العدالة الانتقالية في سوريا تحديث 30 أيار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
——————————–
مناطق نفسية آمنة لخفض التصعيد.. سوريا: نشوة المنتصر وخوف المهزوم/ مالك داغستاني
2025.05.29
يبدو أنه في لحظات التحولات الجذرية، لا ينهار النظام السياسي فقط، بل تنهار أيضاً توازنات نفسية عميقة لدى الأفراد والجماعات. في الحالة السورية، ومع السقوط المفاجئ لنظام الأسد نتيجة لتوافق دولي غير مُتوقَّع، طبعاً من دون نسيان التضحيات الأسطورية التي قدّمها السوريون، برزت أزمة من نوع آخر، أزمة النخب.
الأزمة بين من شعروا بأنهم “انتصروا أخيراً” بعد سنوات من الانكسار، وآخرون وجدوا أنفسهم فجأة في عالم لا يشبه أي سيناريو توقعوه. تفجّر الانقسام لا على أساس الرؤى أو المصالح فقط، بل على مستوى المشاعر العميقة والهويّة النفسية والطائفية والعرقية. هنا، تبرز الحاجة إلى ما يمكن تسميته “مناطق نفسية آمنة لخفض التصعيد”، على غرار مناطق خفض التصعيد العسكرية التي عرفتها سوريا في السنوات الأخيرة قبل سقوط الأسد. خفض التصعيد، هذه المرّة، ليس بين جهات متحاربة، بل بين نفوس متصارعة، وجراح مفتوحة.
مع لحظة سقوط الأسد، بدا المنتصرون كالسكارى، وظهر عبء النصر على المجتمع والبلد المحطَّم وكأنه يتجاوز النصر. اجتاحت موجة عارمة من النشوة بعض الفئات التي شعرت أن هذا الحدث هو انتصارها الشخصي. هؤلاء لم يعودوا قادرين على تمييز الفارق بين لحظة التحرر، ولحظة الثأر الرمزي. تراهم على وسائل التواصل يسخرون، يُقصون، يُصنّفون الآخرين حتى اليوم، وكأنّ معركة الاعتراف بالنصر لم تنتهِ بعد.
بعض هؤلاء المنتصرين إسلامي متشدد وآخرون إسلاميون معتدلون، لكن هناك حتى يساريون وعلمانيون سيطرت عليهم الموجة، ولم يشذّوا كثيراً عن باقي المنتصرين، وشعبياً هناك مستقلون مُوَجّهون عاطفياً، هم لم يشاركوا في إسقاط النظام ولا معارضته فعلياً. وهو أساساً سقوطٌ أسهمت في تقرير توقيته إرادات دولية معقدة، ومع ذلك يتصرف هؤلاء وكأنّ النصر وليد “حكمتهم” وصبرهم. والنتيجة، عنف رمزي ضد المختلف، توبيخ للمشكك، وسخرية من كل من لم يشاركهم لحظة النشوة.
على الضفة الأخرى، هناك من أصيبوا بما يشبه الفقد الوجودي. ليس لأنهم مؤيدون للأسد بالضرورة، بل لأنهم لم يكونوا يتصورون نهايةً تأتي من خارج سرديتهم. هؤلاء المهزومون المرتبكون يشعرون بألم الخسارة التي انبثقت “بغفلة من الزمن” من داخل الحلم، فلا يجدون مكاناً لأنفسهم في مشهد جديد يرعاه “إسلاميون” حتى لو ادّعوا الاعتدال، ويشعرون بأن النصر لم يكن نصراً لحلمهم عن سوريا، بل صفقة لتسوية لم يُستشاروا فيها. هذه الفئة تعبّر عن نفسها
بصيغ متعددة. انسحاب من الحياة العامة، نزعة تشكيكية، عنف كلامي ضد الجميع، بمن فيهم حلفاء الأمس. ولن نعدم هنا، في المستوى الشعبي، صيغاً وسيناريوهات تفترض أن “الأسد الغائب” سيعود قريباً بنسخة “ماهر الأسد”، عبر تبَنٍّ لصيغ وسيناريوهات مؤامراتية خيالية. وطبعاً هذا كله، في جوهره، ناتج عن صدمة نفسية، من دون أن يستند إلى أية قراءة سياسية.
ولكن، كيف واجه بشرٌ آخرون الصدمة بعد مثل تلك التحولات في بلدان أخرى؟ لم تكن سوريا البلد الأول الذي يشهد نهاية مفاجئة لنظام إجرامي قمعي، لكن الدول التي اجتازت هذه المراحل وجدت أدوات لتفكيك الأزمات النفسية قبل السياسية. في جنوب إفريقيا، المثال الأشهر، شكّلت السلطات الجديدة “لجنة الحقيقة والمصالحة”. فبعد نهاية الفصل العنصري، لم يبدأ مانديلا ببناء الدولة من فوق، بل من القلب. شكَّلَت تلك اللجنة مساحة آمنة، حيث اعترف الجلادون بجرائمهم، واستمع الضحايا، وغُفرت أحياناً الذنوب من دون محاكمات. لم يكن الأمر سهلاً، لكنه حمى البلاد من حرب أهلية نفسية.
في رواندا، بعد الإبادة الجماعية، تم تشكيل ما عُرف بمحاكم “الغاشاتشا” الشعبية. اختارت الدولة هناك أن تعالج الجراح الجماعية عبر القضاء المجتمعي، لا القانوني فقط. جلس القتلة أمام عائلات الضحايا في ساحات القرى، واعترفوا، وبكوا، وسُمح للضحايا بالكلام والرد. لم يكن حلاً كاملاً، لكنه كان وسيلة لتطهير النفس الجمعية من سموم الكراهية.
في تشيلي والأرجنتين، احتاج الأمر سنوات من العمل السياسي الشاق مسنوداً على الضغط الاجتماعي حتى بدأت محاسبة تدريجية لرموز الحكم العسكري. للمفارقة، وبما يشبه حالتنا، لعب المثقفون خلال ذلك، دوراً خطيراً في إذكاء الخلافات والتوترات الطويلة أو التهدئة. من هنا، تبدو مسؤولية النخب الثقافية والسياسية لدينا حاسمة.
إذاً، ما الذي يمكن فعله في سوريا؟ شخصياً أرى، أن سوريا تحتاج، من بين الكثير، إلى “مناطق نفسية آمنة”، هل بدا لكم التعبير ساذجاً، بينما على الأرض هناك كثير من التجاوزات والانتهاكات والجرائم؟ معكم بعض الحق. لكن للتوضيح أنا أعني هنا أن على السلطات والنخب المتوازنة خلق وتعزيز فضاء ثقافي وسياسي وإعلامي، تُعلَّق فيه الأحكام القطعية. فضاءٌ يُشجّع فيه التفهّم بدلاً من مشاعر الانتصار أو الهزيمة. منطقة تُسفّه الشتم أو التشكيك بالنيات، ومحاولات التدمير النفسي للمختلف، والأهم ألا يُفرض فيها الصمت أيضاً. منطقة هي أقرب إلى مساحة علاج جماعي، لا مناظرة سياسية لهزيمة الآخر.
بداهةً، السقوط السياسي لنظام قمعي لا يُنتِج تلقائياً شفاءً مجتمعياً. بل في أحيان كثيرة، يُطلق العنان لأمراض كانت مكبوتة، كما نشهد حالياً في سوريا. وإذا لم نفهم أن ما يجري اليوم هو صراع نفسي أكثر من كونه سياسياً، فقد يودي بنا هذا إلى أن نستبدل نظاماً ديكتاتورياً ضبط المجتمع على إيقاعات سلطته، بنظام آخر مشابه لكن تختلف إيقاعاته كثيراً أو قليلاً عمن سبقه، بما يتناسب مع التصدّعات الجديدة.
طبعاً كل ذلك، إن لم يُشفَ المجتمع من تلك الأمراض ويخلق ضوابطه الذاتية، وليس خافياً أننا نعيش اليوم بنظام نفسي جماعي إن لم يكن أكثر تعقيداً مما كان عليه في السابق، فهو معقد بدرجة قريبة مع تجلّيات مغايرة.
السوريون اليوم يحتاجون إلى اعتراف جماعي بالشرخ، وهو شرخ لا يمكن رأبه وتضميده دون أن نعترف بوجوده. نحتاج إلى ما يشبه ميثاقاً اجتماعياً وسياسياً تواصلياً جديداً، يتضمّن قواعد جديدة لخطاب النخب في الحياة العامة وعلى وسائل الإعلام والتواصل. قواعد إن لم تكن تمنع بالقانون العنف الرمزي والتصنيف الأخلاقي، فعلى الأقل يجب أن تدين وتسفِّه مرتكبيه، بما يجعله من بين السلوكيات والقيم المرذولة. ربما تأتي بعد ذلك حلقات نقاش تُخاض فيها حوارات داخلية بين أطراف سياسية وثقافية مختلفة، لا تُبَث، ولا تُعلن، ولكن تُبنى فيها الثقة. قد تكون الأصوات غير المؤدلجة قادرة على لعب دور الوسيط النفسي والرمزي في هذا الموقع الذي يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد والصبر.
سوريا تحتاج إلى خفض تصعيد، ليس في جبهات القتال، بل في جبهات اجتماعية ونفسية وحتى عاطفية. المنتصر الحقيقي اليوم، ومن يحق له ادّعاء البطولة، هو من ينتصر على رغبته في الإذلال، فيبتعد عن كل ما يشبه سلوكيات نظام الأسد وجرائمه، ويتطلّع إلى سوريا جديدة ومختلفة. والمهزوم الحقيقي هو من يختار الغرق في أوهام وأحلام وسيناريوهات ستقلب الأوضاع قريباً، بدل الاعتراف بالحقيقة، بأن هناك سوريا جديدة ولدت. بلدٌ إن لم يسهم كامل مجتمع السوريين في تشكيل وجهه، فإن ديكتاتورية جديدة، مدعومة دولياً، ستشكل لها الوجه الذي يناسبها. فاستيقظوا.
تلفزيون سوريا
——————————–
العدالة الانتقالية والمصالحة في سورية… جدلية الأولويات/ بشار نرش
30 مايو 2025
من البديهي أن تُفضي الثورات الشعبية على الأنظمة الاستبدادية إلى مرحلة تستدعي جهوداً حثيثةً لبناء الدولة، وسورية ليست باستثناء، فالشواهد على ذلك كثيرة. إلا أنّ الحالة السورية تستوجب قدراً أكبر من الاهتمام والتركيز، ولعلّ أبرز مسوّغات ذلك أنّ سورية شهدت عقوداً طويلة من الحكم الاستبدادي، تراكمت خلالها مظالم سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة، ثمّ جاءت الثورة عام 2011، وما تلاها من صراع دموي، لتزيد المشهد تعقيداً، إذ انكشفت هشاشة البنية السياسية والاجتماعية، وبرزت الحاجة الملحّة إلى إعادة بناء عقد اجتماعي جديد يعيد الاعتبار للمواطنة والكرامة والعدالة.
اللافت للنظر في السياق السوري أنّه لا يتبع المسار التقليدي المعتاد لعمليات الانتقال السياسي، كما هو الحال في العديد من التجارب الأخرى في مصر وتونس، بل يمرّ بمسارٍ أكثر تعقيداً يمكن تلخيصه بأربع مراحل متداخلة: من دولةٍ إلى لا دولة، ثمّ إلى الثورة، وأخيراً إلى محاولة إعادة تأسيس الدولة. هذا التسلسل غير النمطي يفرض مقارباتٍ خاصّةً لفهم الواقع السوري والتعامل معه، خصوصاً أنّ مسألة بناء الدولة لا تبدأ من نقطة الصفر فحسب، بل من تحت الصفر، في ظلّ الانهيار الكامل لمؤسّسات الدولة، وانقسام المجتمع، وفقدان الثقة بين المكوّنات المختلفة.
ومن الجدير بالملاحظة هنا أنّ تجارب ما يُعرف بثورات “الربيع العربي” لا تصلح أن تكون مرجعية موحّدة لفهم الواقع السوري، نظراً إلى اختلاف السياقات وتشابك العوامل، فالاستبداد حين يتجذّر ويُكرّس عبر عقود، كما في الحالة السورية، ينتج بيئةً أكثر استعصاء على التغيير. وهنا يمكن مقارنة ما يجري في اليمن وليبيا والسودان من انفلات واحتراب طويل مع الاستقرار النسبي في مصر وتونس، لتتضح حقيقة أن مقاومة الاستبداد ليست عمليةً واحدةً في جميع البلدان، وأنّ تعميم المقاربات في هذا السياق قد يقود إلى استنتاجات مُضلِّلة.
من هذا المنطلق، من المهم استجلاء السجال الحاصل في سورية في ما يخصّ الجدال بشأن إشكالية حسم الأولويات بين العدالة والمصالحة، وكيفيّة التوصّل إلى رؤيةٍ تنجلى فيها هذه الضبابية المعيقة للاستقرار والتنمية، وذلك بغية المساهمة في مساعي تجاوز المأزق الراهن. فعند تفحّص الأدبيات ذات الصلة، بما في ذلك النظر إلى الحالات المماثلة، نجد أنّ هناك عدّة مقاربات ومدارس فكريّة بخصوص مسألة الأولويات، في ما يتعلّق بالجدل حول إشكالية الأولويات بين العدالة والمصالحة.
فهناك رؤية تؤكّد أولوية العدالة الانتقالية، من خلال وضع مرجعيات قانونية تضمن الحقوق الناجمة عن الأضرار والانتهاكات التي ارتُكبت، وتتضمّن الإجراءات والأطر المؤسّساتية الرسمية الراعية والداعمة لجهود المصالحات، وما ينجم عنها من توافقات ونتائج. وهناك رؤية أخرى مناقضة للأولى، تستند إلى فرضيّة مفادها بأنّ المصالحة عمليّة استباقية للعدالة الانتقالية، وبالتالي، لا يمكن تحقيق الأخيرة وتفعيلها إلا بإجراء مصالحة وطنية شاملة.
وهناك توجّه يمزج بين الرؤيتَين السابقتَين، أي يؤسّس منطلقاته الفكرية على تلازم متوازٍ لعمليتي العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، بحيث لا يمكن تحقيق إحداهما من دون الأخرى. هذا المنحى يُعوّل أساساً على التفسيرات والاجتهادات القانونية لهذه العلاقة، والتي تؤكّد أنّ المصالحة جزء لا يتجزّأ من منظومة العدالة، ويؤكّد حتمية التماهي بين الموضوعَين، وذلك من حيث درجة الترابط والتشابك والتداخل والاعتمادية. أي بمعنى أنّهما (العدالة والمصالحة) تدخلان ضمن إطار بنيةٍ متكاملةٍ تتمثّل في العدالة الاجتماعية، ولهذا لا يمكن تحقيق نجاح لأيّ منهما بمعزل عن الأخرى.
من هذا المنظور، فإنّ الحالة السورية تقتضي تجاوز النقاش النظري بين هذه المقاربات الثلاث، والتوجّه نحو صياغة رؤية واقعية تأخذ في الحسبان تعقيدات السياق السوري، وحجم التركة الثقيلة من الانتهاكات والانقسامات، فضلاً عن الحضور الإقليمي والدولي في تفاصيل الملفّ السوري، وهو ما يجعل من مسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية مشروعاً سياسياً وقانونياً واجتماعياً معقداً، لا يمكن حسم ترتيبه أو أسبقيته، إلا ضمن إطار وطني جامع، تتوافر فيه الإرادة السياسية والتوافق المجتمعي.
فأيّ انحياز مسبق لأحد المسارين على حساب الآخر (سواء العدالة أو المصالحة) قد يُفضي إلى نتائج عكسية، تكرّس الانقسام وتُجهض فرص بناء دولة القانون. فإذا فُرضت العدالة بمنطق الثأر من دون مراعاة الظروف السياسية والاجتماعية، فإنّها قد تُعمّق الشروخ المجتمعية وتُغذّي النزعات الانتقامية، في حين أنّ الدفع بالمصالحة من دون تأسيس قانوني وأخلاقي سليم، قد يُفضي إلى مصالحة شكلية، تُكرّس الإفلات من العقاب، وتُفرّغ العدالة من مضمونها. من هنا، تبدو الحاجة ماسّة إلى تطوير مقاربة سورية خالصة للعدالة الانتقالية، تُبنى على أسس الحوار الوطني، والمكاشفة المجتمعية، وإشراك الضحايا في رسم معالم المرحلة الانتقالية. ولعلّ التحدّي الأبرز في هذه المقاربة يكمن في القدرة على تحقيق التوازن بين مقتضيات العدالة والضرورات السياسية، من دون الوقوع في فخ الانتقام أو ثقافة العفو المجاني.
العربي الجديد
——————————-
هيئة العدالة الانتقالية .. جدل حول حصر المحاسبة بجرائم النظام واستثناء بقية الأطراف
أنور البني لـ سناك سوري: يمكن للضحايا اللجوء للقضاء .. العبدالله: الجميع ارتكبوا الانتهاكات
السبت, 24 مايو 2025,
أصدر الرئيس السوري “أحمد الشرع” في 17 أيار الجاري المرسوم رقم 20 القاضي بتشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، لكنه حصر مهامها بكشف الحقائق حول الانتهاكات التي تسبب فيها النظام البائد.
سناك سوري _ محمد العمر
وعلى الرغم من أن “العدالة الانتقالية” كانت مطلباً رئيسياً بعد سقوط نظام “بشار الأسد” وحتى قبل سقوطه، إلا أن أصواتاً كثيرة حذّرت خلال الأشهر الماضية من أن تتحوّل إلى عدالة “انتقامية” أو “انتقائية”.
وحين ظهر مرسوم تشكيل وجعل مهمتها مقتصرة فقط على التحقيق بانتهاكات النظام ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر الضرر الواقع على الضحايا وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية، بدأ الجدل حول تقييد نشاط وعمل اللجنة بجرائم النظام، وهذه الجرائم على كثرتها طبعاً لكنها لا تختصر كل مآسي السوريين خلال 14 عاماً شاركت في الساحة السورية أطراف مختلفة ارتكبت بدورها انتهاكات واسعة وكان لها الكثير من الضحايا الذين لا يزال من حقهم معرفة الحقيقة وجبر ضررهم أيضاً، ويكفي أن نعرف مثلاً أن الصيغة الحالية للمرسوم استثنت انتهاكات تنظيم “داعش” التي من الصعب أن يختلف اثنان على وحشيتها وفداحة أثرها على السوريين.
طرق أخرى للعدالة
لا يرى المحامي السوري الناشط في مجال حقوق الإنسان “أنور البني” أزمةً في تشكيل الهيئة بمرسوم يصدر عن الرئاسة بدلاً من المجلس التشريعي، معتبراً أن الأهم تشكيل هيئة العدالة وتحديد آليات عملها لا سيما لناحية محاكمة المجرمين، هل سيكون عبر محكمة خاصة سورية أم مشتركة أم دولية، وكيف ستبدأ بإجراءات تعويض الضرر والبحث عن الحقائق ونشرها.
وأضاف “البني” في حديثه لـ سناك سوري أن خطوة المحاكمة مهمة خاصةً أن السلطة القائمة حالياً تقوم باعتقال الأشخاص وإبقائهم دون محاكمة، فيما لا يزال قسم من المجرمين طلقاء في الشوارع.
واعتبر أن حصر عمل الهيئة بجرائم النظام فقط غير مبرر لكن بالإمكان تفهّم عقلية الطرف الذي قرر تشكيل الهيئة، لكنه أوضح أن هيئة العدالة الانتقالية ليست الطريق الوحيد للضحايا للحصول على العدالة، فلديهم الحق باللجوء إلى أطر أخرى قد تكون أكثر صعوبة لكن من حقهم اللجوء إلى القضاء العادي سواءً المدني أو الجزائي ولا يمكن منع الضحايا من الحصول على العدالة إلا بحالة واحدة هي صدور مرسوم عفو عن مجلس تشريعي منتخب بعد 5 سنوات عن أشخاص أو جرائم محددة في حال سمح له الدستور الجديد بذلك.
وعن مسألة التشاور مع المجتمع المدني، رأى “البني” أنها يجب أن تحصل حالياً بعد تكليف رئيس لهيئة العدالة بتشكيلها، وبالتالي عليه إجراء مشاورات، مبيناً أن إقرار إنشاء الهيئة لا يحتاج لمشاورات فالسوريون مجمعون على ضرورة العدالة الانتقالية على حد قوله.
تحذير من تسييس العدالة الانتقالية
المحامي السوري “إياد الشعراني” قال أن هناك أسباب سياسية وراء صدور قرار تأسيس الهيئة بشكله الحالي، معتبراً أن حصر عمل الهيئة بجرائم النظام البائد لا يحقق الهدف الرئيسي لمسار العدالة الانتقالية الذي يهدف لتحقيق السلام الاجتماعي المستدام.
وأضاف “الشعراني” في حديثه لـ سناك سوري أن الذهاب إلى مسار عدالة انتقالية منقوص ومسيّس لا يشمل جميع الأطراف المرتكبة للانتهاكات سيؤدي إلى حالة انعدام استقرار اجتماعي وسياسي، موضحاً أن هناك ضحايا لانتهاكات أطراف أخرى غير النظام البائد، وإذا لم يتم إنصافهم فسنواجه مظلومية جديدة.
وشدّد على الأخذ بجميع آليات العدالة الانتقالية دون نقصان، وضرب مثالاً على أن التجربة العراقية لم تأخذ بلجان الحقيقة ما أدى إلى عدم وجود سردية وطنية لما حدث، مبيناً أن من المهم أن تبنى سردية وطنية سورية لما حدث وأن جذر الصراع كان سياسياً بين النظام والشعب ولو أنه لاحقاً أخذ أبعاداً اجتماعية وطائفية لكن جذره كان سياسياً.
ولفت إلى ضرورة تطوير البنية التشريعية السورية لتناسب مسار العدالة الانتقالية بما في ذلك أن تنص على جرائم الحرب والانتهاكات ضد الإنسانية وضم الاتفاقات الدولية الإنسانية إلى التشريعات السورية، إضافة إلى بناء المؤسسات بما فيها الجيش على أساس وطني جامع دون إقصاء.
وحذّر من احتكار مسار العدالة الانتقالية من قبل السلطة، داعياً إلى أن يكون المسار قائماً على الضحايا والاستفادة من منظمات المجتمع المدني وخبراتها والكوادر التي درّبتها، كما أكّد على ضرورة إتاحة الدور للمرأة السورية في لعب دورها المنتج في إعادة الاعتبار للهوية الوطنية السورية الجامعة لأنها العنصر الأهم نظراً لأن الأمهات والزوجات والأخوات هنّ ذوي الضحايا.
من جانب آخر، أوضح “الشعراني” أن المادة 39 من الإعلان الدستوري أتاحت لرئيس الجمهورية اقتراح القوانين، في حين ينص القانون المدني على أن الشخصية الاعتبارية تمنح بموجب قانون، وبالتالي فإن إحداث هيئة العدالة الانتقالية تتمتع بالاستقلال المالي والإداري كشخصية اعتبارية يستوجب أن تحدَث بقانون، وإقرارها بمرسوم بدلاً من ذلك يجعلها مشوبةً بعيب قد يؤثر بشرعيتها.
وتابع أن «بالنظر لتجربة السوريين مع استخدام المراسيم التي تصدر عن رئاسة الجمهورية كآلية تشريعية يجعلنا كحقوقيين بالنظر لطبيعة و الخلفية الفكرية السياسية للإدارة الجديدة ، أمام هواجس حقيقية و شكوك مشروعة سيما أن العدالة الانتقالية كمسار لا بد أن يقوم على قاعدة تشميلية و ترتكز على الضحايا و ما يحقق جبر الضرر و يؤسس لمصالحة وطنية تؤسس لسلام اجتماعي مستدام».
الجميع ارتكب انتهاكات
المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة “محمد العبد الله” تحدّث عن ضرورة عدم تسييس ملف “العدالة الانتقالية” والتعامل معه مجدداً على أنه ملف إنساني يرتبط بمصائر الناس وعوائلهم وضرورة معرفة هذا المصير وحصول العائلة على اعتذار واعتراف وتعويض ومساعدة طبية ونفسية وقانونية، لكن في المقابل سيكون هناك كثيرون ممن لن يحصلوا على الشيء ذاته.
يتابع “العبد الله” أن الجميع ارتكبوا انتهاكات في “سوريا” على الرغم من تفاوت نسبتها وفداحتها، فيقول «لكن الجميع ارتكب انتهاكات: الجيش الحر بمختلف فصائله وتشكيلاته، الجيش الوطني، قسد، داعش، حزب الله، إيران، روسيا، تركيا، ميليشيات طائفية من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان، التحالف الدولي الذي دمر بيوتاً على أهلها خلال حربه على “داعش”، وغيرها وطبعاً هيئة تحرير الشام التي وصلت إلى السلطة».
واعتبر أن المرسوم يبرّئ الجميع عدا نظام “الأسد”، كما أن مصطلح “انتهاكات جسيمة” تحمل تفسيرات عدة، فما هو الانتهاك الجسيم؟ ومن يقرر إن كان جسيماً؟ فيما كان من الممكن ببساطة الإشارة إلى “الانتهاكات الواقعة ضد القانون الدولي” فتشمل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في “سوريا”.
ودعا الحقوقي السوري إلى إعادة النظر بهيئة العدالة الانتقالية قبل أن تباشر عملها، احتراماً للضحايا السوريين جميعاً، حيث تؤسس محاسبة طرف دون آخر إلى ما يعرف بـ”عدالة المنتصر” وهي نسخة ملطّفة من أعمال الانتقام التي تحدث خارج نطاق القانون، ورأى أن المعضلة هي في “هيئة تحرير الشام” تحديداً لأنها لو فتحت أبواب محاسبة بقية الفصائل، ستعلو الأصوات المطالبة بمحاسبتها.
قرار مخيب للآمال ويخالف الإعلان الدستوري
أما رئيسة رابطة عائلات قيصر “ياسمين مشعان” فكتبت أنه لم يكن من السهل عليها قبول القرار الرئاسي الذي كانت تنتظره بفارغ الصبر، والمتعلق بإنشاء هيئة العدالة الانتقالية.
وأضاف “مشعان” أن القرار جاء مخيباً للآمال إذ يختصر العدالة لأنه قرار يختصر العدالة بجرائم النظام السوري، ولم يكن منصفاً لكل الضحايا ويعترف بحقهم في المشاركة بعمليات العدالة الانتقالية ويخالف الإعلان الدستوري نفسه.
ترى الناشطة التي فقدت 4 من إخوتها على يد النظام وأخاً خامساً على يد “داعش”، أن القرار كأنه ببساطة يطلب منها التفريق بين أخيها الذي غيّبه “داعش” وبين أخوتها البقية الذين غيّبهم النظام، وتضيف أن نظام “الأسد” كان “أس الجرائم في سوريا” لكن هذا لا يعني تجاهل بقية المجرمين، وختمت بأن النضال مستمر ولن يتوقف.
تشكيل الهيئة دون مجلس تشريعي
رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان “فضل عبد الغني” اعتبر أن المسار الأفضل لتشكيل “هيئة العدالة الانتقالية” كان إقرارها عبر مرسوم يصدر من مجلس تشريعي منتخب وليس مرسوماً تنفيذياً يصدر عن الرئاسة، وذلك بناءً على تجارب دول أخرى في هذا السياق.
وأشار “عبد الغني” في حديثه لـ“الإخبارية السورية” إلى إيجابية الاستقلال المالي والقضائي للهيئة عن الوزارات، لما لذلك أثر في أن تكون الهيئة على مسافة واحدة من جميع الضحايا، وأن تكون المحاسبة شاملة لجميع الأطراف على الرغم من نظام “الأسد” وحلفائه ارتكبوا النسبة الأكبر من الانتهاكات لكن هناك نسبة ارتكبتها أطراف أخرى، الأمر الذي أغفله المرسوم بسبب غياب المشاورات قبل صدوره.
استبعاد عائلات الضحايا
المحامي “ميشال شماس” وصف المراسيم الرئاسية بـ”المتسرعة” وقال أنه ليس مطمئناً على العدالة في ظل استبعاد كامل لرأي عائلات الضحايا والمنظمات الحقوقية والمدنية التي عملت طويلاً على هذه الملفات ولديها خبرة متراكمة، إضافةً إلى حصر المحاسبة على الجرائم التي ارتكبها النظام البائد.
بدوره، اعتبر رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير “مازن درويش” أنه يجب استخدام العدالة والمحاسبة كأداة للسلام وليس كسلاح للانتقام.
يذكر أن المادة ٤٩ من الإعلان الدستوري تنص على أن تُحدَثُ هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية، تعتمد آليات فاعلة تشاورية مرتكزة على الضحايا، لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف للضحايا والناجين، بالإضافة إلى تكريم الشهداء، وتستثنى جرائمُ الحرب والجرائمُ ضد الإنسانية وجريمةُ الإبادة الجماعية وكلُّ الجرائم التي ارتكبها النظام البائد من مبدأ عدم رجعية القوانين.
سناك سوري
——————————–
أنور البني: العدالة الإنتقالية في سوريا مازالت بعيدة.. و250 ألف مفقود في سجون
——————————–
====================