
ومع استعداد الحكومة السورية لتسويق محصول القمح من الفلاحين، تشير تقديرات مؤسسة الحبوب الأولية إلى إمكانية تسويق 200 إلى 300 ألف طن فحسب، ويرى الفلاحون أنه كلما كان التسعير أفضل كانت الكميات المسوقة أفضل، لكن بالعموم تعاني البلاد من فجوة كبيرة في حاجاتها من القمح إذ يقدر احتياج سوريا من القمح سنوياً ما بين 3.5 مليون طن إلى 4 ملايين طن.
ووفقاً للاجتماع السنوي لموسم تسويق القمح لعام 2025 بمشاركة مختلف الجهات المعنية في البلاد، الذي عقد أخيراً في دمشق ويستهدف التحضير والاستعداد لشراء القمح المحلي، إذ طلب من مصرف سوريا المركزي، تأمين التمويل اللازم لتمويل شراء القمح لموسم 2025، من خلال قرض من طريق المصرف الزراعي التعاوني مبدئياً بقيمة 1.2 تريليون ليرة (126 مليون دولار)، منعاً لأي تأخير في تسديد أثمان الأقماح المشتراة، وفق وكالة الأنباء السورية.
انعكاس إيجابي سريع لرفع العقوبات على القمح
يشكل تراجع إنتاج القمح الكبير هذا الموسم تحدياً كبيراً أمام الحكومة السورية التي ستلجأ إلى تكثيف الاستيراد لتأمين حاجات خبز الشعب السوري، ولعل المساعدة التي قدمها العراق إلى سوريا شكلت طوق نجاة للشعب السوري، خصوصاً أن مخزون القمح أصبح محدوداً ولا يكفي، وأصبح لزاماً تعزيزه، مع الإشارة هنا إلى أن سوريا لم تتمكن من إبرام صفقة مناقصة القمح الدولية التي طرحتها في أبريل (نيسان) الماضي لاستيراد 100 ألف طن من قمح الطحين، في حين جرى الحديث عن وصول 6600 طن من روسيا إلى مرفأ طرطوس في الشهر نفسه، لكن مع رفع العقوبات سيبدو الاستيراد ممكناً وأكثر سلاسة وأقل كلفة، بخاصة لجهة إتاحة الحوالات المصرفية، وعدم الاضطرار للتحويل المصرفي من مكان لمكان آخر، الذي يرفع كلفة الاستيراد، إذ كانت كل 100 دولار يضاف إليها دولاران إلى خمسة دولارات.
ويرى المتخصص الزراعي مهند أصفر أن رفع العقوبات شكل حالاً من الانفراج أمام سوريا حتى تتمكن من تعزيز احتياطاتها من القمح وتعزيز مخزونها بما يضمن أمنها الغذائي، واصفاً قرار رفع العقوبات بأنه جاء في الوقت المناسب، إذ أصبح بإمكان سوريا شراء القمح بحرية وسهولة من كل الأسواق العالمية من دون كلفة إضافية ومرهقة. وقال لـ”اندبندنت عربية”، “لعل التأثير الأهم لرفع العقوبات سيكون مع تأمين مستلزمات الإنتاج للفلاحين من أسمدة وميكنة حديثة وري بالطرق الحديثة، والحصول على أسعار عادلة لمحصولهم” متوقعاً أن يلمس القطاع الزراعي حالاً من الانفراج خلال أشهر قليلة نتيجة رفع العقوبات، بخاصة أن هناك تحمساً للعودة للعمل من قبل الفلاحين بعد معاناة لسنوات طويلة.
وأشار إلى أن ظروف العمل ستختلف والأرباح ستكون مضمونة ولن يكون هناك ضياع لها في المصاريف الإضافية، مشيراً إلى ضرورة وضع سياسات زراعية تضمن الأمن الغذائي أولاً، وتؤمن تعزيز دور القطاع الزراعي في التصدير، مضيفاً “أعتقد أن رفع العقوبات مع توجه الحكومة نحو تطوير القطاع الزراعي بما فيه القمح سيوفر إمكانية نجاة القطاع ككل وإعادته إلى مساره الطبيعي خلال وقت ليس بالطويل”.
ورأى متخصصون أن رفع العقوبات سيساعد سوريا في المرحلة القريبة المقبلة في إمكانية تقديم دول صديقة مساعدات لها من القمح مما يخفف من فجوة النقص، مع الإشارة هنا إلى أن سوريا بحسب اقتصاديين، تواجه فاتورة استيراد قمح قد تصل بحسب متابعين إلى مليار دولار لتلبية حاجاتها لمدة عام.
4 ملايين طن من القمح
ووفقاً لوزارة الزراعة السورية فإن المساحة المخططة لمحصول القمح هذا الموسم (2024 – 2025) بلغت 1.4 مليون هكتار (الهكتار يساوي 10000 متر مربع”، وجرى تسجيل خروج معظم المساحات من تقديرات الإنتاج هذا العام نتيجة شح الأمطار، إذ جرى تضمين مساحات واسعة للرعي.
ونتيجة الظروف المتعددة الأمنية والاقتصادية والمناخية، اضطر عدد من مزارعي محصول القمح في سوريا إلى هجرة مهنتهم خلال السنوات الماضية، مدفوعين بعوامل عدة، منها ما يتعلق بكلفة المحصول التي لم تعد تتناسب خلال الأعوام الماضية مع أسعار المبيع التي كانت تحددها مختلف الجهات المسيطرة، إضافة إلى عوامل بيئية تتمثل بنشوب حرائق على مساحات واسعة تلتهم محصولهم، مما يجبرهم على التوجه نحو زراعات أقل كلفة مثل الكمون واليانسون.
وكان مدير مديرية الاقتصاد والتخطيط الزراعي في وزارة الزراعة السورية قال في تصريحات صحافية، إن حاجة بلاده من القمح تقدر بـ4 ملايين طن (بحسب عدد السكان الموجودين في سوريا، الذي يقدر بـــ22.5 مليون نسمة عام 2020)، ومن ثم هناك نقص في تأمين حاجات السكان بما يقارب 80 في المئة، مع الإشارة هنا إلى أن هناك تفاوتاً في تقدير حاجات البلاد من القمح، فالنظام السابق كان يقدرها بـ3.1 مليون طن منها 2.2 مليون طن للخبز، وكان يقصد بتقديراته المناطق الخاضعة لسيطرته.
التعاون الزراعي مع الخليج
المتخصص الزراعي المهند صالح أكد في تصريح لـ”اندبندنت عربية” أن إنتاج القمح تراجع إلى مستويات مقلقة، إذ ستلجأ سوريا إلى استيراد القسم الأكبر من حاجتها لكن مع رفع العقوبات يرى أن الأمر سينعكس على المدى القريب في تيسير عمليات الاستيراد وتحريرها من الضغوط التي كانت تسببها العقوبات، في حين أنها على المستوى البعيد ستساعد في تطوير السياسات الزراعية وتأمين رفد القطاع الزراعي بالمستلزمات والتكنولوجيا وغيرها مما يجعل الزراعة أعلى إنتاجية وأقل استهلاكاً للمياه. وأشار إلى أن الاستمرار بالسياسات الزراعية الحالية سيؤدي إلى اتساع فجوة الأمن الغذائي، بخاصة إذا ما استمرت مواسم الجفاف وسط تراجع الأمطار، مشجعاً على التنويع في المحاصيل الزراعية بما يعزز الأمن الغذائي، وتقليل الاعتماد على القمح كمحصول وحيد عبر تشجيع زراعة محاصيل استراتيجية أخرى مثل الشعير والذرة لتقليل الضغط على المياه أولاً، والابتعاد عن زراعة القمح في المناطق المستهلكة للمياه، والعمل على تطوير محاصيل مقاومة للجفاف والتغير المناخي، خصوصاً مع وجود تجربة مهمة في تطوير الأصناف المقاومة للجفاف.
صالح شدد على ضرورة العمل فوراً على إصلاح السياسات الزراعية في سوريا، وإعادة النظر في قوانين الملكية الزراعية وتشجيع الشراكة بين القطاع الخاص والعام وخلق بؤر استثمار زراعي واسعة، بخاصة أن هناك أراضي واسعة قابلة للزراعة في البلاد، وهذه تعد ميزة يمكن استثمارها بقيم مضافة عالية جداً، وفعل ذلك يتطلب اللجوء إلى أساليب الزراعة الحديثة والزراعة الذكية وتوفير سلاسل إنتاج تعتمد على المحاصيل التي تحتاج إلى مياه أقل، بما في ذلك التوجه نحو إنتاج الأعلاف محلياً وأيضاً تطوير إنتاج الأسمدة لتقليل الاعتماد على الاستيراد واستخدام البذور المحسنة، وتوجيه أموال الاستيراد إلى التطوير وتشجع المهندسين والفنيين والعمال الزراعيين للخوض في مشاريع زراعية على مستوى المناطق بصورة مترافقة، مع رفع الحكومة مستوى الخدمات في المناطق الريفية.
ودعا المتحدث إلى التعاون مع دول الخليج العربي عبر تنفيذ مشاريع زراعية كبرى بالاعتماد على التكنولوجيا المتقدمة مما يمكن معه تأمين حلقات متعددة ومهمة من القيم المضافة للقطاع الزراعي في سوريا، وتوفير فرص العمل وزيادة الإنتاج، الذي يخصص جزء منه لتأمين حاجة الأسواق الخليجية، مشيراً إلى تطوير زراعة القمح في البلاد وتأمين أساليب الري الحديث والاعتماد على الطاقات المتجددة. ولفت إلى أهمية العمل على الاستفادة من اقتصاد الاستدامة الذي تتبعه دول الخليج في ضوء قابليته للتطبيق بصورة ناجحة جداً في سوريا، بالنظر إلى الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها من التربة الخصبة وتنوع البيئات التي تضمن جودة المحاصيل الزراعية بجميع أشكالها بنوعية عالية وطيبة المذاق، بحسب وصفه.
وعاود تأكيد نهج الزراعة العضوية التي يمكن أن تخلق ميزات مهمة للزراعات المنتجة في سوريا، وتوفر لها أسواقاً واسعة ومهمة محققة إيرادات مهمة للبلاد من القطع الأجنبي، مؤكداً في حديثه أن تحقيق كل ذلك يجب أن يسير على التوازي مع سياسات مائية تقلل من الهدر وإعادة تأهيل السدود واللجوء إلى الطاقات البديلة والانتقال إلى الزراعات العمودية والهوائية، إلى جانب تبني سياسة النشر الأفقي والواسع للمشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر في قطاع الزراعة والمهن المعتمدة عليه، وعلى التوازي إعطاء مزايا لقطاع الصناعات الغذائية الذي يشكل إحدى دعائم الأمن الغذائي وإحدى قنوات التصدير المهمة بالنسبة إلى سوريا نظراً إلى التنافسية العالية التي تتمتع بها.
رفع أسعار الخبز
لا يزال الخبز في سوريا مدعوماً على رغم رفع سعر ربطة الخبز مع قدوم الإدارة الجديدة، وطرأت تغييرات على وزن ربطة الخبز، فوزن الربطة الواحدة صار 1200 غرام بدلاً من 1100، بعدد 12 رغيفاً بدلاً من سبعة، ويجري الحديث مجدداً عن التوجه لتحرير سعر الخبز مقابل اعتماد سياسات دعم تستهدف المستحقين، في وقت يرى فيه باحثون اقتصاديون أن اللجوء إلى رفع سعر الخبز من دون زيادة الرواتب والأجور التي يبلغ متوسطها حالياً 350 ألف ليرة (35 دولاراً)، وإنشاء شبكات حماية اجتماعية قد يكون لها آثار عميقة على معيشة السكان الذين يعانون في 90 في المئة منهم من الفقر وانعدام الأمن الغذائي.
ويبدو أن ارتفاع فاتورة استيراد القمح ستدفع الحكومة السورية إلى إعادة النظر بسياسة دعم الخبز وجعلها أكثر تركيزاً، خصوصاً مع تطبيق اقتصاد السوق الحرة التنافسي.
تراجع العاملين في القطاع الزراعي
في وقت شهدت زراعة القمح في سوريا هجر كثيرين من الفلاحين زراعة القمح إلى زراعات أخرى أقل مخاطرة، تظهر بيانات البنك الدولي أن نسبة العاملين بالزراعة في البلاد بلغت عام 2022 نحو 15.5 في المئة، من مجمل نسبة العاملين في كل المجالات، بينما كانت عام 2000 تصل إلى 32.89 في المئة.
وبحسب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “فاو”، بلغ محصول القمح في سوريا لعام 2022 نحو مليون طن، بانخفاض 75 في المئة عن مستويات ما قبل 2011، في حين أن الشعير بات “شبه منعدم”. وأشارت “فاو” إلى أنه من المتوقع أن تكون حاجة استيراد القمح للعام التسويقي 2024-2025 أعلى بقليل من متوسط السنوات الخمس، نظراً إلى انخفاض إنتاج القمح لعام 2024، ومع ذلك فإن حال عدم اليقين الاقتصادي وتقلبات العملة الوطنية والاضطرابات الداخلية، تشكل تحديات أمام البلاد لتأمين واردات القمح عام 2025.
وبلغ متوسط إنتاج المحصول منذ 1990 إلى 2010 أكثر من 4 ملايين طن، وسجلت سوريا في 2006 أعلى رقم في إنتاجه بمقدار 4.9 مليون طن، وفق إحصاءات رسمية، كان متوسط الاستهلاك المحلي 2.5 مليون طن، مما أتاح فائضاً للتصدير يراوح ما بين 1.2 و1.5 مليون طن، وهي الأرقام التي لم نشهدها في محصول القمح منذ ذلك الوقت.
وبينت “فاو” في تقريرها أن زراعة الحبوب الشتوية لعام 2025 تأخرت بسبب تأخر هطول الأمطار في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وتعطلت بشدة بسبب الصراعات المستمرة ونزوح السكان والانتقال الحكومي في أواخر 2024 والجفاف في بداية الموسم بين أكتوبر (تشرين الأول) 2024 ويناير (كانون الثاني) الماضي.
مقاصد الاستيراد
في وقت أبدى فيه العراق استعداده لتصدير القمح إلى سوريا، سبق عليه إعلان أوكرانيا استعدادها لتزويد دمشق بالقمح، بعد تعليق روسيا إمدادات القمح.
وقال وزير الزراعة الأوكراني في وقت سابق، إن أوكرانيا وهي منتج ومصدر عالمي للحبوب والبذور الزيتية، مستعدة لتوريد الغذاء إلى دمشق.
وفي فبراير (شباط) الماضي، قالت وزارة الخارجية البريطانية، إنها خصصت 3 ملايين جنيه استرليني (4.06 مليون دولار) لتمويل إمدادات القمح الأوكراني إلى سوريا، وذلك ضمن تنفيذ الالتزامات التي قطعها رئيس الوزراء كير ستارمر، للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لتسليم الحبوب الأوكرانية وغيرها من المنتجات الغذائية إلى سوريا.
وخلال السنوات الماضية، لجأت حكومة نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد المخلوع إلى تأمين القمح من روسيا عبر اتفاقات ثنائية غالباً ما أخذت صفة السرية، أو عبر مناقصات تطرحها “المؤسسة العامة للحبوب” في سوريا لشراء القمح، وبحسب المعلومات كانت فاتورة استيراد القمح نحو 550 مليون دولار، مع الإشارة إلى لجوء حكومة النظام المخلوع أحياناً لشراء القمح من المناطق التي تسيطر عليها قوات “قسد” إذ كانت تدفع ثمنها بالليرة السورية.
اندبندنت عربية
——————————————
أزمة المياه في دمشق… معاناة تتفاقم في كل صيف/ نور ملحم
27 مايو 2025
يُواجه السوريون في دمشق واقع العطش يومياً، مع تفاقم أزمة المياه التي تتصاعد صيفاً بسبب انقطاع الكهرباء، ونقص الوقود، وتدهور البنية التحتية جراء عمليات التخريب خلال سنوات الحرب. ورغم تطمينات الحكومة، يبقى الواقع قائماً، إذ ينتظر ملايين السكان لساعات من أجل بضعة لترات لا تكفي يوماً واحداً، في معاناة تتجاوز الأرقام والإجراءات الرسمية.
تقف السورية سعاد البوظة، مثل غيرها من آلاف الأمهات في دمشق، إلى جانب دلوها الفارغ، مترقبةً لحظة تدفق المياه عبر الأنابيب الصدئة في الزقاق. أمامها، يصطف أطفالها الثلاثة بجانب الجيران، يحملون زجاجات بلاستيكية، أوعية طبخ، وأي شيء يمكن أن يحفظ لهم الماء، بانتظار تدفق المياه التي لم تأتِ منذ أكثر من أسبوع. تتساءل بصمت: “هل ستصلنا هذه الليلة، أم أن علينا الانتظار يوماً آخر؟”.
ويؤكد مدير المؤسسة العامة لمياه الشرب في محافظة دمشق وريفها، أحمد درويش، أن أزمة المياه هذا العام غير مسبوقة نتيجة الانخفاض الحاد في معدلات الهطولات المطرية، التي لم تتجاوز 33%، ما أدى إلى شحّ الموارد المائية وارتفاع الطلب عليها، وأوضح أن المؤسسة تعمل بكل طاقتها لضمان استمرار تزويد المياه لنحو 1.2 مليون مشترك يعتمدون على الشبكة العامة، رغم التحديات الكبيرة التي فرضتها الظروف المناخية والجغرافية.
ويشير درويش إلى أن “دمشق وريفها يعتمدان على مصادر مائية متعدّدة، أبرزها نبع الفيجة، زنبع بردى، وآبار جديدة يابوس ووادي مروان، إلى جانب 1800 بئر منتشرة في العاصمة ومحيطها، إذ تحتاج المنطقة يومياً إلى مليون متر مكعب من المياه لضمان تلبية احتياجات السكان. متوسط الاحتياج اليومي لمدينة دمشق وريفها، يصل إلى مليون متر مكعب، ويجري تزويدها حالياً بنحو 560 ألف متر مكعب، وهو رقم يزداد صيفاً نتيجة ارتفاع الطلب، وينخفض في فصل الشتاء مع تراجع استهلاك المياه. أما بالنسبة لباقي مناطق ريف دمشق، فمتوسط الاستهلاك اليومي يبلغ نحو 500 ألف متر مكعب، ما يعكس حجم الضغط الكبير على الموارد المائية المتاحة”.
ويشدد درويش على أن المؤسسة وضعت برنامج تقنين صارم منذ بداية الشهر الحالي، وذلك لمنع استنزاف الينابيع والآبار الاحتياطية، وضمان توزيع المياه على نحوٍ أكثر كفاءة، خاصة مع عدم فيضان نبع الفيجة هذا العام، كما تعمل المؤسسة على إعادة توزيع المياه وفق التضاريس والكثافة السكانية لكل منطقة، إضافة إلى إدخال عدد من الآبار الاحتياطية في الخدمة لتعويض النقص، بالتزامن مع تنسيق الجهود مع مؤسسة الكهرباء لضمان قدرة المواطنين على استجرار المياه إلى خزاناتهم بفعالية.
ويضيف: “المؤسسة تتعاون مع الصليب الأحمر وجهات دولية أخرى لإعادة ضخ المياه وتأهيل المناطق البعيدة في ريف دمشق، بهدف إيجاد حلول دائمة ومستدامة لمشكلة شح المياه. بالإضافة إلى ذلك، تقوم فرق الصيانة بمعالجة أعطال المضخات المائية، إذ تحتاج 1500 مضخة إلى الصيانة العاجلة لضمان تشغيلها بكفاءة تامة من أصل 4000 مضخة. تعتزم المؤسسة تعديل برنامج تزويد المياه خلال الفترة القادمة، بما يتماشى مع الاحتياجات الفعلية، مشدداً على ضرورة ترشيد الاستهلاك من المواطنين للحد من الضغط المتزايد على الشبكة، وسيبدأ قريباً تطبيق غرامات مالية بحق المخالفين الذين يستخدمون المياه لأغراض غير ضرورية، وذلك ضمن تفعيل قانون الضابطة المائية، إلى جانب مراجعة قانون الجباية وتحديث أسعار المياه بما يتناسب مع الظروف الراهنة”.
ويعد نبع عين الفيجة المصدر الأساسي لإمدادات المياه في العاصمة دمشق وأجزاء من الغوطة الشرقية، إذ كان يوفر 700 ألف متر مكعب يومياً، إضافة إلى 120 ألف متر مكعب يجري استخراجها من 200 بئر منتشرة في المدينة ومحيطها، وتشير الأرقام الرسمية إلى أن هذه المصادر تغطي في المواسم الماطرة 90% من الاحتياج الفعلي للعاصمة، ما يجعلها ركيزة أساسية في استقرار الإمدادات المائية.
أما مناطق ريف دمشق، فتعتمد ثانوياً على مياه نبع عين الفيجة بعد تغطية احتياجات العاصمة، إذ يجري تزويد بعض أحياء الريف بحوالى 77 ألف متر مكعب يومياً، بينما يبقى الاعتماد الأكبر على مياه الآبار. وتشير البيانات إلى وجود 84 بئراً في الغوطة الشرقية، وأكثر من 55 بئراً في مناطق جنوب وغرب العاصمة، إلّا أن التوزيع غير المتوازن أدى إلى شح شديد في المياه في العديد من البلدات مثل جديدة عرطوز، والمعضمية، وداريا، وصحنايا، وأشرفية صحنايا، إذ يجري تزويدها بالمياه ليوم واحد في الأسبوع فحسب، ويتراجع الإمداد خلال الصيف ليصل إلى يوم واحد كل أسبوعَين.
أصبح مشهد انتظار وصول المياه متكرراً في كثير من المناطق، خاصةً جديدة عرطوز، والمعضمية، وداريا، وصحنايا، وأشرفية صحنايا، إذ تحصل هذه المناطق على المياه ليوم واحد في الأسبوع فحسب، ويتراجع إلى يوم واحد كل أسبوعَين خلال الصيف.
وتعد أزمة المياه في سورية من الأزمات المزمنة التي أرهقت السكان لعقود، إلّا أنها دخلت خلال السنوات الأخيرة مرحلة أكثر تعقيداً بفعل التغيرات المناخية المتسارعة وموجات الجفاف المتكررة، التي قلّصت من وفرة الموارد المائية، ولم يواكب هذ أي جهد فعّال من الجهات المعنية لضبط الاستهلاك أو وضع خطط وطنية للترشيد، رغم تعالي الأصوات بإيجاد حلول لتأمين الاحتياجات الكافية من المياه.
——————————
مناديل تلوّح بين فلسطين والشام.. مصير الجولان وقضية فلسطين؟/ صقر أبو فخر
26 مايو 2025
في المؤتمر الأول للاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين في بيروت (6/9/1972)، صاغ أحد الحاضرين شعاراً للاتحاد: “بالدم نكتب لفلسطين”، فعلّق الشاعر معين بسيسو قائلاً: “لا يستطيعون الكتابة بالحبر فيريدون الكتابة بالدم”. ومهما يكن الأمر، فقد مرّ أكثر من نصف قرن على ذلك المؤتمر وعلى شعاره الذي عاش طويلاً، وها نحن نعود، في هذه الحقبة الهادرة، إلى التفكّر والتنهّد، لأن ما أنزلته السياسات الدولية والإقليمية بنا أفقدنا القدرة على النظر العقلي والواقعية واستخلاص النتائج من الوقائع الصحيحة. أَليس ما حدث في غزّة، وما زال يحدث، وما يجري في سورية، مدعاة إلى الانغمار بالحرقة الكاوية كشعور أنطولوجي يصدر عن كينونتنا المفكرة والمتألمة، ومن عقولنا التي لن تحيد عن الكفاح في سبيل الحرية والعدالة والحق، ولن تنصرف قط إلى تمجيد الاستبداد والعنصرية والفاشية الدينية؟
لا شيء عديم الجدوى كالواقع المنتصب أمامنا اليوم في بلاد الشام. ولا شيء يثير الهم والغم كالذي يتداعى في المنطقة العربية الممتدة بين بيروت وغزّة ودمشق. ولا شيء يجرّنا من أنوفنا إلى التيه غير الاحترابات الأهلية المندلعة بهيئاتٍ شتّى في أنحاء الشام، ففي فلسطين، يبدو أن الإعتام الشعوري بدأ يغمر كثيراً جدّاً من الناس الساكنين خارج قطاع غزّة، ويجعلهم ساكتين، بلا حول، عن الأهوال النازلة بالفلسطينيين هناك. وصرنا لا نسمع غير عبارات باردة كأدعية الدهماء بعد نشرات الأخبار المريعة مثل “يا حرام” و”يا لطيف” و”ارفع البلاء عن أهل غزة” و”الإسرائيليون مجرمون” (يا سلام! الآن عرفتم؟)، ثم ينصرف كل واحد إلى رياضته المفضّلة، وإلى المقهى المفضّل، وإلى نارجيلته المحبّبة، وإلى محطة التلفزة الأثيرة لديه، وإلى المسلسل الدرامي الذي يتابعه بشغف.
