عودة أبي العلاء إلى معرّة النعمان/ أنس أزرق

27 مايو 2025
في آخر زياراتي إلى مدينتي حلب أواخر عام 2011 قبل قراري مغادرة سورية فراراً من المشاركة المعنوية في جرائم النظام، كانت دبابات النظام تقف عند مداخل المدن الواقعة على طريق دمشق- حلب، وهي توجه مدافعها باتجاه هذه المدن، يومها فقط لم نتوقف كعادتنا في إحدى استراحات معرّة النعمان.
كانت المعرّة استراحتنا، حيث كنا نقف في الذهاب إلى حلب وحين العودة إلى دمشق. كان التوقف للاستراحة في النبك. كانت مدينة معرّة النعمان بالنسبة لنا، نحن أبناء حلب القلة الذين نسكن دمشق، محطة أساسية في طريق الذهاب والإياب بين المدينتين المتنافستين في الثراء المادي والحضاري، فالاستراحة في معرّة النعمان متعة صافية، فلا يوجد أطيب من فطور معرّة النعمان حيث الجبنة والبيض البلدي مع القيمق والشعيبيات الساخنة. وإذا كان الوقت غداء فأهلا باللحمة في الصينية من غنم العواس، ونهاية الاستراحة التزود من خيرات المعرة مؤونة البيت وهدايا للأهل والأصدقاء.
لم تكن المعرّة بالنسبة لي ولكثيرين لتختزل بأطايب الطعام وكرم أهلها الذين يعرفون بالشطارة، وإنما كانت تعني أيضاً زيارة متحف المعرّة الذي يعد من أفضل متاحف العالم المتخصصة بالفسيفساء، وكذلك زيارة المركز الثقافي في المعرّة، حيث منزل أبي العلاء وضريحه والمكتبة العلائية، وأخيراً التبرّك بزيارة ضريح الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز المدفون في الدير الشرقي بعد كيلومترات قليلة عن المعرّة.
بعد سقوط النظام، عدتُ إلى بلدي وأردتُ كغيري أن أتفقد ما فقدته أكثر من 12 عاماً، ومنها الأماكن المحببة لقلبي، وأولها الأوابد الأثرية والمتاحف التي أعشقها، ومنها متحفا دمشق وحلب وقلعتها وبينهما آثار تدمر ومعرّة النعمان.
تشترك المعرّة مع مثيلاتها من المدن السورية الثائرة الأخرى بالدمار الذي أصابها من عدوان النظام الهمجي ومن تهجير أهلها، حيث لا يوجد فيها رغم سقوط النظام إلا قلة من أهلها عادوا إليها بعد التحرير للعيش فيها، رغم أن معظم الأبنية فيها ركام على الأرض.
بدأت زيارتي من شارع أبي العلاء المعري حيث قطع عام 2013 رأس تمثال المعري الذي نحته الفنان محمد قباوة، وفكّرت عندما وجدت قاعدة التمثال: متى ينتصب هنا مجدّدا تمثال أبي العلاء الذي نحته الفنان السوري عاصم الباشا في قرطبة وجرى نقله ووضعه في باريس؟
دخلنا متحف المعرّة، وهو خان عثماني بناه محصّل الضرائب في الإمبراطورية العثمانية مراد باشا جلبي وقفاً على طريق الحجاج، وكتب على بابه الكبير لاعناً الغني الذي يمنع الفقير.
حوّل الخان إلى متحف متخصّص لقطع الفسيفساء الكثيرة التي اكتشفت في المعرّة ومحيطها، لا سيما أن هذه المنطقة الكلسية غنية بالمواقع الأثرية، وقد باتت تعرف بالمدن الميتة أو المنسية، وهي مستوطنات بشرية ازدهرت في القرن الأول الميلادي وأفل نجمها في القرن السابع الميلادي، وقد سجلت على قائمة التراث العالمي المعتمدة من يونسكو عام 2011، قبل أن يطاول بعضها قصف النظام كما حصل بموقع قلعة سمعان.
