التدخل الاسرائيلي السافر في سورياالعقوبات الأميركية على سورياسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةلقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا

لقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا تحديث 28 أيار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

ملف رفع العقوبات عن سوريا

—————————-

رفع العقوبات بوصفه اختباراً لمعادلة الحُكم: هل تَخرجُ السلطة في سوريا من منطق البقاء «على حافة الدولة»؟/ مالك الحافظ

27-05-2025

        لعلّ أكثر ما يَكشفُ منطقَ الحُكم في سوريا اليوم هو الكيفية التي تُقابَل بها لحظاتُ الانفراج؛ بالتأسيس أم بالتكيّف. لقد جاء رفع العقوبات الأوروبية، وتجميد جزء من العقوبات الأميركية، كعتبةٍ جديدة يُراد لها أن تُقرأ كبداية خروج من «الحافة»، غير أنه قد يكون من الخطأ أن يُفهم هذا الحدث كمدخل تلقائي لإعادة تأسيس الدولة، لأن رفع العقوبات لا يُنتِجُ تلقائياً عقداً اجتماعياً، ولا يطلق ديناميات التحوّل، حيث أن الحافة في سوريا غير ناتجة عن فراغ مؤقت، وهي تُدار اليوم من قِبل سلطة انتقالية لا تتعامل مع الدولة كعقد تمثيلي، إنما كأداة ضبط ديني–إداري، وهو ما يُبقيها فعلياً خارج شروط الحُكم المدني والمؤسسي حتى اللحظة.

        الحافة، كما تتبدى في السياق السوري اليوم، ليست موقعاً بين الدولة والفوضى فحسب، بل هي نمط حُكم يُدار من موقع التعليق الدائم، من دون مؤسسات مكتملة ومن دون انهيار كلي، كما حاولتُ أن أُبرهنَ في مقال سابق بعنوان سوريا كـ«دولة على حافة الدولة». إنها بنية تُعاد هندستها كل مرة، لتمنح السلطة أسباباً جديدة للبقاء دون دولة. ولهذا، فإن لحظة رفع/تجميد العقوبات الأوروبية والأميركية، قد لا تفتح بالضرورة أفقاً مختلفاً، فهي تبدو أقرب إلى اختبار جديد لذلك المنطق الذي حوّلَ المؤقتَ إلى قاعدة، واللّااستقرار إلى نمط إدارة.

        يُطرَح هنا تساؤل جوهري حول ما إذا كانت السلطة الانتقالية تمتلك تصوّراً فعلياً للخروج من منطق الحافة، أم أنها تكتفي بإدارته بأساليب أكثر مرونة دون مساس بجوهره. وهل تَقرأ الانفراج كترخيص جديد لإدامة منطقها السلطوي دون أن تدخل فعلياً في مشروع بناء الدولة كمجال تمثيلي وتشاركي؟ وهل يُستَقبَل رفع العقوبات كمقدّمة لبناء سياسي–مؤسساتي، أم كحافز لإعادة تدوير أدوات التأجيل بلغة أكثر مرونة؟

        بين خطاب الشرعية ومسارات الاعتراف

        لم يكن قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات عن سوريا فعلاً تقنياً بقدر ما كان إشارة سياسية مُضمَّنة إلى أن النظام الدولي بات مستعداً لـ«فحص» مآلات السلطة القائمة، أما الولايات المتحدة، التي لم ترفع العقوبات حتى الآن بشكل كامل ونهائي؛ مُشيرةً إلى تجميدها مؤقتاً وفق وزير خارجيتها، ماركو روبيو، تحت بند «المرونة المشروطة»، فمارست ما يمكن تسميته بـ «تفويض الأزمة» لا حلّها، واضعةً السلطة في حالة اختبار مؤقت، قابل للتراجع كل 180 يوماً.

        في أعقاب قرار رفع العقوبات الأوروبية، أجرى أنطونيو كوستا، رئيس المجلس الأوروبي، اتصالاً مع أحمد الشرع، أكد فيه أن الخطوة الأوروبية تمثل «فرصة حقيقية لتعافي سوريا»، وقد جاء في البيان الرسمي أن الشرع شدَّدَ خلال الاتصال على «التزامه بالتحوّل الديمقراطي»، رابطاً ذلك بعودة الاستقرار الاقتصادي وجذب الاستثمارات.

        لكن هذه اللغة، وإن بدت تَصالُحية، لا تحمل في طيّاتها أي ضمان مؤسسي أو رقابي على مضمون هذا «التحوّل»، إنما تُستخدم كصيغة خطابية تسمح بإعادة إدماج السلطة الانتقالية دون الاعتراف بها بالكامل. هكذا، تتحوّل الديمقراطية إلى أداة لغوية تُستدعَى في لحظة الانفراج، كممر ضروري لعودة العلاقات الاقتصادية، حتى ولو لم تكن مشروعاً تأسيسياً ممكناً.

        فيما حرصت واشنطن، على نزع الطابع الاستراتيجي الواضح عن قرارها، مُعتبِرةً أنه «تجميدٌ خاضع للتقييم، لا رفعٌ شامل للعقوبات».

        هذا الانفصال المقصود بين الإجراء والمعنى السياسي، يضعُ الداخل السوري في مواجهة سؤال مقلق: هل السلطة الانتقالية ترى في هذه اللحظة بداية تحول بنيوي؟ أم فرصة جديدة لتحويل الظرف الاستثنائي إلى قاعدة؟

        ويمكن في هذا السياق استدعاء تجربة طالبان بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان رغم الفروقات الكثيرة في ظروف البلدين وتركيبتهما، حيث سعت الحركة إلى انتزاع اعتراف دولي دون أن تُعيد تعريف بنيتها العقائدية أو آليات حكمها. لقد قُدِّمت خطابياً كسلطة قادرة على إدارة البلاد، لكنها واجهت مأزقاً بنيوياً شبيهاً بالحالة السورية؛ متمثلاً في الرغبة بالحفاظ على الشرعية العقدية، مقابل الحاجة للانخراط في منظومة دولية لا تعترف إلا بمؤسسات الدولة التقليدية. هذا ما يُعيد طرح السؤال؛ هل يُستخدَم الخطاب السياسي لتليين الحواف السلطوية دون تعديل جذري في منطق السيطرة؟

        ما يتبدّى الآن في سوريا هو قراءة نفعية للانفراجة الدولية من جانب السلطة الانتقالية، بوصفها فرصة لإعادة تثبيت أنماط السيطرة القائمة. فبدلاً من التعامل مع رفع العقوبات كنافذة لانفتاح سياسي-اجتماعي، قد يجري تأويلها ضمن منطق «شرعنة السلوك السلطوي» المستند إلى الولاء العَقدَي وليس مراجعته.

        وبهذا، تُعاد صياغة «الحافة» كنموذج تفاوض دائم؛ تُدَار شروطه من الخارج عبر رفع تدريجي للقيود، وتُعَاد هندسته في الداخل بمنطق التكيُّف لا التحوُّل. هنا، تتحوّل الحافة إلى منظومة حُكم تُراكِمُ شرعيتها من قدرتها على البقاء بدلاً من مشروعيتها التمثيلية، وتُظهر السلطة الانتقالية استعداداً كبيراً لإعادة إنتاج اللّااكتمال بوصفه صيغة حُكْم وليس خللاً مرحلياً.

        رفع العقوبات؛ هل يفكك الحافة أم يُرممها؟

        في منطق الاقتصاد السياسي للسلطة الانتقالية الراهنة في سوريا، لا تُقاس لحظات الانفراج بحجم الموارد المُتاحة فحسب، لكن لا بد من النظر إلى كيفية إدارتها داخل بنية حُكم جديدة، ذات مرجعية شرعية-عَقَدية، تُعيد إنتاج السيطرة من خلال آليات توزيع لا تستند إلى التمثيل أو الكفاءة. ومن هنا، لا يكفي رفع القيود الخارجية لتغيير قواعد التوزيع أو آليات الحكم، ما لم يترافق ذلك مع إعادة تعريف للوظيفة الاقتصادية للدولة، وتفكيك نمط التمكين الذي تُعيد السلطة تثبيته اليوم كبنية حُكم مركزية تُدار عبر الولاء العَقَدي، لا القانوني-المؤسسي.

        وإذا استمر هذا المنطق في إدارة الموارد، فقد تتحول الانفراجة الاقتصادية الناتجة عن رفع العقوبات إلى أداة لتقوية الشبكات الزبائنية. فالسلطة التي لم تُراجِع حتى الآن آليات التعيين أو توزيع الموارد، يُخشى أن تُكرِّسَ عبر الانفراجة ذاتِها شبكات نفوذ جديدة تُعيد إنتاج الحقل الإداري بمنطق التعبئة الشرعية، كما يتجلّى في المجالس الدعوية والمؤسسات الظلّية، لا بمنطق الحوكمة التمثيلية.

        يُمارَس الإقصاء هنا من خلال مأسسة الولاء العقائدي في البيروقراطية نفسها، فتُصاغ معايير التوظيف الإداري وفق منطق «الامتثال الشرعي»، وتُستبدَل الكفاءة بـ شالانضباط العَقَدي»، ويُعَاد إنتاج الخطاب المهني من داخل الجهاز الديني لا القانوني. بهذا، تُفرَز السلطة عبر عملية إدماج تدريجي للقواعد في أجهزة الدولة، ليس بوصفهم موظفين بل كحَمَلةٍ لقيم الدعوة.

        ما يتبدى من سلوك السلطة الانتقالية في سوريا هو انخراطٌ كامل في نمط ما أسماه جويل ميغدال بـ«الدولة الضعيفة التي تُحافِظُ على هشاشتها بوصفها شرطاً للضبط»، حيث لا يُبذَل جهدٌ لتأسيس مؤسسات قادرة. هي تُنتج البُنى الناقصة مقصودةً لتبقى السلطة متحكمة في نقاط التوازن، فالسلطة تسعى إلى هندسة المشهد السياسي بحيث يُدار من خلال الضعف، لا القوة، ومن خلال الطوارئ، لا التشريع.

        إذا كانت السلطة جادة فعلاً في مغادرة موقع الحافة، فعليها أن توجّه موارد اللحظة نحو بناء مؤسسات تمثيلية-خدمية، لا مجرد أدوات ضبط تستند إلى «الصفوة الإيمانية».

        ويشير مفهوم «الصفوة الإيمانية» إلى بنية إيديولوجية مغلقة تُحكَم من داخلها معايير التعيين والترقية والتمثيل. في هذا السياق، تُستبدَلُ شرعية الكفاءة أو الأصوات أو الخبرة التمثيلية بـ«الولاء الرمزي»، ويصبح الحُكم انعكاساً لنخبة دعوية-عقائدية تُقدَّم بوصفها الأعلم.

        يُبيِّنُ هذا المسار أن لحظة رفع العقوبات، في غياب تغيير جذري في بنية الحكم، يُعاد توظيفها كوسيلة لتعويم السلطة ضمن شروط مرنة، لا ضمن قواعد تمثيلية واضحة.

        ما يجري في سوريا بعد رفع العقوبات يُعيدنا إلى نموذج ما يُعرف بـ«الدولة الهجينة» أو «السلطوية الحديثة»، كما طوّرتها دراسات الانتقال السياسي في أميركا اللاتينية وشمال أفريقيا. فالدولة هنا لا تُلغَى، لكنها لا تُبنَى كذلك؛ فهي تتحوّل إلى شبكة من المؤسسات الشكلية تُستخدم لشرعنة السيطرة، دون توزيعها. هي دولة تتبنّى لغة التمثيل، لكنها تُفرِغُها من مضمونها وتُعيد إنتاج الحكم باسم «الاستقرار».

        الدولة المُؤجَّلة في لحظة انفراج دولي؛ فرصة أم خطر؟

        الدولة المؤقتة في السياق السوري لا تُبنَى بوصفها أداة انتقالية نحو عقد تمثيلي، بقدر ما تُعاد تهيئتها بوصفها البنية الوحيدة الممكنة تحت السلطة الانتقالية القائمة، فهي ناقصة مؤسساتياً، ومشروطة عَقَدياً، وتُدار من خلال المجالس والهيئات الشرعية، ويُعاد إنتاجها ضمن حدود السيطرة لا التمثيل.

        إن نموذج الحافة كما تديره السلطة الانتقالية يشمل غياب المركز، وتَموضُع السيطرة في تفاصيل الحياة اليومية، وهو ما يقارب ما وصفه ميشيل فوكو بـ«السلطة الميكروفيزيائية»، حيث لا تُمارَس السلطة من الأعلى؛ وإنما من خلال آليات انضباط ناعمة تُعيد تشكيل الذوات، وتُجنِّد المجتمع نحو الطاعة دون قسرٍ مباشر. فغيابُ الدولة هنا يعني حضور السلطة من خلال تطويع الفضاء العام، وتوجيه السلوك السياسي والديني والاجتماعي بمنطق التأويل لا القانون.

        ولذلك، فإن رفع العقوبات لا يعني بالضرورة الخروج من الحافة، بل ربما يُستخدَم لتثبيت الحافة نفسها كنموذج إدارة ناجح في نظر القوى الدولية، إذا ما قُدِّمَت كسلطة قادرة على الضبط دون التأسيس. هنا، يتحوّل المؤقتُ إلى دائم، ويتحوّل الانتقالُ إلى سلطة أمر واقع.

        وهنا تتبلور فكرة «الشرعية المؤقتة–الدائمة»، حيث تُدار السلطة في سوريا على أساس طارئ، بلا دستور، بلا انتخابات، وبلا تمثيل مدني حقيقي، لكن مع ذلك تستمر وتُقدَّم بوصفها خياراً وحيداً ممكناً.

        ليست الحالة السورية فريدة في هذا المسار، فقد شهدت السودان نموذجاً انتقالياً مشابهاً بعد الثورة، حيث تم الترويج لمرحلة انتقالية مدنية-عسكرية، دون الوصول إلى عقد اجتماعي جديد أو بناء مؤسسات سيادية تمثيلية. يوضحُ هذا المثال كيف يمكن للحظة «الانفراج السياسي» أن تُستخدَمَ لتكريس السيطرة، خاصة حين تكون السلطة نفسها غير مؤمنة بفكرة التأسيس المدني للدولة.

        إن جوهر المأزق السوري الراهن يكمن في انعدام أي تَعاقُد سياسي يمثل المجتمع كجماعة مدنية موحّدة، ففي تقاليد العقد الاجتماعي كما طرحها لوك وروسو، لا تكون السلطة شرعيةً إلا إذا استمدّت تفويضها من الإرادة العامة، عبر عقد واضح يحمي الحقوق ويُنظِّم السلطة. بالمقابل، فإن ما نشهده اليوم هو نموذج معكوس لما تحدّث عنه هابرماس في «الفعل التواصلي»، إذ تغيب تماماً المساحات التداولية التي يمكن من خلالها للمجتمع أن يشارك في تشكيل الإرادة السياسية، ويتم اختزالُ المجال العام في منظومة تأويلية مغلقة تُمارس السلطة باسم التفويض الشرعي، وليس التمثيل التشاركي.

        في ظل هذا الإطار، لا يُعاد بناء العقد الاجتماعي، إنما يُعاد إنتاج «العقد المغشوش»، حيث تُمنَح الحقوق بوصفها امتيازات لمن ينتمي للصفوة الإيمانية أو الشبكات الدعوية، وتُدَار القرارات السياسية كما تُدَار الفتاوى؛ بالتأويل، لا بالتفويض. تلك هي خطورة لحظة الانفراج؛ أن تُعلِّقَ التحوُّل، لا أن تُفعِّله.

        فوق القانون وتحت الشرعية

        يبدو حتى الآن أن السلطة الانتقالية لا ترى في البناء المؤسسي فرصة بقدر ما تراه تهديداً، فالبناءُ يتطلب وضوحاً في الهوية السياسية، وتوزيعاً حقيقياً للسلطة، ومَأسسةً للمُساءلة، وكلها شروط تتناقض مع منطق الحافة الذي تتبناه هذه السلطة، سواء لجهة الغموض في المرجعية، أو الالتباس في الصلاحيات، وكذلك إدارة المجتمع بمنطق الطوارئ لا التأسيس.

        هذا هو جوهر «الخوف من البناء»؛ أن لا تمتلك السلطة الانتقالية تصوراً للدولة إلا بوصفها أداة للحماية وليس مجالاً للتمثيل. لهذا لا تُستَقبل لحظات الانفراج كمداخل للتأسيس، وإنما تُرى كمخاطر اختراق لبنية سلطوية تقوم على الانغلاق والاصطفاء، فالمطالبة بالتمثيل والمساءلة والمأسسة تهدد الغموض الذي تستند إليه هذه السلطة، وتفتح الباب أمام فقدان احتكارها للسيطرة، وهو ما تعتبره خطراً وجودياً على استمراريتها.

        وفي لحظة كهذه، تصبح الانفراجة في نظر السلطة فرصة لتكييف أدواتها، فبدلاً من إدراك أن رفع العقوبات يمكن أن يكون مدخلاً لتفكيك منطق «الحكم فوق الدولة»، قد يُعاد استخدامه لتبرير استمرار منطق «الحكم بدون دولة»، عبر تحسين شروط التأجيل بدل استبداله بخطة بناء.