هكذا بات قطاع غزّة مستفرَداً كغزال وحيد يطارده قطيع من الذئاب الجائعة. وهكذا استفردت الضباع الإسرائيلية الهائجة والمقروحة بأهل غزّة بعدما صمتت المدافع في لبنان، وأُزيحت إيران عن بلاد الشام، وسكتت القبائل العربية ودولها عن نهر الدماء الجاري بين بيت لاهيا ورفح. أَما كان من المجدي والحال هذه، منذ سنة على الأقل، إحالة أمور التفاوض إلى منظمّة التحرير الفلسطينية؟ ألم يكن من الأفضل قبول ورقة ستيف ويتكوف في 4/3/2025 طوعاً بدلاً من قبولها إرغاماً؟ سؤالان محيّران وواقعيان جدّاً في الوقت نفسه.
فلسطين هي درّة بلاد الشام، بل هي قرّة عين الشام. هكذا كانت دائماً. ولا أعلم، علم اليقين، هل ستبقى على هذا النحو بعدما اكتشفنا، مبكّراً أن “محور المقاومة” لم يؤسَّس لتحرير فلسطين أو إنجادها، بل لحماية إيران ودولتها القومية أولاً وأخيراً. وأن إنشاء علاقات متينة، استخبارية وسياسية، مع الدولة الإسرائيلية المحاربة للفلسطينيين، أكثر سلاسة لدى الجماعات الإسلامية المتطرّفة من المنظمات القومية العتيقة. وهذا درس بليغ لمن تأخر وعيه في اكتشاف أن ما كان غير قابل للتصديق قبل سنوات قليلة صار مسألة بدهية.
حسناً، ماذا تريد إسرائيل من الفلسطينيين في نهاية حربها الهمجية الجارية؟ وما الغايات التي تطمح إلى الوصول إليها في آخر المطاف؟ سنكرّر الكلام في هذا المقام مئة مرّة: إنها تريد استعادة أسراها، وإن كانت هذه القضية ليست جوهرية بالمعنى الأمني، وإن تكن ذات أهمية بالمعنى الشعبي لأنها قضية رأي عام. وهي تريد القضاء على حركة حماس وقتل من تبقّوا من قادتها ونزع سلاح أنصارها، وإبعاد القادة وعائلاتهم إلى خارج فلسطين، ووضع القطاع تحت السيطرة العسكرية المباشرة لها، وتهجير ما أمكن من سكان قطاع غزّة في مرحلة لاحقة، وتحويله إلى مقبرة. وسيتبع ذلك القضاء على مجموعات المقاومة في الضفة الغربية، الضعيفة أصلاً والمطاردة فصلاً، والتسبّب في انهيار مؤسّسات السلطة الفلسطينية وإعاقة أي دور لمنظمة التحرير، وإنهاء الالتزام الأممي بقضية اللاجئين (اعتبار “أونروا” منظمة إرهابية). وفي هذا الميدان، ليُرِح الداعون إلى حل السلطة الفلسطينية ركائبهم من وعثاء كلامهم المهتلك؛ فإسرائيل هي التي تريد حل السلطة الفلسطينية وفكّ مؤسّساتها وأربطتها الدستورية.
لقد فضحت المتخثرات الإعلامية والسياسية والعسكرية التي هيمنت على حواسنا طوال عشرين شهراً نفسها، وبرهنت أنها لا تفقه شيئاً عن العدو الإسرائيلي، وجاءت تحليلاتها التلفزية الساذجة معاكسة تماماً للواقع الحارق. وتبيّن لنا، نحن السذّج بدورنا، أن المقولة الشائعة عن عدم قدرة إسرائيل على خوض حرب شاملة، وعلى أكثر من جبهة، أو استنكافها الدائم عن خوض حرب طويلة الأجل، قد أُلقيت في حاوية النفايات. تلك المقولة كانت صالحة لفهم حدود القدرة العسكرية الإسرائيلية قبل 30 سنة على الأقل. ومنذ أكثر من 30 سنة، أي بعد توقيع اتفاقي أوسلو ووادي عربة، جرى التوصل إلى خطة جديدة وضعها رئيس الأركان إيهود باراك. لتحويل الجيش الإسرائيلي من جيش كبير العدد (400 ألف عسكري) إلى “جيش صغير وذكي”. وتستند الخطّة على تطوير سلاح الجو تطويراً انقلابياً، وتزويده بأحدث الطائرات الهجومية والاستطلاعية، وتفعيل الاستخبارات العسكرية (أمان) والأجهزة الأمنية الأخرى كالموساد والشاباك، والاعتماد بشكل باهر على منظومات السايبر والذكاء الصناعي. وأدى ذلك إلى تقليص عديد الاحتياط في الجيش، وزيادة الاعتماد على الجيش النظامي قليل العدد. وهذا التحديث مكّن إسرائيل من خوض حرب طويلة الأمد من غير استدعاء إلا اثنين في المئة من عدد السكان، فيما كان الجيش الإسرائيلي في الماضي يعتمد على جنود الاحتياط في حروبه. وكانت تلك الحروب قصيرة الأجل لأن الاقتصاد الإسرائيلي ما كان يحتمل الاستغناء عن جنود الاحتياط فترة طويلة. والآن انقلبت الصورة أيما انقلاب (راجع تقرير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات المنشور في “العربي الجديد”، 9/4/2025، بعنوان “أهداف إسرائيل من استئناف حرب الإبادة). ومع ذلك، وطوال هذه الحرب التي ستُنهي السنتين من عمرها قريباً، لم يتفق الفلسطينيون، ومعهم اللبنانيون، على أي شيء تقريباً، وهذه معضلة تاريخية لا تحتاج أي برهان جديد، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة حادثة أقرب إلى النكتة، وهي أن إيطاليا الكاثوليكية عندما احتلت إثيوبيا الأرثوذكسية “دبكت” بين الكاثوليك والأرثوذكس في قرية البصّة الفلسطينية التي يكاد المرء لا يجدها على خريطة فلسطين.
….
سورية هي قلب بلاد الشام، ودمشق شريانها ورئتها ودماغها وجهازها العصبي. وما نخشاه في هذه الأيام السود تفاقم ديناميات التفكك والفوضى التي تتصاعد في سورية اليوم على أسس طائفية، الأمر الذي يُنذر بشرذمة الجماعة الوطنية وفرط الدولة التي نشأت عقب الاستقلال في سنة 1943، ثم بعد الجلاء الفرنسي في 1946. لقد غمرتنا بواعث السرور وامتلأت أنفسنا بالحبور غداة سقوط النظام السوري القديم، لكن صوابنا سرعان ما طاش حين منح المتغلب ذو الشوكة لنفسه تقرير ما الصواب وما الغلط، وتفريق الحق عن الباطل، ورحنا نتساءل: كيف سيؤسس المتغلب دولته الجديدة إذا كان معظم الناس يترددون في مناصرة السلطة الجديدة، فالعلويون والدروز والأكراد مكلومون وخائفون، والمسيحيون والإسماعيليون واجفون ينتظرون، والدماشقة والحلبيون صابرون صامتون ولا سيما أن التيار الغالب في المدينتين هو تيار التصوّف والإيمان المعتدل، وهو على نقيض كامل مع السلفية، خصوصاً السلفية الجهادية. وثمة ريبة وشكوك في تصريحات الرئيس ووزير خارجيته عن أن سورية لن تكون دولة مقلقة لجيرانها، بما في ذلك إسرائيل، علاوة على الأخبار المتواترة عن الاجتماعات العسكرية والاستخبارية في إسرائيل وباكو عاصمة أذربيجان تحت الرعاية التركية والمباركة الأميركية. وكذلك التركيز المتمادي على اتفاق فك الاشتباك بين الجيشين السوري والإسرائيلي في سنة 1974، مع تناسي قراري مجلس الأمن 242 و338 واتفاق الهدنة في 1949؛ ففك الاشتباك مسألة تقنية عسكرية خالصة، فيما القراران المذكوران أعلاه مسألة سياسية. وبهذا المعنى، لا ذكر أو إشارة إلى مصير الجولان. فهل تخلت الدولة السورية الجديدة عنه لإسرائيل؟
إذا كان المأخذ على النظام السوري القديم عدم قتاله إسرائيل لتحرير أرضه أو للدفاع عن بلاده، فإن الموقف الصحيح، اليوم وفي كل يوم، الإصرار على العداء لإسرائيل وقتالها عند التمكّن، لا التعاون معها. لقد انحطّت بعض الجماعات السورية إلى درك ما عادت تخجل فيه من تهنئة نتنياهو على اغتياله أمين عام حزب الله حسن نصر الله. ومَن وقف ضد الاستبداد العربي لا يجوز له أن يُغرم بإسرائيل الفاشية، ومَن يختزن الكره لإيران ليس عليه أن يحبّ إسرائيل. إنه العار، فالأوساخ الجديدة خمّت حتى طمّت، وبات كثيرون يسوّغون ويستسيغون ويتفاخرون بالعمل مخبرين عند الإسرائيليين والروس للحصول على معلومات عن الجنود الإسرائيليين المفقودين في سورية منذ معركة السلطان يعقوب أو بيادر العدس في 11/6/1982، وعن جثة الجاسوس التافه إيلي كوهين، ويجمعون أشياءه لتقديمها إلى الاستخبارات الإسرائيلية.
الشرعية الموقتة للحكم السوري الجديد، من الحكّام العرب والأوروبيين، ومن الحاكم الأميركي أخيراً، لن تدوم طويلاً إن لم ينلها من شعبه، وإن لم يتجه إلى بناء دولة جديدة على أسس المواطَنَة المتساوية والحرية والديمقراطية، والتمسك بالهوية العربية التاريخية لسورية، والاستمساك بقضية استعادة الجولان وتحرير ما أمكن من فلسطين كقضية مركزية لسورية ولأمنها القومي. أما رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن سورية، على أهميتها القصوى والحيوية، فلن تنفع إن لم ينتفع الحكام الجدد من التجربة التاريخية لبناء الدولة العصرية ذات الهوية العربية التي هي هوية الأغلبية الكاسحة من السكان.
العربي الجديد
—————————-
الفضاء السّكني في سوريا.. مقاربة في الهوية الثقافية والذاكرة المكانية/ طالب الدغيم
2025.05.26
يشكل التراث العمراني في سوريا، أحد أهم التعبيرات المادية عن الهوية الثقافية والتاريخية للمجتمع السوري. فالبيت التقليدي لم يكن مجرد مأوى، بل هو نظام اجتماعي واقتصادي متكامل، يجمع بين الخصوصية والانفتاح الداخلي، ويعكس القيم السائدة والعادات المحلية. وتُظهر العناصر المعمارية؛ كالفناء الداخلي، واستخدام الماء والنبات، والتنظيم المكاني، اِنسجاماً دقيقاً بين الاحتياجات البيئية والاجتماعية، ووعياً عميقاً بجماليات العيش المشترك.
+A
حجم الخط
-A
يشكل التراث العمراني في سوريا، أحد أهم التعبيرات المادية عن الهوية الثقافية والتاريخية للمجتمع السوري. فالبيت التقليدي لم يكن مجرد مأوى، بل هو نظام اجتماعي واقتصادي متكامل، يجمع بين الخصوصية والانفتاح الداخلي، ويعكس القيم السائدة والعادات المحلية. وتُظهر العناصر المعمارية؛ كالفناء الداخلي، واستخدام الماء والنبات، والتنظيم المكاني، اِنسجاماً دقيقاً بين الاحتياجات البيئية والاجتماعية، ووعياً عميقاً بجماليات العيش المشترك.
ورغم تعدد الأنماط العمرانية بين مناطق سوريا (دمشق، حلب، الساحل، البادية)، إلا أن هناك سمات موحدة أبرزها: مركزية الفناء، التكامل بين الوظائف المنزلية، والارتباط بالبيئة المحيطة. ويمنح هذا التنوع مع الوحدة طابعًا خاصًا للعمران السوري التقليدي، يجعله مرآة للهوية الجمعية وذاكرة المكان. وتطوّر التخطيط العمراني في سوريا عبر مراحل تاريخية، بدءاً من العصور الإسلامية التي أرست نموذج المدينة ذات الشوارع العضوية، والأحياء المتماسكة، والمراكز الدينية والخدمية المتداخلة. ومن ثم في العهد العثماني، حين استُحدثت منشآت جديدة (كالتكايا والخانات) ضمن نسيج المدن القائمة من دون قطع مع التراث السابق.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأت التأثيرات الغربية تظهر في شكل الشوارع المنتظمة خارج الأسوار، وتزايد استخدام مواد البناء الحديثة. وتعزز هذا الاتجاه خلال فترة الانتداب الفرنسي من خلال التخطيط الشبكي، وإنشاء أحياء ذات طابع أوروبي. لكن رغم هذا التحول، بقيت مراكز المدن القديمة حية وفاعلة حتى منتصف القرن العشرين، مما أدى إلى تداخل واضح بين القديم والحديث، وصراع رمزي بين الحداثة والهوية الأصلية.
تنوع الأنماط السَّكنية بين المناطق السّورية
تُظهر العمارة السكنية في سوريا تنوعاً تاريخياً غنياً، ومتعدد المستويات، يعكس التباين الجغرافي والمناخي والثقافي بين المناطق السورية المختلفة، ويُجسد في الوقت ذاته وحدة ثقافية كامنة في وظائف المسكن التقليدي وفضائه الاجتماعي. ويتمثل هذا التنوع في مجموعة من النماذج المعمارية التي تطورت محلياً، لتلبّي حاجات السكان المادية والرمزية، ضمن شروط بيئية ومجتمعية خاصة. وتتجلى في الأنماط الآتية:
البيت الدمشقي، وهو يتّسم بانغلاقه على الخارج وانفتاحه الداخلي حول صحن مركزي مزروع ومحاط بالغرف، وتُزينه نافورة (بحرة) تُلطف الجو وتعزز الخصوصية. ويقسّم البيت إلى جناحين: استقبال (السلاملك) ومعيشة عائلية (الحرملك)، وتُزين الأسقف بزخارف “العجمي”، ما يعكس الذوق الفني والهوية الثقافية الدمشقية.
البيت الحلبي، وهو يحافظ على تنظيم الفناء المركزي، ويُبنى بالحجر الكلسي الأبيض بأسلوب قَصَري في أوساط الميسورين. يضم إيوانًا شماليًا، وبحرة هندسية، وغرفًا مرتبة وفق وظائف دقيقة. ويتميّز باستخدام زخارف غنية وأسقف خشبية مزخرفة، ويعكس توازنًا بين الفخامة والخصوصية.
البيوت القبابية الطينية في البادية والجزيرة الفراتية، تُبنى من الطوب المخلوط بالتبن من دون دعامات خشبية، ما يجعلها منخفضة الكلفة وملائمة للمناخ الصحراوي. توفّر عزلاً حراريًا طبيعيًا، وتُشيّد غالبًا بتعاون مجتمعي. رغم تراجع استخدامها، بدأت جهود لإحيائها ضمن مشاريع الاستدامة.
البيوت الساحلية، حيث كانت تُبنى بالحجر الكلسي أو الرملي، وتُغطى أسقفها بالقرميد الأحمر. وتتلاءم مع المناخ الرطب والزراعة، وتضم شرفات وأفنية خلفية. في القرى الجبلية، تُبنى بطابقين، وتتميز بتفاصيل بسيطة مستوحاة من العمارة الفينيقية والرومانية، في حين تراجعت في المدن لصالح الطرز الحديثة.
البيت الحوراني وجبل العرب، وتميز باستخدام البازلت الأسود وتسقيف القناطر من دون خشب، ويضم أجنحة متعددة منها “المضافة” لاستقبال الضيوف. ويعكس تماسكًا وظيفيًا وبنائيًا يجمع بين الحياة الزراعية والضيافة، ويعبر عن تقاليد راسخة في الاستقلالية والمتانة المعمارية.
التحولات السَكنية في المدن والأرياف السورية في القرن العشرين
شهدت سوريا في القرن العشرين تحولات عمرانية جذرية غيّرت طبيعة السكن والبنية الحضرية. فقد حلت الأبنية الخرسانية متعددة الطوابق محل المساكن التقليدية، وانتشر نمط الشقق السكنية العمودية كخيار رئيسي، مترافقًا مع استخدام مواد بناء صناعية وتخطيط شبكي للشوارع. وهذا التحول أضعف مفاهيم الخصوصية والعيش الجماعي التي ميزت العمارة التقليدية، مثل الفناء الداخلي والحياة الأسرية الممتدة. ومع ذلك، احتفظت المراكز التاريخية في دمشق وحلب وحمص بجزء من طابعها المعماري بوصفه ذاكرة مادية وهوية حضارية مجتمعية راسخة.
التمدين وتحوّلات السكن
بعد الاستقلال عام 1946، تسارع التمدين بفعل النزوح من الأرياف إلى المدن، مما أدى إلى توسع عمراني كبير، تزامن مع اعتماد الدولة على تخطيط حديث وشوارع عريضة وأحياء جديدة. في الخمسينيات والستينيات، برزت الأبنية الحديثة التي افتقرت غالبًا للانسجام البيئي والثقافي. وقد استُبدل البيت العربي بنمط الشقق، مما أضعف البنية الاجتماعية التقليدية. كما ظهرت أحياء الفيلات الراقية في دمشق وحلب، بتأثير غربي واضح في التصميم، ما زاد الفجوة مع العمارة المحلية. ورغم بعض المكاسب في البنية التحتية، فإن هذه التحولات أدت إلى تدمير أجزاء من النسيج العمراني التقليدي، وأسهمت في نمو الأحياء العشوائية حول المدن، مما أثّر سلبًا على الهوية المعمارية والاجتماعية الأصيلة.
العمارة مرآة للقيم الثقافية والاجتماعية
عكست العمارة التقليدية البنية القيمية للمجتمع السوري، حيث كان التصميم يحافظ على الخصوصية والتكافل العائلي. انغلاق المنازل نحو الخارج، وانفتاحها على فناء داخلي، يعكس ثقافة الصون والاحترام، ويعزز روابط الأسرة الممتدة. كما كرّست هذه البنية دور كبار السن ودعمت مفهوم العائلة كمركز اجتماعي. وأما الأحياء التقليدية، فقد صُممت كمجتمعات صغيرة متماسكة، عبر تقسيمات إلى “حارات” وأزقة ضيقة، تُوفّر الأمان والرقابة المجتمعية. كذلك راعت المنازل الفصل بين الجنسين من خلال تصميم داخلي واضح الوظائف. هذه القيم تراجعت تدريجياً مع التحولات العمرانية الحديثة.
السلوك الجمعي وتجلياته المعمارية
لم تلبِ العمارة التقليدية الاحتياجات المادية فقط، بل أسهمت في تأطير السلوك الاجتماعي. فوجود “المضافة” أو “المجلس” في البيوت الريفية والبدوية عكس ثقافة الكرم والتواصل المجتمعي. كما أسهم دمج عناصر الطبيعة داخل البيت؛كالنوافير والحدائق الداخلية، في تعزيز الراحة النفسية، ما سبق بكثير مفاهيم التصميم البيئي الحديثة. وبالتالي، لم تكن العمارة شكلاً جمالياً فقط، بل كانت جزءًا من نظام اجتماعي – ثقافي متكامل.
أثر المتغيرات السياسية على النظام العمراني السوري في أواخر القرن العشرين
قبل الثورة، تسارعت عمليات التمدين، وازداد الاعتماد على نمط السكن العمودي، ما أدى إلى تراجع البيت التقليدي. وقد شُهدت حملات تحديث عشوائية منذ السبعينيات، دمرت خلالها منازل تراثية وأُقيمت مبانٍ إسمنتية من دون مراعاة للهوية المعمارية. كما أسفرت سياسات النظام السوري البائد عن تغييرات ديمغرافية واسعة، نتج عنها أحزمة من البناء العشوائي حول المدن الكبرى، وخاصة على أطراف دمشق وحمص واللاذقية، وبحلول عام 2011، كانت نسب كبيرة من البناء في المدن، وتحديداً دمشق، خارج التخطيط الرسمي، وتفتقر إلى البنية التحتية والبعد الثقافي، مما يعكس انفصالًا متزايدًا بين العمران الحديث والهوية الاجتماعية والثقافية السورية الموروثة.
الثورة السورية وتأثيراتها على واقع العمارة السورية
شكلت الثورة السورية منذ عام 2011 تغيراً جذرياً في واقع العمارة السورية، فقد طال التدمير عدداً كبيراً من المواقع التاريخية نتيجة للعمليات العسكرية التي قامت بها قوات نظام الأسد، وتعمد تدمير الأحياء السكنية في المدن والأرياف، والمعارك المحتدمة بين قوات الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس مع الجيش السوري الوطني “الحرّ”، والقوى العسكرية المعارضة للنظام، وكذلك دور تنظيم داعش التخريبي، وهيمنة قوات سوريا الديموقراطية (قسد) على مدن وبلدات سورية واسعة في الشمال الشرقي (الجزيرة الفراتية)، فضلًا عن أعمال التخريب والنهب من أطراف عدة. وتُعدّ مدينة حلب القديمة المثال الأبرز على هذا الدمار، إذ أظهرت التقارير أن ما يزيد عن 70% من بنيتها المعمارية قد تعرّض للضرر، في حين دُمّرت مناطق بكاملها بنسبة قاربت الـ100% في بعض الأحياء، مثل أجزاء من الأسواق المسقوفة التاريخية والبيوت الدمشقية الطراز.
وشهدت مدينة حمص، ولا سيما أحياء بابا عمرو وباب سباع وحي الوعر، والحميدية وباب هود، والمدينة القديمة، دماراً واسعاً طمس معالمها القديمة، في حين تضررت مناطق أخرى في دمشق وريفها، مثل الحجر الأسود ومخيم اليرموك ودوما وداريا وحرستا وعربين والقابون وجوبر وغيرها، كذلك امتدت الأضرار إلى بلدات وقرى تاريخية مثل بصرى الشام، ومعرة النعمان، وكفرنبل، وخان السبل، وسراقب، وجرجناز وتل منس، والغدفة، وسنجار، وكفرنبودة ومورك، وعدد كبير من قرى ريف إدلب وحلب وحماة، خاصة تلك التي تحتوي على بيوت قبابية تقليدية من الحجر والطين.
وتجاوز الضرر الجانب المادي ليشمل البعد الإنساني والاجتماعي؛ فقد أدّى النزوح الجماعي لملايين السوريين إلى إخلاء أحياء تراثية بكاملها من سكانها، وفُقدت بذلك الذاكرة الحية التي ارتبطت بهذه الأماكن. كما تحوّلت العديد من البيوت القديمة إلى مبانٍ مهجورة ومعرّضة للانهيار، في وقت ظهرت فيه مستوطنات جديدة غالبًا في مواقع غير مؤهلة عمرانياً، بما في ذلك محيط الآثار كما حصل في مدينة تدمر. ولا ننسى السعي الإيراني في محاولة التغيير الديمغرافي، وشراء الملكيات العقارية في دمشق وحمص وحلب ودير الزور وغيرها، والتي كانت خطراً وجودياً حقيقياً على المجتمع والثقافة السورية، وغريبة عن ثقافة هذا الشعب الأصيل.
وبعد سقوط نظام الأسد، بدأت مبادرات رسمية أممية، وجهود عربية سعودية وقطرية، وتركية، وطروحات إستراتيجية للحكومة السورية الانتقالية لإعادة صيانة التراث المادي العمراني للأماكن التاريخية من أسواق ومكتبات وفنادق ومساجد، وبالتوازي، برزت جهود أهلية ومجتمعية تقودها شرائح من المثقفين والناشطين المعماريين، تهدف إلى ترميم بعض البيوت التقليدية وإعادة توظيفها بوصفها مراكز ثقافية، أو مطاعم، أو متاحف محلية، مع الحفاظ على طابعها المعماري الأصيل. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الأهالي العائدين إلى مدنهم وأحيائهم القديمة بعد سقوط النظام، أصرّوا على إعادة إعمار منازلهم القديمة وفقًا للنمط التراثي، في محاولة لإحياء هوية المكان ومواجهة محاولات محو الذاكرة الجمعية.
خلاصة القول
إن التراث العمراني السوري هو مرآة لهوية سورية حضارية ضاربة في جذور التاريخ، تجسّدت في البيوت والحارات والأسواق والمساجد والفضاء العام عبر أجيال متعاقبة. وإن ما أصابه خلال العقود الأخيرة من تهميش، ثم دمار ممنهج في سنوات الثورة السورية، شكل تهديداً لذاكرة المجتمع وهويته الثقافية. ولعل هذا الأمر تغير بعد سقوط نظام الأسد. وغدا اليوم الحفاظ على هذا التراث، وإعادة إحيائه هو مسؤولية وطنية وثقافية تتطلب إرادة سياسية، واستثماراً مؤسسياً، وتعاوناً مع الأمم المتحدة، والدول الصديقة لسوريا الجديدة، ولا بد من مشاركة مجتمعية واسعة تضمن نقله للأجيال القادمة بوصفه أحد مرتكزات الهوية الوطنية السورية الجامعة.
تلفزيون سوريا
———————————-
كيف هُزم السوريون وانتصر حافظ الأسد!/ شكري الريان
26.05.2025
عندما خرجنا إلى الشوارع، لم نكن فقط نريد وطناً لنا جميعاً، بل كنّا نريد، قبل هذا وأكثر منه، أن ننعتق… هذا ما عشته فعلاً خلال تلك الأيّام التي لا تُنسى، وما عاشه الجميع، ولكن، أين أصبحنا الآن؟!
أحد معارفي منذ فترة الطفولة، الذي ما زال يُقيم في الحيّ القديم الذي كان فيه منزل أهلي في دمشق، كتب على حسابه في “فيسبوك”، إثر بدء الاشتباكات في جرمانا وصحنايا، الضاحيتين القريبتين من دمشق، حيث تقطن أغلبية درزية، داعياً “سيادة العميد محمد الجاسم (اللقب الرسمي الجديد لأبو عمشة) إلى القيام بما يجب القيام به تجاه أولئك… الدروز!”، حرفياً هكذا ومن دون تورية، ومن دون حتى أن يستخدم، على الأقلّ، الوصف الذي درج بُعيد سقوط نظام الأسد، وبدء عهد أحمد الشرع، تجاه كلّ ما هو غير “عربي سنّي”، بصفتهم إما “أقلّويين”، وإما “انفصاليين”، وإما “متآمرين على أمن البلاد ووحدتها (لقب الفلول صار حكراً على الطائفة العلوية) دعا “صديق الطفولة” هذا، “سيادة عميده”، إلى تكرار ما فعله بـ “العلويين” حتى يفهموا أن الله حقّ، ولا يعودوا إلى غيّهم مرّة أخرى.
اقتبس مما ورد في بوست “صديق الطفولة” هذا، حيث إيراد البوست حرفياً كما كتبه، ليس أمراً مخجلاً جدّاً بالنسبة لي فحسب، بل إني أخشى إن أوردته حرفياً أن أتعرّض لأحدى نتيجتين: إما أن ترفض “درج” نشر المقال، بسبب فظاعة الألفاظ المستخدَمة فيه، حتى ولو كانت نقلاً عن مصدره، وإما أن أتعرّض أنا، ناقل الكلام، إلى مساءلة قانونية أجدها مشروعة جدّاً، بتهمة التشهير بأعراض الناس وكراماتهم!
هذه عيّنة مقتبسة ومفلترة إلى أقصى درجة ممكنة، مما يرد ذكره بشكل يكاد يكون يومياً، من قِبل ما بتنا نطلق عليهم لقب “شبيحة النظام الجديد”، تجاه أية جهة ترفض الانصياع لحكم “السنّة”… هكذا، حرفياً، من دون أية إطالة، أو محاولة تخفيف حدّة الوصف.
من جهتنا، كمذعورين مما بتنا نراه مؤخراً من سلوك أقرب إلى التوحّش منه إلى أي شيء آخر، من قِبل من كان يفترَض أنهم ضحايا اضطهاد نظام الأسد، قبل بضعة أشهر فقط، فإن النتيجة الطبيعية بالنسبة إلينا هي اليأس الذي سيوصلنا بالنتيجة إلى موقف “صديق طفولتي” نفسه، الذي ورد أعلاه، ولكن بشكل معكوس: ما دام هؤلاء يريدون الموت والإبادة لكلّ من يختلف عنهم، طائفياً أو عرقياً، وهو أمر لا يختاره المرء إطلاقاً، إنما يفرَض عليه منذ لحظة ولادته، فالحلّ الأمثل معهم ليس أقلّ من إبادة مضادّة!
ولكن الحقيقة، ككلّ حقيقة، وهي نسبية دائماً بالمناسبة، تحتاج إلى بعض التأنّي والصبر، حتى ندرك بعضاً من ملامحها. عسى تلك الملامح بدورها، تُعيننا في رسم صورة الهول الذي عشناه، وما نزال نعيشه، كما هو، ومن دون أية محاولة للتجميل، وهذا فقط لندرك إلى أي مدى وضعنا بات على حافة الهاوية فعلاً، وبحاجة إلى طرق إنقاذ للبشر قبل أي اعتبار آخر، يجب طرحها بوضوح ومن دون مجاملة، أو خوف من أحد.
عارياً… ولكن أين هي الحقيقة؟!
بالنسبة إلى “صديق الطفولة” أعلاه، فأنا، كما غيري من سكّان حيّنا القديم، أعرف تماماً دافعه إلى قول ما قاله. الحقّ أنه يمكننا الحديث عن ألف دافع، وهذا ليس تبريراً لموقف متوحّش فعلاً، بقدر ما هو محاولة لفهمه، عسانا، بمعجزة إلهية (بات الإله برحمته، كما يحبّ عباده أن يصفوه، مطلوباً بإلحاح في سوريا الآن) نصل إلى أهم ما نحتاجه كبشر… حيث العيش، حتى ولو مُداسين بمليون حذاء، لا يُعفينا من المطالبة بحقّ أسمى وأهم بكثير من الكرامة نفسها: الحقّ في الفهم.
“صديقي” هذا، كان قد اعتُقل مع بدء المظاهرات المضادّة للنظام في الحيّ. رصد المخبرون وقتها أحد أولاده بصفته مشاركاً وفعالاً جدّاً في تلك المظاهرات، ولم تستطع “الجهات المختصّة” إلقاء القبض عليه، النتيجة، أُخذ الأب عوضاً عن الابن. أبقوه في فرع المخابرات في المنطقة نفسها لمدّة يوم وليلة، ولما أدركوا أنهم لن يستطيعوا الاحتفاظ به لوقت أطول، لأن لديه أقارب نافذين من جهة أحد أفراد عائلته، ويمكن أن يتدخّلوا للإفراج عنه، قرّروا حسم الأمر وأطلقوه صبيحة اليوم التالي للاعتقال، ولكن عارياً تماماً… تكرّموا عليه بأن أبقوه محتفظاً بسرواله الداخلي فقط.
المسافة الفاصلة بين بيته وفرع المخابرات في دمشق، كانت ما يقارب الألفي متر، قطعها الرجل عارياً تماماً تقريباً وحافياً على مرأى الجميع. لم يجرؤ أحد، ولا حتى سائق سيّارة عابرة، على عرض المساعدة عليه لإيصاله إلى المنزل. الجميع عرفوا لِمَ فُعل به هذا، من آثار التعذيب على جسده، وما هي الرسالة المراد إيصالها لهم عبر هذا الفعل.
يمكن الحديث عن أسباب أخرى… الرجل نفسه كان موظفاً في مؤسّسة عسكرية، ويعرف تماماً أكثر من غيره بكثير، ما معنى ألا تكون علوياً في سوريا الأسد.
لا أريد تبرير موقفه، أريد أن أفهم فقط، حيث يبدو أن معركتي، حتى الشخصية، مع نظام حافظ الأسد لم تنتهِ بعد، أو يبدو أنها انتهت، وأنا وبضعة غيري باتوا قلّة للأسف، وبعناد ممضّ ما زلنا مصرّين على أنه لم ينتصر.
عدالة الضحايا!
ما فُعل بـ “صديقي”، وملايين غيره، من أبناء الطائفة السنّية، ولأنهم سنّة تحديداً، أمر لا يمكن نسيانه، ويجب أن يتمّ وضعه ضمن إطاره الصحيح، حتى نستطيع جميعاً تجاوزه. والإطار الصحيح الوحيد هو العدالة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الموقف شديد التوحّش تجاه من يروه السنّة مضطهدي الأمس، مساهماً في المجزرة التي حدثت بحقّهم، ولو بصمته عنها، لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال، وبالتالي فإن الخيار أمام من يرى نفسه ضحيّة، حتى لا يتحوّل بدوره إلى جلّاد، هو واحد من اثنين: إما أن يمضي بمطالبته بالعدالة الكاملة لكلّ الضحايا، في مواجهة جلاديهم الفعليين، وإما أن يرفض العيش مع من ما يزال يصرّ على أنهم جميعاً، هكذا بالجملة، كانوا جلاديه… لا هذا، ولا ذاك، تحقّق.
لم ننل عدالة، وكبار جلّادي ومموّلي حقبة الأسد، يسرحون ويمرحون علناً وبحماية أمن النظام الجديد. هذا من دون ذكر أولئك المرتكبين من الفصائل الإسلامية المتحالفة مع “الهيئة”، وحتى مرتبكي “الهيئة” أنفسهم، من جرائم بحقّ النشطاء المدنيين، حيث العدالة لو تحقّقت، ستصل لا بدّ إلى أولئك، وإلى من هو أكبر منهم، ورأس وما زال “هيئة تحرير الشام” بجميع ارتكاباتها خلال فترة “إدلب العزّ”: أحمد الشرع شخصياً، صدر مؤخّراً قانون العدالة الانتقالية، الذي طال انتظاره، حاصراً مهامها في جرائم النظام فقط!
ولا قبل “المنتصرين” بصيغة تفصّل فيها من يرون أنفسهم ضحايا عمّن يرونهم جلّاديهم، وكلّ هذا تحت شعارات وحدة الوطن، وأمن الوطن، والمؤامرات، ومرة أخرى بحقّ هذا “الوطن”!
وفي النهاية صار هذا “الوطن” هو نفسه السجن الذي بناه حافظ الأسد، ليذلّ فيه كلّ من تسوّل له نفسه بناء وطن حقيقي لجميع أبنائه.
كثر تساءلوا وعن حقّ، لو كان حافظ الأسد سنّياً، هل كانت “البيئة السنّية” الحاضنة للثورة، ستثور ضدّ نظامه؟
ما يقوله “صديقي”، بعد أن خرج من دور الضحيّة وصار جلّاداً، هو أنهم ما كانوا ليفعلوها… وهنا أجد نفسي مضطرّاً إلى أن أضع كلمتي، في مقابل كلمة “صديقي”، حيث شاركت بدوري في المظاهرات السلمية في أول أيّام الثورة، وأعرف كثراً، منهم “صديقي” نفسه، شاركوا على أمل ليس فقط بوطن لنا جميعاً، من دون استثناء، بل بما هو أبعد من ذلك بكثير.
لم يكن أي منا مثالياً في شيء يتعلّق بحياته، أو عمله، أو أي من صلاته الأسرية، بل يمكنني القول إننا كنّا ننظر إلى أنفسنا بصفتنا سيّئين في كلّ هذا، كأزواج، وآباء وأمهات، وأصدقاء، وعشاق، ومهندسين، ومحامين، وأطباء أسنان، ومدرّسين، ومزارعين، وحتى سائقي تاكسي. لم يكن هناك شيء طبيعي في حيواتنا على الإطلاق، إذ بقي من تجرّأنا أخيراً على وصفه بـ “المقبور” يحكمنا حتى من قبره، معطلاً كلّ أمل بحياة طبيعية يمكن أن نعيشها، كما يعيش بقيّة البشر من حولنا.
عندما خرجنا إلى الشوارع، لم نكن فقط نريد وطناً لنا جميعاً، بل كنّا نريد، قبل هذا وأكثر منه، أن ننعتق… هذا ما عشته فعلاً خلال تلك الأيّام التي لا تُنسى، وما عاشه الجميع، ولكن، أين أصبحنا الآن؟!
ولادة جديدة… وموت
كانت الثورة بالنسبة إلينا جميعاً كلّ هذا، ومن أجل هذا خرجنا لأنها فرصتنا الأخيرة لنصبح ما كنّا نحلم دائما أن نكونه، وما جعل الأمر ممكناً، أو ما أعطى الأمنيات فرصتها في أن تنطلق، وتعبّر عن نفسها ضمن أهازيج كاملة ردّدناها جميعاً، هو أننا كنّا جميعاً معاً في تلك اللحظات، التي يفترَض أنها أعادت خلقنا جميعاً من جديد.
كان يمكن لهذا أن يعاود الظهور بكلّ الأبّهة والقوّة والاندفاع التي امتلكها في أيّام الثورة الأولى، وبعد أربعة عشر عاماً من الدمار الكامل للبلاد والعباد، وكانت هذه الفرصة في التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2024، في ساحة الأمويين، بعد أحد عشر يوماً بالضبط من سقوط الطاغية، عندما خرجت المظاهرة الأولى والأخيرة للأسف، المطالبة بسوريا علمانية لجميع مواطنيها.
نعرف جميعاً ما حدث، وأشكّ في أن “صديقي” نفسه كان موجوداً في الساحة، ولن أظلمه وأقول إنه كان مع شبّيحة النظام الجديد الذين أطلقوا لحظتها تهمة “فلول”، بحقّ أولئك المطالبين بما يفترَض أنه كان موضع إجماع السوريين الثائرين في الأيّام الأولى للثورة، وأغلب الظنّ أنه وقف لحظتها متردداً وهو يرى كيف تمّ التشهير بكلّ من وقف هناك.
لم تمضِ ساعات إلا وامتلأت “السوشال ميديا” بأقذع الألفاظ في وصف أولئك الذين تجرّأوا وخرجوا ضدّ النظام الجديد! مع أن الخروج لم يكن ضدّ أحد وقتها، بقدر ما كان محاولة لتأكيد ثوابت لا يمكن أن ننساها، والسلطة الجديدة ذات تاريخ “مشرّف” بالاستئثار بالحكم، بل وتجاه الحرّيات الشخصية حتى، لا يمكن لأحد أن يتجاوزه، إلا إن قرّر أن يُعمي عينيه، ويمحو ذاكرته بنفسه. الحجّة كانت أن هناك من بين المشاركين في تلك المظاهرة من لهم تاريخ في التشبيح مع النظام! نُسي المئات ممن شاركوا في تلك المظاهرة، ومنهم من شارك في الثورة وبقي في سوريا رغم كلّ شيء، وتمّ التركيز على بضعة أفراد ليس إلا.
ما زاد الطين بِلّة، أن بعض من يفترَض أنهم “نخبة” مثقّفي سوريا، بدأوا بترديد التهمة نفسها: فلول! من دون أخذ بعين الاعتبار للسياق الذي وُجدت فيه هذه الصفة في مصر، واختلاف السياقات بكلّ تفاصيلها بين سوريا ومصر، عشيّة سقوط النظامين المستبدّين فيهما.
وصل التشهير ذروته، في التاسع من آذار/ مارس 2025، إثر بدء المذبحة ضدّ العلويين، وتجمّع عدد من المثقّفين والفنانين السوريين في ساحة المرجة، في وقفة صامتة للتضامن مع الضحايا المدنيين. هاجمهم شبّيحة النظام مرّة أخرى، ولكن هذه المرّة ليس على “السوشال ميديا” بل مباشرة، وبأقذع الألفاظ، بل وصل الأمر إلى بداية اشتباكات بالأيدي، وفي هذه المرّة، لم يذكر أحد ممن هاجموا ذلك الاحتجاج، أن من بين المحتجّين من كانوا يعتبَرون رموزاً لثورة السوريين السلمية، قبل بضع ساعات فقط!
أغلب الظنّ أن “صديقي” كان في ساحة المرجة في ذلك الوقت، ولكن ليس كمتفرج، محتار. أظنّه، في تلك اللحظة بالذات، حسم أمره وشارك في الاعتداء على المحتجّين. الفارق بين المظاهرة والوقفة كان قد مضى عليه شهران وعشرون يوماً، وهذه فترة طويلة جدّاً من عمر النظام الجديد، الذي أبدى شهية هائلة على الحشد والسيطرة، ولو فوق جثث الآلاف… ونجح.
كنت أفضّل أن أُبقي على صورة “صديقي” في وقفته الأولى في ساحة الأمويين محتاراً؛ ففي مثل هذه اللحظات يظهر أنبل ما فينا كبشر، مدافعاً عما تبقى له من مكانة في أنفسنا، لحظة الصراع تلك هي ما يمكن أن يؤسّس لولادة جديدة، تماماً كما حدث معنا عندما انتصرنا على خوفنا من الوحش حافظ الأسد، ومضينا إلى الشوارع مطالبين باستعادة أنفسنا، ولكن للأسف، يبدو أنها كانت لحظة عابرة، نسيها معظم من شارك فيها.
كان يفترَض بي أن أخلص إلى نتيجة هي أن “صديقي” وكثر من أمثاله، كانوا ضحيّة تلاعب النظام الجديد في سوريا بهم، هكذا افترضت وأنا أبدأ بكتابة هذا المقال، ولكن الحقيقة تكمن في مكان آخر.
نعم، تتحمّل عقود تجاوزت نصف قرن من الإذلال المستمرّ، المسؤولية الكبرى عمّا وصلنا إليه، ولكن إن بقينا نلوك هذه العبارة، فلن نخرج أبداً من دوامة الموت والموت المضادّ، وأن يستخدَم هذا الظلم الفادح لإحقاق حقّ شيء، وأن تستخدمه لتبرير ظلم مضادّ شيء آخر تماماً. هذه ليست مسؤولية النظام الجديد فقط، الذي يحاول، وبطريقة لا تخطئها عين، استغلال الأمر لتثبيت حكمه؛ هذه مسؤوليتنا جميعاً، قبل وأكثر من النظام الجديد.
لحظة الحيرة تلك، كان يجب ألا تطول وأن تحسَم، كما حصل في المرّة الأولى عند بدء الثورة، لصالح الإنسان فينا، وهذا ما فشلنا في تحقيقه… بهذا، وبهذا فقط، ينتصر حافظ الأسد، ونُهزَم جميعاً.
– كاتب فلسطيني سوري
درج
—————————————
نقابة لا حزب.. طريق طويل نحو معارضة ممكنة/ أحمد عسيلي
تشير سلسلة من التحولات المتسارعة إلى أن الدولة السورية بصدد إعادة التموضع في الخارطة الإقليمية والدولية: رفع جزئي للعقوبات الأوروبية والأمريكية، استئناف نظام “سويفت” المالي، اتفاقيات استثمارية مع مواني دبي، تأسيس مجلس تنسيق اقتصادي مع الأردن، إعادة افتتاح بعض السفارات. مؤشرات كهذه توحي بمشهد جديد، تُقدَّم فيه السلطة على أنها فاعل إقليمي يستعيد شرعيته بهدوء.
في المقابل، تبدو الضفة الأخرى ساكنة بشكل مخيف، وأقصد هنا المعارضة السورية (وهي هنا تسمية مجازية أكثر منها واقعية)، فهي لم تُبدِ أي تفاعل يوازي هذه التغيرات. أقصى ما سُجّل في هذا السياق كان حملة إلكترونية عابرة اقتطعت تصريحًا لوزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، وكلمة يتيمة ألقاها الشيخ غزال غزال، رجل الدين العلوي، متحدثًا عن “علمانية طائفية” بدا معها كمجرد كاريكاتير ساخر لانفصال كامل عن الواقع، وبعض الأخبار عن دعوى قضائية رفعها بعض مؤيدي النظام السابق ضد الشرع في فرنسا، لا أعتقد أنها تجاوزت صفحتهم على الإنترنت، دون أن يكون لها أي تداعيات حقيقية على أرض الواقع.
هذا الواقع، بارتباكه ودلالاته، لم يكن إلا علامة على الفراغ الذي يلف ما يُفترض أنه خطاب معارض.
ولفهم أسباب هذا الفراغ، لا بد من العودة إلى بنية “المعارضة السورية” ذاتها، فمنذ أن أحكم الأسد قبضته الأمنية على البلاد، انقسم المشهد المعارض إلى جناحين عاجزين: “معارضة الداخل” التي تعمل تحت سقف النظام، تكرر مفرداته وتتحدث بشروطه، و”معارضة الخارج” التي وُلدت في أحضان القوى الداعمة، ونالت شرعية شكلية دون أن تمتلك أي ثقل شعبي أو مشروع سياسي. كلا الطرفين أخفق في إنتاج خطاب بديل، أو بناء علاقة تداول حقيقية بين القيادة (غير الموجودة) والقاعدة (غير المُلتفّة)، لا حاضنة اجتماعية، لا تنظيم، لا سردية مشتركة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود محاولات صغيرة، شجاعة، جرت خلال السنوات الماضية، محاولات قام بها أفراد أو مجموعات حاولوا كسر القالب، لكنهم ظلوا جزرًا معزولة، غير قادرة على نسج علاقات عضوية مع الناس أو التعبير عن مزاجهم المعقد.
نحن هنا أمام معادلة مؤلمة: سلطة تتقدّم دون منازع، ومعارضة تتلاشى دون أثر.
هل يعني ذلك أن الأمل معدوم؟ ليس بالضرورة، لكن من العبث انتظار ولادة فورية لمعارضة ناضجة من رحم هذا الواقع المختل، المجتمع نفسه لا يزال رازحًا تحت أعباء الانقسام والخوف والفقر، أما المعارضة فلا تملك الأدوات ولا الخيال السياسي، ولا حتى هوية جامعة.
ما العمل إذًا؟ الجواب لا يكمن في استنبات معارضة جديدة بمقاييس الأحزاب أو الأيديولوجيات، بل في تأسيس فضاء انتقالي (Espace transitionnel) كما وصفه المحلل النفسي البريطاني دونالد وينيكوت، وطوّره لاحقًا الفرنسي ريني روسيلون ليمنحه بُعدًا اجتماعيًا أكثر دلالة وعمقًا.
الفضاء الانتقالي حسب التحليل النفسي، هو تلك المنطقة بين الواقع والخيال، بين الذات والآخر، حيث يُتاح للفرد (أو الجماعة) أن يُجرّب، أن يبتكر، أن يتدرّب على العيش، قبل أن يواجه العالم في قسوته الكاملة.
وعند إسقاط هذا المفهوم على الحقل السياسي، يصبح الفضاء الانتقالي هو المكان الذي يُعيد فيه المجتمع بناء ذاته، دون القفز مباشرة نحو السياسة الصلبة ومنافساتها، أي فضاء التكوين قبل التنافس.
وفي الحالة السورية، لا يمكن لهذا الفضاء أن يكون حزبًا سياسيًا، ولا تيارًا فكريًا، بل يجب أن يمرّ حصريًا عبر الفعل النقابي.
فالنقابة، بخلاف الحزب، لا تنطلق من عقيدة أو فلسفات نخبوية، بل تخرج من واقع ملموس: العمل، الأجر، المهنة، الحقوق، خطابها بسيط، غير أيديولوجي، جامع، وهي بهذا المعنى قادرة على اختراق الانقسامات الطائفية والمناطقية، لأنها تنطلق من وحدة المعاناة اليومية، لا من التنظير السياسي.
إنها حقل انتقالي بامتياز: مدرسة يومية يتعلم فيها الناس التفاوض، وبناء الثقة، والفعل الجماعي، ليست مصنعًا للنخب، بل ورشة حية لإعادة تركيب العلاقة بين المواطن والمؤسسة، بين الفرد والجماعة.
وفي ظل غياب الاستحقاقات السياسية (الرئاسية والبرلمانية) في الوقت الحالي وحتى خمس سنوات مقبلة، وتآكل الأحزاب، وهشاشة المجتمع المدني، تبدو النقابة (بتواضعها الظاهري) كالبذرة الوحيدة القادرة على كسر الانسداد، فهي ليست فقط وسيلة لتحسين شروط العمل، بل معمل لإنتاج الذات السياسية السورية، ومختبر للعيش المشترك، ووسيط عضوي قادر على مدّ الجسور بين فئات متنافرة.
الاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني الهروب من السياسة، بل خوضها من مدخل مختلف، أكثر واقعية، وأكثر عضوية، وأكثر التزامًا بالزمن الطويل، فالمجتمعات لا تُبنى بانفعال الشعارات، بل بتراكم الخبرات، وبالبنية اليومية للتفاوض، حيث يتعلم الناس الخطوة قبل أن يركضوا، والصوت قبل أن يهتفوا.
عنب بلدي
—————————
حين أصبحت الرماية “رياضة” أطفال سوريين مقاتلين/ مصطفى الدباس
الإثنين 2025/05/26
أظهر مقطع مصور انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي في نيسان/أبريل 2025، طفلاً لا يتجاوز عمره 12 عاماً، يحمل سلاحاً بوزن يبدو معادلاً لوزن الطفل المتحدر من محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، وقد رافق والده ضمن رتل مسلح أثناء الاشتباكات التي شهدتها المدينة مع قوات الأمن العام حينها. واللافت في الفيديو أن مَن كان يصور المشهد ردد بفخر عبارة “الله محي البطن اللي حملك”، في تعبير شعبي يُظهر حجم التطبيع مع ظاهرة إشراك الأطفال في العمل المسلح.
ولا يُنظر لهذا النوع من الفيديوهات على أنها حوادث فردية، بل تأتي ضمن سياق أوسع يتصاعد فيه تجنيد القاصرين في مناطق متعددة من سوريا، إما بشكل “عفوي” بفعل انخراط الأهل أنفسهم في الصراع، أو بشكل قسري من خلال الخطف والتجنيد داخل معسكرات تدريب مغلقة.
والخطورة لا تكمن فقط في حمل السلاح، بل في المسار الذي يُرسم لهؤلاء الأطفال في عمر التشكل النفسي والمعرفي. لأنهم لا يعيشون طفولتهم كما ينبغي، بل يُسحبون من فضاء التعليم والهوايات والعلاقات الاجتماعية الطبيعية، ليُعاد تشكيلهم ضمن منظومة قائمة على الطاعة، والعنف، والانفصال عن الحياة المدنية.
وفي نيسان/أبريل الماضي أيضاً، نظم الشيخ عبد الناصر علوان المعروف بلقب “أبو إسلام الحموي”، فعالية لتدريب المشاركين على استخدام السلاح في محافظة حماة، بدعم رسمي من مديرية الأوقاف الرسمية. وانتشرت في مواقع التواصل صور تُظهر مشاركة أطفال قاصرين في التدريبات، ما أثار موجة واسعة من الانتقادات بين ناشطي حقوق الإنسان ومراقبين محليين.
و”الفعالية الدعوية”، شملت تدريبات على استخدام الأسلحة النارية، بشكل مشابه لما يكان يتم لأكثر من عقد على يد التنظيمات الإسلامية في سوريا، بما في ذلك “داعش” الذي أنشأ معسكرات “أشبال الخلافة” على سبيل المثال. ويعد المعسكر في حماة تداخلاً خطيراً وغير مبرر بين العمل الديني والنشاط العسكري. ودافع الشيخ علوان عن الحدث، مشيراً إلى أن الهدف منه يتمثل في تعليم مهارات الدفاع عن النفس، واعتبر الرماية “رياضة مشروعة” حسب تعبيره.
يسلط ذلك الضوء على خطورة إشراك الأطفال في تدريبات عسكرية مهما كانت التسميات التي تُستخدم لتبريرها، سواء كانت دينية أو رياضية. كما تطرح تساؤلات جادة حول مسؤولية الجهات الرسمية، مثل مديرية الأوقاف، في دعم هذا النوع من الأنشطة، ما يكشف عن خلل بنيوي في الفصل بين الوظائف المؤسسية، في سياق يعاني أصلاً من هشاشة في الرقابة القانونية والمؤسسية.
وفي شمال شرقي سوريا، حيث تسيطر قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، تتهم حركة “الشبيبة الثورية” بعمليات خطف الأطفال وتجنيدهم قسراً. وفي 15 آذار/مارس 2025، وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” اختطاف الطفلة فريدة خليل محمد (مواليد 2009) من حي الشيخ مقصود في مدينة حلب، واقتيادها إلى أحد مراكز التجنيد التابعة للحركة من دون علم أو موافقة عائلتها، ومنعها من التواصل مع ذويها.
وقالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن حركة “الشبيبة الثورية” تنفذ عمليات تلقين أيديولوجي للأطفال، وتقوم بنقلهم لاحقاً إلى مجموعات مسلحة تابعة لـ”قسد”، وأكدت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أن قرابة 413 طفلاً مازالوا قيد التجنيد الإجباري في المعسكرات التابعة لـ”قوات سوريا الديموقراطية”.
ولا يعد ذلك جديداً بل هو نمط قديم في سوريا ولا يقتصر على طرف واحد، وحتى في زمن ما قبل الثورة السورية كان تجنيد الأطفال حاضراً بشكل ممنهج في المدارس ليس فقط عبر النظام العسكري واللباس العسكري، بل عبر دروس التربية العسكرية ومعسكرات الخدمة الإلزامية الإجبارية، التي توقفت بعد وصول بشار الأسد للسلطة واقتصر حضورها على الجامعات التي كان التخرج منها يقتضي خوض معسكرين تدريبيين مع الجيش.
وبعد الثورة السورية ازدادت تلك الممارسات. ففي كانون الأول/ديسمبر 2024، قبيل إعلان سقوط نظام الأسد بيومين، دانت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” حملات الاعتقال الجماعي التي نفذتها قوات النظام السوري واستهدفت مئات الشبان والأطفال بهدف التجنيد القسري وإرسالهم مباشرة إلى جبهات القتال شمالي البلاد، بعد إطلاق فصائل المعارضة عملية “ردع العدوان”.
وأوضحت الشبكة أن الاعتقالات شملت مداهمات في الأسواق والأحياء والشوارع، وطاولت حتى حاملي وثائق الإعفاء والمُسوّين أو العائدين من لبنان، وقُدر عدد المعتقلين بنحو ألف شخص نُقلوا من دون تدريب أو إجراءات قانونية. كما نفذت الشرطة العسكرية حملة مشابهة في مدينة سلمية، شرقي حماة، استهدفت النازحين، وسط رفض ميليشيا “الدفاع الوطني” المشاركة في القتال، ما دفعها إلى دعوة الشبان للانضمام إليها مقابل رواتب شهرية.
تُعد ظاهرة تجنيد الأطفال في سوريا ممارسة متجذرة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، عندما أدرج نظام حافظ الأسد مادة “التربية العسكرية” في المناهج الدراسية للمرحلتين الإعدادية والثانوية. تضمنت هذه المادة تدريبات نظرية وعملية على استخدام الأسلحة، مثل فك وتركيب البنادق، بالإضافة إلى تدريبات ميدانية في معسكرات صيفية، تحت إشراف منظمة “شبيبة الثورة”، الذراع الشبابي لـ”حزب البعث”. كما أُنشئت منظمة “طلائع البعث” للأطفال في المرحلة الابتدائية، حيث خضعوا لتلقين أيديولوجي مكثف، شمل ترداد شعارات مثل “بالروح بالدم نفديك يا حافظ”، لترسيخ ثقافة الطاعة والولاء للنظام منذ سن مبكرة.
ومع اندلاع الثورة السورية العام 2011، استمرت الفصائل المسلحة، بما في ذلك تنظيم “داعش”، في تقديم النموذج نفسه. وأنشأ التنظيم معسكرات تدريبية خاصة بـ”أشبال الخلافة”، حيث خضع الأطفال لتدريبات عسكرية صارمة وتلقين أيديولوجي متطرف. استغل التنظيم الوضع الاقتصادي المتدهور، مُغرياً العائلات بمبالغ مالية مقابل إرسال أطفالهم إلى المعسكرات، ما أدى إلى تجنيد أعداد كبيرة من الأطفال في صفوفه.
وتُظهر هذه الممارسات كيف أن تجنيد الأطفال في سوريا لم يكن مجرد استغلال ظرفي، بل جزءاً من سياسات ممنهجة بغض النظر عن هوية الطرف المستغل، من النظام إلى معارضيه على اختلاف أيديولوجياتهم، ما أدى إلى تدمير جيل كامل من الأطفال الذين حُرموا من طفولتهم وتعرضوا لصدمات نفسية عميقة، ستؤثر في مستقبلهم ومستقبل المجتمع السوري بأسره.
وأظهرت تقارير حقوقية دولية صدرت أواخر العام 2024 ومطلع 2025 استمرار ظاهرة تجنيد الأطفال في سوريا، ووثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” حالات استغلال مماثلة لأطفال لا تتجاوز أعمارهم 12 عاماً، ما يعرضهم لصدمات نفسية وجسدية خطيرة. وأكد تقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” للعام 2025 أن أكثر من 7 ملايين طفل سوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وأن الفقر والنزوح يدفعان العديد منهم نحو مخاطر التجنيد القسري، وسط معاناة 85% من الأسر السورية في تلبية احتياجاتها الأساسية، كما انتقدت وزارة الخارجية الأميركية في تقريرها السنوي للعام 2024 حول الاتجار بالبشر، تقاعس النظام السوري المخلوع عن اتخاذ أي خطوات لحماية الأطفال من هذه الانتهاكات أو محاسبة المتورطين فيها.
المدن
——————————-
سوريا بإيقاع أميركي سريع: محاصرة حزب الله ومنع تسليحه
الإثنين 2025/05/26
على إيقاع سريع تتطور الخطوات السورية يومياً. لم تكن الزيارة غير المعلنة التي أجراها الرئيس السوري أحمد الشرع إلى تركيا ولقائه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومن ثم لقائه بالسفير الأميركي في أنقرة، وهو نفسه المبعوث الأميركي إلى سوريا، إلا مؤشراً واضحاً على الوتيرة السريعة التي تنتهجها دمشق، لا سيما باتجاه تحسين العلاقة مع أميركا والغرب، وتعزيزها مع السعودية من جهة وتركيا من جهة أخرى. مع ما سيكون لذلك من انعكاسات على سلطة الدولة السورية على كامل أراضيها، خصوصاً في شمال شرق سوريا، أي مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”.
“مسار السلام”
جزء مما جرى بحثه في تركيا هو تعزيز التعاون التركي السوري، ودخول تركيا بقوى عسكرية واضحة إلى مناطق الوسط السوري، بناء على تفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب. وهذا أحد أهداف تركيا الاستراتيجية المؤجلة منذ سنوات طويلة. إذ لم تنجح كل محاولات تركيا في السابق للدخول إلى سوريا، كي تحلّ القوات التركية مكان القوات الأميركية. ففي ذلك هدف تركي استراتيجي يتصل بحسابات أنقرة ضد الأكراد.
هذه الوتيرة السورية السريعة، والتي تدفع مسؤولين أميركيين إلى توجيه النصائح للمسؤولين اللبنانيين بوجوب سلوك الطريق التي يسلكها الرئيس أحمد الشرع، تؤشر إلى الوجهة التي انطلقت باتجاهها السكة وهي “مسار السلام”، وفق توصيف الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس، والتي ينتظر لبنان زيارتها مع ما ستحمله من طروحات جديدة.
وفي هذا السياق، تشير مصادر متابعة إلى أن الموفدة الأميركية ستشير بوضوح إلى أنه لا بد للبنان من تسريع خطواته باتجاه سحب السلاح. وهذه المرة ستضع مهلة زمنية لذلك، لانه لا يمكن التخلف عن المسار الذي سلكته تطورات الأوضاع في المنطقة، وإلا فإن لبنان سيكون خارج كل الاتفاقات والاستثمارات، ولن يكون قادراً على الاستفادة منها. كما تتحدث مصادر متابعة عن إصرار أميركي على إعادة طرح فكرة “السلام”.
رسائل وتهديدات
ستكون الرسائل الأميركية واضحة بأنه في حال لم يتقدم لبنان سريعاً في الخطوات المطلوبة منه، فإن التهديدات الإسرائيلية ستتزايد والضربات قد تتكثف. كما أن لبنان سيواجه ضغوطاً كبيرة بما يتصل في التجديد لقوات الطوارئ الدولية، اليونيفيل، لا سيما أن الإسرائيليين يخوضون معركة أساسية لتوسيع صلاحيات اليونيفيل، ومنحها حق استخدام القوة للتصدي لأي محاولة تسلح يقوم بها حزب الله. وفي حال لم تنجح هذه المساعي الإسرائيلية، فإن الضغوط ستنتقل إلى مرحلة أخرى، عنوانها عدم التجديد لهذه القوات أو التجديد لها لفترة زمنية قصيرة الأمد. وتكون هذه الفترة مرتبطة بالعمل على إنتاج تصور واضح لكيفية سحب سلاح حزب الله بالكامل.
من الواضح أن هذه الضغوط ستتزايد، في وقت لا يزال لبنان يبحث عن اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وعن إنجاح عقد مؤتمر للجهات المانحة يكون مخصصاً لإعادة الإعمار. الموعد المفترض لهذا المؤتمر هو شهر أيلول المقبل. علماً أن تاريخ التجديد لولاية اليونيفيل هو الحادي والثلاثين من شهر آب، ولا بد للاستحقاقين أن يرتبطا ببعضهما البعض. إذ في حال لم يتم الوصول إلى صيغة ملائمة للقوى الدولية، وللأميركيين بالتحديد، فإن ضغوطاً ستحصل لتأخير عقد مؤتمر إعادة الإعمار.
السلاح.. عنوان أول
لا يزال العنوان الأساسي في هذه المرحلة يتركز على السلاح وضرورة سحبه، بالإضافة إلى منع تهريبه إلى لبنان، لمنع حزب الله من إعادة بناء قدراته العسكرية، ذلك لا ينفصل عن الضغوط المتصلة بتجفيف كل المنابع المالية للحزب. في هذا السياق، يبرز دور سوري واضح، من خلال الإعلان اليومي عن توقيف شبكات متهمة بتهريب المخدرات أو الأموال أو البضائع إلى لبنان، بالإضافة إلى تنفيذ مداهمات لتهريب الأسلحة إلى لبنان.
وهنا تكشف مصادر متابعة، أن القوات السورية عملت يوم الأحد على تنفيذ مداهمتين لمنع تهريب أسلحة إلى لبنان عبر شاحنات محملة بالخضار. ووفق المعلومات، فإن هذه الشاحنات كانت تحتوي على صواريخ كورنيت. في الفترة الماضية لجأت إسرائيل إلى تنفيذ غارات ادعت أنها تستهدف شاحنات على الحدود اللبنانية السورية أو داخل الأراضي السورية، كانت محملة بالأسلحة ويتم العمل على تهريبها إلى لبنان. اليوم وفي ظل هذا النشاط الذي تقوم به القوات السورية لمنع عمليات التهريب، لا بد أن يكون له أثره على مستوى العلاقات السورية مع القوى الدولية، ولا سيما مع الأميركيين.
المدن
—————————————-
البدو كمصطلح لتجهيل الآخر/ بشير البكر
الإثنين 2025/05/26
عاد، من جديد، إلى التداول مصطلح “البدو” لتسمية بعض المسلحين، الذين هاجموا محافظة السويداء السورية في الآونة الأخيرة. وفي ذلك مخالفة صريحة لأخلاق المهنة في الصحافة، لأنه يعمم، ويرمي إلى إلصاق صفات مذمومة بفئة من أهل البلد، ويصورهم بأنهم مجموعة من الرعاع، بلا أخلاق، ومأجورين.
قد تكون هناك جماعات من قبائل بدوية تقوم بأفعال مشينة، لكن هذا لا يبيح تحميل كامل القبيلة المسؤولية، ويتوجب على من ينشر في الاعلام، ووسائل التواصل، أن يكلف نفسه عناء البحث، ويتقصى الحقيقة، ويسمي المعتدين بأسمائهم الحقيقية كي يتم مقاضاتهم حسب القانون، ما يحول دون تعميم صورة نمطية سيئة عن جزء من المجتمع السوري والعربي، الذي يشكل البدو أحد مكوناته الأساسية.
يعبر التعميم عن استسهال تصنيف الآخرين، وتفشي الاستهانة بهم، ويعكس إحساسا من عدم الاحترام، والانخراط في ركب ثقافة سطحية، درجت لدى فئات اجتماعية تدعي التفوق، وعلى هذا أصبح السنة دواعش، والشيعة فرس، والدروز خارجين عن القانون والكرد انفصاليين.
إن لم يتم تصحيح المصطلحات الدارجة، سوف تبقي الفوضى تتحكم بعلاقات أبناء البلد الواحد. ومن دون احترام المكونات الحدود بين بعضها البعض، فإنها لن تنجح في بناء شراكة حقيقية في أوطان لكل ابنائها، وعند حدوث أزمة سوف ترتد نحو عصبيات بدائية قاتلة، ويسارع كل منها إلى تصنيف الآخر ضمن خانة خاصة، ويحبسه داخل كادر ضيق يناسب حدود تصوره، ويرسم له الصورة التي يراها، وغالبا ما يختار له الهوية التي يركب مكوناتها، من عناصر تجاوزها الزمن.
البدو في العالم العربي قبائل معروفة، منتشرة، على نحو خاص، في الخليج العربي والعراق وسوريا ومصر، وهم شعوب لا تختلف عن الآخرين، بعضهم على قدر عال من الأخلاق الحميدة، لديهم قيم لا تقبل القسمة، حافظوا عليها منذ قرون ولم يتخلوا عنها، وبعضهم انحدر الى مستويات دنيا من الانحطاط. وحتى لا يتم الخلط، يجب تسمية كل باسمه، ونسب الفعل السيء إلى صاحبة وليس إلى قبيلته او عائلته.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن البدو لا يعيشون اليوم في الصحاري والبوادي، ولا صلات مباشرة تربطهم بالعالم، نائين بأنفسهم عن التطورات من حولهم أو على مستوى العالم، بل إنهم مواكبون للعصر، وغير منقطعين عن التحولات التي شهدتها البلدان التي يعيشون فيها. لهم نصيب من كل ما أصاب العالم في السراء والضراء، وصلت التكنولوجيا الحديثة إلى مضاربهم بالتوازي مع التلوث المناخي والاحتباس الحراري.
“أنا مدين قبل كل شيء للبدو الذين ذهبوا معي، ولولا مساعدتهم، لم يكن في وسعي أن أقوم برحلتي في الربع الخالي”. بهذه الجملة يبدأ الرحالة والأنثروبولوجي الإنكليزي ويلفريد ثيسيغر (1910-2003) كتابه الفريد “الرمال العربية”، الذي خصصه لتجربة عبور الربع الخالي مرتين ما بين 1945 و1950. ولم يكن أن يتم له ذلك، لولا توافر أدلاء من أبناء قبيلة “آل كثير” الحضرمية، على دراية بتضاريس الصحراء، وطقسها، والمخاطر التي تواجه الرحالة الأجنبي.
يعدّ كتاب ثيسيغر من بين أفضل كتب الرحالة الأجانب عن البدو والصحراء. وأهم ميزة له أنه مكتوب بحب للعرب والبدو وللصحراء من دون قيد أو شرط. وعدا عن أنه يسجل وقائع عبورين للربع الخالي، قطع خلالهما ما يقرب من ثلاثين ألف كيلومتر على ظهور الجمال، فإنه ثمرة تجربة عدة أعوام عاشها في الجزيرة العربية. ولكن ذلك لم يشفع لترجمته إلى اللغة العربية من أن تتعرض للتعسف، وحذف عدة صفحات، بسبب نظرة الكاتب الحادة، التي تميز بين البدو قبل وصول التكنولوجيا إلى المنطقة وبعدها، وهو يتناول بالنقد اللاذع أجيال الأبناء والأحفاد، الذين حوّل الثراء الفاحش نمط حياة البعض منهم، وغيّر في العادات والتقاليد.
عملت بعض دول الخليج على الحفاظ على تراث البداوة، وتوثيق موروث البدو المادي والشفوي، وقد نجحت بعض الجهود في إحياء المخزون البدوي من شعر وغناء وموسيقى، وعادات، ولباس، وطعام. واجتهدت بعض المسلسلات التلفزيونية لتقديم عالم البدوي وشخصيته ونمط حياته. بعضها نجح في ذلك، والبعض الآخر فشل على نحو ذريع.
والنقطة الفصل في الأمر هي زاوية النظر، وهدف المعالجة الدرامية. هناك من سعى إلى تسليط الأضواء على الموروث البدوي، وهناك من أراد السخرية من شخصية البدوي، ونمط حياته والتعامل بتعال واستخفاف مع البداوة، كونه عدها أحد مظاهر تخلف العالم العربي، وفي ذلك تجنٍّ كبير وتعميم سطحي، يصدر عن تفكير قاصر عن رؤية تاريخ العرب مقطوعاً عن ماضيه البعيد والقريب، والتنكر للغنى الثقافي، الذي تجلى في الشعر على سبيل المثال.
————————————
المهندس غائب.. كفرنبل ترفع لافتاتها في دمشق/ عز الدين زكور
2025.05.27
على واجهة مبنى محطة الحجاز التاريخية وسط دمشق، كان تصدّر عبارة “كفرنبل”، الأحد، لافتاً للمارة، فاسم المدينة القادم من ريف إدلب الجنوبي المدمّر، لم يكن حدثاً عابراً، بل احتفاءً بلافتات الثورة الأشهر، التي وصلت إلى العالم كله خلال سنوات الثورة السورية، ولأول مرة تحط بنسخها الأصلية، العاصمة، بعد سقوط نظام الأسد، لتعلن انتصار الثورة، كما يقول القائمون على الفعالية.
ولاقى انطلاق معرض “لافتات كفرنبل الثورية” إقبالاً واسعاً من السوريين، في يومه الأول، حيث يعرض القائمون عليه لافتات المدينة ورسوم الكاريكاتير في الصالة الرئيسية للمحطة حتى الثالث من حزيران المقبل، في خطوةٍ تذكر بإرث الثورة السورية ودور اللافتات في إيصال صوتها على مدار 14 عاماً.
ورغم رمزية الفعالية، وتفاعل الحاضرين، حضرت غصّة الغياب لمهندس اللافتات وأحد أبرز ناشطي الثورة السلمية رائد الفارس، ورفيقيه حمود جنيد وخالد العيس، إلا أن أسماءهم لم تسقط من ألسن الحاضرين، وحضرت صورهم إلى جانب اللافتات في الفعالية.
“قيم وتاريخ”
زينة شهلا صحفية، ومن القائمين على الفعالية، أوضحت أن المعرض هو جزء من تظاهرة ثورية اسمها “البداية” كان الهدف منها الاحتفاء بذكرى الثورة والتذكير بقيمها، ويقوم عليها مجموعة من ناشطي ومنظمات المجتمع المدني.
تقول زينة لموقع تلفزيون سوريا إن “المعرض ضم لافتات كفرنبل الأصلية التي كتبها ورسمها وحملها ناشطو وفنانو المدينة منذ بداية الثورة السورية، وتحمل رسائل وقيم وتاريخ الثورة. هذا الأمر له دلالة رمزية جلية حينما ترى اسم كفرنبل وسط دمشق على واجهة محطة الحجاز يراها المارون، هذا بحد ذاته انتصار للمدينة واللافتات والثورة”.
وترى أن معرض اللافتات ورسوم الكاريكاتير، بحضور بعض الناشطين الذين شاركوا في إعدادها، يسلط الضوء على أهمية الفن في الثورة والذي يعد جزءاً من سرديتها، وضرورة لتتعرف الأجيال الأخرى إلى هذه اللافتات ودورها في القضية السورية.
نزوح اللافتات
كان حال اللافتات، حال أهالي مدينة كفرنبل، الذين حزموا أمتعتهم في العام 2019 وغادروا المدينة على وقع واحدة من أعنف الحملات العسكرية لنظام الأسد وحلفائه.
عبد الله السلوم، وهو أحد أعضاء المكتب الإعلامي في مدينة كفرنبل، ألقى على عاتقه مهمة حفظ اللافتات وتأمينها في مكان مناسب، للحفاظ على نسخها الأصلية، يحكي عن رحلة تنقل طويلة للافتات كفرنبل منذ أن اضطر سكانها إلى ترك المدينة بسبب حملة نظام الأسد المخلوع وروسيا على منطقة جنوبي إدلب في العامين 2019 ـ 2020.
يقول “السلوم” لموقع تلفزيون سوريا: “منذ انطلاق الثورة السورية وحتى العام 2015 كنا نخرج اللافتات إلى تركيا، لتأمينها هناك، إلى أن أغلقت الحدود وصار من الصعب العبور، بدأنا في تجميعها بالمكتب الإعلامي في مدينة كفرنبل وبقي الحال حتى العام 2019 حيث بدأت الحملة العسكرية على المدينة وعموم ريف إدلب الجنوبي، حينئذ اضطررنا إلى الخروج من المدينة حاملين معنا اللافتات”.
لافتات كفرنبل
يستذكر السلوم يوم إخراج اللافتات من المدينة، تحت وابل من البراميل والصواريخ، حيث استهدفت طائرة حربية المكتب الإعلامي، وتمكنوا من إخراج قسم منها، وفي مرحلة أخرى أخرجوا ما تبقى منها، ويردف: “من شدة القصف لم يكن من السهل إخراجها، تعرضنا للقصف مرتين”.
يوضح السلوم أن “المحطة الأولى للافتات كانت مدينة معرة النعمان، ومن ثم مدينة سرمدا، وهناك حيث كان منزلي ضيقاً اضطررت إلى نقلها لمدينة سلقين، لم يطل الأمر هناك أكثر من ثلاث سنوات، أي في العام 2023، لأن الرطوبة بدأت تهدد اللافتات، وعلى إثر ذلك تواصلت مع وحدة المجالس المحلية (اللاكو) لتأمين اللافتات في مكان آمن ومناسب، وفعلاً نقلت المؤسسة اللافتات إلى مدينة اعزاز شمالي حلب، وخضعت جميعها للترقيم والأرشفة بطريقة تسهل عملية البحث بين اللافتات التي وصل عددها إلى 500 لافتة ورسم”.
“الحلم تحقق”
يقول السلوم إن “المعرض، كان مهماً بالنسبة لنا، لأن اللافتات وصلت إلى جميع أرجاء العالم، ما عدا المدن السورية التي كانت تحت سطوة النظام المخلوع، والمعرض كان حلماً وقد تحقق أمامنا اليوم”.
يجد السلوم أن “المعرض فرصة لتعريف كثير من السوريين المغيبين عن واقع الثورة وحقيقتها ولكسر الصورة النمطية عن إدلب التي وسمها النظام المخلوع بالإرهاب، فكان مهماً جداً أن يعرفوا أهداف الثورة وقيمها ومطالبها”.
ويضيف: “لا يمكن لأي كلمة أن تعبر عن شعورنا ونحن نقيم معرضاً للافتات كفرنبل من دمشق، كل ما أتمناه لو كان حاضراً بيننا الشهداء رائد الفارس وحمود جنيد وخالد العيسى، ليروا أعمالهم أين وصلت.. لكن استشهدوا الله يرحمهم”.
“كفرنبل المحتلة.. كفرنبل المحررة”
إبراهيم سويد، أحد أعضاء المكتب الإعلامي في مدينة كفرنبل خلال سنوات الثورة الأولى، يقول إن “اللافتات المتنوعة بطابعها الفكاهي والسياسي والناقد المواكب لأحداث الثورة السورية، ارتبطت باسم المدينة، لذلك تبقى محط اهتمام كبير لنا نحن أهالي كفرنبل وناشطوها، فهذه اللافتات شارك بها أعضاء المكتب جميعهم، وكنا نستعين في الأفكار، بأشخاص آخرين من أهالي المدينة في المغترب، وكذلك بسوريين آخرين، حتى تخرج اللافتة بفكرة مميزة يوم الجمعة، الذي كان موعداً للتظاهر ورفع اللافتة”.
يتحدث سويد الذي يعمل اليوم مراسلاً لتلفزيون سوريا، عن “وسمين ميّزا اللافتات، الأول: كفرنبل المحتلة، والتي تزامن فيها رفع اللافتات خلال دخول جيش النظام المخلوع للمدينة، إذ كان الناشطون يرفعون اللافتة من بساتين المدينة وهو ما يشكل تحدياً لقوات النظام المخلوع وأجهزته الأمنية، أما الوسم الثاني: كفرنبل المحررة، وقتئذ كان يرفع ناشطو المدينة اللافتات من داخل المدينة”.
ويتابع سويد: “يعني لنا الكثير أن ترفع لافتات كفرنبل من دمشق، بعد أن عانى أعضاء المكتب خلال السنوات الماضية من حفظ وتأمين اللافتات حتى نصل إلى لحظة النصر، ويتمكنون من جديد من رفعها في العاصمة بعد سقوط نظام الأسد، إلا أننا يحزننا غياب مهندسها رائد الفارس وباقي الشهداء من حمود جنيد إلى خالد العيسى، لكن ما يعزينا أن كفرنبل حصدت ثمار الثورة نتيجة لتكاتف ناشطيها وأبنائها حتى نصل إلى هذا اليوم”.
ويختم: “أتمنى في القريب العاجل أن تشهد مدينة كفرنبل المدمّرة معرضاً للافتات ـ المكان الذي انطلقت منه ـ في الساحة الرئيسية حيث استشهد شبابها ورفعوها ذات يوم”.
—————————-
عودة أبي العلاء إلى معرّة النعمان/ أنس أزرق
27 مايو 2025
في آخر زياراتي إلى مدينتي حلب أواخر عام 2011 قبل قراري مغادرة سورية فراراً من المشاركة المعنوية في جرائم النظام، كانت دبابات النظام تقف عند مداخل المدن الواقعة على طريق دمشق- حلب، وهي توجه مدافعها باتجاه هذه المدن، يومها فقط لم نتوقف كعادتنا في إحدى استراحات معرّة النعمان.
كانت المعرّة استراحتنا، حيث كنا نقف في الذهاب إلى حلب وحين العودة إلى دمشق. كان التوقف للاستراحة في النبك. كانت مدينة معرّة النعمان بالنسبة لنا، نحن أبناء حلب القلة الذين نسكن دمشق، محطة أساسية في طريق الذهاب والإياب بين المدينتين المتنافستين في الثراء المادي والحضاري، فالاستراحة في معرّة النعمان متعة صافية، فلا يوجد أطيب من فطور معرّة النعمان حيث الجبنة والبيض البلدي مع القيمق والشعيبيات الساخنة. وإذا كان الوقت غداء فأهلا باللحمة في الصينية من غنم العواس، ونهاية الاستراحة التزود من خيرات المعرة مؤونة البيت وهدايا للأهل والأصدقاء.
لم تكن المعرّة بالنسبة لي ولكثيرين لتختزل بأطايب الطعام وكرم أهلها الذين يعرفون بالشطارة، وإنما كانت تعني أيضاً زيارة متحف المعرّة الذي يعد من أفضل متاحف العالم المتخصصة بالفسيفساء، وكذلك زيارة المركز الثقافي في المعرّة، حيث منزل أبي العلاء وضريحه والمكتبة العلائية، وأخيراً التبرّك بزيارة ضريح الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز المدفون في الدير الشرقي بعد كيلومترات قليلة عن المعرّة.
بعد سقوط النظام، عدتُ إلى بلدي وأردتُ كغيري أن أتفقد ما فقدته أكثر من 12 عاماً، ومنها الأماكن المحببة لقلبي، وأولها الأوابد الأثرية والمتاحف التي أعشقها، ومنها متحفا دمشق وحلب وقلعتها وبينهما آثار تدمر ومعرّة النعمان.
تشترك المعرّة مع مثيلاتها من المدن السورية الثائرة الأخرى بالدمار الذي أصابها من عدوان النظام الهمجي ومن تهجير أهلها، حيث لا يوجد فيها رغم سقوط النظام إلا قلة من أهلها عادوا إليها بعد التحرير للعيش فيها، رغم أن معظم الأبنية فيها ركام على الأرض.
بدأت زيارتي من شارع أبي العلاء المعري حيث قطع عام 2013 رأس تمثال المعري الذي نحته الفنان محمد قباوة، وفكّرت عندما وجدت قاعدة التمثال: متى ينتصب هنا مجدّدا تمثال أبي العلاء الذي نحته الفنان السوري عاصم الباشا في قرطبة وجرى نقله ووضعه في باريس؟
دخلنا متحف المعرّة، وهو خان عثماني بناه محصّل الضرائب في الإمبراطورية العثمانية مراد باشا جلبي وقفاً على طريق الحجاج، وكتب على بابه الكبير لاعناً الغني الذي يمنع الفقير.
حوّل الخان إلى متحف متخصّص لقطع الفسيفساء الكثيرة التي اكتشفت في المعرّة ومحيطها، لا سيما أن هذه المنطقة الكلسية غنية بالمواقع الأثرية، وقد باتت تعرف بالمدن الميتة أو المنسية، وهي مستوطنات بشرية ازدهرت في القرن الأول الميلادي وأفل نجمها في القرن السابع الميلادي، وقد سجلت على قائمة التراث العالمي المعتمدة من يونسكو عام 2011، قبل أن يطاول بعضها قصف النظام كما حصل بموقع قلعة سمعان.
كان متحف المعرّة يعبّر خير تعبير عن حال المدينة المكلومة، حيث أصابته صواريخ النظام وحلفائه، فضلا عن براميله المتفجرة، فدمّرت قسماً منه، وتحديدا التكية والمسجد في الخان – المتحف، ولكن مبادرة أهالي المعرّة لحماية قطع الفسيفساء بوضع مواد لاصقة وأكياس من الرمل فوقها حمت هذه القطع الفريدة من الدمار، لكن الإهمال وقلة الإمكانات ما زالا حاجزاً لإعادة ترميم هذه القطع وعرضها.
يملك المتحف الذي أصبح في عداد المتاحف العالمية المتخصصة حوالي ألفي متر مربع من لوحات الفسيفساء، وأشهرها لوحة ولادة هرقل وأسطورة بناء مدينة روما. ولا يبعد منزل أبي العلاء المعري كثيرا عنه، فهو في وسط السوق الشعبي للمدينة، وقد تحول المنزل إلى مركزٍ ثقافي بمبادرة من مؤرّخ المعرّة محمد سليم الجندي في أربعينيات القرن الماضي، وتحديداً بمناسبة المهرجان الألفي الأول لميلاد المعرّي.
دخلنا المركز الثقافي حيث ضريح أبي العلاء، وكانت كل محتوياته، لا سيما من الكتب الثمينة، قد نهبت، وحاول بعض الجهلاء تكسير الضريح المهمل حاليا والذي تحول إلى مستودع لبعض الباعة.
أحسب أن روح أبي العلاء المعري قد تململت في قبره وهي تراقب ما فعله النظام المجرم بمدينة معرّة النعمان، مدينته التي كسر قرار الاعتكاف من أجلها حين حاصر أمير حلب صالح بن مرداس المعرّة، فخرج إليه المعرّي بطلب من أهلها ليشفع لهم.
فلمَّا مضى العُمر إلا الأقلّ وحُمَّ لروحي فِراقُ الجَسَد
بُعِثْتُ شفيعًا إلى صالح وذاك من القوم رأي فَسَد
فيسمع مِنِّي سجعَ الحمام وأسمع منه زَئِير الأسد
أجاب بن مرداس طلب المعرّي، ووهبه “المعرّة وأهلها”.
أحسب المعرّي يرتجف من حجم إرهاب الأسد وحلفائه حيث دمر معظم أحياء المعرة وريفها واضطر أهل المعرّة للنزوح عنها، كيف لا والمعرّي يأنف من القتل، ولو كان لحيوان صغير.
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
ودع ضرب النحل الذي بكرت له كواسب من أزهار نبت فوائح
فما أحرزته كي يكون لغيرها ولا جمعته للندى والمنائح
أحسب المعري يعلق على قطع رأس تمثاله من بعض سفهاء القوم
كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء.
فإذا ما أطعته جلب الرحمة عند المسير والإرساء.
إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء.
سرق السفهاء والجهلاء المكتبة العلائية التي أهداها طه حسين لمعلمه أبي العلاء بمناسبة المهرجان الألفي الأول للمعرّي الذي أقيم في سورية عام 1944 برعاية رئيس الجمهورية وقتها شكري القوتلي، وتنظيم المجمع العلمي العربي ورئيسه العلامة محمد كرد علي، وحضرته نخبة من الأدباء العرب، ومنهم طه حسين وإبراهيم المازني وأحمد أمين وسامي الكيالي وجميل صليبا وغيرهم، فيما تبارى الشعراء محمد مهدي الجواهري وعمر أبو ريشة ومعروف الرصافي وبدوي الجبل وشفيق جبري بإلقاء قصائدهم عن المعري.
غادرت المعرّة إلى ضريح الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في دير الشرقي، ومنها إلى حلب، والكثير من الأسئلة تراودني، ومنها لماذا ترك الأمويون خليفتهم العادل في هذه المنطقة البعيدة عن العاصمة؟ وقبل ذلك، لماذا لم تطل خلافته سوى سنتين وأشهر قليلة؟ ومتى يعود أبو العلاء إلى المعرّة؟
العربي الجديد
——————————-
من يسيطر على مافيا المراهنات في سورية بعد سقوط النظام؟/ مازن الهندي
27 مايو 2025
كما هي الحال في بلدان كثيرة، توجد مكاتب المراهنات في سورية منذ نحو عقدين بشكل غير مرخص، وقد دفعت الحالة الاقتصادية كثيرين إلى المراهنة على المباريات.
استغلت الشركتان المشغلتان للهواتف الخليوية (سيرتيل وMTN) هذا الشغف في البدايات، من خلال مسابقات لتوقع النتائج مقابل الحصول على نقاط أو وحدات مجانية بدءاً من العام 2005، فقد وجدت مكاتب المراهنات أرضاً خصبة للعمل في بلد يعشق الكثير من شعبه الرياضة. ولم يقتصر الأمر على فئة الشباب فقط، بل تعدى ذلك إلى المشاهير من الفنانين والرياضيين الذين كانوا يجدون تسلية في الدخول إلى مواقع المراهنات التي تقدم خدمة (ألعاب الكازينو) أيضاً، لتوفر على الكثيرين السفر إلى لبنان وممارسة هوايتهم هناك.
بإشراف الدولة ومن دون ترخيص
رغم الآثار السلبية الكثيرة التي أودت بحياة شبابٍ كثيرين ومستقبلهم، إلا أن النظام السوري الساقط لم يتخذ أي إجراء لمحاربة مكاتب المراهنات أو المتعاملين معها في البداية، قبل أن تضع بعض العائلات المعروفة، مثل بيت الأسد وشاليش، يدها على هذه المكاتب بشكل كامل لحصد الأموال من الشعب بطريقة غير مباشرة. الأمر الذي جعل “الديلرز” يحظون بحماية كاملة في عملهم، وهو ما سمح لبعضهم بالوجود بشكل علني وثابت في بعض الأماكن، لتوفير “الرصيد” المطلوب لمن يرغب في الرهان، والحصول على الأموال (أو تقبيض) الزبائن أرباحهم.
ورغم الفضيحة الكبيرة التي حصلت في العام 2009 والتي ثبتت من خلالها محاولة إحدى الشركات السنغافورية التلاعب بنتائج مباريات الدوري المحلي عبر شراء ذمم لاعبين عديدين، إلا أن الأمر استمر (بالخفاء) وتحت أنظار الحكومة السورية من دون حساب حقيقي، مع العلم أن عديدين من مدرّبي الأندية السورية كشفوا من خلال أحاديث جانبية أنهم تمكنوا من معرفة تورّط لاعبين عندهم في عمليات المراهنات قبيل أو بعد مباريات الدوري المحلي التي أثارت نتائجها الدهشة والجدل.
تعدّدت الأسباب والنتيجة واحدة
يقول أحد العاملين في القطاع الرياضي ممن أدمنوا الرهان على المباريات إنه عندما التحق بالخدمة الاحتياطية في سن متأخرة عام 2015، تعرف على الأمر بالصدفة في قطعته العسكرية، بعدما طلب منه أحد العساكر المتطوعين توقع نتيجة مباراتين له في الدوري الإسباني اعتماداً على الخبرة التي يمتلكها هذا الشخص في كرة القدم العالمية، وبعد أن نجح توقعه في أكثر من مرة، قرر أن يخوض التجربة بنفسه، لسببين رئيسيين، أولهما حالة الفراغ التي كان يعيشها في قطعته العسكرية بحكم عمله الإداري فيها، وثانيهما الحاجة لكسب المال من أجل شراء “هدية” لقائد كتيبته مع كل إجازة يأخذها للعودة إلى منزله، أو ما يعرف باسم “التفييش”، أي دفع راتب شهري لقائد كتيبته مقابل البقاء في منزله خلال فترة الخدمة. ويضيف علاء. ع: “خسرت أموالاً طائلة ووقعت تحت وطأة الديون الكبيرة، ورغم ذلك لم أستطع أن أتوقف فترات طويلة، حيث كنت أعود للرهان على المباريات وإلى ألعاب الكازينو كلما توفر لدي بعض المال”.
يقول أحد الأشخاص المدمنين على الرهان على المباريات إنه اضطر إلى بيع بعض من أغراض منزله لسداد الديون، وبحسب شهود عيان، فإن بعضاً ممن لم يتمكّن من سداد الدين قد أقدم على الانتحار فعلاً.
صراع أهل السلطة
المكاسب الكبيرة التي حققتها مكاتب المراهنات جعلت العين “مفتوحةً” عليها من أهل السلطة، وتشير المعلومات التي حصلنا عليها من المدمنين على المراهنات إلى أنه بين حين وآخر، كان يُبلغون بأنه سيُنتقَل إلى شركة مراهنات مختلفة بسبب إغلاق الشركة “المشغّلة”، وحقيقة الأمر تؤكد أن الصراع كان يشتد بين العائلات الحاكمة للسيطرة على “باب الرزق هذا” في سورية، حتى استقر الأمر مع بداية العام 2021 على شركة مراهنات تُدعى “Ichancy”، ومقرّها في أرمينيا، مملوكة من أحد أفراد عائلة الأسد، حيث نجح القائمون على هذه الشركة في توفير عروض ومغريات أفضل من مشغّلي الشركات السابقة، والاستيلاء على “السوق” بشكل كبير.
واللافت أن الإعلان عن هذه العروض، سواء من “مدير الظل” الذي يشرف على العمل في سورية ويحمل اسماً حركياً (Robert green) أو من “الديلرز”، يجرى عبر صفحات فيسبوك وبشكل علني لا يخفى على أحد. وبالرغم من ذلك، لم يتمكّن أحدٌ يوماً من إيقاف المشرفين عن هذه الآفة أو القبض عليهم، بالنظر إلى أنهم يتمتعون بحماية كبيرة، رغم حملات صغيرة من بعض عناصر الشرطة أو الأمن، كانت تسفر عن القبض على بعض “الديلرز” بضعة أيام، قبل أن يخرجوا مجدّداً بعد (دفع المعلوم) ليمارسوا عملهم بشكل واضح.
ويملك هؤلاء حسابات بنكية معروفة، كما أن الدفع يتم في كثير من الأحيان عبر اللقاء المباشر بين الديلر والزبون أو من خلال حوالات عبر شركتي الهرم والفؤاد للحوالات المالية بشكل يومي ومفضوح.
المكاتب مستمرة
وعلى الرغم من سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول (2024) وهروب معظم أصحاب الأموال والسلطة والمسؤولين عن تشغيل هذه المكاتب، إلا أن المراهنات لا تزال مستمرة بفعل وجود “أشخاص في الظل” يواصلون إدارة شؤون هذه المكاتب (غير المرخّصة) والعاملين فيها، مستغلين حالة الفوضى التي تعم البلاد في الأشهر الأولى من العهد الجديد، وكذلك الحاجة الاقتصادية الملحة للكثير من الشباب الذين يجدون في الرهان على المباريات مصدر رزق (سهل) مع فقدانهم أعمالهم.
وفي غضون التحدّيات التي تواجهها الحكومة السورية الحالية، قد لا تبدو محاربة آفة الرهان على المباريات الرياضية أمراً سهلاً، خصوصاً مع التسهيلات التي باتت مكاتب المراهنات تقدمها من أجل عملية الدفع أو قبض الأموال (عند الربح)، وبالتالي، فإن الأمر يحتاج حملة كبيرة ومدروسة للوصول إلى منابع هذه الآفة، وليس إلى بعض “الديلرز” الصغار الذين ينتشرون في كل المحافظات السورية.
وإذا كان هذا الأمر لا يشكل أولوية في الوقت الحالي، ومع صعوبة الخلاص بشكل تام من هذه الآفة المدمرة، فإنه لا بد من سنّ قوانين حقيقية تجرّم الرهان على المباريات وألعاب الكازينو. ويمكن، في هذا الإطار، اتخاذ العديد من الخطوات الأولية المتعلقة بمراقبة تكرار تحويل الأموال عبر الشركات المختصة إلى اسم محدّد من شبابٍ عديدين بشكل يومي، وكذلك الأمر بالنسبة للحسابات البنكية، تمهيداً للوصول إلى الرؤوس الكبيرة المشغلة هذه المكاتب.
العربي الجديد
————————
عن ما تبقّى لنا من حكاية البلد/ عبير داغر اسبر
27 مايو 2025
اليوم، ككثير من سوريي المنافي، لا أملك من وجه البلد سوى الحنين. أفتقد كل ما لا يلزم، ربما، وباحتياج فلكلوري، أبكي أشجار التوت المقطوعة أمام بيت الجد الأعمى، أتوق إلى الارتحال مع صدى الأذان المترنّح بين جدران الأحياء في الخامسة فجراً، أشتهي الاختناق بحرّ طرقات الشام المعفّرة بالضجيج والتراب. تلك الصور بأصواتها وروائحها، وصخب ألوانها ونفورها، هي الشيء الوحيد الذي يربطنا بما كنا عليه، يحمل حكايتنا. كما لو أن تلك التفاصيل أشبه بخيط سرّي، كلما اشتدّ البُعاد، شبكنا روحنا به علّه يحمينا من الضياع.
حين يروي أبٌ لابنه عن حلب، حمص أو حماة التي كانت، لا يكذب عليه، ولا يبيعه وهماً. هو فقط يعلّمه كيف يحفظ مدينته حيّة بداخله. فالأرض قد تُحرّر بالأسلحة والشهداء، لكنها تعيش بالذاكرة أيضاً ودوماً، تلك القوة الخفية التي تسكن داخلنا، وتمنحنا البوصلة التي نحتاجها لعبور العزلة. قد يبدو فعل التذكّر، ومشاعر الحنين آتيَين من الموت، آتيَين من الانتهاء، من اكتمال الحالة ورميها لتحنّط في مقبرة سنوات مضت. لكن ما يفاجئ في هذا التناقض الأخاذ، أن فعل التذكّر هو فعل حيّ للغاية، نابض وأزلي، حتى لو بدا لإنسانٍ غير متأمّل، متناهي الانشغال بالحاضر، مرميّاً في ثنايا الماضي، بحيث يصعب بعثه مجدّداً.
فهذه اللعبة المبهرة بتناقضها، تحصل عندما يحضر الحنين كجنيّ الحكايات، كبهلوان متمرّس يرنّ في وعيه ناقوس ما، فيذهب بسببه إلى مخابئه السحرية، إلى جرابٍ معلّقٍ حول القلب، فيه كل الحمائم البيضاء، كل زهور الربيع، يهزّها فتهرّ من ثقوبه الكرات القزحية، قافزة كأرانب. فحتى لو بدا الحنين ركاماً غير مضبوط الحجوم والزوايا، تجميعاً اعتباطياً من نتفٍ لُمْلِمَت على عجل بفعل الرحيل. لكن، بمرور الوقت، وبضغط الزمن، وبعملية تخمير يرعاها البطء، يتحوّل ذلك الشعور العابر، من استعادة بلهاء، عقيمة، إلى طاقة خلق وتخصيب. على هوامش تلك اللعبة، نتلمّس الحقائق كما لو أنها ضوء، نعي أن الحنين يشبه جنينًا تركته أمه على قارعة النسيان، لذا، ومع كلّ اشتياق، نعود إلى أمومتنا الرمزية، نحتمي بها من فوضى هذا العالم. ندرك أننا لسنا أمهات بأثداء وقطرات حليب، فجنيننا لا يستطيع النمو إلا في أحشاء اللغة، في القصص التي نرويها لأنفسنا عن مدنٍ تغيّرت، وأحباب راحوا.
وإن غادرنا المجاز قليلاً، وبتعريفٍ رواقي، قد يبدو الحنين مجرد استدعاءٍ للذكريات. آلية دفاعية يُفعّلها العقل ليعيد تشكيل ما فُقد. لكن حين نغترب، ويمتد غيابنا لأكثر من عمر، يبدأ الحنين بلعب دور مغاير عمّا اعتدنا: يترك بَهلوانيات الخدع الذهنية، ويحضر بوصفه ضرورة وجودية.
عندما كان لنا وطنٌ متاحٌ وذاكرة متخمة، وبتبجح مقيت واستعراضٍ مضحك، ناسبنا كثيراً قول نيتشه إن الحنين مرض الضعفاء. لكن اليوم، وبعد أن انفجر السوريون في أصقاع الأرض، قد يناسبنا أكثر ما أصرّ عليه موراكامي في كتاباته المُغرقة في الحنين، حين قال:
“تدفئك الذكريات من الداخل، لكنها تمزّقك أشلاء أيضاً”، فحنينك هذا هو تمرين مستمر لمقاومة الهمجية القابعة في النسيان، وحرب ضرورة ضروس أمام التلاشي. هو شكلٌ من أشكال المقاومة، حفاظ متقد على مرويات الأمكنة من الاندثار.
إن تحنّ اليوم إلى سورية التي ليست لك، أو لم يعد لك فيها من وجود، يعني أنك بدأت في تخيّل سورية التي يمكن أن تكون. وقد يعني أيضاً أن انشغالك الهوسي بالماضي، بتجميع شذراتك المنثورة بين شقوق العمر، هو ملح حياتك الذي لن تستقيم لك حياة إن فَسَد.
————————————–
دمشق: بالإسمنت أم بالحب؟/ شعبان عبود
27 مايو 2025
بعد سنين طويلة من الحرب والدمار، ومع بدء العمل على رفع العقوبات المفروضة على سورية، بدأت تتصاعد التوقعات عن عملية إعادة إعمار ضخمة تشمل كل الجغرافيا السورية، وعندما نسمع هذا المصطلح “إعادة الإعمار”، فإن أول ما يقفز إلى أذهاننا هو دمشق. دمشق ليست مدينة فقط، بل قصة حبٍّ أيضاً. ويصبح السؤال ليس فقط: كيف سنُعيد إعمارها؟ بل: بأي روح، وبأي عقلية، وبأي ضمير سنفعل ذلك؟
دمشق ليست مجرد عاصمة سياسية. هي الذاكرة، هي المعادل العاطفي لسورية في أذهان كل السوريين وكل العرب، وهي المدينة التي تحمل لقباً صار اسماً ثانياً لها، لا يختصر سورية فقط فيها، بل يختصر بلاد الشام كلها. وهي اليوم تتنفس بصعوبة بعد أن نال منها الخراب، وأثقلتها الحربُ الطويلة والإهمال الخدمي المتراكم. لذلك تبرُز الحاجة اليوم في سورية إلى مشروع تخطيط عمراني جديد للعاصمة، لا يكتفي بردم الفجوات، بل يُعيد إلى دمشق روحها.
دمشق، التي كانت يوماً عاصمة الدولة الأموية، ومركز إشعاع حضاري وروحي في العالمين، الإسلامي والمسيحي، لا يمكن التعامل معها كما لو أنها مدينة بلا ذاكرة. هنا المسجد الأموي، وكنيسة حنانيا، ومقامات الأولياء والقدّيسين، والطريق المستقيم والبيوت الشامية. هنا المشهد المعماري ليس مجرّد أحجار، بل سيرة حضاراتٍ وحضارات، وتلخيص لقرون وقرون، حكايا حضارات وحكايا ناس.
سوريون كثيرون وغيرهم، كثيرون ممن زاروا دمشق مؤخراً، يتحدثون عن ذلك الدفء الخفي الذي يشعرون به فور أن تطأ أقدامهم شوارعها رغم التعب البادي على الجدران والوجوه. والآن ربما أفهم وأتفهم لماذا رفض صديقي يعرب العيسى أن يغادر دمشق رغم وطأة الحرب وضيق الحال وتحول المدينة في لحظة ما لمجرد مدينة أشباح وعصابات ومافيات سياسة وكبتاغون: إنه حب دمشق.
لكن حب المدينة هذا، وما تمنحه دمشق من إحساس بالدفء لا يكفيان وحدهما لاحتضان المستقبل، فالمدينة تحتاج إلى عدالة عمرانية، تُعالج التفاوتات، وتُعيد الاعتبار لأحيائها المهمشة والمدمرة، وتُدمج الفقراء. تحتاج إلى مساحات عامة تُشبه أهلها، وتُشجع على اللقاء لا العزلة، وتحترم تنوّع المذاهب والديانات والثقافات دون تمييز.
وفي المقابل، على هذا التخطيط أن يتحاشى الحداثة المفرطة التي قد تسرق من دمشق هويتها. نحن لا نريد نسخة من مدن الزجاج والحديد والإسمنت، كما هو حال بعض المدن العربية الخليجية، بل مدينة تُوظّف التخطيط العمراني والتكنولوجيا في خدمة الإنسان، تخطيط وتكنولوجيا ممزوجان بحساسية مرهفة بحيث لا يخدشان رائحة حجارتها العتيقة.
لعل الأهم من كل ما سبق، أن يعود للدمشقيين الحق في الحلم بمدينة تُشبههم، والفرصة اليوم فريدة، لأن نُعيد إعمار دمشق كأنها قصة حب جديدة مع مدينة أتعبناها لكنها لم تتخلّ عنا. أن نربط بين حاراتها القديمة وحداثتها المرجوّة، أن نُصلح أسواقها ومساجدها وكنائسها دون تحويلها إلى مجرد ديكور للسياح. أن نحافظ على نبض الحياة الحقيقي المتواصل فيها، وأن نُعيد المساحات العامة التي تجمع الناس لا تفرقهم، وأن نحترم حق المشي، والظل، والهواء، والماء، قبل أن نُفكر في ناطحات السحاب. نريد مدينة تُصمم للناس لا للسيارات. مدينة تُفتح فيها النوافذ على الحياة، لا على الجدران الخرسانية.
وبكل جدّية وصراحة: إن نجاح إعادة إعمار دمشق لن يكون فقط نجاحاً عمرانياً، ولا قصة نجاح تنموية، ولا مقدمة لجذب السياح والاستثمارات، بل سيكون مؤشّراً على قدرة السوريين على تجاوز المحنة، ودليلاً دامغاً على إرادة الحياة التي لا تفنى، وتفسيراً للسر الذي أبقى هذه المدينة حيّة لآلاف السنين.
العربي الجديد
——————————–
الأغنية السورية الساخرة… طريقة مقاومة في زمن الخوف/ حسن يوسف فخور
27 مايو 2025
السخرية نوعٌ من مقاومة العجز الذي يشعر به الإنسان أمام قوى أكبر من قدرته على السيطرة، وهي طبعٌ أصيل في تكوين البشر وفلسفتهم الخاصة للحياة، والفن الساخر بمفهومه البسيط واحدٌ من أساليب التعبير، ينشط بشكلٍ أساسي في فترات الاستبداد السياسي والتخلف الأخلاقي للمجتمع.
بالرغم من تعدد التجارب السورية على مدى عقودٍ في هذا الحقل إلا أننا لا نجد هويةً واضحةً للأغنية السورية الساخرة، فكيف يقرأ روادها واقعها وتأثيرها في تشكيل الوعي الجمعي؟
يرفض الفنان السوري نوار أحمد تعميم صفة السخرية كونها أحد أساليب الأغنية الناقدة التي تنقسم بطبيعتها إلى الأغنية الواقعية التي تحاكي ظاهرةً ما بكلماتٍ وألحانٍ قد تكون حزينةً، بينما الأغنية الساخرة تقوم على مبدأ “شرّ البلية ما يضحك، أي الكلمة الموجعة التي ترنّ فتطرب وتجرح”، وهي الأكثر انتشاراً في ثقافتنا، يستوردها الجمهور السوري من أعمال زياد الرحباني الذي “لا يستطيع أحد أن يستثني عبقريته”، وإنما الحرب الأهلية اللبنانية “أنتجت المجتمع المنقسم حوله، فهو يساري شيوعي، والحزب الشيوعي كان المقاوم الأول في لبنان، فرّغت له إذاعة صوت الشعب بالكامل؛ ما أعطاه مداً جماهيرياً، وبالإضافة إلى إلمامه بالسياسة، فإنّه يحمل اسم فيروز والرحابنة، هذه الظروف لا تتوفر لأحد”. يقول الملحّن والمغنّي نوار أحمد، معللاً عدم امتلاك السوريين مشروعاً مشابهاً له إلى القرار السياسي.
عانت الأغنية الساخرة في سورية طوال عقود من معوقاتٍ عديدة أبرزها إنتاجية، “روّادها غالباً فقراء، وكون الإنتاج في سورية يرتبط بالرقابة ينصح الشاعر الغنائي من يؤدي هذا النمط “أن يتجاوز الرقابة؛ لأنه مهدد دائماً بالسجن من خلال احترافه اللعب على الألفاظ وإرسال رسائل مشفرة إلى الجمهور، وأن يكون ذكياً بما يكفي؛ لأنه سيصطدم مع جهاتٍ رقابية”، ويؤكّد على ارتباط الأغنية الناقدة عموماً بثقافة المجتمع وظروفه فهي “بطبيعة الحال نتاج حركته، تقارب الفن الواقعي المنتشر حالياً في العالم، كالأغنية الواقعية التي تحتاج حركية مستمرة تستمدها من حركة وثقافة المجتمع وتؤثر به، وهذا كله لا يكفي، بل يحتاج أن “تحمل فكر حزبٍ معين، يقف خلفك لتحقق تأثيراً ما، ثم تأتيك القضية الفنية المشغولة باحترافية، فتنتقل إلى حالة الانتشار العام التي تنجم عن جمالية الكلمة واللحن. وليست الأغنية الناقدة وحدها من خفتت خلال السنوات الماضية في سورية، بل “كل ما هو ثقافي تراجع حتى الدراما السورية التي كانت تقدم أفكاراً وطروحاتٍ على سويةٍ عاليةٍ من خلال النصوص المحبوكة باحترافية، تراجعت على حساب المشهدية. كذلك الأغنية، نحن نكتب ونلحن ونغني من دون أن يُقدَم لنا شيء، الدراما يُقدم لها الصورة على الأقل.
الفترة التي نهضت بها الأغنية السورية هي فترة نهوض الدراما التي أُنتجت خلالها مقدمات موسيقية عالية المستوى، فالدراما هي من تحمل الأغنية لا العكس، وهذا لا ينفي أبداً وجود موسيقيين سوريين رائعين ولهم تاريخهم استبعدوا أمنياً أو سياسياً أو عداوات كار”.
يعترض الفنان أمجد طعمة على مبدأ المقارنة، فبرأيه “الظروف القاسية وحدها لا تكفي لإيجاد تيار فني ساخر له هوية متماسكة”، مستشهداً بحالة زياد الرحباني الذي “لم يكن مجرّد انعكاس لواقعّ قاسٍ، بل نتاج بيئةٍ ثقافيةٍ غنية، سمحت له بالتمرّد الذكي، ووفرت له هامش حريةٍ ولو كان محدوداً، أما في الحالة السورية، غابت الرؤية الثقافية الشاملة، وساد الارتجال، من دون وجود مؤسساتٍ تحمي وتحفّز هذا النوع من التعبير، عشنا قسوة الواقع، لكننا افتقرنا لمشروعٍ ثقافيٍ يترجم هذه القسوة إلى خطابٍ فنيٍ حاد، عميق، وساخر، فالهوية لا تُخلق من الألم وحده، بل من وعيٍ نقديٍ ينظّمه مشروعٌ فنّي تتوفر له أدواته الخاصة ووضعٌ اقتصادي جيد أيضاً للعامل في هذا المجال بما يضمن استمراريته”، وما تزال صناعة هذا الفن مقيدةً “بمزيجٍ معقدٍ من الرقابة والإنتاج برأي الإعلامي أمجد طعمة، إلا أنّ “الرقابة، سواء كانت سياسيةً أو اجتماعيةً أو حتى ذاتيةً، تبقى العامل الأكبر، فالإنتاج يمكن تجاوزه بتكنولوجيا بسيطة اليوم، لكن غياب الأمان الفكري والتعبيري يجعل الفنان يفكر ألف مرة قبل أن يكتب أو يغني، فالرقابة لا تأتي فقط من الدولة، بل من مجتمع لم يعتد على نقد ذاته بصوتٍ مرتفع، أما الإنتاج، فهو متأثرٌ بسوقٍ تجاريةٍ لا تجد في الأغنية الساخرة ربحاً مباشراً؛ لذا تُهمَّش، ويستحيل اليوم بأغنية ساخرة تحريك شيء كما حصل أيام سيد درويش، نحن نستهلك الأغنية الناقدة كمتنفس، لا كموقف وهذا الفرق هو ما يجعل صناعتها لدينا ضعيفة”، فالأغنية الناقدة من وجهة نظر نجم برنامج “غداً قد نلتقي” الساخر “ترتبط بوعي المجتمع؛ لأنها تُبنى على قضاياه، لكنها تؤثر عليه أيضاً حين تُقدَّم بذكاءٍ وجمالٍ وفن، وحين يسمع الإنسان أغنيةً تسخر من الفساد أو العبث السياسي، وتعبّر عن مشاعره بصيغةٍ راقية، تبدأ عملية إعادة التفكير، هذا النوع من الفن يربّي الذوق والوعي معاً. ولكن العمل الساخر يصير، حين يغيب هذا الوعي المسبق، بلا صدى، فالأغنية الناقدة بحاجة إلى جمهورٍ يفهم الكناية، يتذوق السخرية، ويبحث عن المعنى، لا مجرّد نكتةٍ سطحيةٍ”. وهنا يأتي دورها الذي “كان يمكن أن يكون محورياً، لو أُتيح لها أن تُولد من رحم اللحظة، لا من هامشها، الأغنية الساخرة ليست فقط صرخة، بل هي أداة تحليل شعبي، تغني حيث يعجز التحليل الأكاديمي، في سورية بعد الحرب، صار الصوت الساخر محاصراً بين الخوف من السلطات، والتوجّس الشعبي من كل ما يبدو تهكماً على ما سموه المقدّس الوطني، فخفتت الصرخة؛ لأن من يطلقها لم يعد يملك منبراً ولا جمهوراً آمناً، لكنها ما زالت ضرورة؛ لأن الوعي السياسي لا ينشأ فقط من الخطاب الجاد، بل من تفكيك السائد بنبرةٍ ساخرةٍ ومؤلمةٍ في آنٍ معاً خصوصاً وأنّ السخرية أفضل طريقةٍ لمواجهة قبح الحياة”.
ويقف الممثل والمخرج المسرحي مناصراً للموسيقا السورية، فيقول أنّ “الجملة الموسيقية السورية ساحرةٌ وعاطفية، لكنها غالباً ما ارتبطت بالطرب والوجدانيات، لا بالنقد والسخرية”، مؤكّداً أنّ هذا العجز “ليس في الموسيقا ذاتها، بل في عدم استثمارها ضمن قوالب جديدة تعبّر عن اللحظة الساخرة، وحتى حين وُجدت محاولات، (مثل سلامة الأغواني، رفيق سبيعي، ياسر العظمة، ومحمد خير الجراح) لم تُدعَم كفاية، ولم تُمنَح المساحة الكافية لتتطور، الأغنية الساخرة تحتاج موسيقا ذكية، تُبنى لتخدم النص، وليس العكس، وربما السبب الأعمق في عجز الجملة الموسيقية السورية عن النهوض بواقع الأغنية الساخرة هو أنّ الكثير من الموسيقيين السوريين فضّلوا السير في درب الحنين بدل التمرد، فبقيت الموسيقا رهينة الجمال لا القلق، على أمل أن يجد المستقبل أغانينا الساخرة التي قدمناها وينصفها”.
يرى الفنان محمد خير الجرّاح أنّ امتلاك هوية خاصة بمجال الأغنية الساخرة “معقدٌ قليلاً ومتعلقٌ بالظرف العام للبلد، إضافةً إلى عدم وجود منصات تتبنى عرض هذه المشاريع”، فالظرف العام لدينا، ليس السياسي فقط بل حتى الإعلامي والاجتماعي، لم يكن يساعد على تسليط الضوء على هذه المشاريع. مساحة الحرية هي الأهم حتى تستطيع إنتاج الأغاني التي تلامس الوجع الحقيقي للناس وتنقل الصور الاجتماعية على حقيقته، لكن العائق الإنتاجي لا يقل صعوبةً، فالسواد الأعظم اليوم يذهب باتجاه الأغاني المسلية كالحب والمشاعر، وفي حال انتاج أغنية في النقد، فتضيء على قصص سطحية، أو موضوعات هامشية، ليست بالعمق الذي كانت تعالجه أغاني منتصف القرن العشرين، ما يؤكّد أن “المشكلة إنتاجيةٌ بالدرجة الأولى؛ لأن مثل هذه الأعمال لا تحقق أرباحاً لشركات الإنتاج، هذا الفن نوعٌ من الترف الفكري وليس للإنتاج المادي، لا يغلق حجوزات المسرح، وحتى أولئك الذين كانوا يحيون مثل هذه الحفلات انكفؤوا اليوم أمام الأغاني الضحلة”، وهنا لا يقصد صاحب أغنية “الجو العام” أنّ “جميع الأغاني التي تنتج الآن كذلك، فهناك أغاني عديدة تصور المشاعر بأسلوبٍ جميلٍ وجيدٍ ولها جمهورها أما قطاع الأغاني الناقدة فيحتاج إلى تبنٍ حقيقي، وهذا غير موجود للأسف”، وأول من غاص في هذا البحر هو “سيد درويش الذي فتح الأبواب وكسر القواعد، وانتقل بالاغنية العربية من مفهوم لمفهوم، ومن موضوعات لموضوعات، فشكّل ثورة في مجال الغناء، ودوره، وكان جزءاً من نبض الشارع الذي يعكس أوجاعه من خلال أغانيه، هذه الحالة في عالمنا العربي نادرةً مقارنةً بأوروبا التي تذهب الكثير من أغانيها نحو موضوعات بعيدة قد تمس الفكر أوالعلاقات أو علم النفس، بينما السواد الأعظم من أغاني السوريين لا يزال تدور في فلك المشاعر، فالمغني السوري لم يعد ابن شارعه، بل انسلخ عنه ونزح خارجاً، فابتعدت أغانيه عن نبض الشارع، خاصةً في ظل الظرف العام الذي مرّت به سورية خلال 14 سنة الذي ساده التخبط والانقسام في الوسط الفني، والتي غابت خلالها الأغنية السورية عموماً حتى الأغاني العاطفية على حساب الأغنية الجبلية أو الساحلية التي تحظى بجماهيريةٍ كبيرةٍ في لبنان أيضاً، ولم تعد الأغاني تنتج بذات الجودة التي كانت تتصدر الشاشات والإذاعات سابقاً، خاصةً الساخرة منها، وراح الفنانون ينفخون في بوقٍ معطل، وإن ذهب أحدهم إلى الأغاني الناقدة اليوم فيعالجها بطريقة سطحيةٍ غالباً، والتي على الرغم من بساطتها تحتاج إلى ثقافةٍ وفكرٍ يجب إعماله، فإذا ما حظيت بالدعم الإنتاجي الكافي، فإنها تنتشر بين الناس وتجد صدىً لها، فتقوم بدورها، لكن هناك ناس لا تسمع ولا تريد الناس أن تسمع، فإذا بحث في سجل أسماء مثل: نهاد نجار، فتحي الجرّاح، صفوح شغالة، مضر شغالة، خالد حيدر وغيرهم، ستجد عدداً كبيراً من الأغاني الناقدة الساخرة التي كانت تسلّط الضوء على الظواهر السلبية في المجتمع والسياسة، لكنها لم تجد الطريق الى الشهرة”، ويرفض تحميل الموسيقا هذا التقصير، قائلاً: الجملة الموسيقية لم تعجز عن النهوض بواقع الأغنية السورية لكنها منكفئة على ذاتها، لا يمكنك أن تلوم الموسيقيين الذي يبذلون جهوداً جبارة.
استحضر الشاعر حيان حسن قول الصحافي ومؤسس الصحافة الساخرة يوسف كحالة؛ إثر توقف مجلته “المضحك المبكي ” إنّ الحكومات العربية اجتمعت على اغتيال الصحافة الساخرة؛ لأنها تتعارض مع توجهاتهم، وهذا ينطبق بالطبع وفق قراءة صاحب ديوان “ضحك وبكي” العامي على “كل فنٍ ناقدٍ ساخرٍ بما فيه الغناء، خاصةً في مجتمعٍ يفتقد حرية التعبير والانتقاد إلا من خلال الرقابة الصارمة”، فمشكلتنا اليوم إنتاجيةٌ ورقابيةٌ معاً؛ إذ لا يمكن لجهةٍ إنتاجيةٍ أن تغامر وهي التي تعتمد في عملها على الربح والخسارة بعملٍ تمنعه الرقابة، هذا عبءٌ عليها، ظاهرة الشيخ إمام فردية وليست مؤسساتية، والحالات المماثلة له في سورية لم تخرج من نطاقها الضيق، بالرغم من الارتباط الوثيق بين ثقافة المجتمع والأغنية الناقدة، وهنا تكمن خطورتها بالنسبة للرقابة السلطوية؛ لأن الفن الساخر أساساً مهمته مواجهة الواقع، والموسيقا لم ولن تكون عاجزة يوماً ما، لكن تطويع الجملة الموسيقية باتجاه الغناء الساخر والهادف يحتاج إلى مناخٍ من الديمقراطية بعيداً عن التخوين والتخويف والرقابة على حرية الإبداع.
يؤكّّد المايسترو نزيه أسعد أنّ “المحاولات لم تتوقف من قبل بعض الكتّاب والملحنين والمؤدين؛ لإظهار دور الأغنية الساخرة في السنوات الأخيرة”، فكانت له تجربةً من خلال حفلات خاصة بهذا الشأن مثل (مهرجان الكاريكاتور في دار الأوبرا بدمشق) قبل عدة سنوات، وكان أستاذ المعهد العالي للموسيقا يأمل “نضوج هذا المشروع الذي خاطب شريحة الناس العامة، لكنه لم ينضج بسبب ضعف التسويق والانتشار والاهتمام الإعلامي، حاله حال الأعمال الفنية الساخرة، نتيجة غياب الجهة الإنتاجية، علماً أنّ المادة التي يمكن طرحها في هذا الشأن متوفرةٌ كلاماً ولحناً وأداءً، وكلنا ينتظر المسار الثقافي الذي يمكن أن يتبنّى هذه الأعمال وغيرها من أعمالٍ تهم المشهد الفني في بلدنا، فالنهوض بالأغنية الساخرة يحتاج إلى المشجعين والمهتمين والشريحة الشعبية التي تنصت وتفهم، وهذا ليس مستحيلاً؛ لأن بلدنا شهدت سابقاً تجارب ناجحة في هذا المجال مثل تجربة سلامة الأغواني وغيره ممن عملوا في فن المونولوج الشعبي، علماً أنّ الجملة الموسيقية آنذاك كانت تلعب دورها وتنتشر.
يتفق رواد الأغنية الناقدة على ضعف تأثيرها في ظل غياب عامل الإنتاج الذي فرضته الرقابة السياسية بالدرجة الأولى، والتي نجحت بإبعاد الجمهور عن عروضها؛ ما ضيّق عليه، وحدّ من انتشاره، وهمّش دوره في المساهمة بتشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي.
العربي الجديد
————————————–
الثرثار/ يعرب العيسى
27 مايو 2025
إحدى الصفات التي لم ينتبه إليها معلمنا الكبير ابن خلدون في توصيفه علم التاريخ، أنه ثرثار أيضاً، فالتاريخ من ذلك النوع الذي لا يستطيع الاستعانة على قضاء حوائجه بالكتمان، وينثر هنا وهناك إشاراتٍ واضحة عمّا ينوي فعله، ربما يكتم متى سيفعل ذلك، ومن بالضبط سيكلف بتنفيذه، لكنّه يقول دائماً: هذه الحرب ستنشب، هذه الحرب ستبرد، سأنهي هذا النظام، سأمزق هذه الدولة إلى دويلات، سأذيب القطب الشمالي، وربما أثقب الأوزون في الطريق إلى ذلك…
في العامين الأخيرين من عمر نظام الأسد، غمزنا التاريخ مرّات كثيرة، ذكّرنا بما جرى في السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، وبما جرى قبيل انهيار المماليك، وبما يفعله بشّار، الذي جعل القصر تحت حكم الجواري، وسلّط السفلة على أعناق الناس، وسّع السفربرلك، ورفع الإتاوات وسعّر الخبز، أعدم الأصوات الوطنية، وفوق ذلك كله، انحبس المطر، وأرسلت إلينا الطبيعة سرب جراد.
في أواخر صيف 2023، كنت أمشي ليلاً في دمشق رفقة الصديق الراحل خالد خليفة، وكنا ننبّه بعضنا إلى علامات الاحتضار في الجدران ووجوه الناس وبلاط الرصيف. كان كل شيء في المدينة يوحي بأنها الحلقة الأخيرة، ليلتها كتبت:
لا أعرف لحظة فارقة في التاريخ إلا ويمكن البدء بوصفها هكذا: … ثم ظهر فلان فالتقط اللحظة. وبدل فلان يمكن قول: معاوية، عبد الملك، المنصور، محمد الفاتح، إيزابيلا، جورج واشنطن، لينين، الخميني، عادل إمام، بيل غيتس، بوتين، كوداك، ياهو، تشرشل…
في الشوارع ووجوه الناس، أرى بأم عيني لحظةً تبحث عن مُلتقِط، لحظةً تليق بمنذور.
كانت تلك النتيجة واضحة لكل واثق بالتاريخ. وأظن ما جرى، وكيف جرى، تعطينا المزيد من الثقة بالتاريخ، وبثرثراته المتدافعة حول ما ينوي فعله.
اليوم يخبرنا أنه أعطانا فرصة، ولكنه يغمز أنها قصيرة، ومحدودة ووحيدة، وفي بعض إشاراته يكاد يقول لنا: إنها الأخيرة فالتقطوها. والمنذور هذه المرّة جميعكم معاً.
لم يضجر منّا، وما زال، بكل حنّو، يزيل الألغام من طريق الفرصة التي منحنا إياها، ولكن لا أحد يعرف إلى متى سيستمر بذلك، وما هو الحدث الذي قد يفعله أي واحد منّا، ويجعله يغضب ويقول: انتهت الفرصة، لم تستحقوها.
رغم كل ما يظهر على السطح الآن من شعبوية وعنف وطائفية ولغة ثأرية ودعوات انقسام، ما زلت أثق بمنطق التاريخ، لذلك ما زلت أثق بالسوريين، وأؤمن أن الحفر في عمق المجتمع السوري سيظهر وجهاً معاكساً تماماً لنوبة التوتر التي تعصف به الآن.
حتى أولئك الغاضبين الذين ترتفع أصواتهم في وجه المخالفين لهم، يفعلون ذلك، بدافع غيرتهم وحرصهم على بلد اسمُه سورية، صحيح أنهم يفعلونها بالطريقة السيئة، وبمحاولة فرض ما يرونه صحيحاً، دون أن يعطوا أنفسهم الفرصة للنظر مجدداً في ما يقولون، وترك المجال مفتوحاً أمام احتمال بعض الصواب في الرأي المخالف لهم.
يحدث ذلك في مرحلة بالغة الحساسية، لذلك لا يمكنني التعامل معها إلا أنها مؤقتة، وأنها نتاج المرحلة. وستتغير الأحوال بتغير الأحوال، سيتغير الواقع بتغير انتباهنا لمسؤوليتنا جميعاً اتجاه كل كلمة وكل فعل وكل نظرة، وبالتقاطنا لإشارات التاريخ، القدر، الذي أعطانا فرصة.
سنعبر هذه الأيام العصيبة، ستعقل تلك الأصوات المجنونة، سنعمّر هذا البلد مجدداً، سنعمره معاً.
سننجو. أخبرني الثرثار بذلك.
————————-
شيء عن المثقف والسلطة/ رباب هلال
27 مايو 2025
يحار المتابع لوسائط التواصل الاجتماعي إزاء الوله بتأييد الحاكم حدّ التشبيح، حتى نخال أن أمسنا بأبواقه يحطّ في يومنا. والتهم جاهزة، سابقاً وحاليّاً. تهم ثنائيّة إقصائيّة أو استئصاليّة للرأي الآخر. وأخصّ بالذكر الماجدون والماجدات من النخبة الثقافيّة.
يقول الباحث هاشم صالح: “كلّ مثقّف يتحدّث بصراحة عن الأمراض أو الرواسب التي يعاني منها الشعب يعتبرونه ضدّ الشعب.” فما بالنا أنّ موقف السلطة الجائر هذا، يطلق مدعوماً بأصوات مثقّفين متنوّعين، بعضهم اكتفى بأن كان معارضاً للنظام الآفل، ليظهر مؤيّداً للسلطة الانتقاليّة بعجرها وبجرها. موال آخر اختار الصمت المطبق إزاء الظلم السابق، لينطلق صوته صاخباً بتمجيد العهد الجديد، وأحياناً مهاجماً شرساً للصوت المختلف. وصنف آخر من المتحمّسين الجدد انخرطوا في العمل في النقابات والاتحادات، بعد تعيينهم وفق قرارات سياسيّة.
لطالما انشغل الأحرار من المفكّرين بتعريف المثقف ودوره، وعلاقته بالسلطة السياسيّة. وأجمعوا على ضرورة التزامه بصوت الشارع ونبضه، صوت ضحايا الاستبداد والفساد، والاستغلال والحروب. وتبعاً لسارتر، فإنّ “المثقّف هو موقف وليس مهنة”. وبحسب القول الشائع “الإنسان موقف”. وإذاً، ما ينطبق على عامّة الناس لا ينطبق على النخبة، النخبة التي عليها امتثال صوت الناس.
أن يكون خيار المثقّف الصمت أمر جائز، على الأقلّ من باب احترام حريّة الأفراد، بل قد يكون صمته، شرط انتفاء أيّ نزوع لديه لتحقيق مآرب شخصيّة، خياراً أكثر أخلاقيّة. أمّا أن يكون صمت المثقّف عن جرائر السلطة، لمطامع ومكاسب شخصيّة، ففي ذلك صمت عن الجرائم والانتهاكات بحقّ الشعب، بل الإقرار بها أحياناً بغية تبريرها مثلاً، فيصبح هنا مشاركاً لها. أو أن يدعو مثقّف لوجوب النظر إلى الواقع مثله بعينين، ادّعاء منه بتوخّي الموضوعيّة والمنطق وإجهار الحقيقة، وهو الساعي لتحقيق مكاسب خاصّة، وأجاز لنفسه بأن يكون أحد أبواق السلطة في الآن ذاته، فإنّنا نجده يستنكر جريمة أو انتهاكاً ما عبر التشكيك بحدوثه، وطرح التساؤلات حول كيفيّة حدوثهما، أو اتهام قائليه بالمبالغة المغرضة، وبذلك يشوّه أنصاف الحقائق أيضاً. وأحياناً يتجاهل، ويغفل عن ذكر بعضها. وفي هذا أيضاً نفي مبطّن لوقوعها، في إصرار دائم على أنّه يجسّد صوت الحقيقة، وبالتالي صوت الناس عامّة، حدّ استغبائهم إحساسه بالتفوّق عليهم معرفيّاً وثقافيّاً. وكيقظة حارس أمين للسلطة، يهاجم معارضيها، إلى درجة أنّه لا يتورّع عن مهاجمة رموز وطنيّة كانت دفعت أثماناً باهظة لأجل حريّة الشعب وكرامته. ثمّ سيتبيّن بشكل فاضح أنّ دعوته الآخرين إلى النظر بعينين إنّما هي دعوة إلى النظر بعينيه هو. يقول إدوارد سعيد: “مهمّة المثقّف تتطلّب اليقظة والانتباه على الدوام، ورفض الانسياق وراء أنصاف الحقائق أو الأفكار الشائعة. ولا يصحّ أن يكتفي المثقّف بتأكيد أنّ شعباً ما قد سلبت أملاكه، أو تعرّض للظلم أو للمذابح، أو لإنكار حقوقه ووجوده السياسيّ، بل عليه أن يربط بين تلك الفظائع وبين ألوان المعافاة المماثلة لغيره من البشر، ولا يعني هذا أطلاقاً أيّ انتقاص من الخصوصيّة التاريخيّة، لكنّه يحمي الناس من تعلّم درس ما عن الظلم في مكان ما ونسيانه أو انتهاكه في مكان آخر”.
كيف يكون المثقّف معارضاً لظلم ومؤيّداً لظلم آخر، كيف يكون المثقّف عبداً ويطالب بالحرّيّة؟ فالمواقف الأخلاقيّة والإنسانيّة كالشخصيّة لا تتجزّأ إطلاقاً. والظلم هو الظلم. … فأيّ خير في بلاد، فيها قتيل أو جريح، وبائس، ونازح ومهجّر، معتقل رأي، وطالب حُرم من حقّه في التعليم، دمعة أمّ وأب تسيل، مخطوفون ومغيّبون في المجهول، بلاد تستجدي العدالة، وما تزال.
العربي الجديد
—————————-
سورية العظيمة وبريطانيا العظمى/ عدنان عبد الرزاق
27 مايو 2025
لا شيء يثير شهية السوريين وأصحاب الأعمال كما الخصخصة. كما لا شيء يخيفهم كما التأميم، بعد أن دفعوا بذريعته أثماناً باهظة وكبدّت سورية تراجعاً وفساداً وتهجيراً للرساميل، بعد أن كانت رائدة في الخدمات المالية والإنتاج مطلع خمسينيات القرن الماضي.
ولعل قصة ثوب الملكة إليزابيث الثانية ليلة زفافها على دوق إدنبرة فيليب مونتباتن عام 1947، المصنوع من البروكار الدمشقي، رواية يتغنى بها السوريون حتى اليوم، للدلالة على تطور الصناعة وأين كانوا قبل التأميم، وإلى أين وصلوا بعده وخلال حكم البعث وتسمية القطاع الحكومي بالريادي والخاص بالطفيلي.
بيد أن ثمة مغالطة تاريخية يقع فيها كثير من السوريين، وهي اتهام جمال عبد الناصر وزمن الوحدة مع مصر بطامة التأميم، وإن بزمن التأميم، كانت الضربة القاصمة عبر القانون 49 لعام 1959 وقت جرى تأميم شركات صناعية كبرى “الخماسية والشهباء”، فضلاً عن خمسين بالمئة من شركات كبرى، أبرزها المصارف.
لأن التأميم في سورية سبق تأميم قناة السويس بخمس سنوات والوحدة بثمان، فالدستور السوري لعام 1950 نص على: “تؤمم الدولة كل مؤسسة أو مشروع يتعلق بالمصلحة العامة”، والقانون رقم 85 لعام 1951، أمم شركة الحافلات الكهربائية “الترام” والكهرباء والمياه ومن ثم، السكك الحديدية والتبغ وصولاً إلى تأميم البنك المركزي “بنك سوريا ولبنان” عام 1956.
ولكن، حكم “الجمهورية المتحدة” حتى الانفصال عام 1961 عزز التأميم والفكر الاشتراكي، بعد أن راقا لحكام “البعث” ووضعهم الاشتراكية ضمن أهداف الحزب ومحاربة البرجوازية الصناعية والاقطاعية الزراعية.
ومن يدرس تاريخ الاقتصاد السوري الحديث، سيرى أن الضربة الكبرى كانت جراء التأميم، ويكتشف أن جل الرساميل المهاجرة كانت خلال الوحدة وما سميّ بهتاناً “ثورة آذار عام 1963” وقت تسلّم البعث الحكم، ولم يتركه حتى تحرير سورية في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.
الأرجح أن المشكلة ليست في القطاع الحكومي بقدر ما هي في إدارته وفي المجال الذي دخل فيه، فأن يحوّل البعث ومن بعده حافظ الأسد القطاع الصناعي برمته، حتى المناديل والعلكة، إلى قطاع عام، ويحرّم، حتى عام 1991، على القطاع الخاص الاستثمار الصناعي وحتى عام 2004 القطاع المالي، فهذا تعدى النهج ودخل في طور السيطرة والنظر إلى الاقتصاد باعتباره ملكيةً خاصة ًأو مزرعةً للحاكم، خاصة في حالة كما السورية، حين توزعت المواقع على حسب الولاء، وتحوّل السوريون بما فيهم العمال من مواطنين إلى رعايا.
الأمر الذي أرهق الدولة وأفقد الموازنة العامة أهم مواردها، فوائض المؤسسات الحكومية، وبدأت تموّل العجوزات والخسائر من عائدات النفط وحساب المشروعات بالشق الاستثماري في الموازنة العامة.
إلى أن جاء ما يمكن وصفه بالتحول الأهم، وهو قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991، وقت استشعر حافظ الأسد انهيار الاتحاد السوفييتي وفشل التجربة الاشتراكية بشكلها الاحتكاري، وأتعبت الدولة خسائر القطاع الحكومي جراء ترهله ودخوله صناعات صغيرة، ولمسة أخيرة لأسباب مرحلية وأيديولوجية وليس اقتصادية، فأصدر أول قانون سمح بموجبه للقطاع الخاص الصناعي بتأسيس الأعمال والشركات، من دون أن يتجرأ على قرار خصخصة أو إبعاد الصناعات المماثلة في القطاع الحكومي “علكة، رب البندورة، مناديل، دهان، أعواد كبريت وأقلام رصاص”، أو يمنح القطاع الحكومي أي فرصة لمنافسة الخاص المتحمس، فأبقى على البطالة المقنعّة وقدم الآلات ورداءة الإنتاج، لتصحّ مقولة القطاع العام مخسّر وليس خاسراً.
قصارى القول: بدأ بشار الأسد الذي ورثّ الحكم عن أبيه عام 2000 بعض الخطوات الحذرة في الخصخصة، ووصلت، بواقع إرضاء حلفائه في موسكو وطهران وبحال سعيه وأقربائه للتملك، إلى قطاع الاتصالات وتوليد ونقل الكهرباء، لكنه لم يتجرأ على إصدار تشريعات وقوانين تنهي القطاع الحكومي الخاسر، بل أبقى على منافسة عرجاء، زادت من الأعباء وأرهقت خزينة الدولة.
لذا، ومذ جاء الحكم الجديد لسورية، بدأنا نسمع عن خصخصة واسعة وخطط جريئة، تطاول القطاع الصناعي والخدمي وحتى المالي، فيما يخشى أن يكون رد فعل على حقبة سابقة وأداء مشبوه، أو حتى إرضاء للداعمين وتلبية لشروط الدائنين.
والخشية، لأننا لم نر قانوناً ووضوحاً قبل تعهيد شركات، عربية ودولية، لموانئ وربما نفط واتصالات، وقبل تصريحات غير مسؤول، كان أولهم وزير الخارجية أسعد الشيباني، حينما كشف بعد أقل من شهرين على تحرير سورية، لصحيفة ” فاينانشال تايمز” عن “تخطيط الحكومة لخصخصة الموانئ والمصانع المملوكة للدولة، بهدف تعزيز الكفاءة الاقتصادية وجذب الاستثمارات الأجنبية والتجارة الدولية في إطار الإصلاح الاقتصادي”.
لأن الخصخصة، وكي تأتي أكلها ولا تكون تبديداً للمال العام وحقوق الشعب، لا بد أن تأتي على مراحل، تحلل خلالها الأصول والتقييم المالي، قبل أن تصدر لها التشريعات العلنية والمناسبة، ومن ثم التوافق على شكل التخلي عن القطاع الحكومي أو بعضه، سواء عبر الشراكة مع القطاع الخاص أو الطرح للاكتتاب العام أو بيع الأصول.
وكل ذلك، من دون أن ندخل في جدلية الخاسر أو المخسّر وضرورة بيعه أو إصلاحه، أو أن نسأل عن مصير العمالة أو ما يمنحه بعض القطاع الحكومي من سلع رخيصة ومنتجات مكفولة، أو نتمادى لنسأل: ترى من سيشتري القطاع الحكومي السوري المتهالك، إلا إن كان بقصد مليكته موقعه، إذ يعرف السوريون أن شركات القطاع الحكومي تقلع عين دمشق وتتمركز في أهم المناطق السكنية والسياحية.
نهاية القول: ربما بمقولة المنظّر البريطاني الشهير أنطوني ستافورد بير “الغرض من أي نظام هو ما يقوم به” تكثيفاً واختصاراً لجدل كبير يجوز فيه الوجهان، فالعلة ليست في القطاع الحكومي دائماً، كما النجاة والتطوير ليسا في القطاع الخاص شرطاً.
أو نرمي إلى أبعد ما كثفه منظّر الأنظمة الإدارية ستافورد بير أن تملك الدولة بعض القطاعات حاجة وضرورة، كما في العديد من الدول الليبرالية، كالكهرباء والسكك الحديدية في فرنسا، أو الاتصالات في ألمانيا أو حتى جنرال موتورز في الولايات المتحدة، المساهمة اليوم بعد أن كانت حكومية.
بل ومن بريطانيا العظمى المثال الأحدث، فالمملكة المتحدة التي قادت الخصخصة واختطت نهجها عام 1979 أيام مارغريت تاتشر، عادت عن الخصخصة المطلقة أول من أمس الأحد، حين حولت شركة “ساوث وسترن رايلويز” لتشغيل القطارات إلى الملكية العامة، ضمن خطة حكومة حزب العمال لإعادة تأميم قطاع السكك الحديدية المتردي وربما لاحقاً قطاعات أخرى.
وهذا لا يعني الإطلاق بالحكم على تجربة الخصخصة، إذ في تركيا الجارة، لم يتحقق النمو والرفاه وتدخل مصاف الدول الصناعية قبل مجموعة العشرين، إلا بعد الخطوة الجريئة لمؤسس حل الخصخصة تورغوت أوزال التي تابعها الرئيس الحالي رجب طيب اردوغان.
وربما القرب والهوى السوريان اليوم يجعلان التجربة التركية هي الأنسب للاقتداء بواقع بقاء الدولة على بعض الإنتاج والرقابة وحفظ حقوق المستهلكين والعمال، إلى جانب فتح الباب لرأس المال الأجنبي، ليكون العامل الأهم في تحقيق الحلم الاقتصادي.
العربي الجديد،
——————————–
نساء سورية وظلّ السلطة الطويل/ سمر يزبك
27 مايو 2025
في رواية “نصف شمس صفراء” (ترجمة وتقديم فاطمة ناعوت، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009)، للنيجيرية شيماماندا نغوزي أديتشي، تنفتح الحكاية على نساءٍ يواجهن الحرب داخل بيوتهن وخارجها. الحرب بالنسبة لهنّ ليست مجرّد معركة عسكرية، بل اختبار يومي لمعنى البقاء: بين المطبخ وغرف النوم، بين الرعاية ومواجهة الجوع. البطلات في الرواية لسن مجرّد شريكات صامتات، بل يقُدن الحياة في أشدّ لحظاتها هشاشة. ومع ذلك، حين يبدأ رسم خريطة الدولة الجديدة، يُعاد طيّ أصواتهن لصالح لغة ذكورية تُعيد تعريف السياسة من دون الالتفات إلى من صنعن شروط البقاء. تُحافظ أديتشي بأسلوبها الدقيق على توتّر سردي يُعرّي كيف تذوب أدوار النساء في لحظة إعادة بناء السلطة.
في فيلم “معركة الجزائر” (1966)، للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو، نرى نساءً يملأن الأسواق بالأسلحة والرسائل. يخفين الثورة تحت ثيابهن اليومية، ينسجن شبكةَ مقاومةٍ لا تظهر في نشرات الأخبار. ومع ذلك، حين تتوقّف البنادق، لا يُترك لهن مكانٌ على طاولة القرار. الفيلم، بحساسية بصرية لافتة، يكشف كيف يصبح جسد المرأة وحيّزها الخاص ساحةً للمعركة، لكنّه أيضاً أوّل من يُعاد إخضاعه حين تُرسم ملامح النظام الجديد.
هاتان التجربتان (في الأدب والسينما) تكشفان نمطاً متكرّراً: النساء جزءٌ أساس من لحظة المواجهة، لكنّهن يغيّبن حين تُعاد كتابة المعاني السياسية والاجتماعية. هذا التلاشي ليس مجرّد خوف أو صمت، بل نتيجة نظام يعيد بناء نفسه في الظلال، فتُختَصر النساء في أدوار رمزية تخدم وحدة الجماعة، من دون الاعتراف بصوتهن فاعلاً مستقلّاً. يتكرّر هذا النمط بوضوح اليوم في سورية. النساء اللواتي خرجن إلى الشوارع وهتفن حين صمت كثيرون، وجدن أنفسهن فجأةً محاصراتٍ من جديد. بدا وكأن الثورة فتحت نافذةً لتوسيع فضاءات الحرية، لكنّ ما حدث بعد سقوط النظام كشف أن هذه النافذة أُغلقت بسرعة. تقلّصت الحريات الخاصّة (حرية البيت، حرية الجسد)، ومعها تقلّص دور النساء في السياسة. ليست القضية فقط في إبعاد النساء عن مواقع القرار، بل في إعادة تشكيل حياتهن اليومية وفق مقاسات جديدة. وفي هذا السياق، تكرّرت أنباءٌ عن حوادث اختطاف فتيات سوريات من الطائفة العلوية، لتكشف وجهاً آخرَ من أوجه العنف ضدّ النساء. لم يكن هذا الفعل في حال ثبوته مرتبطاً أبداً بالمساومة المالية أو الضغط السياسي، بل بدا الخبر، في حدّ ذاته، بمعزل عن صحّته في حالاتٍ كثيرة، اعتداء، مجرّد استسهالٍ فجٍّ للتعدّي على أجساد نساء لا يحميهن أحدٌ في تلك اللحظة. لم يكن هذا الاستسهال معزولاً عن جوهر الحرب: حين تتفكّك الضوابط، يظهر العنف ضدّ النساء فعلاً سهلاً يتجاوز الضرورة إلى شهوة السيطرة الجسدية. ورغم أن الضحايا المفترضات ينتمين إلى طائفة بعينها، إلا أن استمرار هذه الآلية بنشر الخبر وردّات الفعل الباهتة حيالها، يهدّد جميع النساء السوريات، لأنه يكشف هشاشة الحماية المفترضة، ويفضح أن جسد المرأة هو أوّل مساحة تُستباح حين تغيب القوانين ويُعاد تعريف الهُويَّة وفق توازنات جديدة.
هنا، لا يمكن فصل تراجع النساء عن المشهد السياسي، عن انكماش الحريات الخاصّة، وعن تسييس العنف ضدّ أجسادهن، لأن البيت والجسد هما المساحة التي يُعاد فيها إنتاج السلطة الرمزية، وحين يُفرض الصمت أو يُمارس الخطف سلاحاً، يصبح تهميش النساء في السياسة نتيجةً حتميةً. الجسد الأنثوي، الذي كان رمزاً للتحدّي في زمن الثورة، أُعيد تعريفه موضوعاً للمراقبة والسيطرة. ومعه، تحوّلت السياسة فضاءً مغلقاً على الرجال وحدهم. ما يحدث في سورية اليوم ليس مجرّد “إقصاء للنساء”، بل إعادة إنتاجٍ لشرعية السلطة عبر تطبيع العنف ضدّهن. في زمن الثورة، بدا كأنّ النساء يكتبن نصّاً جديداً عن الحرية، صارت مشاركتهن الآن تُختصر في صورٍ محدودة (أم شهيد، أرملة بطل)، بينما يُعاد رسم قواعد اللعبة السياسية في غرف مغلقة.
العربي الجديد
————————————
برج ترامب في دمشق.. ما الذي تحته؟/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/05/27
ما أن أعلنت واشنطن، مساء الجمعة، عن تعليق واسع للعقوبات على سوريا، حتى جرى على نطاق واسع تداول خبر بناء برج ترامب في دمشق. الأكثر “تفاؤلاً” تداولوا أنه سيكون البرج الأعلى في العالم، أما “الواقعيون” فأوردوا في الخبر اسم مستثمر بعينه هو الذي حصل على ترخيص من الشركة الأم وموافقة دمشق على البناء، بارتفاع 45 طابقاً. ومما يجعلنا نتوقف عند هذا أن عودة الحديث عن برج ترامب معطوفة على ما كان قد تداوله الإعلام في التكهنات قبيل اجتماع بين ترامب والشرع، حيث قيل إن الثاني سيستثير شهية الأول العقارية بمشروع برج في دمشق، ينضم إلى سلسلة الأبراج التي تحمل اسمه في العديد من مدن العالم.
الذكاء الاصطناعي تكفّل باقتراحات وتصاميم جرى تداولها للبرج العتيد، سواء من حيث الموقع أو الشكل العام أو الارتفاع. وفي الصور المتداولة يظهر البرج ضمن بقعة تمت معالجتها فنياً بما يتناسب معه، بينما بقيت دمشق على حالها كما هي في الصور الأصلية المعالَجة. هكذا يبدو الأمر شديد السهولة، وفي حده الأقصى لا يكلف سوى استملاك الأراضي وهدم الأبنية في بقعة ما، ثم إشادة البرج بسرعة حسب الأخبار المتفائلة، وتكون دمشق قد لحقت بدبي أو سنغافورة.
لن نتوقف هنا عند موضوع الطابع العمراني التقليدي لدمشق، وما إذا كان مناسباً تحويلها إلى مدينة أبراج. الأسئلة التي لها الأولوية تتعلق بواقعية الحديث عن إنشاء أبراج حالياً، سواء في دمشق أو حلب أو أية مدينة سورية. فالتسرّع، واستسهال الأمر، بعضُه مفهوم على قاعدة رغبة لدى السوريين في رؤية البلد قد استعاد عافيته، وأصبح يضاهي بلداناً أخرى على صعيد العمران. إلا أن الاستسهال ينطوي في جانب مهم منه على عدم إدراك الواقع الحالي المتردي بعد عقد ونصف من التدمير، وأيضاً بعد نصف قرن من الأسدية التي يُقال الكثير في هجائها، لكن من دون وعي شامل لأبعادها.
مما يتبادر إلى الذهن مثلاً هي ملائمة أنظمة الصرف الصحي في دمشق لإنشاء برج يرتفع 150 متراً، وفق أدنى التقديرات. فأي مقيم في المدينة، وغيرها من المدن السورية، لا بد أن يكون قد صادف يوماً متاعب شبكة الصرف الصحي التي بالكاد تتحمل الأبنية الحالية، بعدد محدود من الطوابق لا يضغط على التمديدات في نقطة بما يفوق استيعابها.
على صعيد متصل، شبكة الصرف الصحي الحالية، على علاتها، مناسبة لنمط استهلاك فقير. فمن المعلوم أن حصة الفرد من الماء في سوريا هي تحت معدل الفقر العالمي بمقدار الثلث تقريباً، ومدينة دمشق على نحو خاص تعاني شحّاً من المياه، ومعدل استهلاك الفرد منخفض جداً بسبب هذا الشحّ. وسيكون مضحكاً تخيّل إقامة برج من هذا النوع، بينما تصعب تغذيته بالمياه اللازمة، خصوصاً أن النمط السياحي المفترض لن يكون منضبطاً بالتقنين الإجباري الذي اعتاد عليه أهل المدينة مع شحّ المياه في العقدين الأخيرين.
بالطبع، في حال تأمين المياه يجب توفر الكهرباء لضخها، إلا أن مشكلة الكهرباء ليست عائقاً مع إمكانية استخدام مولِّدات خاصة بالمنشأة. لكن مع الكهرباء تبقى الخشية ماثلة من حدوث ماس كهربائي، وقد يتسبب بحريق كبير في الطوابق العليا مثلاً. الاحتمال غير مستبعد، وهناك في معظم المنشآت احتياطات للتعامل الأولي، أما الحرائق الأكبر فتحتاج منظومة إطفاء حكومية قادرة على الوصول إلى الطوابق العليا بسرعة وكفاءة. جدير بالتذكير أن سوريا خسرت مساحات واسعة من الغابات في السنوات الأخيرة، ورغم تفاني رجال الإطفاء في العديد من الحالات إلا أنهم يعملون وفق منظومة صارت شديدة التخلّف عمّا هو لازم وضروري.
في حالة الحريق المذكورة، قد يكون هناك عدد ضخم من المصابين الذين يحتاجون الإسعاف، ما يعني أيضاً ضرورة توفر منظومة إسعاف متطورة. التفاؤل وارد بعد رفع العقوبات بتحسن حال المنظومة الصحية ككل، وهناك استعداد لدى العديد من الدول والمنظمات لدعم المستشفيات الحكومية التي تدهورت خدماتها حتى منذ ما قبل الثورة. لكن التجهيزات الخاصة للوصول إلى الطوابق العليا قد لا تكون ضمن أولويات إعادة التأهيل، والوصول كالمعتاد بالسيارات يحيل إلى شبكة طرق تعاني بشكل مستمر من اختناقات مرورية، ومن المرجح زيادة الاختناقات مع كل دفعة سيارات تدخل البلد، ومع ازدياد الطلب غير العقلاني عليها في غياب رؤية متكاملة للنقل الجماعي، كما هو حال شبكات المواصلات في معظم البلدان.
ثمة في البلدان الثرية والمتقدمة مدن كبرى ليس فيها أبراج معمارية شاهقة، والأبراج السكنية غير الشاهقة الموجودة في بعض المدن لا تكون غالباً الخيارَ المحبَّب للسكان. لكن في كل الأحوال، بُنيت الأبراج الشاهقة في بلدان تمتلك بنية تحتية كافية لتخديم هذا النمط العمراني، لا على أرض رخوة خدمياً. وإذا دأب السوريون خلال عقود على التذمّر من الواقع الخدمي، ثم صاروا يجهرون بالنقد وبالهجوم على كل ما يخص حقبة الأسد، فمن المستغرب ألا ينتبهوا إلى التناقض بين أقوالهم، فيما لو كانت البنية التحتية (المتهالكة) صالحة لتركيب برج شاهق فوقها!
الأمر يتعدّى موضوع البرج العتيد إلى طريقة تفكير سائدة؛ فإذا كان هجاء حقبة الأسد محقاً، وهو محق بمعظمه، فسيكون من الواجب بعد سقوط بشار الشروع في فتح ملفات تلك الحقبة للنقاش العام، وعدم اعتبار السقوط بحد ذاته علاجاً سحرياً للأعباء الموروثة على كل الأصعدة. الفجوة بين الواقع والمُرتجى لا تُردم بالتوقعات المبالَغ فيها حول الاستثمارات الضخمة، وحول المستثمرين الذي ينتظرون رفع العقوبات ليتسابقوا على مزايا الاستثمار في سوريا من دون أي توقف عند تردي الواقع الخدمي، وتردي البنية التحتية التي تحتاج إلى رؤية شاملة تأخذ في الحسبان التطورات المستقبلية، ويحتاج تنفيذها إلى سنوات طويلة حتى في بلدان تمتلك ما لا تمتلكه سوريا من إمكانيات.
واحدة من كوارث سوريا الموروثة والمستمرة هي في آلية التفكير القائمة على الاستسهال، والتي تشبه إلى حد كبير إجراء التعديلات المرغوب فيها بواسطة الذكاء الاصطناعي. واقعياً، يدعم الآلية ذاتها تركُ الأمور برمّتها للسلطة، ومن ثم الدفاع عما تفعله من دون النقاش والخوض ولو في الخطوط العريضة لأي شأن عام. قضايا مثل البنية التحتية والخدمات، أو مثل النظام الصحي ونظام المواصلات العام والنظام التعليمي والتأهيل المهني… هذه كلها متروكة تماماً للسلطة، وغير مطروحة لنقاش عام.
بعبارة أخرى، لا يبدو أن السوريين يتطلعون إلى المشاركة التي يُفترض أنهم ناضلوا من أجلها. مع الذكاء الاصطناعي يمكن بناء برج ترامب في غضون دقائق، والشعور بالثقة المطلقة بأن كل شيء ممكن وعلى ما يرام، فلِمَ العناء؟
المدن
———————————
إعادة الإعمار بين الضرورة والجريمة البصرية/ فارس الذهبي
2025.05.28
مع تنامي الحديث عن حراك اقتصادي وطفرة استثمارية مرتقبة في المدن السورية، تلوح في الأفق مشاريع عمرانية طموحة، بعضها حقيقي، وبعضها الآخر أشبه بالخيال السياسي المعماري.
هذا الحراك، في ظاهره، يبعث على الأمل، لكنه يثير في عمقه قلقًا مشروعًا حول هوية المدن السورية التي لم تتعافَ بعد من جراح الحرب، ولا من الكوارث المعمارية التي سبقتها، لا سيما في دمشق وحلب وحمص وحماة ودير الزور.
لقد شوهت العقود الماضية، بنهجها البعثي السوفييتي، النسيج العمراني السوري، وبدل أن تحافظ على فرادة المدن، دفعت بها إلى ضواحي الإسمنت الرمادي حيث لا جمال ولا خصوصية. واليوم، نحن أمام لحظة حاسمة: هل نعيد البناء بما يليق بإرث هذه المدن؟ أم نواصل الخراب باسم الإعمار؟
تضم دمشق وحلب، أقدم مدينتين مأهولتين في التاريخ، طبقات أثرية لا تقدر بثمن، تمتد في عمق الأرض كما تمتد في ذاكرة البشر. أي حديث عن خطوط مترو أو حفريات عميقة في مركز هاتين المدينتين يجب أن يُقابل، لا بالترحيب، بل بالتحقيق. لا يجوز، بأي ذريعة تكنولوجية أو اقتصادية، تهديد هذه الطبقات الحضارية التي تُشكّل سجلًّا غير مكتوب للبشرية.
نعم، نحن بحاجة إلى حلول مرورية وإسكانية وتنظيمية. لكن الحل ليس في تدمير ما تبقى من الذاكرة البصرية للمدن، ولا في تقليد عواصم الخليج عبر برج تائه هنا أو “ناطحة سحاب” هناك. الشائعة حول “برج ترامب” في البرامكة، إن صحّت، ليست سوى كارثة أخرى تُلوّح بها رؤوس الأموال في وجه المدن المنهكة. فهل من المنطقي أن يتوسط برج وحشي بصريًا قلب دمشق، مشرفًا على التكية السليمانية، والثكنة الحميدية، وجادة الحلبوني، وعلى بعد خطوات من الجامع الأموي ومجتمع المدينة القديمة؟
إن ما نحتاجه ليس “الحداثة العشوائية”، بل حداثة متصالحة مع التراث. حداثة واعية. لذلك أدعو، من هنا، جمعية العاديات في حلب وحمص، وجمعية أصدقاء دمشق، وكل من تبقى من أنصار العمارة السورية المتجذرة، إلى التحرك الفوري. فالمعركة الآن لم تعد فقط معمارية، بل هي معركة هوية وكرامة حضارية.
باريس لم تبنِ أبراجها في الحي اللاتيني، بل أبعدتها إلى “لا ديفانس”. برلين لم تسمح بتهشيم قلبها القديم رغم حداثتها. فلماذا نسمح لأنفسنا، نحن الذين نملك أقدم العواصم، أن ننسى ماضينا على مذبح حماسة البناء السريع؟
نحن لا نحارب الإعمار. نحن نحارب التشويه باسم الإعمار. المعركة الآن هي لحماية المدينة من الهدم الثاني.
المثال الأوضح الآن هو ما حدث مؤخرًا من قرار هدم مبنى محافظة دمشق (الذي قيل أنه تم التراجع عنه)، ذلك المبنى الحكومي الذي شُيّد في خمسينيات القرن الماضي وشكّل جزءًا أصيلًا من هوية ساحة يوسف العظمة، قلب العاصمة الإدارية والمدنية. الهدم، الذي جرى دون نقاش علني، يفتح الباب واسعًا أمام تساؤلات مشروعة حول آلية اتخاذ القرار في قضايا تمس الشكل والذاكرة المعمارية للمدينة.
فهل تم عرض المخطط البديل على سكان دمشق؟ أو حتى على ممثليهم من المعماريين والمخططين المدنيين والمهندسين؟ وإذا كان سبب الهدم هو التوسعة، فهل تم إجراء دراسة متأنية لحجم الضغط العمراني والخدمي في منطقة ساحة يوسف العظمة؟ هل تسمح المرافق المحيطة بها، من مواقف ومواصلات وطرقات، باستيعاب أعداد إضافية من المواطنين، أم أن البديل الأسلم كان نقل مقر المحافظة إلى خارج مركز المدينة، كما فعلت دول مثل مصر والعراق؟
نقل الوزارات والمؤسسات الحكومية المُرهِقة لحركة المدينة إلى أطرافها أو ضواحيها هو حل مطبّق بنجاح في العديد من المدن التاريخية الكبرى، ويُسهم في تخفيف الضغط عن مراكز المدن التاريخية ويمنحها الفرصة لتتنفس.
السؤال الأهم هنا: ما هو الشكل المعماري الجديد الذي سيحتل هذه البقعة الحساسة من دمشق؟ هل سيكون مبنى بملامح مستوحاة من العمارة الدمشقية العثمانية الجميلة كالقصر العدلي القديم، أو السراي الحكومي (وزارة الداخلية سابقًا)، أو حتى من الطرز الحديثة التي احترمت محيطها زمن الخمسينيات والستينيات؟ أم سنُفاجأ بناطحة بلا طعم ولا هوية، تضاف إلى مشهد البشاعة الاسمنتية الذي لطخ أطراف المدينة منذ عقود؟
إن دمشق، مثل حلب، وبقية مدائن سوريا، ليست مجرد مدن، بل هي نسيج بصري وفكري وروحي مركّب. لا تحتمل العبث، ولا يصلح معها التحديث المشوّه الذي لا يرى في العمران سوى حديد وزجاج وخرسانة.
العاصمة السورية، كمدينة مأهولة منذ آلاف السنين، تخفي في باطنها طبقات أثرية مذهلة. وأي مشروع حفر عميق كمترو أو أساسات لأبراج إسمنتية قد يعني تدميرًا نهائيًا لهذه الطبقات. التخطيط لا يتم فقط فوق الأرض، بل في فهم طبقاتها التاريخية أيضًا.
إن إعادة الإعمار ليست معركة إسمنت وحديد، بل هي مسألة وعي. ومن غير المقبول أن يتم التعامل مع المدن كما لو كانت لوحات بيضاء في دفاتر المستثمرين. من حق سكان دمشق وحلب وحماة والدير واللاذقية أن يُشاركوا في رسم مصير مدنهم. من حقهم أن يعرفوا كيف ستبدو هذه المدن بعد عشر سنوات. هل سنصحو على عواصم بلا ذاكرة، بلا نكهة، بلا انتماء؟
ما يُطرح الآن ليس ترفًا فكريًا. إنه نداء عاجل للمشاركة، للشفافية، للانتماء. إن كنتم تنوون الإعمار حقًا، فلا تبدؤوا بهدم التاريخ. بل اسألوا المدن عن ملامحها، فهي تحفظها أكثر من أي مخطط هندسي. ولا تجعلوا من الحنين مشروع معارضة عمرانية، بل اجعلوه دليلًا لما لا يجب أن يُفقد من الذاكرة
————————————
الاعتداء على القضاء كمن يهدم الدولة/ ميشال شماس
2025.05.28
القضاء اليوم يشكل ركيزة أساسية من ركائز الدولة الحديثة، وميزان العدالة الذي ينظم العلاقات بين الأفراد ويضمن تطبيق القوانين بمساواة دون تمييز، ويلعب دوراً مجتمعياً هاماً يحفظ الاستقرار والسلم الاجتماعي ويساهم في امتصاص التوترات المجتمعية التي يمكن أن تحدث.
وإن غياب القضاء المستقل لا يهدد فقط العدالة، بل يهدد مفهوم الدولة ذاته، حيث لا يمكن الحديث عن سيادة القانون وضمان الحقوق إذا أصبح القضاء نفسه عرضة للانتهاك. القضاء ليس مجرد جهاز إداري يصدر الأحكام، بل هو المؤسسة التي تحفظ النظام وتمنع الفوضى. فهو الحامي الأول للحقوق والحريات، وهو الضامن لعدم استبداد السلطة التنفيذية أو تغوّلها على المواطنين. وإن استقلال القضاء ونزاهته هما الأساس الذي تبنى عليه ثقة الناس في الدولة، وبالتالي فإن أي انتهاك لهذه المؤسسة القضائية لا يمس شخص القاضي فحسب، بل يهدد الدولة برمتها.
وما حدث منذ أيام في حلب من اعتداء على أحد القضاة خلال ممارسته عمله، من قبل عناصر الشرطة المكلفة بإنفاذ القانون، ليس مجرد حادثاً عابراً، ولا يجب أن يكون كذلك، بل هو تجاوز خطير يهدد هيبة الدولة ويهدم أسسها.
إن الاعتداء على قاضٍ حتى وإن كان فاسداً، هو سحقٌ لميزان العدل، وإهانةٌ هائلةٌ للعدالة، وجريمةٌ لا تُغتفر. فماذا سيبقى للدولة إن أصبح من يفترض بهم حماية القانون هم أنفسهم من ينتهكونه؟ وإذا لم يكن القاضي في مأمن، فكيف يمكن للمواطن العادي أن يشعر بالأمان؟
إن مثل هذه الاعتداءات إن تكررت، وأرجو أن لا تتكرر أبداً، ستزعزع ثقة الناس في الدولة ومؤسساتها، وتجعلهم ينظرون إلى القضاء لا كحامٍ لحقوقهم، بل كجهة يمكن التعدي عليها من أي شخص أو جهة متنفذة.
مما يفتح الباب واسعاً أمام انهيار مفهوم الدولة القائمة على القانون، وتحويل العدالة إلى أداة تتلاعب بها قوى ليس من مصلحتها قيام الدولة، فكيف سيكون حالنا ونحن نحبو في بناء الدولة؟
والأمر الأكثر خطورة من الاعتداء نفسه هم أولئك الذين أخذوا يبررون هذا الاعتداء ويدافعون عنه بحجة أن القاضي فاسد وعمل في محكمة الإرهاب ويستحق العقاب. هذا المنطق المدمر بقبول وتبرير مثل هكذا تجاوزات على القضاء سيفتح الباب واسعاً أمام انهيار العدالة، ويجعل كل فرد في المجتمع معرضاً لأن يكون الضحية التالية. فالسلطة التي تضرب القاضي اليوم، قد تضرب المواطن العادي غداً بلا تردد، لأن سقف القانون حين يُكسر، لا يعود هناك ضامن يحمي أحداً.
والقانون اليوم في جميع دول العالم خص القضاة بطريقة خاصة في المساءلة والمحاكمة عند ارتكابهم لجرم أو مخالفة بشكل يختلف كلياً عن باقي فئات الشعب، لا لأن القاضي يتميز عن باقي فئات الشعب، إنما حرصاً على مكانة القضاء ورفعته باعتباره الأساس الذي لا تقوم الدولة بدونه.
إن ما حدث في حلب لم يكن مجرد انتهاك فردي، بل هو مؤشر خطير على أزمة أعمق تتعلق باستقلالية القضاء وهيبة القانون وسيادته على الجميع. واليوم لا يمكن القول أبداً بوجود دولة بدون قانون، ولا قانون بدون قضاء مستقل. لذلك، فإن حماية القضاء تعني حماية الدولة، وعدم السماح بالمساس به هو مسؤولية تقع على عاتقنا جميعاًـ خاصة في هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها سوريا.
حذرت وكثير من السوريات والسوريين من مخاطر الاعتماد على الولاءات لا على الكفاءات في مؤسسات الدولة، فالولاء وحده لا يبني دولة، فلو أن عناصر الشرطة يمتلكون الحد الأدنى من الخبرة والمعرفة في التعامل مع الناس واحترام حقوق الإنسان وطريقة حماية إنفاذ القانون. لما حدث ما حدث، وكانوا بكل بساطة لجؤوا إلى الجهات المختصة لمساءلة القاضي إن كان هناك تجاوز حصل منه، لا أن يحوّلوا الموقف إلى اعتداء جسدي يهدم هيبة القضاء والدولة معاً.
كما لا يجب أن ننسى أن تأخر تطبيق العدالة الانتقالية ساهم في حدوث ما حدث في حلب وتأخرها ساهم أيضاً في استمرار العنف والانتقام، وإن عدم إنصاف الضحايا وتحقيق العدالة لهم وترك الألم ينهش في نفوسهم الجريحة دون مداواة وتطييب خاطر وتعويض واعتراف بمعاناتهم، وغياب الضمانات التي تمنع تكرار هذه المأسي سيدفعهم بالتالي إلى ممارسة القهر بأنفسهم على الآخرين بدافع الانتقام أو الشعور الزائف بالقوة. وتحولهم من ضحايا إلى جلادين.
وحتى لا تتكرر هذه التجاوزات مستقبلاً، على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها فالحكومة ليست مسؤولة فقط عن تطبيق القانون، بل أيضاً عن ضمان أن يكون من ينفذون القانون مدربين بشكل صحيح على احترامه وحماية كرامة الأفراد، حتى لا يتحول الإنفاذ إلى انتهاك.
واستناداً لذلك على وزارة الداخلية العمل بالسرعة الممكنة لتوفير التدريب والتـأهيل القانوني والحقوقي الكافي للعناصر الشرطية والأمنية وتمكينها معرفياً وسلوكياً في كيفية التعامل مع الأفراد واحترام حقوق الإنسان وتطبيق القانون بطرق سليمة.
الدولة الحديثة لا تقوم على القوة وحدها، بل تقوم على سيادة القانون الذي يجب أن يُحترم من الجميع، من الحكام قبل المحكومين أفراداً ومؤسسات. وإن الدفاع عن استقلال القضاء لا يعني الدفاع عن شخص القاضي فقط، بل هو دفاع عن مستقبل الدولة وعن حقوق كل فرد فيها.
باختصار، حاجتنا اليوم لبناء قضاء قوي ومستقل وكفء كحاجتنا إلى الماء والهواء، وبناء سوريا ونهضتها من هذا الخراب الذي خلفه نظام الأسد الإجرامي يبدأ من حماية قضائها، وإلا فإن الظلم سيلتهم الجميع، بلا استثناء.
تلفزيون سوريا
——————————————
=====================