كان متحف المعرّة يعبّر خير تعبير عن حال المدينة المكلومة، حيث أصابته صواريخ النظام وحلفائه، فضلا عن براميله المتفجرة، فدمّرت قسماً منه، وتحديدا التكية والمسجد في الخان – المتحف، ولكن مبادرة أهالي المعرّة لحماية قطع الفسيفساء بوضع مواد لاصقة وأكياس من الرمل فوقها حمت هذه القطع الفريدة من الدمار، لكن الإهمال وقلة الإمكانات ما زالا حاجزاً لإعادة ترميم هذه القطع وعرضها.
يملك المتحف الذي أصبح في عداد المتاحف العالمية المتخصصة حوالي ألفي متر مربع من لوحات الفسيفساء، وأشهرها لوحة ولادة هرقل وأسطورة بناء مدينة روما. ولا يبعد منزل أبي العلاء المعري كثيرا عنه، فهو في وسط السوق الشعبي للمدينة، وقد تحول المنزل إلى مركزٍ ثقافي بمبادرة من مؤرّخ المعرّة محمد سليم الجندي في أربعينيات القرن الماضي، وتحديداً بمناسبة المهرجان الألفي الأول لميلاد المعرّي.
دخلنا المركز الثقافي حيث ضريح أبي العلاء، وكانت كل محتوياته، لا سيما من الكتب الثمينة، قد نهبت، وحاول بعض الجهلاء تكسير الضريح المهمل حاليا والذي تحول إلى مستودع لبعض الباعة.
أحسب أن روح أبي العلاء المعري قد تململت في قبره وهي تراقب ما فعله النظام المجرم بمدينة معرّة النعمان، مدينته التي كسر قرار الاعتكاف من أجلها حين حاصر أمير حلب صالح بن مرداس المعرّة، فخرج إليه المعرّي بطلب من أهلها ليشفع لهم.
فلمَّا مضى العُمر إلا الأقلّ وحُمَّ لروحي فِراقُ الجَسَد
بُعِثْتُ شفيعًا إلى صالح وذاك من القوم رأي فَسَد
فيسمع مِنِّي سجعَ الحمام وأسمع منه زَئِير الأسد
أجاب بن مرداس طلب المعرّي، ووهبه “المعرّة وأهلها”.
أحسب المعرّي يرتجف من حجم إرهاب الأسد وحلفائه حيث دمر معظم أحياء المعرة وريفها واضطر أهل المعرّة للنزوح عنها، كيف لا والمعرّي يأنف من القتل، ولو كان لحيوان صغير.
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
ودع ضرب النحل الذي بكرت له كواسب من أزهار نبت فوائح
فما أحرزته كي يكون لغيرها ولا جمعته للندى والمنائح
أحسب المعري يعلق على قطع رأس تمثاله من بعض سفهاء القوم
كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء.
فإذا ما أطعته جلب الرحمة عند المسير والإرساء.
إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء.
سرق السفهاء والجهلاء المكتبة العلائية التي أهداها طه حسين لمعلمه أبي العلاء بمناسبة المهرجان الألفي الأول للمعرّي الذي أقيم في سورية عام 1944 برعاية رئيس الجمهورية وقتها شكري القوتلي، وتنظيم المجمع العلمي العربي ورئيسه العلامة محمد كرد علي، وحضرته نخبة من الأدباء العرب، ومنهم طه حسين وإبراهيم المازني وأحمد أمين وسامي الكيالي وجميل صليبا وغيرهم، فيما تبارى الشعراء محمد مهدي الجواهري وعمر أبو ريشة ومعروف الرصافي وبدوي الجبل وشفيق جبري بإلقاء قصائدهم عن المعري.
غادرت المعرّة إلى ضريح الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في دير الشرقي، ومنها إلى حلب، والكثير من الأسئلة تراودني، ومنها لماذا ترك الأمويون خليفتهم العادل في هذه المنطقة البعيدة عن العاصمة؟ وقبل ذلك، لماذا لم تطل خلافته سوى سنتين وأشهر قليلة؟ ومتى يعود أبو العلاء إلى المعرّة؟
العربي الجديد