        ما يُكرّسه هذا الشكل من الحُكم هو ما يمكن تسميته بـ«الحكم فوق الدولة»، وهي سلطة تتحرك خارج البُنى القانونية، لكنها تُوظِّفُ مؤسسات الدولة لأغراضها الخاصة، دون أن تلتزم بمعاييرها. هذا النموذج يُعادي الدولة شكلياً، ويَركَبُ على شكلها المؤسسي ليُفرغه من مضمونه التمثيلي، فتتحول الوزارات إلى أدوات دعوية، والإدارات إلى منصّات ضبط رمزي، ويُعاد إنتاج الدولة نفسها بوصفها جهازاً شرعياً لا مدنياً، وهذا ما يُحوّل الانفراجات الخارجية إلى فرص لتعميق السيطرة، دون بناء الدولة.

        العقوبات قد تكون نتيجة لمحاولات محاصرة نظام الأسد الذي أدار الدولة بمنطق التدمير الذاتي والتوحش السلطوي، لكن ما يطرحه رفع هذه العقوبات اليوم ليس بالضرورة مساراً نحو الحل، وطالما أن البنية الجديدة التي تحكم البلاد لم تُراجِع أدوات السيطرة، فهي تواصل تحويل كل لحظة انفراج إلى مناسبة لاستنساخ الحافة بلغة مختلفة. فالسلطة الانتقالية الحالية، وإن لم تكن طرفاً مباشراً في فرض العقوبات، إلا أنها تُدير رفعها بمنطق التكيُّف لا التأسيس، مُكرِّسةً موقعها خارج شروط الدولة.

        سوريا اليوم ليست على عتبة تأسيس، لكنها أمام احتمالين، فإما الاستمرارُ كـ«دولة على حافة الدولة» أكثر ذكاءً ومرونةً، أو كسرُ حلقة التأجيل عبر طرح مشروع حقيقي لدولة تمثيلية متماسكة. لكن المشروع الأخير يُبنى على تغيير جذري في علاقة السلطة بالمجتمع، وهو ما لا يبدو مُتاحاً ضمن هندسة السلطة الحالية.

        لم تكن الحافة في التجربة السورية مجرد موقع بين الفوضى والدولة، فقد تحوّلت في عهد نظام الأسد إلى نظام حكم قائم على إنتاج اللّااستقرار كمصدر للشرعية والضبط. والمفارقة أن هذه الوظيفة لم تنتهِ بسقوط النظام، إذ أعادت السلطة الانتقالية إنتاجها عبر أدوات جديدة؛ خطاب تعويضي، توازنات عقدية، وتَحكُّم بالغموض المؤسسي.

        مع الانفراجة الخارجية التي تمثلت في رفع/تجميد العقوبات الأوروبية والأميركية، لا يبدو أن الداخل يُعيد تعريف شروطه السياسية، فهو يواصل العمل تحت «عقيدة الاحتواء»، حيث يُدار الفضاء العام بوصفه هامشاً آمناً للسلطة، وليس كمجال تأسيس مشترك.

        السؤال الحاسم اليوم لا يتعلق برفع العقوبات، وإنما بقدرة السلطة الانتقالية على كسر منطق الحافة، وبناء دولة تقوم على تَعاقُد تمثيلي حقيقي.

موقع الجزيرة

————————————

رفع العقوبات على أهميّته لا يكفي/ أرنست خوري

27 مايو 2025

ثمّة مبالغة في التعويل على مفعول سحري لقرارات رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية المفروضة على سورية، مثلما كان مبالغاً فيه الاتكال على فرضها منذ عام 1979 ثم بعد موجتَي 2005 و2011 لإسقاط نظامي الأسد الأب والابن. وقد بات معروفاً أنّ الأثر المباشر لتلك العقوبات الشاملة وقع على المواطنين السوريين بأشواط أكثر مما عانى منها أركان النظام السابق. يُقال ذلك من دون تعميم مقولة إنّ العقوبات لا تُسقط أنظمة بالمطلق، ذلك أن الأمر نسبي، ينطبق على حالات تاريخية، ولا ينطبق على أخرى، فالعقوبات الدولية مسار طويل يحتاج عقوداً ليعطي مفعوله، ولا يأخذ في الحسبان عدد الضحايا الذين يسحقهم في طريقه، وهنا وجهٌ من لا إنسانيّته التي لا تحتاج أمثلة تاريخية نظراً إلى كثرتها. لكنه في المقابل مسار حتمي مع أنظمة وحشية، ولا بديل عنه في حال غياب خيار التدخل العسكري لإسقاطها، وهو ما يدركه الضحايا أنفسهم. ولنا أن نتذكّر في هذه المناسبة كم كان السوريون المعارضون لنظام الأسد متمسّكين بالإبقاء على هذه العقوبات وتغليظها، رغم يقينهم أنهم وذويهم وأحبابهم أول المتضرّرين منها. ولأن فعالية العقوبات نسبية ويجب قياسها على كل حالة على حده، أمكن التذكير أنّ تلك العقوبات أدّت دوراً أساسياً في إسقاط النظام السوري عبر تجويفه من الداخل وتركه هيكلاً عظمياً، وإفقار جيشه ومؤسّساته إلى درجة لم يجد حكام اليوم، ثوار الأمس، من يحاربونه حين أطلقوا حملتهم العسكرية في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. فلنتذكر كيف أنّ ضباط الجيش والأجهزة الأمنية وجنودهم لم تكن تكفيهم رواتبهم لتوفير مأكل ومشرب ووسائل انتقال إلى الجبهة أو الثكنات. هل ننسى كيف كانت الرتب العسكرية الرفيعة قبل 8 ديسمبر (2024) تُباغ وُتشترى بأبخس الأثمان؟ هذا من دون الحديث عن تخلّي فئات وطبقات عن النظام تهرّباً من العقوبات المفروضة عليه، ومن دون أن يفوتنا كيف أن العقوبات إياها، فضلاً عن أسباب أخرى، كيأس روسيا من إمكانية إنقاذ نظام الأسد إلى الأبد، حرمت العصابة الأسدية من دولةٍ عميقةٍ تحارب لأجلها.

هل كان بالإمكان إفقار النظام إلى هذه الدرجة التي وفّرت الظروف لإسقاطه بغير العقوبات الدولية؟ يصعُب تقديم جواب جازم، لكن فضل العقوبات في إسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وإرغامها الرئيس آنذاك فريدريك لو كليرك على تقديم التنازلات الجذرية وبدء المفاوضات مع المعارضة الوطنية والشيوعية عام 1990، يقدّم مثالاً ثانياً عن قدرة تلك الإجراءات على إحداث ما يصعب تخيّل حدوثه من دونها.

أما وقد رُفعت العقوبات عن سورية اليوم، أو للدقة اتُّخذ القرار برفعها، من أميركا وأوروبا واليابان وغيرها، فإنه وحدَه فاقد الإحساس والقلب لا يفرح لفرح السوريين. لكن من جهة ثانية، وحده قصير النظر يعتقد أن الأمر كافٍ لرسم مستقبل مزدهر لسورية ولأهلها. صحيحٌ أنّ رفع العقوبات، حين يحصل بشكل كامل، ستكون له نتائج اقتصادية ومعيشية فورية، في إعادة ربط سورية بالعالم، وفي قطاعات المصارف والنفط والتجارة استيراداً وتصديراً وتحديثاً لخطوط طيران ومواصلات، لكن ذلك لن يُحدث الكثير من الأثر ما لم تُواكبه ورشة سياسية وطنية تبقى الأساس في استقرار البلد وأمنه ووحدته ورفاه ناسه وحرياتهم. لا تنغيص لفرحة السوريين في قول ما يدركونه تماماً بأن رفع العقوبات فرصة إما تستغلّها السلطة السياسية والمواطنون، أولا تُستغل لتضاف، لا سمح الله، إلى لائحة الفرص الضائعة التي نحترف في المنطقة العربية إهدارها. فقط إن كانت القيادة السياسية في دمشق وكل الأطراف غير الحكومية الوازنة في المشهد السوري اليوم مقتنعة بأهمية رفع العقوبات، وتعترف، في الوقت نفسه، بمحدودية أثره إن لم يُستتبع بتلك الورشة الوطنية، فتقدّم تنازلاتٍ ديمقراطيةً وانفتاحيةً متبادلة على قاعدة تقديس الحرية والمواطنية ونبذ الطائفية والتعصّب بكل أشكاله والمصالحة والمسامحة والولاء للبلد والاعتراف بالاختلافات وبضرورة حلّها سلمياً، تكون قد احترمت حقاً فرحة السوريين المتواصلة منذ الأسبوع الماضي، والتي نافست سعادتهم بسقوط نظام الأسد.

قد تكون هذه الكلمات وعظية غير مستحبّة في وقت يحتاج السوريون إلى أي خبر سارّ، لكنها مجرّد اعتراف بعظمة رفع العقوبات، وبالقدر نفسه، تذكير بأنّ ذلك قرار تكميلي لا تأسيسي، يكمّل ورشة بناء وطنية سياسية ويغنيها، ولا يؤسّس لها.

العربي الجديد

————————————

المخاض السوري… ضرورة تغيير المسار/ علي العبدالله

28 مايو 2025

لا يشكل رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن سورية عاملاً حاسماً في إخراجها من عنق الزجاجة؛ فهو مشروطٌ بتنفيذ طلبات كبيرة وحسّاسة لهذه الدول، كما لا يمكن أن يكون له تأثير كبير على قرارات الدول والشركات الخاصة للاستثمار في سورية ما لم توفر السلطة السورية الجديدة بيئةً مناسبةً للاستثمار تبدأ باستقرار سياسي وضمانات مالية للمستثمرين، بدءاً من تحرير سعر صرف العملة الوطنية إلى قانوني استثمار وضرائب مشجعين وقضاء مستقل وضمانة لتحويل الأرباح إلى الشركات الأم في الخارج، خصوصاً أنّ الظروف الراهنة تحتّم الاعتماد على الاستثمارات العربية والأجنبية الخاصة، التي تسعى نحو الربح المضمون، بسبب اهتمام دول الخليج باسترضاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عبر الاستثمار المكثف في الاقتصاد الأميركي، بدءاً بضخ مليارات الدولارات في المجمّع العسكري الصناعي من خلال العقود العسكرية والاستثمارية، ووجود ساحاتٍ أخرى تستدعي مشاركة مالية خليجية فيها، مثل إعمار قطاع غزّة، قدّرت كلفة إعادة اعماره بـ 52 مليار دولار. وهذا مع توجّه أسعار النفط إلى الانخفاض تحت ضغط رفع سقف الإنتاج بطلبٍ من ترامب، ما سيقلّل عائدات دول الخليج من البترودولار ويدفعها إلى الوقوع في حالة عجز مالي، وفق تقديرات الخبراء، وتوجه دول أوروبية إلى رفع سقف ميزانياتها العسكرية لمواجهة التغوّل الروسي؛ ما سيحد من قدرتها على الاستثمار في سورية.

يستدعي تفعيل رفع العقوبات من السلطة السورية الجديدة تنفيذ المطالب الأجنبية أو تقديم إجاباتٍ مقنعةٍ كي تضمن رفعاً دائماً للعقوبات وعدم العودة إلى فرضها ثانية؛ كما يستدعي منها تبنّي سياسة شفافة عن توجهاتها وخياراتها السياسية والاقتصادية الوطنية لتوفير استقرار سياسي، مع ضرورة انطواء هذه التوجهات والخيارات على توفير شرطي النجاح: العقلانية والعملية، أي أن تكون قراراتها وإجراءاتها إن في مجال ردّها على المطالب الأجنبية أو في مجال خياراتها الوطنية قابلة للتبرير عقلياً وللتنفيذ عملياً في الوقت نفسه، فإصدار قرارات وإجراءات عامة لا تعتبرها الدول الأجنبية كافية أو مقنعة تبرّر ديمومة رفع العقوبات سيضيع فرصة ديمومة رفعها؛ وغياب الشفافية والوضوح عن السياسات والأهداف المنشودة وطنياً سيجعل حصول إجماع وطني حول هذه الخيارات، سياسياً واقتصادياً، مستحيلاً ما يبقي على التوتر والانقسام ويقضي على فرص حصول استقرار سياسي. الموقف دقيق وخطير في ضوء وجود طلباتٍ خارجيةٍ تتعارض مع الخطوط الحمر الوطنية، مثل التطبيع مع الكيان الصهيوني من دون ربط ذلك بإعادة الأراضي السورية المحتلة كاملة، واعتماد السلطة السورية الجديدة في تعاطيها مع القضايا الوطنية سياسة غير شفافة وتجاهلها تحفظات قوى سياسية واجتماعية على توجهاتها السياسية والإدارية وعلى عدد كبير من قراراتها، سيدفع الحالة العامة نحو الترهل والاستنقاع.

يشكّل الاستقرار الداخلي العامل الرئيس في توفير مناخ إيجابي للولوج إلى تفاعلات سياسية واجتماعية بين مكوّنات المجتمع السوري والسير نحو اندماج وطني، وتحقيق الاستقرار الداخلي يقتضي اعتماد سياسات داخلية تستبطن توفير عوامل رضا مجتمعي على الصعيدين السياسي والاقتصادي، تكون أساساً لعقد اجتماعي وطني متفق عليه، فعدم استهداف تحقيق رضا وطني عام بمثابة زرع حقل ألغام في المجتمع والدولة السوريين، حيث إن الاتفاقات القائمة على الغلبة أو على الإرادة الناقصة لا تحقّق استقراراً مستداماً. وهذا للأسف ما قامت وتقوم عليه سياسات السلطة السورية الجديدة، إنْ بتجاهلها تحفظات مكونات وقوى سياسية واجتماعية سورية، الكرد والموحدين الدروز والعلويين بشكل خاص، أو في فرضها أمراً واقعاً عبر القرارات والتعيينات ذات اللون الواحد، بما في ذلك منح مقاتلين من هيئة تحرير الشام رتباً عالية، عمداء وألوية، مع أن أعمارهم وخبراتهم لا تتناسب مع هذه الرتب، لتبرير تسليمهم مناصب حساسة في وزارة الداخلية أو بعدم اعتمادها الشفافية في خياراتها السياسية والاقتصادية والإدارية، ناهيك عن ما تثيره طروحات ودعوات تطرحها شخصيات من محيط السلطة، مثل الدعوة إلى بعث الأموية، أي إقامة سلطة عربية سنّية، أو الدعوة إلى إقامة نظام ملكي دستوري في سورية، بذريعة أن النظام الملكي يحقق الاستقرار أكثر من النظام الجمهوري، أو ترويج إقامة نواة سنّية عربية صلبة، تكون عصبية للسلطة وأداة لتحقيق الغلبة والسيطرة على المجتمع والدولة، وما تثيره من هواجس ومخاوف وانعكاسها شديد السلبية على وحدة سورية واستقرارها وسيادتها في ضوء ما يترتّب عليها من انقسامات داخلية ومداخل لقوى خارجية تبحث عن النفوذ والمكاسب الجيوسياسية. أهي طروحاتٌ ودعواتٌ إلى تشتيت الانتباه أم بالونات اختبار لمعرفة رد فعل المجتمع تمهيداً لتبنّي أحدها أم تعبير عن عدم امتلاك السلطة الجديدة رؤية موحّدة وخيارات نهائية سوى خيار السيطرة وفرض أمر واقع على المجتمع؟.

تعتمد السلطة السورية الجديدة سياسة كسب الوقت والعمل على تسجيل نقاط لصالحها، خاصة في مجال العلاقات الدولية ونيل رضا قوى دولية وإقليمية، لإقناع مكوّنات سورية، الكرد والموحدين الدروز والعلويين، بأن معركتها خاسرة وأن الأجدى لها الالتحاق بالرّكب والقبول بما يُعرض عليها قبل أن تضيع عليها الفرصة وتكون خسارتها شاملة. تعتمد السلطة الجديدة هذه السياسة في ضوء قناعة لديها أن القوى الدولية والإقليمية موافقة على ما تفعله في معركة عضّ الأصابع مع المكونات القومية والمذهبية المتحفظة على سياساتها وخياراتها بدليل أنها باركت كل قراراتها وخطواتها وساعدتها سياسياً وعملياً في احتواء مشكلات عديدة، مثل مجازر الساحل ضد المدنيين العلويين، ومنحتها فرصة لتسجيل نقاط لصالحها، مع تركيزها، القوى الأجنبية، على مطالب تتعلق بأمنها الوطني، مثل قضايا اللاجئين والإرهاب وإيران وروسيا والكبتاغون، ومصالحها الجيوسياسية عبر العمل على تحقيق استقرار إقليمي والانفتاح على الكيان الصهيوني؛ ما يدفعها إلى التركيز على الاستقرار وعدم الاهتمام بحقوق المواطنين السوريين والمكونات القومية والمذهبية وتطلعاتهم إلى الحرية والكرامة، خصوصاً إذا تحولت هذه المطالب إلى سببٍ لعدم الاستقرار، وهو ما عكسته تعليقات هذه الدول المرحبة، إن على همروجة مؤتمر الحوار الوطني أو على الإعلان الدستوري، وتجاهلها ما انطوى عليه من عيوبٍ وعلى تشكيل لجان وظيفية، لجنة للعدالة الانتقالية، ولجنة للبحث عن المفقودين بشكل خاص، حيث اكتفت بالعنوان من دون تدقيق بالصيغة كاملة وبمدى صلاحيتها لتحقيق الهدف المعلن من تشكيلها. وهذا شجع السلطة الجديدة على استخدام المواجهات الدامية في الساحل وجرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء في صياغة توازن قوى يخدم هدفها في السيطرة أساسه تجييش السُنّة عبر تخويفهم من ضياع انتصارهم وعودة النظام البائد وردع بقية المكونات باتهامها بالانفصالية والسعي لإقامة نظام محاصصة طائفي من دون اعتبار للآثار السلبية التي تترتب على ذلك بتدمير الثقة المتبادلة التي تمس الحاجة إليها من أجل نجاح العملية الانتقالية؛ فجوهر السياسة يكمن في إدارة الاختلافات ومعايرتها بحيث تحقق هدفاً رئيساً، وهو التعايش السلمي بين مكوّنات المجتمع؛ ما يعني أن المواجهات التي حصلت قرينة على فشل السلطة الجديدة في تمثيل كل السوريين وفي طمأنة المكوّنات السورية على مصيرها ومستقبلها.

لن يتحقق الاستقرار الداخلي من دون مواجهة استحقاقاته بشكل مباشر عبر الدخول في مفاوضات جدّية بشأن مطالب هذه المكونات والبحث عن صيغ مرضية حولها؛ ووضع عقد اجتماعي يحمي التنوع ويمنح جميع المكونات ضمانات دستورية في دستور أساسه التشاركية والتعدّدية والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات وسيادة القانون والفصل بين السلطات وتشكيل جيش وأجهزة أمنية مهنية وعلى أسس وطنية، فالتهديد الحقيقي لا يكمن في وجود تعدّد وتنوّع قومي وديني ومذهبي، بل في إنكار حقيقة أن بناء سورية الجديدة يتطلب شراكة وطنية تشعر أطراف هذا التعدّد والتنوع أنهم شركاء حقيقيون في الدولة السورية.

وعليه، سيشكل رفع العقوبات سلاحاً ذا حدّين، يساعد من جهة في تخفيف القلق والتوتر الداخلي بالمساعدة على حل مشكلات الحياة اليومية للمواطنين، الغذاء والخدمات، ويمنح، من جهة أخرى، السلطة السورية الجديدة فرصة تنفيذ تصوّرها لضبط المجتمع عبر توفير الأمن والغذاء وإغلاق باب الحرّيات العامة والخاصة، كما فعلت في مرحلة إدلب، سياسة لم تنجح في تحقيق الاستقرار في إدلب، حيث خرجت تظاهرات كبيرة واعتصامات طويلة، كان شعارها المركزي حل جهاز الأمن العام واستقالة الجولاني؛ لكنها قد تستمر بعض الوقت مستفيدة من تأييد السُنّة العرب أو صمتهم. وهذا يستدعي من السلطة الجديدة التدقيق في خياراتها وإعادة النظر في خياراتها وصياغة توجهاتها بدلالة تحقيق الاستقرارين، السياسي والأمني؛ فالاستقرار لا يتحقّق بالاستثمارات الخارجية، بل من خلال إطلاق مسارٍ سياسي داخلي يحقق التوازن والتكامل بين المكونات المجتمعية، فالمخرج يبدأ في السياسة وينتهي فيها ولا بديل عن ذلك.

العربي الجديد

———————————–

مرحباً بسورية خارج قضبانها/ سميرة المسالمة

26 مايو 2025

من دون شروط خارجية، ومع دعم كبير لعودة سورية “دولة مستقرّةً تعيش بسلام”، كما عبّر وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت، تبدأ سورية مرحلتها الجديدة بنظام حكم جديد لبناء مستقبل مشرق ومزدهر ومستقرّ. هذه الكلمات، على بساطتها ومخزون التفاؤل فيها، في حقيقتها برنامج عمل تتقاسم مسؤولية تنفيذه الحكومة والمجتمع السوريان معاً. فما يريده المجتمع الدولي من سورية اليوم، ضمان الأمن الداخلي لجميع أبنائها، وهذا يحتاج إرادة مشتركة بين المكوّنات السورية كلّها، من جهة، ومع السلطة الحاكمة من الجهة المقابلة، فالأمن لا يفرضه طرفٌ على آخر لا ينصاع لقوانينه، والسلطة عادة تمارس صلاحياتها من الشرعية التي يمنحها لها الشعب، ومن عقد اجتماعي يتوافق عليه الجميع، وكلّ خلل في معادلة متوازنة القوة (كما يفترض) ينعكس سلباً في مخرجاتها، ويشوّه مصالح جميع أطرافها، فالحرية المنشودة اليوم لا تتعارض مع تطبيق قوانين صارمة من الدولة، ولا مع أهداف وطنية مُعلَنة، في مقدّمتها وحدة سورية، وضمان حرية شعبها. فلم تعد البلاد اليوم تحت تهديد الانفصال، كما كانت في المراحل السابقة، تحت ظلّ الرعايات الخارجية الانتقائية (قومية أو مناطقية)، وكانت تصبّ دائماً في هدف تمزيق سورية، والنيل من وحدة مجتمعها قبل وحدة أراضيها.

يمكن قراءة قرار رفع العقوبات المفروضة على سورية، وإعلان الولايات المتحدة دعمها سورية، وتأكيدها عبارة “مستقرّة وموحّدة”، بكونهما رسالتَين: داخلية وخارجية، سبق أن وجّهتهما سابقاً إلى دول عديدة، تجربة العراق مثلاً. لكن، يبدو أن بعض السوريين على اختلاف مرجعياتهم يتجاهلون قراءة الأحداث حولنا. فحين أقرّت الدول بعراق موحّد، ورغم كلّ المقومات التي يملكها إقليم كردستان العراق للسعي لدولة مستقلّة، من تمثيل دبلوماسي خارجي وقوى عسكرية (البشمركة) واتفاقات دولية ومقدرات اقتصادية، وإجرائه استفتاءً حول استقلاله، لم يستطع الحصول على أيّ اعتراف بانفصاله عن العراق. هذا يؤكّد ألا خرائطَ جديدةً في منطقتنا العربية، بل هناك سماح ومباركة بسياسات جديدة هدفها الازدهار والاستقرار، وضمان وحدتها توفير الأمان والحقوق المتساوية لكلّ مواطنيها أفراداً وجماعات.

ما حدث في الأيام القليلة الماضية، من قرار رفع العقوبات والتصريحات اللاحقة له، يُعدّ إغلاقاً كاملاً لكلّ النزاعات الداخلية المدعومة خارجياً، وهذا لا يعني استقواء السلطة على الشعب، بل يؤسّس سلطةً هدفها ازدهار أحوال الشعب السوري في كامل أراضي الدولة، بإرادة داخلية تنطلق من ضمان حقوق المواطنة المتساوية، للأكثرية والأقلية، واحترام متبادل لكلّ الثقافات التي تثري النسيج السوري. هذا الواجب، أو هذه الوظيفة المحلّية، التي لا يُنتظَر تطبيقها تحت ضغط الرقابة الخارجية على تقدّم سورية، والتطوّرات في الأرض، بل لأن السوريين كلّهم معنيون فعلياً بتحقيق هذه الغاية، وهي الوصول إلى سورية دولةً مستقرّةً وآمنةً، كما جاء في بيان الوزير بيسنت.

لقد أفشل قرار الرئيس ترامب رفع كامل العقوبات عن سورية، وآليات تنفيذه السريعة، كلّ رهان على فشل عودة سورية دولةً طبيعيةً، وأعادها إلى الانشغال بشؤونها الداخلية، وتأمين متطلّبات الحياة الكريمة لمواطنيها، وتمارس دورها التشريعي الذي يمثّل تطلّعات شعبها، في دولة مؤسّسات وقانون، تزيح عن كاهل السوريين عبء المعاناة من الفساد والخراب الذي خلّفه النظام البائد. الترحيب الدولي الذي حظيت به هذه القرارات يفتح أبواب العالم على سورية، ويجعل منها وجهةً واعدةً للاستثمارات الدولية، شرط أن نحسن التعامل مع متطلّباتها بحرفية ومهنية، وأن نحسن توظيف علوم التكنولوجيا الحديثة التي تتيحها اليوم الدول الصديقة.

ولعلّها المرّة الأولى التي تنفتح فيها سورية على محيطها والعالم من بواباتهم الدبلوماسية، بل وتنجح في توحيد المختلفين على أبوابها، وتعالج أزماتها عبر الحوار وأدواته السياسية، إنه تحوّل يطوي صفحةَ عهدٍ دام خمسة عقود متتالية، يتأرجح بين عداوة دولة وارتهان لأخرى، وتدخّل في شؤون سياسات ثالثة وإخلال بأمن رابعة… وهكذا.

إنه السلام الذي يمحي من ذاكرة السوريين سنوات الحرب والعزلة ووسم الإرهاب، فمرحباً بالدولة السورية خارج قضبانها. مرحباً بالدولة التي يمنحها تحرّرها من تبعات العقوبات التي أنهكت الشعب السوري القدرة على الازدهار وإحلال السلام بين مكوّناتها، وتحقيق أعلى درجات الرضا الشعبي عن أدائها، فالداخل أشدّ حاجةً اليوم إلى دولة قوية توطّد أمنه، وتمهّد الطريق لنهوضه واستقراره وازدهاره.

العربي الجديد

———————————-

هكذا خاض الشرع معركة رفع العقوبات/ إحسان الفقيه

26 أيار 2025

«زعيم هيئة الشام أبو محمد الجولاني يلتقي الرئيس الأمريكي ويصافحه ويجالسه ويبحثان معا الأوضاع في سوريا».

أتخيل لو كانت هذه الصيغة لخبر تم نشره قبل هذا العام، لا ريب أنه سيصيب القارئ بالضحك، وربما اعتبره فكاهة تحتاج إلى رسم كاريكاتيري، فأمريكا تدرج الجولاني على قائمة الإرهاب وترصد مكافأة عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تساعد على اعتقاله، والجولاني بدوره يرى أمريكا رأس كل بلاء يحط على رأس الأمة، فكيف يجتمعان.

لكنها السياسة التي تشبه تقلبات الطقس، فها هي ما اعتُبر أنه أضغاث أحلام يتحقق على أرض الواقع، أحمد الشرع الذي ارتدى الحلة الأنيقة وخلع رداء الجولاني، وتبوأ عرش سوريا، يلتقي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال القمة الخليجية الأمريكية، التي استضافتها الرياض، ويحصل منه على أفضل مفاجأة للشعب السوري، وهي رفع العقوبات عن سوريا.

حدث رفع العقوبات عن سوريا، الذي لعبت فيه المملكة العربية السعودية دورا محوريا، إضافة إلى الدور التركي، لم يأت من فراغ، ولم يتحقق دون مؤهلات، بل هي معركة طويلة خاضتها سوريا الجديدة بقيادة الشرع، الذي هيأ الظروف لهذا الحدث الكبير، الذي انتفض فيه السوريون فرحا.

الشرع كان يدرك منذ البداية أن إسقاط بشار الأسد ليس نهاية المعاناة، بل اعتبره بداية الطريق إلى رفع المعاناة، وعلم جيدا حجم التحديات التي تنتظره بعد إسقاط الأسد، كان أبرزها الانهيار الاقتصادي الذي تمر به سوريا، وكيفية النهوض بالاقتصاد مرة أخرى، وأدرك كذلك أن أكبر عقبات النهوض الاقتصادي هي العقوبات المفروضة على سوريا، وأن الوصول إلى رفع هذه العقوبات هي ضربة البداية والانطلاقة الكبرى نحو بناء الاقتصاد السوري.

كان لا بد للشرع من القفز خارج نطاق التعامل بعقلية زعيم الجماعة والتيار والثورة إلى عقلية رجل الدولة، الذي يتبنى خطابا وطنيا جامعا، ويعمل على الاندماج في المجتمع الدولي، والاعتراف بحكومته داخليا وخارجيا.

وبرأيي أن الشرع قد نجح في ما يمكن أن نسميه «سورنة» المسار، متجاوزا فكر «القاعدة» القديم العابر للقارات، إلى حصر القضية في الجغرافية السورية لا غير، وكان ذلك بمثابة رسالة طمأنة للمحيط الإقليمي والدولي، فليس الرجل صاحب مشروع توسعي يتم تصديره على غرار الثورة الإيرانية، بل أقنع الجميع أن مجال عمله داخل حدود سوريا، وأن أولوياته تتجه إلى البناء الاقتصادي وإنقاذ المواطن السوري من تردي الأحوال المعيشية، وإعادة سوريا إلى الحاضنة العربية، وتصفير النزاعات مع الجميع بما في ذلك الكيان الإسرائيلي.

ثم كان المؤهل الثاني والمرحلة الثانية، على طريق رفع العقوبات، هو امتصاص الضربات الإسرائيلية، وهو أمر يعيبه البعض على الشرع ضمن رؤية لا تمت لمراعاة الواقع والظرف الإقليمي بصلة. كان يعلم أن المواجهة مع الكيان الإسرائيلي تعني ضرب القافلة قبل أن تتحرك، فامتص هذه الضربات وهو يؤكد على أنه لا نية للعدوان على الكيان، واكتفى بالمسار الدبلوماسي بوضع الكرة في ملعب المجتمع الدولي، حتى مع علمه أنه لا رادع لهذا الكيان، في إشارة منه إلى أن سوريا لا تخرج عن المسارات السلمية، وبرأيي كان ذلك من أبرز الأسباب التي أهلت لعمل الوسطاء في رفع العقوبات. مشكلة من يرى في ذلك المسلك خنوعا أنه يعيش أسيرا للطوباوية بعيدا عن قراءة الواقع ويغفل عن توزيع خريطة النفوذ في العالم الذي يعيش فيه، والتي للعرب والمسلمين فيها النصيب الأقل والأضعف. الخطوة الأبرز في تأهيل سوريا للوصول إلى رفع العقوبات، كانت بناء تحالفات إقليمية قوية مع دول ذات ثقل سياسي واقتصادي وشراكة اقتصادية مع أمريكا، كانت بمثابة الضامن لدى الولايات المتحدة بأحقية سوريا في هذه الفرصة التاريخية.

ارتكز الشرع إلى التحالف مع السعودية التي تعتبرها أمريكا الشريك العربي الأول والأقوى في المنطقة، وبدورها أحسنت المملكة في احتضان سوريا والعمل على إعادة ضمها للبيت العربي ودمجها في المجتمع الدولي، واستأنفت دعمها للشعب السوري، الذي بدأ حتى في حقبة بشار، لتقف إلى خيار السوريين في بداية عهد جديد لا مكان فيه للنظام البائد، ومدت جسور الإغاثة للشعب، لإحداث انتعاشة في الأحوال المعيشية، وأعلنت عن تبني العمل من أجل رفع العقوبات عن سوريا. ولا شك أن السعودية تنهي بذلك الاحتضان إنهاء عهد الهيمنة الإيرانية على سوريا، وتفتح المجال أمام الاستثمار في هذا الوطن الذي يتم بناؤه من جديد. وبناء على هذه الجهود، نجحت الوساطة السعودية في إقناع ترامب برفع العقوبات.

تركيا كذلك، كانت شريكا قويا في الوساطة، ضمن مسارها الداعم لاستقرار سوريا، ومنع تفتيتها، باعتبار وحدة الأراضي السورية في ظل الإدارة الحليفة ضرورة من ضروريات الأمن القومي، إذ يحول ذلك الاستقرار دون قيام دولة كردية على الحدود السورية التركية ذات علاقة بتنظيمات معادية لتركيا. قطر بدورها كقوة اقتصادية ودبلوماسية داعمة للشعب السوري وذات علاقة قوية بالولايات المتحدة، كان لها دورها الفاعل في حصول سوريا على هذا المكسب الكبير.

هكذا استفاد الشرع من شبكة التحالفات الإقليمية التي أهلته للاندماج في المحيط العربي والدولي بشكل كبير. ويبقى البطل الأول في هذه المعركة، هو الشعب السوري الذي ينبغي أن ترفع له القبعات احتراما، ذلك الشعب الصامد الأبي الذي كان ظهيرا إيجابيا قويا للإدارة الجديدة، ورجل الأمن الأول في حماية الشارع السوري من الفتن والاضطرابات، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

كاتبة أردنية

القدس العربي

—————————-

سورية تحظى باهتمام أميركي متزايد: ملفات حيوية على طاولة التفاوض/ محمد أمين

26 مايو 2025

تُبدي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب اهتماماً كبيراً في الآونة الأخيرة بالملف السوري، ويتقاطع ذلك مع اهتمام مماثل من دول حليفة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، تدفع باتجاه ترسيخ الاستقرار في سورية بعد أنْ ظلّ هذا البلد لعقود أحد أكبر مصادر القلق الإقليمي والدولي. وفي خطوة أخرى تعكس الانفتاح الأميركي من بوابة واسعة على دمشق، التقى الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني، أول من أمس السبت، المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية توم باراك، في مدينة إسطنبول، في مؤشر جديد يعكس استعداد الإدارة السورية الجديدة لوضع كل الملفات التي تثير اهتمام وربما مخاوف الأميركيين على طاولات التفاوض.

ملفات حيوية بين سورية وإدارة ترامب

وبحسب بيان من الرئاسة السورية، نُوقشت في الاجتماع الذي جرى على هامش زيارة قام بها الشرع إلى إسطنبول (السبت)، ملفاتٌ “حيوية”، منها قرار رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سورية. وتطرق الاجتماع، وفق البيان، إلى ملفات لا تقلّ أهمية، منها الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الجنوب السوري، وملف الأسلحة الكيميائية، وسُبل دعم الاستثمار الأجنبي في سورية، لا سيّما في قطاعي الطاقة والبنية التحتية، إضافة إلى التعاون الأمني المشترك لمواجهة التحديات الإقليمية، بما في ذلك مكافحة الإرهاب، وضبط الحدود، وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.

من جهته، قال باراك في منشورات على منصة إكس، أمس الأحد: “خطوة قوية إلى الأمام. لقد وافقت الحكومة السورية الجديدة على مساعدة الولايات المتحدة في تحديد أماكن المواطنين الأميركيين أو رفاتهم” لإعادتهم إلى بلدهم، وأضاف: “أوضح الرئيس (دونالد) ترامب أن إعادة المواطنين الأميركيين إلى ديارهم أو تكريم رفاتهم بكرامة، هو أولوية قصوى في كل مكان. وستساعدنا الحكومة السورية الجديدة في هذا الالتزام”. وعدّد من بين المفقودين أوستن تايس، وماجد كمالماز، وكايلا مولر. وأشاد باراك “بالخطوات الجادّة” التي اتّخذها الشرع في ما يتعلق بالمقاتلين الأجانب والعلاقات مع إسرائيل. ونقلت وكالة فرانس برس عن مصدر سوري مطلع على المحادثات بين الحكومتَين السورية والأميركية بشأن ملف المفقودين، أن هناك 11 اسماً لآخرين على قائمة واشنطن، هم سوريون لديهم جنسيات أميركية، من دون أن يحدِّد أي تفاصيل أخرى.

تخفيف العقوبات الأميركية عن سورية: الدلالات السياسية

ويندرج هذا اللقاء في سياق الاهتمام الأميركي الكبير بالملف السوري، الذي تجلّى أكثر ما تجلى في قرار الإدارة الأميركية تعليقَ العقوبات على سورية، وهو ما يؤسِّس لعلاقات استراتيجية بين واشنطن ودمشق التي تبدو منفتحة لوضع كل الملفات التي تثير هواجس الأميركيين على طاولات التفاوض. وجاء لقاء الشرع مع باراك بعد يوم واحد من إصدار وزارة الخزانة الأميركية، يوم الجمعة الماضي، ترخيصاً عاماً يقضي بتخفيف فوري للعقوبات المفروضة على سورية، يشمل الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب وعدداً من الشركات والمؤسّسات الحكومية، في تطبيق لإعلان ترامب قبل أيام رفع العقوبات الأميركية عن سورية في قرار وُصف بـ”التاريخي”، وفتح الباب أمام تعاطٍ أميركي مختلف مع الملف السوري.

وتحكم النظرة الأميركية للملف السوري العديد من الثوابت لعلّ في مقدمتها: محاربة الإرهاب المتمثل في مجموعات وتنظيمات متطرّفة أبرزها تنظيم داعش، والملف الكيميائي، إذ تريد واشنطن الانتهاء من هذا الملف الذي يعد من تركة النظام السابق الثقيلة. وبرز بعد إسقاط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، ملف لا يقلّ خطورة بنظر الأميركيين وهو ملف المقاتلين الأجانب في سورية، فواشنطن تريد تحييدهم تماماً عن المؤسسة العسكرية والأمنية السورية لا سيّما عن مراكز القرار. ومن الملفات الماثلة بقوة في السياسة الأميركية إزاء الملف السوري، ملف المفقودين الأميركيين في سورية خلال سنوات الحرب، الذي تتعاطى معه الإدارة السورية بجدية.

ويأتي ملف “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ضمن الاهتمام الأميركي، لكن ليس في صلبه، فواشنطن تدفع باتجاه دمج هذه القوات في المنظومة العسكرية السورية، واستلام دمشق كل الملفات التي هي اليوم في حوزة هذه القوات وفي مقدمتها السجون التي يُحتجز فيها آلاف المقاتلين من “داعش”. ومنذ تسلّمها مقاليد الأمور في البلاد، غلّبت الإدارة السورية مقاربة “هادئة” مع ملف هذه القوات، فوقّعت اتفاقاً معها لدمجها في الجيش السوري، لتجنيب البلاد دورات عنف جديدة.

تقاطع مصالح

وتُبدي الإدارة السورية انفتاحاً كبيراً للتعاون مع واشنطن في كل الملفات، بعد رفع العقوبات الأميركية التي كبّلت اقتصاد سورية عقوداً طويلاً، فدمشق تريد التخلص نهائياً من الأسلحة الكيميائية التي تركها نظام الأسد، وتريد تعاوناً دولياً بهذا الشأن. وكانت هذه الإدارة واضحة منذ البداية أنّها ليست بصدد تصدير الثورة إلى خارج الحدود، وأنّها لن تشكل خطراً على الدول المحيطة بها، فـ”البلاد منهكة”، والأولوية لحماية السِّلم الأهلي وإنعاش الاقتصاد، لكنّ هذه الإدارة تريد في المقابل موقفاً أميركياً رادعاً للجانب الإسرائيلي للعودة إلى اتفاقية فكّ الاشتباك التي ظلت تحكم الجنوب السوري نصف قرن، والانسحاب من المناطق التي احتلتها بُعيد سقوط نظام الأسد.

وسهّلت الإدارة عمل بعثة قطرية برفقة عدد من الأميركيين بدأت قبل أيام البحث عن رفات رهائن أميركيين قتلوا على يد “داعش” أثناء سنوات سيطرته على مناطق واسعة من الجغرافية السورية، في مؤشر واضح على سعيها للتأسيس لعلاقات جديدة مع الجانب الأميركي. وتشير المعطيات إلى أن إدارة الشرع تبدي تعاوناً في ملف المقاتلين الأجانب، إذ يجري إبعادُهم عن المناصب القيادية في المؤسّسة العسكرية وإعادتهم إلى مراكز في شمال غربي البلاد بعيداً عن العاصمة أو مناطق أخرى.

ورأى الباحث السياسي أحمد القربي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الاهتمام الأميركي في سورية “ينبع من أهمية هذا الملف لحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط”، معرباً عن اعتقاده بأن سورية لا تمثل تلك الأهمية للولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وتابع: “الجانب الإسرائيلي مهتم بما يجري في سورية لأسباب أمنية باتت معروفة، والسعودية تبدي اهتماماً لأسباب تتعلق باستقرار المنطقة، والعقوبات الأميركية التي رفعتها واشنطن عن سورية إنما جاءت نتيجة ضغط دول حليفة للأميركيين وأبرزها السعودية”، وقال: “اعتقد أن اهتمام هذه الدول بالملف السوري، هو الدافع الرئيسي لواشنطن لإيلائه الاهتمام ذاته”، وبرأيه، “لا جديد على الملفات الموجودة على طاولة التفاوض بين دمشق وواشنطن”، مضيفاً: “هناك ملف المقاتلين الأجانب وملف محاربة داعش، وعدم إعطاء نفوذ لإيران، وملف السلاح الكيميائي”. وأعرب عن اعتقاده بأن الملفات الماثلة التي تثير اهتمام الولايات المتحدة في سورية هي “ذات أبعاد أمنية وعسكرية”.

ومتّفقاً مع القربي، رأى الباحث السياسي عبد الرحمن الحاج، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الاهتمام الأميركي بسورية “ناشئ من تقاطع مصالح أميركية مع المصالح الإقليمية، وهي مصالح تتجاوز المصالح الإسرائيلية”. وتابع: “سورية إبّان عهد بشار الأسد كانت أحد مصادر تهديد الأمن القومي الأميركي والإقليمي، من خلال توليد الإرهاب والمخدرات (كبتاغون) والهجرة، والحروب التي لا نهاية لها، والوجود الإيراني المهدِّد للاستقرار في المنطقة”، وأشار إلى أن إسقاط الأسد في 8 ديسمبر الماضي “حقّق إنهاءً لكل تلك التهديدات دفعة واحدة، ما جعل الدول الإقليمية (باستثناء إسرائيل) تحرص على تثبيت هذا التغيير وإقناع الولايات المتحدة بدعمه”، وتابع: “أدى سلوك الحكومة الانتقالية في دمشق بقيادة الرئيس الشرع وخطابها السياسي القائم على السلام، ومنع أن تتحول سورية إلى منصة لاستهداف أو إيذاء دول أخرى، واتخاذ إجراءات ذات معنى في هذا الاتجاه، إلى إقناع جميع الأطراف الدولية والولايات المتحدة على وجه الخصوص بدعم الاستقرار في سورية، خصوصاً أن هناك قناعة عامّة باتت تمثل رؤية جيوستراتيجية لسورية بأن استقرار المنطقة يمرّ عبر استقرارها”.

العربي الجديد

————————

العلاقات الأميركية السورية… دبلوماسية الاحتواء الصعب والجمود التكتيكي/ محمد خالد شاكر

26 مايو 2025

ظلّت العلاقات الأميركية السورية، بشكل عام، محكومةً بالعامل الجيوبوليتكي لسورية، وموقعها الروحي مركزاً تاريخياً للحضارة الإسلامية، والمسيحية المشرقية ببعدها العربي، محدّدات أضافت ثقلاً سياسياً وروحياً لسورية في منطقة الشرق الأوسط والعالم، وأضفت نوعاً من الندّية في العلاقة، بين دولة عظمى كالولايات المتحدة، ودولة صغيرة كسورية.

لم تكن سورية يوماً دولةً هامشيةً في محيطها، فقد ظلّت إلى عهد قريب عاصمة بلاد الشام سياسياً وثقافياً، قبل أن تتلاقفها رياح الأيديولوجيا، والشمولية، والظروف الدولية، التي حولتها، تارّةً دولةً قلقةً داخلياً، ومقلقةً خارجياً تارّةً أخرى، سواء في محيطها العربي أو الإقليمي أو الدولي، خصوصاً في علاقتها المعقدة والصعبة مع واشنطن؛ فبدت العلاقات الثنائية بين البلدَين ذات طبيعة متمايزة، ومختلفة اختلافاً جذرياً عن سائر علاقات الدول العربية والإسلامية مع الولايات المتحدة.

ونحاول هنا تتبع مسار العلاقات السورية الأميركية وتحولاتها في مراحل مختلفة منذ الاستقلال وصولاً إلى لقاء الشرع ترامب في الرياض، لتدخل معه العلاقات الأميركية السورية مرحلة انفتاح حذر.

تفاوت التمثيل الدبلوماسي

مع بدايات الاستقلال (1945- 1947)، شهدت العلاقات الأميركية السورية نوعاً من التعاون والانفتاح والودية، إذ نكّست سورية أعلامها ثلاثة أيّام حداداً على وفاة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (في السلطة: مارس/ آذار 1933- إبريل/ نيسان 1945)، وأقام البرلمان السوري حفلاً تأبينياً ألقى خلاله رئيس الوزراء بالوكالة خليل مردم بك كلمةً وصف فيها الراحل روزفلت بـ”العظيم” و”الثمرة الطيّبة من ثمار الديمقراطية”. في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول 1945، أصدر الرئيس شكري القوتلي المرسوم القاضي بتعيين ناظم القدسي وزيراً مفوّضاً في الولايات المتحدة، لحق ذلك دعم واضح من قبل الولايات المتحدة لاستقلال سورية. وفي إبريل 1946، شغل فايز الخوري منصب سفير لسورية في واشنطن؛ وشهدت هذه المرحلة توقيع عدد من الاتفاقات التجارية، من بينها اتفاق التطوير والتحديث بين شركة بان أميركان والشركة السورية للطيران في يوليو/ تموز 1947. وفي العام نفسه، اجتمع السفير الخوري مع الرئيس الأميركي هاري ترومان (في السلطة: إبريل/ نيسان 1945 – يناير/كانون الثاني 1953) وشرح له رفض سورية قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1947.

مع اعتراف الولايات المتحدة بـ”إسرائيل” 1948 واندلاع الصراع العربي الإسرائيلي، توتّرت العلاقات بين سورية والولايات المتحدة، لكنّها لم تصل إلى حدّ العداء والقطيعة، بقدر ما حدّدتها طبيعة ومستويات تعاطي الولايات المتحدة مع القضية الفلسطينية، التي تراوحت تاريخياً بين الوساطة والتفاوض والتسويات والقطيعة.

طوال عقدي الخمسينيّات والستينيّات، لم تنقطع العلاقات بين البلدَين، لكنّها شهدت تفاوتاً في درجة التمثيل الدبلوماسي. ففي العام 1961، شغل الشاعر عمر أبو ريشة منصب سفير سورية في واشنطن، والتقى الرئيس الأميركي جون كينيدي.

كيسنجر وسياسة “خطوة خطوة”

مع وصول حزب البعث إلى السلطة 1963، توتّرت العلاقات بين البلدَين بسبب تبنّي الحكومات السورية اللاحقة توجهات اشتراكية، تقاربت مع الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق إبّان الحرب الباردة؛ فدعمت القضية الفلسطينية التي أصبحت القضية المركزية لدى السوريين، ما أوصل العلاقات الثنائية إلى حدّ القطيعة بعد هزيمة حزيران 1967.

في الخامس من يونيو/ حزيران 1970، طرح وزير الخارجية وليام روجرز مبادرته الشهيرة لوقف حرب الاستنزاف والبدء بمفاوضات بوساطة أميركية تؤدّي إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 242، إلا أن هذه المبادرة أُجهِضت بسبب استقالة روجرز من منصبه بسبب تدخّل مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر في الشؤون الخارجية، بعد زيارة الأخير إلى الصين سرّاً؛ فجمع كيسنجر بين منصبَي وزارة الخارجية ومستشار الأمن القومي، آخذاً على عاتقه نقل الدور الأميركي في التفاوض مع سورية من الوساطة إلى الانحياز التام لإسرائيل عقيدةً ثابتةً للاستراتيجية الأميركية، أراد لها كيسنجر ألّا تتغيّر بتغير الرؤساء الأميركيين. وتُعدّ مرحلة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (في السلطة: 1969- 1974) ووزير خارجته هنري كيسنجر (في السلطة: 1969 – 1977) من أعقد وأهم المراحل التي مرّت فيها العلاقات الأميركية السورية، إذ تراوحت بين القوة والدبلوماسية والتفاوض، والصفقات التي انفرد بها كيسنجر بشكل شخصي.

مع اندلاع حرب 7 أكتوبر (1973)، اضطلع كيسنجر بهندسة العلاقات بين سورية وبلاده من خلال سياسته الشهيرة المعروفة بـ”خطوة خطوة”، التي شكّلت منعطفاً في تاريخ منطقة الشرق الأوسط بدءاً من العلاقة مع سورية. آمن كيسنجر أن لا سلام من دون سورية، وكونه رجل دولة بخلفية تكنوقراطية، آمن بالبعد السيكولوجي لصانع القرار، فعرف مداخل الضعف والقوة لدى الرئيس حافظ الأسد، وتاريخه الموسوم بالنزوع إلى السلطة غايةً. اشتغل كيسنجر على تفكيك وبناء السياسة الخارجية الأميركية التي وصفها بأنها ” لعبة من دون قواعد” و” سياسة في مهبّ الريح”. فاشتغل على فكرة ثبات هُويَّة السياسة الخارجية الأميركية بدءاً بحماية وضمان أمن إسرائيل، فأسس لفكرة التفاوض المنفردة مع الأسد، منذ الأيام الأولى لحرب أكتوبر وصولاً إلى اتفاقية فضّ الاشتباك بين سورية وإسرائيل 1974، وانتهاءً بعزل مصر عن الصّف العربي مقدّمةً لتفكيك النظام الإقليمي العربي وعزل سورية بالانفتاح بدلاً من المواجهة.

انفتاح في ظلّ إدارة الصراع

شهدت مرحلة ما بعد حرب أكتوبر انفراجاً كبيراً في العلاقات الأميركية السورية من خلال سياسة أميركية تقوم على مبدأ إدارة الصراع وليس حلّه، بما يحقّق رغبات الطرفَين السوري والأميركي، ويضفي على العلاقات بين البلدَين طابعاً تفاوضياً بصفقات سرّية؛ حقّق من خلالها حافظ الأسد في مراحل لاحقة استئثاره بالسلطة، واحتكاره التفاوض باسم القضية الفلسطينية، وإطلاق يده في لبنان.

في 15 يونيو/ حزيران 1974، وصل إلى دمشق الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وزوجته ووزير خارجيته كيسنجر، في زيارة وصفت حينها بـ”التاريخية”، بل تجاوزت العرف الدبلوماسي بسبب عدم وجود سفارة أميركية في دمشق حينها، فكانت رسالةً أميركية لبدء مرحلة من العلاقات بعيدة من القواعد والتقاليد الدبلوماسية، ورغبة في توطيد العلاقات بين البلدَين، التي انقطعت منذ حرب 1967. في العام نفسه 1974، عين الرئيس حافط الأسد صباح قباني سفيراً لسورية في واشنطن، لتتوالى بعدها القمم السورية الأميركية التي جمعت حافظ الأسد بالرؤساء الأميركيين جيمي كارتر، وجورج بوش الأب، وبيل كلينتون الذي زار هو الآخر دمشق واستقبل بحفاوة في أكتوبر/ تشرين الأول 1994، في مرحلة كانت منطقة الشرق الأوسط تغلي على نار حرب الخليج الأولى.

اتسمتْ الدبلوماسية الأميركية خلال هذه المرحلة بديناميكية إيجابية، انعكست بشكل واضح على تطوير العلاقات بين البلدَين، وأظهرت بأن جميع مفاتيح الأبواب المغلقة في الشرق الأوسط بيد السلطة في دمشق. واعتبر الرئيس الأميركي نيكسون أن الانفتاح على سورية خطوة نحو تسوية شاملة في الشرق الأوسط؛ بالرغم من قناعته التامة بمعرفة السوريين بالانحياز الأميركي لإسرائيل، إلا أنّ ذلك لايعني، حسب نيكسون، عدم قدرة الولايات المتحدة على لعب دور الشريك والوسيط في عملية التسوية والتفاوض مع سورية. أمّا كيسنجر، فقد كان له رأيٌ آخر، فقد كان مؤمناً بعدم جدوى إعادة الأراضي المحتلّة إلى العرب من خلال تسوية شاملة تعيد ما خسروه قبل 4 يونيو، على طريقة نيكسون، ومبادرة روجرز.

أولويات الأمن القومي الأميركي

طوال فترة السبعينيّات، ظلّت العلاقات الأميركية السورية محكومةً برؤية كيسنجر، والتفاوض مع كلّ دولة عربية على انفراد. استمرأ حافظ الأسد ذلك، فتراوحت العلاقات الثنائية بين الاحتواء والتفاوض، والقوة المحدودة والدبلوماسية، ما ساعد كيسنجر على تطبيق دبلوماسية إدارة الصراع، وليس حلّه، تاركاً عامل الوقت والمتغيّرات الدولية والإقليمية تفعل فعلها، وهو ما حصل بالفعل مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي تصدّر فيها الأسد وكيسنجر واجهة الأحداث.

حتى العقد الأخير من حكم الأسد الأب، ظلّت العلاقات بين دمشق واشنطن تدور في فلك الجمود التكتيكي، ففي الفترة ما بين 1990 إلى 2000، شغل وليد المعلّم منصب سفير سورية في واشنطن، وهي المرحلة التي ترافقت مع سعي الإدارات الأميركية (من دون جدوى) نحو مفاوضات سورية مع إسرائيل اتساقاً مع اتفاقات السلام العربية إبّان تلك المرحلة.

في عهد جورج بوش الابن (في السلطة: 2001 – 2009)، وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر (2001)، أصبحت مسألة الحرب على الإرهاب من أهم أولويات الأمن القومي الأميركي، وخلال هذه المرحلة، أبدت المخابرات السورية تعاوناً كبيراً مع واشنطن، إلا أن هذه العلاقات تراجعت بعد أقلّ من عامَين بسبب الحرب الأميركية على العراق سنة 2003، والمواقف السورية الرافضة لها، وتزايد التدخّل السوري في لبنان، ودعم حزب الله، وتوسّع الدور الإيراني في العراق؛ فشهدت العلاقات الأميركية السورية تراجعاً وصل إلى حدّ العداء المُعلَن مع إصدار الكونغرس الأميركي، في ديسمبر/ كانون الأول 2003، قانون محاسبة سورية، الذي طالب السلطة في دمشق بالانسحاب من لبنان، ووقف تطوير أسلحة الدمار الشامل، وعدم دعم المقاتلين ضدّ القوات الأميركية في العراق. ونصّ القانون على مجموعة من العقوبات، أبرزها منع الشركات الأميركية من العمل في سورية، وتقييد سفر الدبلوماسين السوريين داخل الولايات المتحدة، وحظر تصدير منتجات الولايات المتحدة غير الغذائية إلى سورية، وحظر الطيران السوري في الأجواء الأميركية.

من سياسة الانكفاء والعقوبات إلى الانفتاح الحذر

تدهورت العلاقات بين دمشق وواشنطن أكثر فأكثر مع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير/ شباط 2005، فاستدعت الولايات المتحدة على الفور سفيرها في دمشق، وبعد أقلّ من ثلاثة أشهر، انسحبت القوات السورية من لبنان تاركةً ورائها أقوى نقاط قوتها في المنطقة.

في نوفمبر 2010، خلال فترة الرئيس الأميركي باراك أوباما (في السلطة: يناير/ كانون الثاني 2009- يناير 2017) وجّهت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون رسالةً قاسيةً إلى القيادة السورية، أكّدت فيها أنّ الانفتاح على دمشق مرتبط بضرورة الابتعاد عن المحور الإيراني، وتحقيق التعاون بشأن العراق، وعدم التدخّل في لبنان، والتوقّف عن دعم حزب الله، واستئناف محادثات السلام مع إسرائيل. هذه المطالب رأتْ فيها دمشق ضرباً من المحال، فدخلت العلاقات بين البلدَين في أسوأ مراحلها من القطيعية والعداء، تمظهرت تداعياتها مع اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، التي أوصلت العلاقة بين البلدَين إلى مستوى الحرب، حين أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما، في يوليو/ تموز 2011، أن الرئيس السوري “فقد شرعيته، وعليه أن يرحل”، قبل دعم فصائل سورية بالسلاح.

طوال سنوات الثورة السورية (2011- 2024)، دخلت الحالة السورية في تعقيدات وانقسامات محلية وإقليمية ودولية عديدة تركت آثارها في طبيعة تعاطي واشنطن مع الملفّ السوري، ففي مراحل لاحقة من عمر الثورة، فضّلت الولايات المتحدة سياسة الانكفاء تاركةً القوى المحلّية والإقليمية تصفّي حساباتها بنفسها؛ فاكتفت بالعقوبات الاقتصادية، مع صدور قانون قيصر لحماية المدنيين في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2019.

مع انتصار ثورة السوريين في 8 ديسمبر (2024)، تنفّست البلاد هواء الحرية، وغطّت نشوة الفرح جراحات سنوات الحرب في وطن ممزّق وهشّ في جميع بناه السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية.

وبين حراك سياسي ودبلوماسي سوري محملاً بتضحيات السوريين، وحراك عربي أعاد إلى سورية هويتها التاريخية قوةً مضافةً ببعدها العربي، شهدت العلاقات السورية الأميركية انفتاحاً حذراً شعاره الترقّب والانتظار، حين أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 14 مايو/ أيار 2024، من الرياض، رفع العقوبات عن سورية، بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لحقته، في اليوم التالي، قمّة ثلاثية، انضمّ إليها الرئيس السوري أحمد الشرع والرئيس التركي رجب طيب أردوغان هاتفياً، أعرب خلالها الرئيس الأميركي عن رغبة بلاده في “إعطاء فرصة” للحكومة السورية الجديدة، والتفكير بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع سورية.

العربي الجدبد

——————————-

قرار رفع العقوبات ليس نهاية الطريق/ سميرة المسالمة

الإثنين 2025/05/26

السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه، هل يمثل قرار رفع العقوبات نهاية المعركة الدبلوماسية والشعبية معها، أم هو بداية الطريق الأصعب في خط سير سوريا السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟

صحيح أن النطاق الذي يتيحه هذا القرار في البيئة الاقتصادية هو كبير ومتعدد المستويات، إلا أنه في الوقت ذاته يضع الحكومة والشعب السوري أمام تحديات جديدة، تتمثل بكيفية استيعاب هذا الانفتاح وتوظيف مخرجاته بما يخدم النمو الاقتصادي المنشود، وبما لا ينعكس سلباً على معيشة المواطنين، وخصوصاً ما يتعلق بتبعات تحرر قيمة الصرف الحقيقي للعملة المحلية، والتي لا تزال تحت قيد ورقابة الحكومة المركزية التي تسعى لمنع انهيارها المفاجئ.

فالانفتاح المرتقب على الاستثمارات والشركات العالمية التي تتأهب لدخول السوق السورية، ما لم يكن مدعوماً بقدرات داخلية مؤهلة تمكنها من تنظيمه واستثماره بشكل يوفر عملية تبادلية تطويرية، تبدأ من العامل البشري السوري، ليكون مردودها على بيئته المحيطة، سيجعل من سوريا مجرد محطة عابرة ويد عاملة رخيصة، ما يعني أن التحدي المقبل لا يكمن فقط في توفر التدفقات المالية أو الموارد الخارجية، بل في كيفية استثمار كل ذلك بما يجعل سوريا تنهض على أسس عابرة للتقلبات السياسة والأنظمة الحاكمة، أي بناء البنية التأسيسية الصالحة لاقتصاد صحي وطبيعي وعام يماثل البيئات الاقتصادية التي عبرت ظروف حروبها وأزماتها السياسية.

مواجهة الواقع الحالي الذي تعاني منه سوريا، سواء من خلل الهيكل التنظيمي للاقتصاد أو غياب الشفافية، والفساد المؤسساتي المتراكم، وكل ذلك مرتبط حالياً بواقع سياسي قانوني يحتاج إلى بنية تحتية تشريعية وقانونية وأمنية، تحمي “التطلعات” قبل الوصول إليها، سواء كانت الحكومة السورية ترى صورة اقتصادها مناصفة بين القطاع العام والخاص، أو أنها تريد لحصة القطاع الخاص أن تكبر على حساب العام في خطوات حذرة ومنظمة، ما يجعل الأولوية اليوم لتسريع وجود بيئة تشريعية تمثل السوريين وتسعى للحفاظ على التوازن المطلوب لضمان حقوق السوريين في حياة كريمة وفرص عمل مجدية، وعادلة لجميع القطاعات والمنشآت الكبيرة والصغيرة وما بينهما.

سوريا اليوم أمام فرصة ربما لم تحصل عليها سابقاً، وهي الاجماع الدولي والإقليمي وأهمه التوافق العربي البيني ومع الآخرين، على رعاية هذا التغيير الجذري في السلطة وآليات الحكم وأهدافه، رغم أنه تغيير محفوف بالمخاوف المرافقة له، والمشروط أيضاً بتغييرات داخلية تؤدي إلى ضمان السلم الأهلي، الذي لا يزال يعاني من زلات ممارسات مسلحة تارة، ومن انزلاقات المكونات نحو التكتلات المرجعية الطائفية أو القومية تارة أخرى وثانية وثالثة.

فإن لم يضبط إيقاع المرحلة المقبلة على هدف التنمية الحقيقي، وهو تعزيز قدرة المواطن السوري، فقد يطرح هذا الانفتاح ثماره خارج الأرض السورية، فتغرق مراكبنا في بحر الشراكات الخارجية غير المجدية. ولهذا لا بد من رفع الحصار عن الكفاءات السورية وفتح الأبواب لها، تكنولوجياً وخدماتياً ومشاريع التنمية في كل المجالات، لتكون هي الرافعة الوطنية الحقيقية لمجتمعاتها المحلية.

فرصة الانفتاح التي توفرها قرارات رفع العقوبات، التي باتت قاب قوسين أو أدنى من حدوثها الفعلي القانوني، يجب ألا تضيعها حالة الانفلات الأمني والانغلاق “المكوناتي”، وفوضى البيئة الداخلية التشريعية التي لم تأخذ موقعها المؤسساتي حتى اللحظة.

إن عودة سوريا إلى خريطة العالم كدولة مستقرة وقادرة على النهوض من رماد حربها الطويلة، يحمّل السوريين وحكومتهم مسؤوليات تكاد تكون أشد وطأة عليهم من كل ما سبق، هو طريق الخلاص الصعب، لكنه بالإرادة قد يكون قريباّ.

المدن

—————————

رفع العقوبات المفروضة على سوريا/ نبيل فهمي

من الأهمية بل من الضرورة النظر في أفضل وأسرع السبل لتوفير الدعم الاقتصادي والإنساني للمواطنين

الاثنين 26 مايو 2025

ستوضح الأسابيع المقبلة طبيعة العقوبات المرفوعة وحجمها، ويتوقع استمرار العقوبات على أعضاء نظام الأسد، وأن ترفع عن بعض مسؤولي النظام الجديد المسجلين على قائمة الإرهاب.

إعلامياً من أهم الخطوات السياسية التي خرجت عن جولة دونالد ترمب إلى السعودية وقطر والإمارات هي ترتيب لقاء مع أحمد الشرع بحضور سعودي ومع اتصال تركي، لما حمله من معانٍ سياسية ويتبعه من ترتيبات اقتصادية وأمنية. واستُقبل اللقاء بترحيب محكوم وكياسة من قبل كثر في العالم العربي والشرق الأوسط، مع التطلع لانفراجة اقتصادية في سوريا بمختلف توجهاتها، والتي يعاني شعبها ويلات حرب أهلية امتدت لأكثر من عقد من الزمن، أُهدرت فيها الأرواح واستُنزفت فيها الموارد والخيرات.

واللقاء السياسي مع القيادة السورية له مغزاه وقيمته وأهميته، لاعتبارات توازن إقليمي شرق أوسطي ترتبط بدور إيران، وفي ظل ما نُشر بعد ذلك عن مفاوضات سورية-إسرائيلية مباشرة، بغية التوصل إلى اتفاق سياسي بين البلدين. ومن يتجول في الساحات السورية الآن يجد مزيجاً من التفاؤل المحسوب والمرتبط ببدء مرحلة ما بعد الأسد والتغيير السياسي الداخلي، مع استمرار الترقب للتوجهات السياسية للبلاد، على أمل أن تكون الحصيلة السياسية الجمع المجتمعي ولم الشمل، حتى إذا تعرضت المسيرة إلى بعض التعثرات الطبيعية على طريق توفيق الأوضاع والاستقرار في ظل المواقف المتباينة واختلاف التوجهات.

إنما اللافت للنظر وبوضوح أن الكل في سوريا عدا استثناءات محدودة، يعاني ضائقة مالية شديدة، تمنعهم حتى من الاستفادة من وفرة بعض السلع الأساس المتوافرة وبخاصة من دولة الجوار تركيا. لذا، يظل التركيز الأساس للمواطنين على إعلان ترمب أنه وجه برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وهي خطوة جديدة إنما يجب أن ينظر إليها بقدر من التفصيل والدقة لتقدير حجم ومصدر الانفراجة ومعدلاتها المتوقعة، وتحديد أفضل سبل توفير المساعدات ووصولها إلى المواطنين والمحتاجين.

أهم وأكثر العقوبات المتبقية والأكثر تأثيراً في سوريا بعد انهيار نظام الأسد كانت العقوبات الأميركية والبريطانية والمرتبطة بالاتحاد الأوروبي، وذلك لما تفرضه من ضغوط مباشرة على حكومات تلك الدول، وكذلك أثرها الانكماشي على دول أخرى وعلى القطاع الخاص عامة، خشية تأثر نشاطهم في سوريا على نشاطات أوسع وأكبر في دول أخرى.

وقبل زيارة ترمب للخليج، انصبت الضغوط والعقوبات الأميركية على ما يسمي الداعمين للإرهاب SST، وهم أعضاء نظام الأسد والمرتبطين به، وعقوبات على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية السورية، وأخرى اقتصادية شاملة خارج إطار الاستثناءات الإنسانية، وحظر التعامل مع المؤسسات الروسية، علماً أنه لم تكن الولايات المتحدة رفعت سوريا ورئيسها الحالي عن قائمة الإرهاب ووضعت ضوابط شديدة على تصدير تكنولوجيا المعلومات، وتفرض عقوبات على أطراف ودول أخرى لها علاقات اقتصادية كبيرة مع سوريا، في حين كانت اتخذت إجراءات، النظر حالة بحالة، في السماح ببعض التعاقدات المرتبطة بالطاقة والخدمات العامة والإنسانية وتقديم الخدمات الإدارية الحكومية للنصف الأول من عام 2025.

بعد انهيار نظام الأسد كانت بريطانيا علقت عقوباتها على 24 مؤسسة سورية، بما في ذلك البنك المركزي والطيران السوري وعدد من شركات الطاقة وإعادة الإعمار، إنما ظلت عقوباتها على عدد من الشخصيات المرتبطة بنظام الأسد وضد نشاطات ترتبط بالتهريب، وكذلك بالتكنولوجيا مزدوجة الاستخدام والاستمرار في فرض إجراءات خاصة بحماية الأصول الحضارية.

من ناحية أخرى رفع الاتحاد الأوروبي العقوبات في مجالات الطاقة والنقل والمؤسسات المالية ومن ضمنها على أربعة بنوك وشركة الطيران السورية، مع السماح بتمويل المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار، في حين تمسك الاتحاد الأوروبي باستمرار العقوبات والحظر على أعضاء نظام الأسد وأعوانه، وحظر توفير الأسلحة ووضع قواعد وحدود لتصدير التكنولوجيا التي يمكن أن يكون لها استخدام مزدوج مدني وأمني.

ستوضح الأسابيع المقبلة طبيعة العقوبات المرفوعة وحجمها، ويتوقع استمرار العقوبات على أعضاء نظام الأسد، وأن ترفع عن بعض مسؤولي النظام الجديد المسجلين على قائمة الإرهاب لدى نفس هذه الدول، وستكون هناك بعض التناقضات والمؤامرات المتوقعة والضرورية الناتجة من غياب الحكم الرشيد في سوريا لأعوام طويلة، وهو السبب الرئيس في انهيار النظام السابق وتمكين الغير من التدخل في الأمور.

وعلى رغم الاضطرابات السياسية والحاجة إلى وقت كافٍ لاستقرار الأمور سياسياً، من الأهمية بل من الضرورة النظر في أفضل وأسرع السبل لتوفير الدعم الاقتصادي والإنساني لمواطني سوريا، من خلال عدد من الخطوات مثل تغيير منهجية فرض العقوبات والاستثناءات المعطاة وأسلوب وشروط تلقيها، والتمسك بمنهجية تفرض وتشترط بصورة إيجابية التزام الداعم والمتلقي بالشفافية والمحاسبة، وتأمين تنوع الخيارات والمصادر في التعاملات كافة المرتبطة بالمساعدات، وهي قواعد وشروط يجب أن تطبق على الداعم والمتلقي لأن تجارب الماضي يشوبها كثير من التجاوزات على الجانبين.

وعملياً هذا يتطلب تغيير الأدوات العقابية وتطويرها، من أجل تسهيل وتأمين المساعدات والاستثمارات في الخدمات العامة والبنية الأساس والتنمية الاقتصادية، مع الإقلال قدر الإمكان من التعامل الاستثنائي لكل حالة لتسهيل واستقرار العمليات الاقتصادية والاستثمار، وتوفير الفرص المتساوية والحد من الفساد بين الداعمين والمتلقي.

ويجب توحيد وتوضيح إجراءات المصارحة والمكاشفة والمراجعة المطلوبة من المؤسسات المالية باعتبارها الركيزة الأساس لأية منظومة اقتصادية، وتمكين وتأهيل المؤسسات السورية بما في ذلك القطاع الخاص لتطبيقها بنمطية مستقرة.

ومن الأهمية بمكان ضمان توفير الإجراءات والآليات اللازمة لضمان التوزيع العادل للمساعدات في مختلف أنحاء البلاد من دون تمييز أو تفرقة، من خلال مؤسسات حكومية أو بدعم من المجتمع المدني، مع تركيز خاص على برنامج دعم قدرات المحليات وتوفير الغذاء والخدمات الصحية.

هناك حاجة ملحة للدعم العاجل للمجتمع السوري إنسانياً واقتصادياً، وستزداد الطلبات والحاجات مع زيادة أعداد العائدين، وأعتقد أن علينا جميعاً التزاماً إنسانياً في هذا الصدد، خلال الوقت نفسه الذي نتابع فيه السلطات السورية بالالتزام بمنهجية جامعة للشعب السوري من دون تفرقة أو تمييز، حفاظاً على الهوية السورية العربية.

—————————————

العقوبات والشروط الخمسة/ لمى قنوت

يشكل رفع العقوبات الجائرة عن سوريا أهمية استثنائية من أجل إعادة الإعمار، وتعافي الاقتصاد، ودمج الأسواق السورية بالأسواق العالمية، وتحرير الأصول المجمدة، وإنهاء الإجراءات الاحترازية أو الإفراط بالامتثال، والتي عانت منها المؤسسات، كما الأفراد، وقوضت حقوقهم، كالحق في العمل والتنقل والصحة والعيش الكريم والحصول على التكنولوجيا، وغيرها من الحقوق التي أحبطت فرصهم وتطورهم المعرفي وأفقرتهم، وما التعبير الفوري لفرح أغلبية السوريين والسوريات، إثر إعلان ترامب عن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا خلال زيارته للمملكة العربية السعودية، سوى رفع لأذى لحق بهم لعقود طويلة، منذ عام 1979، ثم، وبشكل مرن رفُعت عقوبات الاتحاد الأوروبي.

واقعيًا، فإن العقوبات الاقتصادية أداة من أدوات الحرب، وهي وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، وقد شبهها نيكولاس مولد في كتابه “السلاح الاقتصادي” بأنها غالبًا ما تكون كطلقة “بندقية رشاشة، قد تصيب الهدف، لكنها ستصيب أيضًا غير المستهدفين، وفي بعض الحالات يمكن لمن تستهدفهم العقوبات أن يتجنبوا هذه التكاليف تاركين الأكثر ضعفًا يتحملون العبء الأكبر وهذا يطرح أسئلة عملية وأخلاقية بخصوص العقوبات”.

وبالفعل، نجا الأسد من أضرار العقوبات، إذ كان نهبه للمال العام وتهريبه سهلًا ومرنًا ومراقبًا حتى من الدول التي وضعت العقوبات على سوريا وعلى شبكات أعماله، أفرادًا ومؤسسات، لكنها، أي تلك الدول، تجاهلت التفاف النظام على العقوبات حتى آخر لحظة، وخصوصًا الرحلات الجوية الأخيرة التي قام بها مستشاره الاقتصادي يسار إبراهيم بنقل أموال ومقتنيات ثمينة ووثائق سرية، حسب وكالة الأنباء “رويترز“، قبل فرار الأسد بيومين، بين  6 و8 من كانون الأول 2024.

بالتوازي مع صمت الشرع وعدم مصارحة الشعب حيال الالتزامات التي قدمها للإدارة الأمريكية من أجل رفع العقوبات، والمحادثات التي أجراها مقربون منه مع إسرائيل، شهدنا سيلًا إعلاميًا حيالها، على سبيل المثال، صرح ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، بأن السلطة الحاكمة في دمشق “أعربت عن رغبتها في السلام مع جميع جيرانها، بما في ذلك إسرائيل، كما أعربت عن رغبتها في طرد المقاتلين الأجانب والإرهابيين وغيرهم ممن قد يزعزعون استقرار البلاد ويُعَادون السلطة الانتقالية، وقد طلبت مساعدتنا في ذلك، وسوف نسعى لمساعدتها”، وفي أذربيجان، جرت محادثات مباشرة بين ممثلين عن الحكومة الانتقالية وإسرائيل، حضرها عن جانبهم رئيس مديرية العمليات في الجيش الإسرائيلي، اللواء عوديد سيوك، ورئيس مجلس الأمن القومي، تساحي هنغبي، وبحضور مسؤولين أتراك، وأوضح كوري ميلز، عضو مجلس النواب الأمريكي أن الشرع يرغب بالانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية وفقًا “للشروط الصحيحة”.

ومن أنطاليا، في 15 من أيار الحالي، أوضح روبيو أيضًا، أنه ستصدر إعفاءات أولية من العقوبات لكنها لن تلغى بالكامل، وإذا “أحرزت سوريا تقدمًا” ستطلب الإدارة من “الكونجرس” إلغاء العقوبات بصورة دائمة، لأن “احتمال عودة العقوبات كل ستة أشهر يشكل رادعًا للاستثمار“، وفق تصريحه.

وحددت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، المطالب الخمسة التي وجهها ترامب للشرع خلال لقائهما، وشملت: التوقيع على اتفاقية “أبراهام” للتطبيع مع إسرائيل، ومطالبة جميع المقاتلين الأجانب بمغادرة سوريا، وترحيل المسلحين الفلسطينيين الذين تصنفهم الولايات المتحدة على لوائح الإرهاب، ومساعدة الولايات المتحدة على منع عودة تنظيم “داعش”، وتحمل مسؤولية مراكز احتجاز أسرى “داعش”.

لا تبدو بعض المطالب الأمريكية سهلة التنفيذ بالنسبة للشرع، وعلى رأسها ملف إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا، فقد اعتبرهم شركاءه في إسقاط النظام ووصوله وفريقه إلى السلطة، وتم إعطاء رتب عسكرية لستة منهم على الأقل، ودمج بعضهم في وزارة الدفاع أو أصبحوا ضمن ملاكها، الأمر الذي أثار رفضًا سوريًا، رغم تبرير البعض بأمثلة حصلت في سياقات أخرى.

وعلى الأغلب، لن تتعاطى السلطة الانتقالية بجدّية مع مخاوف السوريين والسوريات من وجودهم والخشية من اقتتالهم، وتنامي تحويل سوريا كمنطلق لجهاد عابر للحدود، ومن تصاعد تأثير الجماعات التكفيرية على النسيج المجتمعي، وإنما قد تفاوض الأمريكي على عدم إخراج من يريد البقاء منهم في سوريا، بحجة تجنيسهم أو زواجهم من سوريات، والتعهد بضبط تطلعاتهم للجهاد خارج الحدود وإبعادهم عن المناصب في وزارة الدفاع، وستحاول ألا تثير توجس الجهاديين الأجانب، وخاصة بعد أن هاجم تنظيم “داعش” الشرع في افتتاحية صحيفتهم الأسبوعية الإلكترونية “النبأ”، واتهموه بالهوس بالسلطة، واستبدال “ملة إبراهيم” باتفاقيات “أبراهام”، بعد لقائه مع ترامب، ووجهوا دعوة للمقاتلين المنضوين تحت وزارة الدفاع للانضمام إلى خلاياهم، معتبرين “أن الشرع استغلهم لتحقيق مشروعه الشخصي”. وبعد تداول معلومات عن حملة أمنية تستهدف مقاتلين أجانب، نفى نور الدين البابا، المتحدث باسم وزارة الداخلية، هذه الأخبار واعتبرها مضللة، وأعلن عن حملة أمنية تستهدف خلايا “داعش” في أحياء حلب الشرقية. ونافلة القول، فإن القضاء على “داعش” وأفكارها هو مطلب سوري، لا يجب أن يقتصر على المعالجة الأمنية فقط، بل يجب أن تتضافر الجهود مع معالجات قانونية وتعليمية واجتماعية، وجهود دبلوماسية مع الدول التي عليها أن تستعيد رعاياها المنتمين للتنظيم والمحتجزين في سجون سورية.

أما عن شرط الإدارة الأمريكية المتعلق بالانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، فإن التصريح الوحيد الذي صدر عن الشرع بخصوص مفاوضات غير مباشرة تمت مع إسرائيل، كان خلال مؤتمر صحفي مشترك بينه وبين الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في قصر “الإليزيه” بفرنسا، وبعد عودته من السعودية ولقائه ترامب، لم يطمئن السوريين والسوريات بشأن عدم التفريط بالجولان المحتل والانسحاب من المواقع التي احتلتها مؤخرًا، خلال خطابه الذي شكر فيه السعودية وتركيا وعددًا من الدول العربية والرئيس الأمريكي، وخاصة أن الأخير كان قد اعترف “بسيادة” إسرائيل على مرتفعات الجولان في عام 2019، وهي خطوة مخالفة لقرار مجلس الأمن “497”.

ومن المفيد التأكيد على أن تطبيع الإدارة الانتقالية مع المحتل الإسرائيلي هو تجاوز لحدود صلاحياتها الانتقالية، كسلطة غير منتخبة، وينم عن حرص للاستحواذ على السلطة من بوابة الرضا الصهيو- أمريكي، وهروب للأمام بدل الانفتاح على الداخل والدعوة إلى مؤتمر وطني يكون بمثابة جمعية تأسيسية من أجل بناء عقد اجتماعي، ومما لا شك فيه، أن التفاوض مع إسرائيل، من عدمه، بحاجة لاستفتاء شعبي وسلطة منتخبة، علاوة على ذلك، فإن السلطة مطالبة بالكشف وتوضيح كيف حصلت إسرائيل على نحو 2500 وثيقة وصورة ومقتنيات شخصية كانت ضمن أرشيف الوثائق الرسمية الخاصة بعميل “الموساد” إيلي كوهين.

وبخصوص الفصائل الفلسطينية العاملة على الأرض السورية، فجميعها لم يكن لديها نشاط عسكري ضد إسرائيل انطلاقًا من الأرض السورية، وأغلبية قادة الفصائل الذين قاتلوا مع النظام البائد فروا خارج البلاد بعد سقوطه، أما من كان لهم موقف سياسي دون التورط بالانتهاكات أو نأوا بأنفسهم عن التدخل في الشأن السوري فيجب أن تصان حقوقهم، وبضمنها حقهم في العمل السياسي والإغاثي والتوعوي، واحترام خياراتهم الشخصية في البقاء في سوريا أو مغادرتها، ويفترض بمسار العدالة الانتقالية أن يشمل محاسبة المتورطين في الجرائم من السوريين ومن في حكمهم، وبالمقابل، فإن المحاسبة وجبر الضرر ومعرفة الحقيقة ورفع المظالم يجب أن تشمل الناجين السوريين والفلسطينيين، نساء ورجالًا، على حد سواء، وفي هذا المقام، لا بد من التأكيد على أن سوريا يجب أن تكون دومًا مع الحق الفلسطيني في تحرير الأرض وتقرير المصير.

لا شك أن تجاوز إرث الصراع وآثار حقب الاستبداد المديد والمرحلة المليئة بالمخاطر تتطلب نهجًا مختلفًا عن النهج الذي تتبعه السلطة الانتقالية، التي حصرت مفاصل السلطة بيد “هيئة تحرير الشام” وحكومة “الإنقاذ”، وسلقت الحوار الوطني على عجل، وأصدرت إعلانًا دستوريًا فُصل على مقاس الرئيس، ولا تزال تمارس مركزية شديدة بدل اتباع نهج تشاركي، وتدير البلد وفق عقلية الفصيل والجماعة بدل عقلية الدولة الحيادية تجاه جميع مكوناتها وأيديولوجياتهم، فلا يمكن لأي سلطة إدارة هذه المرحلة، وأي مرحلة أخرى، بمعزل عن الاستقواء بالشعب، فهو مصدر القوة والسلطة والشرعية، ودون مشروع سياسي ديمقراطي يسهم في بناء الوحدة الوطنية، ويؤمن بالتعددية والتنوع والحرية، ويتبنى رؤية اقتصادية تسعى إلى العدالة الاجتماعية، وإلا ستبقى عرضة للتفكك والتجاذبات الدولية والإملاءات الخارجية.

عنب بلدي

——————————–

برج ترامب في دمشق.. ما الذي تحته؟/ عمر قدور

الثلاثاء 2025/05/27

ما أن أعلنت واشنطن، مساء الجمعة، عن تعليق واسع للعقوبات على سوريا، حتى جرى على نطاق واسع تداول خبر بناء برج ترامب في دمشق. الأكثر “تفاؤلاً” تداولوا أنه سيكون البرج الأعلى في العالم، أما “الواقعيون” فأوردوا في الخبر اسم مستثمر بعينه هو الذي حصل على ترخيص من الشركة الأم وموافقة دمشق على البناء، بارتفاع 45 طابقاً. ومما يجعلنا نتوقف عند هذا أن عودة الحديث عن برج ترامب معطوفة على ما كان قد تداوله الإعلام في التكهنات قبيل اجتماع بين ترامب والشرع، حيث قيل إن الثاني سيستثير شهية الأول العقارية بمشروع برج في دمشق، ينضم إلى سلسلة الأبراج التي تحمل اسمه في العديد من مدن العالم.

الذكاء الاصطناعي تكفّل باقتراحات وتصاميم جرى تداولها للبرج العتيد، سواء من حيث الموقع أو الشكل العام أو الارتفاع. وفي الصور المتداولة يظهر البرج ضمن بقعة تمت معالجتها فنياً بما يتناسب معه، بينما بقيت دمشق على حالها كما هي في الصور الأصلية المعالَجة. هكذا يبدو الأمر شديد السهولة، وفي حده الأقصى لا يكلف سوى استملاك الأراضي وهدم الأبنية في بقعة ما، ثم إشادة البرج بسرعة حسب الأخبار المتفائلة، وتكون دمشق قد لحقت بدبي أو سنغافورة.

لن نتوقف هنا عند موضوع الطابع العمراني التقليدي لدمشق، وما إذا كان مناسباً تحويلها إلى مدينة أبراج. الأسئلة التي لها الأولوية تتعلق بواقعية الحديث عن إنشاء أبراج حالياً، سواء في دمشق أو حلب أو أية مدينة سورية. فالتسرّع، واستسهال الأمر، بعضُه مفهوم على قاعدة رغبة لدى السوريين في رؤية البلد قد استعاد عافيته، وأصبح يضاهي بلداناً أخرى على صعيد العمران. إلا أن الاستسهال ينطوي في جانب مهم منه على عدم إدراك الواقع الحالي المتردي بعد عقد ونصف من التدمير، وأيضاً بعد نصف قرن من الأسدية التي يُقال الكثير في هجائها، لكن من دون وعي شامل لأبعادها.

مما يتبادر إلى الذهن مثلاً هي ملائمة أنظمة الصرف الصحي في دمشق لإنشاء برج يرتفع 150 متراً، وفق أدنى التقديرات. فأي مقيم في المدينة، وغيرها من المدن السورية، لا بد أن يكون قد صادف يوماً متاعب شبكة الصرف الصحي التي بالكاد تتحمل الأبنية الحالية، بعدد محدود من الطوابق لا يضغط على التمديدات في نقطة بما يفوق استيعابها.

على صعيد متصل، شبكة الصرف الصحي الحالية، على علاتها، مناسبة لنمط استهلاك فقير. فمن المعلوم أن حصة الفرد من الماء في سوريا هي تحت معدل الفقر العالمي بمقدار الثلث تقريباً، ومدينة دمشق على نحو خاص تعاني شحّاً من المياه، ومعدل استهلاك الفرد منخفض جداً بسبب هذا الشحّ. وسيكون مضحكاً تخيّل إقامة برج من هذا النوع، بينما تصعب تغذيته بالمياه اللازمة، خصوصاً أن النمط السياحي المفترض لن يكون منضبطاً بالتقنين الإجباري الذي اعتاد عليه أهل المدينة مع شحّ المياه في العقدين الأخيرين.

بالطبع، في حال تأمين المياه يجب توفر الكهرباء لضخها، إلا أن مشكلة الكهرباء ليست عائقاً مع إمكانية استخدام مولِّدات خاصة بالمنشأة. لكن مع الكهرباء تبقى الخشية ماثلة من حدوث ماس كهربائي، وقد يتسبب بحريق كبير في الطوابق العليا مثلاً. الاحتمال غير مستبعد، وهناك في معظم المنشآت احتياطات للتعامل الأولي، أما الحرائق الأكبر فتحتاج منظومة إطفاء حكومية قادرة على الوصول إلى الطوابق العليا بسرعة وكفاءة. جدير بالتذكير أن سوريا خسرت مساحات واسعة من الغابات في السنوات الأخيرة، ورغم تفاني رجال الإطفاء في العديد من الحالات إلا أنهم يعملون وفق منظومة صارت شديدة التخلّف عمّا هو لازم وضروري.

في حالة الحريق المذكورة، قد يكون هناك عدد ضخم من المصابين الذين يحتاجون الإسعاف، ما يعني أيضاً ضرورة توفر منظومة إسعاف متطورة. التفاؤل وارد بعد رفع العقوبات بتحسن حال المنظومة الصحية ككل، وهناك استعداد لدى العديد من الدول والمنظمات لدعم المستشفيات الحكومية التي تدهورت خدماتها حتى منذ ما قبل الثورة. لكن التجهيزات الخاصة للوصول إلى الطوابق العليا قد لا تكون ضمن أولويات إعادة التأهيل، والوصول كالمعتاد بالسيارات يحيل إلى شبكة طرق تعاني بشكل مستمر من اختناقات مرورية، ومن المرجح زيادة الاختناقات مع كل دفعة سيارات تدخل البلد، ومع ازدياد الطلب غير العقلاني عليها في غياب رؤية متكاملة للنقل الجماعي، كما هو حال شبكات المواصلات في معظم البلدان.

ثمة في البلدان الثرية والمتقدمة مدن كبرى ليس فيها أبراج معمارية شاهقة، والأبراج السكنية غير الشاهقة الموجودة في بعض المدن لا تكون غالباً الخيارَ المحبَّب للسكان. لكن في كل الأحوال، بُنيت الأبراج الشاهقة في بلدان تمتلك بنية تحتية كافية لتخديم هذا النمط العمراني، لا على أرض رخوة خدمياً. وإذا دأب السوريون خلال عقود على التذمّر من الواقع الخدمي، ثم صاروا يجهرون بالنقد وبالهجوم على كل ما يخص حقبة الأسد، فمن المستغرب ألا ينتبهوا إلى التناقض بين أقوالهم، فيما لو كانت البنية التحتية (المتهالكة) صالحة لتركيب برج شاهق فوقها!

الأمر يتعدّى موضوع البرج العتيد إلى طريقة تفكير سائدة؛ فإذا كان هجاء حقبة الأسد محقاً، وهو محق بمعظمه، فسيكون من الواجب بعد سقوط بشار الشروع في فتح ملفات تلك الحقبة للنقاش العام، وعدم اعتبار السقوط بحد ذاته علاجاً سحرياً للأعباء الموروثة على كل الأصعدة. الفجوة بين الواقع والمُرتجى لا تُردم بالتوقعات المبالَغ فيها حول الاستثمارات الضخمة، وحول المستثمرين الذي ينتظرون رفع العقوبات ليتسابقوا على مزايا الاستثمار في سوريا من دون أي توقف عند تردي الواقع الخدمي، وتردي البنية التحتية التي تحتاج إلى رؤية شاملة تأخذ في الحسبان التطورات المستقبلية، ويحتاج تنفيذها إلى سنوات طويلة حتى في بلدان تمتلك ما لا تمتلكه سوريا من إمكانيات.

واحدة من كوارث سوريا الموروثة والمستمرة هي في آلية التفكير القائمة على الاستسهال، والتي تشبه إلى حد كبير إجراء التعديلات المرغوب فيها بواسطة الذكاء الاصطناعي. واقعياً، يدعم الآلية ذاتها تركُ الأمور برمّتها للسلطة، ومن ثم الدفاع عما تفعله من دون النقاش والخوض ولو في الخطوط العريضة لأي شأن عام. قضايا مثل البنية التحتية والخدمات، أو مثل النظام الصحي ونظام المواصلات العام والنظام التعليمي والتأهيل المهني… هذه كلها متروكة تماماً للسلطة، وغير مطروحة لنقاش عام.

بعبارة أخرى، لا يبدو أن السوريين يتطلعون إلى المشاركة التي يُفترض أنهم ناضلوا من أجلها. مع الذكاء الاصطناعي يمكن بناء برج ترامب في غضون دقائق، والشعور بالثقة المطلقة بأن كل شيء ممكن وعلى ما يرام، فلِمَ العناء؟

المدن

———————————

تقرير: التقارب الأميركي ـ السوري يُربك حسابات إسرائيل العسكرية

واشنطن: «الشرق الأوسط»

-27 مايو 2025

في تحوُّل غير مسبوق في السياسة الإقليمية، تسبَّب تقارب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مع القيادة السورية الجديدة، في إرباك استراتيجية إسرائيل العسكرية، وأدى إلى توقف شبه كامل للغارات الجوية الإسرائيلية على الأراضي السورية. وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز».

وكانت إسرائيل قد كثَّفت عملياتها العسكرية في سوريا منذ الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد. وتشير بيانات عسكرية إلى تنفيذ أكثر من 700 غارة إسرائيلية خلال الأشهر التي تلت سقوط الأسد في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، شملت استهداف مواقع استراتيجية، بينها أسلحة ثقيلة ومرافق دفاع جوي، وحتى غارة نادرة على مقربة من القصر الرئاسي في دمشق مطلع مايو (أيار) الحالي.

إلا أن هذه العمليات الجوية توقَّفت فجأة بعد لقاء ترمب، والرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في 14 مايو، في خطوة قلبت سنوات من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط رأساً على عقب.

وأعلن ترمب، خلال اللقاء، خططاً لرفع العقوبات عن سوريا، قائلاً إن لدى الشرع فرصةً حقيقيةً لإعادة توحيد البلاد بعد 14 عاماً من الحرب الأهلية.

وساد تحفظ إسرائيلي وتراجع في عمليات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي لا تزال تنظر بريبة إلى نوايا الحكومة السورية الجديدة، بعد أن تفاجأت بالتحوّل الأميركي.

وقالت كارميت فالنسي، الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب: «إن إسرائيل كانت تركِّز ضرباتها على الأسلحة الاستراتيجية المتبقية من عهد الأسد؛ بهدف منع وقوعها في أيدي جماعات معادية».

وكان المستشار السابق للأمن القومي الإسرائيلي، عوزي أراد، قد أشار إلى أن تل أبيب تتعامل مع الوضع في سوريا من منطلق دروس جنوب لبنان، في إشارة إلى المواجهات السابقة مع «حزب الله».

وحسب التقرير، تعكس التصريحات الرسمية الأخيرة تغيّراً في لهجة إسرائيل، إذ أشارت فالنسي إلى أن هناك اتجاهاً نحو تخفيف التصعيد، وربما فتح قنوات للحوار مع النظام السوري الجديد.

الدروز… سبب معلن ومصلحة إقليمية

رغم تبرير إسرائيل لغاراتها بدافع حماية الطائفة الدرزية في سوريا، وهي أقلية تربطها علاقات قوية مع الدولة العبرية، فإن الغارات المكثفة بعد سقوط الأسد لم تقتصر على مناطق وجود الدروز فقط.

ففي أعقاب الاشتباكات الدامية في السويداء أواخر أبريل (نيسان)، قدَّمت إسرائيل مساعدات محدودة للمقاتلين الدروز، كما أكدت أن الغارة قرب القصر الرئاسي في دمشق كانت تحذيراً للشرع، وفق ما نقلته مصادر عسكرية إسرائيلية.

غير أن التحليل الأوسع للمشهد يشير إلى دوافع أعمق؛ إذ يرى مسؤولون أمنيون أن الغارات استهدفت منع تمركز جماعات معادية قرب الجولان، والحد من نفوذ تركي متزايد في الساحة السورية، خصوصاً مع دخول أنقرة على خط الدعم السياسي والعسكري لحكومة الشرع.

تساؤلات داخلية… وانتقادات دولية

أثارت التحركات الإسرائيلية الأخيرة انتقادات خارجية وداخلية على حد سواء.

فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي التقى الشرع منتصف الشهر الحالي، انتقد استمرار الغارات الإسرائيلية قائلاً: «لا يمكنك ضمان أمن بلدك بانتهاك سيادة جيرانك».

أما داخلياً، فقد بدأ بعض المسؤولين الإسرائيليين بمراجعة نجاعة الاستراتيجية العسكرية، إذ صرَّح تمير هايمان، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية، بأن «العمليات الأخيرة باتت تُنفَّذ بدافع الزخم. لا بد من مراجعة شاملة للأهداف والجدوى».

الشرع يعد بالسلام… وإسرائيل تتوجس

أكد الشرع، الذي كان في السابق مرتبطاً بفصائل متشددة، خلال لقاءاته الأخيرة، أنه يسعى إلى نظام مستقر وشراكة مع الغرب. إلا أن إسرائيل لا تزال ترى في حكومته امتداداً لجماعات متطرفة، كما وصفها وزير الخارجية جدعون ساعر بأنها «حكومة جهادية ترتدي بدلات رسمية».

ورغم الهدوء الذي يسود الحدود السورية – الإسرائيلية منذ تولي الشرع الحكم، فإن المخاوف الإسرائيلية من تكرار سيناريو الحوثيين على حدودها الشمالية، كما عبَّر يعقوب أميدرور، مستشار الأمن القومي السابق، لا تزال قائمة.

وبينما تزداد مؤشرات التهدئة، يبدو أن تقارب واشنطن ودمشق يعيد رسم خطوط التماس في الساحة السورية، ويضع تل أبيب أمام معادلة جديدة، أكثر تعقيداً، وأقل قابلية للحسم العسكري.

———————————-

هل هناك مخطط سري أميركي لتفكيك سوريا؟/ نديم شنر

27/5/2025

نشر السفير الأميركي في أنقرة، توم باراك، بصفته مبعوثًا خاصًا لبلاده إلى سوريا، رسالة لافتة عبر حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي، تناول فيها بالنقد سياسة الدول الإمبريالية الغربية في الشرق الأوسط، وكشف عن الإستراتيجية التي تعتزم بلاده اتباعها في سوريا، قائلًا:

“قبل قرن من الزمان، فرض الغرب خرائط وحدودًا مرسومة وإدارات انتدابية وحكومات أجنبية. لقد قسم اتفاق سايكس-بيكو سوريا والمنطقة الأوسع من أجل المكاسب الإمبريالية، وليس من أجل السلام. وقد كلّف هذا الخطأ أجيالًا متعاقبة. لن نكرّر ذلك مجددًا.

إن زمن التدخلات الغربية قد ولى. المستقبل للدبلوماسية القائمة على الحلول الإقليمية، والشراكات، والاحترام المتبادل. وكما أكد الرئيس ترامب في خطابه في الرياض بتاريخ 13 مايو/ أيار، فإن الأيام التي كانت فيها القوى الغربية تأتي إلى الشرق الأوسط لتعطي دروسًا حول كيفية العيش وإدارة الشؤون، قد انقضت.

لقد وُلدت مأساة سوريا من رحم الانقسام. ولا يمكن أن تولد من جديد إلا عبر الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها. وهذا يبدأ بالحقيقة والمساءلة والتعاون مع أبناء المنطقة، لا بتجاوز المشكلة دون حلها.

نحن إلى جانب تركيا ودول الخليج وأوروبا- لا بالجنود والخطب والحدود الوهمية، بل إلى جانب الشعب السوري ذاته. بسقوط نظام الأسد، فتحنا الباب نحو السلام؛ ومن خلال رفع العقوبات، نتيح للشعب السوري فرصة فتح ذلك الباب واكتشاف طريق نحو ازدهار وأمن متجددين”.

من اللافت أن تأتي رسالة كهذه من سفير الولايات المتحدة، التي لطالما كانت واحدة من أركان القوى الإمبريالية المتورطة في غمر الشرق الأوسط بالدم عبر سياسات الاحتلال، متحدثًا عن “المندوبين” البريطانيين والفرنسيين، كما لو أن بلاده لم تسلك النهج ذاته.

ومن اللافت أيضًا، أن الولايات المتحدة -التي تنتقد ما فعلته بريطانيا وفرنسا قبل قرن- هي نفسها اليوم من تحدد مصير دول الشرق الأوسط، من بُعد 15 ألف كيلومتر.

محتوى الرسالة

ما أثار استغرابي استشهاد السفير الأميركي باراك باتفاقية سايكس-بيكو، التي لم تتجاوز في حقيقتها تبادلًا للمراسلات بين وزراء ودبلوماسيين وبيروقراطيين في بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، ولم تُوقَّع قط.

لقد سميت “اتفاقية سايكس-بيكو” نسبة إلى الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرنسوا جورج بيكو، وهي خطة سرية صيغت إبان تفكك الإمبراطورية العثمانية، لتحديد كيفية تقسيم الشرق الأوسط بين هذه القوى الاستعمارية.

لكنها، رغم تسميتها “اتفاقية”، لم تتعدَ كونها خطة بقيت في طور النقاش. فقد جرت المفاوضات بشأن بنودها بين 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 1915، و3 يناير/ كانون الثاني 1916 بمشاركة روسيا، وبريطانيا، وفرنسا. ولكنها لم تتحول إلى اتفاقية رسمية بسبب قيام الثورة البلشفية في أكتوبر/ تشرين الأول 1917 في روسيا.

وبعد سقوط الحكم القيصري، نشر البلاشفة نص “خطة سايكس-بيكو” في صحيفة “إزفستيا” بتاريخ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، في إطار حربهم الإعلامية ضد القوى الرأسمالية الأوروبية التي خشيت من تمدد الشيوعية إلى أراضيها. وكانت تلك المرة الأولى التي اطلع فيها العالم على نوايا بريطانيا، وفرنسا لتقسيم المنطقة، ما كشف الأهداف الحقيقية للإمبريالية الغربية.

لقد تجاهلت هذه الخطة الخصوصيات الإثنية والدينية لسكان الشرق الأوسط، وسعت إلى تقسيمه على الورق إلى دول وحدود اصطناعية. والاستثناء الوحيد في الخطة كان ما يتعلق بفلسطين، إذ دعم وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر بلفور، في رسالته الشهيرة بتاريخ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 إلى اللورد روتشيلد، إقامةَ وطن قومي لليهود في فلسطين. وكانت تلك الرسالة بمثابة الشرارة الأولى في حريق الشرق الأوسط.

وقد تأسست الدولة الصهيونية الإسرائيلية في عام 1948، ومنذ عام 1967 وحتى اليوم، تواصل إشعال الحروب في المنطقة، وعلى رأسها فلسطين، لتحقيق أهدافها الصهيونية.

ورغم أن “خطة سايكس-بيكو” لم توقّع رسميًا، فقد تم تطبيقها جزئيًا: خضعت سوريا للانتداب الفرنسي، بينما وُضع العراق وبعض دول الخليج تحت انتداب بريطاني.

وفي أعقاب توقيع هدنة مودروس عام 1918، والتي أنهت الحرب بين الدولة العثمانية والحلفاء، تم تسريح الجيش العثماني، واحتلت فرنسا مدن عنتاب وأورفا ومَرعش في جنوب الأناضول. وبإيعاز بريطاني، نزلت القوات اليونانية إلى إزمير يوم 19 مايو/ أيار 1919، لتبدأ مرحلة احتلال الأناضول.

وفي 23 أبريل/ نيسان 1920، ومع افتتاح الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة، انتهت الدولة العثمانية من الناحيتين القانونية والعملية. وبعد عامين، أنهت حرب الاستقلال التركية الوجود الأجنبي، ورسمت حدود الجمهورية الحديثة.

وهكذا، أدّى انسحاب الدولة العثمانية من الشرق الأوسط، وتحديدًا من سوريا، والعراق، إلى فوضى مستمرة منذ أكثر من قرن، كانت الدول الغربية السبب الرئيسي فيها.

وقد أدار البريطانيون والفرنسيون المنطقة عبر أنظمة انتدابية تابعة لهم، واستمرت هذه الأنظمة حتى سبعينيات القرن الماضي. ثم جاء دور إسرائيل، التي زرعت الفوضى والحروب والانقسامات، ولم تعرف هذه البلدان الاستقرار، ولم تتوقف الصراعات الإثنية والدينية منذ ذلك الحين. وما نشهده اليوم في العراق، ولبنان، وسوريا هو نتيجة ذلك الإرث الاستعماري.

هل الهدف تقسيمات جديدة؟

من الواضح أن رغبة الولايات المتحدة في أن تحلّ محل بريطانيا، وفرنسا في معركة السيطرة على الشرق الأوسط تمثل العامل الأبرز وراء هذه الرسالة. لكن مضمون الرسالة يحمل دلالات عميقة وإشارات إلى ما قد يحدث في المستقبل.

حين تحدّث السفير عن سوريا وحدودها بعد الحرب الأهلية، انتابني شك عميق. فبيانه الذي لم يركز بشكل كافٍ على وحدة الأراضي السورية يثير تساؤلات: هل تمهّد الولايات المتحدة عبره الطريق لتقسيم جديد داخل سوريا بناءً على الانتماءات الدينية والإثنية؟

وهنا تذكرت ما قاله الرئيس الأميركي وودرو ويلسون أمام الكونغرس يوم 8 يناير/ كانون الثاني 1918، حين عرض رؤيته لعالم ما بعد الحرب العالمية الأولى في 14 بندًا، أحدها يتناول الدولة العثمانية:

“يجب ضمان سيادة آمنة للأتراك في المناطق التركية الحالية من الدولة العثمانية، ويجب تأمين حرية تامة للتطور الذاتي للشعوب الأخرى التي تخضع للحكم التركي، بما يضمن أمنها التام دون أي تهديد”.

إذا كان توم باراك يريد أن يبشرنا برسالة من هذا القبيل، فعلينا أن نتهيأ لصراعات جديدة؛ لأن هذا التوجّه يعني، في جوهره، تفكيك الدولة القومية في الشرق الأوسط، وإرساء كيانات على أسس طائفية أو عرقية، وهو ما سيمهّد لحروب أهلية ونزاعات دموية لا تنتهي.

وفي العراق مثلًا، قد يتم تقسيم البلد إلى ثلاث مناطق: شيعية، وسنية، وكردية. وفي سوريا، قد تُرسم خرائط جديدة على أساس العرقيات والطوائف: العرب، والدروز، والأكراد، وتنظيمات مثل PKK/PYD، والعلويين.

ولعل ما تقوم به إسرائيل من تحركات تجاه الدروز والمنظمات الكردية الانفصالية مثل PKK/PYD-YPG في سوريا ليس إلا مؤشرًا على هذا المخطط.

ومن الأسباب الأخرى التي تدعو إلى الشك، ما قاله السفير باراك عقب لقائه مع الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني في إسطنبول، حيث صرّح: “أوضحت أن تعليق العقوبات الأميركية على سوريا سيساهم في تحقيق هدفنا الأساسي، وهو الهزيمة الدائمة لتنظيم الدولة، وسيوفر فرصة أفضل لمستقبل الشعب السوري. كما هنأت الرئيس الشرع على خطواته العملية التي تتماشى مع ما طرحه الرئيس ترامب بشأن المقاتلين الأجانب، وتدابير مكافحة تنظيم الدولة، والعلاقات مع إسرائيل، والمخيمات ومراكز الاعتقال في شمال سوريا”.

وأبرز ما طالب به ترامب خلال زيارته السعودية كان: “الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام مع إسرائيل”.

إن مطالبة سوريا، التي تحتل إسرائيل أراضيها، بالانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام” ليست مجرد فكرة شخصية للرئيس ترامب. لذا، علينا أن نتفحص بعناية كلمات وتصريحات توم باراك. لأنه من غير الممكن أن تقدم الولايات المتحدة على أي خطوة في الشرق الأوسط دون علم إسرائيل أو إذنها أو دعمها.

وفي كل علاقة تكون إسرائيل جزءًا منها، سواء علنًا أو سرًا، تكون الحسابات دائمًا لصالح المشروع الصهيوني. ولهذا، يجب الحذر مما قد تخفيه التصريحات المفرطة في الود والغموض التي تصدر عن السفير الأميركي في تركيا والمبعوث الخاص لبلاده إلى سوريا، توم باراك، لأن بلاده، التي تتخذ النسر شعارًا وطنيًا، ليست صاحبة تاريخ في تبني سياسة سلام دون حسابات خفية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

كاتب وصحفي تركي

الجزيرة

———————————–

نعم… قارن سوريا بلبنان!/ طارق الحميد

28 مايو 2025 م

عانى السوريون طوال أربعة عشر عاماً من أجل إسقاط المجرم بشار الأسد، ودحر إيران وميليشياتها، وعلى رأسها «حزب الله»، وإيقاف الدعم الروسي للأسد، كما عانوا من الضربات الإسرائيلية على بلادهم فترة الأسد، وبعد سقوطه.

ولم يمنح السوريون إسرائيل أي مبرر للقيام بذلك العدوان، الذي بلغ 700 ضربة بعد سقوط الأسد، وخلال خمسة أشهر من عمر الإدارة السورية الجديدة، وكان أخطرها الضربة التي كانت بجوار القصر الذي يسكنه الرئيس أحمد الشرع.

وعانى السوريون أيما معاناة بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية، التي وضعت لإنقاذهم من جرائم الأسد، لكنها حالت دون انطلاق بناء سوريا الجديدة. فما الذي فعله السوريون بقيادة الرئيس الشرع؟

هل طافوا العالم طلباً للدعم؟ لا! هل تباكوا وتظلموا؟ لا! هل أعلنوا الجنون وقرروا محاربة إسرائيل، والرد على استفزازات «حزب الله»، وغيره في لبنان، أو العراق؟ لا!

قرر السوريون العمل بعقل، ورغم التشكيك – ولا ضير في التشكيك – رغم أن كثراً كانوا على استعداد لمنح الأسد الفرصة تلو الأخرى، مع أنه كان يؤمن، قولاً وعملاً، بأن السياسة هي الكذب!

عرف الرئيس الشرع أن بوابة المنطقة والعالم هي السعودية، واستوعب أن التعامل مع الجوار أمر واقع، وليس ترفاً، فحرص على تركيا، وقد يقول البعض إنه لا خيارات له، لكنه أظهر التوازن، ولم يصعّد تجاه العربدة الإسرائيلية واستوعب واقع سوريا.

ولم يستجب للاستفزازات، ولم يصعّد بخطاب قومي، أو إسلاموي، ولم يشحن السوريين بخطابات عبثية كما فعل الأسد، أو «حزب الله» وأنصاره الآن، بل أعلن بوضوح أن سوريا منهكة من الحروب، وتحتاج إلى إعادة إعمار بشراكة واستثمار، وليس معونات.

وسعى لرفع العقوبات الأميركية والأوروبية، وطلب إعادة العلاقة السورية – الأميركية، ونجح من خلال السعودية، حيث أعلن ترمب رفع العقوبات بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

والآن تتحدث مصادر عن مفاوضات مباشرة سورية – إسرائيلية، من أجل وقف العدوان الإسرائيلي الذي تراجع فعلياً، وحتى كتابة المقال، بعد لقاء ترمب والشرع في الرياض، ومن دون دعاية، أو شعارات مضللة.

وبدأ الرئيس الشرع الآن بترتيب البيت الداخلي، رغم كل محاولات التخريب داخلياً وخارجياً، وها هي العجلة انطلقت بسوريا.

وهنا سيقول القارئ ماذا عن لبنان؟ وهذا السؤال! لبنان، الذي هو في حفرة، ولا يزال يحفر.

لبنان لا يزال مشغولاً بـ«تدوير الزوايا»، والبحث عن الدعم، وعودة العرب، من دون أن يحسم: هل السلاح بيد الدولة، أو أنه دولة مختطفة تحت وطأة السلاح؟

يوافق الرئيس محمود عباس على أن لا سلاح فلسطينياً خارج سيطرة الدولة اللبنانية، لكن «حزب الله» يريد أن يكون سلاحه فوق سلطة الدولة بحجة فلسطين! ويريد لبنان إعادة الإعمار لكنه يتباطأ في فرض سلطة الدولة.

والمقارنة تطول، وعليه؛ فإن السؤال هو: هل يريد أن يكون لبنان دولة، أو بقايا دولة؟ الإجابة في لبنان، لأنه لا أحد يريد إضاعة وقته، وجهده، وماله، لإنقاذ من لا يريد إنقاذ نفسه.

الشرق الأوسط

——————————

 أثر العقوبات الأميركية على قطاع التعليم العالي في سوريا/ حمدان العكله

2025.05.28

تُعد العقوبات الاقتصادية من أبرز الأدوات الجيوسياسية غير العسكرية التي تستخدمها الدول الكبرى لإعادة تشكيل موازين القوى الدولية عبر الضغط غير المباشر على البُنى السياسية والاقتصادية للدول المستهدفة، فهي لا تقتصر على فرض قيود تجارية أو تجميد أصول أو حظر سفر، بل تُبنى كمنظومة متكاملة من العزل الاقتصادي والسياسي تسعى إلى تقويض الوظائف السيادية الحيوية للدولة، وقد شكّلت سوريا نموذجاً واضحاً لهذا النمط من العقوبات، إذ فُرضت عليها منذ عام 1979 سلسلة من الإجراءات الأميركية التي تصاعدت بشكل حاد بعد عام 2011، وشملت حظر تصدير معظم السلع والخدمات ذات المنشأ الأميركي، تعطيل النقل الجوي، تجميد الأصول الرسمية، وفرض قيود صارمة على التحويلات المالية والاستثمارات.

لم تستهدف العقوبات على سوريا القطاعات الاقتصادية التقليدية فحسب، كالنقل والطاقة والمصرف المركزي، بل امتدت آثارها لتطول البنية المعرفية للدولة، وفي مقدمتها قطاع التعليم العالي، بما يحمله من رمزية سيادية ودور استراتيجي في إنتاج وتوطين المعرفة، ومن منظور فلسفي، تنطوي هذه الإجراءات على تحوّل في وظيفة العقوبة من كونها أداة قانونية إلى وسيلة للهيمنة الرمزية، تُمارَس لا عبر القوة الصلبة بل عبر تقييد الموارد وحرمان المجتمعات من فرص التنمية الذاتية، ما يجعلها شكلاً معاصراً من “العنف غير المرئي” الذي يُعيد إنتاج علاقات الهيمنة باسم الشرعية الدولية والأخلاق السياسية، ويطرح بذلك أسئلة جوهرية حول عدالة النظام العالمي وحيادية أدواته الاقتصادية.

أحدثت العقوبات الأميركية على سوريا اختلالاً بنيوياً عميقاً في قطاع التعليم العالي، تجاوز في أثره مجرد تقييد الموارد إلى إحداث عزلة معرفية مركّبة تهدد جوهر الدور العلمي للجامعات، فقد أُجبرت الجامعات السورية، وعلى رأسها جامعة دمشق، على تعليق اتفاقيات تعاون دولي راسخة مثل برامج Erasmus+ وDAAD، مما أدى إلى شلل شبه كامل في التبادل الأكاديمي، وانسحاب شركاء أوروبيين من برامج الماجستير المشترك، ومن أبرزها برنامج الـ(MBA) الذي كان يُنفذ بالتعاون مع جامعة Bedfordshire البريطانية، كما حُرمت كليات الهندسة والعلوم التطبيقية من استيراد أجهزة متقدمة لتجارب النانو تكنولوجي

والتقانة الحيوية بسبب الحظر على المعدات ذات الاستخدام المزدوج، مما أدى إلى إلغاء مسارات بحثية كاملة، مثل مشروع تطوير مواد بيولوجية في كلية العلوم بجامعة اللاذقية (تشرين سابقاً).

في موازاة ذلك، تضرر البحث العلمي بشكل مباشر نتيجة حظر الوصول إلى برمجيات تحليل البيانات والنمذجة العلمية مثل: MATLAB، SPSS، ArcGIS، OriginLab، إضافة إلى توقف اشتراكات مؤسساتية في قواعد البيانات الكبرى مثل Elsevier، JSTOR، Taylor & Francis، SpringerLink، وهو ما جعل الباحث السوري يعمل في فراغ معلوماتي يعوق الاطلاع على أحدث المنشورات المحكمة، ومن الأمثلة الدالة، تعذر نشر عدة أبحاث في مجالات الفيزياء والكيمياء التطبيقية من جامعة حلب بسبب عدم قدرة الباحثين على تقديم المراجع المطلوبة أو الوصول إلى تقارير مراجعة الأقران.

وقد أُغلقت كذلك برامج تمويل دولية مهمة، مثل برنامج HOPES المخصص لدعم التعليم العالي للاجئين السوريين، نتيجة لتعقيدات الحوالات المالية المفروضة على المؤسسات السورية، مما انعكس على القدرة على توفير منح داخلية أو تمويل دورات تطوير أكاديمي، ومن الأمثلة على ذلك، توقف تمويل مشروع تطوير مناهج الطاقة المتجددة في جامعة حمص (البعث سابقاً)، الذي كان مموّلاً من قبل الاتحاد الأوروبي بالشراكة مع منظمات ألمانية، مما أدى إلى توقف تدريبي تقني كان مخصصاً لتخريج كوادر على مستوى الماجستير.

أما على صعيد الأفراد، فقد فُرضت قيود صارمة على تأشيرات الطلاب والأساتذة، حيث رفضت عدة سفارات غربية، لا سيما الأميركية والكندية، إصدار تأشيرات لحضور مؤتمرات علمية مرموقة مثل IEEE، EAGE، وACS، مما أدى إلى عزلة منهجية في التداول المعرفي العالمي، كذلك حُرم الطلاب السوريون من التقدّم إلى برامج مثل Fulbright وChevening وDAAD Postgraduate Scholarships، لأسباب تتعلق بجنسية المتقدم أو منشأ المؤسسة التعليمية، ونتيجة لهذا التهميش، ارتفعت وتيرة هجرة الكفاءات الأكاديمية، إذ غادر عشرات الأساتذة المتخصصين في الذكاء الاصطناعي، وعلوم البيانات، والفيزياء الطبية، وانضم العديد منهم إلى جامعات مثل University of Toronto، TU Berlin، وKU Leuven، ما فاقم من فراغ بنيوي في الهيئات التدريسية.

على المستوى المؤسسي، تدنّت التصنيفات العالمية للجامعات السورية، إذ تراجعت جامعة دمشق إلى خارج أول 3000 جامعة بحسب Webometrics، نتيجة لانخفاض مؤشرات النشر الدولي والتعاون الخارجي، وتحوّلت الجامعات إلى بيئات تعليمية مغلقة، تعاني من عزلة تكنولوجية ومنهجية، في وقت تتسارع فيه ثورات المعرفة عالمياً، إن هذا الواقع لا يعكس مجرد أثر جانبي للعقوبات، بل يكشف عن نمط ممنهج من “العقاب المعرفي”، الذي يستهدف إعادة تشكيل فضاء التعليم العالي في دول الجنوب وفق منطق السيطرة والتحكم، لا وفق مبادئ الشراكة العالمية والحق في إنتاج وتداول المعرفة.

ختاماً، لقد مثّلت العقوبات على التعليم العالي والبحث العلمي في سوريا أحد أبرز معوّقات تطوير المعرفة وحرمان العقول السورية من الانخراط في الفضاء الأكاديمي العالمي، غير أن القرار الأميركي الصادر قبل أيام برفع هذه العقوبات، عقب سقوط النظام الاستبدادي، يشكّل خطوة مفصلية نحو إعادة تمكين المؤسسات التعليمية من أداء دورها في إنتاج البحث العلمي، ويمثل هذا التحول دعماً حقيقياً لمسار التعافي، وفرصة لبناء بنية علمية حديثة، قادرة على الإسهام الفاعل في نهضة سوريا المستقبل.

——————————-

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى