صفحات الثقافة

الأخلاق بين التنوير وسلوك القطيع/ حسام الدين درويش

28 مايو 2025

في تعليقي على محاضرةٍ ألقاها الدكتور الراحل حامد خليل في مركزٍ ثقافيٍّ في دمشق عام 2000، سألته: ألا تلاحظ أنّ النقد الأخلاقي الذي تضمّنه خطابك الناقد للغرب (الإمبريالي) شائعٌ بين من يعتبرون أنفسهم ضحايا ذلك الغرب أو تلك الإمبريالية، وأنّه يعبّر عن موقعهم في الصراع معها أكثر مما يعبّر عن تفوّقهم الأخلاقي عليها؟

لست نيتشويًّا، في هذا الخصوص، ولا أرى، على سبيل المثال، أنّ أخلاق الرحمة والتضحية والعطف هي أخلاق العبيد (الضعفاء)، وأخلاق الشجاعة والاعتماد على النفس ومواجهة الألم والمخاطر هي أخلاق السادة (الأقوياء)، وأرفض، عمومًا، أو من حيث المبدأ، تقسيم الناس وفق هذه الثنائية. فالأفكار والقيم أو الأخلاق التي يتبناها الإنسان غير قابلة للتفسير الاختزالي الذي يربطها حصرًا بضعفه أو قوّته، بفقره أو غناه، أو بأيّ عوامل غير وعيه وفكره ونيته … إلخ. ما كنت أروم انتقاده في سؤالي هو الارتياح المُفرط الذي يشعر به من يرون أنفسهم ضحايا، نتيجةً لاعتقادهم بتفوّقهم الأخلاقي الفعلي أو المزعوم. في المقابل، ينبغي امتحان مدى الأخلاقية الفعلية لمثل هذه المواقف بالنظر إلى مدى الالتزام بالأخلاقية ذاتها في التعامل مع المواقف والأطراف الأخرى، خصوصًا التي تكون ضعيفةً. فمعاداة الإمبريالية وتأييد إجرام الديكتاتورية، على سبيل المثال، يبيِّن ضعف أو انعدام الأساس الأخلاقي لتلك المواقف (الأخلاقية).

الخطاب الأخلاقي سهل الاستخدام، ويمكن توظيفه لما هو مضادٌّ أو حتى مناقضٌ له. وقد تساعد هذه السهولة على الإفراط في استخدام مثل ذلك الخطاب، لمحاولة إلحاق الضرر المعنوي بالآخر والحصول على تعاطف وتقديرٍ، قد لا يكونان مستحقين. ولتجنّب الوقوع في النسبوية الأخلاقية المُطلقة، يمكن الانطلاق من قيم أساسية وعامة ومشتركة بين الجميع. وعلى الصعيد الأخلاقي الحقوقي والمعرفي، توفّر منظّمة حقوق الإنسان الأساسية أساسًا مناسبًا ومتينًا للمحاججة انطلاقًا منها، في حين أنّ القواعد الأخلاقية الأساسية عند كانط تمثّل نموذجًا بارزًا لرؤيةٍ أخلاقيةٍ فلسفيةٍ. ووفقًا لهذه القواعد (الكلية والغائية والإرادة) ينبغي أن نتصرّف بحيث يمكن أن تكون أفعالنا قانونًا كليًّا وعامًّا، وأن نُعامل الآخرين، بوصفهم غاية، لا مجرّد وسيلة، وأن نتصرّف بحيث نجعل إرادتنا إرادةً كليةً مشرعةً للقانون الأخلاقي.

من وجهة نظرٍ كانطيةٍ، الأفعال الأخلاقية (الحقيقية) منزّهة عن الغرض. فمن يساعد شخصًا لتحقيق منقعةٍ شخصيةٍ لا ينتمي إلى تلك الأفعال. ومنذ جمهورية أفلاطون، على الأقل، كان هناك نقاش عن ضرورة التمييز بين من يتصرّف ليبدو عادلًا وأخلاقيًّا ويحظى بتقدير الآخرين ومن يتصرّف التزامًا بما يمليه عليه ضميره. لكن الالتزام بالضمير والتصرّف وفقًا لقناعات المرء (الأخلاقية) لا يعني غضّ النظر عما يمكن أن يترتّب عن فعله من نتائج سلبية يمكن أن تلحق بالآخرين أبلغ الأضرار (المعنوية). فالصدق واجبٌ، لكن من الصعب، في بعض الأحيان على الأقل، المُحاججة بأخلاقية الالتزام بالصدق الذي قد يفضي إلى مقتل إنسان بريء أو تدمير حياته أو تشويه سمعته.

