سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنقد ومقالات

نساء سورية وظلّ السلطة الطويل/ سمر يزبك

27 مايو 2025

في رواية “نصف شمس صفراء” (ترجمة وتقديم فاطمة ناعوت، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009)، للنيجيرية شيماماندا نغوزي أديتشي، تنفتح الحكاية على نساءٍ يواجهن الحرب داخل بيوتهن وخارجها. الحرب بالنسبة لهنّ ليست مجرّد معركة عسكرية، بل اختبار يومي لمعنى البقاء: بين المطبخ وغرف النوم، بين الرعاية ومواجهة الجوع. البطلات في الرواية لسن مجرّد شريكات صامتات، بل يقُدن الحياة في أشدّ لحظاتها هشاشة. ومع ذلك، حين يبدأ رسم خريطة الدولة الجديدة، يُعاد طيّ أصواتهن لصالح لغة ذكورية تُعيد تعريف السياسة من دون الالتفات إلى من صنعن شروط البقاء. تُحافظ أديتشي بأسلوبها الدقيق على توتّر سردي يُعرّي كيف تذوب أدوار النساء في لحظة إعادة بناء السلطة.

في فيلم “معركة الجزائر” (1966)، للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو، نرى نساءً يملأن الأسواق بالأسلحة والرسائل. يخفين الثورة تحت ثيابهن اليومية، ينسجن شبكةَ مقاومةٍ لا تظهر في نشرات الأخبار. ومع ذلك، حين تتوقّف البنادق، لا يُترك لهن مكانٌ على طاولة القرار. الفيلم، بحساسية بصرية لافتة، يكشف كيف يصبح جسد المرأة وحيّزها الخاص ساحةً للمعركة، لكنّه أيضاً أوّل من يُعاد إخضاعه حين تُرسم ملامح النظام الجديد.

هاتان التجربتان (في الأدب والسينما) تكشفان نمطاً متكرّراً: النساء جزءٌ أساس من لحظة المواجهة، لكنّهن يغيّبن حين تُعاد كتابة المعاني السياسية والاجتماعية. هذا التلاشي ليس مجرّد خوف أو صمت، بل نتيجة نظام يعيد بناء نفسه في الظلال، فتُختَصر النساء في أدوار رمزية تخدم وحدة الجماعة، من دون الاعتراف بصوتهن فاعلاً مستقلّاً. يتكرّر هذا النمط بوضوح اليوم في سورية. النساء اللواتي خرجن إلى الشوارع وهتفن حين صمت كثيرون، وجدن أنفسهن فجأةً محاصراتٍ من جديد. بدا وكأن الثورة فتحت نافذةً لتوسيع فضاءات الحرية، لكنّ ما حدث بعد سقوط النظام كشف أن هذه النافذة أُغلقت بسرعة. تقلّصت الحريات الخاصّة (حرية البيت، حرية الجسد)، ومعها تقلّص دور النساء في السياسة. ليست القضية فقط في إبعاد النساء عن مواقع القرار، بل في إعادة تشكيل حياتهن اليومية وفق مقاسات جديدة. وفي هذا السياق، تكرّرت أنباءٌ عن حوادث اختطاف فتيات سوريات من الطائفة العلوية، لتكشف وجهاً آخرَ من أوجه العنف ضدّ النساء. لم يكن هذا الفعل في حال ثبوته مرتبطاً أبداً بالمساومة المالية أو الضغط السياسي، بل بدا الخبر، في حدّ ذاته، بمعزل عن صحّته في حالاتٍ كثيرة، اعتداء، مجرّد استسهالٍ فجٍّ للتعدّي على أجساد نساء لا يحميهن أحدٌ في تلك اللحظة. لم يكن هذا الاستسهال معزولاً عن جوهر الحرب: حين تتفكّك الضوابط، يظهر العنف ضدّ النساء فعلاً سهلاً يتجاوز الضرورة إلى شهوة السيطرة الجسدية. ورغم أن الضحايا المفترضات ينتمين إلى طائفة بعينها، إلا أن استمرار هذه الآلية بنشر الخبر وردّات الفعل الباهتة حيالها، يهدّد جميع النساء السوريات، لأنه يكشف هشاشة الحماية المفترضة، ويفضح أن جسد المرأة هو أوّل مساحة تُستباح حين تغيب القوانين ويُعاد تعريف الهُويَّة وفق توازنات جديدة.

هنا، لا يمكن فصل تراجع النساء عن المشهد السياسي، عن انكماش الحريات الخاصّة، وعن تسييس العنف ضدّ أجسادهن، لأن البيت والجسد هما المساحة التي يُعاد فيها إنتاج السلطة الرمزية، وحين يُفرض الصمت أو يُمارس الخطف سلاحاً، يصبح تهميش النساء في السياسة نتيجةً حتميةً. الجسد الأنثوي، الذي كان رمزاً للتحدّي في زمن الثورة، أُعيد تعريفه موضوعاً للمراقبة والسيطرة. ومعه، تحوّلت السياسة فضاءً مغلقاً على الرجال وحدهم. ما يحدث في سورية اليوم ليس مجرّد “إقصاء للنساء”، بل إعادة إنتاجٍ لشرعية السلطة عبر تطبيع العنف ضدّهن. في زمن الثورة، بدا كأنّ النساء يكتبن نصّاً جديداً عن الحرية، صارت مشاركتهن الآن تُختصر في صورٍ محدودة (أم شهيد، أرملة بطل)، بينما يُعاد رسم قواعد اللعبة السياسية في غرف مغلقة.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى