المجموعة الدولية للأزمات: استقرار سوريا بعد الأسد رهن بالإصلاح والدعم الخارجي

ربى خدام الجامع
2025.05.27
نشرت المجموعة الدولية للأزمات تحليلا ذكرت فيه أن المرحلة التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول 2024 شهدت خطوات سياسية جريئة في سوريا، تمثلت بتشكيل حكومة أكثر تمثيلاً، واعتماد إعلان دستوري مؤقت، إلى جانب اتفاق تاريخي مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لإدماجها ضمن الجيش الوطني.
لكن التقرير حذّر في المقابل من تحديات أمنية عميقة، و”تصاعد للعنف الطائفي”، وتوترات داخلية وخارجية تهدد بتقويض مسار الانتقال.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة برفع العقوبات الغربية عن سوريا سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الجهة الناشرة له ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي ومراكز الأبحاث للملف السوري، دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة تلفزيون سوريا لهذه المادة:
منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في كانون الأول 2024، حقق قادة سوريا الجدد مكاسب مهمة وتعرضوا لتحديات متزايدة، وهم يحاولون توجيه البلد نحو التعافي، إذ خلال شهر آذار، وضع هؤلاء القادة حجري أساس مهمين، إذ شكلوا حكومة انتقالية جديدة أكثر تنوعاً، وأطلقوا إعلاناً يعتبر بمنزلة دستور مؤقت للبلد. وفي سياق منفصل، توصل هؤلاء القادة لاتفاقية مع القادة الكرد في شمال شرقي سوريا تقضي بدمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أي تلك الجماعة التي تسيطر على معظم أنحاء تلك المنطقة منذ عام 2015، ضمن الجيش الوطني الجديد، مع توسيع رقعة سيطرة الدولة ىالمركزية لتشمل تلك المناطق. كما ساعدت حملة دبلوماسية سحرية السلطات الجديدة على تكوين حالة دعم في العواصم الأوروبية وغيرها، والتي تجلت في أبهى صورها باجتماع ضم الرئيس الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب في 14 أيار الجاري، تعهد خلاله ترامب برفع واشنطن للعقوبات عن سوريا كونها خنقت الاقتصاد السوري وجعلته بحاجة ماسة للإنعاش. ومنذ ذلك الحين والاتحاد الأوروبي يحاول أن يقدم على التزام مماثل بالتماشي مع ما قدمته واشنطن.
بيد أن السلطات الجديدة ما فتئت تتعرض لمشكلات جسيمة، بعضها كانت هي السبب فيه، ولهذا ما يزال الشركاء في الخارج يحملون شيئاً من القلق تجاه الشرع والدائرة المقربة المحيطة به والتي استأثرت بالسلطة لنفسها، وذلك بالنسبة لمدى انفتاح تلك الفئة على تكوين حكومة تمثل الشعب السوري بحق. وخلال شهر آذار الماضي، شهدت المناطق الوسطى والساحلية في سوريا تفجراً للعنف الطائفي، ما أكد على وجود توتر قد يسهم في إخراج الجهود الرامية لتعزيز سلطة الدولة عن مسارها، كما أوضح بأن الحكومة المركزية تفتقر إلى القيادة والسيطرة على شطر كبير من جهاز الأمن. أما إسرائيل، ومن خلال حرصها على حماية خاصرتها الشمالية، فقد دمرت معظم الإمكانيات العسكرية السورية، واحتلت المنطقة العازلة التي تمتد على الحدود الجنوبية لسوريا، كما نفذت هجمات متواصلة طالت سلسلة واسعة من الأهداف السورية. وإلى أن تترجم الوعود برفع العقوبات إلى حقائق وأفعال، ستبقى تلك العقوبات تمثل عقبة كبيرة أمام العملية الانتقالية بعد رحيل الأسد.
وحتى يدعم الاتحاد الأوروبي عملية انتقال سلمية في سوريا، ينبغي عليه هو والدول الأعضاء فيه القيام بما يلي:
حث دمشق على تشكيل حكومة تمثل السوريين تمثيلاً حقاً، بوجود مشاركة أكبر للنساء، إلى جانب تشجيع دمشق على التعاون مع الأمم المتحدة في صياغة دستور جديد للبلد.
المساهمة في تعزيز الثقة بقوات الأمن السورية وبالدولة السورية بصورة أوسع، ويشمل ذلك حث السلطات الجديدة على التفكير بأمر إعادة رجال الشرطة الذي خضعوا لتفتيش أمني بعد أن خدموا أيام نظام الأسد، إلى جانب الدفع من أجل المحاسبة على الجرائم التي ارتكبتها القوات التابعة للدولة في آذار الماضي، ومواصلة الخطط الرامية لزيادة الدعم المخصص لإنعاش سوريا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، مع تقديم المساعدة التقنية لتعزيز الإمكانيات الموجودة لدى المؤسسات التابعة لعدة وزارات.
رفد الجهود الساعية لإدماج قسد ضمن قوات الأمن التابعة للدولة، مع خفض تصعيد النزاع القائم بين قسد والقوات المدعومة تركياً والتي تندرج تحت مسمى الجيش الوطني السوري، إلى جانب تسريع عملية إجلاء المواطنين الأوروبيين المحتجزين في مخيمات تحرسها قسد بتهمة الانضمام لتنظيم الدولة.
المشاركة في عملية دبلوماسية قائمة على التنسيق في بداية الأمر، ومنع إسرائيل من القيام بالعمليات التي من شأنها زعزعة الاستقرار في سوريا، ثم منع زيادة التصعيد بين إسرائيل وتركيا في سوريا.
تطبيق القرار السياسي الذي أصدرته الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على جناح السرعة، والذي يقضي برفع ما تبقى من العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، مع توفير المعلومات وخلق المحفزات التي تدفع المشاريع التجارية إلى الاستثمار في سوريا.
الديناميات السياسية والأمنية
خلال الأشهر الستة التي أعقبت سقوط الأسد، سعت السلطات الجديدة في دمشق جاهدة لترسيخ سلطتها، ونشر الاستقرار في البلد، وإطلاق عملية انتقال سياسي فيها، على الرغم من النتائج المختلطة التي حققتها على هذا الصعيد. إذ في 29 كانون الثاني، نصب الشرع رئيساً مؤقتاً خلال “مؤتمر النصر”. ثم حلت الهيئة وغيرها من الفصائل نفسها، إلى جانب كامل قوات الأمن التي تعود لحقبة الأسد، لتفتح الطريق أمام تشكيل جهاز أمن جديد. وفي شباط، عقدت الحكومة المؤقتة مؤتمر الحوار الوطني والذي يهدف إلى إطلاق عملية سياسية جامعة لكن هذا المؤتمر كان أقل من التوقعات بكثير.
بعد ذلك، وقع الرئيس الشرع على الإعلان الدستوري في 13 آذار، فوضع بذلك إطار عمل قانوني لفترة انتقالية تمتد لخمس سنوات كما رسخ سيطرته على السلطة. وعند صياغة الإعلان الدستوري، تلقت السلطات المقترحات التي رفعتها الأمم المتحدة، وخاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي تلك الأثناء، شرع الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني بحملة دبلوماسية مكوكية مع نظرائهم الأجانب، سواء في العالم العربي أو في أوروبا، فحققوا بذلك خطوات مهمة ونوعية باتجاه تقبلهم على المستوى الدولي، كان آخرها تلك الخطوة المهمة التي تمثلت باللقاء التاريخي بين الشرع وترامب في الرياض في 14 أيار الجاري.
مثل الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة في 29 آذار مدى استعداد القادة الجدد لتمثيل شرائح واسعة من الشعب السوري ضمن جهاز الحكم، إذ شملت الحكومة الجديدة ممثلين عن الطائفة العلوية والمسيحية والإسماعيلية والكردية والدرزية، إلى جانب شخصيات من المجتمع المدني والتكنوقراط وشخصيات حملت حقائب وزارية في حكومة الأسد قبل الحرب. ولكن، وعلى الرغم من الآمال التي حملتها التشكيلة الوزارية التي تعبر عن تمثيل أكبر، حصل الثقات لدى الشرع على حقائب الداخلية والخارجية والدفاع والعدل والطاقة، ما يعني استئثارهم بالمناصب التي تتمتع بسلطة تنفيذية أعلى، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشخصيات الرفيعة السابقة في الهيئة بقيت في مواقع السلطة التي تتصل بعدة مجالات. وكان من بين الوزراء المعينين امرأة واحدة هي هند قبوات التي شغلت منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، على الرغم من تعهد الشرع بدعم مشاركة المرأة.
ثم إن غياب الأمن بصورة عامة مايزال يمثل مصدر قلق كبير، وذلك لأن التركة التي خلفتها الحرب السورية والتي تشمل الدمار الاقتصادي وتهتك النسيج الاجتماعي السوري، خلقت ظروفاً مواتية أمام عودة العنف. وفي الوقت ذاته، سعت القوات الحكومية المنهكة جاهدة للرد بطريقة فاعلة على أعمال القتل والاختطاف والسلب، غير أن الهجمات التي استهدفت العلويين نظراً لارتباطهم بالنظام البائد، والقتال الذي دار مؤخراً بين الجماعات المسلحة السنية والدرزية، جعل الأقليات تحس بتهميش أكبر وخطر
ثم إن العنف الذي اشتعل في وسط سوريا وفي المنطقة الساحلية في مطلع شهر آذار أدى إلى تراجع مكانة الحكومة على المستويين المحلي والدولي، إذ في السادس من آذار، شن متمردون موالون للأسد هجمات نسقوا لها واستهدفت قوات الأمن التي شكلتها الحكومة منذ فترة قريبة داخل المدن الساحلية كما استهدفت سيارات المدنيين والطريق السريع الذي يربط مدينة اللاذقية بإدلب في شمال غربي البلد. ولقد دفع عداد القتلى الكبير دمشق إلى إرسال تعزيزات ضمن حملة مضادة ضمت فصائل مسلحة اندغمت بصورة اسمية ضمن الجيش الجديد، لكنها حافظت على استقلاليتها في القيادة والسيطرة. كما انضمت عصابات من المطالبين بالثأر والانتقام لتلك الاضطرابات، وخلال الأيام التي أعقبت ذلك، أمعنت عناصر غير منضبطة من كلا الفئتين الأخيرتين تقتيلاً في أهالي قرى اللاذقية وطرطوس وحماة وأحيائها، وذلك انتقاماً منهم على ما ارتكبه نظام الأسد من جرائم، والتي يحمّل بعض السوريين كامل العلويين مسؤوليتها.
وعند عودة النظام من جديد، تبين بأن ما يقرب من 900 مدنياً علوياً قد قتلوا في تلك الأحداث، بينهم أكثر من مئة امرأة وطفل، في حين فر أكثر من 30 ألفاً إلى لبنان، وعليه، فإن أغلب سكان الساحل السوري الذين أدانوا تصرفات العناصر الموالية للأسد حملوا المسؤولية للحكومة في فشلها بحمايتهم. وعقب أحداث العنف، تعهد الشرع بمحاسبة المسؤولين عنها، ثم شكل لجنة لتقصي الحقائق كلفها بتوثيق الانتهاكات ووضع توصيات بشأن إجراءات المحاسبة، ومن المقرر أن ترفع نتائج هذا التحقيق في تموز القادم.
إلا أن التحديات التي تواجهها الحكومة أكبر من تلك المتعلقة بضمان المحاسبة على الجرائم التي ارتكبت في آذار، وذلك لأن الجرائم التي ارتكبتها قوات تابعة للدولة سلطت الضوء على وجود ثغرات كبيرة في سيطرة دمشق على الفصائل المسلحة التابعة لها، كما بينت بأن الحكومة الجديدة خلقت مشكلة جديدة عندما حلت قوات الأمن القديمة، وذلك عندما سرحت من العمل آلاف الشبان المتضررين الذين يتمتعون بخبرة قتالية وسهولة على الوصول إلى الأسلحة. ومع ندرة فرص العمل المتاحة، شكل هؤلاء سلسلة جاهزة من المجندين الذين بوسع الموالين للنظام البائد الاستفادة منهم في أي ثورة أو تمرد قد يحصل مستقبلاً، ثم إن دمج تلك العناصر غير المنضبطة التي أصبحت اليوم جزءاً من قوات الأمن التابعة للدولة ضمن قوة متماسكة تخضع لانضباط ملائم لن تكون مهمة سهلة، طالما بقيت الدولة تسعى جاهدة وهي مكبلة بالعقوبات لدفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وهذا ما جعل كثيرين من حملة السلاح يعتمدون على مصادر أخرى للدخل.
إن عدم وجود سلسلة قيادة وتحكم واضحة بالنسبة للعناصر المسلحة التابعة للحكومة يمكن أن يتسبب بظهور موجات عنف جديدة وبكل سهولة، إذ في أواخر نيسان الماضي، تصاعدت وتيرة العنف بسرعة متحولة إلى اقتتال عنيف إثر هجمات شنتها جماعات مسلحة موالية للحكومة على ضواحي ذات غالبية درزية بالقرب من دمشق، وقد كان السبب وراءها تسيجل صوتي نسب فيه صوت المتحدث إلى شخصية قيادية درزية وهي تشتم النبي محمد، ثم وصلت الاشتباكات إلى محافظة السويداء الجنوبية ذات الغالبية الدرزية، ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص خلال ثلاثة أيام. وفي الوقت الذي تراجع الاضطراب في نهاية المطاف، فإن ما آلت إليه الأحداث سلطت الضوء على سرعة تحول أي توتر محلي إلى عنف يمتد على نطاق واسع.
هذا ويخلق الوضع الأمني تحديات كبيرة بالنسبة للنساء على وجه الخصوص، لأنه يقيد تحركاتهن في أغلب الأحيان، كما أنهن ضحية لأحداث الاعتقال العشوائي المتصاعدة ناهيك عن المضايقات التي يتعرضن لها. إذ في غياب أي رد فعال من طرف الحكومة، صار الأهل يلجأون في أغلب الأحيان لوسائل التواصل الاجتماعي من أجل المناشدة بهدف إعادة بناتهن المفقودات، بيد أن هذه المناشدات التي توجه لعامة الناس قد تعرض النساء وأهاليهن لمزيد من المضايقات، كما أن بعض المسؤولين المحليين تصرفوا باستقلالية هم أيضاً عندما تقدموا بإجراءات تقيد النساء في بعض المجالات العامة وبيئات العمل، أو تلك التي تعنى بفصل الرجال عن النساء في الحافلات والمشافي والمحاكم. بيد أن السلطات كانت تتراجع في معظم الأحيان عن تلك الإجراءات بعد أن يحتج الشارع عليها بشكل كبير.
شمال شرقي سوريا
عندما عقدت دمشق اتفاقاً مع قسد في العاشر من آذار الماضي، تأمل كثيرون بأن تكون هذه خطوة مهمة نحو ترسيخ الاستقرار في سوريا، وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية لم تفصّل كثيراً في بنودها، فإنها ألزمت كلا الطرفين بدمج قوات قسد المسلحة ومؤسساتها المدنية ضمن الدولة المركزية قبل نهاية عام 2025. ويعتبر ذلك بالنسبة لدمشق فرصة لاستعادة سلطة الدولة في شمال شرقي سوريا، حيث يتركز معظم النفط السوري، إلى جانب استعادة الدولة لمصداقيتها بعد أحداث العنف التي وقعت في مطلع آذار. ولكن بالنسبة لقسد، فإن هذه الاتفاقية حدت من التهديد التركي الذي يعتبرها امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي صنفته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كتنظيم إرهابي والذي بقيت أنقرة تحاربه على مدار عقود، لكنه أعلن منذ فترة قريبة عن حل نفسه. وهذه الاتفاقية تفتح السبيل أمام قسد نحو المشاركة السياسية في النظام بعد الحرب، ولكن ماتزال هنالك تساؤلات مهمة بقيت بلا إجابات، وعلى رأسها مدى لامركزية الدولة السورية مستقبلاً، والآليات التي ستم بموجبها عملية الدمج.
شكل كلا الطرفين لجنة خاصة به حتى تبدأ بالمهمة الشاقة المتمثلة بوضع التفاصيل الخاصة بما يمكن أن يتحول إلى سلسلة معقدة من المفاوضات قد تمتد لأشهر. وقد نجح الاتفاق المبدئي حتى الآن في خفض تصعيد الاقتتال بين قسد وفصائل الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً والذي قتل مئات الناس، أغلبهم مقاتلين، وذلك خلال الفترة ما بين شهري كانون الأول وشباط. وفي نيسان الماضي، ركزت المحادثات المستمرة بين دمشق وقسد على بؤر التور في الشمال السوري، ثم اتفق الطرفان في حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، على خطوات مرحلية باتجاه إزالة المظاهر العسكرية من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية التي تخضع لسيطرة قسد، إلى جانب دمجهما من جديد ضمن باقي أجزاء حلب. ومن المتوقع للمحادثات حول سد تشرين المتنازع عليه والمقام على نهر الفرات أن تتمخض عن اتفاقية واضحة، بيد أن تلك المحادثات خففت حتى الآن من خطر وقوع قتال من أجل تلك المنشأة التي تعتبر ضرورية من أجل توليد الطاقة والمياه في البلد. كما بدأ الطرفان في مناقشة أمور قطاع التعليم، على الرغم من أن أهم عقبة ذلك هي تضييق الفجوات المعنية بدمج الهياكل الحكومية والأمنية والعسكرية.
وفي تلك الأثناء، بقيت قسد تحرس المقرات التي تؤوي مقاتلي تنظيم الدولة المحتجزين هم وعائلاتهم، بينهم نحو أربعين ألفاً في مخيم الهول، كما بينهم آلاف الأجانب من حملة الجنسيات الأوروبية، ناهيك عن الأطفال الذين يحمل أهاليهم جنسيات أوروبية. وفي الوقت الذي تبنت واشنطن نهجاً استباقياً بالنسبة لإجلاء مواطنيها، تأخرت معظم الدول الأوروبية عن القيام بتلك الخطوة، ما جعل السلطات المحلية تتحمل عبء تأمين مقرات الاحتجاز، وفي حال تدهور الظروف في تلك المخيمات بعد تخفيض المساعدات الذي أقر مؤخراً، أو في حال سحب القوات الأميركية، فمن المرجح أن تحدث إثر ذلك اضطرابات قد تشمل حالات شغب جماعية إلى جانب محاولات للهروب من تلك المقرات.
وفي المنطقة الشرقية بالبادية، ماتزال خلايا تنظيم الدولة تختبئ ضمن مساحات شاسعة لا تخضع لسيطرة الدولة، كما أنها تعتمد على قدرتها في المناورة لتعزيز إمكانياتها في مجال التحضير لشن هجمات مستقبلاً، ويخبرنا أهالي تلك المنطقة بأن تنظيم الدولة يحاول وبصورة فعلية أن يجند أتباعاً جدداً له، في حين ذكرت مصادر من قوات الأمن القديمة والحالية بأن تنظيم الدولة يستقطب شخصيات قيادية صاحبة خبرة جرى تحريرها من سجون نظام الأسد، ولكن خلال الوقت الراهن، ما يزال التحالف لمحاربة تنظيم الدولة الذي تقوده الولايات المتحدة يسهم في إبعاد الجهاديين عن المشهد.
التدخلات الإسرائيلية
ظهرت إسرائيل كأشد قوة خارجية عملت على زعزعة استقرار سوريا بعد سقوط الأسد، وذلك لأنها استراتيجيتها تقوم على استباق أي احتمال لظهور خطر أمني قد يهدد حدودها الشمالية الشرقية مستقبلاً. كما أبدت إسرائيل قلقها تجاه تنامي قوة ونفوذ تركيا داخل الحكومة السورية الجديدة، بما أن إسرائيل تعتبر تركيا منافسة لها في المنطقة. ولذلك حافظت إسرائيل على موقفها على الرغم من تطمينات الشرع وغيره لها وتعهدهم بعدم وجود أي نية لديهم باستعدائها.
وعلى الصعيد العسكري نشطت إسرائيل إلى حد بعيد، إذ فور سقوط نظام الأسد، تحرك الجيش الإسرائيلي إلى المنطقة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان والتي أقيمت في عام 1974، وأعلن عن قيام منطقة عازلة تمتد قبالة الجنوب السوري، وحظر على القوات السورية الدخول إلى تلك المنطقة، ثم أعلن مسؤولون إسرائيليون كبار عن نية إسرائيل بإبقاء قواتها متمركزة في تلك المنطقة لأجل غير مسمى. وفي تلك الأثناء، أخذت الطائرات الحربية الإسرائيلية تدك مواقع في سوريا، فدمرت سلاح الجو فيها، كما دمرت سلاح البحرية والأسلحة الثقيلة. ومنذ فترة قريبة، شن سلاح الجو الإسرائيلي غارة بالقرب من القصر الرئاسي في سوريا موجهاً بذلك رسالة واضحة للحكومة السورية مفادها أن إسرائيل لن تسمح للقوات السورية بالانتشار جنوبي العاصمة. وبالتوازي مع ذلك، حرصت إسرائيل على تأييد الطائفة الدرزية لها في جنوب غربي سوريا، بعد أن وعدت أبناء تلك الطائفة بتقديم الحماية لهم. وعبر قيامها بذلك، أخذت تتودد لحلفائها في الداخل، وتدق إسفيناً بين هذه الطائفة وبين السلطات الموجودة في دمشق.
ولهذا، وفي الوقت الذي أخذت الحكومة الجديدة في دمشق بتلمس موضع قدميها، كانت ممارسات إسرائيل وعملياتها قد أضعفت حكام سوريا الجدد وهددت بإعادة سوريا إلى أحد السيناريوهات التي أعلنت الحكومة عن رغبتها في تجنبه، والذي يتمثل إما بتأجيج حالة الإضطراب بشكل يساعد المقاتلين الجهاديين على استغلال الوضع أو دفع الحكومة الجديدة في دمشق إلى التقرب من أنقرة.
عبء العقوبات
في وقت يلوح معه تخفيف العقوبات في الأفق، مايزال الاقتصاد السوري يعاني من حالة اختناق بسبب سلسلة كبيرة من العقوبات التي فرضتها عليه الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتعتبر العقوبات الأميركية هي الأشد، على الرغم من أن جميع العقوبات ألحقت أضراراً بالاقتصاد السوري، وتلك العقوبات كانت ستلحق مصيبة بالبلد الذي يعيش 90% من سكانه في فقر من دون وجود أي شريان يمدهم بالحياة. فقد كان النظام البائد يعتمد على إيران وروسيا لدعم ميزانيته، كما كان يستعين بالعائدات التي توفرها إمبراطورية المخدرات غير المشروعة التي أقامها والتي كانت تدر على آل الأسد مليارات الدولارات، غير أن السلطات الجديدة في دمشق ليس لديها أي مصدر للكسب بسهولة، ناهيك عن الضغط المتصاعد الذي تتعرض له من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، والتي تبدأ بدفع رواتب العاملين في القطاع العام وتنتهي بتأمين ما يكفي من الوقود والكهرباء. وفي حال تعثر تلك السلطات في تأدية تلك المهام، فإنها ستخسر شرعيتها، وهذا ما سيستغله المفسدون سواء في الداخل أم في الخارج.
جرى تحقيق تقدم بالنسبة لتخفيف هذا العبء عن سوريا، إذ في العشرين من أيار، وبعد مرور ستة أيام على إعلان ترامب تخفيف العقوبات عن سوريا، لحق به الاتحاد الأوروبي عبر قرار يقضي برفع ما تبقى من العقوبات الاقتصادية عن هذا البلد، مع إبقاء العقوبات المفروضة على نظام الأسد أو على الأسلحة والتقانة التي يمكن أن تستخدم لقمع الشعب في الداخل. وأكدت بروكسل على قدرتها على التراجع عن تلك الخطوات، مع مراقبتها للوضع السوري عن قرب، ويشمل ذلك مراقبة مدى التطور الحاصل في ملف المحاسبة وذلك فيما يخص أحداث العنف الأخيرة. ولكن يجب التركيز اليوم على تطبيق هذه القرار، بالإضافة إلى ضمان اتخاذ الدول التي ترفع العقوبات لخطوات مناسبة مكملة لتلك العملية وذلك من أجل التشجيع على الاستثمار في الاقتصاد السوري بما أنه بات بحاجة ماسة لذلك.
ما الذي بوسع الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فعله ؟
بوسع الاتحاد الأوروبي بل ينبغي على الدول الأعضاء فيه أن تتحول إلى شريكة لسوريا خلال مرحلة التعافي والانتعاش، إذ على الرغم من أن دمشق لم تحقق من التقدم سوى النزر القليل مما كان مأمولاً منها وذلك بالنسبة لتعزيز عملية الانتقال السياسية الجامعة لكل السوريين، ومن المؤكد أن تلك مهمة صعبة بالنسبة لبلد خرج لتوه من حرب مدمرة امتدت لأكثر من عقد، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل إلحاحه وأن يستمر في دفع هذا البلد نحو هذا الاتجاه، فلقد أبدى قادة سوريا الجدد استجابتهم لهذا الضغط في السابق، سواء خلال فترة حكمهم لإدلب خلال الحرب، أو منذ أن تولوا زمام أمور البلد في دمشق. ومن ضمن تلك الجهود، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل دعم منظمات المجتمع المدني السورية وإسماع أصوات المعارضة بصورة أكبر بعد أن تحدثت عن توجهات السلطات في مجال الإقصاء، وطالبتها بتحسين أدائها. كما ينبغي على الاتحاد الأوروبي التشديد على أهمية مشاركة المرأة في القيادة، ولذلك يجب عليه تشجيع الحكومة المؤقتة على مواصلة تعاونها مع الأمم المتحدة، وخاصة فيما يتصل بصياغة دستور جديد.
ثانياً، يجب على الاتحاد الأوروبي الاستثمار في تعزيز قطاع الأمن وصفوف قواته، ويمكن له تشجيع دمشق على إعادة جهاز الأمن الذي اعتمد أيام النظام البائد بعد إجراء فحص أمني لكوادره كافة، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يحقق تقدماً في مجال المخططات الساعية لتوسيع نطاق برامج المساعدات الإنمائية، وخاصة فيما يتصل بدعم التعافي الاقتصادي بسوريا، وذلك عبر دعم مجال خلق فرص عمل مثلاً، أو في مجال الرعاية الصحية أو التعليم، ويجب على الاتحاد الأوروبي أن يبحث في فرصة دعم قدرة الدولة على دفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وذلك بهدف الاحتفاظ بالكوادر الحالية إلى جانب توظيف كوادر جديدة، وذلك عبر التنسيق بشكل وثيق مع العناصر الفاعلة الدولية الأخرى. وينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يخلق حالة توازن دقيقة بين ميله لفرض شروط على الدعم تقوم على تحقيق تقدم في الأمور السياسية والأمنية وبين الحقيقة القائلة بإن إمكانيات الدولة بحد ذاتها تعتبر شرطاً ضرورياً لتحقيق تلك الأهداف. وبالتوازي مع كل هذا، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل البحث في نوع المساعدة التقنية التي بوسعه تقديمها من أجل إعادة بناء إمكانيات الدولة، مثل تلك التي تقدم في مجال الأمن أو المصارف. ويجب على الاتحاد الأوروبي التأكيد على أهمية التزام الدولة بما تعهدت به وذلك في مجال فتح تحقيق بأحداث آذار وضمان محاسبة مرتكبي تلك الجرائم.
ثالثاً، وفي شمال شرقي سوريا، يجب على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه مواصلة دعم اندماج قسد ضمن الدولة وتشجيع الطرفين على اتخاذ الخطوات الكفيلة بخفض تصعيد النزاع بين قسد والجيش الوطني السوري، ويشمل ذلك الضغط على أنقرة حتى توجه رسالة للجماعات التي تدعمها في المنطقة بخصوص ذلك. وفي تلك الأثناء، يعتبر الخطر المستمر المتمثل بعودة تنظيم الدولة من الأمور الأساسية التي تدفع قوات التحالف للبقاء في هذا البلد إلى أن ينجز الاتفاق بشكل كامل بين الطرفين، وذلك لمنع تلك الجماعة من التحول إلى عنصر يعمل على زعزعة الاستقرار في سوريا. ولتخفيف العبء عن قسد، وخاصة فيما يتصل بإدارة مقرات الاحتجاز، يتعين على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه تسريع عملية إجلاء مواطنيهم الذين بايعوا تنظيم الدولة، إلى جانب تسريع عملية تحديد جنسية الأطفال الذين لا يحملون أية وثائق.
رابعاً، فيما يتصل بممارسات إسرائيل المثيرة للقلق، يجب على الدبلوماسيين الأوروبيين التواصل مع إسرائيل وذلك عبر توجيه رسالة لها بالتنسيق بينهم، مفادها بأن ما تمارسه من أعمال يقوض استقرار سوريا، وبالتالي فإنه يضر بمصلحتها العليا. ويجب على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه الاستعانة بقنواتهم لتجنب حدوث تصعيد كبير بين إسرائيل وتركيا على الأراضي السورية.
خامساً، يجب على بروكسل أن تطبق وبسرعة القرار الذي أصدرته في العشرين من أيار الجاري والقاضي برفع كامل العقوبات الاقتصادية عن سوريا، ويجب على بروكسل أيضاً تقديم الدعم المخصص لإعادة الإعمار وتشجيع المستثمرين الأوروبيين في القطاع الخاص على العودة إلى سوريا، إلى جانب مساعدتهم في التغلب على العقبات الموجودة في قطاعات مثل المال والطاقة، وتوفير الحوافز لهم قدر الإمكان، ثم إن الدعم الموجه للاستثمارات المبكرة في قطاع الطاقة قد يعتبر نقطة بداية عملية في هذا المضمار، لأن الشركات الأوروبية التي سبق لها العمل على البنية التحتية للطاقة في سوريا مستعدة لإحياء شبكة الكهرباء في ذلك البلد. هذا وينبغي للاتحاد الأوروبي التعاون مع الدول الأعضاء والمؤسسات المالية للحد من حالة الإفراط في عملية الانصياع، والتي من الممكن أن تستمر حتى بعد رفع العقوبات، ويشمل ذلك تقديم توجيهات تنظيمية تخص تلك المسائل.
في النهاية، فإن مسألة إعادة إعمار سوريا بعد عقود من الحكم الديكتاتوري والصراع المريع أصبحت بيد السلطات الجديدة في دمشق، وكذلك بيد المجتمع المدني في سوريا والشعب السوري، ولكن بوسع الاتحاد الأوروبي بل عليه وعلى غيره من القوى الخارجية الأخرى أن يمدوا يد العون لهم بما أنه بأمس الحاجة لذلك، بل إنهم يستحقون ذلك فعلاً، وذلك لأن عدم مد يد العون للسلطات في دمشق وللشعب السوري وللمجتمع المدني في سوريا يعتبر إجهاضاً لهذه التجربة الواعدة في مجال إعادة بناء مجتمع دمرته الحرب.
المصدر: The International Crisis Group
تلفزيون سوريا