وليس نادرًا أن نتصرّف بطريقةٍ تهدف إلى الحفاظ على نقاء الذات وطهارتها الأخلاقية غير آبهين بحقيقة أنّ الأخلاق تتعلّق بالعلاقة مع الآخر بالدرجة الأولى، وأنّ الطهرانية الأخلاقية قد تكون ملوّثة بالكثير من الرذائل الأخلاقية، عندما تتحقّق على حساب الآخرين، من خلال اللامبالاة بهم أو بما قد يصيبهم من أذى بسبب تلك الطهرانية، أو من خلال التضحية بهم على مذبحها. وبسبب أنانيةٍ نفسيةٍ/ نفسانيةٍ أو أنانيةٍ (لا-) أخلاقيةٍ، قد ننشغل بتبرئة ذواتنا وبراءتنا من هذا الطرف أو ذاك، لننجو بأنفسنا مما نظنّه سفينةً غارقةً، غير مكترثين لا بالسفينة ولا ببقية ركابها وطاقمها، ولا ﺑ “الخبز والملح” الذي كان يجمعنا معهم. ويكون شعار الشخص ومبدأ أفعاله، في مثل هذه الحالة، “أنا بريء، وليكن من بعدي الطوفان”.

يمكن للأخلاق أن تتحوّل إلى سوطٍ يجلد بها “الأخلاقي” الآخر بكلّ قسوةٍ، ومن دون أن يرف لعيون ضميره جفنٌ. وفي هذه الحالة يكون الآخر موضوعًا، لا ذاتًا، ووسيلةً، لا غايةً. وتكون الأخلاق سوطًا للجلد عندما يتم استخدامها للتعيير والتشهير، لا للتناصح والتفاكر، ولا لضبط الذات والتفكير. ولكي لا تكون الأخلاق سوطًا، ينبغي الاقتصاد في محاكمة الآخرين، وعدم إجراء تلك المحاكمات إلا في حالة امتلاك معرفةٍ وافيةٍ ومؤكّدةٍ بقيام شخصٍ أو طرفٍ ما بالإضرار بالآخرين، مع الامتناع عن إصدار أيّ حكمٍ عليه قبل معرفة وجهة نظره. وفي مثل تلك المحاكمات ينبغي التمييز بين الشخص وأفعاله، وعدم تحويل أخطائه إلى خطايا، وعدم اختزاله في تلك الأخطاء أو حتى في تلك الخطايا. فليس ثمّة إنصافٌ في محاكمةٍ، وما ينتج عنها أو تتضمّنه من أحكامٍ إذا تمّ تسليط الضوء على خطإٍ أو خطيئةٍ، وإغفال بقية سمات الشخص وأفعاله ذات الصلة بالموضوع. فالعدالة إنصافٌ، كما يقول جون رولز في كتابٍ شهيرٍ، والعدالة أو الإنصاف يقتضي “إعطاء كل ذي حقٍّ حقه”، كما جاء في جمهورية أفلاطون، بعيدًا عن التركيز، غير المتوازن وغير المُنصف، على سلبية طرفٍ ما أو سلبياته، مقابل الاقتصار في التركيز على إيجابيات طرفٍ آخر.

ولا يقتصر أصحاب السوط الأخلاقي على أن يكونوا من الذين يذبحون الآخرين في مذبح طهارتهم الأخلاقية المزعومة، بل يمكن أن يكونوا أيضًا من جماعة “انصر صديقك أو حبيبك، ظالمًا كان أم مظلومًا”، من دون أن تعني نصرة أصدقائنا الظالمين، عندهم، ردّهم عن ظلمهم، بل تعني اتباع مبدأ “وما أنا إلا من غزية إن غوت/  غويت وإن ترشد غزية أرشد”. فانطلاقًا من مبدأ التعاضد الجماعاتي والفزعة الأهلية، وما يتضمّنه من سلوكٍ قطيعيٍّ بعيدٍ عن الاستقلالية الفردية والتوجّهات المدنية المستنيرة والمنيرة أو التنويرية، لا يتوانى متبنو ذلك المبدأ في الانضمام إلى أيّ جوقةٍ لأصحابهم وأحبابهم وخلانهم، فيقتفون خطاهم، من دون تفكيرٍ أو تفكّرٍ، ومن دون فهمٍ أو تدبّرٍ. فالمهم إظهار الإخلاص والولاء لبقية أفراد القطيع.

ويبدو الفيسبوك (السوري) منصةً مناسبةً للتكتلات الجماعاتية القطيعية أكثر من مناسبتها للفردية المدنية التنويرية. فغالبًا ما تُهيمن الضوضاء التي تخلقها تلك التكتلات الجماعاتية، وتتغلّب على الأصوات الفردية المدنية التنويرية. وإذا كان للحديث عن التنوير أو ممارسته معنى، فهو لأعضاء مثل هذا القطيع تحديدًا. ولتعريف ماهية التنوير من المناسب جدًّا، في السياق الحالي، العودة إلى كانط، واختتام هذا النصّ بمقدّمة نصّه عنه: “التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه. وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر. ويجلب الإنسان على نفسه ذنب هذا القصور عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل، بل إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه إلى استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر. لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك، ذلك هو شعار التنوير”. وبدمج لغتي نيتشه وكانط، يمكن القول إنّ الشخص المتنوّر هو الشخص السيد (على نفسه)، أمّا الشخص غير المتنوّر فهو الشخص العبد الخاضع للقطيع أو لغريزة القطيع والممتنع عن استخدام عقله، لافتقاره إلى العزم والشجاعة، وربّما إلى مسائل أخرى أيضًا.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى