الأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعالتدخل الاسرائيلي السافر في سورياالعدالة الانتقاليةالعقوبات الأميركية على سورياتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةعن أشتباكات صحنايا وجرمانالقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 أيار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

—————————-

تركيا وسوريا.. تحالف أمني يعيد رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط/ أيهم الشيخ

30 مايو 2025

كشفت صحيفة “Türkiye” المقرّبة من الحكومة التركية، نقلًا عن مصادر أمنية، أن أنقرة ستقدّم دعمًا مباشرًا للحكومة السورية الجديدة في مجالات تأسيس الأجهزة الأمنية والعسكرية، في إطار مسعى تركي وصفته بأنه يهدف إلى تعزيز الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب.

وبحسب ما ورد في التقرير، فإن القوات التركية ستقوم بإنشاء قواعد جوية وبرية وبحرية داخل الأراضي السورية، في سياق عمليات مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بالتنسيق مع السلطات السورية.

وأشارت المصادر إلى أن “الآلية الخماسية” التي تضم سوريا بالإضافة إلى تركيا ودول الجوار “تعقد اجتماعات دورية لدعم الاستقرار في سوريا”، مؤكدةً أن “تركيا ستواصل تقديم كل أشكال الدعم الممكنة لتحقيق الأمن والاستقرار”.

وفي السياق ذاته، ربطت المصادر بين التحركات التركية واللقاء المرتقب بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأميركي دونالد ترامب، واصفةً إياه بأنه “لقاء مهم وحاسم، وسيُمهّد لحل العديد من القضايا المتعلقة بسوريا”.

يقول الأستاذ الجامعي في جامعة كارتكن التركية والباحث في الشأن التركي، د. قتيبة فرحات، إن الدافع الرئيسي لدعم أنقرة للدولة السورية الجديدة ينبع من مصلحة مشتركة تتعلق بحل قضية شرق الفرات، والتصدي لهواجس أنقرة بشأن إقامة ممر كردي مستقل على حدودها الجنوبية. وأكد أن “التحالف بين الطرفين مبني أساسًا على هذه المصلحة المتبادلة”.

وأضاف فرحات أن التحرك التركي تجاه دمشق “مفروض من واقع المصلحة الوطنية التي تقتضي بسط الدولة السورية سيطرتها على كامل جغرافيتها”، مشيرًا إلى أن هذا التقارب قد يتطور لاحقًا إلى تحالف استراتيجي يشمل مجالات الاقتصاد والدعم السياسي.

وفي ما يخص الوجود العسكري التركي في سوريا، أوضح فرحات أن “القواعد العسكرية التركية تهدف أولًا إلى ضمان أمن تركيا، إضافة إلى تمكين أنقرة من التحرك السريع في حال تطورت الأوضاع ميدانيًا، فضلًا عن تعميق التعاون العسكري مع دمشق لإعادة بناء القوة العسكرية التي تعرضت للهدر خلال السنوات الماضية”.

وشدد الباحث على أن “أي تحرك تركي في الساحة السورية لا يمكن أن يتم دون موافقة – وإن كانت غير علنية – من الولايات المتحدة وروسيا”، مضيفًا أن ما يهم هاتين القوتين هو ضمان أمن إسرائيل ومنع تصدير الثورة خارج الحدود السورية.

وأشار فرحات إلى أن لتركيا دورًا محوريًا في إعادة تشكيل البنية الأمنية في سوريا، بما يراعي مختلف مكونات المجتمع السوري، “نظرًا لما تملكه أنقرة من خبرات في هذا المجال، ولما تتمتع به من ثقل شعبي في بعض الأوساط السورية”.

أما في ما يتعلق بالجماعات المسلحة غير المنضوية تحت سلطة الدولة، فأكد أن التعامل معها سيكون بالحوار في المرحلة الأولى، من خلال البحث عن أرضية مشتركة. لكنه لم يستبعد الخيار العسكري في حال تعثر الحل السياسي، مضيفًا أن “أنقرة والدولة السورية لن تقبلا ببقاء أي سلاح خارج إطار الدولة”.

في ظل التحولات الجيوسياسية التي تشهدها الساحة السورية، ومع تراجع وتيرة النزاع العسكري وبروز توجهات لإعادة دمج سوريا في محيطها الإقليمي والدولي، تتجه الأنظار إلى الدور التركي، باعتباره فاعلًا محوريًا في الملف السوري منذ أكثر من عقد.

وفي هذا السياق، يتحدث الصحفي التركي إسماعيل جوكتان، لـ “الترا سوريا”، عن رؤية أنقرة للتطورات الجارية، والعلاقات المستقبلية مع دمشق، والدور التركي المحتمل في إعادة بناء سوريا على المستويين الأمني والسياسي.

يقول جوكتان إن تركيا تحملت عبئًا كبيرًا نتيجة تدفق اللاجئين السوريين، إضافة إلى التحديات الأمنية الناجمة عن حالة عدم الاستقرار في سوريا، منذ انطلاق الثورة ضد النظام السابق. مشيرًا إلى أن الموقف التركي من التطورات في سوريا ينبع من سعي أنقرة لحماية الاستقرار الإقليمي ومنع الانزلاق مجددًا نحو الفوضى، إلى جانب رغبتها في بناء تحالف استراتيجي مع سوريا الجديدة.

وأضاف جوكتان أن العلاقة التقليدية بين النظام السوري بقيادة حافظ الأسد، ومن بعده بشار الأسد، كانت متوترة مع أنقرة، نتيجة تحالف دمشق مع المحور الروسي ومن ثم الإيراني. لكن مع انهيار النظام السابق، ظهرت بوادر لتأسيس علاقة جديدة بين بلدين يشتركان في عمق حضاري وجغرافي، دون أن تسعى تركيا إلى فرض تبعية، أو أن تظهر سوريا كدولة موالية لأنقرة، وهو ما تحرص عليه الحكومة السورية الحالية بقيادة أحمد الشرع، التي تسعى بدورها إلى الحفاظ على سيادتها واستقلال قرارها.

وأكد جوكتان أن كلًا من الحكومتين التركية والسورية تسعيان إلى بناء علاقات قوية ومستدامة، مع تفادي العودة إلى حالة العداء الماضية. وأوضح أن دمشق، في ظل إدارتها الجديدة، تحاول رسم توازن بين علاقاتها مع تركيا والدول العربية، مع إعطاء أهمية خاصة للبُعد الأمني في هذه المرحلة.

وشدد الصحفي التركي على أن أنقرة ستعطي الأولوية لمصالحها الأمنية في المرحلة الجديدة التي تدخلها سوريا بعد سقوط النظام السابق. فتركيا تدرك أهمية سوريا كمفتاح للمنطقة، لكنها تعلم أن حضورها الفعال هناك لن يتحقق إلا بوجود حكومة قوية ومستقرة في دمشق.

وأضاف أن سوريا ستحتاج إلى الخبرات العسكرية التركية في عملية إعادة تشكيل جيشها، خاصة أن الجيش السوري كان مدربًا وفق العقيدة السوفييتية، بينما تسعى دمشق اليوم إلى بناء جيش حديث ومتناسق مع المعايير الغربية. وهنا، يرى جوكتان أن الوجود العسكري التركي يمكن أن يساهم في تأسيس جيش وطني عصري يرقى إلى المستوى العالمي.

وتطرق جوكتان إلى الدور التركي في دعم جهود تطبيع العلاقات السورية مع المجتمع الدولي، مؤكدًا أن أنقرة لعبت دورًا رياديًا إلى جانب المملكة العربية السعودية في دفع مسار رفع العقوبات وإعادة دمج سوريا إقليميًا ودوليًا.

وأشار إلى أن تركيا، باعتبارها عضوًا مؤثرًا في حلف الناتو، وتملك علاقات قوية مع الولايات المتحدة وروسيا والصين، تستطيع أن تشكل جسرًا يربط سوريا بالعالم الخارجي، وأن تسهم في تحسين صورتها الدولية خلال المرحلة القادمة.

وفيما يخص الملف الكردي، أوضح جوكتان أن وزير الدفاع السوري منح الجماعات المسلحة مهلة عشرة أيام للالتحاق بصفوف الجيش الجديد، في وقتٍ تشهد فيه العلاقة بين “قسد” وحكومة دمشق تفاهمات متقدمة.

وأضاف أن واشنطن لم تعد تدعم استمرار “قسد” بصيغتها الحالية، في حين عبّرت تركيا بوضوح عن رفضها لوجود عناصر حزب العمال الكردستاني في سوريا. وعلى الرغم من أن الحزب قد أعلن حل نفسه، فإن أنقرة ترى ضرورة انسحاب جميع عناصره من الأراضي السورية.

وأشار إلى أن تركيا ستدعم دمشق عسكريًا في حال نشوب مواجهة جديدة بين “قسد” والحكومة السورية، وذلك انسجامًا مع رؤيتها الأمنية الإقليمية.

تُظهر التحركات التركية الأخيرة تجاه سوريا تحولًا استراتيجيًا في السياسة الإقليمية، يعكس إدراك أنقرة لأهمية الاستقرار السوري كركيزة لأمنها القومي ومصالحها الإقليمية. ومن خلال دعمها لإعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية في دمشق، تسعى تركيا إلى خلق توازن جديد يُبعد التهديدات الحدودية ويعزز التعاون مع دمشق على أساس المصالح المشتركة. ومع استمرار التوترات الإقليمية وتداخل المصالح الدولية، يبقى هذا التحالف في دائرة المراقبة الدقيقة، حيث يُحتمل أن يشكل نقطة انطلاق جديدة نحو إعادة دمج سوريا في محيطها الإقليمي والدولي، لكن دون إغفال التحديات التي قد تعترض طريق هذه العلاقة المتجددة.

الترا سوريا

———————————–

شرقُ أوسطٍ جديد بنكهة السلام والشراكة/ حسان الأسود

2025.05.29

يشهد العالم بأسره هذه الأيام تطورات كبيرة جدًا، وفي جهاته المختلفة، لكنّ مشهد الشرق الأوسط هو الأكثر وضوحًا حتى اللحظة.

ما حصل في الرياض واستُكمل في الدوحة وأبو ظبي ليس مجرّد زيارة عادية لرئيس أميركي عادي، إنّه انعطافة استراتيجية كبيرة لمواجهة العالم الجديد الذي بدأت ملامحه تتشكّل منذ فترة ليست بالقصيرة. يدرك الأميركيون، وربّما غيرهم كثيرون أيضًا، أنّ ثمّة عملاقاً اقتصادياً وديمغرافياً هائلاً هو الصين، بدأ يُسرّع خطواته لتصدُّرِ المشهد العالمي، وربّما يأتي يوم ليس ببعيد يحلّ فيه محلَّ الريادة ويزيح الأميركيين المتوّجين منذ زمنٍ قادةً لا مجال لمنافستهم.

يتطلّب هذا نوعًا من التحوّط والإقدام لاستكشاف الفرص المتاحة لهذه المواجهة التي بدأت فعلًا. لم يعد بالإمكان حصر أسباب التقدّم في الغرب وحده، فقد أثبتت حرب الأيام الأربعة بين الهند وباكستان أنّ الصين استطاعت تطوير أسلحة هزمت المنظومة الغربية، أو على الأقل نافستها بشكل واضحٍ لا لبس فيه. إسقاط طائرات رافال الفرنسية ليس مسألة عسكرية فقط، بل هي مؤشرٌ على ما هو أعمق من ذلك بكثير. من هنا هرع الرئيس ترامب لوقف الحرب من خلال إقناع قادة باكستان والهند بأنّه ما من فائز فيها، وأنّ الاستثمار في خدمة المصالح أولى من المضيّ في هدمها.

يرى محللون كثُر أنّ الرئيس ترامب قد فشل في تحقيق شعاره الكبير “أميركا قويّة من جديد” عن طريق الضغط على الدول من خلال فرض التعرفات الجمركية الاعتباطية بما يشبه البلطجة، فقد انحنت بعضها للعاصفة وماطلت حتى تمر، في حين صعّدت الصين وردّت بتعرفات مماثلة. وهنا كان التراجع الأميركي خطوة إلى الوراء فعلًا، لكنّه في الوقت ذاته كان مقدّمة للتفكير في آليات جديدة تجلّت في زيارة دول الخليج العربي. عنوان التجربة هذه هو ذاته، أميركا أولًا، ولكن مع غيرها من الدول وليس على حسابها. هكذا يمكن قراءة التهدئة مع الحوثيين الذين هم ذراعٌ إيرانية في النهاية رغم استقلالهم الكبير نسبيًا بعكس بقية أفراد المحور في العراق ولبنان. وهكذا هو واقع التركيز على التفاوض مع إيران بعد شدّ وتر القوس إلى منتهاه من دون إطلاق السهم.

ومن هنا يمكن أيضًا فهم هذا التحجيم لنتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، فالمصالح الإسرائيلية التي باتت خلال الفترة الأخيرة مزروعة تحت الجلد الأميركي تؤرّق ساكن البيت الأبيض، ولن يسمح لها أن تُعيق مشروعه الكبير. صحيحٌ أنّ ترامب لم يخض في رحلته هذه بحر القضيّة الفلسطينية، لكنّ الإشارات التي أعطاها واضحةٌ بابتعاده عن دعم هذا الطفل المزعج مهما فعل من دون حساب. تركيز ترامب على أنّه رفع العقوبات عن سوريا بناءً على طلب من الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد السعودي بالتزامن مع طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هو مؤشر واضح على الحدود التي يجب أن تقف إسرائيل عندها.

نحن من يرسم الحدود لا أنتم، ونحن من يضع الشروط ويفرض المسارات ويوزّع الأدوار، وعليكم أن تعرفوا حجمكم. كانت لافتة تلك العبارة الوصائية من ترامب خلال أحد التصريحات عندما قال: “ستصب جهودنا في النهاية بمصلحة إسرائيل، حتى لو لم يدرك قادتها هذا الأمر”.

ومن هنا أيضًا يمكن قراءة تحرّك أميركا منفردة للإفراج عن الأسير عيدان ألكسندر مزدوج الجنسية (أميركي إسرائيلي)، الأمر الذي يعطي رسائل قويّة لإسرائيل وغيرها من الدول بمن يملك القرار النهائي في القضايا الشائكة والمعقّدة.

قد يكون نتيجة ذلك تحريك موضوع حل الدولتين ضمن ترتيباتٍ جديدة بضغطٍ عربي خليجي، فلا بدّ أنّ ترامب قد فهم وأدرك أنّ بؤرة الصراع المحتدم وشرارة الحرب الدائمة ليست عند العرب والفلسطينيين، بل عند إسرائيل التي قامت على الحرب ويرى متطرفوها أنها ستسقط بتوقفها.

سيسير نهج ترامب إذن عبر مسارات متعددة، بعضها خشنٌ لا ينفع مع الجميع، وبعضها ناعمٌ يمكن أن يؤتي أُكُلَهُ عبر تعاون وثيق مع شركاء إقليميين، يسعى بعضهم لأن يكون لاعبًا دوليًا كما هو حال المملكة العربية السعودية. يمكن القول باختصارٍ شديدٍ وربّما مجحفٍ نوعًا ما، إنّ الأيديولوجيا قد ماتت، أو هي تحتضر الآن.

لم تعد تُطرح شعارات حقوق الإنسان ولا الديمقراطية حتى في بازارات الضغط السياسي، وتلك التي كانت تستخدمها الإدارات الأميركية السابقة باتت الآن في مزبلة ترامب. التوجّه الآن واضح نحو بناء شراكات قائمة على المصالح لا على الأيديولوجيا. من هنا كانت هزيمة محور الشر الحقيقي المتمثل بإيران وأذرعها مقدّمة لعالم جديد تعود فيه الدول هي الكيانات الوحيدة الموجودة والفاعلة. سيتمّ القضاء على جميع البنى ما تحت الدولتية التي تشكّلت على هامش انفراط عقد الدول في المنطقة. سيتم كنس الميليشيات والجماعات المسلّحة من الخريطة، ومن لم يفهم هذا بالحسنى من الميليشيات العراقية، سيفهمه بالقوّة العارية وسيكون مصيره مصير حزب الله اللبناني. من هنا يمكن قراءة أحد جوانب القرار التاريخي لحزب العمّال الكردستاني حلّ نفسه، فرغم الاستحقاقات الداخلية في تركيا التي لعبت دورًا رئيسًا في هذا الأمر، فإنّ المشهد الدولي العام حاضرٌ في الخلفية. لن يُسمح لأية مجموعات مهما كانت صفتها وأيًا كان تاريخها، أن تُشكّل تهديدًا لطرق التجارة، وخطوط الطاقة، وسلاسل التصنيع، والتوريد.

لا شكّ أنّ ترامب منزعجٌ جدًا من عدم قدرته على فرض وقفٍ سريع للحرب الروسية الأوكرانية، وحُنقه كبيرٌ أيضًا على الأوروبيين الذين وقفوا مع أوكرانيا لدعمها بعد أن ضغط هو على رئيسها زيلنسكي لتقديم تنازلات كبيرة واستراتيجية، رأت فيها أوروبا خطرًا حقيقًيا ونصرًا كبيرًا لروسيا وبوتن شخصيًا. لذلك، ومن هنا يمكن قراءة مسألة رفع العقوبات عن سوريا وأخذها بضمانة سعودية قطرية باتجاه الحلف الأميركي لإبعادها عن روسيا والصين من جهة، ولتعزيز استقرار المنطقة من جهة أخرى، وهذه إشارة ثانية لإسرائيل بضرورة احترام الشركاء الإقليميين القدامى، السعودية وتركيا، والجدد أيضًا. يعتقد كاتب هذه السطور أيضًا أنّ ترامب يرى في الملف النووي الإيراني ليس فقط تهديًدا للأمن القومي الأميركي، بل هو أيضًا تحدٍّ يزعزع الأمن الإقليمي الذي لا بدّ أن يستقر حتى تمضي سياسة مواجهة الصين أميركيًّا. من هنا كان التفاوض مع إيران أولى من استعمال العنف، لهذا لم يترك لإسرائيل أن تؤجج الصراع وأن تقصف المنشآت النووية الإيرانية.

وقد فهم الإيرانيون الأمر فأرسلوا يخاطبون شهيّة ترامب المفتوحة على الاستثمارات الهائلة في بلادهم. في النهاية سيجري الأمر كذلك، لأنّ دول الإقليم لا تريد حربًا ضدّ إيران حتى وإن كانت هي خارجها، فمعظمُ النار من مُستصغر الشرر. هكذا يتخلّقُ الآن عالمٌ جديد قائمٌ على السلام والشراكة عوضًا عن الحروب والاستئثار، والشرق الأوسط في قلب هذا العالم وليس على طرفه، وإن كان الرابح الأكبر هو العم سام، فإنّه لن يكون هناك خاسرون، بل شركاء في مواجهة الغول الصيني القادم من أقصى آسيا، ونحن السوريين لن نترك القطار يفوتنا، بل سنكون في عرباته المتقدّمة رفقة أشقائنا العرب، وبرعايتهم، ورجاؤنا أن يشمل الخير أهلنا في غزّة الذين دفعوا الفاتورة الكبرى، وما زالوا.

———————————-

تطورات متسارعة بشأن تطبيع الحالة السورية/ بكر صدقي

28 – مايو – 2025

كانت البداية مع استقبال الرئيس الفرنسي ماكرون لأحمد الشرع في قصر الإليزيه كأول لقاء بهذا المستوى مع زعيم دولة غربية لديها عضوية دائمة في مجلس الأمن. ثم «فاجأنا» ترامب بلقائه في الرياض بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ومشاركة عن بعد من الرئيس التركي أردوغان. ولم تكن تصريحات السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد بشأن «تأهيل الجولاني» منذ سنوات وما تلا ذلك من الكشف عن دور بريطانيا الصامت بواسطة جوناثان بأول محض مصادفة.

إن إخراج اجتماع الرياض بالشكل الذي تم فيه هو من مستلزمات أسلوب الصدمة الذي يحبه ترامب، ولكن لا يخفى على أحد أنه دشن مرحلة جديدة في مسار التحول السوري الكبير باحتضان أمريكي فرنسي بريطاني، ورعاية سعودية ـ تركية مباشرة. تم تتويج هذا المسار بسرعة من خلال تعليق العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا لستة أشهر قابلة للتمديد، ليظهر أن هذا الاحتضان الغربي ـ الإقليمي ـ العربي للسلطة الجديدة ليس شيكاً على بياض، بل هو فرصة لها بإطار زمني واضح وشروط تكرر ذكرها مراراً منذ سقوط نظام الأسد على مسامع كل من الشرع والشيباني في جميع المناسبات الدبلوماسية إضافة إلى وسائل الإعلام، يمكن تلخيصها بنقطتين أساسيتين هما التحوّل إلى دولة والتموضع في الاصطفاف الغربي بعيداً عن محور موسكو ـ بكين ـ طهران.

أما ما عدا ذلك فيترك أمره للسوريين أنفسهم ليختاروا النموذج الذي يناسبهم لمستقبل كيانهم وعيشهم. حتى العلاقة مع إسرائيل لن تفرض على سوريا كما قد يفهم من مطالبة ترامب بانضمامها إلى اتفاقات أبراهام. أما في الشؤون الداخلية فلن يضغط أحد على سلطة دمشق لتمضي نحو نموذج ديمقراطي في الحكم أو علمانية الدولة أو النظام الفيدرالي أو غيرها من مطالب قطاعات من السوريين. غير أن التحوّل من جماعة مسلحة إلى دولة يفترض بداهةً أن تحتضن هذه كل السوريين بجماعاتهم الأهلية وثقافاتهم المتنوعة وطبقاتهم الاجتماعية وتعدديتهم السياسية والإيديولوجية بما يُشعر السوريين أن الدولة هي دولتهم مهما تغيرت السلطة الحاكمة، وأن هذا التغيير ممكن بإرادة أغلبية السوريين، بعد انتهاء حقبة الأبد الأسدية المعادية للتغيير، وأن يضمن النظام السياسي المفترض إقامته وسائل سلمية للتغيير من غير حاجة إلى انفجارات اجتماعية جديدة للتخلص من سلطات قد تميل إلى تأبيد نفسها مجدداً.

الدول الغربية، ومثلها دول الجوار العربي والإقليمي، تريد من السلطة في سوريا تحقيق الاستقرار ليتوقف هذا البلد عن الاحتراب الداخلي وتصدير اللاجئين والإرهاب والكبتاغون ويتحول إلى وجهة مرغوبة للاستثمار. لا مشكلة لديهم مع سلطة دكتاتورية تحقق هذه الأهداف. فلم تكن مشكلتهم مع النظام المخلوع أنه دمر البشر والحجر طوال ما يقارب عقداً ونصف من السنوات، بل في أنه فشل في استثمار جميع الفرص التي أتيحت له لاستعادة الاستقرار الذي كان متوفراً قبل العام 2011، بل عمل بكل ما يملك من إمكانات ومع حلفائه الروس والإيرانيين وحزب الله على تصدير اللاجئين والإرهاب والمخدرات خارج الحدود.

منذ الأيام الأولى بعد سقوط النظام واستقرار الشرع في قصر الشعب قال في إحدى تصريحاته لوسائل الإعلام الأجنبية إنه ينبغي الانتقال من عقلية الفصائل إلى عقلية الدولة. وتشير مسيرته الطويلة من التحولات إلى طموح سلطوي لديه لا يمكن تحقيقه في قيادة الدولة السورية بغير هذا الانتقال. لكن الأشهر الستة التي تلت ذلك أظهرت محدودية قدرته على تحقيق هذا الهدف، وأساساً بسبب محدودية سيطرته على الفصائل التي قامت تحت قيادته بالاستيلاء على السلطة في مناطق سيطرة النظام المخلوع، إضافة إلى تردده في المضي قدماً في الاتفاق الذي وقعه مع قوات سوريا الديمقراطية، وفشله في تكريس تفاهم مستقر مع محافظة السويداء، ومحاسبة مرتكبي المجازر في منطقة الساحل وبعض مناطق الجماعة الدرزية. وما من داع لتكرار أن الخطوات التأسيسية التي قام بها لم ترتق إلى مستوى تطلعات السوريين في تأسيس دولة تستحق هذا الاسم. فكل هذا سبق وتم تسليط الضوء عليه أولاً بأول.

الفرصة الجديدة التي يتيحها تعليق العقوبات ستمنح السلطة وسائل لتدارك ما فاتها ووقتاً محدوداً للقيام بذلك. تبقى العقبة الرئيسية على هذا الطريق هي التخلص التام من الحالة الفصائلية ونشاط تلك الفصائل الهدام، سواء بالإقناع أو بقوة الدولة المدعومة بتوافق دولي حاضن. حتى إسرائيل التي تختلف رؤيتها لسوريا التي تريدها (دولة ضعيفة مفككة) عما تريده الدول الحاضنة، من الواضح أنها فرملت تدخلاتها الفظة في الآونة الأخيرة، بطلب أمريكي مباشر على الأرجح. فقد لاحظنا بالتوازي مع انفتاح ترامب على السلطة في دمشق (ومغازلته لأردوغان) فتوراً منه تجاه نتنياهو، إضافة إلى ارتفاع منسوب الاستياء الغربي من مواصلة إسرائيل حربها الإبادية على غزة والضفة الغربية.

لا نعرف هل ستتمكن المجموعة الحاكمة من السيطرة على فوضى الفصائل ونزع سلاحها وحلها كما تقرر أكثر من مرة. فمن شأن نجاح هذه الخطوة الأولى الأساسية أن يفتح الطريق أمام الخطوات الأخرى التي لا بد منها لتأسيس الدولة الجديدة المأمولة.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————————–

سوريا الجديدة: خيارات صعبة!

تتلاحق الأحداث المهمة والخطيرة والقرارات في سوريا وحولها بشكل يومي. شملت الأنباء الأخيرة إعلان مجلس الاتحاد الأوروبي قرارا ببدء رفع العقوبات عن سوريا، وأنباء عن إجراء دمشق وتل أبيب محادثات مباشرة، وتصريحا لمبعوث أمريكا الخاص الى سوريا توماس باراك عن «خطأ» اتفاقية سايكس ـ بيكو التي قسمت سوريا «لتحقيق مكاسب إمبريالية»، وذلك بعد لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره السوري أحمد الشرع في الرياض، وتعليق السلطات الأمريكية عقوبات عن سوريا والاستعداد لرفعها من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

ما يلفت النظر في القرار الأوروبي تضمنه إدانة لتجاوزات وقعت خلال «عملية عسكرية غير منضبطة»، ويحمل المسؤولية لقيادات ميدانية «أعاقت حماية المدنيين» ويفرض عقوبات على فصائل محددة وخصت بالاسم عقوبات على اثنين من قياداتها العسكرية.

تربط هذه العقوبات بانتهاكات حصلت في الساحل السوري على أيدي فصائل محسوبة على وزارة الدفاع السورية الجديدة، وهو ما يمكن اعتباره امتحانا من قبل الاتحاد الأوروبي للحكومة الانتقالية التي أعلنت بعد تلك الأحداث إنشاء لجنة تحقيق لم تظهر عنها نتائج بعد، كما يؤذن بربط رفع كامل العقوبات بإجراءات أكثر حسما من قبل دمشق تجاه ما جرى في الساحل السوري وينبه إلى ضرورة إقفال ملف التجاوزات الأمنية والانتهاكات، التي تتواتر أنباء من حين لآخر عن حصولها.

يرفع هذا القرار علامة استفهام على مصداقية قرار توحد الفصائل المسلحة التي أسقطت نظام بشار الأسد، كما يمكن تفسيره كإشارة إلى الحكم الجديد بضرورة حسم ملف تلك الفصائل التي تمت تسميتها كمشاركة في التجاوزات.

من جهة أخرى، ورغم نفي أحمد الدالاتي، مسؤول الأمن الداخلي في محافظة السويداء، مشاركته في مفاوضات مباشرة لسوريا مع إسرائيل، فإن هذا لا ينفي وجود مباحثات بين الطرفين، وهو ما أكده الرئيس أحمد الشرع نفسه خلال لقاء له مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بدعوى أن الاتصالات تجري لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على البلاد، وضبط التوترات الحاصلة في الجنوب السوري، وما أعلن لاحقا عن تسليم السلطات السورية إسرائيل أرشيف الجاسوس إيلي كوهين.

أدت التوغلات الإسرائيلية في سوريا إلى سيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي على منطقة الفصل التي أقرت في اتفاق فصل القوات للعام 1974 بعد أن اعتبرت تل أبيب أن انسحاب الفرقتين 61 و90 التابعتين للنظام السوري السابق من مواقعهما مما خلق فراغا أمنيا وبررت إسرائيل ذلك بالخشية من استغلال «التنظيمات المتطرفة» هذا الفراغ لتنفيذ هجمات عبر الحدود. غير أن إسرائيل تابعت توسعها فسيطرت على 640 كيلومترا مربعا من الأراضي السورية خارج خط الفصل، كما هدد بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة إسرائيل، بتوسيع هذه المنطقة لتصل الى الطريق السريع بين دمشق والسويداء.

تبرير إسرائيل الآخر لهذا التوسع كان «الالتزام بحماية المجتمع الدرزي في سوريا»، مطلقة «برنامج مساعدات» لنحو 550 ألف مواطن سوري في جبل الشيخ ومنطقة السويداء، وبروز دعوات إسرائيلية تشجع الدروز على الانفصال، بالتزامن مع تداول خطط وتصريحات لقادة اليمين المتطرف الإسرائيلي تقترح إنشاء ممر يربط السويداء بمنطقة الحكم الذاتي الكردي في شمال شرق سوريا، وهي خطط تعتبرها دمشق خطرا وجوديا على كيان الدولة الجديدة.

يضع قرار الاتحاد الأوروبي الإدارة السورية أمام خيار صعب يفرض عليها تحدي التعامل مع جزء من الفصائل المنضوية في جيشها وهو أمر يمكن أن يساهم في دعم عملية خرط حقيقية لهذه الفصائل وبنائها على أسس عسكرية حديثة، كما يدفعها إلى التعامل مع القائدين العسكريين اللذين شملتهما العقوبات، ولكنه يمكن أن يؤدي إلى خلافات وتصدعات.

يخلق التحدي الإسرائيلي الخطير لسيادة سوريا، ولتدخلها فيما تسميه «المجتمع الدرزي» في سوريا، وكذلك خطط توسيع ذلك لضم القوات الكردية، خيارات صعبة أمام سلطات سوريا الجديدة الطامحة لتحقيق استقرار وازدهار لشعبها، وانفتاح على المحيط العربي والعالمي.

تضمّ هذه الخيارات إجراء تسويات سياسية وعسكرية مع القوى الكردية والدرزية تستجيب لمطالب اللامركزية مقابل الانخراط في الإطار العام للدولة، ووقف التجاوزات في مناطق الساحل، ولكن من ضمنها أيضا تأكيد السلطات السورية على رفض خطط إسرائيل عبر تعزيز التعاون مع الدول العربية و(تركيا) التي وفّرت إطارا سياسيا لخروج البلاد من العقوبات الأمريكية والأوروبية كما لإعادتها إلى محيطها العربيّ ودورها المهم في الإقليم.

القدس العربي

———————————

الأسباب الحقيقة وراء زيارة الشرع المفاجئة لإسطنبول/  صالحة علام

29/5/2025

أثارت الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس المرحلة الانتقالية بسوريا أحمد الشرع لإسطنبول، ولقاؤه الرئيس أردوغان جملة من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول الأسباب التي دفعت الشرع إلى هذه الزيارة غير المدرجة على جدول أعمال الرئيسين، ولم يسبق الإعلان عنها بروتوكوليا كما جرت عليه العادة.

    الشروط الأمريكية لتنفيذ قرار رفع العقوبات عن سوريا

لتحديد الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذه الزيارة، ولمعرفة الملفات التي تم بحثها بين الجانبين، ولوضع تصور عن ما يمكن أن تحمله الأيام المقبلة من تطورات في المنطقة عموما، والداخل السوري على وجه الخصوص، يجب إمعان النظر بدقة في هوية المسؤولين الذين حضروا اللقاء من قادة أمنيين وعسكريين، إضافة إلى كل من وزراء الخارجية والدفاع، ومسؤولي جهازي الاستخبارات بالبلدين، إلى جانب التطورات التي شهدها الملف السوري دوليا، وإقليميا قبلها بأيام قليلة، وربما ساعات معدودة، وكانت دافعا إلى هذا التحرك السريع من جانب الشرع.

من هذه التطورات إعلان كل من الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي على التوالي رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وهو ما يعد تحولا كبيرا في نهج الغرب عموما اتجاه دمشق، لكن تنفيذ هذه الخطوة له شروط محددة تم وضعها أمام القيادة السورية، منها ضمان أمن إسرائيل، ومنع أية تهديدات يمكن أن تتعرض لها سواء من جانب الدولة السورية نفسها، أو من بعض المنتمين للتنظيمات الجهادية داخل سوريا.

مع عدم الاستعانة بأي عنصر من المقاتلين الأجانب الذين سبق لهم التعاون مع هيئة تحرير الشام، أو تعيينهم في مناصب قيادية داخل الإدارة السورية الجديدة، والمطالبة بتدمير جميع مخازن الأسلحة الكيميائية الباقية في سوريا، والتعاون بجدية في مكافحة الإرهاب.

    لقاءات سورية إسرائيلية مباشرة تحت رعاية تركيا

وهي الشروط التي يبدو أن الإدارة السورية قد قررت القبول بها، والبدء في تنفيذها بمساعدة تركيا، حتى يتسنى لها المضي قدما في عملية إعادة إعمار البلاد التي دمرتها الحرب، وإصلاح هيكل الاقتصاد، وتحديث البنية التحتية، لجذب الاستثمارات الأجنبية وإنعاش الأسواق، وتحسين الظروف المعيشية للسوريين.

ففي سابقة هي الأولى من نوعها تناولت وسائل إعلام دولية وإقليمية معلومات عن وجود لقاءات مباشرة بين مسؤولين سوريين وآخرين إسرائيليين تحت رعاية تركية، في باكو عاصمة أذربيجان، وهو ما ألمح إليه جدعون ساعر وزير خارجية دولة الاحتلال، الذي ثمن هذه الخطوة وأثنى عليها، لكونها تهدف إلى التوصل لاتفاق يحقق الاستقرار الأمني والسياسي للطرفين على حد زعمه.

وقد استدل البعض على صحة هذه المعلومات غير المؤكدة حتى الآن بموافقة أحمد الشرع على تحقيق رغبة إسرائيل، وتسليمها متعلقات الجاسوس الإسرائيلي إيلى كوهين، كبادرة حسن نية اتجاهها واتجاه ساكن البيت الأبيض.

كما أعلنت القيادة السورية عدم رغبتها في امتلاك أي أسلحة كيميائية، وتعهدت رسميا في اجتماع للمجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي بتدمير كافة المخزون الذي احتفظ به نظام الأسد سنوات.

    تداعيات تعيين الأجانب بوزارة الدفاع

العقبة الوحيدة الآن التي يحتاج فيها الشرع بشدة لحنكة أنقرة، وتحركها دبلوماسيا لرفع الحرج عنه أمام واشنطن تحديدا، وتنفيذ وعدها برفع العقوبات عن بلاده، تكمن في معضلة المقاتلين الأجانب الذين شاركوا معه في معركة تحرير سوريا من نظام الأسد.

خاصة أنه قام فعلا بتعيين عدد من هؤلاء الأجانب في مناصب قيادية بوزارة الدفاع، أبرزهم قائد الحرس الجمهوري عبد الرحمن الخطيب وهو أردني الجنسية، وقائد فرقة دمشق العسكرية عمر محمد جفتشي المعروف باسم “مختار التركي”، وهو تركي الجنسية، وتراجعه عن هذه التعيينات، وإقصاؤهم من مناصبهم يمكن أن يسبب له مشكلة يصعب حلها أو معالجة تداعياتها في الوقت الراهن، خاصة بين أولئك الذين يدينون بالولاء لهؤلاء القادة.

     تحركات مريبة لقوات سوريا الديمقراطية

إلى جانب هذه التطورات، كان قيام قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بتوسيع نطاق خريطة تحركاتها العسكرية في مناطق دير الزور، دافعا لتوجه الشرع صوب إسطنبول، خاصة بعد أن قامت قسد بإرسال المزيد من العناصر المسلحة، والمعدات العسكرية إلى المناطق الأكثر حساسية قرب حقول النفط، وعلى ضفاف نهر الفرات، إلى جانب التصعيد الأمني، وهو التحرك الذي يخالف الاتفاق الذي سبق توقيعه في مارس/آذار الماضي بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي.

كما كان للمباحثات التي أجراها إبراهيم كالن رئيس جهاز الاستخبارات التركي مع المسؤولين في دمشق دور في قرار القيام بهذه الزيارة، بعد أن تم بحث العديد من الملفات الأمنية ذات الحساسية بالنسبة لتركيا، لارتباطها بتطورات القضية الكردية لديها، وعملية السلام التي تقودها الحكومة مع عناصر حزب العمال الكردستاني، وانعكاسات هذا الأمر على وضع قسد، وآليات تسليم هذه العناصر لسلاحها، ودمجها ضمن وحدات الجيش والقوات الأمنية السورية.

إضافة إلى عودة الحديث مجددا عن مصير مقاتلي داعش وأسرهم المحتجزين في مخيم الهول، الذي يضم وفق تقارير لعدد من منظمات حقوق الإنسان أكثر من 35 ألف شخص، معظمهم من زوجات وأبناء مقاتلي التنظيم الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، إلى جانب منطقة السجون والمعتقلات التي تضم ما يقارب 9 آلاف من المشتبه في كونهم من عناصر داعش، حيث لا يزال وضع هؤلاء وأولئك، والجهة التي ستتولى إدارة هذا الملف في المرحلة اللاحقة غير واضح.

في ظل التصريحات التي تصدر عن قيادات بقسد تؤكد أن الاتفاق مع حكومة دمشق يخص فقط آلية إجلاء المواطنين السوريين إلى المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الكردية، وليس تسليم إدارة المخيم لدمشق، وهو ما يتعارض مع المقترح التركي الذي تم إبلاغه لواشنطن، والخاص بضرورة تسليم المخيم والسجون الملحقة به للحكومة السورية مع إمكانية تقديم أنقرة المساعدة اللازمة عند الاحتياج إليها.

    خطط أمنية تركية سورية للقضاء على تهديدات داعش

ولوضع حل نهائي لهذه المسألة التي تقلق بال دمشق خشية عودة تهديد داعش، وعدم القدرة على مواجهة تهديدات التنظيم كان لا بد من التفاوض المباشر مع أنقرة لوضع آليات محددة للترتيبات الأمنية لكونها المعنية بصورة خاصة بمسألة تمكين دمشق من تولي المسؤولية الأمنية عن حدود الدولة السورية، خاصة في ظل رغبة واشنطن في سحب قواتها من الأراضي السورية.

تشمل هذه الترتيبات تسليم سجون داعش ومعسكرات الاحتجاز للجهات الأمنية المعنية، وتحديد المهام التي ستوكل إلى اللجنة التي تم تشكيلها، وتضم إلى جانب تركيا الولايات المتحدة وسوريا والعراق لبحث مصير مقاتلي داعش في معسكرات الاعتقال التي تديرها قسد منذ سنوات.

مع وضع الخطط الكفيلة بإدماج المكون الكردي السوري في المجتمع، بما يضمن إغلاق الحديث نهائيا عن طبيعة الحكم في سوريا سواء كان مركزيا أو لا مركزيا، والإسراع في عملية نزع سلاح قوات سوريا الديمقراطية، وضمها ضمن وحدات الجيش السوري، لضرب عصفورين بحجر واحد، ضمان وحدة الأراضي السورية، وحماية أمن تركيا القومي، وتبديد مخاوفها.

المصدر : الجزيرة مباشر

 كاتبة وصحفية مصرية مقيمة في تركيا

حاصلة على الماجستير في الاقتصاد.عملت مراسلة للعديد من الصحف والإذاعات والفضائيات العربية من تركيا

الجزيرة

—————————————

الديمقراطية في الحضانة… من يمثّل السورييّن بعد حلّ الأحزاب؟/ يامن المغربي

الجمعة 30 مايو 2025

شهدت سوريا ظهور 134 حزباً سياسياً خلال 100 عام، لعب العديد منها دوراً مهماً ومفصلياً في الحياة السياسية السورية، قبل أن يسقط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، ويُعلن بعده الرئيس المؤقت أحمد الشرع، عن حلّ الأحزاب السياسية في البلاد.

خاضت بعض هذه الأحزاب صراعاً مريراً، نظراً إلى الأحداث السياسية التي مرّت بها سوريا، والظروف الإقليمية كذلك، سواء الانقلابات العسكرية المتتالية بعد إعلان الاستقلال عن فرنسا في عام 1946، أو قرار حلّها كشرط للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، لإتمام الوحدة بين سوريا ومصر (1958-1961).

ثم جاء انقلاب حزب “البعث” في عام 1963، ووصول حافظ الأسد إلى السلطة بعد انقلابه في عام 1970، وانخراط بعض الأحزاب في “الجبهة الوطنية التقدمية” التي شاركت بشكل ظاهري في حكم البلاد بجانب الأسد، والتضييق على عمل الأحزاب الباقية وإنهاء وجود المعارضة، ثم مواقفها بعد انطلاق الثورة السورية في 2011، ونشوء أحزاب وتيارات سياسية جديدة.

واليوم، يبدو أنّ الأحزاب (بغضّ النظر عن تلك التي شملها قرار الحلّ)، أمام فرصة ذهبية لإعادة الحياة السياسية إلى سوريا، والمساهمة في خلق مناخ ديمقراطي حقيقي، برغم وجود عقبات وصعوبات متعددة، يتعلق بعضها بشكل السلطة الحالية في البلاد وخلفيتها العقائدية أيضاً، وأمام فرصة لتلعب دورها في الحياة الاجتماعية والسياسية السورية.

وجود الأحزاب ضمانة للسلم الأهلي

لا يقتصر دور الأحزاب على المشاركة في الحياة السياسية، فوجودها يشكّل ورقة ضغط أمام السلطات الحاكمة أو الحزب الحاكم، لكيلا يحدث تفرّد في السلطة والقرار، ويمنع نشوء ديكتاتورية كاملة، كما أنها تلعب دوراً في المجتمع نفسه على أصعدة عدة، بما يحافظ كذلك على الأمن القومي والإستراتيجي للبلاد، ويجعل من تداول السلطة وانخراط المجتمع في الحياة السياسية أكثر تفاعلاً ومرونةً، ويسهم في بناء مجتمع على أسس مختلفة عن الأسس الديكتاتورية.

يقول رئيس “التيار الليبرالي السوري” (أحرار)، بسام قوتلي، لرصيف22، إنّ هناك حاجةً حاليةً إلى إتاحة المجال أمام الناس للتجمّع بناءً على مصالحهم والعمل على تحقيق هذه المصالح عبر حوار مستمرّ بينها وتنافس صحي لخدمة المجتمع، كما هناك محاولات كثيرة لتأسيس أحزاب ولكنها تبقى تجارب غير مكتملة في ظلّ غياب إمكانية التسجيل الرسمي وغياب التنافس الديمقراطي.

عقب سقوط نظام الأسد، وصدور قرار حلّ الأحزاب، قررت السلطات الحالية في سوريا إصدار إعلان دستوري جاء في المادة 14 منه: “تصون الدولة حقّ المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية وفقاً لقانون جديد، وتضمن الدولة عمل الجمعيات والنقابات”.

ولم يعلن حتى لحظة نشر هذا التقرير، عن تشكيل أيّ حزب سياسي في سوريا، كما لم يصدر أيّ قانون للأحزاب، لغياب البرلمان الذي من المفترض أن يُشكّل من قبل السلطة الحالية كمرحلة مؤقتة ثم تقام انتخابات في سوريا.

من جهته، يرى مدير قسم تحليل السياسات في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، سمير العبد الله، أنه في ظلّ الاستقطاب والانقسام الجغرافي، تستطيع الأحزاب أن تلعب دوراً محورياً في ضبط التوازنات، واحتواء الاحتقان، والمساهمة في صياغة حلول محلية لقضايا معقدة كالحكم المحلي، والعدالة الانتقالية، وإعادة الإعمار.

ويضيف في حديثه إلى رصيف22، أنّ وجود أحزاب تعددية فاعلة يُعدّ شرطاً أساسياً لحماية السلم الأهلي، ومنع العودة إلى منطق الإقصاء أو العنف. يقول: “إنّ حماية الحياة الحزبية، وتوفير بيئة قانونية وآمنة لنشاطها، ليسا مطلباً ديمقراطياً فحسب، وإنما شرط من شروط نجاح الانتقال وبناء الشرعية السياسية الجديدة في سوريا”.

ويزيد المحلل السياسي والصحافي درويش خليفة، أنّ الأحزاب السياسية تُعدّ من أبرز مقومات وأدوات الدولة العصرية الديمقراطية، ومن دونها لا توجد تنافسية ولا مشاركة في الحكم وتبادل السلطة، وتالياً هي من مقومات الحياة السياسية في أي دولة تسعى إلى الاستقرار وأن تنقل مشكلاتها الاجتماعية من أساس مذهبي طائفي أو مذهبي، إلى أساس سياسي تحت البرلمان، وضمن أدوات سياسية في ظلّ منع الأدوات الخشنة، ولا حياة سياسية بلا أحزاب سياسية التي ترتبط بدورها بوجود حياة سياسية تعمم وتملك برامجها السياسية.

تأخير إنشاء البرلمان وصدور القانون

برغم إعلان الشرع، عن نيّته تشكيل البرلمان الذي سيقوم بلعب الدور التشريعي، وتالياً إنشاء قانون للأحزاب، إلا أنّ هذا الأمر لم يحصل حتى لحظة نشر هذا التقرير، برغم أهميته لتنظيم الحياة السياسية في سوريا، ولتأخذ الأحزاب والسياسيون بالضرورة الوقت الكافي لتنظيم أمورهم والاستعداد لأي انتخابات مقبلة عقب نهاية المرحلة الانتقالية، فيما شملت البيانات كافة الصادرة عن الدول الأوروبية والولايات المتحدة تقريباً تشديداً على ضرورة التشاركية في الحياة السياسية السورية، وذلك منذ رحيل الأسد نهاية العام الماضي، 2024.

وفق القوتلي، فإنّ تأخير تشكيل البرلمان يؤدي إلى تأخير إصدار القوانين التي تحتاجها سوريا، وفي ظلّ غياب آليات سياسية لجمع الناس حول الأفكار التي تخدم مصالحها، سيضطرون إلى تبنّي الطرق والأفكار التي تحقق لهم الحماية.

ويرى أنه من الضروري الإسراع في فتح المجال أمام الأحزاب السياسية للعمل، خاصةً أنّ ممارسة السياسة في بيئة ديمقراطية هي البديل للصراعات العنيفة.

من جهته، يقول المحلل السياسي حسن النيفي، لرصيف22، إنّ العمل الحزبي لن يكون مكتملاً ما لم ينبثق عن الدستور (قانون للأحزاب)، وينظم العمل الحزبي ويضع معايير واضحةً لتشكيل الأحزاب السياسية تحت سقفه، وهذا لن يحدث ما لم يتشكل برلمان. “بالطبع الجميع ينتظر ما ستفضي إليه الأمور، واليوم طبعاً لا توجد حياة سياسية حزبية، بل يوجد حراك سياسي غير مؤطر، وهذه حالة راهنة لا يمكن أن تدوم”.

فرصة أمام الأحزاب الجديدة

فرض الواقع السياسي السوري في سنوات الثورة، على الناشطين والسياسيين السوريين، إنشاء أحزابهم وتياراتهم خارج سوريا، ضمن ظروف وتحديات صعبة أولها الشتات والعمل من خارج البلاد.

ولا توجد إحصائية دقيقة عن أعداد الأحزاب والتيارات السورية حالياً، إلا أنّ كتاب “الانبثاقات السياسية خلال الثورة السورية”، الصادر في عام 2018، عن مركز “حرمون للدراسات” (من تأليف الباحث ساشا العلو)، أشار إلى نشوء ثلاث أجسام سياسية ائتلافية بين عامي 2011 و2012، بالإضافة إلى ظهور أحزاب تدور في فلك جماعة “الإخوان المسلمون”، كـ”وعد” و”التيار الوطني السوري” وحركة “سوريا الأمّ”، كما ظهرت أحزاب وطنية كـ”الجمهورية واتحاد الديمقراطيين” و”تيار بناء الدولة”، بالإضافة إلى خمس منصات سياسية ومجالس سياسية أخرى.

أمام هذه الأحزاب والتيارات كلها فرصة ذهبية لأخذ مكانتها ودورها في الحياة السياسية السورية، وتحديد خياراتها المقبلة واستغلال الوقت قبل صدور “قانون الأحزاب”، في حين قد لا تبدو الفرصة ذاتها متاحةً أمام الأحزاب التقليدية في سوريا والتي صدر قرار حلّها في وقت سابق.

وصدر قرار من قبل السلطات المؤقتة الحالية في شباط/ فبراير الماضي، بحلّ الأحزاب السورية التي كانت في عهد الأسد، وعلى رأسها حزب “البعث” و”القومي السوري الاجتماعي” و”الشيوعي” وغيرها.

ووفق العبد الله، فإنّ واقع الحياة الحزبية في سوريا ما بعد الأسد يمثّل أحد التحديات المفصلية في عملية الانتقال السياسي، إذ لا يمكن تصوّر بناء نظام ديمقراطي تعددي دون وجود أحزاب فاعلة تعبّر عن التوجهات السياسية والاجتماعية المتنوعة داخل المجتمع السوري.

ويرى أنّ قرار حلّ الأحزاب، سواء بحجّة “إعادة التنظيم” أو بدعوى الحفاظ على الاستقرار، يحمل في طياته مخاطر جديّةً على المسار الديمقراطي برمّته، فالأحزاب ليست مجرد أدوات سياسية، بل تمثل جسوراً حيويةً بين الدولة والمجتمع، وهي الآلية الأكثر نجاعةً لتنظيم المطالب، وتأطير التمثيل، وتوفير البدائل السلمية للتعبير عن الخلاف.

ويشير إلى أنّ إقصاء الأحزاب، خاصةً في المراحل الأولى من الانتقال، لا يؤدي فقط إلى تعطيل الحياة السياسية، بل يفسح المجال لاحتكار القرار، ويُنتج فراغاً قد تملأه التيارات المتطرفة أو النزعات الفئوية. كما أنّ تأخير إصدار قانون ناظم للأحزاب أو تشكيل برلمان انتقالي يُعدّ مؤشراً مقلقاً، وقد يُفسَّر على أنه محاولة لتفصيل المشهد على قياس قوى معينة، وإقصاء أخرى، بحسب رأيه، كما يرى أن مستقبل الأحزاب في سوريا يظلّ مرهوناً بقدرتها على تجديد خطابها، والانفتاح على قضايا الشارع، والتخلص من تبعياتها السابقة سواء للسلطة أو للرعاة الخارجيين، فالأحزاب التي وُلدت من رحم المعارضة تحتاج إلى إعادة بناء هياكلها وبرامجها وفق متطلبات المرحلة، كما أنّ الأحزاب المتحدرة من النظام السابق مطالبة بتحقيق قطيعة مع تراث الاستبداد والانخراط في الحياة السياسية بقواعد جديدة.

من جهته يرى المحلل السياسي حسن النيفي، أنّ مبادرة السلطة الجديدة بحلّ الأحزاب، هي قرار سياسي إجرائي ربما يكون وقائياً وفقاً للسلطة، وتبرر هذا الإجراء بأنّ هذه الأحزاب كانت قريبةً من نظام الأسد بل ربما كانت شريكةً له، وبهذا فإنها تتحمل مسؤوليةً سياسيةً وأخلاقيةً عمّا ارتكبه النظام البائد بحق السوريين من جرائم، ولا يعتقد أنّ حلّ هذه الأحزاب لا يعني انعدام الحياة الحزبية في المستقبل، ولعلّ الجميع ينتظر قانون أحزاب جديداً وفقاً لما يحدده الدستور الجديد للبلاد.

وبقدر ما تملك الأحزاب الجديدة فرصةً للعمل خلال الفترة الحالية، إلا أنّ لديها تحدياتها كذلك، وعلى رأسها مدى تقبّل السلطات المؤقتة لها.

وفق درويش خليفة، فإنه وحتى اللحظة لا توجد أحزاب سياسية سورية نافذة يلتفّ حولها السوريون، ومعظم الأحزاب الجديدة أنشئت خارج سوريا خلال سنوات الثورة ومعظمها بلا جماهيرية أو شعبية في المجتمع، وربما نشهد خلال الأيام المقبلة ترويجاً لأفكار الأحزاب السياسية السورية، سواء اليسارية أو القومية أو الليبرالية أو الإسلامية، فالأمر يعتمد على مدى تقبّل السلطة الحالية للانفتاح على الشرائح السياسية كافة، وتالياً نكون أمام انفتاح سياسي عصري ولا تتدخل القوى الخشنة في عمل الأحزاب مع متابعة عملها والحرص على أن تكون الأحزاب وطنيةً بعيداً عن العلاقات مع الخارج، وألا تسعى الأحزاب إلى نسج علاقات مع الدول الخارجية للوصول إلى السلطة.

رصيف 22

—————————————–

اللون الواحد يهيمن على منظومة الجيش والأمن في سوريا رغم التطمينات/ مصطفى رستم

لا تزال الفصائل التي قاتلت أيام الثورة تحافظ على لباسها وشعاراتها وكل ما تغير هو تسميتها

الاثنين 26 مايو 2025

أثارت التعيينات الأمنية والعسكرية الجديدة التي أجرتها السلطات السورية والتي غلب عليها اللون الواحد، مخاوف جهات كثيرة من تعثر مسار قيام الدولة في سوريا.

طغى الزي المدني بربطات عنق ارتداها كبار قادة جهاز الأمن السوري الجدد على اجتماعهم الأول، وفتح الحضور شهية الشارع السوري على أسئلة تراودهم عن حياتهم وأمنهم وكرامتهم بعد زوال نظام عائلة الأسد، وحكمها البلاد بالحديد والنار طوال ما يربو على نصف قرن من الزمن، ويأمل السوريون في أن تكون سوريا الجديدة كالزهور التي وضعت على طاولة الاجتماعات التي تحلق حولها الأمنيون الجدد.

هذه طاولة لا تشبه بأية حال طاولة غرفة العمليات العسكرية التي كانت يوماً من الأيام تزدحم بملفات الحرب، والثورة على النظام البائد، في غرفة محصنة خوفاً من قصف روسي يأتي بغتة. يختلف المشهد اليوم أمام القادة في جهاز الأمن الوليد، ومعه يكبر التحدي، فهل تستطيع شخصيات عملت في مدينة كإدلب في أقصى الشمال الغربي أن تعمم تجربتها على كل المحافظات السورية وسط هواجس من أمن يتضعضع إثر الحالات الانتقامية المتزايدة، ومخاوف من قرارات أمنية لا تأخذ بالحسبان التنوع الديمغرافي والعرقي والمذهبي لسوريا المتنوعة؟

تعيين قادة أمنيين

في خطوة متقدمة أتت على حين غرة، أعلنت وزارة الداخلية السورية تعيين قادة أمنيين في جهاز الأمن الداخلي بمعظم المحافظات، غداة الكشف عن هيكلة شاملة للوزارة التي تسلمها الوزير أنس الخطاب، الشخصية المقربة من الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي تسلم قبلها إدارة المخابرات العامة.

وشملت التعيينات الجديدة ستة معاونين لوزير الداخلية، و12 ضابطاً برتب بين العقيد والعميد في عموم المحافظات السورية، فيما لم يصدر قرار بتعيين قادة في محافظات مثل الرقة والحسكة في شمال شرقي سوريا، حيث تسيطر على أجزاء واسعة منهما “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

وسبق هذه التعيينات إحداث إدارات جديدة في هيكلة شملت كل مفاصل عمل وزارة الداخلية، ومن أبرز ما جاء في الهيكلية الجديدة دمج جهازي الشرطة والأمن العام بمسمى جديد هو “الأمن الداخلي”، وحُلّت كل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي كانت قائمة في عهد النظام السابق.

وكانت البلاد سابقاً تدار بشبكة أمنية متفرعة ومعقدة ومتعددة الانتماءات عبر فروع أمن متخصصة تصب في إدارة عليا هي “إدارة الأمن السياسي” التابعة لوزارة الداخلية و”شعبة المخابرات العسكرية” (الأمن العسكري) مع “إدارة الأمن الجوي” التابعة لوزارة الدفاع، في حين كان جهاز “أمن الدولة” إدارة مستقلة، علاوة عن إدارات عليا مرتبطة بأمن الرئاسة، والفرع الخاص، وأخرى تتبع الفرقة الرابعة التي قادها ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري السابق، وكان 8 ملايين سوري (ثلث سكان سوريا) مطلوبين لأجهزة الاستخبارات حتى سقوط النظام في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024.

تصريحات أبو قصرة

من جهته أعلن وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة الإثنين أن على قادة الفصائل المسلحة الانضمام إلى الكلية العسكرية والنجاح فيها، قبل أن يتمكنوا من نيل رتب استثنائية في صفوف الجيش الجديد الذي تعمل السلطات على تشكيله.

وفي مقابلة مع قناة “الإخبارية السورية”، قال أبو قصرة إن “القادة العسكريين ممن لديهم كفاءة عسكرية كبيرة ودور كبير في الثورة السورية، سنرسلهم إلى الكلية العسكرية، ويجب عليهم أن يخضعوا ويجتازوا الكلية العسكرية حتى نعطيهم رتبة ملازم”. وأضاف، “بعدها ننقل قيود القادة العسكريين إلى لجنة مكلفة من وزارة الدفاع لمنحهم رتباً استثنائية وفق ثلاثة معايير: اجتياز الكلية، الأقدمية العسكرية، والمسمى الوظيفي”.

وقال أبو قصرة إن قيادة الجيش ستتألف من قسمين: “ضباط منشقون (عن الجيش السابق) أصبحت قيودهم” لدى الوزارة التي ستشكل “لجنة لرفع مقترح بترفيعهم”، وقادة الفصائل المعارضة. وأضاف، “انتهينا من المرحلة الأولى وهي نقل الوحدات العسكرية (الفصائل) إلى وزارة الدفاع، وسنبدأ المرحلة الثانية ولها عناوين عدة أولها تنظيم القوات المسلحة بما يخص الرتب والهويات العسكرية وتفعيل الضباط والعسكريين ضمن وزارة الدفاع وتدريب القوات المسلحة”.

وأوضح أن “هذه الخطوات ستحقق كفاءة للقوات المسلحة وتنقل الناس من الحالة الثورية إلى الحالة المؤسساتية”، موضحاً “سنبني جيشاً له عقيدة عسكرية وطنية يحمي الشعب السوري والجغرافيا السورية”، في وقت تسعى السلطة الجديدة إلى بسط سلطتها وضبط الأمن في البلاد.

وقال مصدر سوري، من دون الكشف عن هويته لوكالة الصحافة الفرنسية، إن السلطة السورية الجديدة وجّهت في وقت سابق رسالة إلى واشنطن تعهدت فيها “تجميد ترقيات المقاتلين الأجانب”، إضافة الى “تشكيل لجنة لمراجعة الترفيعات السابقة”.

تعيينات من لون واحد

ويجزم المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد لـ”اندبندنت عربية” بعدم وجود “أية مبررات منطقية حول تعيينات قادة أمنيين جلّهم من لون واحد”، ويرى أن الأمر يتعلق بما وصفه بـ”ولاءات” حسمت اختيار مقاتلين وقادة من “هيئة تحرير الشام” أو من المنظومة نفسها، “وذلك واضح إذ يسيطر على التعيينات اللون الإسلامي الواحد”، بحسب رأيه.

ويضيف الأحمد، “معظم المناصب الحساسة والقوية تذهب إلى شخصيات محسوبة على ’هيئة تحرير الشام‘، وتجميل بعض المناصب عبر تعيين أقليات، ولكن الواضح أن المناصب الفعالة تذهب إلى هذا التيار (الإسلامي)، فلا يوجد أي تنوع، وحتى في الحالات التي تستوجب إيجاد تنوع يُلاحظ أنه يبدو تنوعاً مزوراً، ولا يوجد تمثيل حقيقي للأكراد والعلويين والمسيحيين والدروز أو حتى للسنة المعتدلين”.

ويعتقد مدير منظمة “سوريون من أجل العدالة والحقيقة” أن “ما يحدث دليل عدم ثقة، ولهذا تتسع السيطرة على مفاصل الدولة”، ويردف “من الممكن أن يؤثر ذلك في التعامل مع الغرب، وفي شكل الدولة نفسها، يمكن أن نرى تحول سوريا إلى دولة إسلامية بعد تغليب الولاءات على حساب الكفاءة، وهذا سيضر بصورة أو بأخرى بمؤسسات الدولة ويسبب مشكلات ومحسوبيات وقضايا أخرى”.

في المقابل، يرى فريق من المراقبين للشأن السوري أن الواقع ليس بهذه السوداوية، في إشارة إلى وجود عنصر في “الأمن العام” من الديانة المسيحية. وكان المقاتل “جورج” قد خطف الأنظار عبر وسائط التواصل الاجتماعي بعد الكشف عن هويته، وأثار وقتها مجموعة تساؤلات حول تعميم تجربة حضور عناصر أمنية من كل مكونات المجتمع السوري في جهاز يغلب عليه التيار الإسلامي.

 وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا، إن “الوزارة هي جهة خدمية تضمن للشعب السلم الأهلي وسيادة القانون والأمان اللازم للتقدم”، وأضاف أن “الهيكلية الجديدة تهدف إلى بناء مؤسسة أمنية مدنية حديثة تتبنى الشفافية وتحترم المعايير الحقوقية الدولية”.

في غضون ذلك حافظ الرئيس السوري أحمد الشرع منذ توليه منصبه في الـ29 من يناير (كانون الثاني) الماضي، على القادة والمقاتلين في الفصيل الذي كان يقوده أيام الثورة (هيئة تحرير الشام)، ممن حاربوا في عملية “ردع العدوان” والفصائل التي انضمت إليه، فعّين مقاتلين أجانب برتب عليا في مفاصل حساسة بالجيش، إضافة إلى تعيين مرهف أبو قصرة المقرب منه وزيراً للدفاع، كذلك عيّن نور الدين نعسان رئيساً لهيئة الأركان، إضافة إلى “أمراء” في “جبهة النصرة” في مناصب حساسة بالجيش، ومنهم غير سوريين وأبرزهم الأردني حسين الخطيب والتركي محمد جفشتي.

تغييب الضباط المنشقين

ولفت الضابط المسرّح محمد قبلان إلى تغييب واضح للضباط المنشقين أو المسرّحين قبل الثورة في جسم الجيش الجديد. وبلغ تعداد الجيش السوري قبل انهياره أكثر من 400 ألف مقاتل، بين ضباط صف ومجندين، ينتشرون عبر فرق عسكرية وتشكيلات متخصصة بحرية وجوية ومشاة.

وأضاف قبلان في حديث خاص أنه تعرض للتسريح في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد مع مجموعة من الضباط الذي وصفهم بـ”الشرفاء” بعد رفضهم تنفيذ أوامر، وتمردهم على القيادة العسكرية، وجميعم من السنّة، وقال، “بعد سقوط النظام وتحرير البلاد لا بد من جمع الضباط المنشقين والضباط المسرحين لأسباب سياسية ممن عانوا التغييب والاعتقال، وهم من الكفاءات والخبرات المهمة، وإعادة دمجهم بالجيش الجديد أو تكريمهم لما قدموه من إنجازات وصمود”.

وتختصر ورقة بحثية صادرة عن مركز “ستراتيجيكس” للدراسات، الإشكالات الماثلة أمام عملية الدمج في الجيش السوري ومنها “استمرار الاعتماد على اقتصادات غير مشروعة، وتلقي دعم مالي ولوجستي من مصادر خارجية لا سيما الجيش الوطني السوري الذي يعتمد في تمويله على تركيا”.

في الأثناء تحمل الفصائل المنضوية تحت جناح وزارة الدفاع، باسم الجيش السوري الجديد، أيديولوجيات مختلفة. ويرى مراقبون في بقاء رايات تلك الفصائل ولباسها الخاص بها، وبعضها يحمل أعلام “القاعدة” وشعاراتها، أكبر تحدٍّ يؤرق الدمج الصحيح، إذ لم تندمج الفصائل مع بعضها بعضاً بتشكيل عسكري واحد، بل حدث تغيير في اسم الفصائل إلى أسماء فرق عسكرية وعلى سبيل المثال تغير اسم “لواء سلطان مراد” أو ما يسمى “العمشات” إلى “الفرقة 25” وهي فرقة مهمات خاصة.

وقال متخصص عسكري، فضل عدم ذكر اسمه، إنه “من الضروري إذابة الولاءات كلها في ولاء واحد، هو الجيش السوري الجديد فقط، كذلك فإن الاستعانة بالأكاديميين والخبرات من قادة الجيش أمر في غاية الأهمية، لأن في ذلك تعويلاً على تدريب الجسم الجديد وتوحيد لباسه ورايته، ومنع حمل راية غير راية الدولة السورية”.

—————————-

البنك الدولي يعود إلى سوريا: الحديث عن الخصخصة أكثر من مغر

بموافقة ضمنية من الولايات المتحدة وتمويل كبير من الخليج العربي، يعود البنك الدولي إلى سوريا تحت ستار التعاون الفني ــ وهو ما يشير إلى بداية مرحلة جديدة من التقشف والخصخصة والسيطرة الأجنبية على أصول الدولة.

في وقت يعتبر قياسي، مقارنة بالظروف العامة التي تعيشها سوريا من عقوبات غربية شديدة وحالة عدم استقرار سياسي وأمني واقتصادي، دخل البنك الدولي على خط التواصل المكثف مع مسؤولي الحكومة السورية الجديدة، وذلك بغية استكشاف فرص ومجالات التعاون المشتركة، لاسيما بعد قيام الرياض والدوحة بتسديد المتأخرات المالية المترتبة على دمشق لصالح البنك، والبالغة حوالى 15.5 مليون دولار.

واللافت هنا أن انفتاح البنك الدولي على التعاون الواسع مع الإدارة السورية الجديدة تزامن مع حدوث ثلاثة متغيرات أساسية هي:

-قيام الإدارة الأمريكية في شهر نيسان/أبريل الماضي بتعديل الوضع القانوني لبعثة سوريا لدى الأمم المتحدة من بعثة دائمة لدولة عضو في الأمم المتحدة إلى بعثة حكومة غير معترف بها، لاسيما وأن العديد من الدول الغربية لا تزال تدعو رسمياً إلى تشكيل حكومة انتقالية شاملة في سوريا.

-قيام دول عربية وأجنبية بالتوسط لدى الإدارة الأمريكية لمنح أعضاء في الحكومة السورية الجديدة تأشيرات دخول للمشاركة في اجتماعات الربيع لعام 2025 بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

-تسمية صندوق النقد الدولي مبعوثاً خاصاً لسوريا في شهر نيسان/أبريل الماضي خلال مشاركة الوفد السوري في اجتماعات الربيع، فيما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يعلن  عن رفع العقوبات عن سوريا إلا في منتصف شهر أيار/مايو الحالي خلال زيارته للملكة العربية السعودية.

ربط هذه المتغيرات مع انفتاح البنك الدولي على سوريا في عهد الإدارة السورية الجديدة يطرح عدة تساؤلات منها:

-هل قرار الانفتاح جاء بمعزل عن الموقف الأمريكي، والذي عادة ما يكون البوصلة في علاقات البنك الدولي وتعاطيه مع قضايا الدول وملفات التعاون معها؟

-وماذا لو أن الرئيس ترامب لم يرفع أو يعلق أو حتى يخفف العقوبات المفروضة على سوريا؟ هل بإمكان البنك المضي قدماً في مشروعه الرامي إلى تقديم الدعم الفني والمالي للحكومة السورية الحالية؟

-وهل مشكلة البنك مع سوريا في عهد النظام السابق كانت في عدم تسديده للمتأخرات المالية المترتبة على البلاد؟ أم في القرار الغربي الرافض لأي شكل من أشكال التعاون مع دمشق في ظل نظام الأسد؟

قبل محاولة الإجابة على هذه التساؤلات، فإنه من الضروري إلقاء نظرة على المراحل التي مرت بها علاقات سوريا بالبنك الدولي منذ انضمامها إليه في العام 1947 ولغاية سقوط النظام السابق. فمن شأن ذلك توضيح بعضاً من أسباب ذلك الاندفاع الذي نشهده اليوم للبنك تجاه التعاون مع دمشق وتقديم الدعم لها.

مد وجزر

لم تحل التوجهات الاقتصادية الاشتراكية للبلاد أثناء حكم حزب البعث دون استفادتها من الخدمات الفنية والتمويلية التي يقدمها عادة البنك الدولي لأعضائه. لكن النظام على مدى خمسة عقود ونيف بقي حذراً من توسيع ذلك التعاون أو حتى المس بما يعتبره جوهر مشروعيته الشعبية المتمثل في سياسات الدعم الاجتماعي والاقتصادي، حضور القطاع العام في النشاط الاقتصادي، وسياسات التوظيف الاجتماعية.

وبحسب منشورات المؤسستين الدوليتين (البنك والنقد) عن تاريخ العلاقة بين الجانبين، فقد كانت هناك ثلاث مراحل من التعاون، ومرحلتين من القطيعة شبه الكاملة. الأولى في فترة التعاون كانت بين عامي 1963 و1974 وحصلت فيها البلاد على أربعة قروض ائتمانية قيمتها حوالى 48.6 مليون دولار. أما مرحلة التعاون الثانية فكانت بين عامي 1974 و1986 وحصلت خلالها سوريا على 15 قرضاً من البنك الدولي للإنشاء والتعمير. مرحلة التعاون الثالثة، وهي الأهم لاعتبارات عديدة، كانت بين عامي 2002 و2011 وحصلت بموجبها البلاد بعد تسوية ديونها على دعم فني واستشاري واسع، وفي عدة قطاعات اقتصادية ومالية واجتماعية.

وعموماً يمكن القول المرحلة الأخيرة شهدت انسجاماً واضحاً بين سياسات الحكومة وخططها الإصلاحية، التي كان يرسمها النائب الاقتصادي آنذاك عبد الله الدردري (والذي عمل في فترة لاحقة كمستشار أول لإعادة الإعمار لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إقريقيا في البنك الدولي)، وبين سياسات وأهداف البنك والنقد الدوليين، وإن لم يرتق ذلك الانسجام إلى مرحلة التطابق لاعتبارات عدة أبرزها: تخوف مراكز القرار الرئيسية في النظام آنذاك من ردة الفعل الشعبي حيال توسيع دائرة “الإصلاحات” والدخول في شرك الديون الخارجية، وكذلك وجود شخصيات معارضة لسياسات تحرير الاقتصاد بالكامل بين الأوساط الحكومية والمجتمع الأهلي والمدني. وهذه معارضة تجسدت في رفض تنفيذ بعض المقترحات التي تقدم بها موفدو البنك والنقد الدوليين، لاسيما بعد تداعيات موجة الجفاف التي ضربت البلاد بين عامي 2006 و2008، والتأثيرات السلبية لرفع أسعار المشتقات النفطية في أيار/مايو من العام 2008.

وإذا ما عدنا إلى التقرير الأخير الذي نشره صندوق النقد الدولي في إطار مشاورات المادة الرابعة عام 2009 فإننا سنجد ترحيباً صريحاً من بعثة الصندوق بإجراءات الحكومة آنذاك من تبسيط نظام الضرائب وإلى “التقدم المحرز في إصلاح دعم المنتجات البترولية وتحسين إدارة المالية العامة”، فالبدء “بتنفيذ توصيات برنامج القطاع المالي سنة 2008″، وغير ذلك.

 أما فترة القطيعة فكانت مرحلتها الأولى بين عامي 1986و2002، وتوقفت خلالها دمشق عن تسديد الالتزامات المالية المترتبة عليها جراء الأزمة الاقتصادية الشهيرة التي مرت بها آنذاك وما تعرضت له من عقوبات غربية. والمرحلة الثانية جاءت بعد العام 2011 واستمرت لبدايات العام الحالي وكانت نتيجة لدخول البلاد في حرب مدمرة وفرض الغرب لعقوبات اقتصادية شديدة على البلاد.

لكن ذلك لم يبعد البنك عن الملف السوري، إذ حاول من خلال عدة برامج تتبع الأضرار والخسائر الاقتصادية والاجتماعية التي لحقت بالبلاد والدول المجاورة، فكان أن أصدر في العام 2017  تقريرين حول “تأثير الصراع السوري” الأول شمل تقديراً للأضرار التي حلت بكل من محافظات حلب وإدلب وحماة، والتقرير الثاني كان عبارة عن “تحليل للآثار الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا”، وأطلق عليه “خسائر الحرب”.

وبناء على ذلك، فقد قدرت الخسائر التراكمية في إجمالي الناتج المحلي بين عامي 2011 و2016 بنحو 226 مليار دولار، أي حوالي أربعة أمثال إجمالي الناتج المحلي السوري في عام 2010.  وفي حزيران/يونيو 2020، أصدر البنك الدولي تقييماً جديداً للأثر الاقتصادي والاجتماعي الإقليمي بعنوان “تداعيات الحرب”.

حلل في هذا التقييم أثر “الصراع السوري” على منطقة المشرق كمياً، وحدد كيفية الوقوف على هذا الأثر. وخلص التقييم إلى أن “الصراع السوري دمّر طرق التجارة الثنائية والعبور (الترانزيت)، وزعزع استقرار المنطقة، وأدى إلى أكبر أزمة نزوح منذ الحرب العالمية الثانية. ونتيجة لذلك، واجهت البلدان المجاورة لسوريا مزيجاً من تراجع النشاط الاقتصادي، وتدهور أسواق العمل، وزيادة معدلات الفقر، ومن شأن كل ذلك التأثير سلباً حتى على أكثر الاقتصادات  تقدماً في العالم”.

توجهات ملائمة

في ضوء تلك المراجعة التاريخية السريعة يمكن استخلاص بعض المعطيات التي قد تشرح ذلك الاندفاع الحاصل اليوم من قبل البنك الدولي حيال إدارة لاتزال معظم شخصياتها الرئيسية تحت مظلة العقوبات الأممية والأمريكية. ومن أبرز هذه المعطيات ما يلي:

-ما كان لإدارة البنك الدولي أن تتحرك وتستجيب لرغبة الحكومة السورية الانتقالية بالتعاون لولا وجود موافقة أمريكية ضمنية، سواء جاءت هذه الموافقة عبر التواصل والنقاش المباشر بين الإدارة الأمريكية وإدارة البنك التي ترأسها عادة شخصية أمريكية، أو جاءت عبر وسيط ثالث كالرياض والدوحة اللتين ما كانا لهما أيضاً أن يسددا المتأخرات المالية السورية لولا الموافقة الأمريكية المسبقة.

ولعل ما يؤكد صوابية هذا الطرح ما تداولته وسائل إعلام أمريكية تعقيباً على قرار  رفع العقوبات عن وجود مفاوضات ثنائية جرت منذ عدة أشهر بين إدارة ترامب ومسؤولي الإدارة السورية الجديدة أفضت، وإن بشكل أسرع مما هو متوقع، إلى رفع العقوبات ولقاء وزيري خارجية البلدين في تركيا.

-ما يهم البنك الدولي في تعاطيه مع الملف السوري ليس خلفية الإدارة السورية الجديدة ومدى الاعتراف الدولي بها، وإنما توجهاتها الاقتصادية والاجتماعية والتي يبدو أنها بحسب تصريحات العديد من مسؤولي الحكومتين، الأولى التي كلفت بتسيير الأعمال غداة سقوط النظام السابق والثانية المسماة انتقالية.

وهي تصريحات تتوافق في معظمها مع توجهات البنك والنقد الدوليين وسياساتهما المعروفة والرامية إلى الإمساك باقتصاديات الدول. فمثلاً كان هناك حديث واضح عن الخصخصة الواسعة لمعظم منشآت القطاع العام بما فيها المنشآت السيادية كالمطارات والموانئ وغيرها، وجرى اتخاذ قرارات سريعة ومباشرة برفع الدعم عن جميع المشتقات النفطية التي باتت تباع حاليا بسعرها العالمي، وكذلك رفع سعر مادة الخبر بنسبة كبيرة جداً تمهيداً لتحريره ليكون بسعر الكلفة، فضلاً عن فصل آلاف الموظفين في مؤسسات الدولة والقطاع العام أو منحهم إجازات مأجورة، السماح بتداول القطع الأجنبي بيعاً وشراءً.. وغير ذلك.

-وجود دول إقليمية داعمة لعودة البنك والنقد الدوليين للعمل في سوريا لأسباب سياسية واقتصادية. وهذا حدث تكمن أهميته في إمكانية توفر تمويل لبعض المشاريع التي يمكن للمؤسستين الدولتين تنفيذها في سوريا أو الاستفادة من تجاربهما في هذه الدول. فدعم دول أساسية في المشهد الإقليمي اليوم كالسعودية وقطر وتركيا، والتي تمتع بنفوذ كبير في سوريا اليوم يقلل من مخاوف المؤسستين الدولتين النابعة من عدم اكتمال حالة الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في سوريا.

فنياً أولاً

إلى الآن تشير معظم التصريحات السورية الرسمية إلى أن الحكومة الانتقالية مهتمة حالياً فقط بالتعاون الفني مع المؤسستين الدولتين، إذ حسب ما قاله وزير المالية في الحكومة الانتقالية محمد برنيه فإن حكومته “ليست بوارد طلب قروض مالية من المؤسسات الدولية”، مشيراً إلى أن “البلاد ستكون ورشة عمل كاملة للإصلاح المالي والاقتصادي في كل المسارات والمجالات”.

لكن ماذا لو عجزت الحكومة عن توفير التمويل اللازم لعملية إعادة الإعمار كما فشلت دول عديدة مرت بالأزمات والحروب نفسها؟ وهل سيكون الفريق الحكومي المعارض لطلب قروض دولية قادراً على مواجهة فريق آخر يدعم ويدعو إلى الاستفادة من قروض البنك والنقد الدوليين؟ وإلى أي حد سوف تأخذ الحكومة بنصائح وتوصيات خبراء المؤسستين الدوليتين لاسيما في مجالات وقطاعات قد تتسبب بمزيد من الضغوط والأعباء المعيشية في بلد يقبع ما يزيد على 90% من مواطنيه في خانة الفقر العام و65% في خانة الفقر الشديد؟

——————————-

 هاجر جده بـ20 ليرة من متصرف عثماني.. توماس باراك دبلوماسي أميركي يستحضر معاوية

2025.05.29

في جلسة عقدتها لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي يوم الثلاثاء، 20 أيار/مايو، قدّم وزير الخارجية ماركو روبيو شهادة رسمية حول ميزانية وزارة الخارجية لعام 2026. لم تقتصر الجلسة على الجوانب المالية، بل كشف روبيو خلالها عن ملامح هيكلة جديدة لطريقة عمل الوزارة، ستُطبَّق للمرة الأولى في سوريا باعتبارها حقل اختبار رئيسياً لهذا النهج الجديد في إدارة السياسة الخارجية الأميركية.

وقال روبيو إن الهيكلة الجديدة تهدف إلى نقل السلطة وصلاحيات اتخاذ القرار إلى المكاتب الإقليمية والسفارات الأميركية حول العالم، بعيداً عن البيروقراطية المركزية في واشنطن. وأوضح أن القرارات التنفيذية المرتبطة بالمساعدات والسياسات ستُتخذ في الميدان، استناداً إلى الاحتياجات الفعلية والمعطيات المحلية لكل دولة.

وأشار إلى أن الفريق الدبلوماسي الأميركي الموجود في تركيا، إضافة إلى السفير، سيُمنحون صلاحيات كاملة للتواصل مع المسؤولين المحليين السوريين وتحديد نوع المساعدات المطلوبة، وقال “سنسمح لأفرادنا الموجودين على الأرض. سواء موظفي سفارتنا في دمشق المتواجدين في تركيا، وبالنسبة للفترة الزمنية القصيرة على الأقل، سفيرنا المؤقت في تركيا للعمل مع المسؤولين المحليين هناك لاتخاذ قرارات بشأن نوع المساعدة التي يحتاجونها. هل هي إنسانية؟ هل هي تحسين وظائف إنفاذ القانون أو الحوكمة؟ نعتقد أنها ستكون الاختبار الأول لهذا النموذج الجديد.. أعتقد بقوة أن قراراتنا والسلطة لاتخاذ القرارات يجب أن تُدار من قبل المكاتب الإقليمية لأنها تكون في صميم وقلب كل ما نقوم به”.

ذكر الوزير أن الهيكلة الجديدة تتضمن إصلاحات في آلية تقديم المساعدات الخارجية، بحيث تُوجَّه مباشرة إلى المستفيدين بإشراف المكاتب الإقليمية، مع الابتعاد عن التعقيدات البيروقراطية السابقة، وتحقيق سرعة وكفاءة أكبر في الاستجابة للمتغيرات على الأرض.

وأوضح: “سوريا مثال رائع، ليس لدينا أي أموال في ميزانية السنة المالية لسوريا، لأنه، بصراحة، لم يكن أحد منا يتوقع أننا سنتحدث عن مساعدة الحكومة السورية قبل ستة أو ثمانية أشهر، ولكن الآن لدينا فرصة للقيام بذلك، وبدلاً من الاضطرار إلى إعادة البرمجة وجميع أنواع التعديلات، فإن المرونة على مستوى ما للتمكن من الاستجابة بسرعة لأمر كهذا”.

وكان نقاش الوزير وطرحه لسوريا كمثال وحديثه عن “حرب أهلية” وشيكة، هدفه تبرير إصلاحاته بدمج “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” ضمن وزارة الخارجية، لتصبح جزءاً من أدوات الدبلوماسية الأميركية بدلاً من كونها جهازاً مستقلاً عن التوجهات السياسية العامة.

وعلى رأس هذه الاستراتيجية أو إعادة الهيكلة التي طرحها روبيو والتي تهدف للعمل من “الأسفل إلى الأعلى” بحيث يكون للمكاتب الإقليمية والسفارات الكلمة الفصل في السياسة الخارجية الأميركية يظهر توماس باراك السفير الأميركي في تركيا والمعين بمنصب المبعوث الخاص إلى سوريا.

قصة توماس باراك بروايته

قدم توماس باراك قصته لأعضاء الكونغرس خلال مناقشات تعيينه كسفير في تركيا خلال نيسان الماضي، وركز على جذوره وارتباطه بالمنطقة وكيف أنه يفهمها ولديه “رؤية” للعمل قائمة على التسامح إلى جانب “السيف والسوط”.

أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، سرد باراك ملخصاً عن رحلته الشخصية، معتبراً إياها “تحية للحلم الأميركي”. وقال “هاجر جدّاي  إلى الولايات المتحدة قرابة عام 1900. يوسف عبد الله (جو)، في سن الثانية عشرة وخليل شاهين (كيلي) في سن الرابعة عشرة. كلاهما نشأ في لبنان، والتي كانت تتمتع بسمعة طويلة منذ بداياتها الفينيقية بنسيج متعدد الثقافات من التأثيرات العربية والمسيحية وكانت منطقة إدارية داخل الإمبراطورية العثمانية. كان جو واحداً من تسعة أطفال مسيحيين موارنة وأصغر ستة أولاد يعيشون في زحلة، وهي بلدة في سهل البقاع. في ذلك الوقت كانت هناك حرب رهيبة مستعرة بين الموارنة والدروز، ولم تكن والدة جو ترغب في التضحية بابنها الأصغر في هذا الصراع الوحشي والعبثي. كانت عائلة البراك عائلة تجارية متواضعة الإمكانات، ولم يكن لديهم القدرة على إعالة عائلتهم الكبيرة أو مساعدة أي من أبنائهم الستة في إيجاد العزاء أو الراحة في أي مكان آخر. كانت زحلة تحكم من قبل قائمقام عثماني يُعرف بالمتصرف. كان المتصرف مسيحياً غير لبناني تم اختياره من قبل العثمانيين المتمركزين في القسطنطينية (إسطنبول الآن) وكان يتمتع بسلطة مطلقة على المسيحيين والدروز. كانت والدة جو خادمة منزلية لدى المتصرف وطلبت مساعدته للسماح لابنها الأصغر، جو، بالصعود على متن سفينة شحن ستصل في النهاية إلى أميركا. كانت كلفة “درجة الشحن” في ذلك الوقت نحو 20 ليرة تركية، والتي لم تكن عائلة جو تمتلكها. ثم تبرع الحاكم العثماني لوالدة جو بأجرة السفر وجواز سفر عثماني لسفر جو وأخبرها أنه حر في الذهاب. مشياً يداً بيد 34 ميلاً إلى ميناء بيروت، حيث صعد لأول مرة على متن الباخرة البريدية العثمانية إلى نابولي حيث انتقل إلى السفينة الأكبر، إس إس باتريا، لرحلة ثلاثة أسابيع إلى أميركا. اعتقدت أنها لن تراه مرة أخرى أو ربما لن تعرف مكانه أبداً… أم فقط يمكن أن تمتلك تلك القوة. زحف إلى الحفرة القذرة لتلك السفينة ومعه 13 ليرة تركية، قميص واحد، بنطال واحد، ومذكرة معلقة على قميصه مكتوبة باللغة العربية تقول: «شكراً لكم على قبولي».

هل يعيد ترامب تشكيل إرث “سايكس بيكو”؟

استعرض باراك بعد ذلك مسيرة العائلة في أميركا، حيث عاش والده وجده معاً في كاليفورنيا يديران متجراً صغيراً، وكانت تلك التجربة مصدراً لغرس قيم الشجاعة، والمرونة، والرحمة، والامتنان، وتجاوز الفوارق الدينية والعرقية في نفسه وأخته.

انتقل باراك للحديث عن مسيرته المهنية، مشيراً إلى أنه كرس حياته لفهم تعقيدات بناء الفرق في الأسواق المالية العالمية، وصقل حاسة ثقافية خاصة، والسير في طرق لم يسبق أن سار عليها أحد. بعد حصوله على تعليم يسوعي ودراسة القانون، عمل في واحدة من أكبر شركات المحاماة الأميركية ممثلاً شركات هندسية وإنشائية في الشرق الأوسط، مثل فلور وبيكتل وجاكوبس، التي كانت من عمالقة الابتكار الأميركي في منطقة الشرق الأوسط التي كانت تشهد طفرة نفطية كبرى.

وأوضح أنه عمل كمحامٍ مالي في السعودية عام 1973 على مشاريع تمويل منشآت نفطية وغازية في المنطقة الشرقية، في بيئة قاسية تصل فيها درجات الحرارة إلى 120 درجة فهرنهايت، بلا وسائل ترفيه أو اتصال حديث، ولا كنائس أو معابد يهودية أو فنادق أو مصارف، بل مجرد مجمع أرامكو وثقافة بدوية أصيلة متجذرة في الإسلام. يروي باراك أنه كان يحضر المجالس المسائية، ويشرب القهوة العربية مع الشيوخ، ويستمع لقصصهم عن السياسة وشؤون المياه والنزاعات القبلية والأعمال، بلغة لم يكن يفهمها. كان يصلي مع أصدقائه السنة أيام الجمعة، كما نشأ في حي يهودي ودرس في مدارس كاثوليكية واعتاد مشاركة أصدقائه طقوس السبت اليهودية. وجد نفسه في مغامرة جديدة مع الإسلام. وأكد أن سنواته في الشرق الأوسط جعلته يتبنى قيمة “التسامح” كبوصلة في حياته.

أشار باراك إلى أن هذه التجربة كانت من الأسس التي بنى عليها عمله كرئيس لمجموعة كولوني كابيتال، شركة الاستثمارات العالمية التي أسسها عام 1991، والتي أصبح لها مكاتب في 19 دولة من ضمنها الشرق الأوسط، وتضم مستثمرين من معظم القارات.

وتحدّث باراك عن انتقاله من القطاع الخاص إلى العمل الحكومي، مبينا أنه تولى منصب نائب وكيل وزارة الداخلية في إدارة الرئيس رونالد ريغان، وهي التجربة التي أتاحت له تقدير كفاءة موظفي الخدمة المدنية والدبلوماسيين، وأهمية التنسيق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وأكد أنه سيقود البعثة الأميركية في تركيا بروح الاحترام والتعاون.

واختتم شهادته بمقولة الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان الشهيرة من دون أن ينسبها إليه واعتبرها شعاراً لعمله الدبلوماسي: “إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها”.

تسلّم باراك مهامه رسمياً في أنقرة منتصف مايو 2025، وقدم أوراق اعتماده للرئيس أردوغان. عمل منذ وصوله على فتح قنوات التواصل مع المسؤولين الأتراك، فاجتمع مع وزير الخارجية هاكان فيدان وبدأ لقاءات تعريفية مع كبار المسؤولين، ليُعيَّن قبل أسبوعين بمنصب المبعوث الأميركي إلى سوريا أيضاً.

سايكس-بيكو وخطاب التجاوز

ويبدو أن باراك يحب استخدام “التضمين الرمزي” في خطابه والأسلوب السردي وكتب بعد لقائه بالمسؤولين السوريين في إسطنبول منشوراً أثار اهتماماً كبيراً حين قال: “قبل قرن، فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدوداً مرسومة بقلم رصاص، وحكماً أجنبياً. اتفاق سايكس-بيكو قسّم سوريا والمنطقة من أجل مكاسب إمبريالية، لا من أجل السلام. لقد كان خطأً كلّف أجيالاً، ولن نكرره”.

وأضاف: “زمن التدخلات الغربية قد ولّى. المستقبل هو للحلول الإقليمية، للشراكات، ولدبلوماسية قائمة على الاحترام”. واستشهد بكلمة للرئيس ترامب ألقاها في الرياض بتاريخ 13 أيار/مايو، قال فيها إن “زمن تدخّل الغربيين في الشرق الأوسط لإلقاء المحاضرات عن كيفية العيش والحكم قد انتهى”. وتابع: “مأساة سوريا وُلدت من الانقسام، ونهضتها يجب أن تبدأ بالكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها. وهذا يبدأ بالحقيقة والمحاسبة، والعمل مع دول المنطقة لا الالتفاف عليها”.

وفي إشارة إلى التغير في طبيعة الدعم، أكد: “نقف إلى جانب تركيا والخليج وأوروبا – ليس بالقوات والمحاضرات أو الحدود المتخيلة، بل جنباً إلى جنب مع الشعب السوري.. مع سقوط نظام الأسد، بات الباب مفتوحاً للسلام – ومن خلال رفع العقوبات، نتيح للسوريين أخيراً فرصة عبور ذلك الباب نحو طريق الأمن والازدهار”.

 رغم شاعرية الخطاب فإنه لا ينفصل عن إشكالية جوهرية: فهو في الوقت الذي يدين فيه تقسيمات القرن العشرين، يغضّ النظر عن الجولان السوري المحتل. ففي عام 2019، اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسمياً بضم إسرائيل للجولان، في مخالفة واضحة لقرارات الشرعية الدولية، وعلى رأسها القرار 497 لمجلس الأمن. هذا الاعتراف لم يكن مجرد موقف رمزي، بل خطوة قانونية – سياسية تُكرّس تغييراً في حدود دولة ذات سيادة، بفعل قوة خارجية يتطابق مع جوهر سايكس-بيكو.

واستخدام باراك للتاريخ بهذه الطريقة يُضفي إيحاءً بحدوث تحول أو تجاوز للماضي، من دون أن يُرافقه أي تغيير حقيقي في أدوات السيطرة أو أنماط النفوذ. أما الحديث عن “الحلول الإقليمية” كمستقبل بديل، فيفترض وجود إقليم موحد ومنسجم، بينما الواقع يكشف عن تباين حاد في المصالح وتفاوت في مستويات التأثير والقدرة بين دول الجوار السوري.

من هو توماس باراك؟

يُعد توماس جوزيف باراك شخصية محورية في تقاطع عالم المال والسياسة الأميركية، فهو رجل أعمال ملياردير وصديق مقرب ومستشار للرئيس السابق (والحالي) دونالد ترامب. وُلد باراك في كاليفورنيا عام 1947. نشأ في كولفر سيتي حيث كان والده يمتلك متجر بقالة. تخرج من جامعة جنوب كاليفورنيا بدرجة بكالوريوس في التاريخ عام 1969، وبرز كرياضي في فريق الرجبي بالجامعة. واصل دراسته وحصل على درجة الدكتوراة في القانون من جامعة سان دييغو عام 1972، كما عمل محرراً لمجلة القانون في كلية الحقوق بجامعة USC.

بدأ باراك مسيرته المهنية كمحامٍ وعمل لفترة في مكتب المحامي الشخصي للرئيس نيكسون، هربرت كلومباك. لكن نقطة التحول المبكرة كانت في السبعينيات عندما أوفد إلى المملكة العربية السعودية للعمل هناك. هذه الفترة سمحت له باكتساب خبرة في المنطقة وتأسيس علاقات مع مستثمرين من الشرق الأوسط، كما ساهمت في تعلمه اللغة العربية بدرجة معينة من الطلاقة بفضل جذوره الشرق أوسطية وعمله في السعودية.

في عام 1985، دخل باراك قطاع الاستثمار العقاري الخاص. كانت أول صفقة بارزة له مع دونالد ترامب حين باعه حصة في سلسلة متاجر ألكسندرز. في عام 1990، أسس شركته الخاصة Colony Capital (التي عُرفت لاحقاً باسم Colony NorthStar ثم DigitalBridge). حققت شركته نجاحاً كبيراً في اقتناص الأصول والعقارات المتعثرة وتحويلها إلى أرباح، محققة عوائد بنحو 50% في أول عامين.

توسعت استثمارات باراك لتشمل مئات الملايين من الدولارات في العقارات بالشرق الأوسط وأوروبا، وشراء أصول معروفة مثل فندق بلازا في نيويورك ومنتجع “نيفرلاند” الخاص بمايكل جاكسون. كما دخل مجال الاستثمار الرياضي والإعلامي، حيث اشترى نادي باريس سان جيرمان الفرنسي لكرة القدم عام 2012 قبل أن يبيعه لجهاز قطر للاستثمار، واستحوذ على شركة ميراماكس للإنتاج السينمائي ثم باعها لجهات قطرية محققاً أرباحاً. هذه النجاحات أدخلته لفترة ضمن قائمة فوربس لأغنى أثرياء العالم، حيث احتل المرتبة 833 بثروة قدرت بـ 1.1 مليار دولار في 2011. ورغم تراجع ثروته عن عتبة المليار لاحقاً، ظل مؤثراً، خاصة في جذب رؤوس أموال خليجية وآسيوية لشركته.

صديق ترامب وجسره نحو الخليج:

لم يقتصر دور باراك على الأعمال، بل بنى شبكة علاقات سياسية قوية، أبرزها صداقته الطويلة مع دونالد ترامب التي تعود لثمانينيات القرن الماضي عبر صفقات عقارية. أصبح باراك أحد أبرز الداعمين الماليين لحملة ترامب الرئاسية عام 2016، حيث جمع التبرعات وساهم في التمويل. الأهم من ذلك، لعب دوراً كمستشار خلف الكواليس وحلقة وصل بين حملة ترامب وبعض قادة الشرق الأوسط. كشفت تقارير عن فتحه قنوات اتصال مع مسؤولين في الإمارات والسعودية، وتوصيته بتعيين بول مانافورت مديراً للحملة، وسعيه لترتيب لقاء بين مانافورت ومسؤولين خليجيين. هذا الدور جعله يُوصف بأنه “جسر ترامب نحو أمراء الخليج”، مستفيداً من علاقاته القديمة هناك، مثل صداقته وعمله السابق مع السفير الإماراتي يوسف العتيبة. سعى باراك لطمأنة المسؤولين الخليجيين حيال تصريحات ترامب المثيرة للجدل، واصفاً ترامب في رسالة للعتيبة بأنه “ملك المبالغة ويمكننا إرشاده نحو الحكمة” ومؤكداً حاجته لعقول عربية حوله.

بعد فوز ترامب عام 2016، ترأس باراك لجنة تنصيب الرئيس. ورغم التوقعات، نأى بنفسه عن تولي منصب رسمي بارز، ورفض عروضاً مثل وزير الخزانة. اقترح إنشاء منصب مبعوث رئاسي للتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط ليتولاه، لكن الفكرة لم تلق دعماً. عاد للتركيز على أعماله، واستفادت شركته Colony NorthStar بعد الانتخابات من الأجواء الإيجابية مع الحلفاء الخليجيين، مستقطبة أكثر من 7 مليارات دولار استثمارات، نحو 24% منها من صناديق سيادية ومستثمرين في الإمارات والسعودية.

قضايا قانونية وتبرئة مفاجئة:

على الرغم من نفوذه، واجه باراك متاعب قانونية كبيرة. في يوليو 2021، اتهمته وزارة العدل الأميركية بالعمل كعميل أجنبي غير مسجل لصالح الإمارات، والتآمر، وعرقلة العدالة، والإدلاء ببيانات كاذبة لمكتب التحقيقات الفدرالي (FBI). زعمت الوزارة أنه استغل نفوذه للتأثير على السياسات الأميركية لصالح دولة أجنبية من دون الإفصاح القانوني، وأن شركته تلقت مئات الملايين من الصناديق الإماراتية في أثناء سعيه للتأثير على مواقف ترامب.

تم اعتقاله في 2021 وأفرج عنه بكفالة ضخمة بلغت 250 مليون دولار. استمرت القضية حتى محاكمته أمام هيئة محلفين في نيويورك عام 2022. في نوفمبر 2022، برّأته هيئة المحلفين من جميع التهم. اعتبرت التبرئة مفاجئة للكثيرين نظراً لجدية التهم، ورأى محللون أنها أظهرت صعوبة إدانة شخصيات مقربة من الرئيس. طويت صفحة القضية من دون إدانة، مما أزال عقبة أمام تعيينه لاحقاً في مناصب رسمية.

تلفزيون سوريا

—————————-

حي سوريا الصغرى: ذاكرة العرب الأوائل في قلب نيويورك

ربى خدام الجامع

2025.05.29

نشرت صحيفة The City الأميركية تقريرًا موسعًا، سلطت فيه الضوء على حي “سوريا الصغرى” الذي كان مركزًا للجالية العربية في نيويورك خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. استعرض التقرير تاريخ هذا الحي الذي ازدهر بين عامي 1880 و1940، حيث استقر فيه مهاجرون عرب، معظمهم من بلاد الشام، وأسّسوا مجتمعًا نابضًا بالحياة في منطقة باتري بارك السفلى.

فيما يلي الترجمة الكاملة للتقرير:

كان أنطوني جانسين فان سالي أول مسلم يصل إلى مانهاتن ويستقر فيها في عام 1633، وبعد مرور ست سنوات على ذلك، طُرد هذا الهولندي ذو الأصول التي تعود لشمالي أفريقيا لأنه كان مثيراً للشغب، بعد أن أصبح أحد ملاك الأراضي ضمن ما كان يعرف وقتئذ بنيو أمستردام، فنُفي إلى مناطق نائية في بروكلين، وذلك بعد أن ارتكب أعمالاً مشينة غريبة، كان من بينها دفع ديونه بواسطة تيس ميت.

كان فان سالي ابناً لقرصان هولندي غيّر دينه بعد أن قبض عليه قراصنة بارباري ثم انضم إلى صفوفهم، ومن نسلهم انحدرت عائلات ملكية سكنت مدينة نيويورك مثل عائلة فانديربيلت وويتني. وقصة هذا الرجل ليست سوى قصة من بين قصص كثيرة شيقة يسمعها عشاق التاريخ خلال جولة سياحية يقودها المرشد أسعد دانديا، 32 عاماً، وذلك في حي المقاطعة المالية التي كانت تعرف بسوريا الصغرى خلال فترة سابقة.

ودانديا هذا مؤرخ تعود أصوله لجنوبي بروكلين، وقد كسب دعوى كان قد رفعها على شرطة نيويورك في عام 2013، عندما كان طالباً بكلية كينغزبورو كوميونيتي، وذلك عندما اتهم ذلك الجهاز بمراقبته ومراقبة كل المسلمين الذين تنحدر أصولهم من نيويورك، والآن، أصبح هذا الشاب يترأس شركة تقدم جولات سياحية سيراً على الأقدام وتحمل اسم: حكايات نيويورك.

ودانديا مؤيد بارز عبر الإنترنت لزهران معضماني، وهو شاب عمره 33 سنة، وعضو في المجلس الاشتراكي يسعى للفوز بالانتخابات وذلك ليصبح أول عمدة مسلم لهذه المدينة.

خلال يوم الثلاثاء الماضي، قدم دانديا خدمة الإرشاد السياحي لأكثر من عشرة طلاب من كليات كولومبيا وبارنارد وذلك عبر أخاديد القسم السفلي من مانهاتن.

“سوريا الصغرى” ما هو إلا لقب أطلق على الحي السكني الواقع في باتاري بليس ما بين شارع واشنطن وشارع غرينويتش، والذي ازدهر خلال الفترة ما بين عامي 1880-1940، وذلك إلى أن قام روبرت موسى “سمسار السلطة” بمدينة نيويورك بالاستعانة بحق الاستملاك لهدم بيوت المهاجرين ومحالهم التجارية بهدف فتح الطريق أمام إنشاء نفق Hugh L. Carey.

ولعل قصة فان سالي بدأت من هنا، إذ يحكي دانديا للسياح المتجولين معه: “على الرغم من أنه كان مسلماً، فإنه لم يكن ورعاً، بل كان صاحب مشكلات كثيرة، ولهذا سأخرج هاتفي لأعدد جرائمه عليكم من خلاله”.

شملت تلك القائمة سرقة الحطب من عند جيرانه، ودفع الأموال التي يدين بها بواسطة تيس ميت، والسماح لكلبه بقتل خنزير جاره، وفان سالي الذي كان يعرف بين الناس باسم “أنطوني التركي” على الرغم من أنه لم يكن تركياً، وجه فوهة بندقيته تجاه أحد مشرفي شركة الهند الغربية، والتي كانت تقبض على العبيد الأفارقة وتبيعهم، كما قبض في إحدى المرات على جابي الديون وهدده بإهراق دمه بعد أن طالبه بدفع الديون المستحقة.

أما زوجة فان سالي، واسمها غريتجي رينيرز، فلم تسمح له بالتفوق عليها، ولذلك اتهمت زوجة الزعيم الروحي في المستعمرة بأنها عاهرة خائنة لزوجها، على الرغم من أنها هي نفسها اشتهرت بممارسة مهنة الدعارة.

يحدث دانديا السياح فيقول: “لا يمكنك أن تتهم أحداً بتلك التهمة في أي وقت، ولكن في مستعمرة كانت موجودة في القرن السابع عشر، يسكنها 1500 شخصاً، فإن القواعد الاجتماعية كانت مختلفة جداً عما هي عليه اليوم، أي أن العهر كان يعتبر من كبائر الجرائم”.

خضع فان سالي وزوجه للمحاكمة، فدانته المحكمة لكنه رفض التراجع عن أي اتهام أو دفع أي دين من ديونه، ولهذا “نفوه إلى مكان بعيد يعرف باسم بروكلين”، وهكذا جعل دانديا الطلاب الذين رافقوه يقهقون بصوت عال.

وعندما عاش فان سالي في كوني آيلاند، تملك 200 فدان من الأراضي الزراعية ضمن ما يعرف اليوم ببروكلين، ثم عاد إلى مدينة نيويورك بعد مدة طويلة، وبعد أن غير البريطانيون اسمها إثر سيطرتهم عليها، وهناك باع بيته في ستون ستريت بالقرب من المكان الذي كان يعيش فيه قبل نفيه.

في مكالمة هاتفية أجريت مع دانديا، وهو ابن لمهاجرين باكستانيين يعمل مدرساً بمتحف مدينة نيويورك وأستاذاً مساعداً يدرس تاريخ مدينة نيويورك بكلية غوتمان كوميونيتي في ميدتاون مانهاتن، قال: “باعتقادي ما يميز أنطوني وزهران هو أنهما متعددا الثقافات وأتيا من بيئة منفتحة على تعدد الثقافات، وهذا ما جعلهما من سكان نيويورك المثاليين بطريقة ما”.

فمعضماني ابن المخرج مير نعير الذي أخرج أفلاماً منها فيلم Mississippi Masala الذي صدر في عام 1991 وهو من بطولة دينزيل واشنطن، ويعالج هذا الفيلم قصة حب بين أميركي أسود وأميركية من أصول هندية، وهذا الفيلم من تأليف محمود معضماني وهو كاتب أوغندي ولد في الهند، وأستاذ بعلم الاجتماع والعلوم السياسية بجامعة كولومبيا.

إن نشاط معضماني وعمله في مجال البحث العلمي جعله يرى العالم كله، ما يعني بأن زهران تنقل كثيراً هو الآخر خلال نشأته، وذلك بعد مرور قرون على تحول ابن القرصان فان سالي إلى أول مسلم يمتلك عقاراً في نيويورك.

أسوار وتماثيل

يبدأ دانديا جولته السياحية في سوريا الصغرى بالقرب من محطة وايتهول للعبارات التي تأخذك لجزيرة ستيتين، فيعرض على الطلاب خارطة لنيو أمستردام التي أسسها الهولنديون بعد أن سيطروا على المنطقة التي انتزعوها من قبائل لينابي في عام 1624.

ثم يخاطب الطلاب فيقول: “أنشؤوا هذه المستعمرة التي ضمت نحو 1500 شخصاً، وحصنوها بسور عال، إذ استعانوا بهذا السور لصد السكان الأصليين ولمنعهم من استعادة الأرض، وكذلك لمنع وصول منافسيهم الأوروبيين، وعلى رأسهم البريطانيون” ويشير إلى أحد المواقع على الخريطة التي تمثل اليوم قطاع وول ستريت، ثم يتابع: “إن هذا الجدار قد انقض، وهم يطلقون عليه اليوم وول ستريت”.

بعد ذلك يأخذ دانديا السياح إلى عدد من أبرز المعالم ومنها مبنى Fraunces Tauvern الشهير في برود ستريت، وبيرل ستريت حيث خطط واشنطن للثورة الأميركية، وبولينغ غرين، التي تعتبر الباحة الخلفية لسوريا الصغرى، بعد ذلك يحدثهم عن النسخة الأولى لتمثال الحرية الذي كان بالأصل هدية مخصصة للإمبراطورية العثمانية، حتى تنصبه عند قناة السويس بحيث يشع بنوره على الشرق كله.

وخلال فترة توافد موجات المهاجرين القادمين من أيرلندا وألمانيا على مدينة نيويورك خلال أربعينيات القرن العشرين، لم تصل أول موجة من المهاجرين العرب حتى ثمانينيات القرن نفسه، إذ مع تراجع صناعة الحرير، والتحديات التي شهدتها الزراعة، وظهور توتر عرقي وديني مع الحكام العثمانيين، وعمليات التجنيد التي مارستها المدارس التبشيرية الأميركية، كل ذلك أسهم في ظهور موجة هجرة عربية بحسب ما يسرده دانديا.

معظم المهاجرين العرب كانوا مسيحيين غادروا بلاد الشام ووصلوا إلى هذه المدينة، فافتتحوا متاجر فيها وعاشوا في أحياء أقيمت على جانبي شارع واشنطن، إلى جانب المهاجرين الأيرلنديين والألمان والقادمين من أوروبا الشرقية.

افتتح التجار السوريون مشاريعهم على الجانب الغربي من شارع واشنطن، وهو الشارع الرئيسي في سوريا الصغرى، بما أنه قريب من الواجهة البحرية الجنوبية التي تتم من خلالها عمليات التبادل التجاري.

يخبرنا دانديا بأن السوريين هنا كانوا: “تجاراً وباعة متجولين، وأشخاصاً انخرطوا في التجارة والتبادلات التجارية” ويؤكد بشكل كبير على المنسوجات التي تشمل الألبسة الداخلية والحمالات وزي الكيمونو التقليدي الياباني.

وقد انتهت الأمور بأحد التجار السوريين، واسمه إبراهيم سعادة، إلى تأسيس سلسلة متاجر Sahadi’s في عام 1895، والتي أصبحت أشهر سلسلة متاجر متخصصة بالبقالة والمأكولات الشرق أوسطية كما أضحت من المعالم الأساسية لشارع أتلانتيك ببروكلين، بعد أن قامت تلك المدينة على أنقاض سوريا الصغرى.

في حين أسس سوري آخر اسمه نجيب عربيلي صحيفة نجمة أميركا في عام 1892، وهي أول صحيفة تكتب باللغة العربية في نيويورك، وقد أقامها في بيرل ستريت بالقرب من مبنى Fraunces Tavern، تعود أصول عربيلي إلى دمشق، وقد كان هو وأسرته من أوائل من استوطنوا سوريا الصغرى، حيث وصل إليها بعد أن انضم لمدرسة تبشيرية في نوكسفيل بولاية تينيسي الأميركية.

أقيمت مصانع في سوريا الصغرى لتستقطب من لا يحبون التجارة وإدارة الأعمال، لكنها لم تسمح للسوريين بالعمل فيها، إذ يخبرنا دانديا: “كان مصنع بابيت للصابون مصنعاً أيرلندياً متخصصاً بصناعة الصابون لكنه لم يكن يوظف أي سوري”.

عاش سكان تلك المنطقة، وأغلبهم تجار، في الجانب الشرقي من شارع واشنطن في مستوطنات لم يكن فيها تدفئة، وكانت نساؤهم ترتدي طبقات متعددة من الثياب “وذلك ليس لأسباب دينية بالضرورة، ولكن لأن البرد كان قارصاً، ولم تكن لديهم تدفئة، ولهذا كانوا يرتدون طبقات كثيرة من الثياب، ولم يكن الأمر محبباً بالنسبة لهم، لأن معظمهم كانوا يعانون بسبب ذلك”.

ولكن لم يتبق في سوريا الصغرى أي معاناة أو نجاح بعد أن هدمت في عام 1942 من أجل فتح طريق لنفق Hugh L. Carey، وهنا يخبر دانديا الطلاب عند وقوفهم قبالة النفق: “بوسعكم القول بأن أربعينيات القرن التاسع عشر شهدت نهاية سوريا الصغرى بوصفها حياً سكنياً”، ثم يخبرهم كيف تمسك بعض السكان بالحي فوصلهم إنذار يطالبهم بإخلاء بيوتهم خلال 24 ساعة.

وهكذا انتقل معظم سكان الحي إلى شارع أتلانتيك الذي مايزال مركزاً نشطاً للتجارة العربية.

خلال هذه الجولة، يقول دانديا للطلاب: “فكروا الآن بالأحياء العربية الكبيرة في مدينة نيويورك، إن أول منطقتين خطرتا على بالي هما أستوريا وباي ريدج، أليس كذلك؟ وما القطارات التي تأخذكم إلى هناك؟ إنه الخط R الذي نقل الجالية إلى هناك حيث توجد اليوم”.

ويخبر دانديا الطلاب بوجود سكان عرب استقلوا معهم العبارة نفسها وذلك حتى يصلوا إلى أحيائهم الجديدة.

يوضح دانديا في جولاته السياحية كيف يلهم الماضي الحاضر بطرق لا يمكن للمرء أن ينساها، إذ يخبرنا دانديا في إحدى جولاته أنه في عام 1776، دعا جورج واشنطن الذي كان جنرالاً وقتئذ العساكر الأميركيين وسكان مدينة نيويورك لإسقاط تمثال الملك جورج الإنكليزي الموجود في بولينغ غرين.

ويقارن دانديا تلك الحادثة بالجهود التي تبذل منذ مدة لإزالة جميع النصب التذكارية الكونفيدرالية المنتشرة في مختلف أنحاء البلد، ويقول: “إن إزالة التماثيل عمل أميركي بامتياز، فقد قرر واشنطن بأن الملك جورج لا يمثل القيم التي يتبناها هو”، ويتابع: “عندما نقرر بأن التناقضات التي تأسست عليها أميركا لا تمثل مبادئنا.. فيمكننا عندئذ أن نزيل تماثيل الأشخاص الذين لا يمثلونها”.

المصدر: The City

تلفزيون سوريا

———————————–

إعلاءٌ لصوت الحزن المؤجل في دمشق.. باسل شحادة في ذكرى وفاته الأولى بعد التحرير/ حنين عمران

2025.05.29

لطالما ترددت على مسامعنا مقولة “الذاكرة عتاد الثائرين”، لكن قصة باسل شحادة، تخبرنا بأن تلك المقولة ما كانت “عن عبث”، بل جسدها باسل خلال رحلة كاميرته القصيرة، والاستثنائية في الوقت نفسه.

وللمرة الأولى بعد أكثر من من ثلاثة عشر عاماً، تُراق الدموع علنا على فراقه ممّن عرفوه وأحبوه أو حتى سمعوا به مصادفةً!

دموعٌ لم يمنعها الحاضرون في “بيت فارحي” وسط دمشق، كما منعها المشيعون والمعزّون قبل سنوات خوفاً من بطش مخابرات النظام وملاحقة شبيحته.

ولربما كان انتهى الحزن لو أن باسل ورفاقه كانوا موجودين حتى يوثقوا لحظات التحرير كما وثقوا بدايات الثورة وعنفوانها الأول.

كاميرا فوق الجثمان: بداية الطريق

في حديثها الذي لم يخلُ من الغصّة والحُرقة، تحدثت (وفا علي مصطفى) عن صديقها باسل وعن أول ما وثقته كاميرا باسل؛ إنه تأبين شهيد في كفرسوسة بدمشق.

“لماذا وضعت الكاميرا فوق جثمان الشهيد بينما يطوف المشيعون بالجثمان؟” سألته (وفا).

فأجاب: “ليكون مشهداً بأعين الشهيد نفسه”.

تلك كانت البدايات الإبداعية لمصور ومخرجٍ أراد للثورة أن تقترن بالفن بينما كان الثوار في حمص، والذين صورتهم كاميرا باسل، يهتفون “سلمية سلمية غصباً عنك يا أسد”.

لم يكن باسل آنذاك يعرف بأنه ستكون للثورة ذاكرة طويلة تأبى النسيان والاندثار؛ ذاكرة صنعتها الكاميرات كما دافعت عنها البنادق.

تقول (وفا): “علمنا باسل، حتى بعد غيابه، كيف نحبّ هذه البلاد وأهلها، دون تفكير بانتماء أو تعريف أو هوية.. إنه حبٌّ خالص يأبى الهزيمة”.

صديق الطريق.. صديق المصادفة

صار باسل بصورته العفوية، لمن كانوا حوله “أيقونة” حاضرة بينهم على الدوام حتى بعد سنوات من رحيله.

تقول صديقته (بشرى علي): “كنت ألقاه في الطريق إلى العمل، في باب شرقي، وفي كل مكان.. وكما كتب عنه الصديق غيث أديب، مرةً على فيسبوك: باسل رح يشتقلك الطريق!”.

ولأنه صديق الطريق الوفي، كان فيلم “شوارعنا” شاهداً على شابٍ حمل روحه بيد وأمسك الكاميرا باليد الثانية، وسار في طريقٍ لا يخشى مخاطره.

قرر باسل تصوير فيلم “شوارعنا” في الذكرى الأولى للثورة السورية، في مناطق مختلفة من سوريا، من حمص إلى غوطة دمشق إلى درعا والساحل وسلمية.

بسيارتهم المدججة بالكاميرات، والتي تقودها شابة (لينا الحافظ)، تنقلوا ونقلوا مشاهد الثورة لإنتاج فيلم عن ثورةٍ حاول نظام الأسد وأدها بوأد أبنائها.

تقول (لينا): “نجونا من حواجز الأمن المنتشرة بين منطقة وأخرى، لقد انطلت عليهم حيلة الفتاة في كرسي القيادة. وصلنا إلى الشام بعد إنهاء التصوير، لكن تعطُّل الجهاز ووحدة التخزين (الهارد) كان صدمةً أحبطتنا.. لقد فقدنا كل شيء!”.

أما باسل فقد كان له قرار آخر بعد فقدان المواد المصورة، أخبر باسل أصدقاءه: “ما عندي وقت وقّف.. هذا يلي صار! أنا رايح صوّر شيء ثانٍ”.

وشاءت الأقدار أن يُعرض فيلم “شوارعنا” بعد رحيل باسل؛ لقد وصل (الهارد) إلى مؤسسة “بدايات” التي استعانت بخبير تقني تمكن من استخراج جزءٍ من المواد المصورة القابلة للإنتاج. فكان الفيلم دليلاً آخراً وأخيراً على شجاعة شابٍ ترك بصمته في ذاكرة الثورة السورية.

مجزرة الحولة وسقوط الشاب “المضاد للرصاص”

ضحايا من الأطفال، عائلات كاملة، ضحايا من النساء، في مجزرة هزّت كيان العالم وتلقّت من الوعود بالتحقيق والمحاسبة أكثر مما سال فيها من الدماء!

هي مجزرة الحولة التي دفعت بباسل والرفاق إلى درب الحقيقة المارّ بالموت.

كانوا أربعة شبان وكان أكبرهم باسل شحادة في الثامنة والعشرين من عمره، سقطوا جميعاً بقذيفة هاون “أسدية” في الثامن والعشرين من أيار 2012، بحي باب سباع بحمص.

تقول (لينا): “لكثرة ما نجا باسل من ملاحقات الموت، ظننا أنه سينجو دائماً حتى سميناه: الشاب المضاد للرصاص، لكنه رحل وسط ذهول الجميع”.

 “البعبع الأمني”.. مأساة عائلة خائفة

كان السؤال الأول الحاضر في أذهان الأهل والأصدقاء بعد رحيل باسل شحادة:

كيف يصل الجثمان إلى دمشق دون أن ثعبث به مخالب المخابرات ودون أن تُنتزَع النعوات المعلقة على الجدران كما انتزعوا روح باسل؟!

تقول (لينا): “لم يقدم لنا أحد أيَّة ضمانة، ولا حتى المراقبون الدوليون الذين كانوا آنذاك في سوريا، لقد قالوها صراحةً: لا نستطيع ضمان وصول الجثمان بسلام”.

وصار حقاً ما كان مسبباً للخوف، إذ يروي أصدقاء باسل كيف هاجم شبيحة الأسد كنيسة “الكيريلوس” في منطقة القصاع وسط دمشق، واعتقلوا ثلاثة من المعزّين وتحول التشييع إلى “مسيرة” تهتف لرأس النظام المخلوع.

تقول (لينا): “وصلتُ مساءً من حمص إلى دمشق، ومشيت من باب شرقي إلى بيت باسل، ولم أجد نعوة واحدة له.. كان الطريق مظلماً كما البلاد، لقد اقتلعوا كل النعوات على الرغم من مخاطرة الأصدقاء في أثناء تعليقها”.

من أجل الضحايا.. مواطنة بلا ضحايا!

لم يكن الخلاص من حكم الأسد مجانياً، بل كان طريقاً طويلاً معبداً بأجساد السوريين، مرسوماً بدمائهم في المعتقلات وساحات التظاهر.

وقد أدرك باسل شحادة ذلك منذ البدايات حينما قال لأصدقائه “كيف لي أن أترك الثورة لأهتم بمستقبلي؟ أين هو هذا المستقبل من دون وطنٍ حُر؟”.

ولأن الأثمان التي دُفِعَت غاليةٌ إلى هذا الحد، فلا بدّ من أن تكون الحرية والمواطنة حقاً لا خلاف فيه ولا نقاش.

تقول (وفا): “يجب أن نعمل لبلد لا يكون فقد الحياة والتغييب القسري ثمناً يُدفع مقابل القانون والحرية والعدالة فيه”.

—————————-

عالم مستمر في التحول وموقع العرب بين الحاضر والماضي/ عدي محمد الضاهر

2025.05.29

في خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي، تعود الولايات المتحدة الأميركية اليوم إلى موقع الفاعل الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، لكن هذه العودة ليست كتلك التي اعتاد عليها العالم العربي في العقود الماضية.

لم تعد واشنطن تنظر إلى المنطقة من زاوية التدخل العسكري المباشر، أو من خلال فرض الإملاءات السياسية كما جرى بعد أحداث 11 سبتمبر أو غزو العراق، بل بدأت تتبنى منهجًا أكثر براغماتية، قائمًا على التفاعل الذكي وبناء الشراكات.

في قلب هذا التوجه الجديد، تظهر معالم ما يمكن تسميته بـ نظرية الاستدعاء الاستراتيجي وهي نظرية سياسية معاصرة اقترح فيها أن القوى الكبرى، حين تواجه تحديات عالمية جديدة، تميل إلى استحضار أدوات وتجارب سابقة أثبتت نجاعتها، لكن بعد تكييفها مع البيئة الجيوسياسية المستحدثة. ليست هذه عودة إلى الماضي بمعناه الحرفي، بل هي إعادة استخدام مُوجّهة واستباقية لما كان فعّالًا في سياقات قديمة، مع إعادة هندسته وفق المعطيات الراهنة.

من الحرب الباردة إلى الحرب على النفوذ الصيني …إعادة تفعيل نموذج الاحتواء

قبل أكثر من نصف قرن، واجهت الولايات المتحدة التوسع السوفييتي عبر استراتيجية محورية عُرفت باسم الاحتواء(Containment) وهي التي شكّلت العمود الفقري للسياسة الأمريكية خلال الحرب الباردة.

هذه الاستراتيجية لم تكن محض عداء أو صراع مباشر، بل كانت قائمة على تطويق النفوذ السوفييتي عبر تحالفات، قواعد عسكرية، دعم اقتصادي للدول الحليفة، وتعزيز منظومات الردع.

بدأت مع رسالة لدبلوماسي أميركي ” جورج كينان” ينصح بها الإدارة الأميركية في سياسة الاحتواء وطورها واستخدمها الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان.

اليوم، في عالم يوصف من قبل بعض المحللين السياسيين بعالم متعدد الأقطاب، تواجه الولايات المتحدة خصمًا استراتيجيًا عنيداً ، الصين، الصعود الصيني ليس عسكريًا بالدرجة الأولى، بل هو تمدد اقتصادي وتجاري وتكنولوجي عابر للحدود.

وهذا ما جعل واشنطن تُعيد استدعاء نموذج الاحتواء، ولكن بأساليب محدثة تتناسب مع طبيعة التحدي: حماية سلاسل الإمداد، تقوية النفوذ التكنولوجي الأميركي، تعزيز الشراكات الاقتصادية، والتصدي لتغلغل الصين في البنى التحتية للدول النامية.

وهنا تتجلّى “نظرية الاستدعاء الاستراتيجي”، فواشنطن لا تبتكر استراتيجية جديدة كليًا، لكنها تُفعّل تجربة تاريخية ناجحة بعد تكييفها مع متطلبات العصر.

الدول العربية: ساحة استراتيجية وشريك ضروري

لم يكن اختيار الولايات المتحدة للمنطقة العربية ضمن أولويات احتوائها للصين أمرًا عشوائيًا. فهذه المنطقة، التي تشكل قلب العالم من حيث الموقع الجغرافي والموارد الطاقوية، باتت مسرحًا لتقاطع النفوذ العالمي بين واشنطن وبكين.

الصين عززت حضورها في السنوات الماضية عبر مبادرة الحزام والطريق واستثمرت بشكل متسارع في موانئ، بنى تحتية، ومشاريع رقمية وطاقية في الخليج وشمالي إفريقيا. في المقابل، تعمل واشنطن الآن على استرجاع المبادرة من خلال تحالفات جديدة مبنية على التنمية المستدامة، التكنولوجيا المتقدمة، والطاقة المتجددة، وليس عبر منطق السيطرة أو الإملاء.

ترى واشنطن أن الشراكة مع الاقتصادات العربية، ودمجها في سلاسل الإمداد الغربية، وتقديم بدائل مغرية لنموذج الاستثمار الصيني، يمكن أن يعزز موقفها في هذه المعركة الاستراتيجية. كما تدرك أن زمن فرض الهيمنة بالقوة قد ولّى، وأن استقطاب الشعوب لا يتم بخطاب فوقي، بل عبر شراكة ذات مصداقية، وبطبيعة الأحوال تستند هذا العلاقة في مضمونها على تاريخ طويل من العلاقات السياسية والعسكرية مما يعطيها تفوق واضح على العلاقات مع الصين التي لطالما كانت تنأى بنفسها عن أي دعم سياسي للكثير من الدول العربية والإسلامية.

دونالد ترمب من خطاب الحملة إلى سياسة الدولة

لعلّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يُجسّد أوضح مثال على استخدام “الاستدعاء الاستراتيجي” بشكل مباشر وعلني. فمنذ حملته الانتخابية في 2016، جعل من الصين العدو الأول للولايات المتحدة، واتهمها بتقويض الاقتصاد الأميركي وسرقة التكنولوجيا وتهديد النفوذ العالمي لبلاده.

وبعد أن عاد إلى البيت الأبيض مرة أخرى في عام 2025، لم يتراجع عن هذا الخطاب، بل رسخ المرحلة الجديدة من رئاسته لتعزيز الاستقلال الاقتصادي الأميركي ومواجهة التوسع الصيني. في خطاب تنصيبه، وعد الأميركيين بأن زمن الضعف قد انتهى وأن بلاده ستستعيد مكانتها العالمية، ليس عبر الحروب، بل من خلال الردع الذكي والمنافسة العادلة.

هذا الربط بين الشعارات الانتخابية والسياسات الرسمية يعكس كيف يُفعّل ترمب بطريقة واعية نماذج سابقة من القوة الأميركية، ويعيد تقديمها في حُلة جديدة، تماشيًا مع فلسفة الاستدعاء الاستراتيجي التي اتمحور حولها.

دول العرب أمام مفترق طرق قد يعيد رسم ملامح المنطقة

الواقع أن الدول العربية تجد نفسها اليوم في موقف حساس. فمن جهة، هي مستفيدة من الاستثمارات الصينية في البنى التحتية والطاقة، ومن جهة أخرى، تعتمد بشكل كبير على الدعم الأمني والعسكري والتكنولوجي من الولايات المتحدة.

لكن النظر من هذه الزاوية فقط هو تبسيط مخل. فالعالم العربي ليس مجرد ملعب تتصارع فيه القوى العظمى، بل هو يملك لو أحسن استغلال الظرف القدرة على أن يتحول إلى لاعب حاسم في تحديد معالم النظام العالمي الجديد.

نظرية الاستدعاء الاستراتيجي لا تخصّ أميركا وحدها، بل يمكن أن تكون دليلًا عمليًا للدول العربية أيضًا: لماذا لا تُعيد الدول العربية بدورها استدعاء تجارب النهضة العربية، والتكامل الاقتصادي، والتحالفات الإقليمية المستقلة التي عرفتها في مراحل سابقة لماذا لا تستثمر هذا الصراع بين واشنطن وبكين لصالح تنميتها الذاتية، وبناء نموذجها الخاص في الشراكة الذي بدوره قد ينعكس على الكثير من الملفات التي أرهقت المنطقة منها ملف فلسطين أو ملف التمدد الإيراني نحو الدول العربية وقد تصل إلى حل لكل هذه الملفات بتوافقات ورؤى جديدة لايحتاج فيها العرب سوى إلى الدبلوماسية المرنة ووضع المصالح في الخانة الأولى

الخطاب الأميركي الجديد هل هو واقع سيستمر ام ضرورة مرحلة؟

في السنوات الأخيرة، بدأ الخطاب الأميركي تجاه العالم العربي يتغير. المسؤولون الأميركيون يؤكدون أن زمن التدخلات الأحادية قد انتهى، وأنهم يطمحون إلى شراكة قائمة على الاحترام المتبادل.

هذه اللغة الجديدة تعكس أيضًا نوعًا من الاستدعاء الخطابي، حيث تحاول واشنطن محو صورة الماضي المليئ بالأخطاء، وتقدم نفسها كشريك في بناء مستقبل المنطقة، لا كقوة مفروضة عليها.

لكن هذا الخطاب، رغم نبرته الإيجابية، لا يمكن فصله عن الهدف الأساسي مثل كسب تحالفات استراتيجية تضمن تطويق الصين، وتضمن عدم فقدان النفوذ في منطقة كانت لعقود طويلة ضمن نطاق الهيمنة الأميركية ومن هذا ينبغي للدول العربية أن تدرك بأن التعاون العربي المشترك هو الذي سيفرض على الولايات المتحدة أن تستمر في نهجها الإيجابي لطالما يحقّق مصالحها دون خسائر، وعليه يمكن حينها أن تبتعد أميركا عن الكثير من الدول التي تمارس سياسة الابتزاز تجاه الولايات المتحدة مثل ” إسرائيل”وهذا ما يمكن أن نراه خلال السنوات القليلة القادمة.

بين الاستدعاء والمبادرة

العالم يعيد ترتيب أوراقه، والقوى الكبرى لا تختلق دائمًا استراتيجيات جديدة، بل تلجأ إلى التاريخ لتستلهم منه حلولًا قابلة للتطبيق. هذا هو جوهر “نظرية الاستدعاء الاستراتيجي” التي نشهد تطبيقها في السياسة الأميركية تجاه الصين والعالم العربي.

لكن السؤال الجوهري يبقى: هل يكون العرب مجرد عنصر ثانوي في معادلة النظام الدولي الجديد التي بدأت إرهاصاته؟ أم أنهم قادرون على استدعاء تجاربهم الناجحة نسبياً أيضًا، والانتقال من دور المتلقي إلى دور المبادر والفاعل الرئيسي.

تلفزيون سوريا

 ———————————–

من الخصومة إلى الشراكة.. كيف غيّر سقوط الأسد قواعد اللعبة بين أنقرة والرياض؟

ربى خدام الجامع

2025.05.28

بعد سنوات من الخصومة التي غذّتها التباينات الأيديولوجية والمصالح الإقليمية، وجدت تركيا والسعودية نفسهما، فجأة، على ضفة واحدة من الصراع السوري، عقب سقوط نظام بشار الأسد في هجوم مباغت للمعارضة السورية في كانون الأول الماضي. ووفقًا لما نشرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية، فإن هذا التحول المفاجئ لم يُنهِ فقط حالة الشقاق بين القوتين “السنيتين” في الشرق الأوسط، بل دفعهما إلى بناء شراكة استراتيجية تهدف إلى دعم النظام الجديد في دمشق، والتصدي للنفوذ الإيراني، وتهيئة الأرض لإعادة سوريا إلى الساحة الدولية.

مشاهد التعاون بين البلدين تجلت بوضوح في القمة المفاجئة التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ومشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر الهاتف.

يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات الدولية المعنية بسوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.

وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:

عاش مركزا القوة السنية الإقليمية، أي تركيا والسعودية، علاقة معقدة سادها الخصام في كثير من الأحيان، وذلك على مدار سنين طويلة، ولكن علاقاتهما تحسنت بشكل كبير بعد سقوط بشار الأسد في سوريا عبر هجوم خاطف للثوار في كانون الأول الفائت.

ومنذ ذلك الحين، وتركيا والسعودية تعملان على ترسيخ استقرار الحكومة الجديدة في دمشق، إلى جانب السعي لإعادة سوريا إلى المجتمع الدولي.

إذاً لا غرو أن تكون أول زيارتين خارجيتين لقائد الثوار الذي أصبح رئيساً لسوريا، أي أحمد الشرع، هي إلى عاصمة المملكة العربية السعودية، أي الرياض، ثم إلى العاصمة التركية أنقرة.

وقد تجلت علاقة المودة تلك بين تركيا والسعودية خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للشرق الأوسط في مطلع هذا الشهر، وذلك عندما عقد اجتماعاً مفاجئاً مع الشرع في الرياض، وكان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حاضراً في القاعة كما انضم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للاجتماع عبر الهاتف.

وعندما أعلن ترمب عن رفع العقوبات المفروضة على سوريا، أشاد بولي العهد السعودي وأردوغان اللذين كان لهما الفضل بإقناعه على اتخاذ تلك الخطوة.

جذور تصدع العلاقات

كانت هنالك “أسباب إقليمية وأيديولوجية” للتنافس التركي-السعودي في السابق، وذلك برأي الباحثة التركية سينام جينكيز من مركز الدراسات الخليجية بجامعة قطر.

تتمتع كلتا الدولتين بصفة “قوة متوسطة” ويقصد بذلك الدولة التي تتمتع بنفوذ عالمي، لكنها لا تتمتع بالنفوذ الذي تتمتع به القوى العظمى، وهذا ما “خلق حالة تنافس على الهيمنة الإقليمية” بحسب رأي تلك الباحثة التركية.

ثم إن لكل دولة منهما نهجها في الإسلام السياسي، فقد دعمت تركيا الإخوان المسلمين، تلك الحركة الإسلامية العربية التي تعتبرها السعودية تنظيماً إرهابياً، وكذلك تراها دول عديدة في الشرق الأوسط.

وبعد أن انطلق قطار الربيع العربي في المنطقة في عام 2011، دعمت تركيا وبكل صراحة الانتفاضات الشعبية، في حين بقيت المملكة حذرة تجاهها، غير أن كلاً من أنقرة والرياض دعمتا فصائل معادية للأسد خلال الحرب السورية التي امتدت لثلاثة عشر عاماً ونيف.

وعند حدوث أزمة دبلوماسية بين السعودية وقطر في عام 2017، انحازت تركيا إلى قطر، ثم وصلت العلاقات بينها وبين السعودية إلى أدنى مستوياتها في عام 2018.

كيف حسّن سقوط الأسد العلاقات بين البلدين؟

يرى محللون بأن سقوط الأسد وظهور واقع جديد في سوريا دفعا نحو ذوبان مزيد من الجليد الذي اكتنف العلاقة بين هاتين الدولتين اللتين تعتبران من أهم الدول الحليفة للولايات المتحدة.

يعلق على ذلك هشام الغنام، وهو متخصص سعودي بالعلوم السياسية وباحث غير مقيم لدى مركز كارنيغي للشرق الأوسط، فيقول إن ذلك الزخم هو الذي “غيّر العلاقات بين تركيا والسعودية بشكل كبير”.

فقد تلاقت مصالح الدولتين في سوريا بعد الأسد، ولذلك تحولت العلاقة بينهما من “التنافس إلى التعاون البراغماتي” بحسب رأي الغنام.

شاطرت أنقرة الرياض بالقلق تجاه تنامي النفوذ الإيراني في سوريا أيام الأسد، بيد أن هذا النفوذ اختفى مع رحيله، والآن صارت كلتا الدولتين تسعيان لضمان عدم عودة طهران إلى سوريا بحسب رأي الغنام.

كما أن لدى هاتين الدولتين مخاوفهما الأمنية في سوريا، وتعود تلك المخاوف بنظر تركيا إلى حدودها الطويلة غير المستقرة مع سوريا، وإلى الفصائل الكردية المتمردة على تركيا والتي وجدت لنفسها ملجأ آمناً لدى الكرد في سوريا.

أما المملكة فيقلقها أمر تهريب مخدر الكبتاغون في المنطقة، بما أن هذا المنشط كان المصدر الأساسي للأرباح بالنسبة لآل الأسد.

يعلق الغنام على ذلك فيقول: “إن حاجتهما المشتركة للتصدي لإيران، ولإدارة ملف انعدام الاستقرار في سوريا، وسعيهما لإقامة حكومة بإدارة سنية فيها (بعد رحيل الأسد)، كل ذلك عزز علاقة الشراكة بين البلدين”.

ومؤخراً أقامت الرياض وأنقرة جبهة موحدة بهدف خلق حالة ثقل وتوازن مضادة لإسرائيل التي تشك بأمر الشرع الذي كان فيما مضى قائداً لجماعة مقاتلة سبق أن ارتبطت بتنظيم القاعدة.

منذ سقوط الأسد، شنت إسرائيل غارات جوية كثيرة على سوريا، كما احتلت المنطقة العازلة التي تسير فيها الأمم المتحدة دوريات، وهددت باحتلال سوريا بذريعة حماية الأقلية الدينية الدرزية بعد أن اشتبكت فصائل درزية مع قوات الأمن السوري الجديدة التي تتبع لإدارة الشرع.

أسهم الضغط المشترك الذي مارسته السعودية وتركيا في إقناع ترمب برفع العقوبات الأميركية عن سوريا على الرغم من معارضة إسرائيل لذلك، بما أنها أقوى حليف لواشنطن في المنطقة، وتتحدث الباحثة جينكيز عن ذلك فتقول: “إن ذلك تم من أجل تحقيق المصلحة المتمثلة بتجنب أي حالة جديدة لزعزعة الاستقرار”.

هل سيستمر هذا التعاون؟

مع رفع العقوبات الغربية أصبح الطريق ممهداً أمام عقد صفقات مربحة لإعادة إعمار سوريا وغير ذلك من الاستثمارات التي يمكن أن تقام في سوريا الجديدة، وذلك برأي المحللين الذين يرجحون استمرار التحالف والاصطفاف بين أنقرة والرياض.

لكن جينكيز ترى بأنه لا يمكن للرياض ولا لأنقرة الهيمنة على سوريا، ولهذا، “وحتى تحققا أعلى نسبة من المصالح، قد يتعين على كل من تركيا والسعودية مواصلة البحث عن طرق وأساليب للتعاون من أجل تحقيق نتائج تقوم على المكسب المشترك”.

تطرق الغنام للحديث عن مؤشرات أخرى لتحسن العلاقات بين البلدين، شملت إحياء مجلس التعاون السعودي-التركي الذي بقي هاجعاً لفترة طويلة، وذلك في مطلع هذا الشهر، وهذا المجلس هو عبارة عن هيئة مكلفة بتعزيز التعاون بين البلدين في القطاع السياسي والعسكري والاستخباري والاقتصادي.

وذكر الغنام بأن صفقات أسلحة ستعقد بين البلدين، وتحدث عن مصلحة السعودية في المسيرات التركية، بالإضافة إلى “الجهود المشتركة لإعادة الإعمار في سوريا”. وفي الوقت الذي يمكن لحالة التنافس بينهما أن تعاود الظهور، فإن المحلل الغنام يرجح: “استمرار نزعة التعاون بين تركيا والسعودية”.

وتعقيباً على ذلك، يعلق سالم اليامي الذي كان موظفاً في وزارة الخارجية السعودية ويعمل الآن بالتحليل السياسي، فيقول إن قادة سوريا الجدد سيكون لهم: “دور مهم” في خلق علاقات متوازنة مع الحلفاء بدلاً من استخدام بعضهم ضد بعض، ويضيف: “في حال نجاح التنسيق السعودي-التركي في سوريا.. فمن المتوقع أن يسهم ذلك في استقرار سوريا، وبالتالي في التوصل إلى حالة من الهدوء والاستقرار في المنطقة”.

المصدر: The Washington Post

تلفزيون سوريا

—————————

اتفاق قطري تركي أميركي مع سورية لتطوير مشاريع طاقة بقيمة 7 مليارات دولار/ محمد كركص

29 مايو 2025

وقّعت الحكومة السورية، اليوم الخميس، مذكرة تفاهم مع تحالف شركات عالمية بقيادة شركة “يو سي سي” القابضة القطرية، لتطوير مشاريع توليد طاقة واسعة النطاق بقيمة تصل إلى 7 مليارات دولار، ضمن مبادرة “إحياء الطاقة في سورية”. ووُقِّعَ الاتفاق في قصر الشعب بدمشق، بحسب دعوة إعلامية صادرة عن الشركة.

ويأتي الاتفاق بعد يوم واحد فقط من إعلان الحكومة السورية توقيع اتفاقيات مع أربع شركات تهدف إلى توسيع شبكة الكهرباء في البلاد، بإضافة نحو 5,000 ميغاواط إلى الإنتاج الوطني، ما قد يؤدي إلى مضاعفة الإمدادات في بلد يعاني من أزمة كهرباء حادة منذ أكثر من عقد.

وبحسب بيان الشركة، فإنّ المشروع يتضمن تطوير محطات توربينات غازية ومزارع طاقة شمسية، وسيُنفَّذ من خلال شركتها التابعة “UCC Concession Investments”، التي ستتولى دور المطوّر الرئيسي. ويضم التحالف أيضاً شركات Kalyon GES Enerji Yatirimlari” ،Cengiz Enerji” التركيتين، و”Power International USA” الأميركية. ولم تعلّق شركة “يو سي سي” القابضة، التي يترأسها رجل الأعمال السوري-القطري معتز الخياط، ويشغل منصبها التنفيذي شقيقه رامز الخياط، على الخبر عند طلب ذلك من وكالة رويترز.

وتشمل المذكرة بناء أربع محطات غاز لتوليد الكهرباء تعمل بنظام الدورة المركبة بطاقة إجمالية تبلغ أربعة آلاف ميغاوات، بالإضافة إلى محطة طاقة شمسية بقدرة ألف ميغاوات في جنوب سورية. ويُتوقع أن يبدأ البناء بعد إبرام الاتفاقات النهائية والانتهاء من الاتفاق على الجوانب المالية، ومن المستهدف الانتهاء من البناء في غضون ثلاثة أعوام بالنسبة إلى محطات الغاز، وأقل من عامين لمحطة الطاقة الشمسية.

اتفاقية بين وزارة الطاقة السورية وشركة يو سي سي

وفي هذا السياق، قال وزير الطاقة محمد البشير، خلال مراسم التوقيع، إن سورية تعيش لحظة تاريخية في قطاع الطاقة، تشكل نقطة انطلاق لإعادة تأهيل البنية التحتية، وتحقيق اكتفاء تدريجي يعيد النور إلى المدن السورية ويعزز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

وأضاف أن الاتفاقية تهدف إلى ترسيخ التعاون والتكامل الإقليمي في مجال الطاقة، مع التركيز على تحفيز مشاريع الطاقة النظيفة والمتجددة، مشيراً إلى أن قيمة الاستثمار تبلغ 7 مليارات دولار، وستسهم في توليد 5000 ميغاواط من الكهرباء، ما سينعكس بشكل مباشر على زيادة ساعات التغذية الكهربائية وتحسين حياة السوريين في مختلف القطاعات.

وتتضمن الاتفاقية تطوير أربع محطات توليد كهرباء بتقنية التوربينات الغازية من نوع “الدورة المركبة” (CCGT) موزعة في دير الزور، ومحردة، وزيزون بريف حماة، وتريفاوي بريف حمص، باستخدام تقنيات أميركية وأوروبية متقدمة، بطاقة إنتاجية إجمالية تبلغ 4000 ميغاواط، إلى جانب إنشاء محطة طاقة شمسية بسعة 1000 ميغاواط في منطقة وديان الربيع جنوبي البلاد.

من جانبه، رأى الرئيس التنفيذي لشركة أورباكون القابضة، رامز الخياط، أن هذا المشروع يفتح صفحة جديدة من العمل المشترك في إطار إعادة إعمار سورية، مشيراً إلى أن الاستثمار في الطاقة يمثل حجر الزاوية لتحقيق الاكتفاء الذاتي وبناء نهضة اقتصادية مستدامة. وفي كلمة قبل مراسم توقيع الاتفاقية، أكد المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، توماس باراك، أن اللحظة الراهنة تُعد نقطة تحول نادرة في مسار العلاقات الثنائية، مشددًا على أن الإدارة الأميركية تضع كل ثقلها لدعم الحكومة السورية الجديدة.

ولفت إلى أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 13 مايو/أيار الجاري، برفع العقوبات المفروضة على سورية، كان خطوة جريئة تُمهّد الطريق أمام مرحلة جديدة من التعاون والانفتاح، واصفًا سورية بـ”أم الحضارات”، مؤكدًا أن رفع العقوبات لم يكن مجرد خطوة سياسية، بل ترجمة عملية لتوجه استراتيجي طويل الأمد.

وتعاني سورية حالياً من انقطاعات كهربائية تمتد لـ20 ساعة يومياً في العديد من المناطق، فيما لا تتجاوز ساعات التغذية في معظم المناطق المدينية ساعتين إلى ثلاث فقط. وتعهدت حكومة الرئيس السوري أحمد الشرع، التي تسلمت الحكم بعد إطاحة بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بتسريع وتيرة إصلاح البنية التحتية وتوفير الطاقة للسكان.

وتُقدّر وزارة الكهرباء السورية أنّ القدرة الإنتاجية الفعلية لا تتجاوز 2,500 ميغاواط، مقابل طلب محلي يومي يُقدّر بـ7,000 ميغاواط، فيما كانت القدرة الإنتاجية قبل الحرب عام 2011 تتجاوز 9,000 ميغاواط. ويُتوقع أن يُسهم المشروع الجديد في تقليص العجز الحاد الذي يثقل كاهل المواطنين والصناعات على حد سواء.

وكانت سورية تعتمد سابقاً على النفط الإيراني لتشغيل محطاتها، لكن الإمدادات توقفت بعد سقوط النظام. ومنذ مارس/ آذار الماضي، بدأت قطر، أحد أبرز منتجي الغاز الطبيعي المسال، بتوفير الغاز لمحطة التوليد الرئيسية في دمشق، في حل مؤقت لتخفيف الأزمة. ويواجه قطاع الكهرباء في سورية تحديات معقدة، أبرزها العقوبات الغربية، وخصوصاً “قانون قيصر” الذي يقيّد عمليات الاستيراد والتوريد في الصناعات الحيوية، ونقص الوقود وقطع الغيار، وغياب الصيانة. وتشير تقارير رسمية إلى أن أكثر من نصف محطات التوليد باتت خارج الخدمة، أو تعمل بكفاءة منخفضة، ما انعكس سلباً على القطاعات الاقتصادية كافة، ودفع إلى نشوء سوق سوداء للطاقة بسبب الاعتماد الواسع على المولدات الخاصة وارتفاع تكاليف التشغيل.

وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد أعلنت، الأسبوع الماضي، تخفيفاً فورياً للعقوبات المفروضة على سورية، في خطوة تهدف إلى دعم الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. وأصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية ترخيصاً عاماً يتيح تعليقاً مؤقتاً للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، مع الحفاظ على بعض القيود المتعلقة بالأفراد والكيانات المدرجة في قوائم العقوبات.

——————————

 كيف تغيّر العالم منذ عاد ترامب؟/ سامر خير أحمد

29 مايو 2025

السؤال الأكثر إلحاحاً في العالم اليوم إن كان النظام أحادي القطبية الذي فرضته الولايات المتحدة، عقب حسمها الحربَ الباردةَ قبل نيّف وثلاثين سنة، قد انتهى لصالح نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، أم إن ذلك لم يحدث بعد؟… ربّما تُقدِّم ردّة الفعل الدولية على الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب، منذ أوائل إبريل/ نيسان الفائت، ثمّ علقتها مؤقّتاً على مراحل، إجابةً مفيدةً عن هذا السؤال، فالعالم أبدى فزعاً من فرض تلك الرسوم، حتى إن كانت معظم الدول (باستثناء الصين) حاولت أن تدعو بلغة تصالحية إلى وقف التصعيد والتحذير من المخاطر المترتّبة على الخطوة الأميركية، ثمّ تنخرط في مفاوضات للوصول إلى تفاهمات حولها مع واشنطن.

هكذا فعلت معظم الدول المصدّرة إلى الولايات المتحدة، التي بدا أن تلك الرسوم الجمركية تهدّد صناعاتها وتجارتها الدولية، وقدرتها على التصدير إلى السوق الأميركية، خصوصاً حلفاء واشنطن التقليديين، مثل كندا وبريطانيا وإيطاليا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وعديد من دول الاتحاد الأوروبي، وهذا لا يعني الانفضاض عن الولايات المتحدة أو السعي إلى الخروج من فلك قيادتها العالمية، احتجاجاً على ذلك الإجراء، الذي أخذ شكلاً عقابياً تجاه العالم بما فيه الحلفاء، بل على العكس، يدلّل على تسليم العالم بالقيادة الأميركية وحاجته إلى استمرارها نتيجة الأهمية المركزية للولايات المتحدة في المجال التجاري، كذلك المجالات العسكرية والسياسية، التي لا جدال فيها.

أمّا الصين فقد أبدت غضباً تجاه الرسوم الجمركية الأميركية، وردّت بفرض رسوم مكافئة، قبل أن يقرّر الطرفان الجلوس إلى مائدة المفاوضات. ترافق الغضب الصيني مع لغة مختلفة عن التي استعملها العالم تجاه واشنطن، إذ تحدثت بكّين عن البحث عن أسواق عالمية جديدة، والسعي للاعتماد على السوق المحلّية وتعزيز الاستهلاك الداخلي، ما يعني قدرتها على الاستغناء عن السوق الأميركية. لكن ما هو أقرب إلى الحقيقة أن ردّ الصين نبع من فهمها سلوك ترامب السياسي القائم على رفع سقف المطالب والتهديدات قبل الجلوس إلى مائدة المفاوضات، ما يعني أنها اتّبعت أسلوب ترامب نفسه، ورفعت سقف مطالبها وتهديداتها بغرض التفاوض لاحقاً. في الجوهر إذاً، لا يختلف الغضب الصيني في معناه عن التوجّهات التصالحية التي اتبعتها دول أخرى، فهو يعكس حاجة الصين إلى السوق الأميركية من أجل استكمال خططها التنموية، وتنفيذ برامجها الاقتصادية المستقبلية، جرياً على كلّ ما فعلته في التجارة الخارجية، مذ تحوّلت إلى الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم، منذ أكثر من أربعة عقود.

الحال أن حديث الصين عن إيجاد بدائل محلّية وعالمية للسوق الأميركية، تبيع فيها بضائعها ومنتجاتها ليس حقيقياً، بل يعكس هو الآخر فزعاً من خسارة السوق الأميركية، التي تصدّر إليها الصين نحو 40% من صادراتها. وهذا معناه أن الصين هي الأخرى تسلّم بقيادة الولايات المتحدة العالم من الناحية التجارية، ومنها إلى النواحي السياسية والاقتصادية، ولا يمكن القول إن الصين تنافس هيمنة الولايات المتحدة العسكرية على العالم، أو إنها تفكّر بمواجهتها، أو تعتقد أنها قادرة على ذلك.

نتيجة ذلك، يبدو العالم معترفاً باستمرار النظام العالمي أحادي القطبية، وإن كان يُكثر الكلام عن تحويله نظاماً متعدّد الأقطاب، بما فيه الصين وروسيا، اللتان يبدو كلامهما عن تغيير النظام العالمي متعلّقاً بمستقبل غير قريب يسعون إليه أو يهدّدون بصنعه.

كيف (إذاً) تغيّر العالم منذ عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ما دام مستمرّاً في التسليم بهيمنة الولايات المتحدة وقطبيتها الأحادية؟… ما يمكن استنتاجه أن العالم تغيّر شكلاً، لكنّه لم يتغيّر من حيث الجوهر. ففي الجوهر ما يزال النظام العالمي أحادي القطبية قائماً، وما تزال الولايات المتحدة مهيمنةً على التجارة العالمية ومعاييرها، وعلى الاقتصاد العالمي، وعلى السياسة الدولية ومؤسّساتها، وفي ساحات العالم العسكرية برّاً وبحراً وجوّاً وفضاءً، في وقتٍ يدرك فيه منافسو الولايات المتحدة أن الحديث عن التكافؤ مع قدرات واشنطن ما يزال مبكّراً، وأن أيَّ مجابهة حقيقية معها، خصوصاً على الصعيد العسكري، ستكون نتائجها كارثيةً ومدمّرةً، كذلك في مجال السياسة العالمية، إذ تتردّد الصين كثيراً، وتتلكّأ في اتخاذ مواقف رئيسة تُغضِب واشنطن، بما يشي أنها لا ترى في نفسها قوّةً سياسيةً قادرةً على أن تكون قطباً بديلاً يجتمع حوله العالم.

من حيث الشكل، ما تغيّر طريقة واشنطن في إدارة قطبيتها الأحادية هذه. تريد واشنطن اليوم نموذجاً مختلفاً تمارس من خلاله قطبيتها، قوامه مشاركة القوى الصاعدة التي استفادت من الولايات المتحدة خلال العقود الماضية في تحمّل التبعات المالية لإدارة المؤسّسات الدولية، وكذلك التوقّف عن إلقاء الأعباء على الاقتصاد الأميركي، كما لو كان شرطاً لاستمرار التفاهمات المتعلّقة بالنظام العالمي القائم، من دون أن يأخذ ذلك من مكانة واشنطن وقيادتها العالمية، وهنا تكمن الشعرة التي تفصل بين أوهام الاعتقاد بأنّ إعادة واشنطن توزيع التبعات العالمية يعني أنها تشرك دولاً أخرى في القيادة، وحقيقة أنها تواصل القيادة وفق شروط جديدة تكرّس نفوذها وسطوتها. الحقيقة أن قدرة الولايات المتحدة على التحكّم في تفاصيل المشهد العالمي بهذه الطريقة، وفرض قواعد جديدة عليه وقتما تشاء، إنما تعكس استمرار قوتها وسطوتها، لا تراجعهما، ومؤكّد أن الدول تدرك ذلك، بمن فيها الصين، التي تُحسن التصرّف تجاه هذا الحال بعقلانية، ومن دون تهوّر.

وهذا يعني أن ما يفعله ترامب ليس انسحاباً من قيادة العالم، بل فرضاً لشروط جديدة في ظلّ مواصلة القيادة نفسها. لسان حال ترامب: نعم نحن قادة العالم، لكن ذلك لا يعني أن تواصلوا استغلال اقتصادنا. وهذا ما تغيّر في عهده فقط، سواء كان على حقّ فيما يقول، كما يعتقد، أو لم يكن، كما يعتقد العالم.

العربي الجديد

——————————–

الأخلاق بين التنوير وسلوك القطيع/ حسام الدين درويش

28 مايو 2025

في تعليقي على محاضرةٍ ألقاها الدكتور الراحل حامد خليل في مركزٍ ثقافيٍّ في دمشق عام 2000، سألته: ألا تلاحظ أنّ النقد الأخلاقي الذي تضمّنه خطابك الناقد للغرب (الإمبريالي) شائعٌ بين من يعتبرون أنفسهم ضحايا ذلك الغرب أو تلك الإمبريالية، وأنّه يعبّر عن موقعهم في الصراع معها أكثر مما يعبّر عن تفوّقهم الأخلاقي عليها؟

لست نيتشويًّا، في هذا الخصوص، ولا أرى، على سبيل المثال، أنّ أخلاق الرحمة والتضحية والعطف هي أخلاق العبيد (الضعفاء)، وأخلاق الشجاعة والاعتماد على النفس ومواجهة الألم والمخاطر هي أخلاق السادة (الأقوياء)، وأرفض، عمومًا، أو من حيث المبدأ، تقسيم الناس وفق هذه الثنائية. فالأفكار والقيم أو الأخلاق التي يتبناها الإنسان غير قابلة للتفسير الاختزالي الذي يربطها حصرًا بضعفه أو قوّته، بفقره أو غناه، أو بأيّ عوامل غير وعيه وفكره ونيته … إلخ. ما كنت أروم انتقاده في سؤالي هو الارتياح المُفرط الذي يشعر به من يرون أنفسهم ضحايا، نتيجةً لاعتقادهم بتفوّقهم الأخلاقي الفعلي أو المزعوم. في المقابل، ينبغي امتحان مدى الأخلاقية الفعلية لمثل هذه المواقف بالنظر إلى مدى الالتزام بالأخلاقية ذاتها في التعامل مع المواقف والأطراف الأخرى، خصوصًا التي تكون ضعيفةً. فمعاداة الإمبريالية وتأييد إجرام الديكتاتورية، على سبيل المثال، يبيِّن ضعف أو انعدام الأساس الأخلاقي لتلك المواقف (الأخلاقية).

الخطاب الأخلاقي سهل الاستخدام، ويمكن توظيفه لما هو مضادٌّ أو حتى مناقضٌ له. وقد تساعد هذه السهولة على الإفراط في استخدام مثل ذلك الخطاب، لمحاولة إلحاق الضرر المعنوي بالآخر والحصول على تعاطف وتقديرٍ، قد لا يكونان مستحقين. ولتجنّب الوقوع في النسبوية الأخلاقية المُطلقة، يمكن الانطلاق من قيم أساسية وعامة ومشتركة بين الجميع. وعلى الصعيد الأخلاقي الحقوقي والمعرفي، توفّر منظّمة حقوق الإنسان الأساسية أساسًا مناسبًا ومتينًا للمحاججة انطلاقًا منها، في حين أنّ القواعد الأخلاقية الأساسية عند كانط تمثّل نموذجًا بارزًا لرؤيةٍ أخلاقيةٍ فلسفيةٍ. ووفقًا لهذه القواعد (الكلية والغائية والإرادة) ينبغي أن نتصرّف بحيث يمكن أن تكون أفعالنا قانونًا كليًّا وعامًّا، وأن نُعامل الآخرين، بوصفهم غاية، لا مجرّد وسيلة، وأن نتصرّف بحيث نجعل إرادتنا إرادةً كليةً مشرعةً للقانون الأخلاقي.

من وجهة نظرٍ كانطيةٍ، الأفعال الأخلاقية (الحقيقية) منزّهة عن الغرض. فمن يساعد شخصًا لتحقيق منقعةٍ شخصيةٍ لا ينتمي إلى تلك الأفعال. ومنذ جمهورية أفلاطون، على الأقل، كان هناك نقاش عن ضرورة التمييز بين من يتصرّف ليبدو عادلًا وأخلاقيًّا ويحظى بتقدير الآخرين ومن يتصرّف التزامًا بما يمليه عليه ضميره. لكن الالتزام بالضمير والتصرّف وفقًا لقناعات المرء (الأخلاقية) لا يعني غضّ النظر عما يمكن أن يترتّب عن فعله من نتائج سلبية يمكن أن تلحق بالآخرين أبلغ الأضرار (المعنوية). فالصدق واجبٌ، لكن من الصعب، في بعض الأحيان على الأقل، المُحاججة بأخلاقية الالتزام بالصدق الذي قد يفضي إلى مقتل إنسان بريء أو تدمير حياته أو تشويه سمعته.

وليس نادرًا أن نتصرّف بطريقةٍ تهدف إلى الحفاظ على نقاء الذات وطهارتها الأخلاقية غير آبهين بحقيقة أنّ الأخلاق تتعلّق بالعلاقة مع الآخر بالدرجة الأولى، وأنّ الطهرانية الأخلاقية قد تكون ملوّثة بالكثير من الرذائل الأخلاقية، عندما تتحقّق على حساب الآخرين، من خلال اللامبالاة بهم أو بما قد يصيبهم من أذى بسبب تلك الطهرانية، أو من خلال التضحية بهم على مذبحها. وبسبب أنانيةٍ نفسيةٍ/ نفسانيةٍ أو أنانيةٍ (لا-) أخلاقيةٍ، قد ننشغل بتبرئة ذواتنا وبراءتنا من هذا الطرف أو ذاك، لننجو بأنفسنا مما نظنّه سفينةً غارقةً، غير مكترثين لا بالسفينة ولا ببقية ركابها وطاقمها، ولا ﺑ “الخبز والملح” الذي كان يجمعنا معهم. ويكون شعار الشخص ومبدأ أفعاله، في مثل هذه الحالة، “أنا بريء، وليكن من بعدي الطوفان”.

يمكن للأخلاق أن تتحوّل إلى سوطٍ يجلد بها “الأخلاقي” الآخر بكلّ قسوةٍ، ومن دون أن يرف لعيون ضميره جفنٌ. وفي هذه الحالة يكون الآخر موضوعًا، لا ذاتًا، ووسيلةً، لا غايةً. وتكون الأخلاق سوطًا للجلد عندما يتم استخدامها للتعيير والتشهير، لا للتناصح والتفاكر، ولا لضبط الذات والتفكير. ولكي لا تكون الأخلاق سوطًا، ينبغي الاقتصاد في محاكمة الآخرين، وعدم إجراء تلك المحاكمات إلا في حالة امتلاك معرفةٍ وافيةٍ ومؤكّدةٍ بقيام شخصٍ أو طرفٍ ما بالإضرار بالآخرين، مع الامتناع عن إصدار أيّ حكمٍ عليه قبل معرفة وجهة نظره. وفي مثل تلك المحاكمات ينبغي التمييز بين الشخص وأفعاله، وعدم تحويل أخطائه إلى خطايا، وعدم اختزاله في تلك الأخطاء أو حتى في تلك الخطايا. فليس ثمّة إنصافٌ في محاكمةٍ، وما ينتج عنها أو تتضمّنه من أحكامٍ إذا تمّ تسليط الضوء على خطإٍ أو خطيئةٍ، وإغفال بقية سمات الشخص وأفعاله ذات الصلة بالموضوع. فالعدالة إنصافٌ، كما يقول جون رولز في كتابٍ شهيرٍ، والعدالة أو الإنصاف يقتضي “إعطاء كل ذي حقٍّ حقه”، كما جاء في جمهورية أفلاطون، بعيدًا عن التركيز، غير المتوازن وغير المُنصف، على سلبية طرفٍ ما أو سلبياته، مقابل الاقتصار في التركيز على إيجابيات طرفٍ آخر.

ولا يقتصر أصحاب السوط الأخلاقي على أن يكونوا من الذين يذبحون الآخرين في مذبح طهارتهم الأخلاقية المزعومة، بل يمكن أن يكونوا أيضًا من جماعة “انصر صديقك أو حبيبك، ظالمًا كان أم مظلومًا”، من دون أن تعني نصرة أصدقائنا الظالمين، عندهم، ردّهم عن ظلمهم، بل تعني اتباع مبدأ “وما أنا إلا من غزية إن غوت/  غويت وإن ترشد غزية أرشد”. فانطلاقًا من مبدأ التعاضد الجماعاتي والفزعة الأهلية، وما يتضمّنه من سلوكٍ قطيعيٍّ بعيدٍ عن الاستقلالية الفردية والتوجّهات المدنية المستنيرة والمنيرة أو التنويرية، لا يتوانى متبنو ذلك المبدأ في الانضمام إلى أيّ جوقةٍ لأصحابهم وأحبابهم وخلانهم، فيقتفون خطاهم، من دون تفكيرٍ أو تفكّرٍ، ومن دون فهمٍ أو تدبّرٍ. فالمهم إظهار الإخلاص والولاء لبقية أفراد القطيع.

ويبدو الفيسبوك (السوري) منصةً مناسبةً للتكتلات الجماعاتية القطيعية أكثر من مناسبتها للفردية المدنية التنويرية. فغالبًا ما تُهيمن الضوضاء التي تخلقها تلك التكتلات الجماعاتية، وتتغلّب على الأصوات الفردية المدنية التنويرية. وإذا كان للحديث عن التنوير أو ممارسته معنى، فهو لأعضاء مثل هذا القطيع تحديدًا. ولتعريف ماهية التنوير من المناسب جدًّا، في السياق الحالي، العودة إلى كانط، واختتام هذا النصّ بمقدّمة نصّه عنه: “التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه. وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر. ويجلب الإنسان على نفسه ذنب هذا القصور عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل، بل إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه إلى استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر. لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك، ذلك هو شعار التنوير”. وبدمج لغتي نيتشه وكانط، يمكن القول إنّ الشخص المتنوّر هو الشخص السيد (على نفسه)، أمّا الشخص غير المتنوّر فهو الشخص العبد الخاضع للقطيع أو لغريزة القطيع والممتنع عن استخدام عقله، لافتقاره إلى العزم والشجاعة، وربّما إلى مسائل أخرى أيضًا.

العربي الجديد

——————————

مساع لإنعاش الرياضة السورية بعد سنوات من التخبط والإهمال/ أحمد العكلة

29/5/2025

تعمل وزارة الرياضة والشباب السورية بدعم عربي ولا سيما دولة قطر، على إنعاش هذا القطاع في البلاد بعد سنوات من التدهور والإهمال، قبل بدء مرحلة جديدة تماما بانهيار النظام السابق.

وأكدت وزارة الرياضة والشباب السورية وجود دعم كبير للوزارة من عدة دول، خاصة من دولة قطر، لمساندة سوريا في قطاع الرياضة.

وأوضح جمال الشريف، نائب وزير الرياضة، خلال اجتماعه بمجموعة من نادي الإعلاميين السوريين في قطر، أنه تم تشكيل لجنة سورية-قطرية مشتركة لبحث سبل ترميم وصيانة صالتين رياضيتين، إضافة إلى 5 ملاعب في المحافظات السورية.

وجرى خلال اللقاء طرح العديد من القضايا والاستفسارات التي تهم الشأن الرياضي بكل مفاصله، وطرق النهوض بالواقع الرياضي، وتأمين البنية التحتية المناسبة للأندية والاتحادات، بما يكفل تطوير وتفعيل الرياضة في سوريا.

حراك مكثف

وأكد مجد الحاج أحمد، مستشار وزير الرياضة والشباب السوري والمتحدث الرسمي باسم الوزارة، في حديث خاص للجزيرة نت، أن وزارة الرياضة السورية تشهد حراكا دبلوماسيا وعمليا كبيرا على مستوى التعاون الدولي في مجال تطوير المنشآت الرياضية ورفع الحظر المفروض على الرياضة السورية.

وأوضح الحاج أحمد، أن الوزارة بدأت تواصلها مع عدة جهات إقليمية عبر وسطاء، وتطور الأمر إلى لقاءات مباشرة، كان أبرزها بالسفير القطري في دمشق، تلاه زيارة رسمية إلى قطر، جرى خلالها تقديم دراسة شاملة تتضمن تطوير الملاعب، الصالات، والمنشآت الرياضية، لافتا إلى أن الخطة الموضوعة تدريجية وبعيدة المدى.

وأشار إلى أنه جرى الإعداد لزيارة رسمية مرتقبة إلى السعودية قد تُفضي إلى توقيع تفاهمات، يجري حاليا العمل على تعديلها وتحضيرها بالتنسيق بين الجانبين.

كما كشف عن تحضير لزيارة موسعة إلى تركيا بعد عطلة عيد الأضحى، سيتم خلالها الاطلاع على الهيكلية الإدارية للوزارة التركية، إضافة إلى ملفات الأندية والاستثمار الرياضي، وتنظيم زيارات ميدانية إلى الأندية التركية.

وتحدث الحاج أحمد عن التحديات التي تواجه القطاع الرياضي في سوريا، قائلا “لا نبحث عن ذرائع، لكن الواقع صعب. المنشآت شبه مدمّرة وغير قادرة على استضافة الفعاليات، والبنية التحتية تفتقد إلى الحد الأدنى من مقومات العمل الرياضي”.

وأشار إلى أن الوزارة تعمل على وضع رؤية شاملة لإعادة هيكلة الأندية قانونيا وإداريا، مع دراسة مبدئية لطرح مشروع خصخصة الأندية الكبرى كتجربة أولى يمكن تعميمها لاحقا في حال نجاحها.

وأكد أن هذا التوجّه يتم بالتنسيق مع القيادة السورية، مع دراسة التجارب الناجحة والفاشلة في الدول الأخرى لتفادي الأخطاء وتكييف النموذج بما يناسب السياق المحلي.

وعن الاستثمار، بيّن الحاج أحمد أن الوزارة تواجه معوقات كبيرة ناجمة عن عقود طويلة الأمد تم توقيعها في مراحل سابقة، وصفها بأنها “مجحفة” وفي بعض الأحيان “تصل إلى مستوى الإذعان”.

وأضاف “نعمل بشكل قانوني ومنهجي على فك هذه القيود تدريجيا، بهدف التحرر ماليا، وتوفير موارد تتيح تنفيذ الخطط والإستراتيجيات الموضوعة”.

وشدد على أهمية توسيع قاعدة الاستثمار في القطاع الرياضي ضمن الأطر القانونية، باعتبار أن “الموارد هي الشرايين التي تغذي العمل المؤسسي”.

آمال في رفع الحظر الرياضي

وعن الحظر المفروض على الرياضة السورية، قال الحاج أحمد، إن هذا الملف “دقيق جدا ويتعلق بعدة عوامل، منها الوضع الأمني، والبنية التحتية، والمعايير الدولية”.

وأكد أن الوزارة قامت بدراسة ميدانية للمنشآت، شملت تصنيفها بين منشآت جاهزة كليا أو شبه جاهزة، وأخرى مدمّرة كليا، موضحا، أن هذه الدراسة تُعد جزءًا من ملف متكامل سيتم تقديمه ضمن الجهود الرامية لرفع الحظر.

وقال الحاج أحمد “هناك انفتاح عربي ودولي على سوريا، والسياسة السورية بدأت تحقق أثرا إيجابيا في المجال الرياضي، مع تلقي الوزارة إشارات دعم واستعداد من عدة دول للمساهمة في حل ملف الحظر”.

وأعرب عن تفاؤله بقرب التوصل إلى نتائج إيجابية تمكّن سوريا من استضافة البطولات والفعاليات الرياضية من جديد.

تدهور وإهمال

وشهدت سوريا على مدى عقود تدهورا تدريجيا في قطاع الرياضة، نتيجة الإهمال المتعمّد من النظام السابق، وسوء التخطيط، وغياب الاستثمارات.

وبعد سقوط نظام بشار الأسد، برزت تحديات كبرى في إعادة تأهيل البنية التحتية الرياضية، التي كانت قد تعرضت لتدمير واسع النطاق خلال سنوات الحرب، فضلا عمّا ورثه السوريون من فساد وإهمال إداري.

وقال محمد الوليد، وهو مسؤول رياضي في شمال سوريا، إن أكثر من 70% من المنشآت الرياضية، بما فيها الملاعب والصالات الأولمبية، تعرضت للتدمير الكامل أو الجزئي خلال النزاع.

كما تم تحويل العديد من المنشآت إلى ثكنات عسكرية، أو مراكز احتجاز، أو دُمّرت بفعل العمليات العسكرية الجوية والبرية.

وأضاف في حديث للجزيرة نت، أنه بعد سقوط النظام السابق ظهرت حالة من الفراغ الإداري واللوجستي قبل تعيين وزير جديد، ما أدى إلى توقف معظم المبادرات لإعادة تأهيل البنية التحتية الرياضية.

ولفت إلى نزوح وهجرة عدد كبير من الرياضيين، والمدربين، والإداريين، مما أدى إلى فقدان خبرات محلية ضرورية لإعادة تأسيس قطاع رياضي متين.

كما عانى القطاع من ضعف التمويل الحكومي في ظل الأولويات الإنسانية والأمنية العاجلة، مع غياب ثقة المستثمرين المحليين والأجانب نتيجة للبيئة السياسية والاقتصادية غير المستقرة.

واختتم حديثه بأن بقاء بعض عناصر النظام السابق في مواقع إدارية حساسة أدى إلى استمرار الفساد، وسوء توزيع الموارد، وتبديد الدعم الدولي المخصص لإعادة الإعمار، لافتا إلى أنه لم تُفعّل بشكل كافٍ الشراكات مع الاتحادات الرياضية العالمية والدول المانحة لإعادة بناء بنية رياضية حديثة.

المصدر : الجزيرة

——————————-

المجموعة الدولية للأزمات: استقرار سوريا بعد الأسد رهن بالإصلاح والدعم الخارجي

ربى خدام الجامع

2025.05.27

نشرت المجموعة الدولية للأزمات تحليلا ذكرت فيه أن المرحلة التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول 2024 شهدت خطوات سياسية جريئة في سوريا، تمثلت بتشكيل حكومة أكثر تمثيلاً، واعتماد إعلان دستوري مؤقت، إلى جانب اتفاق تاريخي مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لإدماجها ضمن الجيش الوطني.

لكن التقرير حذّر في المقابل من تحديات أمنية عميقة، و”تصاعد للعنف الطائفي”، وتوترات داخلية وخارجية تهدد بتقويض مسار الانتقال.

يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة برفع العقوبات الغربية عن سوريا سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الجهة الناشرة له ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي ومراكز الأبحاث للملف السوري، دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.

وفيما يلي ترجمة تلفزيون سوريا لهذه المادة:

منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في كانون الأول 2024، حقق قادة سوريا الجدد مكاسب مهمة وتعرضوا لتحديات متزايدة، وهم يحاولون توجيه البلد نحو التعافي، إذ خلال شهر آذار، وضع هؤلاء القادة حجري أساس مهمين، إذ شكلوا حكومة انتقالية جديدة أكثر تنوعاً، وأطلقوا إعلاناً يعتبر بمنزلة دستور مؤقت للبلد. وفي سياق منفصل، توصل هؤلاء القادة لاتفاقية مع القادة الكرد في شمال شرقي سوريا تقضي بدمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أي تلك الجماعة التي تسيطر على معظم أنحاء تلك المنطقة منذ عام 2015، ضمن الجيش الوطني الجديد، مع توسيع رقعة سيطرة الدولة ىالمركزية لتشمل تلك المناطق. كما ساعدت حملة دبلوماسية سحرية السلطات الجديدة على تكوين حالة دعم في العواصم الأوروبية وغيرها، والتي تجلت في أبهى صورها باجتماع ضم الرئيس الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب في 14 أيار الجاري، تعهد خلاله ترامب برفع واشنطن للعقوبات عن سوريا كونها خنقت الاقتصاد السوري وجعلته بحاجة ماسة للإنعاش. ومنذ ذلك الحين والاتحاد الأوروبي يحاول أن يقدم على التزام مماثل بالتماشي مع ما قدمته واشنطن.

بيد أن السلطات الجديدة ما فتئت تتعرض لمشكلات جسيمة، بعضها كانت هي السبب فيه، ولهذا ما يزال الشركاء في الخارج يحملون شيئاً من القلق تجاه الشرع والدائرة المقربة المحيطة به والتي استأثرت بالسلطة لنفسها، وذلك بالنسبة لمدى انفتاح تلك الفئة على تكوين حكومة تمثل الشعب السوري بحق. وخلال شهر آذار الماضي، شهدت المناطق الوسطى والساحلية في سوريا تفجراً للعنف الطائفي، ما أكد على وجود توتر قد يسهم في إخراج الجهود الرامية لتعزيز سلطة الدولة عن مسارها، كما أوضح بأن الحكومة المركزية تفتقر إلى القيادة والسيطرة على شطر كبير من جهاز الأمن. أما إسرائيل، ومن خلال حرصها على حماية خاصرتها الشمالية، فقد دمرت معظم الإمكانيات العسكرية السورية، واحتلت المنطقة العازلة التي تمتد على الحدود الجنوبية لسوريا، كما نفذت هجمات متواصلة طالت سلسلة واسعة من الأهداف السورية. وإلى أن تترجم الوعود برفع العقوبات إلى حقائق وأفعال، ستبقى تلك العقوبات تمثل عقبة كبيرة أمام العملية الانتقالية بعد رحيل الأسد.

وحتى يدعم الاتحاد الأوروبي عملية انتقال سلمية في سوريا، ينبغي عليه هو والدول الأعضاء فيه القيام بما يلي:

    حث دمشق على تشكيل حكومة تمثل السوريين تمثيلاً حقاً، بوجود مشاركة أكبر للنساء، إلى جانب تشجيع دمشق على التعاون مع الأمم المتحدة في صياغة دستور جديد للبلد.

    المساهمة في تعزيز الثقة بقوات الأمن السورية وبالدولة السورية بصورة أوسع، ويشمل ذلك حث السلطات الجديدة على التفكير بأمر إعادة رجال الشرطة الذي خضعوا لتفتيش أمني بعد أن خدموا أيام نظام الأسد، إلى جانب الدفع من أجل المحاسبة على الجرائم التي ارتكبتها القوات التابعة للدولة في آذار الماضي، ومواصلة الخطط الرامية لزيادة الدعم المخصص لإنعاش سوريا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، مع تقديم المساعدة التقنية لتعزيز الإمكانيات الموجودة لدى المؤسسات التابعة لعدة وزارات.

    رفد الجهود الساعية لإدماج قسد ضمن قوات الأمن التابعة للدولة، مع خفض تصعيد النزاع القائم بين قسد والقوات المدعومة تركياً والتي تندرج تحت مسمى الجيش الوطني السوري، إلى جانب تسريع عملية إجلاء المواطنين الأوروبيين المحتجزين في مخيمات تحرسها قسد بتهمة الانضمام لتنظيم الدولة.

    المشاركة في عملية دبلوماسية قائمة على التنسيق في بداية الأمر، ومنع إسرائيل من القيام بالعمليات التي من شأنها زعزعة الاستقرار في سوريا، ثم منع زيادة التصعيد بين إسرائيل وتركيا في سوريا.

    تطبيق القرار السياسي الذي أصدرته الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على جناح السرعة، والذي يقضي برفع ما تبقى من العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، مع توفير المعلومات وخلق المحفزات التي تدفع المشاريع التجارية إلى الاستثمار في سوريا.

الديناميات السياسية والأمنية

خلال الأشهر الستة التي أعقبت سقوط الأسد، سعت السلطات الجديدة في دمشق جاهدة لترسيخ سلطتها، ونشر الاستقرار في البلد، وإطلاق عملية انتقال سياسي فيها، على الرغم من النتائج المختلطة التي حققتها على هذا الصعيد. إذ في 29 كانون الثاني، نصب الشرع رئيساً مؤقتاً خلال “مؤتمر النصر”. ثم حلت الهيئة وغيرها من الفصائل نفسها، إلى جانب كامل قوات الأمن التي تعود لحقبة الأسد، لتفتح الطريق أمام تشكيل جهاز أمن جديد. وفي شباط، عقدت الحكومة المؤقتة مؤتمر الحوار الوطني والذي يهدف إلى إطلاق عملية سياسية جامعة لكن هذا المؤتمر كان أقل من التوقعات بكثير.

بعد ذلك، وقع الرئيس الشرع على الإعلان الدستوري في 13 آذار، فوضع بذلك إطار عمل قانوني لفترة انتقالية تمتد لخمس سنوات كما رسخ سيطرته على السلطة. وعند صياغة الإعلان الدستوري، تلقت السلطات المقترحات التي رفعتها الأمم المتحدة، وخاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي تلك الأثناء، شرع الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني بحملة دبلوماسية مكوكية مع نظرائهم الأجانب، سواء في العالم العربي أو في أوروبا، فحققوا بذلك خطوات مهمة ونوعية باتجاه تقبلهم على المستوى الدولي، كان آخرها تلك الخطوة المهمة التي تمثلت باللقاء التاريخي بين الشرع وترامب في الرياض في 14 أيار الجاري.

مثل الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة في 29 آذار مدى استعداد القادة الجدد لتمثيل شرائح واسعة من الشعب السوري ضمن جهاز الحكم، إذ شملت الحكومة الجديدة ممثلين عن الطائفة العلوية والمسيحية والإسماعيلية والكردية والدرزية، إلى جانب شخصيات من المجتمع المدني والتكنوقراط وشخصيات حملت حقائب وزارية في حكومة الأسد قبل الحرب. ولكن، وعلى الرغم من الآمال التي حملتها التشكيلة الوزارية التي تعبر عن تمثيل أكبر، حصل الثقات لدى الشرع على حقائب الداخلية والخارجية والدفاع والعدل والطاقة، ما يعني استئثارهم بالمناصب التي تتمتع بسلطة تنفيذية أعلى، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشخصيات الرفيعة السابقة في الهيئة بقيت في مواقع السلطة التي تتصل بعدة مجالات. وكان من بين الوزراء المعينين امرأة واحدة هي هند قبوات التي شغلت منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، على الرغم من تعهد الشرع بدعم مشاركة المرأة.

ثم إن غياب الأمن بصورة عامة مايزال يمثل مصدر قلق كبير، وذلك لأن التركة التي خلفتها الحرب السورية والتي تشمل الدمار الاقتصادي وتهتك النسيج الاجتماعي السوري، خلقت ظروفاً مواتية أمام عودة العنف. وفي الوقت ذاته، سعت القوات الحكومية المنهكة جاهدة للرد بطريقة فاعلة على أعمال القتل والاختطاف والسلب، غير أن الهجمات التي استهدفت العلويين نظراً لارتباطهم بالنظام البائد، والقتال الذي دار مؤخراً بين الجماعات المسلحة السنية والدرزية، جعل الأقليات تحس بتهميش أكبر وخطر

ثم إن العنف الذي اشتعل في وسط سوريا وفي المنطقة الساحلية في مطلع شهر آذار أدى إلى تراجع مكانة الحكومة على المستويين المحلي والدولي، إذ في السادس من آذار، شن متمردون موالون للأسد هجمات نسقوا لها واستهدفت قوات الأمن التي شكلتها الحكومة منذ فترة قريبة داخل المدن الساحلية كما استهدفت سيارات المدنيين والطريق السريع الذي يربط مدينة اللاذقية بإدلب في شمال غربي البلد. ولقد دفع عداد القتلى الكبير دمشق إلى إرسال تعزيزات ضمن حملة مضادة ضمت فصائل مسلحة اندغمت بصورة اسمية ضمن الجيش الجديد، لكنها حافظت على استقلاليتها في القيادة والسيطرة. كما انضمت عصابات من المطالبين بالثأر والانتقام لتلك الاضطرابات، وخلال الأيام التي أعقبت ذلك، أمعنت عناصر غير منضبطة من كلا الفئتين الأخيرتين تقتيلاً في أهالي قرى اللاذقية وطرطوس وحماة وأحيائها، وذلك انتقاماً منهم على ما ارتكبه نظام الأسد من جرائم، والتي يحمّل بعض السوريين كامل العلويين مسؤوليتها.

وعند عودة النظام من جديد، تبين بأن ما يقرب من 900 مدنياً علوياً قد قتلوا في تلك الأحداث، بينهم أكثر من مئة امرأة وطفل، في حين فر أكثر من 30 ألفاً إلى لبنان، وعليه، فإن أغلب سكان الساحل السوري الذين أدانوا تصرفات العناصر الموالية للأسد حملوا المسؤولية للحكومة في فشلها بحمايتهم. وعقب أحداث العنف، تعهد الشرع بمحاسبة المسؤولين عنها، ثم شكل لجنة لتقصي الحقائق كلفها بتوثيق الانتهاكات ووضع توصيات بشأن إجراءات المحاسبة، ومن المقرر أن ترفع نتائج هذا التحقيق في تموز القادم.

إلا أن التحديات التي تواجهها الحكومة أكبر من تلك المتعلقة بضمان المحاسبة على الجرائم التي ارتكبت في آذار، وذلك لأن الجرائم التي ارتكبتها قوات تابعة للدولة سلطت الضوء على وجود ثغرات كبيرة في سيطرة دمشق على الفصائل المسلحة التابعة لها، كما بينت بأن الحكومة الجديدة خلقت مشكلة جديدة عندما حلت قوات الأمن القديمة، وذلك عندما سرحت من العمل آلاف الشبان المتضررين الذين يتمتعون بخبرة قتالية وسهولة على الوصول إلى الأسلحة. ومع ندرة فرص العمل المتاحة، شكل هؤلاء سلسلة جاهزة من المجندين الذين بوسع الموالين للنظام البائد الاستفادة منهم في أي ثورة أو تمرد قد يحصل مستقبلاً، ثم إن دمج تلك العناصر غير المنضبطة التي أصبحت اليوم جزءاً من قوات الأمن التابعة للدولة ضمن قوة متماسكة تخضع لانضباط ملائم لن تكون مهمة سهلة، طالما بقيت الدولة تسعى جاهدة وهي مكبلة بالعقوبات لدفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وهذا ما جعل كثيرين من حملة السلاح يعتمدون على مصادر أخرى للدخل.

 إن عدم وجود سلسلة قيادة وتحكم واضحة بالنسبة للعناصر المسلحة التابعة للحكومة يمكن أن يتسبب بظهور موجات عنف جديدة وبكل سهولة، إذ في أواخر نيسان الماضي، تصاعدت وتيرة العنف بسرعة متحولة إلى اقتتال عنيف إثر هجمات شنتها جماعات مسلحة موالية للحكومة على ضواحي ذات غالبية درزية بالقرب من دمشق، وقد كان السبب وراءها تسيجل صوتي نسب فيه صوت المتحدث إلى شخصية قيادية درزية وهي تشتم النبي محمد، ثم وصلت الاشتباكات إلى محافظة السويداء الجنوبية ذات الغالبية الدرزية، ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص خلال ثلاثة أيام. وفي الوقت الذي تراجع الاضطراب في نهاية المطاف، فإن ما آلت إليه الأحداث سلطت الضوء على سرعة تحول أي توتر محلي إلى عنف يمتد على نطاق واسع.

هذا ويخلق الوضع الأمني تحديات كبيرة بالنسبة للنساء على وجه الخصوص، لأنه يقيد تحركاتهن في أغلب الأحيان، كما أنهن ضحية لأحداث الاعتقال العشوائي المتصاعدة ناهيك عن المضايقات التي يتعرضن لها. إذ في غياب أي رد فعال من طرف الحكومة، صار الأهل يلجأون في أغلب الأحيان لوسائل التواصل الاجتماعي من أجل المناشدة بهدف إعادة بناتهن المفقودات، بيد أن هذه المناشدات التي توجه لعامة الناس قد تعرض النساء وأهاليهن لمزيد من المضايقات، كما أن بعض المسؤولين المحليين تصرفوا باستقلالية هم أيضاً عندما تقدموا بإجراءات تقيد النساء في بعض المجالات العامة وبيئات العمل، أو تلك التي تعنى بفصل الرجال عن النساء في الحافلات والمشافي والمحاكم. بيد أن السلطات كانت تتراجع في معظم الأحيان عن تلك الإجراءات بعد أن يحتج الشارع عليها بشكل كبير.

شمال شرقي سوريا

عندما عقدت دمشق اتفاقاً مع قسد في العاشر من آذار الماضي، تأمل كثيرون بأن تكون هذه خطوة مهمة نحو ترسيخ الاستقرار في سوريا، وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية لم تفصّل كثيراً في بنودها، فإنها ألزمت كلا الطرفين بدمج قوات قسد المسلحة ومؤسساتها المدنية ضمن الدولة المركزية قبل نهاية عام 2025. ويعتبر ذلك بالنسبة لدمشق فرصة لاستعادة سلطة الدولة في شمال شرقي سوريا، حيث يتركز معظم النفط السوري، إلى جانب استعادة الدولة لمصداقيتها بعد أحداث العنف التي وقعت في مطلع آذار. ولكن بالنسبة لقسد، فإن هذه الاتفاقية حدت من التهديد التركي الذي يعتبرها امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي صنفته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كتنظيم إرهابي والذي بقيت أنقرة تحاربه على مدار عقود، لكنه أعلن منذ فترة قريبة عن حل نفسه. وهذه الاتفاقية تفتح السبيل أمام قسد نحو المشاركة السياسية في النظام بعد الحرب، ولكن ماتزال هنالك تساؤلات مهمة بقيت بلا إجابات، وعلى رأسها مدى لامركزية الدولة السورية مستقبلاً، والآليات التي ستم بموجبها عملية الدمج.

شكل كلا الطرفين لجنة خاصة به حتى تبدأ بالمهمة الشاقة المتمثلة بوضع التفاصيل الخاصة بما يمكن أن يتحول إلى سلسلة معقدة من المفاوضات قد تمتد لأشهر. وقد نجح الاتفاق المبدئي حتى الآن في خفض تصعيد الاقتتال بين قسد وفصائل الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً والذي قتل مئات الناس، أغلبهم مقاتلين، وذلك خلال الفترة ما بين شهري كانون الأول وشباط. وفي نيسان الماضي، ركزت المحادثات المستمرة بين دمشق وقسد على بؤر التور في الشمال السوري، ثم اتفق الطرفان في حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، على خطوات مرحلية باتجاه إزالة المظاهر العسكرية من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية التي تخضع لسيطرة قسد، إلى جانب دمجهما من جديد ضمن باقي أجزاء حلب. ومن المتوقع للمحادثات حول سد تشرين المتنازع عليه والمقام على نهر الفرات أن تتمخض عن اتفاقية واضحة، بيد أن تلك المحادثات خففت حتى الآن من خطر وقوع قتال من أجل تلك المنشأة التي تعتبر ضرورية من أجل توليد الطاقة والمياه في البلد. كما بدأ الطرفان في مناقشة أمور قطاع التعليم، على الرغم من أن أهم عقبة ذلك هي تضييق الفجوات المعنية بدمج الهياكل الحكومية والأمنية والعسكرية.

وفي تلك الأثناء، بقيت قسد تحرس المقرات التي تؤوي مقاتلي تنظيم الدولة المحتجزين هم وعائلاتهم، بينهم نحو أربعين ألفاً في مخيم الهول، كما بينهم آلاف الأجانب من حملة الجنسيات الأوروبية، ناهيك عن الأطفال الذين يحمل أهاليهم جنسيات أوروبية. وفي الوقت الذي تبنت واشنطن نهجاً استباقياً بالنسبة لإجلاء مواطنيها، تأخرت معظم الدول الأوروبية عن القيام بتلك الخطوة، ما جعل السلطات المحلية تتحمل عبء تأمين مقرات الاحتجاز، وفي حال تدهور الظروف في تلك المخيمات بعد تخفيض المساعدات الذي أقر مؤخراً، أو في حال سحب القوات الأميركية، فمن المرجح أن تحدث إثر ذلك اضطرابات قد تشمل حالات شغب جماعية إلى جانب محاولات للهروب من تلك المقرات.

وفي المنطقة الشرقية بالبادية، ماتزال خلايا تنظيم الدولة تختبئ ضمن مساحات شاسعة لا تخضع لسيطرة الدولة، كما أنها تعتمد على قدرتها في المناورة لتعزيز إمكانياتها في مجال التحضير لشن هجمات مستقبلاً، ويخبرنا أهالي تلك المنطقة بأن تنظيم الدولة يحاول وبصورة فعلية أن يجند أتباعاً جدداً له، في حين ذكرت مصادر من قوات الأمن القديمة والحالية بأن تنظيم الدولة يستقطب شخصيات قيادية صاحبة خبرة جرى تحريرها من سجون نظام الأسد، ولكن خلال الوقت الراهن، ما يزال التحالف لمحاربة تنظيم الدولة الذي تقوده الولايات المتحدة يسهم في إبعاد الجهاديين عن المشهد.

التدخلات الإسرائيلية

ظهرت إسرائيل كأشد قوة خارجية عملت على زعزعة استقرار سوريا بعد سقوط الأسد، وذلك لأنها استراتيجيتها تقوم على استباق أي احتمال لظهور خطر أمني قد يهدد حدودها الشمالية الشرقية مستقبلاً. كما أبدت إسرائيل قلقها تجاه تنامي قوة ونفوذ تركيا داخل الحكومة السورية الجديدة، بما أن إسرائيل تعتبر تركيا منافسة لها في المنطقة. ولذلك حافظت إسرائيل على موقفها على الرغم من تطمينات الشرع وغيره لها وتعهدهم بعدم وجود أي نية لديهم باستعدائها.

وعلى الصعيد العسكري نشطت إسرائيل إلى حد بعيد، إذ فور سقوط نظام الأسد، تحرك الجيش الإسرائيلي إلى المنطقة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان والتي أقيمت في عام 1974، وأعلن عن قيام منطقة عازلة تمتد قبالة الجنوب السوري، وحظر على القوات السورية الدخول إلى تلك المنطقة، ثم أعلن مسؤولون إسرائيليون كبار عن نية إسرائيل بإبقاء قواتها متمركزة في تلك المنطقة لأجل غير مسمى. وفي تلك الأثناء، أخذت الطائرات الحربية الإسرائيلية تدك مواقع في سوريا، فدمرت سلاح الجو فيها، كما دمرت سلاح البحرية والأسلحة الثقيلة. ومنذ فترة قريبة، شن سلاح الجو الإسرائيلي غارة بالقرب من القصر الرئاسي في سوريا موجهاً بذلك رسالة واضحة للحكومة السورية مفادها أن إسرائيل لن تسمح للقوات السورية بالانتشار جنوبي العاصمة. وبالتوازي مع ذلك، حرصت إسرائيل على تأييد الطائفة الدرزية لها في جنوب غربي سوريا، بعد أن وعدت أبناء تلك الطائفة بتقديم الحماية لهم. وعبر قيامها بذلك، أخذت تتودد لحلفائها في الداخل، وتدق إسفيناً بين هذه الطائفة وبين السلطات الموجودة في دمشق.

ولهذا، وفي الوقت الذي أخذت الحكومة الجديدة في دمشق بتلمس موضع قدميها، كانت ممارسات إسرائيل وعملياتها قد أضعفت حكام سوريا الجدد وهددت بإعادة سوريا إلى أحد السيناريوهات التي أعلنت الحكومة عن رغبتها في تجنبه، والذي يتمثل إما بتأجيج حالة الإضطراب بشكل يساعد المقاتلين الجهاديين على استغلال الوضع أو دفع الحكومة الجديدة في دمشق إلى التقرب من أنقرة.

عبء العقوبات

في وقت يلوح معه تخفيف العقوبات في الأفق، مايزال الاقتصاد السوري يعاني من حالة اختناق بسبب سلسلة كبيرة من العقوبات التي فرضتها عليه الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتعتبر العقوبات الأميركية هي الأشد، على الرغم من أن جميع العقوبات ألحقت أضراراً بالاقتصاد السوري، وتلك العقوبات كانت ستلحق مصيبة بالبلد الذي يعيش 90% من سكانه في فقر من دون وجود أي شريان يمدهم بالحياة. فقد كان النظام البائد يعتمد على إيران وروسيا لدعم ميزانيته، كما كان يستعين بالعائدات التي توفرها إمبراطورية المخدرات غير المشروعة التي أقامها والتي كانت تدر على آل الأسد مليارات الدولارات، غير أن السلطات الجديدة في دمشق ليس لديها أي مصدر للكسب بسهولة، ناهيك عن الضغط المتصاعد الذي تتعرض له من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، والتي تبدأ بدفع رواتب العاملين في القطاع العام وتنتهي بتأمين ما يكفي من الوقود والكهرباء. وفي حال تعثر تلك السلطات في تأدية تلك المهام، فإنها ستخسر شرعيتها، وهذا ما سيستغله المفسدون سواء في الداخل أم في الخارج.

جرى تحقيق تقدم بالنسبة لتخفيف هذا العبء عن سوريا، إذ في العشرين من أيار، وبعد مرور ستة أيام على إعلان ترامب تخفيف العقوبات عن سوريا، لحق به الاتحاد الأوروبي عبر قرار يقضي برفع ما تبقى من العقوبات الاقتصادية عن هذا البلد، مع إبقاء العقوبات المفروضة على نظام الأسد أو على الأسلحة والتقانة التي يمكن أن تستخدم لقمع الشعب في الداخل. وأكدت بروكسل على قدرتها على التراجع عن تلك الخطوات، مع مراقبتها للوضع السوري عن قرب، ويشمل ذلك مراقبة مدى التطور الحاصل في ملف المحاسبة وذلك فيما يخص أحداث العنف الأخيرة. ولكن يجب التركيز اليوم على تطبيق هذه القرار، بالإضافة إلى ضمان اتخاذ الدول التي ترفع العقوبات لخطوات مناسبة مكملة لتلك العملية وذلك من أجل التشجيع على الاستثمار في الاقتصاد السوري بما أنه بات بحاجة ماسة لذلك.

ما الذي بوسع الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فعله ؟

بوسع الاتحاد الأوروبي بل ينبغي على الدول الأعضاء فيه أن تتحول إلى شريكة لسوريا خلال مرحلة التعافي والانتعاش، إذ على الرغم من أن دمشق لم تحقق من التقدم سوى النزر القليل مما كان مأمولاً منها وذلك بالنسبة لتعزيز عملية الانتقال السياسية الجامعة لكل السوريين، ومن المؤكد أن تلك مهمة صعبة بالنسبة لبلد خرج لتوه من حرب مدمرة امتدت لأكثر من عقد، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل إلحاحه وأن يستمر في دفع هذا البلد نحو هذا الاتجاه، فلقد أبدى قادة سوريا الجدد استجابتهم لهذا الضغط في السابق، سواء خلال فترة حكمهم لإدلب خلال الحرب، أو منذ أن تولوا زمام أمور البلد في دمشق. ومن ضمن تلك الجهود، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل دعم منظمات المجتمع المدني السورية وإسماع أصوات المعارضة بصورة أكبر بعد أن تحدثت عن توجهات السلطات في مجال الإقصاء، وطالبتها بتحسين أدائها. كما ينبغي على الاتحاد الأوروبي التشديد على أهمية مشاركة المرأة في القيادة، ولذلك يجب عليه تشجيع الحكومة المؤقتة على مواصلة تعاونها مع الأمم المتحدة، وخاصة فيما يتصل بصياغة دستور جديد.

ثانياً، يجب على الاتحاد الأوروبي الاستثمار في تعزيز قطاع الأمن وصفوف قواته، ويمكن له تشجيع دمشق على إعادة جهاز الأمن الذي اعتمد أيام النظام البائد بعد إجراء فحص أمني لكوادره كافة، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يحقق تقدماً في مجال المخططات الساعية لتوسيع نطاق برامج المساعدات الإنمائية، وخاصة فيما يتصل بدعم التعافي الاقتصادي بسوريا، وذلك عبر دعم مجال خلق فرص عمل مثلاً، أو في مجال الرعاية الصحية أو التعليم، ويجب على الاتحاد الأوروبي أن يبحث في فرصة دعم قدرة الدولة على دفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وذلك بهدف الاحتفاظ بالكوادر الحالية إلى جانب توظيف كوادر جديدة، وذلك عبر التنسيق بشكل وثيق مع العناصر الفاعلة الدولية الأخرى. وينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يخلق حالة توازن دقيقة بين ميله لفرض شروط على الدعم تقوم على تحقيق تقدم في الأمور السياسية والأمنية وبين الحقيقة القائلة بإن إمكانيات الدولة بحد ذاتها تعتبر شرطاً ضرورياً لتحقيق تلك الأهداف. وبالتوازي مع كل هذا، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل البحث في نوع المساعدة التقنية التي بوسعه تقديمها من أجل إعادة بناء إمكانيات الدولة، مثل تلك التي تقدم في مجال الأمن أو المصارف. ويجب على الاتحاد الأوروبي التأكيد على أهمية التزام الدولة بما تعهدت به وذلك في مجال فتح تحقيق بأحداث آذار وضمان محاسبة مرتكبي تلك الجرائم.

ثالثاً، وفي شمال شرقي سوريا، يجب على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه مواصلة دعم اندماج قسد ضمن الدولة وتشجيع الطرفين على اتخاذ الخطوات الكفيلة بخفض تصعيد النزاع بين قسد والجيش الوطني السوري، ويشمل ذلك الضغط على أنقرة حتى توجه رسالة للجماعات التي تدعمها في المنطقة بخصوص ذلك. وفي تلك الأثناء، يعتبر الخطر المستمر المتمثل بعودة تنظيم الدولة من الأمور الأساسية التي تدفع قوات التحالف للبقاء في هذا البلد إلى أن ينجز الاتفاق بشكل كامل بين الطرفين، وذلك لمنع تلك الجماعة من التحول إلى عنصر يعمل على زعزعة الاستقرار في سوريا. ولتخفيف العبء عن قسد، وخاصة فيما يتصل بإدارة مقرات الاحتجاز، يتعين على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه تسريع عملية إجلاء مواطنيهم الذين بايعوا تنظيم الدولة، إلى جانب تسريع عملية تحديد جنسية الأطفال الذين لا يحملون أية وثائق.

رابعاً، فيما يتصل بممارسات إسرائيل المثيرة للقلق، يجب على الدبلوماسيين الأوروبيين التواصل مع إسرائيل وذلك عبر توجيه رسالة لها بالتنسيق بينهم، مفادها بأن ما تمارسه من أعمال يقوض استقرار سوريا، وبالتالي فإنه يضر بمصلحتها العليا. ويجب على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه الاستعانة بقنواتهم لتجنب حدوث تصعيد كبير بين إسرائيل وتركيا على الأراضي السورية.

خامساً، يجب على بروكسل أن تطبق وبسرعة القرار الذي أصدرته في العشرين من أيار الجاري والقاضي برفع كامل العقوبات الاقتصادية عن سوريا، ويجب على بروكسل أيضاً تقديم الدعم المخصص لإعادة الإعمار وتشجيع المستثمرين الأوروبيين في القطاع الخاص على العودة إلى سوريا، إلى جانب مساعدتهم في التغلب على العقبات الموجودة في قطاعات مثل المال والطاقة، وتوفير الحوافز لهم قدر الإمكان، ثم إن الدعم الموجه للاستثمارات المبكرة في قطاع الطاقة قد يعتبر نقطة بداية عملية في هذا المضمار، لأن الشركات الأوروبية التي سبق لها العمل على البنية التحتية للطاقة في سوريا مستعدة لإحياء شبكة الكهرباء في ذلك البلد. هذا وينبغي للاتحاد الأوروبي التعاون مع الدول الأعضاء والمؤسسات المالية للحد من حالة الإفراط في عملية الانصياع، والتي من الممكن أن تستمر حتى بعد رفع العقوبات، ويشمل ذلك تقديم توجيهات تنظيمية تخص تلك المسائل.

في النهاية، فإن مسألة إعادة إعمار سوريا بعد عقود من الحكم الديكتاتوري والصراع المريع أصبحت بيد السلطات الجديدة في دمشق، وكذلك بيد المجتمع المدني في سوريا والشعب السوري، ولكن بوسع الاتحاد الأوروبي بل عليه وعلى غيره من القوى الخارجية الأخرى أن يمدوا يد العون لهم بما أنه بأمس الحاجة لذلك، بل إنهم يستحقون ذلك فعلاً، وذلك لأن عدم مد يد العون للسلطات في دمشق وللشعب السوري وللمجتمع المدني في سوريا يعتبر إجهاضاً لهذه التجربة الواعدة في مجال إعادة بناء مجتمع دمرته الحرب.

المصدر: The International Crisis Group

تلفزيون سوريا

————————————

الحاجة إلى اليسار السوري/ إبراهيم العلوش

28 – مايو – 2025

رغم إخفاق اليسار السوري في استيعاب روح الثورة السورية، وانحياز العديد من نخبه تاريخيا إلى الستالينية التي تقدس الديكتاتور أو على الأقل تمتنع عن انتقاده، إلا أن اليسار بمعناه الجوهري أصبح ضرورة في المرحلة السورية الجديدة.

منذ تأسيسه عام 1925، انحاز اليسار السوري إلى الدولة السوفيتية، واعتنق عبادة الفرد، كما تجسد ذلك في سيرة الحزب الشيوعي السوري، الذي شهد مدائح مفرطة لخالد بكداش، وصولاإلى تملق بكداش لحافظ الأسد. وفي أواخر حياته، عيّن زوجته وصال فرحة بكداش خليفة مؤقتة له، ليورث الحزب إلى ابنه عمار بكداش، أسوة بما فعل حافظ الأسد من توريث.

في المقابل، برز اسم رياض الترك كشخص وطني انسلخ مبكرًا عن التبعية الستالينية، ورفض انضمام حزبه إلى الجبهة الوطنية التقدمية، التي استخدمها الأسد الأب لتدجين الأحزاب والشخصيات اليسارية. وقد التقط الترك فكرة الثورة السورية بجدارة، وظل وفيا لها حتى أواخر حياته.

يكرر المعتقلون الإسلاميون دائمًا أنهم خضعوا لتعذيب أشد من تعذيب اليساريين، وهذا صحيح في بعض جوانبه، ولكن التعذيب هو التعذيب، والعائلات خضعت للعزل والتمييز سواء كان معتقلوها يساريين أو إسلاميين، فالنظام لم يوفر أحدًا من إرهابه الذي بلغ أوجه في الثمانينيات، وكذلك بعد انطلاق الثورة السورية حين شمل التعذيب الحياديين سياسيا، وصولا إلى تعذيب مؤيدي النظام الذين رفضوا الانحطاط إلى المستوى الذي تدنت إليه الآلة المخابراتية.

انتشار اليسار في سوريا كان عابرًا للطوائف ومتجذرًا في كل زوايا الفكر والثقافة، وانتشر بشكل كبير في أوساط الأقليات الدينية والعرقية كنوع من البحث عن التميز والحماية الجماعية، رغم أن الأكثرية القومية والدينية كانت بدورها متقبلة للأفكار اليسارية كمعطى فكري وسياسي إنساني، وشكّلت نوعًا من هوية للفقراء الذين لا يمتلكون أسباب القوة الاقتصادية والسياسية.

ولا يقتصر اليسار على الأفكار العلمانية؛ فقد تناولت كتب عديدة اليسار في الإسلام، مثل مؤلفات حسن حنفي وحسين مروة، واستقى يساريو الإسلام من شخصية أبو ذر الغفاري شبيهًا لأرنستو تشي غيفارا، وصنفوا العديد من الثورات في العصر العباسي كبذور للحركات اليسارية، معتمدين على مناصرة الفقراء عبر استنادهم إلى الآيات القرآنية الكريمة، وخاصة الآيات المكية منها.

فكرة اليسار هي التمرد على الطرق المحافظة في إدارة الأفكار والسياسات، وكان له دور كبير في التاريخ الإنساني، ولا يزال موجودًا عبر العالم، خاصة في أوروبا. يُعتبر التأمين الصحي والحماية الاجتماعية من البطالة ومجانية التعليم في فرنسا، على سبيل المثال، أحد إنجازات اليسار. وكانت مجانية التعليم والاستشفاء في سوريا من مكاسب اليسار، رغم تدهور أدائه.

امتازت الأحزاب الاشتراكية الأوروبية بموقفها المبكر في رفض النهج الستاليني، مما ساعدها على الحفاظ على جمهورها واستمراريتها. لكن اليسار اليوم فقد الكثير من قوته بسبب الشعبوية التي انساق إليها، وترسيخه لنظريات المؤامرة التي تعفي نخبه من جهد التفكير والتحليل. أصبح البعض أشبه بأعضاء جوقات ببغاوية يستسلمون لما يتم ترويجه من أفكار شعبوية، مما أدى إلى انحرافات فكرية وانحيازات طائفية.

اليسار كنهج تفكير ينظر إلى المستقبل ويلتزم بحماية الفقراء، وبعد التنصل بشكل علني من أفكاره الاستبدادية والفئوية، أصبح حاجة وطنية وفكرية. لا يمكن الاستغناء عنه كمعطى تاريخي له جوانب مشرقة في حياة البشرية.

الدولة السورية اليوم أعلنت النهج الاقتصادي الحر وفتح الأسواق، وهي في حاجة إلى كل الجهود الفكرية والسياسية التي تحمي تماسك البلد في الفترة المقبلة. بعد التدفق المتوقع لرؤوس الأموال، ودخول الشركات العابرة للقارات، ستكون هناك تحديات كبيرة. ورغم وطنية الكثير من رجال الأعمال السوريين، إلا أن بعضهم قد يتحولون إلى قوى اقتصادية مهيمنة، مما يستدعي وجود رقابة فعالة.

في هذا الظرف المحتقن، فإن الطبقات الفقيرة من كل الطوائف لن يستطيع أحد قيادة توحيدها مثل اليسار، وهي في حاجة إليه كي يساعدها على التماسك والمطالبة بحقوقها، ويرفد الرقابة العامة من أجل الالتزام بالقوانين التي تضمن حقوق الدولة وتمويل البنى التحتية. على اليسار القيام بالتحليل العقلاني لتوازنات الاقتصاد والاجتماع، والتواجد الإعلامي الذي يوفر منصات للتفكير والمطالبة والاحتجاج المنظم.

من أجل القيام بمثل هذه الأدوار، يحتاج اليسار السوري إلى الخروج من الجانب الشعبوي إلى العقلانية التي تتبنى دولة سورية جديدة وعادلة. ويحتاج الخروج من السلبية المزمنة دون أن يخسر القدرة على المعارضة والمبادرة وانتزاع الحقوق.

تغيّر نمط الحياة الاقتصادية والاجتماعية في سوريا منذ انطلاق الثورة، وهو يتغيّر اليوم إلى آفاق أكثر تعقيدًا. عوامل الغموض والمجهول فيها أصعب من أن تحدد بدقة، مما يجعل الفكر اليساري أمام تحديات كبيرة، ويجب على اليسار أن يثبت قدرته على معالجتها بجدية، ولكن ليس عبر التهرب من الحقائق أو اللجوء إلى أفكار المؤامرة. يجب أن يكون اليسار قوة فاعلة في بناء المستقبل، لا مجرد رد فعل على الأحداث.

كاتب من سوريا

القدس العربي

——————————-

بوليساريو في دمشق/ معن البياري

30 مايو 2025

سويعاتٍ بعد ذيوع نبأ غزو الجيش العراقي الكويت فجر ذلك اليوم اللاهب في صيف 1990، عقَد الحسن الثاني اجتماعاً عاجلاً مع حكومته ومعاونيه، صدر عنه بيانٌ يندّد بهذا، ويطالب العراق بالانسحاب الفوري من الكويت. بعد يومٍ أو اثنين، عبَرَ خبرٌ شديدُ الاقتضاب، أن صدّام حسين قد يعترف بالجمهورية الصحراوية، و”حقّ الشعب الصحراوي في تقرير المصير”. ثم وصل إلى بغداد أحمد رضا اكديرة، مستشار الحسن الثاني، واجتمع بصدّام، فلم يحدُث ذلك الاعترافُ الملوَّح به. لم يُكترَث، في تلك الغضون، بين ضجيج الأخبار التي كانت تتدافع بشأن ذلك الحدث المدوّي ومفاعليه العربية والدولية (ولم نكن في زمن العنكبوتيات والفضائيات والرقميّات)، بذينك الخبريْن، النافليْن وسط ترقّب حربٍ كبرى في الخليج… وفيما تنشدّ حواسّنا إلى أخبار غزّة، ونتابع بفضول المستجدّات في سورية وعنها، وتغشانا أحزانٌ على السودان من فرط ما تتواتر منه أخبارٌ مُؤسية (الكوليرا أخيراً)، يعبُر، قبل ثلاثة أيام، خبرٌ على شيءٍ من الغرابة (والطرافة ربما)، بثّته وكالة الأنباء الرسمية في الرباط، أن السلطات السورية أغلقت الثلاثاء الماضي في دمشق مكتب جبهة بوليساريو (اسمُها الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب)، وأن بعثةً مشتركةً من مسؤولين مغاربة وسوريين (كبارٍ بحسب الوكالة) عاينوا “الإغلاق الفعلي لمكتب الانفصاليين” في مكانه بالضبط… ولئن يذهب بنا هذا الخبر إلى زمن مكايدات حافظ الأسد مع الحسن الثاني، وإلى اعتبار الخطاب البعثي (وبعض القومي) “بوليساريو” حركة تحرير، فإن أنباءً جاءت لاحقاً تفيد بأن المكتب مغلقٌ منذ 2003، ما قد يعني أن ثمّة باعثاً سياسياً ما وراء حماس الرباط لإذاعته، سيّما وأنه جاء أياماً بعد إعلان محمد السادس، في كلمته التي ألقاها نيابةً عنه وزير الخارجية ناصر بوريطة في القمّة العربية في بغداد، قرار المغرب إعادة فتح سفارته في دمشق. وهنا، يبدو أن الرباط قد غادرت تردّدها بشأن بناء علاقاتٍ طبيعيةٍ وقويةٍ مع سورية الجديدة، ثم حسمت أمرَها بعد اتصالاتٍ واجتماعاتٍ بين بوريطة وأسعد الشيباني.

كان كاريكاتيريّاً من صدّام حسين أن يدّعي “عودة فرعٍ إلى أصل” في الكارثة التي أقدم عليها يوم غزو الكويت، فيما “يلوّح” (مجاكرةً!) باعترافٍ بكيانٍ انفصاليٍّ عن بلد عربي. وكان مستهجناً جداً من حافظ الأسد أن يحرص على علاقاتٍ جيدةٍ مع المغرب، فيما لا تمنعُه بعثيّته الوحدوية والعروبية من استضافة مكتبٍ لانفصاليي “بوليساريو” في دمشق، وإنْ لم يجنح إلى اعترافٍ رسميٍّ بجمهورية تلك الجبهة. وفيما لم تُقدم أيٌّ من الدول، التي كانت تُرمى بالرجعية في إعلام أنظمةٍ وتنظيماتٍ رأت نفسها تنفرد بالتقدّمية، على مماحكة العرش في المغرب بورقة “بوليساريو”، كنّا نراهم، حكّام هذه الدول وقادة تلك التنظيمات، يخترعون، في تقريب الجبهة الانفصالية إليهم، تلك الأسباب عن “رجعيّة” الحسن الثاني “وعمالته”، فيما القضية تخصّ بلداً ووحدة ترابية وشعباً، لا نظاماً ولا ملكاً. ولا يغيب في هذا الأرشيف أن “تأثيراتٍ” جزائريةً عتيدة كان لها حضورها في تلك المماحكات والمسلكيات، فليس منسيّاً توريط منظمّة التحرير باستضافة ممثلٍ عن “بوليساريو” في اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني في العاصمة الجزائرية في 1988، ما أغضب كل المغاربة (وليس الملك وحده)، ثم لملم الأمر ياسر عرفات بزيارة الحسن الثاني وقبلاته إيّاها. ومع كل احترامٍ لنضال جورج حبش وكفاحه ومناقبيّته، فقد كانت زيارته في 1979 “الشعب الصحراوي الشقيق” في تندوف (في الجزائر)، وخطبته التي دعم فيها بشدّة “بوليساريو”، شاهداً ثقيلاً على ما كان “الرجعيون” يسمّونها، محقّين، “طفوليةً يسارية”… باهظة.

يأخذنا الخبر العابر، المعلن في الرباط، إلى زمن حروبٍ باردةٍ عربيةٍ مديدة، اجتمعَت فيها السذاجات بالعنتريات (القذّافية وغيرها)، وقد كان من وجوهها أن تحظى جبهة تحرير الساقية ووادي الذهب بمكتبٍ، سياسي وإعلامي، في دمشق التي تأخذ بشعار الوحدة العربية… ولكن، مهلاً، ثمّة قيس سعيّد في حاضرنا. لم يبادر إلى أيّ شكلٍ من التواصل مع سورية الجديدة، لا برقية تهنئة ولا مكالمة هاتفية ولا إعادة سفارة ولا… في معاكسةٍ لمزاج دولي كاسح، فيما خصّ رئيسَ “الجمهورية الصحراوية” باستقبالٍ في مطار قرطاج، وبمباحثاتٍ كاملة البروتوكول، فكان الغضب المغربي المعلوم.

… مواريثُ كثيرةٌ من عهد الأسديْن في سورية تحتاجُ أن تُغلق، نتذكّر أخيراً أن منها مكتباً لـ”بوليساريو”.

العربي الجديد

—————————

العقوبات الأوروبية على أبو عمشة وبولاد: تقديرات متفاوتة للآثار على الجيش السوري/ محمد أمين

30 مايو 2025

دخل قائدان بارزان لفصيلين مسلحين انضما إلى الجيش السوري الوليد دائرة العقوبات الأوروبية بعد الأميركية، بسبب اتهامات تلاحقهما بالمسؤولية عن “انتهاكات خطيرة” جرت في الساحل السوري مطلع مارس/آذار الماضي، في خطوة ربما تنعكس سلباً على الجيش السوري الناشئ وسمعته.

وبحسب القرار، الذي صدر أمس الأول الأربعاء، أضاف الاتحاد الأوروبي إلى قائمة العقوبات المتعلقة بسورية، قائد الفرقة 25 في الجيش السوري الجديد محمد حسين الجاسم، الملقب بـ”أبو عمشة”، وسيف الدين بولاد “أبو بكر”، والمعيّن حديثاً قائداً للفرقة 76 في الجيش السوري بسبب ارتباط اسميهما بالتجاوزات التي حدثت في الساحل السوري في مارس/آذار الماضي أثناء التصدي لمحاولة تمرد من قبل فلول نظام الأسد. كما أدرج الاتحاد الفصيلين التابعين للجاسم وبولاد وهما “لواء السلطان سليمان شاه”، والمعروف باسم فصيل “العمشات”، و”فرقة الحمزة”، والمعروفة باسم فصيل “الحمزات”، في قائمة العقوبات، إضافة إلى فصيل آخر، هو “فرقة السلطان مراد”، واستثنى القرار الأوروبي قائده فهيم عيسى الذي يشغل منصب معاون وزير الدفاع.

استهداف أوروبي لثلاثة فصائل

وأوردت الصحيفة الرسمية للاتحاد الأوروبي أنه تم استهداف هذه الفصائل الثلاثة واثنين من المسؤولين عنها بالعقوبات التي شملت تجميد أصول وحظر دخول الاتحاد، لضلوعهم في “جرائم تعسفية” و”أعمال تعذيب” وقعت في مارس الماضي في العديد من مدن وبلدات الساحل السوري. وجاء هذا القرار بعد يوم من رفع الاتحاد الأوروبي العقوبات الاقتصادية عن سورية، لدعم عملية التحول السياسي في البلاد ولمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي، وذلك بعد اتفاق سياسي توصل له وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي لرفع العقوبات.

وأعلن مجلس الاتحاد أنه سيُبقي على العقوبات المرتبطة بحكومة الأسد المخلوع، والقيود المتعلقة بأسباب أمنية، مع فرض عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بموجة عنف اندلعت في مارس الماضي. وأشار إلى أن “المجلس سيواصل مراقبة التطورات الميدانية”، مؤكداً أنه “على أهبة الاستعداد لفرض مزيد من الإجراءات الصارمة على منتهكي حقوق الإنسان، وأولئك الذين يؤججون عدم الاستقرار في سورية”. وقال الاتحاد في بيان إنه “على الرغم من سقوط نظام الأسد وتأسيس السلطات الانتقالية، إلا أن الوضع في سورية لا يزال غير مستقر، كما أن شبكة الأسد المنتشرة داخل سورية وخارجها، لم تخضع بعد للمساءلة، ولا يمكن اعتبارها منحلة. لا يزال هناك خطر حقيقي من زعزعة الاستقرار وعودة محتملة لنفوذ النظام السابق. ويتجلى ذلك في الحوادث الداعمة لنظام الأسد بهدف تقويض العملية الانتقالية، والتي أدت إلى أعمال عنف مميتة في الساحل السوري. لا يزال الأفراد والكيانات المدرجة أسماؤهم على القائمة مرتبطة بنظام الأسد يلعبون أدواراً مؤثرة قوية ويشكلون خطراً، من خلال التمويل أو غيره من الوسائل، لمزيد من النزاع المسلح، وقد يلعبون دوراً في محاولات عكس مسار الانتقال”. وأضاف: “في بيانها الصادر في 11 مارس 2025 باسم الاتحاد، أعربت الممثلة العليا للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية عن قلقها البالغ إزاء العنف الواسع النطاق في الساحل السوري، ودانت بشدة الهجمات التي شنتها المليشيات الموالية للأسد ضد قوات الأمن والجرائم المروعة التي ترتكب ضد المدنيين، بما في ذلك عمليات القتل، وشددت في هذا الصدد على ضرورة اتخاذ تدابير فعالة لمنع تكرار مثل هذه الجرائم”.

واستبق الاتحاد الأوروبي نتائج لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الإدارة السورية بعد تناقل وسائل الإعلام معلومات موثقة عن ارتكاب مجازر بحق مدنيين من الطائفة العلوية في الساحل السوري في خضم التصدي لمحاولة تمرد عسكري واسعة النطاق من قبل فلول الأسد. وتعمل اللجنة التي أعلنت الالتزام بـ”معايير الحياد وفق القواعد الوطنية والدولية”، على إعداد قائمة بالمتورطين المحتملين في التجاوزات التي أدت إلى مقتل مئات الأشخاص في أكبر موجة عنف شهدتها البلاد بعد إسقاط نظام الأسد. وقرر الرئيس السوري أحمد الشرع في العاشر من إبريل/نيسان الماضي، تمديد عمل هذه اللجنة (بناء على طلبها)، لمدة 3 أشهر أخرى غير قابلة للتمديد، على أن تقدم تقريراً تفصيلياً خلال هذه المدة يوضح أسماء الأشخاص الذين كان لهم دور في ارتكاب المجازر لتقديمهم للمحاكمة.

وكان أبو عمشة نفى في تصريحات صحافية اشتراك فصيله في أي تجاوزات بحق المدنيين في الساحل، وأنه “كان يوصي العناصر التابعين له بعدم الاقتراب من البلدات والقرى وأن تكون اشتباكاتهم بعيداً عن السكان المدنيين”، وفق قوله. وكانت وزارة الدفاع السورية قد عيّنت في مارس الماضي سيف الدين بولاد قائداً للفرقة 76 التي شكلتها من اندماج عدة فصائل. كما عيّنت في فبراير/شباط الماضي محمد الجاسم قائداً للفرقة 25 بعد منح الاثنين رتبة عسكرية رفيعة. ويخضع الاثنان منذ منتصف عام 2023 لعقوبات أميركية بسبب اتهامات بارتكاب تجاوزات جسيمة في الشمال السوري بحق مدنيين فضلاً عن اتهامات أخرى بممارسة عمليات اعتقال وتعذيب ومعاملة لاإنسانية، وتنقيب عن آثار في مناطق كانت تحت سيطرة الفصيلين في ريف حلب الشمالي.

ويُعتبر الجاسم وبولاد مقربين من زعيم حزب “الحركة القومية” التركي اليميني المتطرف، دولت بهشلي، وظهرا معه في مكتبه منتصف العام الماضي. وكانت الفصائل السورية التي كان لها دور في إسقاط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، اتفقت في ذاك الشهر على وضع حد للفصائلية في سورية ودمج كل التشكيلات العسكرية في جيش محترف يعتمد مبدأ التطوع. وانضوت الفصائل المعاقبة من الاتحاد الأوروبي في الجيش السوري الذي ضم نحو 130 فصيلاً عسكرياً دخلت ضمن الهيكلية التنظيمية لوزارة الدفاع. ولم يصدر عن الوزارة حتى ظهر أمس الخميس أي تعليق على إدراج الجاسم وبولاد ضمن قائمة العقوبات الأوروبية، كما لم يتسن لـ”العربي الجديد” الوصول إلى أحد المتحدثين أو المعنيين بالرد في هذه الوزارة.

العقوبات ستؤثر على سمعة الجيش السوري

وبيّن الباحث العسكري رشيد حوراني، في حديث مع “العربي الجديد”، أن العقوبات الأوروبية على الجاسم وبولاد تحول دون سفرهما خارج البلاد، مضيفاً: قد تذهب بعض الدول إلى أبعد من ذلك من خلال عدم تسليح الوحدات المعاقبة بأسلحة متطورة. ورأى أن العقوبات من شأنها التأثير أيضاً على سمعة الجيش السوري وربما تدفع شرائح وفئات مجتمعية إلى التخوف من الجيش السوري الجديد وقادته، في وقت تسعى فيه قيادة هذا الجيش إلى ردم الهوة مع الشعب، وهذا الأمر أكده بشكل دائم وزير الدفاع مرهف أبو قصرة.

من جهته، قلل الباحث السياسي عباس شريفة من تأثير القرار الأوروبي بمعاقبة الجاسم وبولاد، معرباً عن اعتقاده بأنه لن يكون له أي تبعات سلبية على وزارة الدفاع والجيش السوري الناشئ، مضيفاً لـ”العربي الجديد”: العقوبات على أشخاص وليس على مؤسسات حكومية، ومن ثم لن يحول القرار دون تسليح الجيش السوري بكل صنوف الأسلحة.

وينحدر محمد الجاسم (أبو عمشة) والمولود في عام 1987، من منطقة الغاب بريف حماة الشمالي الغربي، وكان يعمل سائقاً لجرارات الحراثة والحصادات الزراعية، قبل انضمامه للعمل المسلح بعد انطلاق الثورة في عام 2011. تنقّل في عدة تشكيلات قبل تشكيله فصيل “فرقة سليمان شاه” التي انضمت لاحقاً إلى فصائل “الجيش الوطني” الذي كان ينشط في الشمال السوري قبل إسقاط نظام الأسد. وشارك هذا الفصيل في عملية “ردع العدوان” التي أدت إلى إسقاط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي بعد نحو عشرة أيام من انطلاقها، ليُعيّن لاحقاً قائداً لفرقة عسكرية في الجيش الجديد. بينما ينحدر سيف الدين بولاد من بلدة بزاعة بريف حلب الشمالي، وهو ضابط منشق عن قوات النظام المخلوع، قاد فصيل “فرقة الحمزة”، وكان من الفصائل المقربة من الجانب التركي بشكل كبير. وبعد انطلاق معركة “ردع العدوان” (بتاريخ 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024) كان من قادة غرفة عمليات “فجر الحرية”، التي أطلقت معركة موازية في ريف حلب الشرقي حتى أبواب مدينة حلب وسيطرت خلالها على مساحات شاسعة وكمية ضخمة من الأسلحة.

—————————

بعد تجاهل شرط انسحابها.. هل أقر الغرب بدور لروسيا في سوريا؟/ باسل المحمد

30/5/2025

شهد الملف السوري الأيام الماضية تحولاً جذريا تجلى برفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي العقوبات الاقتصادية المفروضة على دمشق منذ عقود.

وفي المقابل، التزمت الحكومة الجديدة بحزمة من المطالب السياسية والأمنية، مثل إبعاد المقاتلين الأجانب ومطالب أخرى. لكن اللافت في هذه المطالب -التي تشكل أساس الموقف الغربي في مرحلة ما بعد نظام الأسدـ كان غياب أي إشارة إلى إخراج القوات الروسية من الأراضي السورية.

ويظهر هذا الغياب تحوّلاً تدريجياً في أولويات الغرب تجاه الملف السوري، بعد أشهر من تصريحات لمسؤولين أوروبيين وأعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي، تلت سقوط نظام الأسد، تضع إخراج القوات الروسية من سوريا في مقدمة مطالب من حكومة دمشق الجديدة نظير الانفتاح عليها.

فهل يعكس هذا التجاهل قبولاً ضمنياً باستمرار الوجود الروسي في سوريا الجديدة كجزء من صفقة أوسع؟ أم أن الغرب قرر التركيز على ما يمكن تحقيقه في العلاقة مع دمشق وما يتطلبه ذلك من الاستقرار، بالتوازي مع الاعتراف بحقها في إعادة صياغة علاقاتها مع الدول بما يتفق مع مصالحها بعيدا عن التبعية؟

الاستقرار أولا

كانت الكثير من العواصم الغربية لا سيما في الأيام الأولى لسقوط النظام المخلوع تربط أي انفتاح على دمشق بخروج القوات الروسية منها، إلا أن هذه اللهجة اختفت لاحقاً، وبات واضحاً أن الحكومات الغربية تفضل تأجيل طرح هذا الملف، والتركيز بدلاً من ذلك على أولويات أكثر إلحاحاً، كمنع الانهيار الأمني ودعم الاستقرار المؤسسي، حتى وإن تطلّب ذلك التعامل مع واقع الوجود الروسي بوصفه أمراً قائماً لا يمكن تجاوزه.

وهذه الرغبة باستقرار الأوضاع في سوريا كانت واضحة جداً في التصريحات الأميركية والأوروبية التي رافقت رفع العقوبات، إذ قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إن رفع العقوبات سيساعد سوريا في منع حرب أهلية شاملة وفوضى.

وأضاف روبيو أمام جلسة استماع في مجلس الشيوخ في 20 مايو/ أيار “نريد مساعدة حكومة سوريا على النجاح، لأن تقييمنا هو أن السلطة الانتقالية وبصراحة في ضوء التحديات التي تواجهها قد تكون على بعد أسابيع وليس عدة أشهر من انهيار محتمل، وحرب أهلية شاملة ذات أبعاد مدمرة تؤدي فعليا إلى تقسيم البلاد”.

ومن ناحيتها، كانت الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، قد أكدت أن الاتحاد ليس لديه خيار سوى رفع العقوبات عن سوريا.

وأضافت في تصريحات قبيل اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل الذي شهد رفع العقوبات بشكل كامل عن سوريا “آمل أن يسفر اجتماع اليوم عن قرارات جديدة بخصوص رفع العقوبات التي فرضت على سوريا بعهد النظام السابق، وإلا فإن الوضع سيتطور إلى وضع مماثل لما حدث في أفغانستان”.

هذه البراغماتية الغربية يشرحها الباحث في مركز الدراسات العربية الأوراسية، ديميتري بريجع، بالقول إن الغرب بدأ يدرك أن المعركة في سوريا لم تعد معركة “إزاحة نظام” بل ترتيب إقليم جيوسياسي بالكامل، ولذلك فإن تجاهله للوجود الروسي قد لا يكون تراجعًا، بل إعادة تموضع، بمعنى أنه الآن مستعد لتجميد ملف القواعد الروسية مؤقتًا مقابل تحييد سوريا عن صراعات أوسع.

ويضيف بريجع في حديثه للجزيرة نت “رغم أن روسيا اليوم ليست في وضع يمكنها من فرض شروطها كما في 2015، لكنها لا تزال قوة ضامنة تملك أدوات ضغط وأوراق نفوذ بالكثير من الملفات السورية، سواء الملف الكردي، أو ملفات الطاقة والبنى التحتية، أو حتى عبر علاقتها المركّبة بإسرائيل وتركيا”.

مقايضة إستراتيجية

في ظل تصاعد الحرب في أوكرانيا، يعتقد مراقبون أن الغرب اعتمد سياسة “تجميد” ملف انسحاب القوات الروسية من سوريا كجزء من حسابات جيوسياسية أوسع، تتعلق -بحسب مراقبين- بتوجيه الجهود وتركيزها نحو الملف الأوكراني.

فقد ذكرت صحيفة “ذا هيل” الأميركية في أبريل/نيسان أن الرئيس دونالد ترامب -وخلال مكالمة هاتفية أجراها مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في 18 مارس/آذار بخصوص أوكرانيا- أسهب بالحديث عن الشرق الأوسط بوصفه “منطقة قد تشهد تعاوناً في مجال منع ظهور أي نزاعات مستقبلاً”.

ومن ناحية أخرى، أشارت صحيفة وول ستريت جورنال إلى أن اللافت في الخطة الأميركية الجديدة حول رفع العقوبات عن سوريا هو غياب أي إشارة لمطالب تتعلق بإخراج القوات الروسية، في تحوّل واضح عن نهج إدارة جو بايدن السابقة، عزته الصحيفة إلى المفاوضات الجارية بين واشنطن وموسكو حول أوكرانيا، مما يدفع الولايات المتحدة لتجميد ضغوطها بهذا الملف مؤقتاً.

ويأتي هذا التحول في إطار ما يشبه “المقايضة الجيوسياسية” مع موسكو، بما يضمن تحييد الجبهة السورية عن الاشتباك الأوسع، وذلك بحسب الأكاديمي والباحث بالشأن الروسي محمود حمزة.

وفي حديثه للجزيرة نت، يرى حمزة أن “الولايات المتحدة وأوروبا تتعاملان بواقعية حذرة، فهما لا تريدان تصعيداً في سوريا، قد تستغله موسكو ورقة ضغط في أوكرانيا أو مناطق أخرى”.

بالمقابل، يستبعد المستشار في شؤون السياسة الروسية رامي الشاعر -في حديثه للجزيرة نت- وجود أي صفقة مقايضة بين الغرب وموسكو فيما يتعلق بأوكرانيا، مشيرا إلى أن روسيا “لا تلجأ إلى صفقات تتضمن التدخل بشؤونها وقرارتها السيادية”.

ويوضح الشاعر أن “قضية أوكرانيا والأراضي التاريخية الروسية محسومة لا يمكن لأحد أن يساوم بشأنها، ولا يمكن أن يخضع القرار الذي وضعته القيادة في موسكو بخصوص أهداف العملية العسكرية الخاصة بأوكرانيا لأي مؤثرات خارجية”.

هامش المناورة

لا تقف قدرة روسيا على البقاء في سوريا عند حدود التفاهمات مع النظام المخلوع أو الحضور العسكري الميداني، بل تتجاوز ذلك إلى شبكة علاقات إقليمية متشابكة تمنحها هامش مناورة واسعًا، يصعّب على الغرب فرض عزلة حقيقية عليها. فالعلاقات الروسية مع تركيا وإسرائيل توفر لموسكو مساحة للتحرك وتبادل الأدوار، بعيدًا عن الضغط الأميركي والأوروبي.

وهذه العلاقات التي تمزج بين التنسيق الأمني والمصالح الاقتصادية والميدانية -حسب مراقبين- تمكّن روسيا من البقاء لاعباً محورياً في الملف السوري، دون أن تُواجه بعزلة حقيقية، أو حتى تهديد مباشر من قبل القوى الغربية.

ويعكس هذا الدور المعقّد لروسيا في سوريا ما كشفته وكالة رويترز في فبراير/شباط الماضي، عن ممارسة إسرائيل ضغوطاً على واشنطن للإبقاء على الوجود العسكري الروسي باعتباره وسيلة فعالة لاحتواء النفوذ التركي المتنامي في سوريا.

وبحسب المصادر، ترى إسرائيل أن موسكو تساهم في منع قيام سلطة مركزية جديدة في سوريا مدعومة من أنقرة، تتبنى توجهاً إسلامياً يهدد أمن إسرائيل وحدودها، لا سيما في ظل توتر العلاقات التركية الإسرائيلية عقب الحرب على غزة.

وبالنسبة لتركيا، فقد ذكرت العديد من التقارير الغربية أنه رغم الخلافات القائمة بينها وبين روسيا في الكثير من الملفات الدولية، فإن الدولتين ما تزالان تشتركان بمصالح في سوريا، أهمها منع تنظيم الدولة من إقامة موطئ قدم له في ذلك البلد من جديد، والتصدي لأجندة واشنطن بما يخدم أهداف البلدين، ولهذا من المرجح أن يواصلا تعاونهما في الملف السوري وغيره من الملفات.

وتأكيدا على ما سبق، يوضح الباحث حمزة أن العلاقات الإستراتيجية -التي تربط روسيا بكل من إسرائيل وتركيا- تصعّب على الغرب فرض انسحابها.

فمن ناحية إسرائيل -حسب الباحث- تتواصل مع التفاهمات الأمنية رغم التوتر، أبرزها تفاهم ثلاثي (روسي أميركي إسرائيلي) عام 2019 سلّم موسكو إدارة الملف الأمني في سوريا مقابل ضمان أمن إسرائيل.

أما على الجبهة التركية، يقول حمزة إن العلاقة بين أنقرة وموسكو تقوم على شراكة معقّدة قائمة على المصالح المشتركة في مجالات الطاقة والتجارة والسياسة الإقليمية، مما ينعكس بشكل مباشر على الملف السوري ويُسهم في ترسيخ الوجود الروسي هناك.

الكرة في ملعب دمشق

يشير محللون إلى أن تجاهل الولايات المتحدة وأوروبا إدراج الانسحاب الروسي من سوريا ضمن شروط رفع العقوبات، لا يفسره فقط ببراغماتية الغرب أو تشابك مصالح روسيا الإقليمية، بل يبدو أيضاً انعكاساً لتحولٍ عميق في بنية القرار السوري ذاته.

وتحاول دمشق بعد سقوط النظام رسم ملامح علاقة جديدة مع موسكو، تقوم على أساس المصالح المتبادلة لا التبعية. وهذا التحول جعل من الوجود الروسي في سوريا مسألة خاضعة لإرادة دمشق، لا لإملاءات الخارج.

وبينما ترتبط المصالح الروسية بقضايا أوسع مثل قاعدتي حميميم وطرطوس والديون القديمة، يشير الرئيس أحمد الشرع في أكثر من مناسبة إلى أن العلاقة مع روسيا ستُعاد هيكلتها بما يخدم المصلحة الوطنية.

وأوضح الشرع، في حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية، أن “هناك اتفاقيات جائرة بحق سوريا تمت بين روسيا والنظام السابق” مؤكدا العمل على إعادة النظر فيها.

وفي هذا السياق، يرى الباحث الروسي ديمتري بريجع أن السنوات المقبلة قد تشهد نموذجاً سورياً جديداً، تكون فيه القواعد الروسية خاضعة لإشراف قانوني، وتشارك موسكو في إعادة الإعمار ضمن مشاريع مشتركة، في حين تفاوض دمشق بندّية، بمنطق الشراكة لا بمنطق الطلب.

وبهذا المنطق ـ يتابع بريجع ـ يصبح تجاهل مطلب الانسحاب الروسي في المفاوضات الغربية مفهوماً ضمن هذا السياق الجديد، حيث لم تعد موسكو الطرف الوحيد الذي يُملي شروطه، ولا الغرب الجهة القادرة على فرض مسارات على دمشق، التي تمتلك اليوم ولأول مرة منذ عقد فرصة نادرة لرسم خريطة تحالفاتها وشكل وجود الحلفاء على أرضها.

واتسمت التصريحات الروسية تجاه الإدارة الجديدة في دمشق بالإيجابية، والرغبة في بناء علاقة شراكة إستراتيجية بين البلدين.

وكان المبعوث الروسي إلى سوريا ميخائيل بوغدانوف أكد في أول زيارة إلى سوريا بعد سقوط النظام أن “روسيا حريصة على وحدة واستقلال وسلامة الأراضي السورية” مضيفا أنّ الزيارة تأتي في سياق “تعزيز العلاقات التاريخية بين روسيا وسوريا وفق قاعدة المصالح المشتركة”.

المصدر : الجزيرة

—————————-

سوريا كسوق للسيارات التي تخلّى عنها العالم/ محي الدين عمّورة

السيارات المستعملة تصل عبر مختلف المنافذ الحدودية، وقانونٌ ضريبيٌ جديد

29-05-2025

        دخلت سوريا بعد سقوط نظام الأسد مرحلةً جديدةً من الانفتاح الاقتصادي وإعادة تشكيل البنية التجارية في مختلف القطاعات، وفي مقدمتها تجارة السيارات. وكانت سنوات الحرب والحصار دفعت البلاد إلى حالة شللٍ شبه تام في سوق السيارات في المناطق التي كان يسيطر عليها نظام الأسد، حيث كانت الأسعار باهظة والخيارات محدودة. لكن التحولات الجذرية التي حدثت بعد سقوط النظام أعادت إلى حدٍّ ما رسم ملامح هذا السوق، وفتحت آفاقاً جديدةً للاستثمار والتنافس.

        وشهد السوق السوري للسيارات انتعاشاً ملحوظاً وحركةً غير عادية منذ الثامن من كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، مع تدفق السيارات من «المناطق المُحرّرة» سابقاً باتجاه بقية المحافظات. ففي المناطق التي كانت خاضعةً لسيطرة فصائل المعارضة، كانت عملية استيراد السيارات سلسةً وسهلة عبر الأراضي التركية. في المقابل، كانت حكومة نظام الأسد تفرض رسوماً جمركية وضريبة رفاهية على السيارات المستوردة، مما جعل أسعار السيارات تتضاعف بشكلٍ كبير مقارنة بمناطق الشمال السوري. ثم فُتحت المعابر الحدودية، من جهة إدلب للسيارات القادمة من أوروبا وآسيا عبر تركيا، ومن جهة الأردن للسيارات القادمة من الخليج العربي، بالإضافة إلى السيارات التي بدأت تصل عبر البحر إلى الموانئ السورية. وكانت تركيا من أكثر الدول المستفيدة من هذا الانفتاح، حيث سجلت عمليات شحن السيارات الجديدة والمستعملة إلى سوريا ارتفاعاً قياسياً، مع زيادة الطلب على مختلف أنواع السيارات. وتركزت الشحنات على العبور من دول مثل كوريا الجنوبية ودول أوروبية عدة عبر السفن إلى موانئ مرسين وإسكندرون، ثم إلى سوريا عبر بوابة جيلفي غوزو – باب الهوى، ما أسهم في تنشيط قطاع النقل التركي، وحقق فوائد اقتصادية ملموسة للموانئ والشركات العاملة في هذا المجال. وبينما أعلنت وكالة سانا نقلاً عن مراسلها في اللاذقية وصول أول باخرة سيارات في الشهر الأول من العام الجاري، قالت صحيفة الثورة إن أول باخرة محمّلة بالسيارات وصلت إلى مرفأ طرطوس وعلى متنها نحو 3200 سيارة نهاية شهر نيسان (أبريل).

        وشهدت أسعار السيارات انخفاضاً ملحوظاً نتيجة عدة عوامل، أبرزها تخفيض الرسوم الجمركية من 400 بالمئة إلى نحو 10-20 بالمئة في المناطق التي كانت خاضعةً لنظام الأسد، في حين ارتفعت الأسعار في مناطق الشمال المحررة سابقاً إلى ضعف ما كانت عليه وربما أكثر، وذلك بعد توحيد التعرفة الجمركية الصادرة في 11 كانون الثاني (يناير) في جميع الأمانات الجمركية في المنافذ البرية والبحرية والمطارات، وزيادة الطلب بشكل كبير على السيارات من هذه المناطق. كما تم تقليص الضرائب والرسوم المرتبطة بعمليات الاستيراد، فقد كان استيراد سيارة واحدة في عهد النظام السابق يتطلب دفع ضرائب تصل إلى أكثر من 100 بالمئة من قيمة المركبة. ورغم أن وزارة النقل في حكومة تصريف الأعمال السورية أصدرت قراراً في 24 كانون الثاني (يناير) 2025 فتحت بموجبه الباب أمام الراغبين باستيراد جميع أنواع السيارات بشرط واحد فقط: «على أن لا يكون مضى على تصنيعها (السيارة) أكثر من 15 عاماً»؛ لم يمنع ذلك دخول عشرات آلاف السيارات المصنعة قبل هذا التاريخ، خاصةً تلك التي تعمل على الديزل (المازوت) وهو الشيء الجديد بالنسبة للأسواق السورية. وتُباع السيارات من نوع سنتافي مازوت موديل 2006 بنحو 7500 دولار أميركي، ومن نوع كيا سبورتاج مازوت موديل 2008 بمبلغ 8500 دولار.

        في سوق الزاهرة الجديدة، وهو السوق الأكثر شهرة حالياً في دمشق، والذي حل بديلاً عن سوق السيارات الأشهر في سوريا قبل الثورة، أي سوق الحجر الأسود وتحديداً شارع الثلاثين الفاصل بين مخيم اليرموك والحجر الأسود؛ هناك عشرات السيارات المعروضة للبيع تنتشر على جانبي الشارع. وخلال جولتنا التقينا الكثير من أصحاب المعارض وتحدثنا عن واقع السوق قبل وبعد سقوط النظام، وكان للجمهورية.نت حديثٌ مطول مع أيمن حجازي، الذي يعمل وكيلاً ومستورداً للسيارات. يقول: «كنت أحد ثلاثة تجار فقط ممن انتقلوا من سوق السيارات في الحجر الأسود إلى سوق الزاهرة الجديدة عام 2013، بعد اشتداد المعارك وإغلاق سوق الحجر الأسود، وبقينا كل هذه السنوات نعمل بتجارة السيارات. كان عملنا يقتصر على بيع وشراء السيارات المتواجدة في سوريا نتيجة توقُّف الاستيراد منذ عام 2011. في السنتين الأخيرتين كان البيع والشراء شبه متوقف نتيجة ارتفاع الأسعار بشكل مبالغٍ فيه، خاصةً مع وصول سعر الليرة إلى 15 ألف مقابل الدولار الأميركي».

        ويضيف حجازي: «لك أن تتخيل أن سيارة من نوع مرسيدس تلقب بالفانوس يعود تاريخ صناعتها إلى عام 1970 وصل سعرها إلى 60 مليون ليرة سورية، أي 4 آلاف دولار، في حين وصلت أسعار بعض السيارات مثل كيا ريو وهي الأكثر شهرةً ومبيعاً إلى 250 مليون ليرة، وفي الحد الأدنى 190 مليون ليرة، أو كيا فورتي إلى 400 مليون ليرة وسيارة هيونداي سانتفي إلى 500 و600 مليون من موديل 2008 و2010 و2012، في حين وصل سعر سيارة من نوع أودي إلى مليار ليرة سورية. اشتريت سيارة نوع بيجو 206 قبل التحرير بيومين بـ10 آلاف دولار، اليوم ثمنها 3 آلاف. أحد أصدقائي اشترى سيارة كيا فورتي قبل التحرير بـ24 ألف دولار، وباعها بعد التحرير بـ7500 دولار. رغم أننا لم نكن نجرأ على ذكر الدولار في حياتنا اليومية، لكن معاملاتنا الحقيقية كانت بالدولار وما يعادله من الليرة بحسب سعر الصرف».

        سألنا السيد حجازي عن المعارض والبازارات التي كان يقيمها النظام السابق، وهل شارك في أيٍّ منها، فأجاب: «حضرت معظمها. كل السيارات التي كانت تُعرض، خاصةً من موديلات 2020 وحتى 2023 في معظمها سيارات صينية. عدا عن ذلك كان هناك خدعة يقوم بها النظام السابق، حيث تشتري سيارة تسجيلها في 2022 لكن تاريخ صنعها يعود لعام 2010. اشتريت سيارة نوع سانتفي من أحد البازارت بـ200 مليون ليرة، لأتفاجأ بأن فراغها 25 مليون ليرة، وأنفقت نحو 20 مليون ليرة لإعادة صيانتها وتجهيزها، لتصبح أغلى من السعر الذي يجب أن تباع به في السوق، كانت تجربة فاشلة لم أكررها».

        ويواصل السيد حجازي حديثه عن الفترة التي سبقت التحرير. يقول: «قرر النظام البائد إقامة سوق للسيارات في منطقة الدوير بالقرب من منطقة عدرا بريف دمشق، وفرض على كل التجار وأصحاب المعارض شراء مساحات في هذا السوق للانتقال إليه، وقُدّر سعر المتر الواحد بمليون ليرة، كل 4 أو 5 تجار اتفقوا على شراء مساحات مشتركة فيما بينهم، ودفع كل تاجر مبلغ 25 مليون ليرة دفعة أولى، على أن يتم تسديد المبلغ على أقساط ولمدة ثلاث سنوات، طبعاً بعد أن نسدد قسم كبير عند الاستلام. مثلاً أنا اتفقت مع 4 تجار على حجز مساحة ألف متر بتكلفة مليار ليرة، كان من المفترض أن ندفع 400 مليون عند الاستلام و600 مليون بالتقسيط. بسبب تأخر المشروع وعدم إنجازه، أجبرنا النظام على دفع 10 ملايين ليرة على كل واحد منا وأسماه للتريّث، وهو أن نبقى في مكاتبنا ومعارضنا عاماً آخر. طبعاً سقط النظام ولا نعلم إذا كان المشروع سيستمر أم سيتم إيقافه. بالعموم في الفترة الأخيرة كان أفضل التجار في هذا السوق لديه 3 سيارات على الأكثر ثمنها وسطياً 700 مليون ليرة».

        تابعنا الحديث مع أيمن حجازي عن المرحلة التي أعقبت التحرير وحتى اليوم، يقول: «منذ الأيام الأولى بدأنا نرى السيارات القادمة من الشمال في هذا السوق، وتقريباً في معظم شوارع دمشق. في البداية كانت الأسعار مقبولة جداً مقارنة بالأسعار القديمة، مثلاً سيارة نوع سانتفي موديل 2007 أو 2008 كانت تباع بسعر 6 آلاف أو 7 آلاف دولار، قبل أن ترتفع اليوم إلى 9 آلاف أو 10 آلاف، وسيارة من نوع كيا موهافي كانت 8 آلاف واليوم صارت 12 ألف دولار. لكن هذا الانفتاح رافقه الكثير من المشاكل والأخطاء، بدايةً من التجار الذين كانوا يعملون في زمن النظام البائد حيث تكبدوا خسائر فادحة. أقل تاجر بلغت خسارته 25 ألف دولار بسبب السيارات التي انخفض سعرها بشكل كبير، وانسحبت الخسائر على عدد كبير من المواطنين الذين كانوا يعتبرون السيارة مثل محفظة مالية يدّخرون فيها ممتلكاتهم، على اعتبار أن الأسعار كانت في صعود دائم، وصولاً إلى حالة الفوضى التي وصل إليها السوق مع انتشار آلاف السيارات. أكثر من 70 بالمئة من الأشخاص الذين تشاهدهم هنا في سوق الزاهرة ليسوا تجاراً، هم أشخاص عاديون معهم بعض المال واشتروا سيارات من الشمال وأحضروها إلى هنا لبيعها».

        يشرح عن تبعات ذلك: «طبعاً هذه التصرفات الفردية سبّبت الكثير من المشاكل للتجار والمواطنين. هناك مئات الآلاف من السيارات الحديثة التي تحمل لوحات تجريبية تباع وتشترى دون وجود أي ضوابط، عدا عن السيارات التي تعرف بـ’القصوصة’، وهي سيارات مجمعة من عدة سيارات في سيارة واحدة، عدا عن الكثير من السيارات المسروقة والتي تحمل نمراً مزورة. في البداية كان هناك إقبال على سيارات المازوت رغم أنها من أسوأ أنواع السيارات الكورية، وما تسببه من تلوث بيئي، لكن المفاجأة ظهرت مباشرة مع كثرة الأعطال وعدم وجود ورشات تصليح قادرة على التعامل معها وعدم وجود قطع تبديل، عدا عن حاجتها إلى مازوت مُحدّد يسمى بالأوروبي، وحتى لو توفر فإنه غير اقتصادي في ظل الظروف المعيشية الصعبة. ورغم انخفاض أسعار السيارات فإن معظم الذين اقتنوا السيارات الحديثة تفاجأوا بأسعار قطع الغيار وتكاليف صيانة السيارات والتي لا تتناسب مع سعر السيارة نفسها».

        وباعتباره أحد المستوردين للسيارات، يُحدّثنا السيد حجازي عن تجربته مع الاستيراد فيقول: «استوردنا سيارات من كوريا، اتفقنا على سعر ووصلت بسعر مختلف، كل سيارة زادت 800 دولار فروقات الشحن. زارني أحد التجار الكوريين قبل أيام وأخبرني أنه دفع 40 ألف دولار ثمن السيارات، في حين دفع 40 ألف دولار تكاليف الشحن. سيارة من نوع أفانتي موديل 2013 سعرها في كوريا 3 آلاف دولار، تُشحن إلى ميناء العقبة في الأردن بمبلغ 2100 دولار، ثم تُنقل إلى معبر نصيب بتكلفة 600 دولار، ثم جمارك 1700 دولار مع أجور المخلص الجمركي وأرباح تاجر الجملة وتاجر المفرق، وفي النهاية تصل للمستهلك بسعر 9 آلاف دولار تقريباً، أي ثلاثة أضعاف ثمنها في بلد المنشأ».

        ينطبق الأمر نفسه على السيارات القادمة من دول الخليج بحسب حجازي: « يبلغ سعر سيارة من نوع كيا أوبتيما في دبي 5 آلاف دولار وتباع في سوريا بـ10 آلاف دولار، وبدأت السيارات تصل إلى سوريا من كل دول الخليج، لكن أسوأ الأنواع تلك التي تصل من أميركا إلى الإمارات ثم سوريا، لأنها في معظمها وقعت لها حوادث قبل أن تتم صيانتها وشحنها إلى سوريا. للأسف أصبحت سوريا أشبه بمكب لسيارات العالم المستعملة».

        وكانت هيئة المنافذ البرية والبحرية قد حدّدت أسعار التنمير والضريبة الجمركية على السيارات القادمة إلى البلاد، وتم تحديد سعر تنمير السيارة موديل 2015 فما دون بـ250 دولاراً أميركياً، وبـ400 دولار للسيارات موديل من 2016 وحتى 2020. وتم تسعير نمرة السيارات موديل من 2021 حتى 2024 بـ600 دولارٍ أميركي، فيما تم تسعير خدمة نقل الملكية بـ150 دولاراً. ووفقا للقرارات الجديدة، فإن السيارات من موديل 2010 فما دون ضريبتها الجمركية 1000 دولار، والسيارات موديل 2011 حتى 2015 ضريبتها 1500 دولار. أما الضريبة الجمركية على السيارات من موديل 2016 حتى 2020، فتصل إلى 2000 دولار، ومن موديل 2021 وحتى 2024 ضريبتها الجمركية 2500 دولار. وعن السيارات الأكثر طلباً في السوق اليوم يقول حجازي: «السيارات الكورية هي الأكثر طلباً اليوم، مثل الأوبتيما وسوناتا والأزيرا والألنترا نظراً لاقتصادها في المصروف وتوفّر قطع التبديل».

        بتاريخ 6 نيسان (أبريل) 2025 أعلنت مديرية نقل دمشق عودتها للعمل بعد انتهاء أعمال الصيانة، وبتاريخ 1 أيار (مايو) قالت المديرية إنها تنجز 500 معاملة يومياً. وبحسب مدير مديرية نقل دمشق مأمون عبد النبي، فإن المديرية أنجزت أكثر من 9700 معاملة خلال هذه المدة.‏‏ إلا أن حجازي الذي توجه إلى مديرية نقل دمشق للسؤال عن موضوع فراغ السيارات أكد لنا أن عمل المديرية يقتصر فقط على إصدار كشوف اطلاع وتبديل لوحات السيارات لفاقدي اللوحات، بينما نقل الملكيات وفراغ السيارات ما زال متوقفاً حتى الآن، وهذه واحدة من أكبر المشاكل التي تعترض عمليات البيع والشراء، بانتظار ربط مديرية نقل إدلب بباقي مديريات النقل في المحافظات الأخرى كما صرح بذلك عدد من المسؤولين بشكلٍ متكرر. وبانتظار منح نمرة دائمة للسيارات التي تحمل نمرة مؤقتة بأعداد كبيرة في الشوارع وأمام معارض السيارات، كان وزير النقل الحالي يعرب بدر قد كشف لصحيفة الوطن عن بدء الوزارة بإعداد برنامج لبيع لوحات السيارات المميزة بموجب مزاد لتحقيق إيراد مالي يُوظف لتطوير قطاع المرور. موضوع آخر يؤرق أصحاب السيارات، وخاصة السيارات العامة، وهو استبدال السيارات القديمة بأخرى جديدة، والذي صرح عنه مسؤولو النقل، إذ يشتكي أصحاب هذه السيارات أن ليس لديهم الإمكانية المادية لدفع ثمن سيارة جديدة خاصة وأنهم خسروا الكثير نتيجة انخفاض أسعار سياراتهم، فمثلاً الميكروباص أو السرفيس الذي كان سعره قبل سقوط النظام 400 مليون ليرة لا يتجاوز ثمنه اليوم 100 مليون.

        سألت السيد حجازي قبل أن أغادر: لماذا المكاتب مغلقة وأنتم تجلسون أمامها؟ فأجاب: «لأن المحافظة أغلقت جميع مكاتب السيارات في هذا السوق وعددها 54 مكتباً منذ نحو شهر تقريباً بالشمع الأحمر ولمدة غير محددة، رغم أن معظم المكاتب لديها تراخيص عمل رسمية. المفارقة أن أصحاب المكاتب ليس لهم ذنب ولا أي مخالفة، حيث تقع المخالفة على عاتق التجار الذين وفدوا إلى هذا السوق من بقية المحافظات. نحن أصحاب المكاتب لدينا طريق فرعي نركن فيه سياراتنا، في حين أن التجار الوافدين يركنون سياراتهم على الشارع العام وعلى الجانبين، ما خلق أزمة مرور في الشارع الرئيسي فقامت المحافظة بإغلاق المكاتب المرخصة وبقي هؤلاء التجار يمارسون عملهم، حيث يقيمون وينامون في سياراتهم المركونة، حتى أصبح سوق السيارات أشبه بسوق البسطات. توجهنا إلى المحافظة لرؤية المحافظ ولكن دون جدوى، عرضنا عليهم دفع مبالغ نقدية لقاء مواقف سنوية، أو أن يتم تأمين مكان آخر لنا ومازلنا ننتظر رداً من المحافظة. أيام النظام السابق كنا ندفع ضرائب مالية وترابية وماء وكهرباء، ودفعنا حجز الدوير والتريثات والآن مستعدون أن ندفع ما يترتب علينا. كل مكتب يعمل فيه 5 أو 6 أشخاص خلفهم عائلات تعتاش على ما يتقاضوه من رواتب يومية».

        على الرغم من التحديات، يرى خبراء اقتصاديون أن سوق السيارات في سوريا بعد التحرير يمثل فرصة واعدة للاستثمار المحلي والخارجي، خصوصاً مع تحسن القدرة الشرائية التدريجي وتزايد الطلب على وسائل النقل. كما بدأت بعض المبادرات الناشئة في الترويج لفكرة تجميع السيارات محلياً في مناطق الشمال، عبر شراكات مع مورّدين أتراك وآسيويين، ما قد يشكل نقطة انطلاق لصناعة وطنية في هذا القطاع الحيوي. وتمثّل تجارة السيارات اليوم أحد أبرز المؤشرات على التحول الاقتصادي في سوريا ما بعد الأسد. فبين الانخفاض النسبي في الأسعار، وزيادة التنوع، وتوسع آفاق العرض، يبدو أن السوق يسير نحو مرحلة أكثر نضجاً واستقراراً، رغم ما يعترضه من تحديات تنظيمية. ولا شك أن نجاح هذه المرحلة يتوقف على قدرة السلطات الجديدة على تنظيم السوق، وضبط الأسعار، وتأمين بيئة قانونية موثوقة تشجّع على الاستثمار وتضمن حقوق المستهلكين، وقبل كل ذلك تنظيم السير وإعادة بناء الطرقات، إذ ليس بوسع البنى التحتية السورية استيعاب أعداد السيارات الضخمة الموجودة في الأسواق.

موقع الجمهورية

—————————-

 المخيمات السورية من رماد الانتظار إلى شعلة العودة/ وفاء علوش

2025.05.30

بين كل خبر وخبر تبقى أخبار المخيمات معلقة من دون جديد أو ملموس، ويبقى حال أهلها في انتظار انقشاع غيمة اليأس عن أحوالهم كي يحققوا حلم عودة طال انتظاره.

وعلى الرغم من قلتها فقد شهدت سوريا في الشهرين الأخيرين مبادرات أهلية وإنسانية عدة تهدف إلى تسهيل عودة المهجرين والنازحين إلى بلداتهم بعد سنوات من النزوح، خاصة في ظل التغيرات السياسية والأمنية الأخيرة مثل قافلة العودة الطوعية من مخيم العريشة ففي نيسان/أبريل 2025، إذ نظّمت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أول قافلة للعودة الطوعية من مخيم العريشة في شمال شرقي سوريا، حيث عاد 84 شخصًا إلى مدينة الميادين في محافظة دير الزور بعد أكثر من سبع سنوات من النزوح، وقد قدّمت المفوضية دعمًا لوجستيًا يشمل النقل المجاني، وشاحنات لنقل الأمتعة، بالإضافة إلى خدمات قانونية وتوعوية، خاصة فيما يتعلق بمخاطر الألغام وتعاونت في ذلك مع شركاء محليين مثل الهلال الأحمر العربي السوري وهيئة مار أفرام السرياني البطريركية للتنمية لتقديم الدعم للعائدي.

ما كان لافتاً أكثر المبادرات الأهلية ففي كانون الأول/ ديسمبر 2024، فقد أطلقت مجموعات أهلية وعشائرية في محافظتي الرقة والحسكة مبادرات لدعم المهجرين قسرًا من مناطقهم شملت هذه المبادرات تقديم مساعدات إنسانية وخدمات أساسية، بهدف تعزيز الاستقرار وتشجيع العائلات على العودة إلى مناطقها الأصلية.

وعملت فرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) على إطلاق حملة “أمل العائدين” في كانون الأول/ديسمبر 2024، وتهدف إلى تسهيل عودة المهجرين من خلال إزالة مخلفات الحرب، مثل الألغام والذخائر غير المنفجرة، وفتح الطرقات المغلقة، لتسهم هذه الجهود في تأمين بيئة أكثر أمانًا للعائدين، عدا عن مبادرات أهلية في مدن حماه وحمص وغيرها ساهمت في عودة أعداد كبيرة من المهجرين بهدف أن تصبح المخيمات خالية تماماً وفق ما يأمل السوريون.

ووفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فقد عاد نحو 400 ألف سوري من دول الجوار منذ كانون الأول/ديسمبر 2024، بالإضافة إلى أكثر من مليون نازح داخلي داخل سوريا، لكن هذه العودة تواجه تحديات كبيرة، خاصة في ظل نقص التمويل اللازم لتوفير المأوى وسبل العيش والحماية والمساعدة القانونية للعائدين، لذلك أطلقت إطارًا عملياتيًا لمساعدة 1.5 مليون لاجئ ومليوني نازح داخلي على العودة إلى ديارهم في عام 2025، لكنها تواجه صعوبات في تحقيق أهدافها بسبب نقص التمويل.

تُظهر هذه المبادرات، الجهود المتواصلة من طرف الجهات الدولية والمحلية لتسهيل عودة المهجرين والنازحين إلى مناطقهم الأصلية في سوريا، ومع ذلك، ما تزال هناك تحديات كبيرة تتطلب دعمًا مستمرًا من المجتمع الدولي لضمان عودة آمنة وكريمة ومستدامة لهؤلاء الأفراد.

ففي خضمّ التحوّلات المتسارعة التي تعصف بسوريا ما زال أهل المخيمات يأملون بتحرك رسمي وفاعل من الحكومة من أجل إنهاء مأساتهم، لطوي ملف النزوج القسري للسوريين المفعمين اليوم بأمل إعادة الإعمار، وترك خيمهم حيث يعجز فيها السوريون عن تبين ما تبقّى من ملامح البلد.

تظلّ المخيمات شاهدًا خامدًا على أكثر الفصول وجعًا في الذاكرة السورية، هناك، حيث لا ظروف جوية رحيمة ولا أرض تحتضن، يعلو صوت السؤال: ما موقع سوريي المخيمات من الحاضر والمستقبل؟ وهل ما زال هناك مكان لهم في خرائط القرار والسياسة والعودة؟

المخيمات ليست خيامًا من قماش فحسب، ولا محطات انتظار مؤقتة كما وُعد سكانها أول مرة، إنها زمن معلّق، حقبة توقف فيها الوقت وصارت الأيام فيها تشبه بعضها الآخر، مكان يولد فيه الأطفال بلا هوية واضحة، ويموت الشيوخ وهم يتطلعون لظلّ شجرة كانوا يعرفونها في قراهم، إنها حيث تتكدّس الأرواح كما تتكدّس المعونات، تتآكل كرامة الناس بين البرد والجوع، وينبت الحنين في كل زاوية من زوايا المكان.

في هذه الهوامش المنسيّة من البلاد، حيث لا تكون المخيمات مهمة في الأجندات السياسية تُعقد المؤتمرات، وتُرسم الخطط، ويُعاد ترسيم الحدود وتقاسم النفوذ، لكنّ المخيمات تبقى بلا عنوان واضح، تُدرج في التقارير، تُذكر في الإحصاءات، لكنّها لا تُرى في القرارات، وكأن من خرج منها لم يكن يومًا من نسيج هذا الوطن، أو كأن النزوح حكمٌ مؤبّد على الذاكرة والهوية.

ولكن في مواجهة هذا التهميش، نهضت مبادرات أهلية تنبض من قلب الوجع، تقودها وجوه نازحة لم تنسَ شكل بيوتها رغم مرور السنوات، شباب وشابات، شيوخ وأمهات، قرروا أن العودة ليست وعدًا سياسيًا بل فعل مقاومة، فبدؤوا بإعادة إعمار ما يمكن إعماره، وإعادة الناس إلى مكان جذرهم الأول طرقوا أبواب القرى المهجورة، رمّموا البيوت بالحجارة والذكريات، أعادوا فتح المدارس، زرعوا الحدائق، أعادوا ترتيب الأشياء والأحلام ورمموا حنينهم في أثناء ذلك.

إن ضرورة وجود مبادرات لإنهاء أزمة المخيمات لا يعني أنها مجرّد مبادرة؛ إنه حركة هوية، هو مشروع لإعادة الإنسان إلى مكانه الطبيعي، إلى اسمه وعنوانه ولغته اليومية، إنها محاولة جريئة لنقل المخيم من موقع الضحية إلى موقع الفاعل، من انتظار العودة إلى صناعتها.

لا يمكن الحكم على إعادة المهجرين إلى مدنهم وبلداتهم بأنها عمل إنساني فقط، بل هي عملية متكاملة تمثل ضرورة وطنية، فالمشاريع الوطنية لا تنهض بنصف شعب، لأن المخيمات ليست هوامش، إنها قلب الحقيقة، وفيها يكمن السؤال الأعمق: كيف تعود سوريا إن لم يعد ناسها؟

وقبل أن نغرق في تفاصيل سياسية وهيكلية وبنيوية، علينا أن نبدأ من قاعدة الهرم بأن نضمد جراح من وقعت المظلومية ضدهم، إذ لا يمكن البناء فوق جراح مفتوحة وما زالت تنزف، ومن الطبيعي أن تبدأ السلطة والجهات الرسمية بتنظيم مبادرات لإعادة السوريين المهجّرين إلى مناطقهم، خاصة في ظل الحاجة لإعادة إعمار البلاد واستعادة الحياة الطبيعية من أجل إعادة النسيج الاجتماعي السوري، ويكون ذلك بتعويض المتضررين وتمكينهم من العودة إلى ممتلكاتهم كي نتمكن من إعادة بناء الاقتصاد المحلي من خلال عودة الكفاءات والعمالة ونحقق إغلاق ملف اللجوء تدريجياً.

قد تواجه تلك الخطط عوائق جمّة منها الدمار الواسع للبنى التحتية، وغياب الثقة في المؤسسات الجديدة ما لم تكن شفافة، ولا شك بوجود مخاوف أمنية أو انتقامية، خاصة في المناطق التي شهدت انقسامًا مع وجود صعوبات قانونية في استعادة الممتلكات.

ولكن ذلك لا يعني تأجيل حل القضية أو تركها عالقة، بل يحتم على السلطة العمل على إعادة الثقة بين السوريين وبين حكومتهم وإصدار قوانين واضحة تضمن استرداد الحقوق والممتلكات ليكون ذلك جزءً من مشروع صفر خيمة.

تلفزيون سوريا

——————————-

 كيف تتحول البطالة في سوريا من عبء إلى أداة للنهوض الاقتصادي؟/ عبد العظيم المغربل

2025.05.30

مع انطواء صفحة الحرب وسقوط نظام الأسد، تدخل سوريا مرحلة انتقالية دقيقة تتقاطع فيها تحديات إعادة البناء مع توقّعات شعب أنهكه الخراب ويرنو إلى اقتصاد يوفر عملاً كريماً لأبنائه؛ حيث تبدو البطالة أوضح تجلّيات هذه التحديات، فهي لا تعكس هشاشة السوق والاقتصاد فحسب، بل تعبّر أيضاً عن عمق القطيعة بين الطاقات البشرية الهائلة في البلاد وفرص توظيفها.

وفي هذا المفترق، تُطرح الأسئلة الملحّة أمام الحكومة الجديدة، وأهمها: كيف يمكن تحويل سوق العمل من ساحة انتظار طويلة إلى محرّك يعيد توزيع الثروة، ويُرسّخ السلم الأهلي، ويساهم في تنمية الاقتصاد؟ فقد أضحت البطالة تمثل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً بالغ التأثير، ليس فقط لأن فرص العمل أصبحت صعبة التوفر، بل لأن الوظائف المتاحة تعاني من هشاشة في الاستقرار، وتدنٍّ في مستوى الرواتب، وتردٍّ في شروط الحماية وضمان حقوق العامل. كما أن هذه الأزمة البنيوية تستدعي معالجة جذرية تتجاوز الحلول التقليدية، ضمن رؤية شاملة تستند إلى مجموعة من المحاور التي تتكامل فيما بينها، لتشكّل خريطة طريق ممكنة التطبيق في ظل الإمكانات الحالية.

إعادة تأهيل القطاع الزراعي كمحرّك رئيسي للتشغيل

رغم التراجع الذي أصاب قطاع الزراعة منذ عام 2011، فإن هذا القطاع لا يزال يشكّل شريان الحياة في مناطق واسعة من الريف السوري، ويحتفظ بقدرة كامنة على توفير مصادر دخل وفرص عمل مستقرة إذا ما تم تأهيله بشكل منهجي؛ حيث يمكن للزراعة أن تتحول من عبء اقتصادي إلى رافعة إنتاجية إذا توفرت لها شروط أساسية، تبدأ من تأمين مستلزمات الإنتاج بأسعار مناسبة، وتستمر بإعادة تأهيل شبكات الري بوسائل مستدامة تقلّل من استهلاك المياه وتكاليف التشغيل. كما أن تعزيز الصناعات التحويلية المرتبطة بالزراعة لا يرفع فقط من القيمة المضافة للمنتج المحلي، بل يسهم أيضاً في تثبيت السكان في مناطقهم، ويخلق بيئة عمل تشمل جميع فئات المجتمع، وحتى النساء المعيلات اللواتي يشكّلن شريحة أساسية من سكان الأرياف. وإذا ما تيسرت لهذه المنتجات سياسة تصديرية منظّمة، فإن القطاع الزراعي يمكن أن يستعيد مكانته كحامل للنمو والتشغيل للعمالة السورية الخبيرة في هذا المجال.

في هذا الإطار، يقول الباحث في “مركز عمران للدراسات”، مناف قومان: “برأيي، واقعية الاعتماد على الزراعة في توليد فرص عمل تأتي من أسباب موضوعية، على رأسها أن الزراعة تحتاج إلى عدد كبير من العمّال في الأنشطة الزراعية، وبعكس الصناعة التي تحتاج إلى رساميل كبيرة وأطر تنظيمية معقّدة، يمكن للزراعة أن تبدأ بالإنتاج والتشغيل بوتيرة أسرع إذا توفرت الأرض والبذار والدعم. كما أن مقوّمات الزراعة متوفرة في سوريا، مثل المساحات الزراعية الشاسعة، والتنوع المناخي، والمهارات، والعمالة، وغيرها. وأكيد توجد تحديات لهذه المقاربة، لكن مهما كانت التحديات، يفترض أن توضع في سياق دمج الزراعة كأحد محرّكات التوظيف، وضمن رؤية متكاملة للتعافي تهيّئ الأرضية لبدء قطاعات أخرى مرتبطة بالزراعة، مثل الصناعة الزراعية والخدمات والتجارة”.

مواءمة التعليم والتدريب مع السوق واستثمار الكفاءات في الخارج

إحدى المعضلات الأساسية في سوق العمل السوري يتمثل في الفجوة الكبيرة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق الفعلية؛ إذ يخرج عدد كبير من الشباب من الجامعات وهم يحملون شهادات لا تجد صدى في الواقع الاقتصادي، ما يراكم البطالة في صفوف الخريجين ويهدر طاقات كان من الممكن توظيفها في مسارات أكثر نفعاً. فالحل لا يكمن فقط في تغيير المناهج، بل في إعادة هيكلة المنظومة التعليمية لتكون أكثر التصاقاً بالواقع العملي. تعليم الكفاءات التقنية والمهنية يجب أن يرتبط مباشرة بسوق العمل من خلال شراكات بين المعاهد والقطاعات الإنتاجية، وهو ما يمنح الطالب خبرة مباشرة قبل دخول السوق.

ومن جهة أخرى، فإن الكفاءات السورية الموجودة في الخارج تمثل مورداً ثميناً يمكن توظيفه عبر منصات إلكترونية تربط بين أصحاب الخبرات وبين الداخل السوري، سواء عبر استثمارات مباشرة أو عبر المساهمة عن بُعد في مشاريع محلية. كما يمكن تحفيز عودة المستثمرين السوريين من الخارج عبر تقديم حوافز مرنة تسمح لهم بتأسيس شركات تسهم في خلق فرص عمل فعلية وضمان حقوقهم وأمن عملهم.

ويقول الباحث مناف قومان في هذا الإطار: “أعتقد أن المواءمة ستبدأ من فهم احتياجات السوق بالبداية، لربطها بمنظومة المعرفة. ولكي يتم هذا، يمكن العمل على مسارات مثل جسر الجامعات بسوق العمل، عبر إعداد تقارير دورية حول التخصصات المطلوبة، والمهارات الناقصة، وحركة الطلب، على أن يكون تطوير بيئة العمل سابقاً لتطوير العملية التعليمية.

وينبغي أن يُعاد الاعتبار لمسار التعليم المهني عبر برامج نوعية تقوم على معرفة وتدريب عملي مرتبط بقطاعات التشغيل، من الطاقة إلى البناء، إلى التصنيع، والخدمات اللوجستية. ألمانيا وبعض الدول الأوروبية رائدة في هذه التجربة ويمكن الأخذ منها. كما يمكن التركيز على المهارات العملية وحلّ المشكلات، بدل التعليم بالحفظ”.

تحفيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة والاقتصاد الرقمي

العمود الفقري لاقتصاديات العمل ضمن نماذج الاقتصاد المرن والقادر على توليد فرص العمل هو قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ورغم أن هذه المشاريع تمثل الغالبية الكبرى من الوحدات الاقتصادية في سوريا، فإنها لا تزال تعاني من ضعف في التمويل، وغياب البنية التحتية الداعمة، وتضييق تنظيمي يعرقل نموها. المطلوب اليوم هو بيئة مالية مرنة تدعم هذه المشاريع من خلال تسهيلات مصرفية مدروسة، وآليات ضمان تقلل من مخاطر الإقراض.

إلى جانب ذلك، يشكل الاقتصاد الرقمي فرصة ذهبية لإعادة هيكلة سوق العمل، من خلال دعم الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا، وتوفير حاضنات أعمال حديثة تتيح للشباب فضاء للابتكار والتطوير. كما أن تشجيع التجارة الإلكترونية الداخلية، وتسهيل الإجراءات المرتبطة بترخيصها وتشغيلها، يفتح المجال أمام جيل جديد من رواد الأعمال الذين لا يحتاجون لرأس مال كبير أو بنى تقليدية. في هذا السياق، يمكن أن يسهم توسيع نطاق الدفع الإلكتروني ضمن سوريا في تقليص التعامل النقدي وتحفيز قطاعات جديدة في البرمجيات والأمن السيبراني، وهو ما يوفر فرص عمل نوعية في بيئات مرنة وسريعة النمو.

إصلاح السياسات الاقتصادية وتحسين بيئة الأعمال وبناء الثقة

في مناخ اقتصادي غير مستقر، تبقى الثقة حجر الزاوية في أي جهد استثماري، سواء من الداخل أو من الخارج. وعلى الرغم من التحديات الأمنية والسياسية، فإن بإمكان السياسات الاقتصادية أن تلعب دوراً محورياً في إعادة بناء هذه الثقة، من خلال إصلاحات متدرجة وشاملة. كما أنه من الضروري تبسيط الإجراءات الإدارية لتأسيس الشركات وتقليص عدد التراخيص المطلوبة، بما يسمح بخفض تكاليف الدخول إلى السوق، بجانب مكافحة الفساد الإداري، الذي يمثل شرطاً أساسياً، ويجب أن يتم من خلال تفعيل أدوات رقمية شفافة تضمن للمستثمرين بيئة قانونية عادلة وواضحة.

كذلك، فإن استقرار سعر الصرف يعد مطلباً رئيسياً لأي عملية استثمارية تنتهي بالتوظيف وخلق فرص عمل. أما على مستوى النظام الضريبي، فإن توحيد الضرائب وتقديم إعفاءات للاستثمارات المعاد ضخها في السوق المحلي يمكن أن يشجع التوسع الاقتصادي ويقلل من الميل إلى الاكتناز، وبالتالي زيادة ضخ هذه الأموال في السوق وخلق فرص عمل.

الشراكة بين القطاعين العام والخاص وتعزيز التصدير

في ظل محدودية قدرة الدولة على تمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى أو دفع عجلة التوظيف منفردة، تصبح الشراكة بين القطاعين العام والخاص أداة ضرورية وليست اختيارية. فمن الضروري إعادة النظر في قانون الشراكة القائم، ورفع سقف مساهمة القطاع الخاص في المشاريع الاقتصادية إلى مستويات أكثر واقعية، ما يمكن أن يفتح الباب أمام استثمارات ضخمة في مجالات استراتيجية مثل الطاقة والنقل، بالتزامن مع العمل على رفع العقوبات.

ومن المفيد هنا التركيز على مشاريع بنى تحتية مرتبطة بسلاسل التوريد الزراعي والصناعي، كإنشاء طرق سريعة تربط بين مناطق الإنتاج والأسواق، أو بناء مناطق صناعية وحرة متخصصة بالتصدير قرب المعابر الحدودية، تتيح للمستثمرين تقليص التكاليف وتعزيز فرص التوظيف المحلي. كما أن دعم الصادرات عبر إجراءات مثل تخفيض الجمارك على بعض المواد الأولية الداخلة في عملية تصنيع المنتجات المصدرة، يمكن أن يوفر طلباً إضافياً على اليد العاملة، لا سيما في القطاعات الكثيفة التشغيل مثل النسيج والمنتجات الغذائية. كذلك، فإن تبسيط الإجراءات الجمركية، واعتماد أنظمة إلكترونية حديثة لتخليص البضائع، يقلل من زمن الانتظار والتكاليف، ويجعل المنتج السوري أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق الإقليمية والدولية.

وفي هذا الإطار، يقول الباحث مناف قومان: “هذا الموضوع سيأتي مع صياغة المصالح المتبادلة، ووضع إطار مؤسساتي يضمن حقوق الجميع. أحد الشروط التي يمكن أن تحول الشراكة بين القطاعين العام والخاص؛ وجود قانون شراكة يحمي المستثمر ويحفظ حق الدولة، وصياغة عقود تشاركية شفافة في المشاريع الكبرى، وخلق بيئة تشاركية بين القطاعين وليس تنافسية أو احتكارية تسبب إضراراً أو تنفيراً للقطاع الخاص من العمل، إذ لا يمكن العمل في ظل اقتصاد احتكاري، إضافة إلى فصل الجهات الرقابية عن التشغيلية لتفادي تضارب المصالح. لا بد أيضاً من تقديم حوافز ضريبية وتسهيلات ائتمانية للشركات التي توظف عمالة محلية، ودعم فكرة نقل المعرفة والتدريب، وفي النهاية محاربة الفساد والمحسوبيات وضمان تكافؤ الفرص”.

بشكل عام، إن تخفيض البطالة في سوريا ليس مسألة مالية فقط، ولا يمكن اختزالها في برامج تدريب مؤقتة أو فرص عمل جزئية، بل إنها مهمة استراتيجية تتطلب إرادة سياسية واضحة، وبيئة تشريعية مرنة، وأمناً مستداماً، وانخراطاً جدياً من الشركاء الإقليميين والدوليين. من دون هذه العناصر، ستبقى البطالة مرشحة للتفاقم، وسيبقى النزيف البشري مستمراً، سواء عبر الهجرة أو الإقصاء الاقتصادي. لكن، إذا ما تم التقاط اللحظة، واستُثمرت الموارد المتاحة بكفاءة، فإن سوق العمل في سوريا يمكن أن يتحول من عبء تاريخي إلى أداة نهوض اقتصادي واجتماعي طال انتظاره.

تلفزيون سوريا

———————————–

تمثال الأسد المحطم في دير عطية.. نداء لحفظ الذاكرة الوطنية/ منصور العمري

في لحظة تاريخية فارقة، تحوّل تمثال الرئيس السوري السابق حافظ الأسد في دير عطية، الذي كان أكبر تمثال له في سوريا، لحظة إسقاطه من مجرد أنقاض إلى عمل فني جماعي عفوي صنعه السوريون في أصدق حالاتهم، وشاهد حي على إرادة شعب وتوقه للحرية. من هذا المنطلق، نتوجه بنداء عاجل إلى وزارة الثقافة السورية النشطة، راجين التحرك الفوري لحفظ هذا الأثر الفريد وعدم اعتباره مجرد حطام يستوجب الإزالة.

رمزية تتجاوز الحطام

تحويل هذا التمثال وحطامه، الذي يرمز لحقبة حكم الأسدين في سوريا، إلى نصب تذكاري، هو ضرورة وطنية وتاريخية شديدة الأهمية. فهو تجسيد مادي حي لحدث هز سوريا والمنطقة بأكملها، ويعكس تحولًا عميقًا في سوريا ورفضًا لرموز وتمجيد نظام سقط. إنشاء نصب تذكاري في الموقع سيضمن حفظ تلك اللحظة الحاسمة للأجيال القادمة، مانعًا أي محاولات لطمسها أو نسيانها.

مشروع النصب التذكاري في دير عطية يكرّم رمزية الصمود وإرادة الشعوب. فإسقاط التمثال لم يكن حدثًا عابرًا أو مجرد تعبير عن السخط، بل كان تحطيمًا لرمز سلطوي، وتعبيرًا قويًا عن تطلع الشعب السوري نحو التحرر والكرامة. يضمن النصب توثيق هذه اللحظة الحاسمة في التاريخ السوري المعاصر، ويقدم رواية مادية وملموسة لما حدث، ويذكر بحدث شكّل نقطة تحوّل في سوريا والمنطقة. كما أنه يخلد لحظة التخلص من رمز القمع، ليصبح رسالة وطنية وعالمية واضحة بأن إرادة الشعوب قادرة على إحداث التغيير مهما كان صعبًا.

فن اللحظة الصادقة.. عمل فني واقعي

لا يقتصر الفن على ما يُصنع عمدًا في الاستوديوهات أو المتاحف بأيدي فنانين محترفين. أحيانًا، تولد أعمال فنية عفوية في لحظات تاريخية مفصلية، تكون نتاجًا لمشاعر جماعية مكبوتة تنفجر في فعل واحد. تحطيم تمثال حافظ الأسد في دير عطية لم يكن عملاً تخريبيًا، بل كان فعلًا جماعيًا بناءً مدفوعًا بإحساس عميق بالظلم وتوق للحرية. اللحظة التي سقط فيها التمثال، وانكساره وتشوهه، لم تكن مُخططة فنيًا، لكنها أصبحت تشكيلًا بصريًا للغضب والعدالة والأمل والتحول.

وُلد هذا العمل الفني في أصدق حالات السوريين، فالصدق في التعبير يمنحه قوة فنية هائلة تتجاوز أي عمل نحتي مصقول. يمكن فهم هذا التمثال بوضعه الحالي من منظور “النحت الجاهز” (Readymade) في الفن الحديث، حيث يتم تحويل كائن عادي إلى عمل فني بمجرد إعادة تأطيره أو تغيير سياقه. فالتمثال سقط وتغير شكله بفعل قوة جماهيرية، وهذه القوة حولته من مجرد رمز للسلطة إلى أثر يعبر عن فعل المقاومة والتحرر. الشكل الذي استقر عليه التمثال بعد السقوط ليس مجرد فوضى، بل هو تجسيد بصري لفكرة التغيير والكسر. إنه يخبرنا بصريًا أن شيئًا ما تحطم، وأن الحقبة التي كان يمثلها انتهت بعنف. الأسمنت المتراكم والحديد الملتوي ليست عيوبًا، بل هي جزء أساسي من سرديته الفنية.

بالنسبة للأجيال القادمة، سيكون هذا النصب مساحة حيوية للتعلم والتأمل. مع إضافة لافتات تفسيرية ومواد توثيقية، سيقدم سياقًا تعليميًا غنيًا يعمّق الوعي التاريخي. كما أن وجوده يُعد مقاومة ضرورية ضد محاولات الطمس وإعادة كتابة التاريخ، فهو تأكيد مادي على حدث لا يمكن محوه، مما يسهم في مقاومة أي محاولات مستقبلية لتشويه الذاكرة.

يرتبط حدث إسقاط التمثال بشكل وثيق بسياق الصراع في سوريا للتخلص من نظام الأسد القمعي، والذي خلف دمارًا هائلًا ومعاناة إنسانية كبيرة. يمكن للنصب أن يكون تذكيرًا بالتكلفة الباهظة التي دفعها السوريون في سعيهم للتغيير والتخلص من الظلم. كما يحفز على التفكير في أسباب هذه الأحداث وتبعاتها، مما يعمق الفهم في الذاكرة الجمعية التي لا تزال مثقلة بالآلام والخسائر.

رؤية للنصب التذكاري

لهذه الأسباب الجوهرية، يجب الحفاظ على هذا العمل الفني بوضعه الحالي دون أي تعديل (إلا لأسباب السلامة)، وبموقعه الاستراتيجي الذي أراده نظام الأسد ليراه كل من يعبر الطريق الرئيسي. أي محاولة لإعادة تشكيل التمثال المحطم، ستكون بمثابة تجريد له من قيمته الفنية والتاريخية الجوهرية. بقاؤه كما هو، بكل تشوهاته الناتجة عن السقوط، هو ما يمنحه قوته كعمل فني جماعي، وشاهد أمين على لحظة تاريخية لا يمكن محوها من ذاكرة السوريين.

المشروع يركز على الحفاظ على الموقع بوضعه الحالي، مع إضافة تحسينات لضمان السلامة، وتوفير تجربة تعليمية وتفاعلية للزوار، وضمان رؤية النصب من الطريق الرئيسي. يمكن إنشاء سياج حول الموقع، بتصميم يسمح بالرؤية الواضحة للتمثال من الخارج، مع الحفاظ على واقعية المشهد. كما يمكن بناء منصات مشاهدة وتصوير مرتفعة قليلًا خارج السياج، توفر زوايا رؤية ممتازة للتمثال، وتسمح بالتقاط الصور التذكارية بشكل آمن ومريح.

كذلك، يمكن صياغة نص موجز ومؤثر يشرح قصة التمثال، دلالة سقوطه، وعلاقته بالثورة السورية، على أن يكون النص محايدًا تاريخيًا ويركز على الحقائق، ويُقدم بلغات متعددة. من الممكن إنشاء لوحة رقمية كبيرة تعرض فيلمًا وثائقيًا قصيرًا أو فيديو فنيًا يصور لحظة إسقاط التمثال، مع إضافة سياق تاريخي وشهادات حية، ومرئيات لحظة إسقاطه، والمواد الإعلامية التي غطت هذا الحدث.

أخيرًا، مشروع تحويل تمثال دير عطية إلى نصب تذكاري هو استثمار ضروري في الذاكرة الوطنية السورية ومستقبلها. فهو يشكل جسرًا يربط الماضي بالحاضر ويستشرف المستقبل، ويضمن أن تُروى قصة صمود الشعوب والتخلص من الظلم والظلام للأجيال القادمة في سوريا والمنطقة والعالم أجمع.

منصور العمري: مدافع سوري عن حقوق الإنسان، وباحث قانوني، حاصل على ماجستير قانون في العدالة الانتقالية والنزاع. عمل العمري مع متاحف ومعارض عديدة حول العالم وفنانين من مختلف الجنسيات لرفع مستوى الوعي الدولي بشأن ممارسات نظام الأسد في الاعتقال والتعذيب والاخفاء القسري وجرائمه ضد الإنسانية. كما عمل العمري مع منظمات حقوق الإنسان الدولية والسورية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا.

في عام 2012، اعتقلت الحكومة السورية العمري وعذبته لمدة 356 يومًا بسبب توثيقه فظائعها، في أثناء عمله مع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير كمشرف على مكتب المعتقلين.

عنب بلدي

—————————–

الطائفية ليست قدر السوريين المحتوم.. وسقوط الأسد حرّر العلويين/ بشار عبود

نشر في 29 أيار/مايو ,2025

بعد عقود من الصمت والتعتيم، عاد الحديث عن تفجّر الأزمة الطائفية ضمن الحيّز السوري إلى الواجهة، ولا سيما عقب سقوط نظام بشار الأسد البائد. فالتعبيرات الطائفية المخيفة باتت أكثر وضوحًا، وخطابات الكراهية انتشرت في فضاء المجتمع السوري بشكل غير مسبوق، حتى غدا كل مكوّن يُعرّف بانتمائه الطائفي، لا بدوره السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي.

وعلى الرغم من حضور الطائفية في مفاصل الحياة اليومية للسوريين لعقود طويلة، حيث كانت المحرّك الأساسي في تشكيل علاقاتهم، فقد بقيت ضمن المسكوت عنه، تُتداول في الخفاء، ولا تخضع لنقاش علني أو نقدي جاد. وظلّت الأسئلة حيال الطائفية حبيسة الأنفس، حيث كان النظام الأسدي يمنع تداولها بذريعة الحفاظ على السلم الأهلي، فيما كانت كل تصرّفات مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية تمارس الطائفية وتوظفها وتستفيد منها بشكل ممنهج، لتثبيت سلطة النظام الأسدي وتكريس هيمنته على المجتمع بأكمله.

اليوم، بعد سقوط حكم عائلة الأسد وتفجّر الأزمة الطائفية المقيتة في سورية، لم يعد بالإمكان التهرّب من مناقشتها أو تجاهل وجودها. فقد انفجرت المعضلة التي طالما كبُِتَتْ، وبات على الجميع -أفرادًا وجماعات- أن يتحملوا مسؤولياتهم في مواجهتها وتحليل أسبابها، ومحاولة إيجاد حلول مستدامة لها بما يضمن استقرار المجتمع والسلم الأهلي فيه.

طائفية المجتمع.. ليست صناعة نظام سياسي

الصورة المُعقّدة للمجتمع السوري تُظهر أن الطائفية لم تكن اختراعًا سياسيًا بحتًا. بل إنها جزء من البنية الاجتماعية، تتجلّى في علاقات الأفراد واختياراتهم اليومية، من السكن إلى الزواج إلى العمل. ما يؤكد حقيقة لا لبس فيها، وهي أن سورية بلد مفروز بشكل طائفي وإثني، قبل الحديث عن أي دور للسلطات السياسية التي حكمته. لكن ما تميّز به النظام الأسدي، عن غيره ممن حكم سورية، هو أنه دفع بالطائفية إلى حدودها القصوى. ليس فقط بالمعنى العقيدي والاجتماعي وإنما بالمعنى الوظيفي وكذلك بالمعنى التنظيمي، وهنا تمامًا تكمن خطورة ما ارتكبه الأسد من تعميق للهوّة بين السوريين، والتي نحصد ثمارها اليوم من دم السوريين وتذرّر مجتمعاتهم. صحيح أن نظام الأسد لم يخلق الطائفية من العدم، لكنه لم يكن بريئًا من تعميقها وجعلها أداة رئيسية دعّمت بقاءه لأكثر من نصف قرن.

لقد بَنَت عائلة الأسد تحالفاتها في الحكم على أسس طائفية، ومارست تمييزًا مُمنهجًا بين المواطنين، ليس فقط في مؤسسات الدولة، بل أيضًا في القطاع الخاص، والجامعات، والأحياء السكنية التي تم تقسيمها على أساس مذهبي، مثل المزة 86 والسومرية، نهر عيشة، وعش الورور في دمشق.

هذا التجييش المُمنهج لم يكن ليزول بسهولة مع انهيار مافيا الأسد، لا سيما بما تركته لنا الأجهزة الأمنية السورية من إرث مهول، تحمله ذاكرة مسجلة بالصوت والصورة في فنون القتل والتعذيب على الطريقة الطائفية. فما كان لكل هذا الإجرام، إلا أن يفجّر أزمة عميقة كانت تنتظر شرارة الاشتعال. إذ كيف يمكن تجاهل الجرائم البشعة التي ارتكبها النظام بحق جميع السوريين، بدءًا من مجازر حماة عام 1982، مرورًا بالقصف بالبراميل والكيمياوي والقتل على الهوية والسجون المرعبة، التي كشفتها أمام السوريين والعالم لحظة التحرر من تلك العصابة أواخر العام الماضي. تلك الانتهاكات التي لا يمكن قبولها تُفسّر بما لا يرقى للشك أسباب انتشار خطابات الكراهية والتعبيرات الطائفية الآن، لا سيما مع سقوط من كان يدير ويضبط التوازنات الهشة بين السوريين، وأيضًا في ظل غياب قيادة انتقالية قادرة على السيطرة على كامل الجغرافيا السورية.

من الطائفية السياسية إلى الفوضى الاجتماعية

بعد عام 2011، لجأ النظام إلى تأجيج المخاوف الطائفية، ملوّحًا بخطر «الإبادة» لمكونات بعينها، وخصوصًا العلويين، مدعيًا أن الثورة تستهدفهم كطائفة، ولا تستهدف نظام حكمه الفاسد والمجرم. وقد ساهم هذا في زجّ طائفة كاملة في مواجهة الثورة، وتحميلها وزر آثام ما اقترفه آل الأسد. لقد كرّس هذا الأمر، نتيجة طول فترة الصراع، مزيدًا من تفسخ المجتمع على أساس طائفي، وهو ما نراه ماثلًا أمامنا الآن من تعابير طائفية مخيفة وخطابات كراهية غير مسبوقة، سواء في الواقع السوري أم على صفحات الفضاء الإلكتروني.

لقد كشف انهيار العصابة الأسدية أواخر العام الماضي، عن هشاشة المجتمع السوري، وبرزت مع سقوطها الانقسامات العميقة بين المكوّنات. ومن هنا جاءت أحداث الساحل في 6 آذار، مُفجّرة كامل المخزون الطائفي المكبوت والمحقون لسنوات، مستندة إلى تجييش طائفي غير مسبوق من قبل أفراد علويين وسنّة على حدٍّ سواء، ومدعومة من دول إقليمية خارجية، ساءها سقوط حليفها الأسد الموثوق ولها مصالح في إذكاء نار الفتنة ومنع استقرار البلد.

صحيح أن سقوط الأسد وتحرر السوريين منه على يد الرئيس أحمد الشرع ورفاقه، كان جلّ ما يحلم به السوريون، لا سيّما أن عملية التحرير تمت بدون سفك دماء وبسرعة وسهولة، إلا أن انهيار العصابة الأسدية أدخل المجتمع السوري في حالة إرباك شديدة. فما حدث لم يكن متوقعًا بهذه الطريقة، وهو ما سوف يتذكّره السوريون كثيرًا للشرع ورفاقه. إلّا أن هذا السقوط السريع أدخل الإدارة الجديدة نفسها في حالة من الإرباك، لا سيما بعد أن تبيّن لها أن تجربتها في حكومة إدلب لا يمكن تطبيقها كما هي، على بلد مثل سورية فيه هذا الكم من التنوع الطائفي والإثني. فلم تمض أكثر من ثلاثة أشهر على سقوط الطاغية حتى وصل البلد إلى انفجار الساحل السوري بأحداثه الدامية المعروفة.

وعلى الرغم من خطورة هذا الانفجار، وتعدّد ضحاياه من رجال الأمن العام والمدنيين الأبرياء، فإنه عمل في الوقت نفسه على فتح الباب للمواجهة الصريحة مع المسألة الطائفية، حيث لم يعد النقاش فيها من المحرّمات، بل أصبح ضرورة وطنية ومجتمعية، وهو ما بدأ يثمر نقاشات حقيقية (مركز حرمون مثالًا)، بين شرائح واسعة من السوريين حول جذور الطائفية وطرق معالجتها ومنع تمدّدها مستقبلًا.

ففي بلدٍ يحمل كل هذا المستوى من الخوف والأحقاد المتبادلة بين مكوناته، بدأت تثور أسئلة من عجينة وماذا بعد ذلك؟ وهل بإمكان السوريين اليوم أن يتعايشوا بسلام مع بعضهم البعض بعد كل ما جرى، أم عليهم التفكير بالتأسيس لعقد اجتماعي جديد؟

لا شك بأن الإجابات على هذه الأسئلة تتطلب شجاعة سياسية ورؤية واضحة من قبل السلطة الانتقالية الجديدة، ممثلة بالرئيس أحمد الشرع. فالمطلوب ليس الحياد، بل اتخاذ خطوات عملية لتحريم وتجريم خطاب الكراهية، وإطلاق مسار وطني جامع لمواجهة الطائفية. لكن ليست الدولة وحدها مطلوب منها أن تتصدى لهذه القضايا الكبرى، وإنما يُنتظر من المجتمع المدني أن يلعب دورًا محوريًا فيها، شريطة أن يتجاوز أطره التقليدية، ويتحوّل إلى قوة فاعلة تعزز ثقافة الحوار والقبول بالآخر، وتدفع باتجاه إصلاح ديني وثقافي عميق.

مواجهة الطائفية.. تبدأ من الداخل

مهما كان للدول الإقليمية والدولية دور في زعزعة الاستقرار الداخلي للبلد، فإن الأزمة الطائفية في سورية تبقى قضية داخلية بالدرجة الأولى. لذا فإن أي محاولة لحل الأزمة يجب أن تبدأ بتحصين المجتمع السوري من الداخل، عبر تفكيك الخطابات الموروثة، وتشجيع النخب على نقد التراث الطائفي، وتعزيز قيم المواطنة والعدالة. فالنخبة المثقفة، من كل مكوّنات الشعب السوري، مدعوّة اليوم إلى لعب دور رياديّ في تحفيز مكوّناتها الاجتماعية بالانفتاح على الآخر، والتخلي عن منطق “نحن وهم”، والعمل على بناء شراكات فعلية على أسس القواسم المشتركة والمصالح الوطنية لا الانتماءات الفرعية الضيقة.

من هنا، فإن النّخبة المثقفة لكل طائفة في سورية تتحمّل اليوم مسؤولياتها الكاملة في إدخال مِبضع النقد الحقيقي لموروثاتها التاريخية الضيّقة، بما يتناسب مع الواقع السوري الحالي، وبما يتناسب أيضًا مع واقع الولادة الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط، التي لن تنتظر من يصرّ على العيش في التاريخ وينأى بنفسه عن المستقبل.

هل يمكن الخروج من الأزمة الطائفية الحالية؟

نعم، بلا شك، فالطائفية ليست قدرًا محتومًا للسوريين، ولكن هذا يقتضي مشاركة الجميع بلا استثناء، وهذا يفترض عودة السياسة إلى المجتمع السوري الذي جرى تفريغه من طاقاته الوطنية لعقود طويلة على يد السلطة البائدة. فالسياسة -باعتبارها عابرة للطوائف- تستطيع اجتراحَ حلولٍ تُنقذ المجتمع من خطر السقوط في مستنقع الطائفية البغيض، وذلك عبر تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والنقابات، وفتح النقاشات والحوارات الصريحة على المستوى الوطني.

العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية

لكن، قبل كل هذا، لا يمكن الحديث عن الاستقرار دون تحقيق العدالة الانتقالية. لأن محاسبة المجرمين لا تأتي من دافع الرغبة في الانتقام، بل من أهميتها وضروريتها في طمأنة الضحايا وقطع الطريق على عمليات الثأر الفردي. وبنفس الوقت يتعيّن على الدولة الجديدة أن ترعى برامج اقتصادية تستوعب الفئات المتضررة من سقوط النظام السابق، وخصوصًا الجنود السوريين الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء، فهؤلاء الذين ساهموا في السلم الأهلي عبر تخليهم عن السلاح وتركهم لثكناتهم العسكرية وعودتهم إلى بيوتهم، يتوجب على الدولة تأمين معيشتهم كي لا يتحوّلوا، نتيجة الفقر الذي يعيشون فيه، إلى أدوات بيد أطراف مشبوهة.

وفي هذا السياق، يجب على الطائفة العلوية أن تعي أن سقوط الأسد لا يعني هزيمتها هي، بل هو حرّرها تمامًا من ارتباطها بنظام دموي، وأزاح عنها ضياع شبابها من أجل كرسي حكمه، وعليها أن تعي أن رحيل هذه العصابة يشكّل فرصة تاريخية لها للاندماج الحقيقي في المجتمع السوري. فالنظام لم يكن حاميًا لها، بل كان عبئًا ثقيلًا على قدرتها في التعايش، وسببًا رئيسيًا في فقدان أبنائها.

خارطة الطريق لسورية الجديدة

ختامًا، نأمل من الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع أن تدعو لإطلاق حوارات سورية موسّعة مع نخب المجتمع الوطنيين، لا مع رجال الدين المرتهنين لقوى خارجية أو الباحثين عن النفوذ والزعامة التي صنعها لهم النظام السابق من أجل تغطية جرائمه. وإنما مع من يريد الخير لسورية وأهلها، ومع من يشعر بآلام الآخرين كأنها آلامه، بعدها يمكن أن نصل إلى عقد مؤتمر وطني شامل، تكون قراراته ملزمة للدولة والمجتمع، وتُبنى عليها أسس سورية الجديدة.

إن تشكيل وطن سوري موحّد لا يمكن أن يتم دون شراكة حقيقية بين مكونات المجتمع كافة، على قاعدة المساواة والاحترام المتبادل. فالمشكلة الطائفية ليست قدرًا، بل أزمة قابلة للحل إذا توفّرت الإرادة السياسية والمجتمعية لمعالجتها.

إنّ مستقبل السوريين لم يُكتَب بعد، لكن بوادره تتوقف على مدى استعدادهم لتجاوز الماضي، والنظر إلى بعضهم كأبناء وطن واحد، لا كطوائف متصارعة. وقد بات هذا الأمر الآن ممكنًا في ظلّ القرارات التاريخية لرفع العقوبات الأخيرة عن السوريين وإتاحة فرصة ثمينة لإعادة بناء الاقتصاد الذي يعتبر عاملًا رئيسيًا في تخفيف التوترات الطائفية، إذ إن الفقر والتهميش غالبًا ما يشكّلان وقودًا للانقسامات. بين يدينا الآن فرصة تاريخية لرسم هذا المستقبل، فهل نغتنمها؟

تحميل الموضوع

تنويه:

كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “الأزمة الطائفية في سورية”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.

رئيس التحرير

  مركز حرمون

——————————-

بعد جولة على وزراء الشرع… ثلاثة تحديات تواجه سوريا والأولوية للاقتصاد/ عباس شريفة

تساؤلات تطرح عن ماهية القوى الخارقة التي ينتظرها الطاقم الوزاري

آخر تحديث 29 مايو 2025

يقال إن الحكومات الأسوأ حظا هي التي تأتي بعد الثورات حيث ترث الحكومة بعد الثورة بلدا منهكا ومدمرا في كل النواحي الاقتصادية وتلك المتعلقة بالبنية التحتية وأداوت الإنتاج والمرافق العامة والقطاعات الخدمية. وفيما يكون للشعوب سقف من الطموحات المرتفعة جدا بعد إسقاط نظام الفساد. وتظن الشعوب أنه بمجرد رحيل النظام السابق فستتغير الأمور تلقائيا.

ورغم الفيض الإيجابي الذي غمر الشعب السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد، وزوال المكابح التي وضعها النظام أمام مستقبل الشعب السوري، كان شعور كثيرين حضروا حفل التنصيب الوزاري في قاعة القصر الجمهوري في 29 مارس/آذار 2025، بأن تولي المنصب الوزاري في حالة تشبه الحالة السورية ضرب من الانتحار السياسي. وكانت تساؤلات تطرح عما هي القوى الخارقة والمعجزة التي ينتظرها هذا الطاقم الوزاري لحل أزمة البلد المعطوب في كل مرافقه، حيث إن نصف المدن الكبرى والبنية التحتية مدمرة بشكل كامل وقديمة ومتخلفة والأزمات تعصف بالبلد من كل الجوانب سواء الصحية أو التعليمية أو الاقتصاد. أضف لها أزمات الأمن والمخيمات واللجوء والتدخلات الخارجية التي تعمل على إفشال التجربة.

لا شك أن العمل في ظل هذا المشهد السوداوي يعد مجازفة من البعض الذي رضي بتسنم المسؤولية في مواجهة هذه التحديات الصعبة التي تحتاج إلى نوع من الاستجابة الاستثنائية والعمل بأقصى القدرات والطاقة.

أتيحت لي فرصة لقاء عدد كبير من وزراء الحكومة الجديدة في الأيام الأخيرة. ما خرجت به أن الطاقم الوزاري ينطلق من رؤية موحدة تعبر عن استراتيجية الرئيس أحمد الشرع الذي يولي الاقتصاد الأهمية الأولى ويعمل على تحقيق شروط التنمية الاقتصادية من خلال العمل الدبلوماسي النشط مع الدول الصديقة والشقيقة لرفع العقوبات وإعادة بناء مؤسسات الدولة المنهارة وبسط الأمن على كامل التراب السوري وتشجيع حركة الاستثمار و”تصفير المشاكل” مع الجوار واعتماد سياسة السوق المفتوحة ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وقبل كل ذلك مواجهة استحقاقات العدالة الانتقالية لتحقيق الاستقرار والبناء على ذلك.

فقد كان من الملاحظ أن كل الوزارات كانت تعمل على تحقيق هذه الرؤية أو أنها تعمل والرؤية ماثلة في خطتها التنفيذية والملفات ذات الأولوية ومن الواضح أن الفريق الوزاري لم يكن مستسهلا للمهمة ومدركا لحجم الصعوبات والتحديات التي تتلخص بحسب من سمعت منهم في ثلاثة تحديات أساسية:

وبعد رفع العقوبات الغربية، يتمثل التحدي الأول بحجم الفساد الضارب بأطنابه في بنية مؤسسات الدولة وبطريقة شبكية ومافياوية من الصعب تطويقها.

الثاني هو التخلف التقني والتكنولوجي في المؤسسات التي لا تزال تعتمد أسلوب الورقيات والأرشيف الورقي في مراجعات المواطنين وإنجاز معاملاتهم كما أن البنية التكنولوجية الموجودة هي تكنولوجيا متخلفة. الثالث، الترهل الإداري والبطالة المقنعة حيث كانت سياسة النظام هي إغراق المؤسسات بالتوظيف وتقديم الوظيفة كرشوة للبعض من أجل امتصاص نقمة المجتمع وهو ما جعل المؤسسات الإنتاجية خاسرة وجعل المؤسسات الخدمية فاسدة لتتحول إلى عبء على الدولة. ويضاف إلى كل ذلك التخلف التشريعي الذي تحتاج البلاد إلى علاجه من أجل البلاد للنهوض.

على المستوى الشخصي كان من الملاحظ أن سوريا أمام فريق وزاري مختلف تماما عن كل الوزراء الذين مروا على البلاد الذين كانوا محتجبين عن الناس ولا نكاد نراهم إلا يوم استلام المنصب فقط. الأمر اليوم مختلف تماما فأغلب الوزراء هم من جيل الشباب وأغلبهم يمتلكون حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي ويتواصلون مع الجمهور فبات من الطبيعي أن وزير الخارجية يرد على استفسار لصحافية على منصة “إكس”، ووزير آخر يستقطب أحد الكفاءات من خلال وسائل التواصل ووزير يتناول الغداء في مطعم شعبي ووزير آخر يعرض هيكل الوزارة على مجموعة من القانونيين والإداريين المستقلين قبل إعلانها.

على مستوى رؤية كل وزارة، كان من المبشر أن لدى كل وزير رؤيته الخاصة بوزارته. سمعنا من وزير الدفاع اللواء مرهف أبو قصرة، أنه يريد “جيشا يحمي الشعب والأرض” وحصر السلاح بيد الدولة من خلال التنسيق مع وزارة الداخلية. وسمعنا من وزير الداخلية أنس الخطاب أن “الأمن من أجل الشعب وليس على الشعب”، ومن وزير الإعلام حمزة مصطفى رؤيته المتناقضة مع إعلام النظام السابق. رؤيته التي تقول “إعلام يثق به الشعب ويفتح المساحة حتى لمن ينقد أداء الدولة” مع العمل لتحويل قطاع الإعلام إلى قطاع رابح ورافد لميزانية الدولة من خلال تشجيع الشركات الإعلامية على الاستثمار في سوريا.

حتى في التعليم العالي كان من الواضح التوجه لدعم التعليم المهني وربط التعليم بسوق العمل وتحقيق جودة العمالة السورية لرفد شركات الاستثمار بيد عاملة مؤهلة بشكل متقدم. كما سمعت عن أولوية وزير التربية محمد عبد الرحمن تركوا ما قاله عن العمل لإدخال مليوني طالب متسرب من التعليم في العملية التعليمية قبل الحديث عن المناهج وتأمين البنية التحتية للمدارس. وعليه فإن الحل العاجل هو فتح المجال للقطاع الخاص للاستثمار في التعليم ما قبل الجامعي والجامعي لتحمّل جزء من الأعباء عن  الدولة.

وكذلك كان وزير الأوقاف محمد أبو الخير شكري يحمل رؤيته الواضحة ففي الشق الدعوي كان التركيز على نبذ التطرف والتشدد وتعزيز الخطاب الوطني. وعلى الصعيد المالي، هناك حرص على العمل على “استعادة كل الوقف الذي نهبته العصابات المحسوبة على النظام وإعادة مال الوقف ليلعب دوره الاجتماعي في خدمة الشعب السوري”، مع توقعات بأن تكون وزارة الأوقاف من أغنى الوزارات في سوريا.

مع وزير الطاقة محمد البشير كان الحديث عن تنويع مصادر الطاقة وحل أزمة الكهرباء في سوريا خلال سنتين والاعتماد على الطاقة البديلة والتنقيب عن الغاز في البحر المتوسط وحل أزمة مياه الشرب في دمشق من خلال تقنية تحلية مياه البحر ووضع خطة عاجلة لمواجهة أزمة الجفاف والتغير المناخي الذي تتعرض له سوريا.

حتى حاكم البنك المركزي عبد القادر حصرية، كان متفائلا جدا إذ تخلصت سوريا بعد سقوط النظام السابق من أهم عاملين في إضعاف النقد السوري وهما سياسة الدعم التي لم تكن تصل للمواطن بشكل صحيح بسبب ما يعتريها من فساد وكانت تكلف ميزانية الدولة مبالغ طائلة وتخصيص 80 في المئة من ميزانية الدولة للجيش والتي هي الأخرى كان يُنهب الكثير منها، ومع رفع العقوبات وعودة حركة الاستثمار والودائع في “المركزي” السوري فإن وضع الليرة السورية سيكون في تحسن متصاعد خلال السنوات القادمة.

وهنا يضاف للفريق الوزاري هيئة الرقابة والتفتيش التي تتولى التفتيش على الوزارات وتساعدها للخلاص من الفساد من خلال الرقابة على تنفيذ خطة الوزارة والتفتيش على الإنفاق والتفتيش على تنفيذ القوانين والأنظمة.

يبدو أن الاقتصاد والتنمية هما الأولوية الأهم بالنسبة لكل الفريق الوزاري. لكن مع ذلك فإن عمل السلطة التنفيذية سيبقى قاصرا في ظل غياب السلطة التشريعية التي تشكل صلة الوصل بين الشعب والسلطة التنفيذية والتي تمارس دور التشريع في إخراج القوانين والتشريعات المعبرة عن مصالح الشعب وتمارس الرقابة والمساءلة على الوزراء من خلال إيصال استفسارات الشعب للمسؤول.

إن خروج البرلمان السوري للنور سيكمل العقد المنقوص في مؤسسات الدولة  وستدور معه الدولة بشكل صحيح نحو المسار الصحيح لتحقيق رؤية المرحلة الانتقالية كما أعلنها الرئيس  أحمد الشرع.

المجلة

——————————–

سياسة محل نزاع: كيف ينبغي لإسرائيل أن تتعامل مع النظام الجديد في سوريا؟/ دز زوي ليفورنيك

السياسة التي انتهجتها إسرائيل تجاه سوريا منذ سقوط نظام الأسد أثارت جدلاً واسعاً داخل إسرائيل وعلى الساحة الدولية. لقاء الرئيس ترامب بالرئيس السوري أحمد الشرع في 14 مايو 2025 زاد من حدة النقاش حول ما إذا كانت سياسة إسرائيل عدوانية بشكل مفرط وتضر بمصالحها الأمنية الطويلة الأمد واستقرار المنطقة، وهل يجب على إسرائيل إعادة النظر في نهجها والسعي لبناء الثقة والحوار مع النظام الجديد، أملاً في إقامة تعاون مستقبلي مع دمشق وصياغة نظام إقليمي جديد.

اللقاء التاريخي الذي جمع ترامب والشرع في السعودية يعيد طرح تساؤلات حول إمكانية التطبيع، وما إذا كان على إسرائيل أن تغير من سياستها تجاه سوريا. خلال اللقاء، قدم ترامب عدة مطالب لسوريا، منها الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ومعالجة العناصر الإرهابية داخل البلاد. جرى اللقاء بعد يوم واحد فقط من إعلان ترامب عن رفع العقوبات عن سوريا، لكن تلك المطالب لم تُقدَّم كشرط مسبق لرفع العقوبات.

من المهم الإشارة إلى أن رفع العقوبات هو عملية تقنية معقدة ستُنفَّذ تدريجياً، ولم يتم رفعها بشكل دائم بعد، بل لفترة تجريبية مدتها ستة أشهر، وبعدها ستقرر الإدارة الأميركية ما إذا كانت ستواصل تعليق العقوبات أم تعيد فرضها.

الموقف الذي اتخذته إدارة ترامب تجاه سوريا يمثل تحدياً لإسرائيل. وبحسب عدة تقارير، تم رفع العقوبات رغم اعتراض إسرائيل، استجابةً لطلب السعودية وتركيا، مما يُنظر إليه على أنه عزلٌ لإسرائيل في المنطقة، ومؤشر على تراجع أولويتها لدى الولايات المتحدة.

المطالبة الأميركية بالتطبيع، واستعداد سوريا الظاهري للاستجابة لها، سيزيدان من الضغط على إسرائيل للمضي في العملية، بما يشمل الانسحاب من المنطقة العازلة التي ينتشر فيها الجيش الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، ووقف الضربات العسكرية على الأراضي السورية.

في الوقت الحالي، نجحت “الحملة الودّية” التي يشنها الشرع—كما سماها البعض—في رفع العقوبات دون التزامات حقيقية من سوريا أو أدلة ملموسة على خطوات نحو الاستقرار الإقليمي، وسط تزايد الانتقادات للسياسة الإسرائيلية.

يبدي الشرع حرصاً على توصيل رسائل تصالحية تجاه إسرائيل والمجتمع الدولي، مشدداً على أن سوريا لا تُشكّل تهديداً. ومنذ توليه السلطة، يعمل بنشاط على إقامة علاقات دبلوماسية مع دول المنطقة والغرب، بهدف رفع العقوبات وضمان الحصول على الدعم والمساعدات. يُقدّر تكلفة إعادة إعمار سوريا بين 400 و600 مليار دولار، مما يوضح أن مستقبل البلاد يعتمد على مساعدات دولية طويلة الأمد. وقد جعلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية رفع العقوبات مشروطاً بضمان حقوق متساوية لجميع المواطنين، وحماية الاستقرار، وسيادة القانون، والنظام في أنحاء البلاد.

لذلك، يجب فهم التزامات الشرع للغرب وإسرائيل ضمن هذا السياق الكامل—كجزء من سعي سوريا لطمأنة الدول الغربية لضمان رفع العقوبات والحصول على الدعم.

ورغم تصريحات الشرع، فإن الواقع في سوريا—بما في ذلك الاشتباكات العنيفة المستمرة مع العلويين والدروز—يُظهر أن النظام لا يزال يكافح لفرض سلطته حتى على قواته، والتي تتكون من مزيج متنوع من الأفراد، بعضهم ليس سورياً، وبعضهم لا يزال يتبنى أيديولوجيات إسلامية متطرفة. ولا تزال ولاءاتهم للنظام الجديد موضع شك.

حتى الآن، فشل الشرع في توحيد الفصائل المختلفة داخل سوريا. فعلى سبيل المثال، لم يُنفذ الاتفاق الموقع مع الأكراد بالكامل بعد، ولا تزال القوات الكردية تحتفظ بأكثر من ألف مقاتل في أحياء الشيخ مقصود شمال حلب وأشرفية قرب الساحل الغربي، إلى جانب آليات عسكرية ومخازن أسلحة. بل وقد أرسلت تعزيزات عسكرية كبيرة إلى منطقة دير الزور بعد انسحاب قوات التحالف الدولي.

كما أن النظام لم يتوصل إلى أي تفاهمات مع الدروز. وعلى الرغم من تصريحات وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة بأن معظم الميليشيات الكبرى تم حلها ودمجها في قوات النظام، فإن الواقع يشير إلى أن هذه الميليشيات ما زالت تحتفظ ببنيتها الداخلية وتواصل نشاطها في نفس المناطق، مما قد يهدد استقرار النظام مستقبلاً.

في 20 مايو، عبّر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عن قلقه من أن الانقسامات الداخلية وعدم الاستقرار في سوريا قد تؤدي إلى انهيار النظام خلال أسابيع. وهذا يعكس درجة عالية من عدم اليقين بشأن مستقبل سوريا.

التحدي الرئيسي أمام الشرع اليوم هو كيفية تحقيق التوازن بين تقديم صورة معتدلة للغرب والحفاظ على شرعيته داخلياً، لا سيما لدى الفصائل المتطرفة التي دعمته. في الأسابيع الأخيرة، سُجّلت حالات انشقاق متزايدة نحو تنظيم داعش من قبل منظمات سلفية، بسبب استيائهم من

توجه الشرع “الموالي للغرب”.

يبدو أن الموقف التصالحي لسوريا تجاه إسرائيل لا يعكس تحولاً أيديولوجياً حقيقياً، بل ضرورة ظرفية. النظام الجديد لا يستطيع في الوقت الراهن الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، إذ أن أولويته هي إعادة الإعمار، وبناء مؤسسات الدولة، وضمان الحصول على الدعم الخارجي.

لكن هذا الانفتاح لا يضمن أن النظام لن يتحول لاحقاً إلى العداء، ليس بسبب سياسة إسرائيل، بل بسبب الخلفيات الأيديولوجية المتطرفة التي ارتبط بها بعض قادة النظام الجديد.

في 20 مايو، أعلنت المفوضية الأوروبية رسمياً رفع جميع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، باستثناء تلك الموجهة ضد شخصيات مرتبطة بنظام الأسد السابق، وحظر تجارة السلاح. ويهدف هذا القرار إلى دعم إعادة إعمار سوريا، والسماح لنظامها المالي بالاندماج في الأسواق الدولية، رغم استمرار حالة عدم الاستقرار.

أما إسرائيل، فلا يمكنها الاعتماد على الوعود والتصريحات، بل يجب أن تحكم على النظام الجديد من خلال أفعاله، وتقع مسؤولية إثبات حسن النية على الشرع.

ومن بين الانتقادات الموجهة لسياسة إسرائيل، يقال إن وجودها العسكري وضرباتها يهددان السيادة السورية ويسهمان في عدم الاستقرار. لكن يجدر التوضيح أن عدم الاستقرار في سوريا سابق لسياسة إسرائيل، وهو ناتج عن الانقسامات الداخلية، الطائفية والعرقية والدينية، والحرب الأهلية الطويلة، والتدخلات الخارجية، والأزمة الاقتصادية العميقة.

بالتالي، فإن السياسة الإسرائيلية هي رد وقائي على تهديدات محتملة ناتجة عن ضعف سيطرة النظام الجديد، وتهدف بالأساس لتدمير مخزونات أسلحة ومعدات عسكرية، ربما تشمل أسلحة كيميائية، لمنع وقوعها في الأيدي الخطأ.

طالب ترامب خلال لقائه الشرع باتخاذ إجراءات ضد التنظيمات الإرهابية الناشطة في سوريا، بما فيها الجهاديون والفصائل الفلسطينية وداعش.

وبالفعل، في مايو، غادر قادة فصائل فلسطينية مدعومة من إيران سوريا تحت ضغط متزايد من الحكومة الجديدة، شملت الإجراءات مصادرة ممتلكاتهم، ومطالبات بنزع السلاح، وحصر نشاطاتهم في المجال الاجتماعي فقط. ومن بينهم خالد جبريل، نجل مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ وخالد عبد المجيد، الأمين العام للجبهة؛ وزياد الصغير، أمين عام فتح الانتفاضة.

تعكس هذه الإجراءات تحولاً كبيراً في سياسة سوريا تجاه الفصائل الفلسطينية، إذ لم يعد يُسمح لها بالعمل بحرية عسكرية كما في عهد الأسد، بل تُجبر الآن على العمل الاجتماعي فقط.

ومع أن هذا يمثل تطوراً إيجابياً، إلا أن التعامل مع الجهاديين لا يتم بنفس الجدية. فحتى الآن، يُدمج بعضهم في الجيش السوري بدلاً من طردهم، ولا توجد مؤشرات على وجود إرادة حقيقية لمعالجة هذا الملف بشكل جذري.

سبب آخر لضربات إسرائيل في سوريا هو الردع، وتحديد خطوط حمراء أمام تركيا لمنع تدخلها العسكري في سوريا بشكل يهدد أمن إسرائيل. وعلى الرغم من أن التهديد التركي يختلف عن الإيراني، وتبقى علاقات أنقرة بدمشق غامضة، إلا أن عداء تركيا لإسرائيل واضح، وسعيها للعب دور رئيسي في سوريا لا يُخفى.

إذا انتظرت إسرائيل تطورات الأحداث دون تدخل—وهو الخطأ الذي تكرر في لبنان وغزة—فقد تجد نفسها أمام تهديد ملموس يصعب مواجهته لاحقاً. ولذلك، فإن الضربات الإسرائيلية الموجهة إلى سوريا كانت بمثابة رسائل تحذيرية لتركيا والنظام السوري.

أما التهديد الإيراني، فرغم ضعفه، لا يزال قائماً. إذ تواصل إيران زعزعة الاستقرار، وستجد من يتعاون معها من أجل مصالحها في سوريا ضد إسرائيل. ولهذا، تتحرك إسرائيل بشكل استباقي للكشف عن هذه التهديدات وإحباطها قبل أن تصبح واقعاً.

الخطر الآخر هو نشاط الفصائل الفلسطينية في سوريا، فبالرغم من الاعتقالات الشكلية، لا تزال حركتا الجهاد الإسلامي وحماس تنشطان في البلاد.

وبجانب العمليات العسكرية، تعمل إسرائيل أيضاً عبر القنوات الدبلوماسية، بما في ذلك تقارير عن محادثات غير مباشرة (وأحياناً مباشرة) مع سوريا لتجنب التصعيد وبناء تفاهمات.

لا تستبعد إسرائيل خيار التطبيع مع النظام الجديد، لكنها لا تنوي التخلي عن الخيار العسكري طالما ترى تهديدات عبر الحدود لم يتم التعامل معها.

تتبع إسرائيل سياسة استباقية تهدف إلى تحييد التهديدات، وردع الخصوم، وتوضيح خطوطها الحمراء للنظام الجديد. وقد تكون هناك فرصة حقيقية الآن لإقامة علاقات مع نظام الشرع، لكن ذلك يعتمد على قدرة النظام على فرض سلطته داخلياً وخارجياً، واعترافه بمطالب إسرائيل الأمنية.

يجب أن تكون سياسة إسرائيل تجاه سوريا محسوبة وتدريجية—بمعنى “امشِ، لا تركض”. لا ينبغي استبعاد أي خيار مسبقاً، ويجب أن تستند السياسات إلى ضمانات أمنية حقيقية. على إسرائيل أن تتصرف بحذر، موازنة بين احتياجاتها الأمنية من جهة، والإبقاء على الخيار الدبلوماسي من جهة أخرى.

ترجمة لكامل بحث مركز ألما الإسرائيلي

—————————-

==========================

الحكومة السورية الانتقالية: المهام، السير الذاتية للوزراء، مقالات وتحليلات تحديث 30 أيار 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

تشكيل الحكومة السورية الجديدة

———————————————-

بعد جولة على وزراء الشرع… ثلاثة تحديات تواجه سوريا والأولوية للاقتصاد/ عباس شريفة

تساؤلات تطرح عن ماهية القوى الخارقة التي ينتظرها الطاقم الوزاري

آخر تحديث 29 مايو 2025

يقال إن الحكومات الأسوأ حظا هي التي تأتي بعد الثورات حيث ترث الحكومة بعد الثورة بلدا منهكا ومدمرا في كل النواحي الاقتصادية وتلك المتعلقة بالبنية التحتية وأداوت الإنتاج والمرافق العامة والقطاعات الخدمية. وفيما يكون للشعوب سقف من الطموحات المرتفعة جدا بعد إسقاط نظام الفساد. وتظن الشعوب أنه بمجرد رحيل النظام السابق فستتغير الأمور تلقائيا.

ورغم الفيض الإيجابي الذي غمر الشعب السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد، وزوال المكابح التي وضعها النظام أمام مستقبل الشعب السوري، كان شعور كثيرين حضروا حفل التنصيب الوزاري في قاعة القصر الجمهوري في 29 مارس/آذار 2025، بأن تولي المنصب الوزاري في حالة تشبه الحالة السورية ضرب من الانتحار السياسي. وكانت تساؤلات تطرح عما هي القوى الخارقة والمعجزة التي ينتظرها هذا الطاقم الوزاري لحل أزمة البلد المعطوب في كل مرافقه، حيث إن نصف المدن الكبرى والبنية التحتية مدمرة بشكل كامل وقديمة ومتخلفة والأزمات تعصف بالبلد من كل الجوانب سواء الصحية أو التعليمية أو الاقتصاد. أضف لها أزمات الأمن والمخيمات واللجوء والتدخلات الخارجية التي تعمل على إفشال التجربة.

لا شك أن العمل في ظل هذا المشهد السوداوي يعد مجازفة من البعض الذي رضي بتسنم المسؤولية في مواجهة هذه التحديات الصعبة التي تحتاج إلى نوع من الاستجابة الاستثنائية والعمل بأقصى القدرات والطاقة.

أتيحت لي فرصة لقاء عدد كبير من وزراء الحكومة الجديدة في الأيام الأخيرة. ما خرجت به أن الطاقم الوزاري ينطلق من رؤية موحدة تعبر عن استراتيجية الرئيس أحمد الشرع الذي يولي الاقتصاد الأهمية الأولى ويعمل على تحقيق شروط التنمية الاقتصادية من خلال العمل الدبلوماسي النشط مع الدول الصديقة والشقيقة لرفع العقوبات وإعادة بناء مؤسسات الدولة المنهارة وبسط الأمن على كامل التراب السوري وتشجيع حركة الاستثمار و”تصفير المشاكل” مع الجوار واعتماد سياسة السوق المفتوحة ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وقبل كل ذلك مواجهة استحقاقات العدالة الانتقالية لتحقيق الاستقرار والبناء على ذلك.

فقد كان من الملاحظ أن كل الوزارات كانت تعمل على تحقيق هذه الرؤية أو أنها تعمل والرؤية ماثلة في خطتها التنفيذية والملفات ذات الأولوية ومن الواضح أن الفريق الوزاري لم يكن مستسهلا للمهمة ومدركا لحجم الصعوبات والتحديات التي تتلخص بحسب من سمعت منهم في ثلاثة تحديات أساسية:

وبعد رفع العقوبات الغربية، يتمثل التحدي الأول بحجم الفساد الضارب بأطنابه في بنية مؤسسات الدولة وبطريقة شبكية ومافياوية من الصعب تطويقها.

الثاني هو التخلف التقني والتكنولوجي في المؤسسات التي لا تزال تعتمد أسلوب الورقيات والأرشيف الورقي في مراجعات المواطنين وإنجاز معاملاتهم كما أن البنية التكنولوجية الموجودة هي تكنولوجيا متخلفة. الثالث، الترهل الإداري والبطالة المقنعة حيث كانت سياسة النظام هي إغراق المؤسسات بالتوظيف وتقديم الوظيفة كرشوة للبعض من أجل امتصاص نقمة المجتمع وهو ما جعل المؤسسات الإنتاجية خاسرة وجعل المؤسسات الخدمية فاسدة لتتحول إلى عبء على الدولة. ويضاف إلى كل ذلك التخلف التشريعي الذي تحتاج البلاد إلى علاجه من أجل البلاد للنهوض.

على المستوى الشخصي كان من الملاحظ أن سوريا أمام فريق وزاري مختلف تماما عن كل الوزراء الذين مروا على البلاد الذين كانوا محتجبين عن الناس ولا نكاد نراهم إلا يوم استلام المنصب فقط. الأمر اليوم مختلف تماما فأغلب الوزراء هم من جيل الشباب وأغلبهم يمتلكون حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي ويتواصلون مع الجمهور فبات من الطبيعي أن وزير الخارجية يرد على استفسار لصحافية على منصة “إكس”، ووزير آخر يستقطب أحد الكفاءات من خلال وسائل التواصل ووزير يتناول الغداء في مطعم شعبي ووزير آخر يعرض هيكل الوزارة على مجموعة من القانونيين والإداريين المستقلين قبل إعلانها.

على مستوى رؤية كل وزارة، كان من المبشر أن لدى كل وزير رؤيته الخاصة بوزارته. سمعنا من وزير الدفاع اللواء مرهف أبو قصرة، أنه يريد “جيشا يحمي الشعب والأرض” وحصر السلاح بيد الدولة من خلال التنسيق مع وزارة الداخلية. وسمعنا من وزير الداخلية أنس الخطاب أن “الأمن من أجل الشعب وليس على الشعب”، ومن وزير الإعلام حمزة مصطفى رؤيته المتناقضة مع إعلام النظام السابق. رؤيته التي تقول “إعلام يثق به الشعب ويفتح المساحة حتى لمن ينقد أداء الدولة” مع العمل لتحويل قطاع الإعلام إلى قطاع رابح ورافد لميزانية الدولة من خلال تشجيع الشركات الإعلامية على الاستثمار في سوريا.

حتى في التعليم العالي كان من الواضح التوجه لدعم التعليم المهني وربط التعليم بسوق العمل وتحقيق جودة العمالة السورية لرفد شركات الاستثمار بيد عاملة مؤهلة بشكل متقدم. كما سمعت عن أولوية وزير التربية محمد عبد الرحمن تركوا ما قاله عن العمل لإدخال مليوني طالب متسرب من التعليم في العملية التعليمية قبل الحديث عن المناهج وتأمين البنية التحتية للمدارس. وعليه فإن الحل العاجل هو فتح المجال للقطاع الخاص للاستثمار في التعليم ما قبل الجامعي والجامعي لتحمّل جزء من الأعباء عن  الدولة.

وكذلك كان وزير الأوقاف محمد أبو الخير شكري يحمل رؤيته الواضحة ففي الشق الدعوي كان التركيز على نبذ التطرف والتشدد وتعزيز الخطاب الوطني. وعلى الصعيد المالي، هناك حرص على العمل على “استعادة كل الوقف الذي نهبته العصابات المحسوبة على النظام وإعادة مال الوقف ليلعب دوره الاجتماعي في خدمة الشعب السوري”، مع توقعات بأن تكون وزارة الأوقاف من أغنى الوزارات في سوريا.

مع وزير الطاقة محمد البشير كان الحديث عن تنويع مصادر الطاقة وحل أزمة الكهرباء في سوريا خلال سنتين والاعتماد على الطاقة البديلة والتنقيب عن الغاز في البحر المتوسط وحل أزمة مياه الشرب في دمشق من خلال تقنية تحلية مياه البحر ووضع خطة عاجلة لمواجهة أزمة الجفاف والتغير المناخي الذي تتعرض له سوريا.

حتى حاكم البنك المركزي عبد القادر حصرية، كان متفائلا جدا إذ تخلصت سوريا بعد سقوط النظام السابق من أهم عاملين في إضعاف النقد السوري وهما سياسة الدعم التي لم تكن تصل للمواطن بشكل صحيح بسبب ما يعتريها من فساد وكانت تكلف ميزانية الدولة مبالغ طائلة وتخصيص 80 في المئة من ميزانية الدولة للجيش والتي هي الأخرى كان يُنهب الكثير منها، ومع رفع العقوبات وعودة حركة الاستثمار والودائع في “المركزي” السوري فإن وضع الليرة السورية سيكون في تحسن متصاعد خلال السنوات القادمة.

وهنا يضاف للفريق الوزاري هيئة الرقابة والتفتيش التي تتولى التفتيش على الوزارات وتساعدها للخلاص من الفساد من خلال الرقابة على تنفيذ خطة الوزارة والتفتيش على الإنفاق والتفتيش على تنفيذ القوانين والأنظمة.

يبدو أن الاقتصاد والتنمية هما الأولوية الأهم بالنسبة لكل الفريق الوزاري. لكن مع ذلك فإن عمل السلطة التنفيذية سيبقى قاصرا في ظل غياب السلطة التشريعية التي تشكل صلة الوصل بين الشعب والسلطة التنفيذية والتي تمارس دور التشريع في إخراج القوانين والتشريعات المعبرة عن مصالح الشعب وتمارس الرقابة والمساءلة على الوزراء من خلال إيصال استفسارات الشعب للمسؤول.

إن خروج البرلمان السوري للنور سيكمل العقد المنقوص في مؤسسات الدولة  وستدور معه الدولة بشكل صحيح نحو المسار الصحيح لتحقيق رؤية المرحلة الانتقالية كما أعلنها الرئيس  أحمد الشرع.

المجلة

—————————————–

===========================

واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا  تحديث 30 أيار 2025

متابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي

دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع

—————————-

من التحالف مع قسد إلى التعاون مع دمشق.. أميركا تعيد رسم استراتيجيتها في سوريا

ربى خدام الجامع

2025.05.28

شهد شهر أيار تحولات جذرية في السياسة الأميركية تجاه سوريا، مع مزيج درامي من التقدم الدبلوماسي والنكسات الأمنية التي أظهرت هشاشة المشهد الراهن رغم الآمال المعلّقة على التغيير. فبينما احتفى الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره السوري أحمد الشرع بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين بلديهما، جاء هجوم دموي نفذه تنظيم “الدولة” ليعيد إلى الواجهة التحدي المزمن المتمثل بالإرهاب، ويثير تساؤلات حول قدرة الحكومة السورية الجديدة على تنفيذ المهام الأمنية المطلوبة منها. وفي تحليل معمق نُشر حديثاً على موقع معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، تناول الباحثون أبعاد هذا التحول في السياسة الأميركية، والتحديات المتشابكة المرتبطة بملف تنظيم الدولة، ولا سيما في ظل التغيرات الجذرية التي طرأت على خريطة النفوذ والديناميات الإقليمية بعد سقوط نظام الأسد.

يقدم التحليل توصيات عملية لصناع القرار الأميركيين بهدف رسم مسار أكثر واقعية وفعالية في الشراكة الجديدة مع دمشق، من دون إغفال أدوار الفاعلين الآخرين، من قسد وتركيا إلى العراق وأوروبا.

ويعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التحليل في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الأمن في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.

وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:

كان شهر أيار شهر الانقلابات الجذرية في تاريخ السياسة الأميركية المعنية بسوريا، فقد شهد حالات صعود واعدة وحالات هبوط مأساوية خلال الأسبوعين الأخيرين فقط، إذ بعد أيام من احتفال الرئيس ترامب ونظيره أحمد الشرع بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، نفذ أعوان تنظيم الدولة تفجيراً بسيارة ملغمة في 18 أيار الجاري، أسفر عن مقتل عناصر من الأمن السوري في مدينة الميادين، ليكون ذلك أول هجوم ناجح ينفذه التنظيم ضد الحكومة الجديدة. وقد ذكرتنا تلك الحادثة بأنه حتى في الوقت الذي يركز المسؤولون على العملية السياسية، فإنهم لا يجيلون بصرهم بعيداً عن مهمة محاربة تنظيم الدولة، بما أن هذه المهمة تعتبر جزءاً مركزياً من السياسة الأميركية في سوريا منذ عام 2014.

سبق للبيت الأبيض أن حث الرئيس الشرع على التعاون في منع تنظيم الدولة من العودة مع تولي مسؤولية مراكز الاحتجاز التي تؤوي الآلاف من مقاتلي التنظيم وأهاليهم وذلك في شمال شرقي سوريا. بيد أن التحدي اليوم يتلخص في توضيح الطريقة التي يجب على دمشق أن تتبعها لتحقق تلك التوقعات على الأرض، مع وضع جدول زمني واضح للتنفيذ، والتنسيق مع شركاء الولايات المتحدة في المنطقة وغيرها.

تطور النهج الأميركي منذ عام 2014

منذ اقتحام تنظيم الدولة للمشهد في عام 2014، كانت الولايات المتحدة في مقدمة الدول التي تصدت لهذا التنظيم، إذ أصبحت أكبر دولة مانحة للتحالف الدولي، وقادت القوات العسكرية المتحالفة معها ضمن عملية العزم الصلب وذلك بالشراكة مع عناصر فاعلة محلية موجودة في سوريا والعراق. وفي سوريا، اختارت واشنطن الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبعد أن دحر التحالف الذي ترأسته الولايات المتحدة تنظيم الدولة من آخر معقل له في آذار 2019، انتقل الجيش الأميركي إلى مرحلة تقليص النفوذ بعد أن ركز على تدريب الشركاء المحليين وتقديم المشورة لهم وذلك فيما يتصل بتنفيذ مهمة محاربة تنظيم الدولة مع الحد من الوجود العسكري الأميركي هناك.

خلّفت الهزيمة العسكرية التي مني بها تنظيم الدولة أحد أخطر التحديات التي ظهرت في سوريا، وبقي هذا التحدي بلا أي حل حتى اليوم، ويتمثل باحتجاز قسد للآلاف من الرجال والنساء والأطفال التابعين لهذا التنظيم والذين تعود أصولهم لأكثر من ستين دولة، ولهذا، وبحسب ما أعلنته القيادة المركزية الأميركية، فإنه يمكن تقسيم مشكلة تنظيم الدولة الآن إلى ثلاثة أقسام، على الرغم من أن القسمين الأخيرين على صلة وثيقة ببعضهما، وتشمل تلك الأقسام ما يلي:

    “تنظيم الدولة بالعموم”: ويقصد بذلك قياداته وأعوانه الذين يحاربون الولايات المتحدة وشركاءها في سوريا والعراق.

    “تنظيم الدولة في مراكز الاحتجاز”: ويقصد بذلك الآلاف من الشبان والولدان (وأحياناً النساء والفتيات) التابعين للتنظيم والمحتجزين في مقار احتجاز سورية وعراقية، وكذلك في مراكز “لتأهيل” الشباب موجودة في هذين البلدين.

    “احتمال ظهور جيل جديد لتنظيم الدولة”: ويقصد بذلك الآلاف من النساء والقاصرين المحتجزين في مخيمي الهول والروج في شمال شرقي سوريا.

ألمح ترامب خلال ولايتيه في الرئاسة لإمكانية الانسحاب من سوريا، وخلال الفترة الفاصلة بينهما، وتحديداً في شهر آذار من عام 2023، صرح الجنرال مايكل كوريللا، قائد القيادة الوسطى الأميركية بالآتي: “إذا قررنا الرحيل عن سوريا، وفي حال عدم تمكن قسد من محاربة تنظيم الدولة بمفردها، عندئذ قد نشهد حالات هروب من السجون، إلى جانب نشر عقيدة التطرف في مخيم الهول، وبحسب تقديراتنا، فإن تنظيم الدولة يمكن أن يعود في غضون سنة أو سنتين”، ولكن مع رحيل نظام الأسد، أضحت سوريا اليوم مكاناً مختلفاً بشكل كبير، إذ أصبح الأمل يسود فيها تجاه تمكن الحكومة الجديدة في دمشق من توحيد البلد ونشر الاستقرار فيه، حتى في ظل وجود تلك التحديات الكبيرة. وكل ذلك أتى في الوقت الذي بدأت واشنطن بتخفيض مهمة التحالف الدولي في العراق، في خطوة يمكن في حال توسيعها أن تحد من قدرة أميركا على العمل في سوريا. ومما زاد هذا التحدي خطورة تلك الإصلاحات الشاملة التي طرأت على المساعدات الخارجية الأميركية، وشملت تخفيض أو تجميد التمويل المخصص لمخيمات الاحتجاز وعمليات الإجلاء.

وبما أن دمشق تواجه أزمة إنسانية حادة، لذا لم تعد مستعدة للاضطلاع بمهمة محاربة تنظيم الدولة بفروعها الثلاثة بمفردها، ولهذا تحتاج العلاقة الجديدة التي قامت بين سوريا والولايات المتحدة إلى أن تقوم واشنطن بوضع خطة واضحة من أجل محاربة تنظيم الدولة وضمان نشر الأمن، وإخلاء مقرات الاحتجاز والمخيمات الموجودة في شمال شرقي سوريا من ساكنيها في نهاية الأمر.

اختلاف الفاعلين والأجندات بالنسبة لمحاربة تنظيم الدولة

بما أن واشنطن تولت منذ أمد بعيد أغلب العبء العسكري والمالي المخصص لمحاربة تنظيم الدولة في سوريا، فإن الرسائل الأولية التي وجهها ترامب خلال ولايته الثانية دفعت عناصر فاعلة دولية أخرى لطرح أجنداتها الخاصة.

دمشق

اتخذت الحكومة السورية الجديدة خطوات لمحاربة تنظيم الدولة حال عودته، وشملت تلك الخطوات الاستعانة بمعلومات استخباراتية أميركية لاستهداف مقاتلي التنظيم، وتعتبر تلك الخطوات مهمة لكونها قادرة على تخفيف المخاوف الأميركية تجاه العلاقة التي ربطت الشرع في السابق بتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة.

غير أن المهمة الجسيمة المتمثلة ببناء الدولة تترك السؤال التالي مفتوحاً: هل بوسع دمشق حقاً تولي مسؤولية مهمة محاربة تنظيم الدولة بأكملها؟ وهل ترغب بذلك أصلاً؟ بما أن الأمر يشمل تولي أمور مراكز الاحتجاز التي تديرها قسد والتي تؤوي عناصر تابعة للتنظيم مع عائلاتهم.

قسد

كانت قوات سوريا الديمقراطية الشريك الأساسي لواشنطن على الأرض، ولذلك تعتبر جزءاً أساسياً من مهمة محاربة تنظيم الدولة، فقد أسهمت في هزيمة التنظيم عسكرياً، كما أمنت مقار ومعسكرات الاحتجاز بعد تباطؤ جهود العناصر الفاعلة الدولية في إجلاء مواطنيها، إلا أن قسد ليست دولة، وقد واجهت تحديات ترتبط بالحكم المحلي، ناهيك عن التحديات التي تواجهها من طرف تركيا التي تعتبر هذه الجماعة فرعاً لحزب العمال الكردستاني المصنف كتنظيم إرهابي لدى كثير من الدول، غير أن هذا التنظيم حل نفسه مؤخراً. ثم إن الظروف في تلك المخيمات قد ساءت بعد سقوط الأسد، ما جعلها في حالة ضعف شديد، لذا، ومن دون الدعم الأميركي، تصبح قسد أمام خطر التعرض لمواجهة مباشرة مع تركيا، وهذه المواجهة قد تجعلها عاجزة عن مواصلة العمل على مهمة محاربة تنظيم الدولة.

تركيا والعراق

طرحت هاتان الدولتان المجاورتان لسوريا أجندتيهما أيضاً، إذ بعد أن استغلت تركيا الرسائل المبهمة التي وجهتها واشنطن بعد الإطاحة بالأسد، اقترحت تركيا إقامة منصة إقليمية، لتتولى من خلالها قيادة التحالف الدولي إلى جانب العراق والأردن وسوريا. وكان الهدف من ذلك تهميش قسد وتقليص النفوذ الأوروبي في آن معاً، غير أن الشركاء المحتملين لتركيا في هذه المنصة تراجعوا عن المشاركة بعد اجتماعات أولية تبين لهم من خلالها بأن أنقرة تسعى لتجاوز مهمة محاربة تنظيم الدولة وذلك عبر ملاحقة فلول حزب العمال الكردستاني. وهنالك تحديات أخرى تمثلها هاتان الدولتان، ومن بينها عجز أنقرة عن تنفيذ المهمة بمفردها، وتشكيك بغداد بقدرة حكومة الشرع على محاربة التنظيم بعد تقليص المهمة التي تقودها أميركا في العراق، إلى جانب وجود أكثر من 15 ألف عراقي وعراقية ضمن مقار ومخيمات الاحتجاز التي تديرها قسد.

أوروبا

دعمت فرنسا والمملكة المتحدة المهمة العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة في سوريا، وعندما أبطأت واشنطن في توضيح سياستها تجاه سوريا بعد الإطاحة بالأسد، ضغطت العناصر الفاعلة الأوروبية من أجل تخفيف العقوبات، واقترحت بدائل عنها، شملت مواصلة عملية العزم الصلب بالتنسيق مع الحكومة السورية الجديدة. وهنا يرجح تنسيق سوريا مع التحالف اليوم، وذلك استناداً لما تمخض عنه الاجتماع الذي ضم واشنطن ودمشق في 14 أيار الجاري، والذي أشار إلى وجوب “مساعدة” الحكومة السورية للولايات المتحدة في منع تنظيم الدولة من الظهور مجدداً، ويرى بعض المحللين بأن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه هو وأي دولة أخرى عضو فيه تولي مهمة محاربة تنظيم الدولة.

التوصيات

توجهت واشنطن لدمشق حتى تسهم في محاربة تنظيم الدولة ولتتولى السيطرة على مقار ومخيمات الاحتجاز التي أقيمت لعناصره في سوريا، ولذلك يجب على المسؤولين الأميركيين وغيرهم مراعاة الأولويات التالية:

    يجب على دمشق إبداء قدرتها واستعدادها لتولي مهمة محاربة تنظيم الدولة، ولتحقيق هذه الغاية، يجب على الولايات المتحدة تشكيل مجموعة عمل مشتركة تعنى بمعالجة الأقسام الثلاثة لهذه المهمة، وهي (1) عودة تنظيم الدولة، (2) مقاتلو التنظيم الموجودين في مقرات الاحتجاز، (3) عائلات مقاتلي التنظيم الموجودة في مخيمات الاحتجاز. كما يبنغي على المسؤولين السوريين توضيح نواياهم، ليس فقط تلك المتعلقة بتولي المهمة بأكملها، بل أيضاً بالنسبة لضمان نشر الأمن والتعامل بصورة إنسانية مع المحتجزين.

      يجب على واشنطن وحلفائها التأكيد على ضرورة إقامة علاقة صحية بين دمشق وقسد: في الوقت الذي تبدو الولايات المتحدة على وشك الحد من نفوذها في الشرق الأوسط، أعلنت واشنطن بأن هنالك ضرورة لتعاون دمشق مع قسد، إلا أن قدراً ضئيلاً من التقدم قد تحقق فعلياً بعد الاتفاق المبدئي على الاندماج بين دمشق وقسد والذي وقع في شهر آذار الماضي، ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن قسد تعتبر دورها في مهمة محاربة تنظيم الدولة على وجه الخصوص، ودورها في إدارة مقار ومخيمات الاحتجاز، بمثابة عبء وأداة للتفاوض بوسعها الاستعانة بها ضد دمشق والعناصر الفاعلة الدولية، وفي تلك الأثناء، لم تشعر دمشق بأي ضغط يدفعها للتنازل أمام قسد، كما لم تعترف بخبرة تلك الجماعة الكردية والتدريب العسكري الذي تلقته من أجل مهمة محاربة تنظيم الدولة. وبما أن الأمور قد وقفت عند هذا الحد، فهذا يعني بأنه ليس بمقدور دمشق ولا قسد تنفيذ مهمة محاربة تنظيم الدولة بمفردهما، بل يجب عليهما إقامة علاقة ناجحة حتى تسلم واشنطن لهما زمام أمور تلك المهمة بشكل ناجح.

    ينبغي على الولايات المتحدة مطالبة تركيا بوقف ممارستها التي تهدد بعودة تنظيم الدولة إلى الظهور، وذلك بدءاً من الاستعانة بالعدوان العسكري ضد قسد، مروراً بإعطاء الأولوية لأجندة تركيا المناهضة لحزب العمال الكردستاني، وصولاً إلى تهميش الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين عبر اقتراح تحالفات جديدة، إذ عملت تركيا في بعض الأحيان على تقويض عملية محاربة تنظيم الدولة بعنوانها العريض، ولهذا يجب على واشنطن أن توضح لأنقرة بأن هذا غير مقبول، وبناء على هذا الأساس، قدمت مجموعة العمل الأميركية-التركية بشأن سوريا في 20 أيار الجاري فرصة مهمة بالنسبة لواشنطن حتى توضح جوانب الأنشطة التركية التي تهدد الهدف المشترك والمتمثل بمنع تنظيم الدولة من معاودة الظهور.

    لا يحق لأميركا تهميش شركائها الأوروبيين: إذ في الوقت الذي أثنى الرئيس ترامب على الدور الذي لعبته السعودية وتركيا في عملية التحول بسوريا، فإنه لا يحق لواشنطن أن تحول بصرها عن الجهود الكبيرة التي قدمتها أوروبا لمحاربة تنظيم الدولة، ولهذا يجب على واشنطن مواصلة العمل مع العواصم الأوروبية لضمان توافق سياساتها تجاه دمشق، إلى جانب مطالبتها بتحمل جزء أكبر من العبء المالي، ومن جانبها، ينبغي على الدول الأوروبية أن تعطي الأولوية لعمليات إجلاء مواطنيها من أجل تخفيف العبء الواقع على عاتق سوريا.

    يجب على واشنطن أن تكون واقعية بالنسبة للجدول الزمني: لأن مهمة محاربة تنظيم الدولة تحتاج إلى تدريب ومعدات ودعم استخباراتي، ووقت أيضاً. ولذلك يجب على كل من وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين أن تشاركا في وضع جدول زمني واقعي بالنسبة للعملية التي سيتم بموجبها تسليم السيطرة بشكل تدريجي للحكومة السورية.

 المصدر: The Washington Institute for Near East Policy

تلفزيون سوريا

—————————

تركيا وسوريا.. تحالف أمني يعيد رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط/ أيهم الشيخ

30 مايو 2025

كشفت صحيفة “Türkiye” المقرّبة من الحكومة التركية، نقلًا عن مصادر أمنية، أن أنقرة ستقدّم دعمًا مباشرًا للحكومة السورية الجديدة في مجالات تأسيس الأجهزة الأمنية والعسكرية، في إطار مسعى تركي وصفته بأنه يهدف إلى تعزيز الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب.

وبحسب ما ورد في التقرير، فإن القوات التركية ستقوم بإنشاء قواعد جوية وبرية وبحرية داخل الأراضي السورية، في سياق عمليات مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بالتنسيق مع السلطات السورية.

وأشارت المصادر إلى أن “الآلية الخماسية” التي تضم سوريا بالإضافة إلى تركيا ودول الجوار “تعقد اجتماعات دورية لدعم الاستقرار في سوريا”، مؤكدةً أن “تركيا ستواصل تقديم كل أشكال الدعم الممكنة لتحقيق الأمن والاستقرار”.

وفي السياق ذاته، ربطت المصادر بين التحركات التركية واللقاء المرتقب بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأميركي دونالد ترامب، واصفةً إياه بأنه “لقاء مهم وحاسم، وسيُمهّد لحل العديد من القضايا المتعلقة بسوريا”.

يقول الأستاذ الجامعي في جامعة كارتكن التركية والباحث في الشأن التركي، د. قتيبة فرحات، إن الدافع الرئيسي لدعم أنقرة للدولة السورية الجديدة ينبع من مصلحة مشتركة تتعلق بحل قضية شرق الفرات، والتصدي لهواجس أنقرة بشأن إقامة ممر كردي مستقل على حدودها الجنوبية. وأكد أن “التحالف بين الطرفين مبني أساسًا على هذه المصلحة المتبادلة”.

وأضاف فرحات أن التحرك التركي تجاه دمشق “مفروض من واقع المصلحة الوطنية التي تقتضي بسط الدولة السورية سيطرتها على كامل جغرافيتها”، مشيرًا إلى أن هذا التقارب قد يتطور لاحقًا إلى تحالف استراتيجي يشمل مجالات الاقتصاد والدعم السياسي.

وفي ما يخص الوجود العسكري التركي في سوريا، أوضح فرحات أن “القواعد العسكرية التركية تهدف أولًا إلى ضمان أمن تركيا، إضافة إلى تمكين أنقرة من التحرك السريع في حال تطورت الأوضاع ميدانيًا، فضلًا عن تعميق التعاون العسكري مع دمشق لإعادة بناء القوة العسكرية التي تعرضت للهدر خلال السنوات الماضية”.

وشدد الباحث على أن “أي تحرك تركي في الساحة السورية لا يمكن أن يتم دون موافقة – وإن كانت غير علنية – من الولايات المتحدة وروسيا”، مضيفًا أن ما يهم هاتين القوتين هو ضمان أمن إسرائيل ومنع تصدير الثورة خارج الحدود السورية.

وأشار فرحات إلى أن لتركيا دورًا محوريًا في إعادة تشكيل البنية الأمنية في سوريا، بما يراعي مختلف مكونات المجتمع السوري، “نظرًا لما تملكه أنقرة من خبرات في هذا المجال، ولما تتمتع به من ثقل شعبي في بعض الأوساط السورية”.

أما في ما يتعلق بالجماعات المسلحة غير المنضوية تحت سلطة الدولة، فأكد أن التعامل معها سيكون بالحوار في المرحلة الأولى، من خلال البحث عن أرضية مشتركة. لكنه لم يستبعد الخيار العسكري في حال تعثر الحل السياسي، مضيفًا أن “أنقرة والدولة السورية لن تقبلا ببقاء أي سلاح خارج إطار الدولة”.

في ظل التحولات الجيوسياسية التي تشهدها الساحة السورية، ومع تراجع وتيرة النزاع العسكري وبروز توجهات لإعادة دمج سوريا في محيطها الإقليمي والدولي، تتجه الأنظار إلى الدور التركي، باعتباره فاعلًا محوريًا في الملف السوري منذ أكثر من عقد.

وفي هذا السياق، يتحدث الصحفي التركي إسماعيل جوكتان، لـ “الترا سوريا”، عن رؤية أنقرة للتطورات الجارية، والعلاقات المستقبلية مع دمشق، والدور التركي المحتمل في إعادة بناء سوريا على المستويين الأمني والسياسي.

يقول جوكتان إن تركيا تحملت عبئًا كبيرًا نتيجة تدفق اللاجئين السوريين، إضافة إلى التحديات الأمنية الناجمة عن حالة عدم الاستقرار في سوريا، منذ انطلاق الثورة ضد النظام السابق. مشيرًا إلى أن الموقف التركي من التطورات في سوريا ينبع من سعي أنقرة لحماية الاستقرار الإقليمي ومنع الانزلاق مجددًا نحو الفوضى، إلى جانب رغبتها في بناء تحالف استراتيجي مع سوريا الجديدة.

وأضاف جوكتان أن العلاقة التقليدية بين النظام السوري بقيادة حافظ الأسد، ومن بعده بشار الأسد، كانت متوترة مع أنقرة، نتيجة تحالف دمشق مع المحور الروسي ومن ثم الإيراني. لكن مع انهيار النظام السابق، ظهرت بوادر لتأسيس علاقة جديدة بين بلدين يشتركان في عمق حضاري وجغرافي، دون أن تسعى تركيا إلى فرض تبعية، أو أن تظهر سوريا كدولة موالية لأنقرة، وهو ما تحرص عليه الحكومة السورية الحالية بقيادة أحمد الشرع، التي تسعى بدورها إلى الحفاظ على سيادتها واستقلال قرارها.

وأكد جوكتان أن كلًا من الحكومتين التركية والسورية تسعيان إلى بناء علاقات قوية ومستدامة، مع تفادي العودة إلى حالة العداء الماضية. وأوضح أن دمشق، في ظل إدارتها الجديدة، تحاول رسم توازن بين علاقاتها مع تركيا والدول العربية، مع إعطاء أهمية خاصة للبُعد الأمني في هذه المرحلة.

وشدد الصحفي التركي على أن أنقرة ستعطي الأولوية لمصالحها الأمنية في المرحلة الجديدة التي تدخلها سوريا بعد سقوط النظام السابق. فتركيا تدرك أهمية سوريا كمفتاح للمنطقة، لكنها تعلم أن حضورها الفعال هناك لن يتحقق إلا بوجود حكومة قوية ومستقرة في دمشق.

وأضاف أن سوريا ستحتاج إلى الخبرات العسكرية التركية في عملية إعادة تشكيل جيشها، خاصة أن الجيش السوري كان مدربًا وفق العقيدة السوفييتية، بينما تسعى دمشق اليوم إلى بناء جيش حديث ومتناسق مع المعايير الغربية. وهنا، يرى جوكتان أن الوجود العسكري التركي يمكن أن يساهم في تأسيس جيش وطني عصري يرقى إلى المستوى العالمي.

وتطرق جوكتان إلى الدور التركي في دعم جهود تطبيع العلاقات السورية مع المجتمع الدولي، مؤكدًا أن أنقرة لعبت دورًا رياديًا إلى جانب المملكة العربية السعودية في دفع مسار رفع العقوبات وإعادة دمج سوريا إقليميًا ودوليًا.

وأشار إلى أن تركيا، باعتبارها عضوًا مؤثرًا في حلف الناتو، وتملك علاقات قوية مع الولايات المتحدة وروسيا والصين، تستطيع أن تشكل جسرًا يربط سوريا بالعالم الخارجي، وأن تسهم في تحسين صورتها الدولية خلال المرحلة القادمة.

وفيما يخص الملف الكردي، أوضح جوكتان أن وزير الدفاع السوري منح الجماعات المسلحة مهلة عشرة أيام للالتحاق بصفوف الجيش الجديد، في وقتٍ تشهد فيه العلاقة بين “قسد” وحكومة دمشق تفاهمات متقدمة.

وأضاف أن واشنطن لم تعد تدعم استمرار “قسد” بصيغتها الحالية، في حين عبّرت تركيا بوضوح عن رفضها لوجود عناصر حزب العمال الكردستاني في سوريا. وعلى الرغم من أن الحزب قد أعلن حل نفسه، فإن أنقرة ترى ضرورة انسحاب جميع عناصره من الأراضي السورية.

وأشار إلى أن تركيا ستدعم دمشق عسكريًا في حال نشوب مواجهة جديدة بين “قسد” والحكومة السورية، وذلك انسجامًا مع رؤيتها الأمنية الإقليمية.

تُظهر التحركات التركية الأخيرة تجاه سوريا تحولًا استراتيجيًا في السياسة الإقليمية، يعكس إدراك أنقرة لأهمية الاستقرار السوري كركيزة لأمنها القومي ومصالحها الإقليمية. ومن خلال دعمها لإعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية في دمشق، تسعى تركيا إلى خلق توازن جديد يُبعد التهديدات الحدودية ويعزز التعاون مع دمشق على أساس المصالح المشتركة. ومع استمرار التوترات الإقليمية وتداخل المصالح الدولية، يبقى هذا التحالف في دائرة المراقبة الدقيقة، حيث يُحتمل أن يشكل نقطة انطلاق جديدة نحو إعادة دمج سوريا في محيطها الإقليمي والدولي، لكن دون إغفال التحديات التي قد تعترض طريق هذه العلاقة المتجددة.

الترا سوريا

———————————-

اتفاق على الورق؟.. تقرير يكشف مخاوف السوريين من فشل تطبيق اتفاق شرق الفرات

أصدر المركز السوري لدراسات الرأي العام “مدى” تقريراً يتناول آراء عينة من سكان شرق الفرات بالاتفاق الموقّع بين الحكومة السورية و”قوات سوريا سورية الديمقراطية”، ومدى قابلية تطبيقه على أرض الواقع.

ولم يتوقع غالبية المستجيبين من عينة البحث (التي بلغت 1200 من محافظات دير الزور والحسكة والرقة) استمرار الاتفاق، بسبب ممارسات قوات “قسد” الأمنية والعسكرية التي لم تتغير، والوضع الأمني الذي ازداد سوءاً بعد توقيع الاتفاق.

وأكدت عينة المستجيبين من المقيمين في المحافظات الثلاث، والذين استطلعت آراؤهم في الفترة ما بين 28/4 و2/5 من العام الحالي 2025، أن الاتفاق، في حال طبّق على أرض الواقع، فإنه سوف يسهم في دعم السلم الأهلي وضمان حقوق المكونات الثقافية، ويسهّل عودة المهجرين إلى مدنهم وقراهم، وتحقيق الأمن في المنطقة.

وعلى الرغم من وجود اهتمام كبير بمضمون اتفاق شرق الفرات من قبل المستجبيبن، ووجود اتجاهات إيجابية نحو تأييد ذلك الاتفاق، ما يعكس رغبة كبيرة لدى أهالي المناطق، ومن المكوّنات المختلفة، في الانتقال إلى مرحلة جديدة من السلم والعيش المشترك؛، إلا أن  ارتهان قبول “قوات سورية الديمقراطية” توقيع الاتفاق، بإعلان انسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، وأحداث الساحل بين قوات الأمن السوري وما سُمّي بـ “فلول النظام”، على ما رأت عينة البحث، يجعل مسألة الالتزام ببنود الاتفاق وديمومته محط شك وحذر لدى الكثير من السكان “عينة الاستطلاع”.

وأكدت النتائج السابقة، أن هناك نسبة كبيرة من عيّنة الاستطلاع أفادت بأن الواقع الأمني (الاعتقالات والتدقيق الأمني وحظر التجول) بقي على حاله حتى بعد توقيع الاتفاق،  بل وازداد سوءاً عن مرحلة ما قبل توقيع الاتفاق في بعض المناطق.

وأكد أحمد مراد، مدير الأبحاث في المركز، أنه تم تمثيل المكوّنات المختلفة في مناطق البحث الثلاث، من عرب وكرد، ومن القوميات الأخرى، والأديان والطوائف المختلفة. كما تم الأخذ بعين الاعتبار جهات السيطرة في كل منطقة، وهو ما يؤثر بالضرورة على التوجهات والتوقعات نحو الاتفاق.

يجدر بالذكر أن التقرير الذي حمل عنوان ” آراء وتوقعات السوريين حول اتفاق شرق الفرات”، تضمّن محورين أساسيين، الأول يتعلق بالموقف من الاتفاق، والثاني يتناول آراء وتوقعات السكان في ما يخص الوضع السياسي الحالي لمناطقهم مع تطبيق الاتفاق.

———————————-

الأسباب الحقيقة وراء زيارة الشرع المفاجئة لإسطنبول/  صالحة علام

29/5/2025

أثارت الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس المرحلة الانتقالية بسوريا أحمد الشرع لإسطنبول، ولقاؤه الرئيس أردوغان جملة من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول الأسباب التي دفعت الشرع إلى هذه الزيارة غير المدرجة على جدول أعمال الرئيسين، ولم يسبق الإعلان عنها بروتوكوليا كما جرت عليه العادة.

    الشروط الأمريكية لتنفيذ قرار رفع العقوبات عن سوريا

لتحديد الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذه الزيارة، ولمعرفة الملفات التي تم بحثها بين الجانبين، ولوضع تصور عن ما يمكن أن تحمله الأيام المقبلة من تطورات في المنطقة عموما، والداخل السوري على وجه الخصوص، يجب إمعان النظر بدقة في هوية المسؤولين الذين حضروا اللقاء من قادة أمنيين وعسكريين، إضافة إلى كل من وزراء الخارجية والدفاع، ومسؤولي جهازي الاستخبارات بالبلدين، إلى جانب التطورات التي شهدها الملف السوري دوليا، وإقليميا قبلها بأيام قليلة، وربما ساعات معدودة، وكانت دافعا إلى هذا التحرك السريع من جانب الشرع.

من هذه التطورات إعلان كل من الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي على التوالي رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وهو ما يعد تحولا كبيرا في نهج الغرب عموما اتجاه دمشق، لكن تنفيذ هذه الخطوة له شروط محددة تم وضعها أمام القيادة السورية، منها ضمان أمن إسرائيل، ومنع أية تهديدات يمكن أن تتعرض لها سواء من جانب الدولة السورية نفسها، أو من بعض المنتمين للتنظيمات الجهادية داخل سوريا.

مع عدم الاستعانة بأي عنصر من المقاتلين الأجانب الذين سبق لهم التعاون مع هيئة تحرير الشام، أو تعيينهم في مناصب قيادية داخل الإدارة السورية الجديدة، والمطالبة بتدمير جميع مخازن الأسلحة الكيميائية الباقية في سوريا، والتعاون بجدية في مكافحة الإرهاب.

    لقاءات سورية إسرائيلية مباشرة تحت رعاية تركيا

وهي الشروط التي يبدو أن الإدارة السورية قد قررت القبول بها، والبدء في تنفيذها بمساعدة تركيا، حتى يتسنى لها المضي قدما في عملية إعادة إعمار البلاد التي دمرتها الحرب، وإصلاح هيكل الاقتصاد، وتحديث البنية التحتية، لجذب الاستثمارات الأجنبية وإنعاش الأسواق، وتحسين الظروف المعيشية للسوريين.

ففي سابقة هي الأولى من نوعها تناولت وسائل إعلام دولية وإقليمية معلومات عن وجود لقاءات مباشرة بين مسؤولين سوريين وآخرين إسرائيليين تحت رعاية تركية، في باكو عاصمة أذربيجان، وهو ما ألمح إليه جدعون ساعر وزير خارجية دولة الاحتلال، الذي ثمن هذه الخطوة وأثنى عليها، لكونها تهدف إلى التوصل لاتفاق يحقق الاستقرار الأمني والسياسي للطرفين على حد زعمه.

وقد استدل البعض على صحة هذه المعلومات غير المؤكدة حتى الآن بموافقة أحمد الشرع على تحقيق رغبة إسرائيل، وتسليمها متعلقات الجاسوس الإسرائيلي إيلى كوهين، كبادرة حسن نية اتجاهها واتجاه ساكن البيت الأبيض.

كما أعلنت القيادة السورية عدم رغبتها في امتلاك أي أسلحة كيميائية، وتعهدت رسميا في اجتماع للمجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي بتدمير كافة المخزون الذي احتفظ به نظام الأسد سنوات.

    تداعيات تعيين الأجانب بوزارة الدفاع

العقبة الوحيدة الآن التي يحتاج فيها الشرع بشدة لحنكة أنقرة، وتحركها دبلوماسيا لرفع الحرج عنه أمام واشنطن تحديدا، وتنفيذ وعدها برفع العقوبات عن بلاده، تكمن في معضلة المقاتلين الأجانب الذين شاركوا معه في معركة تحرير سوريا من نظام الأسد.

خاصة أنه قام فعلا بتعيين عدد من هؤلاء الأجانب في مناصب قيادية بوزارة الدفاع، أبرزهم قائد الحرس الجمهوري عبد الرحمن الخطيب وهو أردني الجنسية، وقائد فرقة دمشق العسكرية عمر محمد جفتشي المعروف باسم “مختار التركي”، وهو تركي الجنسية، وتراجعه عن هذه التعيينات، وإقصاؤهم من مناصبهم يمكن أن يسبب له مشكلة يصعب حلها أو معالجة تداعياتها في الوقت الراهن، خاصة بين أولئك الذين يدينون بالولاء لهؤلاء القادة.

     تحركات مريبة لقوات سوريا الديمقراطية

إلى جانب هذه التطورات، كان قيام قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بتوسيع نطاق خريطة تحركاتها العسكرية في مناطق دير الزور، دافعا لتوجه الشرع صوب إسطنبول، خاصة بعد أن قامت قسد بإرسال المزيد من العناصر المسلحة، والمعدات العسكرية إلى المناطق الأكثر حساسية قرب حقول النفط، وعلى ضفاف نهر الفرات، إلى جانب التصعيد الأمني، وهو التحرك الذي يخالف الاتفاق الذي سبق توقيعه في مارس/آذار الماضي بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي.

كما كان للمباحثات التي أجراها إبراهيم كالن رئيس جهاز الاستخبارات التركي مع المسؤولين في دمشق دور في قرار القيام بهذه الزيارة، بعد أن تم بحث العديد من الملفات الأمنية ذات الحساسية بالنسبة لتركيا، لارتباطها بتطورات القضية الكردية لديها، وعملية السلام التي تقودها الحكومة مع عناصر حزب العمال الكردستاني، وانعكاسات هذا الأمر على وضع قسد، وآليات تسليم هذه العناصر لسلاحها، ودمجها ضمن وحدات الجيش والقوات الأمنية السورية.

إضافة إلى عودة الحديث مجددا عن مصير مقاتلي داعش وأسرهم المحتجزين في مخيم الهول، الذي يضم وفق تقارير لعدد من منظمات حقوق الإنسان أكثر من 35 ألف شخص، معظمهم من زوجات وأبناء مقاتلي التنظيم الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، إلى جانب منطقة السجون والمعتقلات التي تضم ما يقارب 9 آلاف من المشتبه في كونهم من عناصر داعش، حيث لا يزال وضع هؤلاء وأولئك، والجهة التي ستتولى إدارة هذا الملف في المرحلة اللاحقة غير واضح.

في ظل التصريحات التي تصدر عن قيادات بقسد تؤكد أن الاتفاق مع حكومة دمشق يخص فقط آلية إجلاء المواطنين السوريين إلى المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الكردية، وليس تسليم إدارة المخيم لدمشق، وهو ما يتعارض مع المقترح التركي الذي تم إبلاغه لواشنطن، والخاص بضرورة تسليم المخيم والسجون الملحقة به للحكومة السورية مع إمكانية تقديم أنقرة المساعدة اللازمة عند الاحتياج إليها.

    خطط أمنية تركية سورية للقضاء على تهديدات داعش

ولوضع حل نهائي لهذه المسألة التي تقلق بال دمشق خشية عودة تهديد داعش، وعدم القدرة على مواجهة تهديدات التنظيم كان لا بد من التفاوض المباشر مع أنقرة لوضع آليات محددة للترتيبات الأمنية لكونها المعنية بصورة خاصة بمسألة تمكين دمشق من تولي المسؤولية الأمنية عن حدود الدولة السورية، خاصة في ظل رغبة واشنطن في سحب قواتها من الأراضي السورية.

تشمل هذه الترتيبات تسليم سجون داعش ومعسكرات الاحتجاز للجهات الأمنية المعنية، وتحديد المهام التي ستوكل إلى اللجنة التي تم تشكيلها، وتضم إلى جانب تركيا الولايات المتحدة وسوريا والعراق لبحث مصير مقاتلي داعش في معسكرات الاعتقال التي تديرها قسد منذ سنوات.

مع وضع الخطط الكفيلة بإدماج المكون الكردي السوري في المجتمع، بما يضمن إغلاق الحديث نهائيا عن طبيعة الحكم في سوريا سواء كان مركزيا أو لا مركزيا، والإسراع في عملية نزع سلاح قوات سوريا الديمقراطية، وضمها ضمن وحدات الجيش السوري، لضرب عصفورين بحجر واحد، ضمان وحدة الأراضي السورية، وحماية أمن تركيا القومي، وتبديد مخاوفها.

المصدر : الجزيرة مباشر

 كاتبة وصحفية مصرية مقيمة في تركيا

حاصلة على الماجستير في الاقتصاد.عملت مراسلة للعديد من الصحف والإذاعات والفضائيات العربية من تركيا

الجزيرة

—————————————

 أردوغان: اتفاقنا مع الشرع يسير في اتجاه إيجابي ونحذّر من مماطلة “قسد

2025.05.29

أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استمرار المفاوضات مع الحكومة السورية، مشيراً إلى أن بلاده تتابع تنفيذ الاتفاقات المتعلقة بوحدة الأراضي السورية ومكافحة التنظيمات المسلحة، محذراً في الوقت نفسه من “تكتيكات المماطلة” التي تمارسها قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.

وقال أردوغان في تصريحات صحفية

لدى عودته من زيارة لأذربيجان، “يجب الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وبنيتها الموحدة ووحدتها الوطنية، وقد ذكرنا بالفعل أننا نرحب بالاتفاق الذي تم التوصل إليه، لكننا نرى أن قوات سوريا الديمقراطية لا تزال تواصل تكتيكاتها المماطلة، وعليهم التخلي عنها”.

وشدد الرئيس التركي على أهمية تنفيذ الالتزامات وفق الجدول الزمني المتفق عليه، مضيفاً: “نحن نتابع عن كثب تنفيذ القرارات المتخذة، والشيء الأساسي هو الالتزام بالوعود”.

العلاقة مع دمشق “إيجابية”

وأشار أردوغان إلى أن اجتماعات أنقرة مع الرئيس السوري أحمد الشرع جرت في هذا الاتجاه، مؤكداً أن المسار يسير بشكل إيجابي رغم بعض “الأصوات المتصدعة”، حسب وصفه، وأوضح: “لحسن الحظ، لا توجد مشكلة في عملية تركيا الخالية من الإرهاب، والتطورات مستمرة في اتجاه جيد وبنّاء، والرسائل من الجانب السوري معقولة وإيجابية”.

وأشار إلى أن الاتصالات مستمرة، قائلاً: “مفاوضات أصدقائنا مع سوريا مستمرة أيضاً، ونحن حذرون من أولئك الذين يريدون تسميم العملية، ولن نمنحهم الفرصة”.

وأضاف أردوغان أن أنقرة قطعت شوطاً كبيراً في مسار محاربة الإرهاب، مؤكداً أن هدف بلاده واضحاً وهو التخلص من مشكلة الإرهاب التي “جعلت تركيا تضيع سنوات، وتسببت في فقدان أرواح مواطنينا، ولعبت في أيدي أعدائنا”.

وختم بالقول: “ما نقوم به نفعله من أجل تركيا، ومن أجل سلام وأمن أمتنا، ولن نتورط في أي صفقة تزعج شعبنا. نثق في أمتنا، ونثق في قوة الأخوة”.

——————————-

توتر تعليمي بين “قسد” ودمشق.. “الإدارة الذاتية” تتجه لتنظيم امتحانات مستقلة

2025.05.28

أفادت “هيئة التربية والتعليم” في الإدارة الذاتية، اليوم الأربعاء، بأنها قد تلجأ إلى تنظيم امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية العامة بشكل مستقل، في حال استمرار تجاهل وزارة التربية السورية للتفاهمات الأولية التي جرت بين الطرفين.

وقالت سميرة حاج علي، الرئيسة المشاركة للهيئة، في تصريح لموقع “نورث برس” المحلي، إن لقاءات رسمية عُقدت مع وزارة التربية في دمشق يومي 13 و14 نيسان الماضي، سواء بشكل مباشر أو عبر الإنترنت، وأسفرت عن تفاهم مبدئي يقضي بإجراء الامتحانات في مناطق الإدارة الذاتية، مع تشكيل لجان مشتركة وتسهيل إجراءات تسجيل الطلاب.

وأوضحت حاج علي أن الهيئة باشرت فعلياً بفتح مراكز تسجيل بالتنسيق مع منظمة “اليونيسيف”، كما عقدت اجتماعات مع هيئاتها التنفيذية، بينها الداخلية والصحة، لوضع خطة شاملة لضمان سير العملية الامتحانية في بيئة آمنة ومنظمة.

وأضافت أن وزارة التربية السورية لم تصدر حتى الآن أي بيان رسمي يؤكد الاتفاق، محذرة من أن الإدارة الذاتية ستضطر إلى إجراء الامتحانات بشكل منفصل ومنح الشهادات للطلاب، مع إتاحة فرصة التسجيل في جامعات شمال وشرقي سوريا.

وأكدت حاج علي أن النقاشات لا تزال جارية لتحديد آليات تنفيذ الامتحانات، في حال اتخاذ قرار بالمضي قدماً في تنظيمها من دون تنسيق مع دمشق.

تبادل للاتهامات

دعت هيئة التربية في الإدارة الذاتية وزارة التربية السورية إلى الإسراع في التصديق على “اتفاق العملية الامتحانية أواخر شهر نيسان الماضي.

وعبرت الهيئة في بيان عن مخاوفها من تأخر وزارة التربية السورية في الرد على “الاتفاق المشترك الذي تم التوصل إليه بوساطة اليونيسيف، والذي يهدف إلى تسهيل العملية الامتحانية للطلاب في المناطق الخاضعة لسيطرة قسد”.

وأكد البيان أن لقاء مباشراً في دمشق يومي 13 و14 من نيسان 2025 بين وفد الهيئة ووفد الوزارة، حيث تم الاتفاق على عدة نقاط منها:

     – تسهيل إجراءات التسجيل وتمديد الموعد النهائي.

     – تمكين الطلاب من أداء الامتحانات في مناطقهم من دون الحاجة للتنقل.

     – تشكيل لجنة مشتركة مؤقتة لإدارة العملية الامتحانية.

 – استمرار العملية التعليمية لمنهاج الإدارة الذاتية للعام الدراسي 2024-2025.

وحذرت الرئاسة السورية في بيان من تعطيل عمل مؤسسات الدولة السورية في المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، و”تقييد وصول المواطنين إلى خدمتها، واحتكار الموارد الوطنية وتسخيرها خارج إطار الدولة، بما يُسهم في تعميق الانقسام وتهديد السيادة الوطنية”.

وأضاف البيان أنه “لا يمكن لقيادة قسد أن تستأثر بالقرار في منطقة شمال شرقي سوريا”.

مواعيد بدء الامتحانات

وأعلنت وزارة التربية والتعليم عن بدء امتحانات شهادة التعليم الأساسي (العام والشرعي) والشهادة الثانوية المهنية يوم السبت 14 حزيران المقبل، وتنتهي يوم الخميس 3 تموز المقبل.

في حين تبدأ امتحانات الشهادة الثانوية العامة بفرعيها الأدبي والعلمي، والثانوية الشرعية، يوم السبت 5 تموز المقبل، وتنتهي يوم الإثنين 28 من الشهر ذاته.

وكانت وزارة التربية مددت في 16 نيسان الماضي، موعد التسجيل على الشهادتين حتى الأول من أيار الجاري.

وقالت إن التعميم جاء نظراً لاقتراب موعد التسجيل من نهايته، ونتيجة الإقبال الكبير على التسجيل، وللتخفيف من معاناة الطلاب، ولتحقيق تأمين الفرص لكل من يرغب في متابعة دراسته.

——————————-

المجموعة الدولية للأزمات: استقرار سوريا بعد الأسد رهن بالإصلاح والدعم الخارجي

ربى خدام الجامع

2025.05.27

نشرت المجموعة الدولية للأزمات تحليلا ذكرت فيه أن المرحلة التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول 2024 شهدت خطوات سياسية جريئة في سوريا، تمثلت بتشكيل حكومة أكثر تمثيلاً، واعتماد إعلان دستوري مؤقت، إلى جانب اتفاق تاريخي مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لإدماجها ضمن الجيش الوطني.

لكن التقرير حذّر في المقابل من تحديات أمنية عميقة، و”تصاعد للعنف الطائفي”، وتوترات داخلية وخارجية تهدد بتقويض مسار الانتقال.

يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة برفع العقوبات الغربية عن سوريا سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الجهة الناشرة له ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي ومراكز الأبحاث للملف السوري، دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.

وفيما يلي ترجمة تلفزيون سوريا لهذه المادة:

منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في كانون الأول 2024، حقق قادة سوريا الجدد مكاسب مهمة وتعرضوا لتحديات متزايدة، وهم يحاولون توجيه البلد نحو التعافي، إذ خلال شهر آذار، وضع هؤلاء القادة حجري أساس مهمين، إذ شكلوا حكومة انتقالية جديدة أكثر تنوعاً، وأطلقوا إعلاناً يعتبر بمنزلة دستور مؤقت للبلد. وفي سياق منفصل، توصل هؤلاء القادة لاتفاقية مع القادة الكرد في شمال شرقي سوريا تقضي بدمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أي تلك الجماعة التي تسيطر على معظم أنحاء تلك المنطقة منذ عام 2015، ضمن الجيش الوطني الجديد، مع توسيع رقعة سيطرة الدولة ىالمركزية لتشمل تلك المناطق. كما ساعدت حملة دبلوماسية سحرية السلطات الجديدة على تكوين حالة دعم في العواصم الأوروبية وغيرها، والتي تجلت في أبهى صورها باجتماع ضم الرئيس الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب في 14 أيار الجاري، تعهد خلاله ترامب برفع واشنطن للعقوبات عن سوريا كونها خنقت الاقتصاد السوري وجعلته بحاجة ماسة للإنعاش. ومنذ ذلك الحين والاتحاد الأوروبي يحاول أن يقدم على التزام مماثل بالتماشي مع ما قدمته واشنطن.

بيد أن السلطات الجديدة ما فتئت تتعرض لمشكلات جسيمة، بعضها كانت هي السبب فيه، ولهذا ما يزال الشركاء في الخارج يحملون شيئاً من القلق تجاه الشرع والدائرة المقربة المحيطة به والتي استأثرت بالسلطة لنفسها، وذلك بالنسبة لمدى انفتاح تلك الفئة على تكوين حكومة تمثل الشعب السوري بحق. وخلال شهر آذار الماضي، شهدت المناطق الوسطى والساحلية في سوريا تفجراً للعنف الطائفي، ما أكد على وجود توتر قد يسهم في إخراج الجهود الرامية لتعزيز سلطة الدولة عن مسارها، كما أوضح بأن الحكومة المركزية تفتقر إلى القيادة والسيطرة على شطر كبير من جهاز الأمن. أما إسرائيل، ومن خلال حرصها على حماية خاصرتها الشمالية، فقد دمرت معظم الإمكانيات العسكرية السورية، واحتلت المنطقة العازلة التي تمتد على الحدود الجنوبية لسوريا، كما نفذت هجمات متواصلة طالت سلسلة واسعة من الأهداف السورية. وإلى أن تترجم الوعود برفع العقوبات إلى حقائق وأفعال، ستبقى تلك العقوبات تمثل عقبة كبيرة أمام العملية الانتقالية بعد رحيل الأسد.

وحتى يدعم الاتحاد الأوروبي عملية انتقال سلمية في سوريا، ينبغي عليه هو والدول الأعضاء فيه القيام بما يلي:

    حث دمشق على تشكيل حكومة تمثل السوريين تمثيلاً حقاً، بوجود مشاركة أكبر للنساء، إلى جانب تشجيع دمشق على التعاون مع الأمم المتحدة في صياغة دستور جديد للبلد.

    المساهمة في تعزيز الثقة بقوات الأمن السورية وبالدولة السورية بصورة أوسع، ويشمل ذلك حث السلطات الجديدة على التفكير بأمر إعادة رجال الشرطة الذي خضعوا لتفتيش أمني بعد أن خدموا أيام نظام الأسد، إلى جانب الدفع من أجل المحاسبة على الجرائم التي ارتكبتها القوات التابعة للدولة في آذار الماضي، ومواصلة الخطط الرامية لزيادة الدعم المخصص لإنعاش سوريا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، مع تقديم المساعدة التقنية لتعزيز الإمكانيات الموجودة لدى المؤسسات التابعة لعدة وزارات.

    رفد الجهود الساعية لإدماج قسد ضمن قوات الأمن التابعة للدولة، مع خفض تصعيد النزاع القائم بين قسد والقوات المدعومة تركياً والتي تندرج تحت مسمى الجيش الوطني السوري، إلى جانب تسريع عملية إجلاء المواطنين الأوروبيين المحتجزين في مخيمات تحرسها قسد بتهمة الانضمام لتنظيم الدولة.

    المشاركة في عملية دبلوماسية قائمة على التنسيق في بداية الأمر، ومنع إسرائيل من القيام بالعمليات التي من شأنها زعزعة الاستقرار في سوريا، ثم منع زيادة التصعيد بين إسرائيل وتركيا في سوريا.

    تطبيق القرار السياسي الذي أصدرته الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على جناح السرعة، والذي يقضي برفع ما تبقى من العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، مع توفير المعلومات وخلق المحفزات التي تدفع المشاريع التجارية إلى الاستثمار في سوريا.

الديناميات السياسية والأمنية

خلال الأشهر الستة التي أعقبت سقوط الأسد، سعت السلطات الجديدة في دمشق جاهدة لترسيخ سلطتها، ونشر الاستقرار في البلد، وإطلاق عملية انتقال سياسي فيها، على الرغم من النتائج المختلطة التي حققتها على هذا الصعيد. إذ في 29 كانون الثاني، نصب الشرع رئيساً مؤقتاً خلال “مؤتمر النصر”. ثم حلت الهيئة وغيرها من الفصائل نفسها، إلى جانب كامل قوات الأمن التي تعود لحقبة الأسد، لتفتح الطريق أمام تشكيل جهاز أمن جديد. وفي شباط، عقدت الحكومة المؤقتة مؤتمر الحوار الوطني والذي يهدف إلى إطلاق عملية سياسية جامعة لكن هذا المؤتمر كان أقل من التوقعات بكثير.

بعد ذلك، وقع الرئيس الشرع على الإعلان الدستوري في 13 آذار، فوضع بذلك إطار عمل قانوني لفترة انتقالية تمتد لخمس سنوات كما رسخ سيطرته على السلطة. وعند صياغة الإعلان الدستوري، تلقت السلطات المقترحات التي رفعتها الأمم المتحدة، وخاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي تلك الأثناء، شرع الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني بحملة دبلوماسية مكوكية مع نظرائهم الأجانب، سواء في العالم العربي أو في أوروبا، فحققوا بذلك خطوات مهمة ونوعية باتجاه تقبلهم على المستوى الدولي، كان آخرها تلك الخطوة المهمة التي تمثلت باللقاء التاريخي بين الشرع وترامب في الرياض في 14 أيار الجاري.

مثل الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة في 29 آذار مدى استعداد القادة الجدد لتمثيل شرائح واسعة من الشعب السوري ضمن جهاز الحكم، إذ شملت الحكومة الجديدة ممثلين عن الطائفة العلوية والمسيحية والإسماعيلية والكردية والدرزية، إلى جانب شخصيات من المجتمع المدني والتكنوقراط وشخصيات حملت حقائب وزارية في حكومة الأسد قبل الحرب. ولكن، وعلى الرغم من الآمال التي حملتها التشكيلة الوزارية التي تعبر عن تمثيل أكبر، حصل الثقات لدى الشرع على حقائب الداخلية والخارجية والدفاع والعدل والطاقة، ما يعني استئثارهم بالمناصب التي تتمتع بسلطة تنفيذية أعلى، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشخصيات الرفيعة السابقة في الهيئة بقيت في مواقع السلطة التي تتصل بعدة مجالات. وكان من بين الوزراء المعينين امرأة واحدة هي هند قبوات التي شغلت منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، على الرغم من تعهد الشرع بدعم مشاركة المرأة.

ثم إن غياب الأمن بصورة عامة مايزال يمثل مصدر قلق كبير، وذلك لأن التركة التي خلفتها الحرب السورية والتي تشمل الدمار الاقتصادي وتهتك النسيج الاجتماعي السوري، خلقت ظروفاً مواتية أمام عودة العنف. وفي الوقت ذاته، سعت القوات الحكومية المنهكة جاهدة للرد بطريقة فاعلة على أعمال القتل والاختطاف والسلب، غير أن الهجمات التي استهدفت العلويين نظراً لارتباطهم بالنظام البائد، والقتال الذي دار مؤخراً بين الجماعات المسلحة السنية والدرزية، جعل الأقليات تحس بتهميش أكبر وخطر

ثم إن العنف الذي اشتعل في وسط سوريا وفي المنطقة الساحلية في مطلع شهر آذار أدى إلى تراجع مكانة الحكومة على المستويين المحلي والدولي، إذ في السادس من آذار، شن متمردون موالون للأسد هجمات نسقوا لها واستهدفت قوات الأمن التي شكلتها الحكومة منذ فترة قريبة داخل المدن الساحلية كما استهدفت سيارات المدنيين والطريق السريع الذي يربط مدينة اللاذقية بإدلب في شمال غربي البلد. ولقد دفع عداد القتلى الكبير دمشق إلى إرسال تعزيزات ضمن حملة مضادة ضمت فصائل مسلحة اندغمت بصورة اسمية ضمن الجيش الجديد، لكنها حافظت على استقلاليتها في القيادة والسيطرة. كما انضمت عصابات من المطالبين بالثأر والانتقام لتلك الاضطرابات، وخلال الأيام التي أعقبت ذلك، أمعنت عناصر غير منضبطة من كلا الفئتين الأخيرتين تقتيلاً في أهالي قرى اللاذقية وطرطوس وحماة وأحيائها، وذلك انتقاماً منهم على ما ارتكبه نظام الأسد من جرائم، والتي يحمّل بعض السوريين كامل العلويين مسؤوليتها.

وعند عودة النظام من جديد، تبين بأن ما يقرب من 900 مدنياً علوياً قد قتلوا في تلك الأحداث، بينهم أكثر من مئة امرأة وطفل، في حين فر أكثر من 30 ألفاً إلى لبنان، وعليه، فإن أغلب سكان الساحل السوري الذين أدانوا تصرفات العناصر الموالية للأسد حملوا المسؤولية للحكومة في فشلها بحمايتهم. وعقب أحداث العنف، تعهد الشرع بمحاسبة المسؤولين عنها، ثم شكل لجنة لتقصي الحقائق كلفها بتوثيق الانتهاكات ووضع توصيات بشأن إجراءات المحاسبة، ومن المقرر أن ترفع نتائج هذا التحقيق في تموز القادم.

إلا أن التحديات التي تواجهها الحكومة أكبر من تلك المتعلقة بضمان المحاسبة على الجرائم التي ارتكبت في آذار، وذلك لأن الجرائم التي ارتكبتها قوات تابعة للدولة سلطت الضوء على وجود ثغرات كبيرة في سيطرة دمشق على الفصائل المسلحة التابعة لها، كما بينت بأن الحكومة الجديدة خلقت مشكلة جديدة عندما حلت قوات الأمن القديمة، وذلك عندما سرحت من العمل آلاف الشبان المتضررين الذين يتمتعون بخبرة قتالية وسهولة على الوصول إلى الأسلحة. ومع ندرة فرص العمل المتاحة، شكل هؤلاء سلسلة جاهزة من المجندين الذين بوسع الموالين للنظام البائد الاستفادة منهم في أي ثورة أو تمرد قد يحصل مستقبلاً، ثم إن دمج تلك العناصر غير المنضبطة التي أصبحت اليوم جزءاً من قوات الأمن التابعة للدولة ضمن قوة متماسكة تخضع لانضباط ملائم لن تكون مهمة سهلة، طالما بقيت الدولة تسعى جاهدة وهي مكبلة بالعقوبات لدفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وهذا ما جعل كثيرين من حملة السلاح يعتمدون على مصادر أخرى للدخل.

 إن عدم وجود سلسلة قيادة وتحكم واضحة بالنسبة للعناصر المسلحة التابعة للحكومة يمكن أن يتسبب بظهور موجات عنف جديدة وبكل سهولة، إذ في أواخر نيسان الماضي، تصاعدت وتيرة العنف بسرعة متحولة إلى اقتتال عنيف إثر هجمات شنتها جماعات مسلحة موالية للحكومة على ضواحي ذات غالبية درزية بالقرب من دمشق، وقد كان السبب وراءها تسيجل صوتي نسب فيه صوت المتحدث إلى شخصية قيادية درزية وهي تشتم النبي محمد، ثم وصلت الاشتباكات إلى محافظة السويداء الجنوبية ذات الغالبية الدرزية، ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص خلال ثلاثة أيام. وفي الوقت الذي تراجع الاضطراب في نهاية المطاف، فإن ما آلت إليه الأحداث سلطت الضوء على سرعة تحول أي توتر محلي إلى عنف يمتد على نطاق واسع.

هذا ويخلق الوضع الأمني تحديات كبيرة بالنسبة للنساء على وجه الخصوص، لأنه يقيد تحركاتهن في أغلب الأحيان، كما أنهن ضحية لأحداث الاعتقال العشوائي المتصاعدة ناهيك عن المضايقات التي يتعرضن لها. إذ في غياب أي رد فعال من طرف الحكومة، صار الأهل يلجأون في أغلب الأحيان لوسائل التواصل الاجتماعي من أجل المناشدة بهدف إعادة بناتهن المفقودات، بيد أن هذه المناشدات التي توجه لعامة الناس قد تعرض النساء وأهاليهن لمزيد من المضايقات، كما أن بعض المسؤولين المحليين تصرفوا باستقلالية هم أيضاً عندما تقدموا بإجراءات تقيد النساء في بعض المجالات العامة وبيئات العمل، أو تلك التي تعنى بفصل الرجال عن النساء في الحافلات والمشافي والمحاكم. بيد أن السلطات كانت تتراجع في معظم الأحيان عن تلك الإجراءات بعد أن يحتج الشارع عليها بشكل كبير.

شمال شرقي سوريا

عندما عقدت دمشق اتفاقاً مع قسد في العاشر من آذار الماضي، تأمل كثيرون بأن تكون هذه خطوة مهمة نحو ترسيخ الاستقرار في سوريا، وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية لم تفصّل كثيراً في بنودها، فإنها ألزمت كلا الطرفين بدمج قوات قسد المسلحة ومؤسساتها المدنية ضمن الدولة المركزية قبل نهاية عام 2025. ويعتبر ذلك بالنسبة لدمشق فرصة لاستعادة سلطة الدولة في شمال شرقي سوريا، حيث يتركز معظم النفط السوري، إلى جانب استعادة الدولة لمصداقيتها بعد أحداث العنف التي وقعت في مطلع آذار. ولكن بالنسبة لقسد، فإن هذه الاتفاقية حدت من التهديد التركي الذي يعتبرها امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي صنفته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كتنظيم إرهابي والذي بقيت أنقرة تحاربه على مدار عقود، لكنه أعلن منذ فترة قريبة عن حل نفسه. وهذه الاتفاقية تفتح السبيل أمام قسد نحو المشاركة السياسية في النظام بعد الحرب، ولكن ماتزال هنالك تساؤلات مهمة بقيت بلا إجابات، وعلى رأسها مدى لامركزية الدولة السورية مستقبلاً، والآليات التي ستم بموجبها عملية الدمج.

شكل كلا الطرفين لجنة خاصة به حتى تبدأ بالمهمة الشاقة المتمثلة بوضع التفاصيل الخاصة بما يمكن أن يتحول إلى سلسلة معقدة من المفاوضات قد تمتد لأشهر. وقد نجح الاتفاق المبدئي حتى الآن في خفض تصعيد الاقتتال بين قسد وفصائل الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً والذي قتل مئات الناس، أغلبهم مقاتلين، وذلك خلال الفترة ما بين شهري كانون الأول وشباط. وفي نيسان الماضي، ركزت المحادثات المستمرة بين دمشق وقسد على بؤر التور في الشمال السوري، ثم اتفق الطرفان في حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، على خطوات مرحلية باتجاه إزالة المظاهر العسكرية من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية التي تخضع لسيطرة قسد، إلى جانب دمجهما من جديد ضمن باقي أجزاء حلب. ومن المتوقع للمحادثات حول سد تشرين المتنازع عليه والمقام على نهر الفرات أن تتمخض عن اتفاقية واضحة، بيد أن تلك المحادثات خففت حتى الآن من خطر وقوع قتال من أجل تلك المنشأة التي تعتبر ضرورية من أجل توليد الطاقة والمياه في البلد. كما بدأ الطرفان في مناقشة أمور قطاع التعليم، على الرغم من أن أهم عقبة ذلك هي تضييق الفجوات المعنية بدمج الهياكل الحكومية والأمنية والعسكرية.

وفي تلك الأثناء، بقيت قسد تحرس المقرات التي تؤوي مقاتلي تنظيم الدولة المحتجزين هم وعائلاتهم، بينهم نحو أربعين ألفاً في مخيم الهول، كما بينهم آلاف الأجانب من حملة الجنسيات الأوروبية، ناهيك عن الأطفال الذين يحمل أهاليهم جنسيات أوروبية. وفي الوقت الذي تبنت واشنطن نهجاً استباقياً بالنسبة لإجلاء مواطنيها، تأخرت معظم الدول الأوروبية عن القيام بتلك الخطوة، ما جعل السلطات المحلية تتحمل عبء تأمين مقرات الاحتجاز، وفي حال تدهور الظروف في تلك المخيمات بعد تخفيض المساعدات الذي أقر مؤخراً، أو في حال سحب القوات الأميركية، فمن المرجح أن تحدث إثر ذلك اضطرابات قد تشمل حالات شغب جماعية إلى جانب محاولات للهروب من تلك المقرات.

وفي المنطقة الشرقية بالبادية، ماتزال خلايا تنظيم الدولة تختبئ ضمن مساحات شاسعة لا تخضع لسيطرة الدولة، كما أنها تعتمد على قدرتها في المناورة لتعزيز إمكانياتها في مجال التحضير لشن هجمات مستقبلاً، ويخبرنا أهالي تلك المنطقة بأن تنظيم الدولة يحاول وبصورة فعلية أن يجند أتباعاً جدداً له، في حين ذكرت مصادر من قوات الأمن القديمة والحالية بأن تنظيم الدولة يستقطب شخصيات قيادية صاحبة خبرة جرى تحريرها من سجون نظام الأسد، ولكن خلال الوقت الراهن، ما يزال التحالف لمحاربة تنظيم الدولة الذي تقوده الولايات المتحدة يسهم في إبعاد الجهاديين عن المشهد.

التدخلات الإسرائيلية

ظهرت إسرائيل كأشد قوة خارجية عملت على زعزعة استقرار سوريا بعد سقوط الأسد، وذلك لأنها استراتيجيتها تقوم على استباق أي احتمال لظهور خطر أمني قد يهدد حدودها الشمالية الشرقية مستقبلاً. كما أبدت إسرائيل قلقها تجاه تنامي قوة ونفوذ تركيا داخل الحكومة السورية الجديدة، بما أن إسرائيل تعتبر تركيا منافسة لها في المنطقة. ولذلك حافظت إسرائيل على موقفها على الرغم من تطمينات الشرع وغيره لها وتعهدهم بعدم وجود أي نية لديهم باستعدائها.

وعلى الصعيد العسكري نشطت إسرائيل إلى حد بعيد، إذ فور سقوط نظام الأسد، تحرك الجيش الإسرائيلي إلى المنطقة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان والتي أقيمت في عام 1974، وأعلن عن قيام منطقة عازلة تمتد قبالة الجنوب السوري، وحظر على القوات السورية الدخول إلى تلك المنطقة، ثم أعلن مسؤولون إسرائيليون كبار عن نية إسرائيل بإبقاء قواتها متمركزة في تلك المنطقة لأجل غير مسمى. وفي تلك الأثناء، أخذت الطائرات الحربية الإسرائيلية تدك مواقع في سوريا، فدمرت سلاح الجو فيها، كما دمرت سلاح البحرية والأسلحة الثقيلة. ومنذ فترة قريبة، شن سلاح الجو الإسرائيلي غارة بالقرب من القصر الرئاسي في سوريا موجهاً بذلك رسالة واضحة للحكومة السورية مفادها أن إسرائيل لن تسمح للقوات السورية بالانتشار جنوبي العاصمة. وبالتوازي مع ذلك، حرصت إسرائيل على تأييد الطائفة الدرزية لها في جنوب غربي سوريا، بعد أن وعدت أبناء تلك الطائفة بتقديم الحماية لهم. وعبر قيامها بذلك، أخذت تتودد لحلفائها في الداخل، وتدق إسفيناً بين هذه الطائفة وبين السلطات الموجودة في دمشق.

ولهذا، وفي الوقت الذي أخذت الحكومة الجديدة في دمشق بتلمس موضع قدميها، كانت ممارسات إسرائيل وعملياتها قد أضعفت حكام سوريا الجدد وهددت بإعادة سوريا إلى أحد السيناريوهات التي أعلنت الحكومة عن رغبتها في تجنبه، والذي يتمثل إما بتأجيج حالة الإضطراب بشكل يساعد المقاتلين الجهاديين على استغلال الوضع أو دفع الحكومة الجديدة في دمشق إلى التقرب من أنقرة.

عبء العقوبات

في وقت يلوح معه تخفيف العقوبات في الأفق، مايزال الاقتصاد السوري يعاني من حالة اختناق بسبب سلسلة كبيرة من العقوبات التي فرضتها عليه الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتعتبر العقوبات الأميركية هي الأشد، على الرغم من أن جميع العقوبات ألحقت أضراراً بالاقتصاد السوري، وتلك العقوبات كانت ستلحق مصيبة بالبلد الذي يعيش 90% من سكانه في فقر من دون وجود أي شريان يمدهم بالحياة. فقد كان النظام البائد يعتمد على إيران وروسيا لدعم ميزانيته، كما كان يستعين بالعائدات التي توفرها إمبراطورية المخدرات غير المشروعة التي أقامها والتي كانت تدر على آل الأسد مليارات الدولارات، غير أن السلطات الجديدة في دمشق ليس لديها أي مصدر للكسب بسهولة، ناهيك عن الضغط المتصاعد الذي تتعرض له من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، والتي تبدأ بدفع رواتب العاملين في القطاع العام وتنتهي بتأمين ما يكفي من الوقود والكهرباء. وفي حال تعثر تلك السلطات في تأدية تلك المهام، فإنها ستخسر شرعيتها، وهذا ما سيستغله المفسدون سواء في الداخل أم في الخارج.

جرى تحقيق تقدم بالنسبة لتخفيف هذا العبء عن سوريا، إذ في العشرين من أيار، وبعد مرور ستة أيام على إعلان ترامب تخفيف العقوبات عن سوريا، لحق به الاتحاد الأوروبي عبر قرار يقضي برفع ما تبقى من العقوبات الاقتصادية عن هذا البلد، مع إبقاء العقوبات المفروضة على نظام الأسد أو على الأسلحة والتقانة التي يمكن أن تستخدم لقمع الشعب في الداخل. وأكدت بروكسل على قدرتها على التراجع عن تلك الخطوات، مع مراقبتها للوضع السوري عن قرب، ويشمل ذلك مراقبة مدى التطور الحاصل في ملف المحاسبة وذلك فيما يخص أحداث العنف الأخيرة. ولكن يجب التركيز اليوم على تطبيق هذه القرار، بالإضافة إلى ضمان اتخاذ الدول التي ترفع العقوبات لخطوات مناسبة مكملة لتلك العملية وذلك من أجل التشجيع على الاستثمار في الاقتصاد السوري بما أنه بات بحاجة ماسة لذلك.

ما الذي بوسع الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فعله ؟

بوسع الاتحاد الأوروبي بل ينبغي على الدول الأعضاء فيه أن تتحول إلى شريكة لسوريا خلال مرحلة التعافي والانتعاش، إذ على الرغم من أن دمشق لم تحقق من التقدم سوى النزر القليل مما كان مأمولاً منها وذلك بالنسبة لتعزيز عملية الانتقال السياسية الجامعة لكل السوريين، ومن المؤكد أن تلك مهمة صعبة بالنسبة لبلد خرج لتوه من حرب مدمرة امتدت لأكثر من عقد، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل إلحاحه وأن يستمر في دفع هذا البلد نحو هذا الاتجاه، فلقد أبدى قادة سوريا الجدد استجابتهم لهذا الضغط في السابق، سواء خلال فترة حكمهم لإدلب خلال الحرب، أو منذ أن تولوا زمام أمور البلد في دمشق. ومن ضمن تلك الجهود، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل دعم منظمات المجتمع المدني السورية وإسماع أصوات المعارضة بصورة أكبر بعد أن تحدثت عن توجهات السلطات في مجال الإقصاء، وطالبتها بتحسين أدائها. كما ينبغي على الاتحاد الأوروبي التشديد على أهمية مشاركة المرأة في القيادة، ولذلك يجب عليه تشجيع الحكومة المؤقتة على مواصلة تعاونها مع الأمم المتحدة، وخاصة فيما يتصل بصياغة دستور جديد.

ثانياً، يجب على الاتحاد الأوروبي الاستثمار في تعزيز قطاع الأمن وصفوف قواته، ويمكن له تشجيع دمشق على إعادة جهاز الأمن الذي اعتمد أيام النظام البائد بعد إجراء فحص أمني لكوادره كافة، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يحقق تقدماً في مجال المخططات الساعية لتوسيع نطاق برامج المساعدات الإنمائية، وخاصة فيما يتصل بدعم التعافي الاقتصادي بسوريا، وذلك عبر دعم مجال خلق فرص عمل مثلاً، أو في مجال الرعاية الصحية أو التعليم، ويجب على الاتحاد الأوروبي أن يبحث في فرصة دعم قدرة الدولة على دفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وذلك بهدف الاحتفاظ بالكوادر الحالية إلى جانب توظيف كوادر جديدة، وذلك عبر التنسيق بشكل وثيق مع العناصر الفاعلة الدولية الأخرى. وينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يخلق حالة توازن دقيقة بين ميله لفرض شروط على الدعم تقوم على تحقيق تقدم في الأمور السياسية والأمنية وبين الحقيقة القائلة بإن إمكانيات الدولة بحد ذاتها تعتبر شرطاً ضرورياً لتحقيق تلك الأهداف. وبالتوازي مع كل هذا، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل البحث في نوع المساعدة التقنية التي بوسعه تقديمها من أجل إعادة بناء إمكانيات الدولة، مثل تلك التي تقدم في مجال الأمن أو المصارف. ويجب على الاتحاد الأوروبي التأكيد على أهمية التزام الدولة بما تعهدت به وذلك في مجال فتح تحقيق بأحداث آذار وضمان محاسبة مرتكبي تلك الجرائم.

ثالثاً، وفي شمال شرقي سوريا، يجب على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه مواصلة دعم اندماج قسد ضمن الدولة وتشجيع الطرفين على اتخاذ الخطوات الكفيلة بخفض تصعيد النزاع بين قسد والجيش الوطني السوري، ويشمل ذلك الضغط على أنقرة حتى توجه رسالة للجماعات التي تدعمها في المنطقة بخصوص ذلك. وفي تلك الأثناء، يعتبر الخطر المستمر المتمثل بعودة تنظيم الدولة من الأمور الأساسية التي تدفع قوات التحالف للبقاء في هذا البلد إلى أن ينجز الاتفاق بشكل كامل بين الطرفين، وذلك لمنع تلك الجماعة من التحول إلى عنصر يعمل على زعزعة الاستقرار في سوريا. ولتخفيف العبء عن قسد، وخاصة فيما يتصل بإدارة مقرات الاحتجاز، يتعين على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه تسريع عملية إجلاء مواطنيهم الذين بايعوا تنظيم الدولة، إلى جانب تسريع عملية تحديد جنسية الأطفال الذين لا يحملون أية وثائق.

رابعاً، فيما يتصل بممارسات إسرائيل المثيرة للقلق، يجب على الدبلوماسيين الأوروبيين التواصل مع إسرائيل وذلك عبر توجيه رسالة لها بالتنسيق بينهم، مفادها بأن ما تمارسه من أعمال يقوض استقرار سوريا، وبالتالي فإنه يضر بمصلحتها العليا. ويجب على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه الاستعانة بقنواتهم لتجنب حدوث تصعيد كبير بين إسرائيل وتركيا على الأراضي السورية.

خامساً، يجب على بروكسل أن تطبق وبسرعة القرار الذي أصدرته في العشرين من أيار الجاري والقاضي برفع كامل العقوبات الاقتصادية عن سوريا، ويجب على بروكسل أيضاً تقديم الدعم المخصص لإعادة الإعمار وتشجيع المستثمرين الأوروبيين في القطاع الخاص على العودة إلى سوريا، إلى جانب مساعدتهم في التغلب على العقبات الموجودة في قطاعات مثل المال والطاقة، وتوفير الحوافز لهم قدر الإمكان، ثم إن الدعم الموجه للاستثمارات المبكرة في قطاع الطاقة قد يعتبر نقطة بداية عملية في هذا المضمار، لأن الشركات الأوروبية التي سبق لها العمل على البنية التحتية للطاقة في سوريا مستعدة لإحياء شبكة الكهرباء في ذلك البلد. هذا وينبغي للاتحاد الأوروبي التعاون مع الدول الأعضاء والمؤسسات المالية للحد من حالة الإفراط في عملية الانصياع، والتي من الممكن أن تستمر حتى بعد رفع العقوبات، ويشمل ذلك تقديم توجيهات تنظيمية تخص تلك المسائل.

في النهاية، فإن مسألة إعادة إعمار سوريا بعد عقود من الحكم الديكتاتوري والصراع المريع أصبحت بيد السلطات الجديدة في دمشق، وكذلك بيد المجتمع المدني في سوريا والشعب السوري، ولكن بوسع الاتحاد الأوروبي بل عليه وعلى غيره من القوى الخارجية الأخرى أن يمدوا يد العون لهم بما أنه بأمس الحاجة لذلك، بل إنهم يستحقون ذلك فعلاً، وذلك لأن عدم مد يد العون للسلطات في دمشق وللشعب السوري وللمجتمع المدني في سوريا يعتبر إجهاضاً لهذه التجربة الواعدة في مجال إعادة بناء مجتمع دمرته الحرب.

المصدر: The International Crisis Group

تلفزيون سوريا

————————————

 حل حزب العمال الكردستاني: تقوية تركيا داخليًّا وخارجيًّا

أعلن حزب العمال الكردستاني التخلي عن العمل المسلح وحل نفسه، فمهَّد السبيل لتصدعات بداخله لكنه فتح الباب في نفس الوقت أمام تعزيز مشاركة الأكراد في النشاط السياسي التركي، وزيادة المبالغ التي سترصدها الدولة التركية للتنمية، وتقوية علاقة تركيا بالعراق والشريك الأوروبي.

28 مايو 2025

أعلن حزب العمال الكردستاني، الذي يقود نشاطًا مسلحًا ضد الدولة التركية منذ ثمانينات القرن الماضي، في 12 مايو/أيار 2025، رسميًّا عن قرار بحل تنظيماته ونهاية العمل المسلح. القرار، الذي وُصف في تركيا وجوارها المشرقي بالتاريخي، جاء عقب عقد المؤتمر العام الثاني عشر للحزب في شمال العراق، من 5 -7 مايو/أيار، واستجابة لنداء عبد الله أوجلان، زعيم الحزب وقائده المؤسس، الذي يقضي عقوبة بالسجن منذ 1999 في جزيرة إمرالي ببحر مرمرة. برَّر الحزب قراره باللغة نفسها التي استخدمها أوجلان في ندائه، أي بالإشارة إلى أن المسألة الكردية لم تعد مغيَّبة في تركيا، وأن من الممكن اليوم مواصلة النضال من أجل الحقوق الكردية عبر الوسائل الديمقراطية.

لم يأت قرار حزب العمال الكردستاني بالحل مفاجئًا، لا للمجتمع الكردي في تركيا وجوارها المشرقي، ولا للحكومة وأجهزة الدولة التركية. فقد كان دولت بهتشلي، رئيس حزب الحركة القومية وحليف حزب العدالة والتنمية الحاكم، أطلق مبادرة لتسوية المسألة الكردية ووضع نهاية للقتال في تركيا، في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. وعلى الرغم من أن المبادرة تقدمت ببطء، فقد أصبح واضحًا، منذ سمحت الدولة التركية لوفد من قيادات حزب مساواة وديمقراطية الشعب، الحزب الكردي الممثل في البرلمان التركي، ووثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني المحظور، بعدة زيارات لأوجلان، أن الأمور تسير باتجاه تسوية سياسية ما.

فكيف يُقرأ قرار حزب العمال الكردستاني في سياق التاريخ العنيف والمؤلم للحزب وللأكراد ولعموم تركيا؟ وهل يعني القرار بالفعل نهاية قاطعة لعمل الحزب المسلح؟ ما الذي يعنيه القرار لتركيا، وللأكراد، ولمستقبل الدولة التركية؟ وما الذي يعنيه القرار للمسألة الكردية في الجوار التركي، سيما في العراق وسوريا؟  

تاريخ مفعم بالعنف والدماء

وُلد حزب العمال الكردستاني، في 1978، على يد مجموعة من الشبان الأكراد الأتراك، كان أبرزهم عبد الله أوجلان. أغلب المؤسسين كانوا من طلاب الجامعات، وجميعهم في العشرينات من عمرهم. حمل الحزب منذ لحظة تشكله الأولى توجهات أيديولوجية قومية -كردية وماركسية- لينينية، ولكن تبني الحزب للعمل المسلح ضد الدولة التركية لم يبدأ إلا في 1984، بعد ست سنوات على التأسيس، عندما قامت مجموعة مسلحة من أعضاء الحزب بقتل ضابط صف تركي في منطقة سيرت. وليس من الواضح ما إن كان قرار اللجوء إلى العمل المسلح قد وُلِد من سياسات دولة ما بعد انقلاب 1980 العسكري في تركيا، أو بتشجيع من الأجهزة السوفيتية التي كان الحزب قد أسس لصلات معها بصفته حزبًا ماركسيًّا-لينينيًّا ينشط في دولة عضو في حلف الناتو.

ثمة تقارير تشير إلى أن علاقاتٍ ما ربطت بين حزب العمال الكردستاني ومنظمة فلسطينية يسارية في لبنان، قبل مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية لبنان، في 1982. ولكن المؤكد أن الحزب أقام صلات مع نظام حافظ الأسد في سوريا قبل انقلاب 1980 في تركيا، وأن أوجلان انتقل إلى دمشق قبل انطلاق العمل المسلح في 1984. أصبح نظام الأسد الأب، بالتالي، مصدر دعم سياسي وعسكري لحزب العمال، الذي اتخذ قواعد له في منطقة البقاع اللبنانية، تحت حماية الجيش السوري، بل وقاعدة واحدة أخرى على الأقل في سوريا نفسها. بذلك، لم تعد دمشق مقرًّا آمنًا لعبد الله أوجلان وحسب، بل ومركز قيادة للحزب ككل، ومنها كان بإمكان أوجلان التحرك إلى شمال العراق للقاء قيادات كردية، أو عناصر حزبه التي بدأت بالتمركز هناك بعد أن فقد نظام صدام السيطرة على كردستان العراق عقب هزيمته في حرب الكويت. وفي مقابل الدعم والحماية السورية، امتنع حزب العمال الكردستاني كلية عن العمل في أوساط الأكراد السوريين.

تمركزت نشاطات الحزب المسلحة في البداية في الجنوب وجنوب شرق تركيا؛ حيث يمثل الأكراد أغلبية السكان، ولكن هجمات الحزب سرعان ما اتسعت إلى محافظات غرب البلاد وإلى أنقرة وإسطنبول. كما أن هذه الهجمات لم تعد تقتصر على أهداف عسكرية وأمنية تركية رسمية. لم تستطع كوادر وعناصر الحزب، الماركسية الحداثوية، تحقيق التفاف شعبي كردي في جنوب شرق البلاد المحافظ، بسبب إستراتيجياته العسكرية والصراع المستمر مع الدولة التركية؛ مما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من الأكراد وتدمير آلاف القرى الكردية.

في 1998، عندما وصلت المواجهة بين حزب العمال والدولة التركية إحدى ذرواتها، هددت حكومة مسعود يلماز بغزو سوريا وملاحقة مجموعات الحزب في معاقلها؛ وهذا ما دفع الرئيس المصري، حسني مبارك، للتوسط بين أنقرة ودمشق. أسفرت وساطة مبارك عن توقيع اتفاق أضنة بين تركيا وسوريا، الذي سمح للجيش التركي بمطاردة العناصر المسلحة بعمق عدة كيلومترات داخل الأراضي السورية، وعن طرد عبد الله أوجلان ومساعديه من سوريا، وإغلاق قواعد حزب العمال. بذلك، انتقلت قيادة الحزب إلى جبال قنديل في شمال العراق. أما أوجلان، فقد غادر دمشق إلى أثينا؛ حيث فشل في الحصول على اللجوء السياسي. وبعد توقف في بلد إفريقي أو اثنين، وصل أخيرًا إلى مطار نيروبي؛ حيث نجحت وحدة من القوات الخاصة التركية في القبض عليه ونقله إلى تركيا. وقد ذُكِر يومها أن الأميركيين قدموا مساعدة معلوماتية، على الأقل، لحلفائهم الأتراك لتحديد موقع أوجلان وتأمين عملية القبض عليه وإعادته إلى تركيا.

حوكم أوجلان في 1999 وصدر عليه حكم بالإعدام؛ ولكن الحُكم خُفِّف إلى السجن مدى الحياة في 2002، عندما قامت الحكومة التركية بإلغاء عقوبة الإعدام، أسوة بدول الاتحاد الأوروبي. أدى خروج أوجلان من المسرح القيادي، وخسارة الحاضنة السورية، إلى تراجع ملموس في مقدرات حزب العمال وفاعليته. كما أن صعود حزب العدالة والتنمية إلى حكم تركيا، مسلحًا بخطاب وحدوي ودعم واسع النطاق من الصوت الكردي، عمل على تعميق أزمة الحزب. وتكاد عمليات الحزب في تركيا في عشرين سنةً الماضية تقتصر على أهداف مدنية، وإن استهدفت العديد من المدن التركية، لتخلِّف نتائج مأساوية في أغلب الحالات.

سيطر على قيادة الحزب في الحقبة بعد أوجلان مجموعة الخمسة: دوران كولكان، ومراد قرايلان، وجميل بايق، والسيدة بيسي هوزات، وباهوز إردال (سوري الجنسية). وتقول تقارير: إن اثنين من هؤلاء على الأقل، هما من العلويين الأكراد اليساريين، الذين يبدو أنهم عبَّروا دائمًا عن مواقف أكثر راديكالية وحملوا ضغينة مزدوجة تجاه الدولة التركية؛ مما جعلهم أميل إلى العنف الأهوج ضد المدنيين والأهداف المدنية، طالما كان هذا النوع من الأعمال يحافظ على وجود الحزب وموقعه في حسابات مستقبل تركيا وشعبها.

طريق المصالحة ومواريثها

بدأت محاولات إيجاد حل سياسي للمسألة الكردية ووضع نهاية لأعمال حزب العمال الكردستاني القتالية منذ عهد تورغوت أوزال في التسعينات، قبل تولي العدالة والتنمية مقاليد الحكم. خلال الفترة من أوائل التسعينات وحتى 2010، أُجريت اتصالات غير مباشرة بين أجهزة الدولة التركية وحزب العمال، أدت إلى وقف لإطلاق النار لفترات محدودة ولكن مسار المصالحة لم يشهد تقدمًا ملحوظًا. لكن بدأت اتصالات مباشرة بين ممثلين عن الحكومة وحزب العمال، في 2010، في عواصم أوروبية وعن طريق سياسيين أكراد عُرفوا بعلاقاتهم مع حزب العمال داخل تركيا، بل ومع عبد الله أوجلان نفسه في سجنه بجزيرة إمرالي، فأفضت إلى وضع أسس مسار سياسي تصالحي، وتم الاتفاق على وقف طويل لإطلاق النار في 2012.

تضمن المسار الجديد مفاوضات في تركيا بين ممثلين عن حكومة العدالة والتنمية، التي كانت تتمتع آنذاك بأغلبية برلمانية مريحة، وممثلين عن حزب الشعوب الديمقراطية (السابق على حزب مساواة وديمقراطية الشعوب الحالي)، الذين عُدُّوا ضمنًا ممثلين عن حزب العمال كذلك. وكان من المفترض طبقًا لاتفاق وقف إطلاق النار أن يقوم حزب العمال الكردستاني بسحب مجموعاته المسلحة وسلاحها خارج تركيا كلية، تمهيدًا لإيجاد حل نهائي لوضع الحزب عند توصل المفاوضات إلى تسوية شاملة للمسألة الكردية. ولكن، ونظرًا لسقف مطالب الممثلين الأكراد المرتفع، حسب القيادة التركية، يبدو أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود في النصف الأول من 2015.

في يوليو/تموز 2015، قام عنصر من تنظيم الدولة الإسلامية بتفجير في تجمع لاتحاد الشباب الاشتراكي، القريب من حزب العمال الكردستاني، في مدينة سروج بمنطقة شانلي أورفه، على خلفية من الصراع المحتدم في عين العرب، كوباني، بين تنظيم الدولة وقوات حماية الشعب السورية، ذراع حزب العمال في سوريا. أوقع التفجير الهائل والمأساوي 32 ضحية من بين المجتمعين. ولكن حزب العمال لم يتوجه برده على التفجير إلى تنظيم الدولة، بل بسلسلة هجمات على مواقع للجيش والشرطة التركية، بدأت بقتل اثنين من رجال الشرطة. وفي الشهر التالي، نظم الحزب حركة تمرد مسلحة واسعة النطاق في الجنوب الشرقي، شملت أحياء من ديار بكر، وشرناق، وماردين، وجزيرة ابن عمر؛ حيث خاض مسلحو الحزب مواجهات طاحنة مع القوى الأمنية التركية، أوقعت دمارًا بالغًا بهذه المدن والأحياء، قبل أن تنجح وحدات الشرطة والجندرمة في إخماد التمرد.

بذلك، كُسر وقف إطلاق النار وانتهت عملية المصالحة الأكثر طموحًا في تاريخ الصراع. ولم يكن كسر وقف إطلاق النار، وحسب، ما أدى إلى قطع مسار المصالحة، ولكن أيضًا اعتبار أجهزة الدولة التركية المفاجيء أن حزب العمال لم يلتزم أصلًا باتفاقية وقف النار والمسار التفاوضي، وأنه بدلًا من سحب السلاح والمسلحين من البلاد، كان في الحقيقة يعمل على تخزين المزيد من السلاح والمتفجرات في كافة أنحاء تركيا ويعيد بناء تنظيماته المسلحة.

خلال السنوات التالية، طوَّرت أجهزة الدولة التركية وسائل وأدوات مكافحة الحزب ونشاطاته، وجهدها الاستخباراتي لاختراق صفوفه وأذرعه داخل تركيا، وفي سوريا، وفي شمال العراق. كما شنَّ الجيش التركي ثلاث عمليات عسكرية، انتهت إلى إبعاد الجماعات الكردية المسلحة عن الحدود السورية-التركية في أكثر من قطاع من الحدود. وبعد أن كانت أعداد مسلحي الحزب النشطين داخل تركيا تقدر بالآلاف، أصبحت في السنوات الأخيرة تقدر بالعشرات. ويكاد معظم الهجمات التي نفذها الحزب داخل تركيا في السنوات القليلة الماضية قد شنَّتها عناصر أُدخلت إلى تركيا من سوريا بصورة غير شرعية. بكلمة أخرى، يمكن القول: إن الدولة التركية نجحت أخيرًا في إيقاع هزيمة بالغة بالحزب، بدون أن تستطيع اقتلاعه كليًّا. وهذا، على أية حال، ما ساعد على إحراز تقدم سريع في جهود المصالحة الثانية، والأخيرة، منذ أطلق دولت بهتشلي مبادرته، في أكتوبر/تشرين الأول 2024.

بهتشلي هو، بالطبع، رئيس حزب الحركة القومية، الحزب الذي يمثل التيار الأكثر حدة في المواجهة المستمرة مع حزب العمال الكردستاني طوال نصف القرن الماضي. مهد السياسي التركي العجوز لمبادرته بمصافحة مفاجئة لأعضاء البرلمان من حزب مساواة وديمقراطية الشعب. وفي كلمة له أمام كتلة حزبه البرلمانية، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2024، اقترح بهتشلي السماح لعبد الله أوجلان بالحديث أمام البرلمان التركي لدعوة حزب العمال الكردستاني إلى إلقاء السلاح وحل نفسه. فاجأت المبادرة كافة الدوائر السياسية في تركيا، وأطلقت جدلًا متعدد الأطراف حول ما إن كان بهتشلي يتحدث بصفته الشخصية أو بالاتفاق مع حليفه، الرئيس طيب أردوغان، وحول ما إن كانت المبادرة وليدة أفكار بهتشلي أو أن اتصالات ما قد سبقتها.

على الرغم من أن مبادرة بهتشلي بدت للوهلة الأولى وكأنها طلقة في الهواء، فسرعان ما وجدت ترحيبًا من أردوغان، الذي أطلق عليها اسم “مبادرة تركيا خالية من الإرهاب”، كما من قيادات حزب مساواة وديمقراطية الشعب، بمن في ذلك رئيس الحزب المشارك السابق، صلاح الدين دمرتاش، الذي يقضي عقوبة بالسجن بعد إدانته بالترويج للإرهاب. كما سمحت الحكومة التركية لوفد من حزب مساواة وديمقراطية الشعب بالقيام بعدة زيارات لأوجلان وبدء حوار معه حول كيفية الاستجابة لمبادرة بهتشلي. والأرجح، أن أوجلان استقبل أيضًا مسؤولًا تركيًّا كبيرًا للتباحث حول الدور الذي يمكن أن يقوم به لدفع مبادرة بهتشلي إلى الأمام.

ولم تلبث الاتصالات ودورات الحوار مع أوجلان أن أفضت إلى قيامه بإطلاق نداء 27 فبراير/شباط 2025، الذي دعا فيه إلى حل حزب العمال الكردستاني وإلقاء السلاح، مشيرًا إلى الحزب وُلِد في ظروف تاريخية مختلفة كلية، وأن نضال الحزب قد حقق بالفعل الاعتراف بالمسألة الكردية، وأن الأوضاع التركية الحالية تسمح باستمرار النضال من أجل حقوق الشعب الكردي بوسائل مدنية وديمقراطية. نداء أوجلان، بالطبع، هو ما وفر الأرضية لعقد مؤتمر حزب العمال الكردستاني العام الثاني عشر في شمال العراق، 5-7 مايو/أيار، والإعلان عن تبني المؤتمر قرار الحل وإلقاء السلاح.

الطريق نحو المستقبل

بيد أن من الضروري ملاحظة أن قرار حزب العمال بالحل وإلقاء السلاح لم يأت استجابة لنداء أوجلان وحسب. الحقيقة، أنه مهما كان الوزن الرمزي لأوجلان، فإن تأثير زعيم الحزب السابق ومؤسسه قد انقطع وغاب منذ أكثر من ربع قرن، وخلال هذه السنوات الطويلة تقدم إلى قيادة الحزب وصفوف كوادره الأولى عناصر لم تُحسب على رفاق أوجلان الأوائل، كما أن الحزب مرَّ بمنعطفات لم تكن في حسبان أيٍّ من مؤسسيه.

ثمة عدد من العوامل التي تصادف أن تقاطعت مع نداء أوجلان وجعلت الاستجابة له ممكنة؛ الأول: أن الحزب في ساحته التركية قد تلقى ضربات موجعة في السنوات التالية على تمرد صيف 2015. الثاني: أن عددًا من قيادات الحزب كانت أصلًا بدأت تدرك، منذ تسعينات القرن الماضي، عندما تخلى الحزب عن مطلب الدولة الكردية المستقلة، أن النضال المسلح ربما فقد فاعليته وضرورته. والثالث: كان عجز الحزب، بعد كل هذه السنوات، عن تحقيق التفاف شعبي كردي واسع النطاق، حتى في المجتمعات الكردية التي تعطي أولوية لمسألة الهوية الثقافية.

أما السبب الرابع فيتصل بمجمل المتغيرات الإستراتيجية في المشرق في العامين الماضيين، سيما في أعقاب اندلاع الحرب على غزة. فبعد أن نجحت أنقرة في تعزيز علاقاتها مع بغداد وأربيل، وأسست لوجود عسكري مديد في شمال سوريا، لم يعد لحزب العمال الكردستاني من صديق إقليمي سوى إيران. أما في سوريا، فلم تستطع قوات حماية الشعب، قصة النجاح الوحيدة لحزب العمال، تعزيز مواقعها في شمال-شرقي البلاد بدون الدعم الأميركي. ما أظهرته متغيرات ما بعد حرب غزة، كان التراجع الإيراني الإستراتيجي الملموس في الإقليم، وسقوط نظام الأسد، والتفاف أغلبية الشعب السوري حول النظام الجديد واستقبال الغرب الإيجابي للنظام، وتزايد المؤشرات على قرب الانسحاب الأميركي من الشرق السوري.

بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة أن التقدم باتجاه الحل وإلقاء السلاح سيمضي بصورة سلسة وبلا عقبات. ثمة تقارير تشير إلى أن جميل بايق، الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع إيران، كان الوحيد بين قيادات حزب العمال الرئيسة الخمس الذي أعرب عن تحفظه على الحل وإلقاء السلاح، ولكن ليس بالضرورة المعارضة الصريحة للقرار. ولا يستبعد، عندما تبدأ إجراءات تسليم السلاح وحل البنى التنظيمية ومغادرة جبال قنديل، أن تعلن مجموعة صغيرة من الحزب الانشقاق ومواصلة العمل المسلح، تمامًا كما حدث في أيرلندا الشمالية في التسعينات، عندما عارض جناح من الجيش الجمهوري الأيرلندي اتفاق المصالحة والسلم. وقد برزت مؤشرات عديدة في الأسابيع القليلة التالية على مؤتمر الحزب على أن الأصوات المعارضة لقرار الحل وإلقاء السلاح انحصرت أغلبها في الأوساط الكردية-العلوية، سيما تلك النشطة في الدول الأوروبية؛ مما يعني أن التمرد على القرار، إن وقع، فسيأخذ صبغة طائفية أكثر منها قومية، ولن يكون له من أثر كبير على مستقبل العلاقة بين الدولة التركية والمجتمع الكردي، أو على مستقبل المسألة الكردية في تركيا.

وعود السلم والحل في تركيا وجوارها الإقليمي

طبقًا لتقرير الإدارة التركية للأمن العام، بلغت تكاليف مكافحة حزب العمال وإعادة البناء في تركيا، خلال الحقبة من 1984 إلى 2019، ما يزيد عن تريليونات ثلاثة من الليرات التركية. أما على الصعيد البشري، فقد زادت حصيلة المواجهة بين الدولة وحزب العمال عن الأربعين ألفًا من الضحايا. وربما تقدم هذه الأرقام وجهًا واحدًا فقط لما يمكن أن تحمله نهاية الصراع من وعود لتركيا وشعبها. انتقال التدافع حول المسألة الكردية إلى الصعيد السياسي، يعني في النهاية رفع عبء ثقيل من على كاهل الدولة التركية، ماليًّا-اقتصاديًّا، وأمنيًّا واجتماعيًّا. كما سيوفر فرصة هائلة لتنمية جنوب البلاد الشرقي، الشاب، والذي يحتل موقعًا وسيطًا بين العراق وسوريا وإيران، وتحوله إلى رافد إضافي لنهضة تركيا الاقتصادية.

المفترض، أيضًا، أن تدفع نهاية المواجهة بين الدولة وحزب العمال الكردستاني إلى تعزيز المسار الديمقراطي في تركيا وإلى تخفيف قبضة الدولة على المجال العام. طوال عقود من المواجهة شَرَعت الحكومات التركية المتعاقبة، بقبول ضمني من أغلبية الشعب، سلسلةً من القوانين التي استهدفت مكافحة الجماعات المسلحة، أو تأييد ودعم هذه الجماعات؛ فعززت مركزية الحكم، أو قيدت مجالات الحياة السياسية. بحل حزب العمال ونزع سلاحه، يمكن تدريجيًّا مراجعة هذه القوانين، وتوسيع نطاق ساحة العمل السياسي، بل وتعهد المزيد من الإجراءات الكفيلة بالاستجابة لمطالب الجماعة الكردية الثقافية.

أما على صعيد العلاقات الخارجية، فقد كانت نشاطات حزب العمال الكردستاني في عدة دول أوروبية، على الرغم من تصنيف الحزب منظمة إرهابية في دول الاتحاد الأوروبي، مصدر توتر مستمر بين تركيا وهذه الدول. كما أن عددًا من القوانين التركية، التي توصف أوروبيًا بالتضييق على الحريات، كانت تُحسب دائمًا باعتبارها إحدى العقبات أمام سعي تركيا إلى إنجاز مزيد من التقدم في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، سيما في الجانب الاقتصادي من هذه العلاقات. نهاية المواجهة بين الدولة وحزب العمال، ستضع حدًّا للتوتر المديد في علاقات تركيا بأوروبا، كما يمكن أن يعمل التحرك نحو إصلاح تشريعي على توسيع نطاق التعاون بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

إقليميًّا، وعلى الرغم من ادعاء وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي في سوريا أنها تنظيمات سورية بحتة ولا يجب أن تعد طرفًا في الصراع بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، يرجِّح عدد واسع من الدارسين للوضع السوري أن هذه التنظيمات ليست سوى أذرع للحزب، وأن سلطة باهوز إردال، القيادي السوري في الحزب، تفوق سلطة أي من القيادات الكردية السورية مثل صالح مسلم ومظلوم عبدي. ولذا، فإن قرار حل حزب العمال لابد أن ينعكس على وضع التنظيمات الحليفة في سوريا، سيما إن رافق الحل ونزع السلاح انسحاب أميركي من الشرق السوري. أعلنت القوى الكردية السورية قائمة من المطالب عالية السقف في مؤتمر القامشلي الأخير، ولكن هذه المطالب لابد أن تعد بداية التفاوض مع دمشق وليست آخر الطرق. والمؤكد، في حال تم التوصل إلى تسوية للمسألة الكردية في شمال-شرقي سوريا، تسوية قابلة للاستمرار ومرضية لكافة أطراف الإقليم، أن يُفتح المجال واسعًا لمزيد من التعاون السوري-التركي.

أما في العراق، فلابد أن يفسح إخلاء حزب العمال الكردستاني قواعده في شمال العراق ونهاية نشاطاته العسكرية المجال لعودة السلم إلى كافة المناطق محل النزاع وإلى عودة المهجرين على جانبي الحدود العراقية-التركية إلى قراهم، وربما حتى إلى انسحاب القوات التركية في المستقبل من نقاط تمركزها في كردستان العراق. والأرجح أن يفضي خروج حزب العمال الكردستاني من شمال العراق إلى تعزيز قوة وسيطرة حكومة الإقليم في أربيل على الشأن الكردي، على حساب إدارة الاتحاد الوطني في السليمانية، التي تربطها بحزب العمال الكردستاني علاقة تحالف غير معلنة. ولابد أن تفضي مثل هذه التطورات إلى توفير مناخ أكثر أمنًا وأمانًا لمشاريع التعاون والترابط الاقتصادي والتجاري بين العراق وتركيا، وفي مقدمتها مشروع طريق التنمية.

——————————

حلّ المشكلة الكردية يتعقّد: تفاوت النوايا وغموض التطبيق/ د. محمد نور الدين

في الظاهر على الأقلّ، تبدو الجهود لحلّ المشكلة الكردية في تركيا، كما لو أنها تسير من جانب واحد، هو الجانب الكردي. فإلى الآن، يبادر «حزب العمال الكردستاني» إلى اتّخاذ إجراءات يَعتقد أنها تأتي في إطار حلٍّ غير معلَن بين الحزب والسلطة (ممثَّلة برئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان وزعيم «حزب الحركة القومية» دولت باهتشلي)، من دون أن يلقى خطوات مقابلة.

وكان زعيم «الكردستاني» المعتقل، عبد الله أوجالان، قام بما عليه، حين وجَّه نداءه الشهير بحلّ الحزب وتسليم سلاحه، لتعقب ذلك مطالبة الأخير بإطلاق سراح زعيمه ليتولّى بنفسه إدارة المؤتمر الذي سيقرّ تلك الإجراءات، تحت طائلة الامتناع عن هذه الخطوة في حال لم تُقدم الدولة على إعلان خُططها لحلّ المشكلة. ومع هذا، عُقد المؤتمر الذي فيه تقرّر تنفيذ نداء «آبو»، فيما جُلّ ما يسعى وراءه «الكردستاني» الآن، هو إطلاق سراح زعيمه ليشرف على تطبيق الاتفاق.

وتبرز، في هذا الإطار، مطالعة طويلة للقيادية في «حزب العمال»، بيسيه هوزات، نُشرت قبل أيام في صحيفة «يني ياشام» المؤيّدة لـ«الكردستاني»، أكدت فيها أن «قرارات مؤتمر الحزب لا يمكن تطبيقها إلّا بإطلاق سراح أوجالان، الذي يمكنه وحده نزع السلاح من أيدي المقاتلين». وقالت هوزات إن «الدول الكبرى رأت أهميّة الدور الكردي في الشرق الأوسط، فعملت على خطط تضمن مصالحها وأمن إسرائيل، وإعطاء الأكراد موقعاً في رسم سياسات المنطقة.

وهذا أخافَ الدولة التركية، فأرسلت وفودها إلى أوجالان الذي قيّم ما حَمَلته، ووافق على الدخول في عملية الحلّ، ما أكد الأهمية المتزايدة للعامل الكردي في المنطقة واستحالة تصفية قضيّته». وأضافت: «أوجالان رأى في مبادرة الدولة الجديدة فرصة، ولا سيما أنها صدرت عن باهتشلي تحديداً، الذي يعتبر «عقل» الدولة العميقة، وممثّل فلسفتها التأسيسية»، داعيةً السلطات إلى «الاعتراف بالحقّ في الحياة السياسية الديموقراطية، ووضع الترتيبات القانونية والقضائية، وإطلاق سراح أوجالان، وإلّا فلا يمكن للحزب حلّ نفسه ولا وقف الكفاح المسلّح الذي يَعتمد على الحرية الجسدية للقائد آبو».

كذلك، رأت هوزات أن «نهج العدالة والتنمية ليس جادّاً كفاية، إذ يماطل ويضع العربة أمام الحصان»، بخلاف «الكردستاني» الذي قالت إنه «جادّ في حلّ نفسه ووقف العمل المسلح والانتقال إلى العمل السياسي». ومن جهة أخرى، انتقدت هوزات سياسة تركيا في سوريا، معتبرةً أنه «ما دامت أنقرة تتبع سياسات معادية للأكراد في سوريا، فلن يكون لها مكان في هذا البلد. أمامها طريق واحد للبقاء في سوريا، وهو الاعتراف بحقوق الأكراد السوريين، وإلّا ستكون هي الخاسر الأكبر».

وجاء كلام هوزات في سياق مواقف متناقضة وإشارات متعارضة، من بينها بيان مجلس الأمن القومي التركي الصادر قبل أيام، والذي وصفته صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» الكردية بأنه «عدوانيّ ومحرّض»، خصوصاً مع ورود مصطلح «تصفية» الحزب في متنه. وبحسب البيان المذكور، «قيّم المجلس التطوّرات والخطوات الهادفة إلى جعل تركيا بلا إرهاب، وأكد تصميمه على جعل تركيا مرفّهة وقوية»، وعلى «إخراج الإرهاب من انشغالاتها وتَتبُّع كل مرحلة من مراحل عملية التصفية».

ومع أن إردوغان أوعز إلى عشرة حقوقيين بإعداد دستور جديد للبلاد، فإن التباينات في شأن عملية الحلّ ما تزال كبيرة؛ فالأكراد يقدّرون أن العملية قد تنتهي قبل نهاية حزيران، فيما ترجّح أوساط «العدالة والتنمية» أن تُختتم مع نهاية فصل الصيف. ووفقاً للكاتب مراد يتكين، فإن «مشكلات تظهر في طريق عملية الحلّ. فالقيادي في حزب العدالة والتنمية، ظفر صاري قايا، قال: إذا لم يسلّم حزب العمال سلاحه، فلن تتألّف اللجنة البرلمانية الخاصة بالحلّ». ولفت الكاتب إلى أن «مسألة تسليم السلاح غير واضحة بعد.

يُنقل أن أصواتاً داخل قيادة حزب العمال، وتحديداً مراد قره ييلان، ترى أن الأكراد كانوا قادرين على مواصلة حرب كبرى وبدعم دولي ضدّ تركيا»، متسائلاً: «عمَّن يقصد قره ييلان في هذا التسريب لشريط الفيديو، بالدول الخارجية؟ هل الولايات المتحدة أم إسرائيل أم إيران؟»، مؤكداً أن «محاولة إيجاد حلّ سياسي للقضية الكردية تحت قبة البرلمان لن تكون سهلة»، وأنه لا يعرف ما إذا كان قرار تسليم السلاح «كرمى لخاطر أوجالان، أم أنه مناورة لمواصلة الكفاح المسلّح؟ الواضح أن خلافات في الرأي موجودة داخل حزب العمال الكردستاني».

وختم قائلاً إن «السجال بين مستشار إردوغان محمد أوتشوم، ورئيس حزب المساواة والديموقراطية للشعوب الكردي تونجير باقر خان، تعكس جانباً من هذه الصعوبات، إذ وصف باقر خان، المعتقلين الأكراد، مثل صلاح الدين ديميرطاش، بـ»المعتقلين السياسيين»»، فيما ردّ أوتشوم بالقول إنهم «معتقلون على خلفية قضايا إرهابية لكن باقر خان لا يفهم بالقانون»».

——————————-

إردوغان: «قوات سوريا الديمقراطية» تستخدم «تكتيكات للمماطلة» رغم الاتفاق مع دمشق

29 مايو 2025 م

كشف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن أن «قوات سوريا الديمقراطية»، التي يهيمن عليها الأكراد والمدعومة من الولايات المتحدة، تستخدم «تكتيكات للمماطلة» رغم الاتفاق مع الحكومة السورية الجديدة على دمجها في القوات المسلحة السورية، وأكد أنه يتعين عليها أن تتوقف عن هذا، وفقاً لوكالة «رويترز».

وفي تصريحات للصحافيين خلال رحلة جوية من أذربيجان، كرر إردوغان موقف تركيا الداعي إلى الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها، مشدداً على ضرورة تنفيذ الاتفاق بين «قوات سوريا الديمقراطية» ودمشق في الإطار الزمني المتفق عليه والمخطط له.

ونقل مكتب الرئيس التركي عن إردوغان القول اليوم (الخميس): «سبق أن رحَّبنا بالاتفاق. لكننا نرى أن (قوات سوريا الديمقراطية) لا تزال تواصل أساليب المماطلة. عليهم أن يتوقفوا عن ذلك».

——————————–

قرار أوجلان وحده لا يكفي لحل حزب العمال الكردستاني

دونه حقوق عالقة وآليات تطبيق… ونيات تركية غامضة

 أنقرة: سعيد عبد الرازق

29 مايو 2025 م

بات «الحذر والترقب» من أبرز العناوين بعدما أعلن حزب العمال الكردستاني قراره حل نفسه وإلقاء أسلحته في خطوة تاريخية أعقبت نداء وجهه مؤسسه وزعيمه السجين منذ 26 عاماً عبد الله أوجلان في ظل تباين بين أطراف العملية التي تهدف إلى «تركيا خالية من الإرهاب» وتحقيق تحول ديمقراطي يعزز التضامن بين الأكراد والأتراك.

من وجهة نظر الدولة لا ينبغي النظر إلى ما يجري على أنه عملية سلام أو حل للمشكلة الكردية، لأنه ليس هناك في تركيا ما يسمى «القضية أو المشكلة الكردية»، وعلى الجانب الآخر، يرى حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب»، الممثل للأكراد في البرلمان، ومعه أحزاب المعارضة، يتقدمها حزب الشعب الجمهوري أن المشكلة موجودة طالما يقول الأكراد، الذين يمثلون نحو 20 في المائة من سكان البلاد، إنها موجودة.

سجل 12 مايو (أيار) 2025 على أنه «يوم تاريخي» فاصل، وضع، أو يفترض أنه وضع، نهاية لنحو نصف قرن من الصراع المسلح بين حزب العمال الكردستاني، الذي أسسه أوجلان عام 1978، ثم انطلق في عمليات مسلحة منذ عام 1984، بهدف نيل حكم ذاتي للأكراد في شرق وجنوب شرقي تركيا، ليسفر الصراع عن 40 ألف قتيل، بحسب تقديرات الحكومة التركية، وفتح الباب أمام عملية يبدو أنها «أكثر جدية» من محاولتين سابقتين إحداهما في بدايات الألفية الثانية، والأخيرة جرت بين العامين 2012 – 2015 وباءت أيضاً بالفشل، وانتهت بإعلان الرئيس رجب طيب إردوغان عدم اعترافه بالمفاوضات التي جرت خلالها وتأكيده أنه لا يوجد مشكلة كردية في تركيا.

إصرار مشترك

يبدو أن هناك تصميماً في هذه المرة سواء من جانب الدولة أو من جانب حزب العمال الكردستاني ذاته، نتيجة الظروف الإقليمية التي أشار إليها أوجلان في النداء الذي وجهه للحزب، تحت عنوان: «دعوة للسلام ومجتمع ديمقراطي»،لعقد مؤتمره العام وإعلان حل نفسه وإلقاء أسلحته، حيث تطرق إلى التطورات في سوريا، والوضع في غزة، مذكراً بما تعرض له الإخوة من بين الأكراد والأتراك على مدى 200 عام.

في المؤتمر الذي عقده الحزب في منطقتين مختلفتين، لم يعلن عنهما لاعتبارات أمنية، في الفترة من 5 إلى 7 مايو (أيار) الحالي، عبر القائد الحالي للعمال الكردستاني، مراد كارايلان، عن تصميم القائد (آبو)، وهو لقب عبد الله أوجلان لدى أعضاء حزبه وأنصاره، ويعني (العم)، قائلاً: «أرى أن القائد (آبو) يتصرف بعزيمة شديدة ومعنويات عالية، لذا أقول لا بأس، أعلم أنه إذا لم يكن متأكداً من أمر ما، فلن يُصرّ عليه بهذه الطريقة، لذا فهو متأكد».

وبحسب ما جاء في خطاب كارايلان خلال المؤتمر، الذي نشرت أجزاء منه بعد نحو أسبوعين من إعلان قرار حل الحزب، فإن أفضل ما في هذه العملية «الحاسمة» هو الوحدة، مضيفاً: «لقد تعلمنا من تجارب 2002 – 2004، صحيح أن هناك بعض النواقص، لكن هناك أيضاً جانب إيجابي، ما زلت أرغب في فهم العملية الجديدة، أشعر بالتأثر لأننا دفعنا ثمناً باهظاً، لهذا السبب، يثير السؤال عن كيفية تحقيق النجاح في هذه العملية الحاسمة قلقي البالغ، أعتقد أننا سنحقق النجاح».

تفكيك البنية المسلّحة

قرار حزب العمال الكردستاني، ليس إلا مجرد بداية لمرحلة طويلة قد تستغرق سنوات، تبرز فيها قضايا صعبة ومعقدة أهمها كيف سيتم تفكيك البنية المسلحة للحزب المصنف من جانب تركيا وحلفائها الغربيين «منظمة إرهابية» ونزع سلاحه بالكامل، وما الآليات التي ستتبع في هذه المرحلة.

وليس هذا فحسب، بل هناك تساؤلات عن مصير قيادات الصف الأول والقيادات الوسيطة للحزب في جبال قنديل، وإلى أين ستذهب بعد حله، وكيف سيتم التعامل مع باقي العناصر المسلحة وعددها بالآلاف،

وبموجب قرار الحل، سيفقد أعضاء حزب العمال الكردستاني، الذين كان لهم الحق في طلب اللجوء إلى الخارج قبل حله هذا الحق أيضاً، وأصبح وضع 50 ألف عضو في الخارج غير مؤكد، في ظل إدراج الاتحاد الأوربي الحزب ضمن المنظمات الإرهابية.

وأعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن تركيا تجري محادثات مع حكومتي العراق وإقليم كدرستان حول تفاصيل كيفية تسليم الأسلحة خارج حدود تركيا، عادّاً أن هذه الخطوة ستخدم أيضاً استقرار العراق وسوريا خلال المرحلة المقبلة.

ولفت إردوغان إلى أن جهاز المخابرات التركي وباقي المؤسسات المعنية ستتولى هذه العملية بالتنسيق مع بغداد وأربيل.

وتسود توقعات بأن تنتهي هذه العملية في سبتمبر (أيلول) لتبدأ لجنة بالبرلمان التركي، اقترح رئيس حزب الحركة القومية، الشريك الرئيسي لحزب العدالة والتنمية الحاكم في «تحالف الشعب» تشكيلها للنظر في الإجراءات والتدابير القانونية اللازمة لإنجاح مبادرة «تركيا خالية من الإرهاب» التي أطلقها في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بدعم من إردوغان.

موقف حذر

وظهر من التصريحات المتعاقبة للمسؤولين الأتراك أنه لن تكون هناك أي خطوة ستتخذ على الصعيد السياسي، قبل الانتهاء من عملية نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، وأن دعوة أوجلان تمتد إلى جميع أذرع وامتدادات الحزب في العراق وسوريا وإيران وصولاً إلى أعضائه في أوروبا.

وأكدت وزارة الدفاع التركية أن العمليات التي تقوم بها القوات المسلحة في شمال العراق والتي تشمل تطهير المخابئ والملاجئ ومخازن الأسلحة والذخيرة التابعة للعمال الكردستاني ستستمر كما هي حتى التأكد من التزامه بقرار حل نفسه، وزوال خطره.

ويرجع خبراء ومحللون حالة الحذر في التعامل مع قرار حل حزب العمال الكردستاني إلى أنه ربما تكون هناك معارضة للقرار من جانب بعض الفصائل، الرافضة للانخراط في العملية التي قد تلجأ إلى الجبال أو تعيد نشاط الحزب تحت أسماء جديدة.

ولا يختلف موقف حزب العمال الكردستاني عن موقف أنقرة، فقد أكد، مراد كارايلان، أنه في حال عادت تركيا إلى مهاجمتنا فإننا سنرد.

وعلى الرغم من أن عمليات حزب العمال الكردستاني ضد تركيا تراجعت إلى أدنى درجة تحت وطأة العمليات العسكرية التركية المتواصلة في شمال العراق، إضافة إلى العمليات في شمال سوريا، التي استمرت لفترة بعد تولي الإدارة الجديدة برئاسة أحمد الشرع، يبدو أن الحزب حقق تطوراً كبيراً في مجال الأسلحة في السنوات الأخيرة.

وعلى سبيل المثال، أعلنت وزارة الدفاع التركية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 أنها ضبطت بعض الأسلحة الثقيلة، منها مدافع رشاشة مضادة للطائرات، وأخرى مضادة للدبابات، وقاذف صواريخ «دوشكا»، في منطقتي متينا وأفاشين – باسيان في شمال العراق.

ومع التقدم الذي أحرزته تركيا في تكنولوجيا الطائرات المسيّرة، برزت الصراعات الجوية كمجال مهم، وكشفت تقارير عن أن العمال الكردستاني بدأ في استخدام الطائرات دون طيار ذات الرؤية المباشرة (إف. في. بي) بشكل أكبر.

كما شن الحزب ما لا يقل عن 17 هجوماً بطائرات مسيّرة على تركيا في شهر يونيو (حزيران) 2024 وحده.

قضية أكراد سوريا

غيّرت التطورات الأخيرة بشكل كبير ديناميكيات الصراع بالنسبة لكلا الجانبين، كما أكد محلل شؤون تركيا في مجموعة الأزمات الدولية، بيركاي مانديراجي، الذي لفت إلى أن تركيا كثفت الضغوط على الحزب من خلال عملياتها العسكرية المكثفة على مدى العقد الماضي، وتعزيز موقعها في سوريا بعد سقوط بشار الأسد، مع تزايد احتمال انسحاب الولايات المتحدة من شمال شرقي سوريا.

وبالتوازي مع التنسيق بين أنقرة وبغداد وأربيل، تدفع تركيا باتجاه تنفيذ الاتفاقية الموقعة بين الرئيس السوري، أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، بشأن اندماجها في الجيش ومؤسسات الدولة السورية.

وربط إردوغان، في تصريحات الخميس الماضي، بين حل حزب «العمال الكردستاني» وتنفيذ الاتفاق الموقع بين دمشق و«قسد» في مارس (آذار) الماضي، لافتاً إلى أن قرار الحزب حل نفسه يشمل أيضاً وحدات حماية الشعب الكردية، المدعومة أميركياً في إطار الحرب على تنظيم «داعش» الإرهابي، التي تعدّها أنقرة امتداداً لـلحرب ضد «العمال الكردستاني».

وفي إشارة إلى سحب مهمة «قسد» الأساسية منها، قال إردوغان إن بلاده وسوريا والعراق والولايات المتحدة، شكّلت لجنة لمناقشة مصير مقاتلي تنظيم «داعش» في مخيمات ومعسكرات الاعتقال بشمال شرقي سوريا، التي تديرها قوات «قسد» منذ سنوات، وإنه يتعين على العراق «التركيز على مسألة المخيمات؛ لأن معظم النساء والأطفال في (مخيم الهول) من السوريين والعراقيين، ويجب إعادتهم إلى بلادهم».

ولم تعلن «قسد» صراحة حتى الآن أن قرار حزب العمال الكردستاني سيشملها. وقال عبدي إن حزب العمال الكردستاني كان له دور تاريخي في الشرق الأوسط خلال المرحلة الماضية، وكلنا ثقة بأن هذه الخطوة ستمهد الطريق أمام مرحلة جديدة من السياسة والسلام في المنطقة، ونأمل في أن تبادر جميع الأطراف المعنية باتخاذ خطوات مهمة وأن يقدّم الجميع الدعم المطلوب.

وأثار تبني أحزاب وجماعات كردية في شمال شرقي سوريا، خلال مؤتمر عقدته في القامشلي بمحافظة الحسكة الشهر الماضي، قلقاً من جانب تركيا بسبب الحديث عن الفيدرالية والحكم الذاتي هدفاً لها، على الرغم من الاتفاق مع دمشق، ووصف إردوغان الحديث عن الفيدرالية بأنه «مجرد حلم».

لكن عضو هيئة الرئاسة المشتركة لحزب «الاتحاد الديمقراطي»، وهو الحزب المهيمن في شمال شرقي سوريا، وتشكل الوحدات الكردية ذراعه المسلحة، آلدار خليل، أعلن أن الأحزاب الكردية السورية سترسل وفداً إلى دمشق قريباً لإجراء محادثات حول المستقبل السياسي لمناطقهم، في إطار سعيها لتحقيق هدفها المتمثل في الحصول على «إدارة ذاتية»، على الرغم من معارضة إدارة دمشق وكذلك تركيا المجاورة.

وأكدت رئيس دائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، إلهام أحمد خلال، مؤتمر عقد في العاصمة اليونانية أثنيا الأحد تحت عنوان: «القضية الكردية والتطورات في الشرق الأوسط»، أن العملية التي بدأها أوجلان ستؤثر عليهم وعلى المنطقة، وأن آراءهم ضرورية ويجب حل المشكلة على الطاولة.

ولفتت إلى أنه بعد المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني، يجب اتخاذ خطوات قانونية وديمقراطية، ويجب أن تستمر العملية المقبلة وفقاً للأطر القانونية.

وأوضحت أنه بالنسبة لسوريا، فإن العودة إلى نظام البعث غير ممكنة، ويكمن الحل يكمن في الانتقال إلى نظام الإدارة الذاتية في الأمن والاقتصاد والتعليم، محذرة من اندلاع حرب أهلية إذا تم الإصرار على نظام حكم مركزي.

كسر عزلة أوجلان

ولا تعد قضية تسليم أسلحة العمال الكردستاني، وأذرعه، هي القضية الوحيدة المعقدة في مسار عملية ما بعد حل الحزب، إذ تبرز مسألة اتخاذ خطوات لتحسين ظروف سجن عبد الله أوجلان، الذي يمضي عقوبة السجن المشدد مدى الحياة في سجن انفرادي منعزل في جزيرة إيمرالي الواقعة في جنوب بحر مرمرة غرب تركيا، وتوسيع التواصل معه، ومنحه فرصة اللقاء مع المجموعات التي يرغب بها سواء من الصحافيين أو السياسيين، من خلال لوائح إدارية في المستقبل القريب، كإحدى القضايا التي يدور حولها النقاش.

ويتمسك حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب»، الذي تولى الاتصالات مع أوجلان والحكومة والأحزاب، إلى جانب الاتصالات الخارجية مع الحكومة والحزبين الرئيسيين في إقليم كردستان العراق، باستفادة أوجلان بـ«الحق في الأمل»، الذي أقرته محكمة حقوق الإنسان الأوروبية عام 2014، للسماح للمحكومين بالسجن المشدد مدى الحياة بالعودة للانخراط في المجتمع بعد قضاء 25 عاماً من عقوبتهم.

وكان أول من طرح مسألة «الحق في الأمل» بالنسبة لأوجلان، هو رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهشلي، الذي دعا في أكتوبر الماضي أوجلان إلى توجيه النداء بحل حزب العمال الكردستاني وإلقاء أسلحته، مقابل النظر في إصلاحات قانونية تكفل له هذا الحق.

وأثار بهشلي بسبب ذلك جدلاً حاداً على الساحة السياسية واعتراضات من حزب «الجيد» القومي، الذي وصف دعوته بالخيانة، كما تجنب الرئيس رجب طيب إردوغان التطرق إلى هذا الأمر بسبب حالة الغضب التي فجرها تصريح بهشلي، وأكد أنه لا يمكن العفو عن «قتلة الأطفال».

ومع ذلك، فمن المتصور أن يتم إدراج هذه المسألة على جدول الأعمال بعد أن تستقر العملية على المسار الصحيح ويتم تحقيق القبول الاجتماعي، بشكل تدريجي.

ويطرح حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» مطالب أخرى تتعلق بإعادة رؤساء البلديات المنتخبين الذين تم عزلهم وتعيين أوصياء من جانب الحكومة بدلاً عنهم (10 رؤساء بلديات من الحزب) إلى مناصبهم، والاستبدال بهذه الممارسة انتخاب أحد أعضاء مجلس البلدية ليحل محل رئيسها حال عزله.

ويطالب الحزب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين والنواب الأكراد، وفي مقدمتهم الرئيسان المشاركان السابقان لحزب «الشعوب الديمقراطية» صلاح الدين دميرطاش، وفيجن يوكسكداغ، وتنفيذ قرارات المحكمة الدستورية التركية، ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية بشأنهم.

كما يطالب بتعديلات في قانوني تنفيذ الحكام ومكافحة الإرهاب، تكفل الإفراج عن أعضاء العمال الكردستاني من كبار السن والمرضى، الذين يقدر عددهم بـ7 آلاف.

وفي حين تجري وحدات الأمن دراسة حول مصير قادة حزب العمال الكردستاني، تدور نقاشات حول الترتيبات القانونية المتعلقة بعودة الأعضاء الذين يحملون الجنسية التركية، والذين تقدر أعداهم بـ4 آلاف.

ويطالب حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» بوضع لوائح جديدة للتعامل مع أوضاع الأعضاء المتورطين في الجرائم وغير المتورطين فيها رغم وجود قوانين صدرت في الماضي مثل «قانون التكامل الاجتماعي».

متى يتحرك البرلمان؟

يتوقع أن تدرج هذه القضية على جدول أعمال البرلمان في العام التشريعي الجديد بعد استكمال عملية نزع السلاح، وبالإضافة إلى ذلك هناك حاجة إلى تعديلات في قانوني العقوبات ومكافحة الإرهاب للسماح بعودة أعضاء العمال الكردستاني الذين غادروا إلى دول أوروبا بسبب تحقيقات الإرهاب ضدهم.

ومن المتوقع أن يتم تضمين هذه التعديلات في حزمة الإصلاحات القضائية العاشرة، التي يستعد حزب العدالة والتنمية الحاكم لطرحها على البرلمان عقب عودته من العطلة الصيفية في أكتوبر المقبل.

وبينما يتمسك حزب العمال الكردستاني بتمكين أوجلان من قيادة المفاوضات مع الدولة، يطالب حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» بإجراء التعديلات التي يطالب بها على نحو عاجل قبل عطلة عيد الأضحى من أجل إنجاح العملية التي بدأت بحل الحزب.

وتقول الرئيس المشارك للحزب، تولاي حاتم أوغللاري، إن الوقت حان لبناء حياة متساوية في الوطن المشترك وتتويجها بجمهورية ديمقراطية تلبي تطلعات 86 مليون مواطن.

وأكدت أنه يجب أن تنفذ هذه الترتيبات بسرعة وقبل عطلة عيد الأضحى وأن يتحرك البرلمان من أجل اتخاذ خطوات ترسخ السلام والديمقراطية في البلاد.

وأجرى وفد من الحزب جولة على الأحزاب السياسية، خلال الأيام القلية الماضية، لمناقشة الخطوات التي يتعين اتخاذها من خلال البرلمان في أعقاب إعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه وإلقاء أسلحته.

وبينما يتصاعد النقاش حول هذه المطالب وإمكانية تحقيقها أو رفض بعضها من جانب الحكومة، اقترح بهشلي تشكيل لجنة برلمانية باسم «لجنة الوحدة الوطنية والتضامن» من الأحزاب الـ16 الممثلة في البرلمان بحيث يمثل كل حزب بعضو واحد في اللجنة الرئيسية، التي يترأسها رئيس البرلمان، نعمان كورتولموش، وتشكيل لجان فرعية، على أن يبلغ عدد الأعضاء بالكامل في اللجنة الرئيسية واللجان الفرعية 100 عضو.

وبحسب الاقتراح، تناقش اللجنة الخطوات التي يجب اتخاذها فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي، ودمج أعضاء حزب العمال الكردستاني، غير المتورطين في أعمال مسلحة في المجتمع، على أن تتخذ اللجنة قراراتها بالأغلبية البسيطة، على غرار «لجنة التوفيق» التي أنشئت في الماضي للتعديلات الدستورية، إلا أنها كانت تتخذ قراراتها بـ«الأغلبية المؤهلة».

ويمكن للجنة المقترحة، بحسب الاقتراح، تلقي جميع الاقتراحات ومناقشتها، لكن لن يكون مسموحاً بالتطرق إلى الخصائص الأساسية للجمهورية التركية التي تحددها المواد الأربع الأولى من الدستور، ولن تكون قابلة للنقاش بأي شكل من الأشكال.

مواقف متباينة

وإلى جانب حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب»، أيد حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، اقتراح بهشلي، معلناً أنه يتمسك منذ البداية بأن يكون البرلمان هو المنصة التي تناقش فيها عملية حل المشكلة الكردية وأن تشكيل لجنة خاصة بذلك هو اقتراحه في الأساس، بحسب رئيس الحزب، أوزغور أوزيل.

ويعترض حزب الشعب الجمهوري على الشق المتعلق باتخاذ قرارات اللجنة بالأغلبية البسيطة، ويطالب بأن تعمل وفق قواعد لجنة التوفيق المتعلقة بالتعديلات الدستورية.

كما يعترض أعضاء في حزب العدالة والتنمية الحاكم على هيكل اللجنة الذي اقترحه بهشلي، ويرون أنه من المهم منع تأثر العملية، وضمان اتخاذ القرارات دون تأخير، وأنه لتجنب مثل هذه المشاكل، يجب إنشاء هيكل يضم من لا يعارضون العملية.

وتقف أحزاب ما يعرف بـ«الطريق الجديد»، التي تضم أحزاب «الديمقراطية والتقدم» برئاسة علي باباجان، و«المستقبل» برئاسة أحمد داود أوغلو، و«السعادة» برئاسة محمود يريكان، في جبهة التأييد المبدئي لاقتراح بهشلي، لافتة إلى أنها دعت منذ البداية إلى إشراك البرلمان في العملية.

ومع ذلك ترى هذه الأحزاب أن هيكل اللجنة المقترح من بهشلي يجب أن يناقش بسبب مخاوف تتعلق من إمكانية أن يعتمد حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية على الأغلبية التي ستزداد بتأييد حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» لهما، وأن تتحول باقي الأحزاب إلى مجرد ديكور، وتطالب أيضاً بأن تبدأ هذه العملية قبل عطلة عيد الأضحى.

أما حزب «الجيد»، القومي، الذي يعارض العملية برمتها فأعلن أنه يدعو إلى حل كل شيء في تركيا من خلال الحوار، وأكد رئيسه، مساوات درويش أوغلو، أن حزبه لن يسمح أبداً بأن تتحول القومية التركية إلى جهاز يستخدم تحت إشراف إرهابي (أوجلان) أمضى أكثر من 25 عاماً في السجن ومحكوم عليه بالسجن المشدد مدى الحياة.

ويعد حزب «الجيد» العملية التي تصفها الحكومة بـ«تركيا خالية من الإرهاب» فخاً منصوباً لتركيا، ويصفها بأنها «عملية خيانة».

وأرجع بهشلي اقتراحه بأن تسند رئاسة اللجنة إلى رئيس البرلمان، نعمان كورتولموش، إلى ضمان إشراف دستوري مباشر على عملها.

ورغم مطالبة حزب «الديمقراطية المساواة للشعوب» بمناقشة التعديلات القانونية اللازمة على نحو عاجل قبل عطلة عيد الأضحى، قال كورتولموش إن عملية الانتقال نحو «تركيا خالية من الإرهاب» تسير وفق الجدول المقرر، وإن «الخطوة التالية هي تسليم السلاح، وبعد ذلك ستكون ساحة النقاش السياسي هي البرلمان، سواء من حيث التشريع أو وضع الأطر القانونية اللازمة».

وكذلك أكد مسؤولون في حزب العدالة والتنمية الحاكم أن مناقشات البرلمان لن تبدأ قبل أن يقدم جهاز المخابرات تقريراً رسمياً إلى الرئيس رجب طيب إردوغان يؤكد فيه انتهاء عملية نزع أسلحة العمال الكردستاني.

مآرب أخرى

ولم تبتعد المناقشات الدائرة حول مشروع السلام والأخوة والتضامن بين الأكراد والأتراك، عن المناقشات الدائرة حول وضع دستور جديد لتركيا، لا يخفى أن الهدف منه هو فتح الباب أمام إردوغان للحصول على حق الترشح لرئاسة تركيا من جديد.

ويتردد في أروقة السياسة في أنقرة أن «الاستدارة» التي حدثت من جانب إردوغان وبهشلي تجاه حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب»، الذي لطالما تعرض لهجومهما ودمغه بالإرهاب بشكل صريح، إنما هي محاولة لضمان تأييده لمشروع الدستور، الذي يرى من منظوره الخاص أن تركيا بحاجة إليه ولكن بمعايير تدعم مشروع التضامن الكردي التركي، والحصول على دعم كتلة نوابه بالبرلمان، واستبدال كتلة الشعب الجمهوري به، الرافض لمناقشة أي مشروع للدستور قبل الالتزام بالدستور الحالي، وبقرارات المحكمة الدستورية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

الشرق الأوسط

—————————–

مبادرة حل «الكردستاني» تشق صفوف القوميين الأتراك

 أنقرة: سعيد عبد الرازق

29 مايو 2025 م

أحدثت مبادرة «تركيا خالية من الإرهاب» التي أطلقها رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي، صدمة قوية في الساحة السياسية التركية، وتركت شرخاً عميقاً في صفوف القوميين الأتراك.

وجاء أقسى رد على دعوة بهشلي من جانب رئيس حزب «الجيد» القومي المعارض، موساوات درويش أوغلو، الذي حمل بيده حبلاً خلال إلقاء كلمته أمام المجموعة البرلمانية لحزبه بالبرلمان، موجهاً خطابه إلى بهشلي، قائلاً: «خذ هذا الحبل، وعلقه الآن على رأسك».

وكان ذلك بمثابة تذكير من درويش أوغلو لبهشلي بمطالبته إردوغان بإعدام أوجلان، إذ حمل بيده حبلاً خلال تجمع لأنصار حزب الحركة القومية قبل الانتخابات البرلمانية عام 2007، وخاطب إردوغان قائلاً: «خذ هذا الحبل واشنقه (أوجلان)».

وعد درويش أوغلو أن السر وراء خروج بهشلي من وراء الستار وإطلاق مثل هذه الدعوة هو محاولات وضع دستور جديد للبلاد وجعل إردوغان مرشحاً للرئاسة مرة أخرى.

واتهم رئيس حزب «النصر» القومي، أحزاب الحركة القومية والعدالة والتنمية والشعب الجمهوري و«الديمقراطية والمساواة للشعوب»، بتشكيل جبهة غير رسمية معادية للقومية التركية.

جدل إضافي

وفجر البيان الذي أصدره حزب العمال الكردستاني في 12 مايو (أيار) لإعلان قراره حل نفسه وإلقاء أسلحته استجابة لدعوة أوجلان جدلاً جديداً، بسبب إشارته إلى «معاهدة لوزان» و«الإبادة الجماعية للأكراد».

وتضمن البيان فقرة قال فيها: «لقد برز حزبنا (حزب العمال الكردستاني) على مسرح التاريخ بعدّه حركة حرية شعبنا ضد سياسة إنكار وإبادة الأكراد، التي تستمد مصدرها من معاهدة لوزان ودستور عام 1924».

وقال درويش أوغلو إن ما نفهمه من البيان هو أنه إعلان للنصر، وأن الحزب لم يتراجع عن أهدافه ومقاصده، وأود أن أؤكد بشكل خاص أن معاهدة لوزان هي سند ملكية الجمهورية التركية.

ونظم الحزب تجمعاً في أنقرة للدفاع عن معاهدة لوزان التي رسمت حدود الدولة التركية، بينما رفضت جميع أحزاب المعارضة المساس بمعاهدة لوزان أو المواد الأربع الأولى من الدستور التي تحدد خصائص الجمهورية التركية ولغتها وعلمها.

وعلق الكاتب البارز، مراد يتكين، قائلاً إن ما جاء في بيان حزب العمال الكردستاني أثار اعتراضات ليس فقط من أحزاب المعارضة، ولكن أيضاً من داخل حزب العدالة والتنمية، ويجب أن يدرك الجميع أن المطالب القانونية والدستورية للعمال الكردستاني، التي تصل إلى تغيير المواد الأربع الأولى الرئيسية من الدستور، ستؤدي إلى ردود فعل خطيرة في المجتمع.

وقال الكاتب المخضرم، طه أكيول، إنه قلق من الآن فصاعداً، لأن الحركة السياسية الكردية ستكتسب زخماً، وسيتم تقديم عبد الله أوجلان إلى الرأي العام العالمي بعدّه الرجل الذي جعلهم يلقون السلاح بدلاً من كونه مداناً بالإرهاب، وسيصبح الخط السياسي للحركة الكردية الأكثر راديكالية.

ولفت الأكاديمي، مسعود يغين، إلى أن معاهدة لوزان ينظر إليها من جانب الأتراك على أنها سند ملكية الجمهورية التركية، لكن الأكراد يرون أنها كانت بداية لتجزئة الأراضي التي يعيشون عليها معاً وإنكار حقوقهم، لكنه رأى أن التأكيد الذي جاء في البيان لا يشكل اعتراضاً على سلامة أراضي تركيا.

ودفع هذا الجدل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى التأكيد، في حديثه عن الدستور الجديد، أنه سيكون ليبرالياً ديمقراطياً يقضي تماماً على حقبة الانقلابات، وأنه لن يكون هناك مساس بالمواد الأربع الأولى من الدستور، داعياً حزب الشعب الجمهوري لدعمه، لكن رئيس الحزب أوزغور أوزيل، كرر موقفه الرافض لمناقشة الدستور الجديد مع من لا يمتثلون للدستور الحالي.

——————————-

==========================

لقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا تحديث 30 أيار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

ملف رفع العقوبات عن سوريا

—————————-

أميركا المتواضعة” في “سوريا الجديدة”/ إياد الجعفري

2025.05.30

كتب المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، قبل أيام، منشوراً ذكياً يندرج في سياق ما يُعرف بـ “الدبلوماسية الشعبية” التي تستهدف التأثير في الرأي العام وإغواءه.

ولا يعني ذلك أن الرجل كان يكذب في مجمل منشوره، بقدر ما كان يعبّر عن رغبة في تعظيم أدوات القوة الناعمة الأميركية، في نظام دولي يتسم بـ “التعددية القطبية”، تراجعت فيه قدرة الغرب على الهيمنة المباشرة، وصعد فيه دور القوى الإقليمية بصورة ملحوظة.

في نظام دولي من هذا الطراز، يكثر اللاعبون، وتزداد فوضى العلاقات الدولية، وتزداد الحروب والصراعات المسلحة. ووفق المتخصصين، كانت الحربان العالميتان، الأولى والثانية، نتاج نظام دولي “تعددي الأقطاب”.

وقد اختبر العالم إرهاصات التحوّل إلى “التعددية القطبية” منذ نهايات العقد الأول من القرن الحالي. وكانت سوريا خلال العقد الثاني منه، إحدى ساحات الحروب بالوكالة بين اللاعبين الكثر، واختباراً جلياً لمحدودية قدرات كل منهم، وعجزه عن حسم المشهد وحده.

مع ميل الكفّة لصالح قوى الإقليم، مقارنة بالقوى الدولية. لكن الكلفة الباهظة الناجمة عن ذلك، لم ينحصر أثرها على السوريين فقط، بل طالت بآثارها السلبية معظم الدول الجارة لسوريا، وصولاً إلى أوروبا. وقد أظهرت التجربة السورية، كنموذج من نماذج محاولة اللاعبين الإقليميين والدوليين، ترتيب قواعد لـ “تعددية قطبية مضبوطة”، أن “التعاون التنافسي” خرج عن السيطرة، و”قواعد الصراع” المرسومة كُسرت، جراء محاولة كل لاعب توسيع الهامش المتاح له. فكانت الخاتمة انهيار قوة محلية مسيّطرة، وصعود أخرى، بصورة، يعتقد كاتب هذه السطور، أنها فاجأت معظم اللاعبين الإقليميين والدوليين، خلافاً لما تذهب إليه بعض التحليلات، بهذا الصدد.

وإن احتُسب هذا التحوّل في سوريا، بوصفه “نصراً” لقوى إقليمية (تركيا، قطر، السعودية..)، على حساب أخرى (إيران، إسرائيل..)، وبوصفه يصب في صالح قوى دولية (الغرب)، على حساب أخرى (الصين وروسيا)، إلا أنه يبقى أن خاتمة هذه التجربة في سوريا، كانت كفيلة بإظهار محدودية قدرة أي لاعب، إقليمياً، كان أم دولياً، على الحسم والتحكم في الأمور.

وكانت اختباراً لقدرة القوة الصلبة (العسكرية والأمنية) على الفعل، في ظل كثرة اللاعبين المنافسين. وهو الاختبار الذي جاء بنتائج سلبية للاعبين أنفسهم. مما رفع من أسهم “القوة الناعمة”، وإحدى أدواتها الأبرز، الدبلوماسية القائمة على نسج الشراكات، كما أشار المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، في منشوره المشار إليه.

وإن كانت إشارة باراك في عبارته “لقد انتهى عصر التدخلات الغربية”، تبدو أقرب للمغازلة الموجهة للشارع العربي –السوري خصيصاً-، الذي يحمل لاوعياً موروثاً، ينظر بسلبية لمواقف الغرب حيال المنطقة، منذ أكثر من قرن، تبقى إشارات باراك الأخرى، في منشوره الملفت، تعبيراً عن فهم متواضع وحذق، لمحدودية القدرة الأميركية الصرفة، والحاجة للشركاء في المنطقة، وداخل سوريا ذاتها.

إلا أن أبرز ما حملته إشارات باراك، تلك التي تعبّر عن عدم رغبة الغرب بتقسيم سوريا. وكان لافتاً أن منشور باراك، جاء بعيد لقائه بالرئيس أحمد الشرع، في تركيا. الشرع وفق بيان الرئاسة السورية، شدّد خلال الاجتماع على رفض أي محاولات لتقسيم البلاد، وأكّد تمسّك الحكومة السورية بوحدة وسيادة الأراضي السورية. ولا بد أن باراك طمأن الشرع، في لقائهما، بأن واشنطن لا تؤيّد أية مشاريع لتقسيم سوريا. ومن ثم، قال باراك ذلك مباشرةً، في منشوره الموجّه للرأي العام الشعبي –السوري بصورة خاصة-، كرسالة طمأنة وتودّد حيال شعب يعرف الرجل المتحدّر من أصول لبنانية، طبيعة نظرته المرتابة حيال السياسات الغربية في المنطقة.

ولا يعني ذلك، أن باراك لم يقصد ما قاله بخصوص إدانة دور الغرب بتقسيم شرق المتوسط، في إشارته لإرث معاهدة سايكس – بيكو. لكنه لا يعني، بالضرورة، إدانة أخلاقية، بقدر ما هي فهم لمحدودية قدرة الغرب، بما فيه الولايات المتحدة، على الهيمنة المباشرة، والحاجة للشراكات مع قوة سورية فاعلة –الحكومة بدمشق-، والقوى الإقليمية المؤثرة فيها (تركيا والخليج)، كي يحقق مصالحه، بصورة أفضل، وبكلفة أقل.

وبالإشارة إلى التكلفة الأقل، يدرك صانع القرار الأميركي، الكلفة الباهظة المحتملة لانفراط عقد الكيان السوري باتجاه حرب أهلية أو فوضى شاملة، كما أشار إلى ذلك، بصورة علنية، وزير الخارجية ماركو روبيو، خلال جلسة الاستماع التي عقدها مجلس الشيوخ، قبل نحو أسبوع.

كلام روبيو حينها، مضافاً لمنشور باراك بعدها بأيام، يكشف كيف أن واشنطن تفضّل التدخل الإيجابي الناعم بسوريا، عبر الشراكات والاستثمارات والدبلوماسية، بدل التدخل السلبي الصلب عبر القوة العسكرية أو محاولات الهيمنة والاستتباع. وهو ذات النَفَس الذي يحكم نظرة الأوروبيين لمصالحهم في سوريا، أيضاً. حيث الاستقرار غاية مهمة.

هي لحظة فريدة في تاريخنا، كسوريين، أن تتلاقى مصالح الأغلبية منا، مع مصالح الغرب ومعظم دول الإقليم. وبينما تزداد أدوار القوى المحلية والإقليمية الصاعدة في ظل “التعددية القطبية” الراهنة، تزداد الفرص، والمخاطر أيضاً.

لكن يمكن القول، إن اقتناص الفرص المتاحة، ولجم المخاطر المرافقة لها، أمر متاح بصورة كبيرة، لنا، كسوريين، اليوم. وهو ما يميّز هذه اللحظة الفريدة، التي يجب الإمساك بها بقوة، وعدم تضييعها. لأنها قد تكون لحظة النهوض بهذا البلد المنكوب، نحو مسيرة تنمية نوعية شاملة، قد تصبح بعد عقود، موضع إشادة تاريخية من دارسي تجارب الشعوب التي تنفض عن كاهلها غبار المآسي، وتحقق أنموذجاً للارتقاء.

تلفزيون سوريا

——————————-

مستقبل قطاع الطاقة في سوريا بعد رفع العقوبات الأميركية والأوروبية/ حسن الشاغل

2025.05.29

قد يشهد قطاع الطاقة في سوريا تحولات جذرية في الفترة القادمة مع إعلان كل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وخاصة تلك المتعلقة بقطاع الطاقة. انطلاقاً من ذلك تهدف هذه المقالة إلى تحليل كيف يمكن توظيف رفع العقوبات لإعادة تأهيل البنية التحتية للطاقة؟

الآثار المباشرة لرفع العقوبات عن قطاع الطاقة

بعد رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن سوريا من المتوقع أن تبدأ وزارة الطاقة بتنفيذ المشاريع الأكثر تحقيقاً لتغيرات ملموسة على واقع وحياة الناس، وهنا نقصد قطاع الكهرباء، حيث من المتوقع أن يشهد تحسناً ملموساً في  الفترة القادمة لعدة عوامل:

– القدرة على استيراد قطع الغيار اللازمة لصيانة وإصلاح محطات توليد الكهرباء المتضررة.

– استيراد الوقود اللازم لتشغيل محطات توليد الكهرباء بشكل أكثر استقراراً. وبالفعل وقعت سوريا مع تركيا على اتفاقية استيراد 6 ملايين متر مكعب من الغاز يومياً، لضخه للمحطات الحرارية المنتجة للكهرباء. وفي سياق متصل ستصدر تركيا إلى سوريا 400 كيلو واط عبر الخط الخماسي بعد تأهيلها.

– من المتوقع أن تشهد سوريا ربط شبكة الكهرباء مع شبكات الدول المجاورة من الأردن والسعودية، مما سيسهم في تحسين استقرار الإمداد الكهربائي.

وقد تشهد ساعات تشغيل الكهرباء تحسناً تدريجياً، مع توقع زيادة ساعات التغذية الكهربائية من 2-4 ساعات يومياً حالياً إلى 12-16 ساعة يومياً خلال نهاية العام، والنصف الأول من العام المقبل 2026.

ومن جانب آخر، قد تشهد سوريا خلال الفترة الحالية تحسناً مباشراً في إمدادات النفط والغاز، والتي ستصبح أسهل مع رفع العقوبات عن البنك المركزي، حيث كانت الحكومة تسند عمليات استيراد النفط والغاز لرجال أعمال، أما الآن فباستطاعة الدولة عقد صفقات شراء مع شركات ودول عبر البنك المركزي.

وفي سياق متصل، قد تبدأ الشركات الأجنبية المتخصصة بالدخول إلى سوريا، لإعادة هيكلة حقول النفط، ولتحديث مصافي حمص وبانياس، لتحسين كفاءة التكرير وتقليل الاعتماد على استيراد المشتقات النفطية.

وقبل الاستثمار في آبار النفط لا بد من معالجة مشكلة الإشعاعات النووية المنتشرة حول آبار النفط. فقد أدت الطرق البدائية في استخراج النفط التي استخدمتها قوات سوريا الديمقراطية “قسد” -ومن قبلها داعش- إلى انتشار هذه الإشعاعات بشكل أكبر من السابق، مما يتطلب جهوداً كبيرة وتكنولوجيا متقدمة لتنظيفها.

مستقبل الطاقة في سوريا

تحديث البنية التحتية

على مستوى البنية التحتية للنفط، من المهم أن تعمل وزارة الطاقة على خطة لاستحداث مصافٍ جديدة في البلاد إلى جانب تحديث المصافي القديمة. وكانت الطاقة الإنتاجية لمصافي النفط في سوريا في أحسن أحوالها تصل إلى 240 ألف برميل يومياً قبل عام 2011، وهو ما يشكل أكثر من 60% من الطلب اليومي الذي وصل إلى 400 برميل يومياً. ومن هذا المنطلق لابد من بناء مصافٍ جديدة لتصل القدرة التكريرية اليومية إلى 400 ألف برميل، بما يحقق الاكتفاء الذاتي.

وفي السياق ذاته لا بد من التركيز على ربط مناطق إنتاج وتكرير النفط بمناطق الاستهلاك بشبكة من خطوط الأنابيب الحديثة. ومن المهم أيضاً، أن تبدي الوزارة اهتماماً لتطوير صناعة البتروكيماويات مع التركيز على إنتاج المشتقات النفطية ذات القيمة المضافة العالية.

تبني مقاربة طاقوية جديدة

وعلى الرغم من أهمية تحسين تقنيات إنتاج النفط لتلبية الاحتياجات الداخلية الاساسية، إلا أن ذلك لا يجب أن يمنع تبني مقاربة جديدة لأمن الطاقة في سوريا يخرجه عن الطابع التقليدي المكلف مالياً. حيث تعتمد سوريا على المحطات الحرارية بنسبة تتعدى 90% لإنتاج الكهرباء، والتي تعمل على الفيول والغاز. كما تعتمد سوريا على الديزل لتغطية قطاع التدفئة المنزلية.

هذا الشكل يجعل من أمن الطاقة في البلاد معرضاً للاختلال، لأن انقطاع الغاز والفيول لسبب معين في البلاد يعني انقطاع شبه كامل للكهرباء كما حصل في السنوات السابقة. وانطلاقاً من ذلك، لابد من تنويع مصادر إنتاج الكهرباء بالدرجة الأولى، واستغلال كل المصادر المتاحة بما يحقق التنوع الذي يفضي لمستوى متقدم من الأمن الطاقوي، ويخفض من التكلفة على الدولة والمواطن.

وأحد أبرز أشكال التنوع الذي يمكن تبنيه على مستوى عالٍ في الدولة، طرح مشاريع الطاقة المتجددة الشمسية لإنتاج الكهرباء، والتي من المتوقع أن تنجح سوريا في هذا المجال، وذلك نتيجة لعدة عوامل:

– الميزة النسبية لسوريا: تتمتع سوريا بميزة نسبية في مجال الطاقة الشمسية، حيث تسطع الشمس فيها على مدار العام لساعات طويلة في العديد من المناطق لاسيما في وسط البلاد، مما يجعلها مؤهلة لإنتاج كميات كبيرة من الطاقة الشمسية.

– انخفاض تكاليف الطاقة المتجددة الشمسية: مع انخفاض تكاليف تكنولوجيا الطاقة المتجددة عالمياً، ستصبح الاستثمارات في هذا المجال أكثر جدوى اقتصادياً.

– وجود شركات اقليمية عربية متخصصة في بناء مشاريع إنتاج الطاقة الشمسية مثل شركة اكوباور السعودية.

كما من الممكن أن تعتمد الدولة على طاقة الرياح لإنتاج الكهرباء في بعض المناطق المرتفعة. وعلى الرغم من ارتفاع تكلفة عنفات الرياح مقارنة بتكلفة تركيب محطات الطاقة الشمسية، لكن يمكن الاعتماد عليها في مناطق جبال الساحل، والجبال الممتدة بين حمص ودمشق.

وفيما يتعلق بقطاع التدفئة المنزلية، فهناك فرصة كبيرة في سوريا لتغيير منظومة التدفئة التي تستهلك قسم كبير من الديزل سنوياً. فسوريا على أعتاب عملية إعادة إعمار مناطق شاسعة من البلاد، وسيتم العمل على بناء بنية تحتية متكاملة، وهنا لا بد من الإشارة إلى العمل لإنشاء شبكة ضخ للغاز المنزلي الخاص للتدفئة، للاستغناء عن الديزل الذي يعد أكثر تكلفة من الغاز.

ويمكن لسوريا أن تعتمد على الغاز المنتج محلياً إضافة للاستيراد إما عبر خطوط الأنابيب، أو عبر بناء محطات تسييل الغاز لتصبح البلاد قادرة على استقبال أو تصدير الغاز.

نستخلص من هذه المقالة، أن رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عن سوريا يشكل تحولاً استراتيجياً في مسار قطاع الطاقة، ويفتح المجال أمام إعادة تأهيل البنية التحتية الطاقية بشكل شامل. فمن المتوقع أن يؤدي هذا الانفتاح إلى تحسين كبير في إمدادات الكهرباء، عبر استيراد الغاز من تركيا لتشغيل المحطات الحرارية، وربط الشبكة السورية بشبكات دول الجوار مثل الأردن والسعودية وتركيا، مما ينعكس على استقرار التغذية الكهربائية ورفع عدد ساعات التشغيل اليومي.

في موازاة ذلك، تبرز الحاجة الملحة لتحديث البنية التحتية النفطية، من خلال إعادة تأهيل المصافي القائمة في حمص وبانياس، وبناء مصافٍ جديدة لرفع القدرة التكريرية إلى مستوى الاكتفاء الذاتي، إضافة إلى تطوير خطوط نقل النفط والغاز وتعزيز الصناعات البتروكيماوية ذات القيمة المضافة.

وبالنظر إلى التحديات المرتبطة بالاعتماد المفرط على الوقود الأحفوري، يصبح من الضروري تنويع مصادر الطاقة، عبر الاستثمار في الطاقة المتجددة، خصوصاً الطاقة الشمسية التي تملك سوريا فيها ميزة نسبية، نظراً لمعدل السطوع الشمسي العالي طوال العام. كما يمكن استغلال طاقة الرياح في المناطق الجبلية لرفد الشبكة الكهربائية بمصادر نظيفة ومستقرة.

في سياق إعادة الإعمار، تبرز أيضاً ضرورة تطوير منظومة التدفئة المنزلية، من خلال إنشاء شبكة حديثة لتوزيع الغاز المنزلي، بما يقلل الاعتماد على الديزل ويخفض التكاليف البيئية والاقتصادية.

بالتالي، فإن رفع العقوبات يتيح فرصة نادرة لتأسيس نظام طاقي وطني متكامل، متعدد المصادر، وأكثر استدامة، قادر على دعم التنمية الاقتصادية وتعزيز أمن الطاقة في سوريا.

تلفزيون سوريا

—————————

نهج ترامب في سوريا.. الفرص والتوقعات/ محمود علوش

2025.05.29

مثّل رفع الولايات المتحدة لجزء كبير من العقوبات المفروضة على سوريا دفعة إيجابية قوية للسوريين وعزز الأمل لديهم بأن تُدشّن الخطوة الأميركية عهد إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي.

والحقيقة أن قيمة هذه الخطوة لا تقتصر على أبعادها الاقتصادية، بل أعطت زخمًا كبيرًا للاعتراف الدولي بحكم الرئيس أحمد الشرع، وقد تؤسس لتحول تاريخي محتمل في العلاقات الأميركية السورية. مع ذلك، لا ينبغي تجاهل أن سوريا تحتاج إلى ما هو أبعد بكثير من هذا المستوى من التفاعل الدولي معها، في خضم المبادرات الأميركية والأوروبية بخصوص العقوبات. من منظور الواقعية السياسية، يبدو الانفتاح الأميركي نتيجة كبيرة وغير متوقعة مقارنة بالفترة الزمنية التي استغرقها والظروف المُعقدة التي تُشكل طبيعة علاقة الحكم الجديد بالمجتمع الدولي.

لكن، حتى مع الأخذ بعين الاعتبار الدوافع المُعلنة لإدارة ترامب في خطوة رفع العقوبات، والمتمثلة بدعم استقرار السلطة الحالية ومساعدتها على التعامل مع التحدّيات الكبيرة التي تواجهها، فإن التحرك الأميركي لا يبدو كافيًا لتحقيق هذه الأهداف.

فمن جهة، تزيد فترة ستة أشهر المُخصصة لرفع العقوبات من حالة عدم اليقين بشأن مستقبل السياسة الأميركية في سوريا على المدى الطويل. من المتصور الآن أن يعمل الرفع المؤقت للعقوبات كعامل مُحفز للدول الراغبة بدعم سوريا على المُضي قدمًا في هذا الاتجاه، لكن التمويل المؤقت لن يكون كافيًا. كما أن الاستثمارات الأجنبية الطويلة الأجل التي تحتاجها عملية إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي تتطلب رفعًا كاملًا ونهائيًا للعقوبات كي يقتنع المستثمرون بأن سوريا أصبحت وجهة مُغرية للاستثمار والانخراط الاقتصادي. والواقع أن كل يوم يتأخر فيه إيجاد هذه البيئة يزيد من الضغوط الاقتصادية على سوريا بدلاً من الحد منها.

علاوة على ذلك، لا تزال السياسة الأميركية في سوريا في الوقت الراهن غير واضحة الأهداف تمامًا. مع أن إدارة ترامب تُبدي نظرة واقعية للملف السوري من حيث تركيزها على أهمية استقرار السلطة الانتقالية كضرورة لمنع انزلاق سوريا إلى حرب أهلية، إلا أن هناك تصورًا عامًا لدى السوريين والعالم بأن التكاليف التي تنتظرها أميركا من الرئيس أحمد الشرع قد تكون ثقيلة على سوريا، خصوصًا فيما يتعلق بملف العلاقة مع إسرائيل. ويبدو أن التوجه الأميركي الجديد نجح جزئيًا في تقليص الضغط الذي تُمارسه إسرائيل على سوريا منذ التحول وحتى الآن، إلا أن هناك اعتقادًا بأن الرفع الشامل والنهائي للعقوبات مرهون أيضًا بانضمام سوريا إلى اتفاقيات السلام مع إسرائيل. وبهذا المعنى، فإن الانفتاح الأميركي على الرئيس أحمد الشرع، وإن بدا في جانب فرصة كبيرة لسوريا، فإنه مصمم أيضًا لتعظيم التأثير الأميركي على دمشق وخياراتها في التعامل مع قضايا مُعقدة مثل العلاقة مع إسرائيل وقوات سوريا الديمقراطية.

إن الرسائل التي تُرسلها الولايات المتحدة بخصوص رغبتها في استقرار السلطة الانتقالية وتحفيز الاستثمارات الأجنبية في سوريا مُهمة ولا يُمكن التقليل من تأثيرها الإيجابي، لكنها ليست كافية وحدها إذا ما قورنت بخطوات أخرى لتحقيق هذه الأهداف. وسيتعين على واشنطن التأكيد على أن فترة ستة أشهر المُخصصة لرفع العقوبات تندرج في إطار استراتيجية تدريجية تفرضها ظروف المرحلة الحالية، وليست مصممة للضغط على دمشق لإجبارها على خيارات ذات تكاليف مرتفعة عليها. كما سيتعين عليها ممارسة مزيد من الضغط على إسرائيل لإجبارها على تغيير جذري لنهجها في سوريا، وليس فقط تجميد نشاطها العسكري. أظهر الرئيس أحمد الشرع استعدادًا لمعالجة التحدي الإسرائيلي بنهج دبلوماسي، ويجب أن يُقابل هذا الاستعداد بتشجيع هذا النهج والضغط على إسرائيل لوقف تحركاتها العدوانية في سوريا، بما في ذلك التوغلات اليومية في المناطق الحدودية والتوقف عن التدخل في شؤون سوريا الداخلية مثل قضية الدروز.

وفي ملف قوات سوريا الديمقراطية، فإن الانخراط الأميركي كان له دور رئيسي في التوصل إلى اتفاقية بين الرئيس أحمد الشرع والجنرال مظلوم عبدي لدمج قسد في الدولة السورية الجديدة.

مع ذلك، لا تزال هذه العملية تمضي بوتيرة بطيئة. كما أن المطالب التي تطرحها قسد بخصوص تصوراتها لدور الأكراد في النظام السياسي الجديد لا تسهم في تهيئة بيئة مناسبة لإتمام اتفاقية الاندماج. بالنظر إلى التأثير الأميركي على قسد، فإنه سيتعين أيضًا على إدارة الرئيس ترامب إبلاغ المسؤولين الأكراد بوضوح بأن اتفاقية الاندماج وُضعت لتُنفذ، وبأن أي طرح للنظام السياسي يجب أن يحظى بموافقة الشعب السوري، وبأن مهام السلطة الانتقالية تتركز على توحيد البلاد وتشكيل جيش وطني واحتكار السلاح بيدها. إن إتمام اتفاقية دمج قسد بنجاح من شأنه أن يُعظم من قدرة استقرار سوريا في هذه المرحلة، ويُرسل رسائل قوية للأطراف المحلية والخارجية التي تسعى لعرقلة السلطة الانتقالية بأن الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة هو الحفاظ على وحدة سوريا واستقرارها.

من المؤكد أن النهج الذي اتخذه الرئيس ترامب ساعد إلى حد كبير في تهدئة التوترات بين تركيا وإسرائيل في سوريا. وقد شرع البلدان بالفعل في محادثات للتوصل إلى ترتيب للحد من التصعيد. مع ذلك، يمكن لواشنطن أن تتقدم أكثر في هذا المسار من خلال إبلاغ المسؤولين الإسرائيليين بوضوح بأن دور تركيا في سوريا محوري لضمان استقرارها، وبأن هذا الاستقرار هو السبيل الوحيد الذي يُعالج الهواجس الإسرائيلية المزعومة. بقدر ما أن استقرار السلطة الانتقالية يُشكل مصلحة للولايات المتحدة، فإن سوريا الجديدة تجلب فرصًا كبيرة لواشنطن في الشرق الأوسط. وهذه الفرص تستحق أن يكون النهج الأميركي في سوريا أكثر فعالية وقدرة على التأثير.

تلفزيون سوريا

—————————————

تطورات متسارعة بشأن تطبيع الحالة السورية/ بكر صدقي

28 – مايو – 2025

كانت البداية مع استقبال الرئيس الفرنسي ماكرون لأحمد الشرع في قصر الإليزيه كأول لقاء بهذا المستوى مع زعيم دولة غربية لديها عضوية دائمة في مجلس الأمن. ثم «فاجأنا» ترامب بلقائه في الرياض بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ومشاركة عن بعد من الرئيس التركي أردوغان. ولم تكن تصريحات السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد بشأن «تأهيل الجولاني» منذ سنوات وما تلا ذلك من الكشف عن دور بريطانيا الصامت بواسطة جوناثان بأول محض مصادفة.

إن إخراج اجتماع الرياض بالشكل الذي تم فيه هو من مستلزمات أسلوب الصدمة الذي يحبه ترامب، ولكن لا يخفى على أحد أنه دشن مرحلة جديدة في مسار التحول السوري الكبير باحتضان أمريكي فرنسي بريطاني، ورعاية سعودية ـ تركية مباشرة. تم تتويج هذا المسار بسرعة من خلال تعليق العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا لستة أشهر قابلة للتمديد، ليظهر أن هذا الاحتضان الغربي ـ الإقليمي ـ العربي للسلطة الجديدة ليس شيكاً على بياض، بل هو فرصة لها بإطار زمني واضح وشروط تكرر ذكرها مراراً منذ سقوط نظام الأسد على مسامع كل من الشرع والشيباني في جميع المناسبات الدبلوماسية إضافة إلى وسائل الإعلام، يمكن تلخيصها بنقطتين أساسيتين هما التحوّل إلى دولة والتموضع في الاصطفاف الغربي بعيداً عن محور موسكو ـ بكين ـ طهران.

أما ما عدا ذلك فيترك أمره للسوريين أنفسهم ليختاروا النموذج الذي يناسبهم لمستقبل كيانهم وعيشهم. حتى العلاقة مع إسرائيل لن تفرض على سوريا كما قد يفهم من مطالبة ترامب بانضمامها إلى اتفاقات أبراهام. أما في الشؤون الداخلية فلن يضغط أحد على سلطة دمشق لتمضي نحو نموذج ديمقراطي في الحكم أو علمانية الدولة أو النظام الفيدرالي أو غيرها من مطالب قطاعات من السوريين. غير أن التحوّل من جماعة مسلحة إلى دولة يفترض بداهةً أن تحتضن هذه كل السوريين بجماعاتهم الأهلية وثقافاتهم المتنوعة وطبقاتهم الاجتماعية وتعدديتهم السياسية والإيديولوجية بما يُشعر السوريين أن الدولة هي دولتهم مهما تغيرت السلطة الحاكمة، وأن هذا التغيير ممكن بإرادة أغلبية السوريين، بعد انتهاء حقبة الأبد الأسدية المعادية للتغيير، وأن يضمن النظام السياسي المفترض إقامته وسائل سلمية للتغيير من غير حاجة إلى انفجارات اجتماعية جديدة للتخلص من سلطات قد تميل إلى تأبيد نفسها مجدداً.

الدول الغربية، ومثلها دول الجوار العربي والإقليمي، تريد من السلطة في سوريا تحقيق الاستقرار ليتوقف هذا البلد عن الاحتراب الداخلي وتصدير اللاجئين والإرهاب والكبتاغون ويتحول إلى وجهة مرغوبة للاستثمار. لا مشكلة لديهم مع سلطة دكتاتورية تحقق هذه الأهداف. فلم تكن مشكلتهم مع النظام المخلوع أنه دمر البشر والحجر طوال ما يقارب عقداً ونصف من السنوات، بل في أنه فشل في استثمار جميع الفرص التي أتيحت له لاستعادة الاستقرار الذي كان متوفراً قبل العام 2011، بل عمل بكل ما يملك من إمكانات ومع حلفائه الروس والإيرانيين وحزب الله على تصدير اللاجئين والإرهاب والمخدرات خارج الحدود.

منذ الأيام الأولى بعد سقوط النظام واستقرار الشرع في قصر الشعب قال في إحدى تصريحاته لوسائل الإعلام الأجنبية إنه ينبغي الانتقال من عقلية الفصائل إلى عقلية الدولة. وتشير مسيرته الطويلة من التحولات إلى طموح سلطوي لديه لا يمكن تحقيقه في قيادة الدولة السورية بغير هذا الانتقال. لكن الأشهر الستة التي تلت ذلك أظهرت محدودية قدرته على تحقيق هذا الهدف، وأساساً بسبب محدودية سيطرته على الفصائل التي قامت تحت قيادته بالاستيلاء على السلطة في مناطق سيطرة النظام المخلوع، إضافة إلى تردده في المضي قدماً في الاتفاق الذي وقعه مع قوات سوريا الديمقراطية، وفشله في تكريس تفاهم مستقر مع محافظة السويداء، ومحاسبة مرتكبي المجازر في منطقة الساحل وبعض مناطق الجماعة الدرزية. وما من داع لتكرار أن الخطوات التأسيسية التي قام بها لم ترتق إلى مستوى تطلعات السوريين في تأسيس دولة تستحق هذا الاسم. فكل هذا سبق وتم تسليط الضوء عليه أولاً بأول.

الفرصة الجديدة التي يتيحها تعليق العقوبات ستمنح السلطة وسائل لتدارك ما فاتها ووقتاً محدوداً للقيام بذلك. تبقى العقبة الرئيسية على هذا الطريق هي التخلص التام من الحالة الفصائلية ونشاط تلك الفصائل الهدام، سواء بالإقناع أو بقوة الدولة المدعومة بتوافق دولي حاضن. حتى إسرائيل التي تختلف رؤيتها لسوريا التي تريدها (دولة ضعيفة مفككة) عما تريده الدول الحاضنة، من الواضح أنها فرملت تدخلاتها الفظة في الآونة الأخيرة، بطلب أمريكي مباشر على الأرجح. فقد لاحظنا بالتوازي مع انفتاح ترامب على السلطة في دمشق (ومغازلته لأردوغان) فتوراً منه تجاه نتنياهو، إضافة إلى ارتفاع منسوب الاستياء الغربي من مواصلة إسرائيل حربها الإبادية على غزة والضفة الغربية.

لا نعرف هل ستتمكن المجموعة الحاكمة من السيطرة على فوضى الفصائل ونزع سلاحها وحلها كما تقرر أكثر من مرة. فمن شأن نجاح هذه الخطوة الأولى الأساسية أن يفتح الطريق أمام الخطوات الأخرى التي لا بد منها لتأسيس الدولة الجديدة المأمولة.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————————–

في قمّة برج ترامب/ مضر رياض الدبس

29 مايو 2025

لا يعني اللقاء السعودي الأميركي السوري أخيراً في الرياض (14 مايو/ أيار) أن سورية المُحرّرة من حكم الأسد التقت الولايات المتحدة التي أقنعتها السعودية وقطر وتركيا بالانفتاح على سورية الجديدة، إلا تبسيطاً. في العمق، التقت في الرياض ثلاثُ ظاهراتٍ جديدةٍ نسبياً في العالم. الأولى هي “الوهابي الأخير”، وقد انتهى إلى ظاهرة لافتةً جدّاً يمكن أن نسمّيها الـ “محمد بن سَلمانيَّة”، بما تعنيه من اتجاهٍ يحيل على التنمية والانفتاح، وبما أنتجته من ظاهراتٍ فرعيةٍ، مثل الهيئة العامّة للترفيه، التي تعمل بجدّ في قلب السردية السعودية التي طالما ارتبطت قبل ذلك بهيئةٍ من نوعٍ آخر، كان اسمها “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر”. والثانية ظاهرة المُجاهد “السلفي الأخير”، وقد وضع ربطة عنق، ودخل إلى الدبلوماسية العالمية بثقةٍ ورشاقةٍ، بوصفه رئيسَ دولةٍ مهمّةٍ بالمعنى التاريخي والجيوسياسي. والثالثة ظاهرة “الرجل الأبيض الأخير”، ويمثِّله ترامب، وكلّ الجدل الذي أثاره (ولا يزال)، وقد نجح في إثبات الترامبية بوصفها ظاهرةً، وليست أعواماً أربعةً عابرةً انتهت مع ولايته الأولى. ولا أتصوّر أن أحداً يبالغ إذا قال إن هذا اللقاء حدثٌ ينتمي إلى فلسفة العلاقات الدولية للإنسان الأخير، أكثر ممّا ينتمي إلى السياسة نفسها. وكأنّ فكر صموئيل هنتنغتون، صاحب نظرية صدام الحضارات، ومعه منهجية تفكيره كلّها، قد أصيبت برصاصة رحمةٍ أخيرة بعد هذا اللقاء، فلو أتيح لأحدٍ من أصاحب الخيال الواسع أن يروي مشهداً مثل هذا لهنتنغتون قبل موته (2008)، لعدَّه الأخيرُ مجنوناً يهذي.

وبعد تجريد هذا الحدث من أبعاد السياسة المرحلية، يمكن أن نقرأه كالآتي: حدثَ لقاءٌ شائق بين سردية الأمويين المنبوشة من غياهب التاريخ نبشاً، لتدعّم صورة النصر المُبين، مع سردية الرجل الأبيض التقليدي المُحافظ، أو النسخة الأخيرة منه الأكثر جدلاً، الذي انتصر هو الآخر في بلده انتصاراً كبيراً، وكأن المنطقة في صورتها الأكثر أمويةً قد صافحت أميركا في صورتها ذات الرقبة الحمراء (red nick)، وقد يعني هذا أن معاوية الجديد قد يصير جيفرسون، أو جون آدمز، أو جورج واشنطن، أو أن ترامب قد يصير معاوية. في الحالتَين، مات هنتنغتون (المريض أصلاً) في هذا اللقاء، ودفن، وأُبّن. وكان تأبيناً مَرِحاً، فلا يبدو أن أحداً يبكيه في المنطقة باستثناء بنيامين نتنياهو وعلي خامنئي، اللذَين (في الأصل) لا يتقنان شيئاً مثلما يتقنان البكاء، بل يَتّخذانه حرفةً سياسيةً، ثمّ “يحشون بالدموع البندقية”، بتعبير محمود درويش.

على أيّ حال، لن يكون معاوية الجديد كسروي التنظيم والإدارة، كما كان في القرن الهجري الأول، ولكن الأرجح (إلى الآن) أنه سيكون ترامبياً على مستوى التنظيم والإدارة، وهذه بداية عصرٍ جديدٍ، قد يحدث خرقاً في فكرة الدولة السلطانية التي لم تتغيّر منذ أن تحوّلت الخلافة إلى مُلك، بتعبيرات ابن خلدون (أي منذ معاوية). ولو جرى بناء برج ترامب في دمشق، فسيكون هذا البرج هو المَعلم الأوّل الذي ينافس المسجد الأموي أهميةً في هذه المدينة العريقة. والثنائي (مسجد بني أميّة الكبير، وبرج ترامب) في مدينةٍ مثل دمشق (الآن) قد يعنيان نمطَ تفكيرٍ دولي جديد في موضوع الإسلام برمته، ومن ثمّ في موضوع الديمقراطية وفكرتها؛ والحداثة وموضوعاتها السياسية، وهذا الكلام ليس تبشيراً بطبيعة الحال، ولا تحذيراً أيضاً، لكنَّه توقُّعُ شيءٍ جديدٍ فحسب.

وهذا الجديد بدأ يظهر مثلاً في تصريح لافتٍ للمبعوث الأميركي الخاصّ إلى سورية، توم باراك، يعترف فيه بخطأ الغرب في “سايكس بيكو”، وأنها اتفاقية لم تكن من أجل السلام، بل من أجل “مكاسب إمبريالية”، ووعد بعدم تكرارها، مؤكّداً أن عصر التدخّل الغربي داخل حدود هذه الدول قد انتهى، وبدأ عصر “الشراكة الدبلوماسية”. قد يكون هذا الجديد تطوّراً، وقد يكون نكوصاً، لا يوجد تصوّر دقيق لدينا الآن؛ فهذا التصوّر يحتاج إلى تفكيرٍ أكثر. ولكن هذه الظاهرات الثلاث علاقتها مع الوفاء بالوعود جيّدة، فكلٌّ من الشرع وترامب وفّى بوعدٍ سريالي لم يصدِّقُه أحدٌ حين إطلاقه. وعد الأول بالعودة إلى البيت الأبيض، حين كان الثاني يعد بالوصول إلى دمشق، وحين كان بن سلمان ينفّذ وعداً قطعه في مبادرة مستقبل الاستثمار في 2018، بأن يجعل الشرق الأوسط أوروبا الجديدة، ولا يزال الرجلُ يمضي في تنفيذ ما وعد به بجدٍّ، من دون أن يتنازل لفكرة الديمقراطية أيَّ تنازلٍ سياسي. كلُّ واحدٍ من هؤلاء الرجال الثلاثة كان أهلاً لوعده، مع أن وعودَهم لم يأخذها غالبية المتابعين لشؤون هذه البلدان على محمل الجدّ عند بداية طرحها.

يحضر في سياق هذا اللقاء أيضاً مُفكِّرَان كبيرَان، توماس هوبز وإدوارد سعيد. فالمعنى الهوبزي لا يقبل (إلى الآن) توصيفَ “مجتمع” عند الحديث دولياً، لأن المجتمع يُحدَّد بالدولة بوصفها الليفياثان (Leviathan) الذي يؤدّي إلى القضاء على الحالة الطبيعية، وهي الحالة التي يميل فيها الناس إلى العنف والقوة والحرب، حسب هوبز. وما دام لا يوجد نظير عالمي لمفهوم الدولة الداخلي؛ لا يمكن أن يكون الوسط الدولي مُجتمعاً، فالعالم غير قادرٍ إلى الآن على تحقيق مشروع سلامٍ أبدي مثل الذي وضعه الأب دوسان بيير في أوروبا، استناداً إلى الفكرة الهوبزية في العلاقات الدولية، ثم بنى عليه روسو، ثمّ كانط في مشروع السلام الدائم. وعليه لا يمكن أن نقول إننا نمتلك مجتمعاً دولياً إلا على سبيل المجاز. الذي حصل في الرياض دولياً قد يذكّرنا بمقولة دوسان بيير في مشروعه للسلام الدائم في أوروبا الذي وضعه في 1713، فقال: “إبرامُ معاهداتٍ دفاعيةٍ وهجوميةٍ مع جيران المسيحيين من الحكّام الذين يدينون بالديانة المحمّدية، وذلك حفاظاً على سلامة الجميع، كلٌ داخل حدوده، وتبادل ما أمكن من ضمانات الأمن”. هذه المعاهدات عند ترامب تكون صفقاتٍ وأعمالاً، ومن ثمّ فإن تعبير “كلٌّ داخل حدوده” بموجب الفهم الترامبي، سوف يُمهِّد لدمجَ الفِكَر غير الديمقراطي في وسط التحالف العالمي الفعَّال، وقد يؤول ذلك إلى جعل الانتقال إلى الديمقراطية شأناً لا يعني للغرب شيئاً.

وأمّا إدوارد سعيد، فنتذكر في هذا الموقع تنظيراته في فكرة الاستشراق، بدايةً من تخيّل الإسلام في الغرب كأنه كتلةً صلبةً واحدةً، ثمّ الخوف منه كلّه. ويبدو أن هذه النظرية قد بدأت تنتهي معلنةً نهاية الاستشراق، والتوجّه إلى الاندماج التنموي الذي يميّز بين إسلامٍ وآخر بموجب السياسة والاقتصاد، وهذا توجّهٌ مدعوم بالتطوّر التكنولوجي الهائل، والذكاء الاصطناعي، والأعمال، وكلِّ الذي يمثله إيلون ماسك مثلاً، وقد صار اسماً لامعاً في عالم السياسة أيضاً.

على المستوى السوري الداخلي، لا يعني هذا أن السلفية الجهادية ثبَّتت أقدامها دولياً مع ثنائية الشرع والشيباني، بل يعني أنها أصبحت شيئاً آخرَ، وهذا الشيء الآخر هو الذي انتصر؛ فالتنمية مفهومٌ لطَّف الجهاد، وأحدث فيه تغييرات بنيوية، وقدَّمَ التعمير في الأرض على قتال المُختلف، وهذا بطبيعة الحال لا يتقدّم كثيراً من دون إنهاءٍ كاملٍ لعصرِ الأيديولوجيا، ومن دون تضافر الجهود تحت كلمة التنمية، مترافقةً مع حقوق الإنسان واحترامه. وليس هذا التوجّه الديني جديداً، فتحقيق السلام من بوابة التنمية مسألة تكلم فيها البابا بولس السادس عام 1965 من على منبر الأمم المتحدة، حين ركَّز عليها بوصفها فكرةً مضادّةً للحرب، ثمّ قال في عام 1967 (في الفقرة رقم 87 من رسالته البابوية التي حملت عنوان “تقدُّم الشعوب”)، إن التنمية هي “التسمية الجديدة للسلام”، مع أن البابا يوحنّا بولس الثاني، أضاف أن هذا السلام ينحصر بعدم المساس بحقوق الإنسان واحترامها.

ومن جهةٍ سورية أخرى، قد نقول إن دمشق تبدو اليوم ميكيافليّة الهوى، ليس بالمعنى التقليدي الضيّق الذي يقول إن الغاية تسوّغ الوسيلة. لا مطلقاً؛ ولكن بالمعنى الذي طرحه ميكيافلي للعلاقة بين السياستين، الداخلية والخارجية، حين قال إن “المسائل الداخلية سوف تُعالَج دائماً حين تُعالج المسائل الخارجية، ما لم يحدُث تآمر داخلي يعكّر صفو الحال”.

العربي الجديد

——————————

هل يعيد ترامب تشكيل إرث “سايكس بيكو”؟/ سمير صالحة

2025.05.29

أكد توماس باراك، السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص للرئيس دونالد ترامب إلى سوريا، أن مرحلة التدخلات الغربية في شؤون الشرق الأوسط قد انتهت، مشددًا على ضرورة تبني حلول إقليمية قائمة على الشراكات والاحترام المتبادل لإعادة بناء سوريا والمنطقة.

وقال: “اتفاقية سايكس-بيكو قسّمت سوريا والمنطقة لتحقيق مصالح قوى إمبريالية، وليس من أجل السلام.

أجيالٌ كاملة تحملت وزر ما جرى. لن نسمح بتكراره مرة أخرى، فالمستقبل يعود للحلول الإقليمية المبنية على الشراكات والدبلوماسية القائمة على الاحترام”.

وقّعت بريطانيا وفرنسا في عام 1916 اتفاقية سرّية تُعرف باسم “سايكس بيكو”، نسبة إلى المفاوضين البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، بهدف تقاسم مناطق النفوذ في المشرق العربي. فهل ما تخطط له واشنطن اليوم هو دفن آخر ما تبقى من ذلك النظام عبر مشروع أميركي جديد بصيغة “سايكس بيكو” مختلفة وأكثر مرونة؟ وهل تسعى إدارة ترامب إلى إعادة ترتيب أوراق نفوذها في المنطقة في سياق البحث عن استراتيجية جديدة قادرة على التعامل مع التحديات والمتطلبات السياسية والأمنية والاقتصادية، تستدعي تجديد أدواتها الدبلوماسية والاستراتيجية، وتأخذ بعين الاعتبار موازين القوى الحديثة وتوجهات اللاعبين الإقليميين والدوليين؟ وهل يتحدث باراك، ابن زحلة في البقاع اللبناني، باسمه أم نيابة عن ترامب؟ وهل يمتد كلامه إلى حدود “بلفور”، أم أنه “سيكويّ” عند هذا المنعطف الذي أعدّته له بريطانيا قبل أكثر من قرن؟

من اللافت أن تعود الولايات المتحدة اليوم إلى فتح ملف “سايكس بيكو”، وهي الاتفاقية التي لم تكن طرفًا فيها. البداية كانت مع تبنّي أميركا سياسة الانكفاء انطلاقًا من قرار “الحياد” الذي اعتمده الرئيس ويلسون، والذي يتماشى مع مبدأ “حق تقرير المصير” إبّان الحرب العالمية الأولى. لكن قرار باريس ولندن استبعاد واشنطن عن التقاسمات الكبرى كان له تأثير كبير، ما دفع أميركا إلى اعتماد سياسة الانزواء والتريث حتى صيف 1944، مع إنزال النورماندي، تلبيةً لنداء النجدة الأوروبي في مواجهة التوغل الألماني، لتنتقم واشنطن لنفسها بعد كل هذا الانتظار.

رسائل توماس باراك، بما تنقله من نقد ساخر لإرث سايكس بيكو، ليست مجرد مراجعة تاريخية متأخرة، بل محاولة لإعادة صياغة الدور الأميركي في المنطقة على أسس جديدة، تُخالف النموذج الأوروبي القديم. وتعكس التصريحات الأميركية المتلاحقة على لسان الرئيس دونالد ترامب، ووزير خارجيته روبيو، ومبعوثه الخاص إلى سوريا، توماس باراك، حقيقة أن واشنطن تمهّد لمشروع إقليمي أميركي جديد بصيغة مغايرة.

اليوم، وبعد مرور ثمانية عقود، يدخل اللاعب الأميركي بثقله من جديد إلى الساحة الإقليمية مع وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض. رأينا واشنطن تعيد رسم السياسات والمواقف في لبنان أولًا، ثم تنتقل إلى الملف السوري بالتنسيق مع حلفاء وشركاء إقليميين مؤثرين مثل تركيا والسعودية وقطر والإمارات ثانيًا. ثم جاءت القمة الرباعية في الرياض برعاية سعودية، وتصريحات الرئيس الأميركي حول شخصية الرئيس السوري وما ينتظره منه في اتجاه إنجاز المرحلة الانتقالية في سوريا، بعيدًا عن إيران وروسيا. تبع ذلك قرار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، ليتوّج برسائل مبعوثه الشخصي وسفيره الجديد في أنقرة، توماس باراك، حول اتفاقية “سايكس بيكو” وانعكاساتها السلبية على الشرق الأوسط.

بعد 14 عامًا على انطلاق الثورة السورية، وسقوط نظام الأسد، ووصول سلطة سياسية جديدة، لم تجد إدارة ترامب الكثير من الخيارات أمامها سوى الإصغاء لمتطلبات مصالحها، ولِما يقوله ويريده العديد من الحلفاء والشركاء – عدا إسرائيل – بشأن ضرورة اعتماد سياسة أميركية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التوازنات المحلية والإقليمية، وإعادة تعريف مقاربتها للملف السوري.

لم يصغِ ترامب لأوروبا أو لإسرائيل في التعامل مع الملفات الإقليمية الساخنة، بل رجّح التعاون مع شركاء وحلفاء آخرين لأميركا في المنطقة. فشل نتنياهو في الحصول على ما يريده من ترامب في سوريا، فاختار اللحاق بما يجري هناك من خلال تفعيل الحوار مع الجانب التركي ومحاولة فتح قنوات تواصل مع الجانب السوري.

يقول ترامب إن أخطاء الماضي لن تتكرر: “جيشنا لن يتولى مهام إنشاء الدول بقوة السلاح، بل الدفاع عن الوطن”. ويقول وزير خارجيته روبيو إن ترامب يريد مسارًا جديدًا في العلاقات الدولية، فيه الكثير من الواقعية. أما باراك فيردد: “لن يكون هناك سايكس بيكو جديد هذه المرة”.

قد لا نرى خريطة تقاسم نفوذ استعماري جديد كما حصل عام 1916، لكن الواقع الميداني يشير إلى توزيع نفوذ وإعداد خرائط لا تُرسم بالمسطرة، بل تتحدد بناءً على تفاهمات وتقاطع مصالح. قد لا يكون ترامب يسعى إلى كتابة مشروع “سايكس بيكو” جديد، لكنه بالتأكيد يحاول محو القديم، والتأسيس لشرق أوسط تُحدّد واشنطن معالمه مع شركاء وحلفاء في الإقليم، بعكس ما فعلته باريس ولندن قبل قرن.

لن تفقد منطقة الشرق الأوسط خصوصيتها الجيوسياسية كساحة للتنافس الشديد على الثروات والجغرافيا والنفوذ بين القوى المحلية والخارجية. لكن التحدي الأكبر الذي ينتظر فريق ترامب يكمن في مدى قدرة هذه الرؤية الجديدة على تجاوز إرث سايكس بيكو فعليًا، دون أن يتحول الأمر إلى مجرد إعادة توزيع مصالح على حساب شعوب ودول المنطقة.

هشاشة الوضع الإقليمي القائم فتحت المجال أمام الولايات المتحدة للتموضع وفق خرائط بديلة. وهناك احتمال كبير بأن لا يكون أمن إسرائيل هو مركز الثقل الأميركي في المنطقة هذه المرة، خصوصًا إذا نجحت إدارة ترامب في إنجاز خطط إعادة رسم خرائط التموضع السياسي والأمني الجديد بالتعاون والتنسيق مع حلفاء وشركاء فاعلين منفتحين على السلام والأمن والتعاون الحقيقي في المنطقة.

بعض الوقت، ونعرف إن كان ترامب وفريق عمله جادَّين في إعادة ترتيب مشروع جديد، أم أنها لعبة “لفٍّ ودوران” بوجهٍ مغاير!

تلفزيون سوريا

——————————-

شرقُ أوسطٍ جديد بنكهة السلام والشراكة/ حسان الأسود

2025.05.29

يشهد العالم بأسره هذه الأيام تطورات كبيرة جدًا، وفي جهاته المختلفة، لكنّ مشهد الشرق الأوسط هو الأكثر وضوحًا حتى اللحظة.

ما حصل في الرياض واستُكمل في الدوحة وأبو ظبي ليس مجرّد زيارة عادية لرئيس أميركي عادي، إنّه انعطافة استراتيجية كبيرة لمواجهة العالم الجديد الذي بدأت ملامحه تتشكّل منذ فترة ليست بالقصيرة. يدرك الأميركيون، وربّما غيرهم كثيرون أيضًا، أنّ ثمّة عملاقاً اقتصادياً وديمغرافياً هائلاً هو الصين، بدأ يُسرّع خطواته لتصدُّرِ المشهد العالمي، وربّما يأتي يوم ليس ببعيد يحلّ فيه محلَّ الريادة ويزيح الأميركيين المتوّجين منذ زمنٍ قادةً لا مجال لمنافستهم.

يتطلّب هذا نوعًا من التحوّط والإقدام لاستكشاف الفرص المتاحة لهذه المواجهة التي بدأت فعلًا. لم يعد بالإمكان حصر أسباب التقدّم في الغرب وحده، فقد أثبتت حرب الأيام الأربعة بين الهند وباكستان أنّ الصين استطاعت تطوير أسلحة هزمت المنظومة الغربية، أو على الأقل نافستها بشكل واضحٍ لا لبس فيه. إسقاط طائرات رافال الفرنسية ليس مسألة عسكرية فقط، بل هي مؤشرٌ على ما هو أعمق من ذلك بكثير. من هنا هرع الرئيس ترامب لوقف الحرب من خلال إقناع قادة باكستان والهند بأنّه ما من فائز فيها، وأنّ الاستثمار في خدمة المصالح أولى من المضيّ في هدمها.

يرى محللون كثُر أنّ الرئيس ترامب قد فشل في تحقيق شعاره الكبير “أميركا قويّة من جديد” عن طريق الضغط على الدول من خلال فرض التعرفات الجمركية الاعتباطية بما يشبه البلطجة، فقد انحنت بعضها للعاصفة وماطلت حتى تمر، في حين صعّدت الصين وردّت بتعرفات مماثلة. وهنا كان التراجع الأميركي خطوة إلى الوراء فعلًا، لكنّه في الوقت ذاته كان مقدّمة للتفكير في آليات جديدة تجلّت في زيارة دول الخليج العربي. عنوان التجربة هذه هو ذاته، أميركا أولًا، ولكن مع غيرها من الدول وليس على حسابها. هكذا يمكن قراءة التهدئة مع الحوثيين الذين هم ذراعٌ إيرانية في النهاية رغم استقلالهم الكبير نسبيًا بعكس بقية أفراد المحور في العراق ولبنان. وهكذا هو واقع التركيز على التفاوض مع إيران بعد شدّ وتر القوس إلى منتهاه من دون إطلاق السهم.

ومن هنا يمكن أيضًا فهم هذا التحجيم لنتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، فالمصالح الإسرائيلية التي باتت خلال الفترة الأخيرة مزروعة تحت الجلد الأميركي تؤرّق ساكن البيت الأبيض، ولن يسمح لها أن تُعيق مشروعه الكبير. صحيحٌ أنّ ترامب لم يخض في رحلته هذه بحر القضيّة الفلسطينية، لكنّ الإشارات التي أعطاها واضحةٌ بابتعاده عن دعم هذا الطفل المزعج مهما فعل من دون حساب. تركيز ترامب على أنّه رفع العقوبات عن سوريا بناءً على طلب من الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد السعودي بالتزامن مع طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هو مؤشر واضح على الحدود التي يجب أن تقف إسرائيل عندها.

نحن من يرسم الحدود لا أنتم، ونحن من يضع الشروط ويفرض المسارات ويوزّع الأدوار، وعليكم أن تعرفوا حجمكم. كانت لافتة تلك العبارة الوصائية من ترامب خلال أحد التصريحات عندما قال: “ستصب جهودنا في النهاية بمصلحة إسرائيل، حتى لو لم يدرك قادتها هذا الأمر”.

ومن هنا أيضًا يمكن قراءة تحرّك أميركا منفردة للإفراج عن الأسير عيدان ألكسندر مزدوج الجنسية (أميركي إسرائيلي)، الأمر الذي يعطي رسائل قويّة لإسرائيل وغيرها من الدول بمن يملك القرار النهائي في القضايا الشائكة والمعقّدة.

قد يكون نتيجة ذلك تحريك موضوع حل الدولتين ضمن ترتيباتٍ جديدة بضغطٍ عربي خليجي، فلا بدّ أنّ ترامب قد فهم وأدرك أنّ بؤرة الصراع المحتدم وشرارة الحرب الدائمة ليست عند العرب والفلسطينيين، بل عند إسرائيل التي قامت على الحرب ويرى متطرفوها أنها ستسقط بتوقفها.

سيسير نهج ترامب إذن عبر مسارات متعددة، بعضها خشنٌ لا ينفع مع الجميع، وبعضها ناعمٌ يمكن أن يؤتي أُكُلَهُ عبر تعاون وثيق مع شركاء إقليميين، يسعى بعضهم لأن يكون لاعبًا دوليًا كما هو حال المملكة العربية السعودية. يمكن القول باختصارٍ شديدٍ وربّما مجحفٍ نوعًا ما، إنّ الأيديولوجيا قد ماتت، أو هي تحتضر الآن.

لم تعد تُطرح شعارات حقوق الإنسان ولا الديمقراطية حتى في بازارات الضغط السياسي، وتلك التي كانت تستخدمها الإدارات الأميركية السابقة باتت الآن في مزبلة ترامب. التوجّه الآن واضح نحو بناء شراكات قائمة على المصالح لا على الأيديولوجيا. من هنا كانت هزيمة محور الشر الحقيقي المتمثل بإيران وأذرعها مقدّمة لعالم جديد تعود فيه الدول هي الكيانات الوحيدة الموجودة والفاعلة. سيتمّ القضاء على جميع البنى ما تحت الدولتية التي تشكّلت على هامش انفراط عقد الدول في المنطقة. سيتم كنس الميليشيات والجماعات المسلّحة من الخريطة، ومن لم يفهم هذا بالحسنى من الميليشيات العراقية، سيفهمه بالقوّة العارية وسيكون مصيره مصير حزب الله اللبناني. من هنا يمكن قراءة أحد جوانب القرار التاريخي لحزب العمّال الكردستاني حلّ نفسه، فرغم الاستحقاقات الداخلية في تركيا التي لعبت دورًا رئيسًا في هذا الأمر، فإنّ المشهد الدولي العام حاضرٌ في الخلفية. لن يُسمح لأية مجموعات مهما كانت صفتها وأيًا كان تاريخها، أن تُشكّل تهديدًا لطرق التجارة، وخطوط الطاقة، وسلاسل التصنيع، والتوريد.

لا شكّ أنّ ترامب منزعجٌ جدًا من عدم قدرته على فرض وقفٍ سريع للحرب الروسية الأوكرانية، وحُنقه كبيرٌ أيضًا على الأوروبيين الذين وقفوا مع أوكرانيا لدعمها بعد أن ضغط هو على رئيسها زيلنسكي لتقديم تنازلات كبيرة واستراتيجية، رأت فيها أوروبا خطرًا حقيقًيا ونصرًا كبيرًا لروسيا وبوتن شخصيًا. لذلك، ومن هنا يمكن قراءة مسألة رفع العقوبات عن سوريا وأخذها بضمانة سعودية قطرية باتجاه الحلف الأميركي لإبعادها عن روسيا والصين من جهة، ولتعزيز استقرار المنطقة من جهة أخرى، وهذه إشارة ثانية لإسرائيل بضرورة احترام الشركاء الإقليميين القدامى، السعودية وتركيا، والجدد أيضًا. يعتقد كاتب هذه السطور أيضًا أنّ ترامب يرى في الملف النووي الإيراني ليس فقط تهديًدا للأمن القومي الأميركي، بل هو أيضًا تحدٍّ يزعزع الأمن الإقليمي الذي لا بدّ أن يستقر حتى تمضي سياسة مواجهة الصين أميركيًّا. من هنا كان التفاوض مع إيران أولى من استعمال العنف، لهذا لم يترك لإسرائيل أن تؤجج الصراع وأن تقصف المنشآت النووية الإيرانية.

وقد فهم الإيرانيون الأمر فأرسلوا يخاطبون شهيّة ترامب المفتوحة على الاستثمارات الهائلة في بلادهم. في النهاية سيجري الأمر كذلك، لأنّ دول الإقليم لا تريد حربًا ضدّ إيران حتى وإن كانت هي خارجها، فمعظمُ النار من مُستصغر الشرر. هكذا يتخلّقُ الآن عالمٌ جديد قائمٌ على السلام والشراكة عوضًا عن الحروب والاستئثار، والشرق الأوسط في قلب هذا العالم وليس على طرفه، وإن كان الرابح الأكبر هو العم سام، فإنّه لن يكون هناك خاسرون، بل شركاء في مواجهة الغول الصيني القادم من أقصى آسيا، ونحن السوريين لن نترك القطار يفوتنا، بل سنكون في عرباته المتقدّمة رفقة أشقائنا العرب، وبرعايتهم، ورجاؤنا أن يشمل الخير أهلنا في غزّة الذين دفعوا الفاتورة الكبرى، وما زالوا.

———————————-

رفع ترامب العقوبات عن سوريا يحيي آمال ما بعد الحرب/ سانتياغو مونتاغ سولير

30.05.2025

على رغم تحسّن قيمة العملة المحلية فور إعلان ترامب، لا تزال أسعار الوقود والسلع الأساسية شديدة التقلّب، ومع قلة السيولة النقدية وغياب وسائل الدفع الرقمي، يعجز كثر من السوريين عن شراء حاجاتهم. يعيش نحو 69 في المئة من السكان — أي ما يعادل 14 مليون شخص — تحت خط الفقر. خفت التفاؤل الذي رافق سقوط النظام سريعاً بسبب نقص الوظائف والدمار الهائل، ما ألقى بظلاله على صورة الحكومة الجديدة.

في خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من الرياض، قراره رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا. وفي اليوم التالي، التقى بأحمد الشرع، ممثل الحكومة السورية الجديدة، وبولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في قصر الحكم، في صورة ستُسجّل في ذاكرة التاريخ. هذا الحدث مثّل استئناف العلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا بعد انقطاع دام 25 عاماً، وفتح صفحة جديدة بين البلدين.

قال ترامب إنه سيرفع العقوبات “لنجعل سوريا عظيمة من جديد”. جاء هذا الإعلان بعد 14 عاماً من الدمار الذي خلفته الحرب، والتي فاقمتها العقوبات الغربية المفروضة على نظام بشار الأسد وحلفائه الاقتصاديين، لكنها في المحصلة أثّرت بشكل مباشر على الطبقات الفقيرة والعاملة في البلاد.

وكما اعتاد العالم من ترامب، كانت الخطوة مفاجئة، سريعة، وصادمة حتى لأعضاء إدارته. وعلى رغم غياب خطة واضحة لإعادة الإعمار أو جدول زمني للتنفيذ، انتشرت الاحتفالات في شوارع سوريا، وعادت هتافات الثورة تُدوّى مجدداً: “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد”.

منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر، ركزت الحكومة الجديدة في “هيئة تحرير الشام” على المطالبة برفع العقوبات كركيزة أساسية لإعادة إعمار البلاد. ومع أن الانتقال السياسي لا يزال بطيئاً، فإن الاقتصاد يواصل الانهيار تحت وطأة العقوبات، ما يجعل رفعها خطوة بالغة الأهمية لاستعادة الاستقرار.

لماذا يُعدّ رفع العقوبات مهماً إلى هذا الحد؟

منذ سقوط نظام الأسد، لم تتمكن سوريا من التعافي. يعيش سكان دمشق على بضع ساعات من الكهرباء يومياً، وتزداد الأوضاع سوءاً في مناطق أخرى. ارتفع سعر الخبز ثمانية أضعاف منذ كانون الأول/ ديسمبر، ما دفع بالكثيرين إلى حافة الجوع، فيما يصطفّ الناس لساعات أمام الصرافات الآلية لسحب القليل من المال المتبقي.

على رغم تحسّن قيمة العملة المحلية فور إعلان ترامب، لا تزال أسعار الوقود والسلع الأساسية شديدة التقلّب، ومع قلة السيولة النقدية وغياب وسائل الدفع الرقمي، يعجز كثر من السوريين عن شراء حاجاتهم. يعيش نحو 69 في المئة من السكان — أي ما يعادل 14 مليون شخص — تحت خط الفقر. خفت التفاؤل الذي رافق سقوط النظام سريعاً بسبب نقص الوظائف والدمار الهائل، ما ألقى بظلاله على صورة الحكومة الجديدة.

وعلى رغم أن هذه الصعوبات ترجع إلى عقود من الديكتاتورية والحرب الأهلية وعدم الاستقرار بعد سقوط النظام، تبقى العقوبات الغربية، لا سيما الأميركية والأوروبية، سبباً جوهرياً في تعميق الأزمة الاقتصادية.

عقوبات مدمّرة

في عام 2011، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حزمة من العقوبات على نظام الأسد ردّاً على القمع العنيف للاحتجاجات الشعبية. وعلى رغم أن هذه الإجراءات نجحت إلى حد ما في عزله دولياً وإضعاف قدرته العسكرية، فإنها ألحقت أضراراً فادحة بالاقتصاد السوري.

تقول فاطمة السيد، مهندسة زراعية في الثانية والثلاثين من عمرها، لموقع “درج”: “الكثير من الشركات التابعة لعائلة الأسد أو المقربين منها استفادت من العقوبات”. وتضيف: “أطلقت هذه الشركات دورة اقتصادية مغلقة تخدم مصالحها فقط”. نشأت طبقة أوليغارشية مرتبطة بالنظام، سيطرت على ما تبقى من القطاع الخاص، وفتحت المجال لتلقي الدعم العسكري من روسيا وإيران. وبهذا، عززت العقوبات من قبضة النظام سياسياً، فيما أضعفت عموم الشعب.

دفعت هذه العزلة الدولية السوريين إلى الهامش، حتى باتوا يُعامَلون كمنبوذين. تقول فاطمة: “العقوبات تمسّ كل القطاعات، نحن لسنا بلداً مستقلاً”. وقد أجبرت هذه السياسات شرائح واسعة من المجتمع على اللجوء إلى العمل غير النظامي، وأحياناً إلى الاعتماد على شبكات الزبائنية. خلال العقد الماضي، تقلّص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 53 في المئة، وانهارت الأنشطة الاقتصادية بنسبة 84 في المئة، ما أدى إلى تراجع حاد في مستوى المعيشة، إذ يعيش أكثر من 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، ونصف القوة العاملة بلا وظائف.

يقول زيد صمد، سائق تاكسي في الخامسة والأربعين: “العقوبات دمّرت صناعتنا. لا قدرة لدينا على إنتاج الحاجات الأساسية”. ويضيف: “لا يمكننا الاستيراد، وفقد كثيرون وظائفهم”.

وكانت العقوبات حالت دون تسديد قطر مبلغ 29 مليون دولار شهرياً لسوريا، مخصصاً لدفع رواتب القطاع العام على مدى ثلاثة أشهر، وهو دعم كان من المفترض أن يخفّف من التوترات الاجتماعية المتزايدة.

الاستثمار ممنوع

منعت العقوبات الأميركية — التي تحظر تقريباً جميع التعاملات التجارية والمالية — دخول الاستثمارات وعطّلت نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة، ما أضعف قدرة البلاد على النهوض. استهدفت العقوبات الأوروبية قطاعات حيوية مثل النفط، والاستثمار، والمصارف، والاتصالات، بذريعة إرث “تحرير الشام” المسلح. وتواصل البنوك رفض التعامل مع سوريا، في حين يتعذّر على التجار استيراد السلع قانونياً، ما زاد من تهريب المواد الأساسية ورفع الأسعار.

كما أن العقوبات، إلى جانب عدم الاستقرار السياسي، تمنع عودة الكفاءات السورية من الشتات، والتي يمكن أن تساهم في إعادة الإعمار. تشير التقديرات إلى أن تكلفة إعادة بناء سوريا تتراوح بين 250 مليار وتريليون دولار، بينما لا يزال أكثر من 140 ألف مبنى، و3 آلاف مدرسة ومستشفى، مدمّرة.

تصويت بالثقة

تغيّر نبرة ترامب تجاه الشأن السوري كان لافتاً. فقد كان يعتبر أحمد الشرع “إرهابياً”، لكنه وصفه اليوم بـ”الرجل الصلب ذي الماضي الصعب”. ويُعدّ هذا الاعتراف انتصاراً للقيادة السورية الجديدة، التي ظهرت أخيراً إلى جانب إيمانويل ماكرون على برج إيفل، في مشهد يعكس تحوّلاً في صورة الشراكة الدولية.

بعد أكثر من خمسة أشهر على سقوط بشار الأسد، بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بإعادة تقييم العقوبات وتسهيل وصول المساعدات، وإن كانت هذه الخطوات لا تزال خجولة ولم تحقق نتائج ملموسة. فالإجراءات الحالية لا تزال تعيق قدرة الدولة على تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، ما يُنذر بتفاقم الأوضاع.

الهدف الغربي ما زال واضحاً: ضمان خضوع النظام الجديد للمعايير السياسية الغربية، وتأمين مصالح الشركات الكبرى، وإعادة رسم موازين القوى في المنطقة، خصوصاً في مواجهة إيران وروسيا.

مصالح قبل كل شيء

على رغم أن ترامب قدّم مجموعة مطالب للقيادة السورية، إلا أنها لم تكن مشروطة، بحسب المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت. من أبرز هذه المطالب: انضمام سوريا إلى “اتفاقيات أبراهام” وتطبيع العلاقات مع إسرائيل — خطوة ترفضها دمشق تاريخياً، بالنظر إلى استمرار احتلال الجولان، وتكرار الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية منذ سقوط الأسد.

لكن الشرع أشار حديثاً إلى وجود محادثات غير معلنة لحل النزاع. كما أن الاتفاق مع الحوثيين بعد استهداف مطار تل أبيب، والتوجه نحو إعادة التفاوض على البرنامج النووي الإيراني، كلها رسائل لنتانياهو بأن أولويات واشنطن باتت في مكان آخر — ما يعقّد العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

كذلك طلب ترامب من الشّرع مواجهة خطر عودة “داعش” وإدارة مراكز احتجاز مقاتلي التنظيم في الشمال الشرقي، إلى جانب ترحيل من وصفهم بـ”الإرهابيين الفلسطينيين”. كانت واشنطن تعتمد سابقاً على “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية في هذه المهمة، لكن هذا الدعم تراجع مع إدارة ترامب، ما يهدد استقرار المنطقة.

أبدت سوريا، من جهتها، رغبة في توقيع اتفاقيات مع شركات أميركية في قطاعي النفط والغاز، مقابل رفع العقوبات والسماح بالمشاركة الدولية في إعادة الإعمار. ويأتي ذلك في سياق توقيع اتفاقيات استثمارية ضخمة مع السعودية والإمارات بقيمة 600 مليار و1.4 تريليون دولار على التوالي.

سوريا اليوم على حافة انهيار اقتصادي يهدد أي أفق لبناء مستقبل خالٍ من العنف والتوتر. وعلى رغم أن التقارب مع الولايات المتحدة قد يفتح نافذة إنقاذ، إلا أنه لن يكون بلا ثمن. إذ تبقى الهيمنة الاقتصادية الخارجية سيدة الموقف، في مشهد تتكرّر فيه سياسات الغرب تجاه الدول الضعيفة. وبالنسبة الى ترامب، تبقى المصالح فوق كل اعتبار.

– صحافي تشيلي

درج

———————————

أردوغان وبوش – ترامب والشرع.. هل تُقرأ الرسالة من أعلى أم من أسفل؟/ عبد الناصر القادري

2025.05.29

قبل أقل من شهر من عملية 11 سبتمبر 2001، تأسس حزب العدالة والتنمية التركي في 14 أغسطس من العام نفسه، كان ذلك الفوز نقطة مفصلية وجوهرية في التحرك الأميركي بالمنطقة بعد حدث مهول ما زالت الروايات كلها غير دقيقة عن صحة ما جرى فيه.

نشأ حزب العدالة والتنمية من كتلة وازنة من المحافظين وبقايا الوسط ومجموعات متنوعة (حزب الفضيلة، وحزب الوطن الأم، وحزب الطريق القويم) مؤسسون لم يكونوا يرون في الخط التقليدي للإخوان المسلمين أي حلول ممكنة، خصوصاً مع الخسارات المتلاحقة والانقلابات التي جرت عليهم بقيادة أبو الإسلام السياسي في تركيا نجم الدين أربكان (رحمه الله).

كان فوز العدالة والتنمية غريباً وجنونياً بالنسبة للمنطقة، قيادات شابة، محافظة، في حزب ينفي إسلاميته بشدة، يؤمن باقتصاد السوق المؤيد لليبرالية، يدعم عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ألوان برتقالية حيوية وشعار “اللمبة” المتقدة، يبحث مؤسسوه عن عدالة وتنمية في بلد أكلته نخبة فاسدة وعسكر متسلطون كثيرو الانقلاب.

في الانتخابات الأولى للحزب، حاز 34.28% من الأصوات فقط (363 مقعداً) مكنته من تأسيس أول حكومة منفردة بقيادة عبد الله جُل ثم أسقطت التهم عن أردوغان ليتسلم دفة القيادة منذ مارس عام 2003 حتى الآن.

قبل أن يتمكن أردوغان من قيادة الحكومة، دعته الإدارة الأمريكية بإدارة جورج بوش الابن لزيارة البيت الأبيض كرئيس الحزب الفائز بالانتخابات، وفعلاً حدثت الزيارة في 10 ديسمبر 2002، كان لقاءاً مثمراً شمل جورج بوش ونائب الرئيس ديك تشيني وكولن باول وزير الخارجية وأعضاء آخرين بالإدارة.

لم يخرج تماماً ما حصل في ذلك الاجتماع، ولا أظنه سيخرج، الواقع أن أميركا كانت تعد العدة لحرب ضروس في العراق، ولم تكن تريد من تركيا أي تشويش، هل كانت تركيا أصلاً تستطيع منع الحرب؟ الحقيقة لا. هل كان التشويش سيجدي نفعاً؟ ربما إلى حد كبير، لكن سيكون الوضع في تركيا انقلاب عسكري جديد ببساطة ينهي تجربة وليدة هي “العدالة والتنمية” التي تمكنت بقراءة سياسية واعية من تجنب انقلابات كثيرة، لعل أهمها “أول الحكم”، ومن ثم تجاوز الكثير من المطبات والتحديات والمحاولات.

في 14 مايو 2025، التقى الشرع مع ترامب في السعودية، بحضور ولي العهد محمد بن سلمان، في مفاجأة مدوية، دخلت التاريخ السياسي للمنطقة، رجل كان في القاعدة التي نفذت 11 سبتمبر يلتقي مع الرئيس الأميركي الذي يضعه على لوائح الإرهاب في الرياض التي خرج منها بن لادن، يمكننا الحديث عن صورة العام التي تختارها الوكالات سنوياً، هذه تفوز، المهم من حضر الاجتماع إنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر الاتصال الرقمي.

هل قرأ الشرع تلك الزيارة التي أجراها أردوغان إلى واشنطن، هل عرف أنه عندما كان شاباً تائهاً في دمشق، لا يعرف ماذا سيحل به بعد سنوات فقط؟، هل سمع الخبر على شاشة الجزيرة “أردوغان يلتقي جورج بوش في واشنطن”، انتهى الخبر. بعد أشهر قليلة، الدبابات الأميركية تدخل مطار بغداد الدولي، ويستنفر الشباب إلى العراق ويذهب بنفسه ليعاين “فليس الخبر كالعيان”.

هل أعاد قراءة السياسة الأميركية وعرف أن ديك تشيني هو أكثر نائب رئيس أميركي كان يحكم، ولديه نفوذ واسع على بوش الابن والإدارة الأميركية، وهو من التقى بأردوغان مطولاً أيضاً، ويحمل العديد من مواصفات ترامب في شخصيته، إلا أن ابنته “المثلية” حالت دون ترشحه للانتخابات التالية على الحزب الجمهوري فضاعت فرصه كلها.

ماذا جرى في الاجتماع بين ترامب والشرع وأردوغان أيضاً، مفارقات عجيبة وتشابهات تشعرنا بأن التاريخ يتكرر على أشكال مختلفة، وبظروف أشد صعوبة، هل تطرقوا إلى العراق؟ هل ناقشوا مساعي ترامب للفوز بجائزة نوبل للسلام؟ أم اقتصر الأمر على عدم التشويش كذلك.

حروب أخرى تجري في المنطقة، غزة عارها كبير جداً إنسانياً وإسلامياً ودينياً، لا أحد يستطيع إيقافها وإيقاف معاناتها مع كل أسف، البعض يريد وأد التجربة من أجل التشويش، والبعض يريد الاستمرار مهما كلف الأمر، وآخرون يريدون الحلول الوسطى التي تراعي واقع أهلنا وأحبتنا في الأراضي المحتلة.

في البيان الذي أصدره، المبعوث الأميركي توماس باراك (سفير تركيا أيضاً وصديق مقرب لترامب)، يقول لنا بعد لقائه الرئيس أحمد الشرع في إسطنبول – عدنا إلى تركيا من جديد – : إن “الغرب فرض قبل قرن من الزمان خرائط وانتدابات وحدوداً مرسومة بالحبر وإن اتفاقية (سايكس بيكو) قسمت سوريا والمنطقة لأهداف استعمارية لا من أجل السلام.

واعتبر باراك (اللبناني الذي يعرف المنطقة جيداً ويتقن العربية أيضاً) أن ذلك التقسيم كان خطأ ذا كلفة على أجيال بأكملها ولن يتكرر مرة أخرى، وأن زمن التدخل الغربي انتهى وأن المستقبل سيكون لحلول تنبع من داخل المنطقة وعبر الشراكات القائمة على الاحترام المتبادل.

وأشار باراك إلى أن مأساة سوريا ولدت من الانقسام وأن ميلادها الجديد يأتي عبر الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها، مضيفاً “نقف إلى جانب تركيا ودول الخليج وأوروبا ليس بالجيوش وإلقاء المحاضرات أو بالحدود الوهمية”.

وأكد باراك على أن ولادة سوريا الجديدة تبدأ بالحقيقة والمساءلة والتعاون مع المنطقة، وأن سقوط نظام بشار الأسد فتح باب السلام وأن رفع العقوبات سيمكّن الشعب السوري من فتح الباب واستكشاف الطريق نحو الازدهار والأمن.

بيان يحكي لنا، كيف يفكر الأميركيون، وكيف يمكن فهمهم؟ تحالف مع من يقرأ الرسالة من أعلى إلى أسفل، يعرف العنوان جيداً ثم يطرق الباب الصحيح ويدخل بعد المصافحة والسلام، بيان عاطفي وشعبي لمبعوث ترامب إلى سوريا، إلا أنه لحظة من لحظات المرحلة كذلك.

هناك في شارع بنسلفانيا 1600 شمال شرقي واشنطن العاصمة، يوجد بيت يعيش فيه شخص قد كتب الرسالة وعنونها وختم عليها، ولا يستطيع دخوله أو دخول غيره من لم يقرأها جيداً من أعلى إلى أسفل، وفي السياسة إن تهيأت الظروف (ثورة شعبية عظيمة حققت النصر بتضحيات شعبية هائلة) والهمة والسعي وحسن التدبير وسعة الأفق والهدوء كل ذلك ممكن، وبعض من الحظ وحسن الطالع أيضاً.

———————-

 هاجر جده بـ20 ليرة من متصرف عثماني.. توماس باراك دبلوماسي أميركي يستحضر معاوية

2025.05.29

في جلسة عقدتها لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي يوم الثلاثاء، 20 أيار/مايو، قدّم وزير الخارجية ماركو روبيو شهادة رسمية حول ميزانية وزارة الخارجية لعام 2026. لم تقتصر الجلسة على الجوانب المالية، بل كشف روبيو خلالها عن ملامح هيكلة جديدة لطريقة عمل الوزارة، ستُطبَّق للمرة الأولى في سوريا باعتبارها حقل اختبار رئيسياً لهذا النهج الجديد في إدارة السياسة الخارجية الأميركية.

وقال روبيو إن الهيكلة الجديدة تهدف إلى نقل السلطة وصلاحيات اتخاذ القرار إلى المكاتب الإقليمية والسفارات الأميركية حول العالم، بعيداً عن البيروقراطية المركزية في واشنطن. وأوضح أن القرارات التنفيذية المرتبطة بالمساعدات والسياسات ستُتخذ في الميدان، استناداً إلى الاحتياجات الفعلية والمعطيات المحلية لكل دولة.

وأشار إلى أن الفريق الدبلوماسي الأميركي الموجود في تركيا، إضافة إلى السفير، سيُمنحون صلاحيات كاملة للتواصل مع المسؤولين المحليين السوريين وتحديد نوع المساعدات المطلوبة، وقال “سنسمح لأفرادنا الموجودين على الأرض. سواء موظفي سفارتنا في دمشق المتواجدين في تركيا، وبالنسبة للفترة الزمنية القصيرة على الأقل، سفيرنا المؤقت في تركيا للعمل مع المسؤولين المحليين هناك لاتخاذ قرارات بشأن نوع المساعدة التي يحتاجونها. هل هي إنسانية؟ هل هي تحسين وظائف إنفاذ القانون أو الحوكمة؟ نعتقد أنها ستكون الاختبار الأول لهذا النموذج الجديد.. أعتقد بقوة أن قراراتنا والسلطة لاتخاذ القرارات يجب أن تُدار من قبل المكاتب الإقليمية لأنها تكون في صميم وقلب كل ما نقوم به”.

ذكر الوزير أن الهيكلة الجديدة تتضمن إصلاحات في آلية تقديم المساعدات الخارجية، بحيث تُوجَّه مباشرة إلى المستفيدين بإشراف المكاتب الإقليمية، مع الابتعاد عن التعقيدات البيروقراطية السابقة، وتحقيق سرعة وكفاءة أكبر في الاستجابة للمتغيرات على الأرض.

وأوضح: “سوريا مثال رائع، ليس لدينا أي أموال في ميزانية السنة المالية لسوريا، لأنه، بصراحة، لم يكن أحد منا يتوقع أننا سنتحدث عن مساعدة الحكومة السورية قبل ستة أو ثمانية أشهر، ولكن الآن لدينا فرصة للقيام بذلك، وبدلاً من الاضطرار إلى إعادة البرمجة وجميع أنواع التعديلات، فإن المرونة على مستوى ما للتمكن من الاستجابة بسرعة لأمر كهذا”.

وكان نقاش الوزير وطرحه لسوريا كمثال وحديثه عن “حرب أهلية” وشيكة، هدفه تبرير إصلاحاته بدمج “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” ضمن وزارة الخارجية، لتصبح جزءاً من أدوات الدبلوماسية الأميركية بدلاً من كونها جهازاً مستقلاً عن التوجهات السياسية العامة.

وعلى رأس هذه الاستراتيجية أو إعادة الهيكلة التي طرحها روبيو والتي تهدف للعمل من “الأسفل إلى الأعلى” بحيث يكون للمكاتب الإقليمية والسفارات الكلمة الفصل في السياسة الخارجية الأميركية يظهر توماس باراك السفير الأميركي في تركيا والمعين بمنصب المبعوث الخاص إلى سوريا.

قصة توماس باراك بروايته

قدم توماس باراك قصته لأعضاء الكونغرس خلال مناقشات تعيينه كسفير في تركيا خلال نيسان الماضي، وركز على جذوره وارتباطه بالمنطقة وكيف أنه يفهمها ولديه “رؤية” للعمل قائمة على التسامح إلى جانب “السيف والسوط”.

أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، سرد باراك ملخصاً عن رحلته الشخصية، معتبراً إياها “تحية للحلم الأميركي”. وقال “هاجر جدّاي  إلى الولايات المتحدة قرابة عام 1900. يوسف عبد الله (جو)، في سن الثانية عشرة وخليل شاهين (كيلي) في سن الرابعة عشرة. كلاهما نشأ في لبنان، والتي كانت تتمتع بسمعة طويلة منذ بداياتها الفينيقية بنسيج متعدد الثقافات من التأثيرات العربية والمسيحية وكانت منطقة إدارية داخل الإمبراطورية العثمانية. كان جو واحداً من تسعة أطفال مسيحيين موارنة وأصغر ستة أولاد يعيشون في زحلة، وهي بلدة في سهل البقاع. في ذلك الوقت كانت هناك حرب رهيبة مستعرة بين الموارنة والدروز، ولم تكن والدة جو ترغب في التضحية بابنها الأصغر في هذا الصراع الوحشي والعبثي. كانت عائلة البراك عائلة تجارية متواضعة الإمكانات، ولم يكن لديهم القدرة على إعالة عائلتهم الكبيرة أو مساعدة أي من أبنائهم الستة في إيجاد العزاء أو الراحة في أي مكان آخر. كانت زحلة تحكم من قبل قائمقام عثماني يُعرف بالمتصرف. كان المتصرف مسيحياً غير لبناني تم اختياره من قبل العثمانيين المتمركزين في القسطنطينية (إسطنبول الآن) وكان يتمتع بسلطة مطلقة على المسيحيين والدروز. كانت والدة جو خادمة منزلية لدى المتصرف وطلبت مساعدته للسماح لابنها الأصغر، جو، بالصعود على متن سفينة شحن ستصل في النهاية إلى أميركا. كانت كلفة “درجة الشحن” في ذلك الوقت نحو 20 ليرة تركية، والتي لم تكن عائلة جو تمتلكها. ثم تبرع الحاكم العثماني لوالدة جو بأجرة السفر وجواز سفر عثماني لسفر جو وأخبرها أنه حر في الذهاب. مشياً يداً بيد 34 ميلاً إلى ميناء بيروت، حيث صعد لأول مرة على متن الباخرة البريدية العثمانية إلى نابولي حيث انتقل إلى السفينة الأكبر، إس إس باتريا، لرحلة ثلاثة أسابيع إلى أميركا. اعتقدت أنها لن تراه مرة أخرى أو ربما لن تعرف مكانه أبداً… أم فقط يمكن أن تمتلك تلك القوة. زحف إلى الحفرة القذرة لتلك السفينة ومعه 13 ليرة تركية، قميص واحد، بنطال واحد، ومذكرة معلقة على قميصه مكتوبة باللغة العربية تقول: «شكراً لكم على قبولي».

هل يعيد ترامب تشكيل إرث “سايكس بيكو”؟

استعرض باراك بعد ذلك مسيرة العائلة في أميركا، حيث عاش والده وجده معاً في كاليفورنيا يديران متجراً صغيراً، وكانت تلك التجربة مصدراً لغرس قيم الشجاعة، والمرونة، والرحمة، والامتنان، وتجاوز الفوارق الدينية والعرقية في نفسه وأخته.

انتقل باراك للحديث عن مسيرته المهنية، مشيراً إلى أنه كرس حياته لفهم تعقيدات بناء الفرق في الأسواق المالية العالمية، وصقل حاسة ثقافية خاصة، والسير في طرق لم يسبق أن سار عليها أحد. بعد حصوله على تعليم يسوعي ودراسة القانون، عمل في واحدة من أكبر شركات المحاماة الأميركية ممثلاً شركات هندسية وإنشائية في الشرق الأوسط، مثل فلور وبيكتل وجاكوبس، التي كانت من عمالقة الابتكار الأميركي في منطقة الشرق الأوسط التي كانت تشهد طفرة نفطية كبرى.

وأوضح أنه عمل كمحامٍ مالي في السعودية عام 1973 على مشاريع تمويل منشآت نفطية وغازية في المنطقة الشرقية، في بيئة قاسية تصل فيها درجات الحرارة إلى 120 درجة فهرنهايت، بلا وسائل ترفيه أو اتصال حديث، ولا كنائس أو معابد يهودية أو فنادق أو مصارف، بل مجرد مجمع أرامكو وثقافة بدوية أصيلة متجذرة في الإسلام. يروي باراك أنه كان يحضر المجالس المسائية، ويشرب القهوة العربية مع الشيوخ، ويستمع لقصصهم عن السياسة وشؤون المياه والنزاعات القبلية والأعمال، بلغة لم يكن يفهمها. كان يصلي مع أصدقائه السنة أيام الجمعة، كما نشأ في حي يهودي ودرس في مدارس كاثوليكية واعتاد مشاركة أصدقائه طقوس السبت اليهودية. وجد نفسه في مغامرة جديدة مع الإسلام. وأكد أن سنواته في الشرق الأوسط جعلته يتبنى قيمة “التسامح” كبوصلة في حياته.

أشار باراك إلى أن هذه التجربة كانت من الأسس التي بنى عليها عمله كرئيس لمجموعة كولوني كابيتال، شركة الاستثمارات العالمية التي أسسها عام 1991، والتي أصبح لها مكاتب في 19 دولة من ضمنها الشرق الأوسط، وتضم مستثمرين من معظم القارات.

وتحدّث باراك عن انتقاله من القطاع الخاص إلى العمل الحكومي، مبينا أنه تولى منصب نائب وكيل وزارة الداخلية في إدارة الرئيس رونالد ريغان، وهي التجربة التي أتاحت له تقدير كفاءة موظفي الخدمة المدنية والدبلوماسيين، وأهمية التنسيق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وأكد أنه سيقود البعثة الأميركية في تركيا بروح الاحترام والتعاون.

واختتم شهادته بمقولة الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان الشهيرة من دون أن ينسبها إليه واعتبرها شعاراً لعمله الدبلوماسي: “إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها”.

تسلّم باراك مهامه رسمياً في أنقرة منتصف مايو 2025، وقدم أوراق اعتماده للرئيس أردوغان. عمل منذ وصوله على فتح قنوات التواصل مع المسؤولين الأتراك، فاجتمع مع وزير الخارجية هاكان فيدان وبدأ لقاءات تعريفية مع كبار المسؤولين، ليُعيَّن قبل أسبوعين بمنصب المبعوث الأميركي إلى سوريا أيضاً.

سايكس-بيكو وخطاب التجاوز

ويبدو أن باراك يحب استخدام “التضمين الرمزي” في خطابه والأسلوب السردي وكتب بعد لقائه بالمسؤولين السوريين في إسطنبول منشوراً أثار اهتماماً كبيراً حين قال: “قبل قرن، فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدوداً مرسومة بقلم رصاص، وحكماً أجنبياً. اتفاق سايكس-بيكو قسّم سوريا والمنطقة من أجل مكاسب إمبريالية، لا من أجل السلام. لقد كان خطأً كلّف أجيالاً، ولن نكرره”.

وأضاف: “زمن التدخلات الغربية قد ولّى. المستقبل هو للحلول الإقليمية، للشراكات، ولدبلوماسية قائمة على الاحترام”. واستشهد بكلمة للرئيس ترامب ألقاها في الرياض بتاريخ 13 أيار/مايو، قال فيها إن “زمن تدخّل الغربيين في الشرق الأوسط لإلقاء المحاضرات عن كيفية العيش والحكم قد انتهى”. وتابع: “مأساة سوريا وُلدت من الانقسام، ونهضتها يجب أن تبدأ بالكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها. وهذا يبدأ بالحقيقة والمحاسبة، والعمل مع دول المنطقة لا الالتفاف عليها”.

وفي إشارة إلى التغير في طبيعة الدعم، أكد: “نقف إلى جانب تركيا والخليج وأوروبا – ليس بالقوات والمحاضرات أو الحدود المتخيلة، بل جنباً إلى جنب مع الشعب السوري.. مع سقوط نظام الأسد، بات الباب مفتوحاً للسلام – ومن خلال رفع العقوبات، نتيح للسوريين أخيراً فرصة عبور ذلك الباب نحو طريق الأمن والازدهار”.

 رغم شاعرية الخطاب فإنه لا ينفصل عن إشكالية جوهرية: فهو في الوقت الذي يدين فيه تقسيمات القرن العشرين، يغضّ النظر عن الجولان السوري المحتل. ففي عام 2019، اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسمياً بضم إسرائيل للجولان، في مخالفة واضحة لقرارات الشرعية الدولية، وعلى رأسها القرار 497 لمجلس الأمن. هذا الاعتراف لم يكن مجرد موقف رمزي، بل خطوة قانونية – سياسية تُكرّس تغييراً في حدود دولة ذات سيادة، بفعل قوة خارجية يتطابق مع جوهر سايكس-بيكو.

واستخدام باراك للتاريخ بهذه الطريقة يُضفي إيحاءً بحدوث تحول أو تجاوز للماضي، من دون أن يُرافقه أي تغيير حقيقي في أدوات السيطرة أو أنماط النفوذ. أما الحديث عن “الحلول الإقليمية” كمستقبل بديل، فيفترض وجود إقليم موحد ومنسجم، بينما الواقع يكشف عن تباين حاد في المصالح وتفاوت في مستويات التأثير والقدرة بين دول الجوار السوري.

من هو توماس باراك؟

يُعد توماس جوزيف باراك شخصية محورية في تقاطع عالم المال والسياسة الأميركية، فهو رجل أعمال ملياردير وصديق مقرب ومستشار للرئيس السابق (والحالي) دونالد ترامب. وُلد باراك في كاليفورنيا عام 1947. نشأ في كولفر سيتي حيث كان والده يمتلك متجر بقالة. تخرج من جامعة جنوب كاليفورنيا بدرجة بكالوريوس في التاريخ عام 1969، وبرز كرياضي في فريق الرجبي بالجامعة. واصل دراسته وحصل على درجة الدكتوراة في القانون من جامعة سان دييغو عام 1972، كما عمل محرراً لمجلة القانون في كلية الحقوق بجامعة USC.

بدأ باراك مسيرته المهنية كمحامٍ وعمل لفترة في مكتب المحامي الشخصي للرئيس نيكسون، هربرت كلومباك. لكن نقطة التحول المبكرة كانت في السبعينيات عندما أوفد إلى المملكة العربية السعودية للعمل هناك. هذه الفترة سمحت له باكتساب خبرة في المنطقة وتأسيس علاقات مع مستثمرين من الشرق الأوسط، كما ساهمت في تعلمه اللغة العربية بدرجة معينة من الطلاقة بفضل جذوره الشرق أوسطية وعمله في السعودية.

في عام 1985، دخل باراك قطاع الاستثمار العقاري الخاص. كانت أول صفقة بارزة له مع دونالد ترامب حين باعه حصة في سلسلة متاجر ألكسندرز. في عام 1990، أسس شركته الخاصة Colony Capital (التي عُرفت لاحقاً باسم Colony NorthStar ثم DigitalBridge). حققت شركته نجاحاً كبيراً في اقتناص الأصول والعقارات المتعثرة وتحويلها إلى أرباح، محققة عوائد بنحو 50% في أول عامين.

توسعت استثمارات باراك لتشمل مئات الملايين من الدولارات في العقارات بالشرق الأوسط وأوروبا، وشراء أصول معروفة مثل فندق بلازا في نيويورك ومنتجع “نيفرلاند” الخاص بمايكل جاكسون. كما دخل مجال الاستثمار الرياضي والإعلامي، حيث اشترى نادي باريس سان جيرمان الفرنسي لكرة القدم عام 2012 قبل أن يبيعه لجهاز قطر للاستثمار، واستحوذ على شركة ميراماكس للإنتاج السينمائي ثم باعها لجهات قطرية محققاً أرباحاً. هذه النجاحات أدخلته لفترة ضمن قائمة فوربس لأغنى أثرياء العالم، حيث احتل المرتبة 833 بثروة قدرت بـ 1.1 مليار دولار في 2011. ورغم تراجع ثروته عن عتبة المليار لاحقاً، ظل مؤثراً، خاصة في جذب رؤوس أموال خليجية وآسيوية لشركته.

صديق ترامب وجسره نحو الخليج:

لم يقتصر دور باراك على الأعمال، بل بنى شبكة علاقات سياسية قوية، أبرزها صداقته الطويلة مع دونالد ترامب التي تعود لثمانينيات القرن الماضي عبر صفقات عقارية. أصبح باراك أحد أبرز الداعمين الماليين لحملة ترامب الرئاسية عام 2016، حيث جمع التبرعات وساهم في التمويل. الأهم من ذلك، لعب دوراً كمستشار خلف الكواليس وحلقة وصل بين حملة ترامب وبعض قادة الشرق الأوسط. كشفت تقارير عن فتحه قنوات اتصال مع مسؤولين في الإمارات والسعودية، وتوصيته بتعيين بول مانافورت مديراً للحملة، وسعيه لترتيب لقاء بين مانافورت ومسؤولين خليجيين. هذا الدور جعله يُوصف بأنه “جسر ترامب نحو أمراء الخليج”، مستفيداً من علاقاته القديمة هناك، مثل صداقته وعمله السابق مع السفير الإماراتي يوسف العتيبة. سعى باراك لطمأنة المسؤولين الخليجيين حيال تصريحات ترامب المثيرة للجدل، واصفاً ترامب في رسالة للعتيبة بأنه “ملك المبالغة ويمكننا إرشاده نحو الحكمة” ومؤكداً حاجته لعقول عربية حوله.

بعد فوز ترامب عام 2016، ترأس باراك لجنة تنصيب الرئيس. ورغم التوقعات، نأى بنفسه عن تولي منصب رسمي بارز، ورفض عروضاً مثل وزير الخزانة. اقترح إنشاء منصب مبعوث رئاسي للتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط ليتولاه، لكن الفكرة لم تلق دعماً. عاد للتركيز على أعماله، واستفادت شركته Colony NorthStar بعد الانتخابات من الأجواء الإيجابية مع الحلفاء الخليجيين، مستقطبة أكثر من 7 مليارات دولار استثمارات، نحو 24% منها من صناديق سيادية ومستثمرين في الإمارات والسعودية.

قضايا قانونية وتبرئة مفاجئة:

على الرغم من نفوذه، واجه باراك متاعب قانونية كبيرة. في يوليو 2021، اتهمته وزارة العدل الأميركية بالعمل كعميل أجنبي غير مسجل لصالح الإمارات، والتآمر، وعرقلة العدالة، والإدلاء ببيانات كاذبة لمكتب التحقيقات الفدرالي (FBI). زعمت الوزارة أنه استغل نفوذه للتأثير على السياسات الأميركية لصالح دولة أجنبية من دون الإفصاح القانوني، وأن شركته تلقت مئات الملايين من الصناديق الإماراتية في أثناء سعيه للتأثير على مواقف ترامب.

تم اعتقاله في 2021 وأفرج عنه بكفالة ضخمة بلغت 250 مليون دولار. استمرت القضية حتى محاكمته أمام هيئة محلفين في نيويورك عام 2022. في نوفمبر 2022، برّأته هيئة المحلفين من جميع التهم. اعتبرت التبرئة مفاجئة للكثيرين نظراً لجدية التهم، ورأى محللون أنها أظهرت صعوبة إدانة شخصيات مقربة من الرئيس. طويت صفحة القضية من دون إدانة، مما أزال عقبة أمام تعيينه لاحقاً في مناصب رسمية.

تلفزيون سوريا

——————————-

عالم مستمر في التحول وموقع العرب بين الحاضر والماضي/ عدي محمد الضاهر

2025.05.29

في خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي، تعود الولايات المتحدة الأميركية اليوم إلى موقع الفاعل الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، لكن هذه العودة ليست كتلك التي اعتاد عليها العالم العربي في العقود الماضية.

لم تعد واشنطن تنظر إلى المنطقة من زاوية التدخل العسكري المباشر، أو من خلال فرض الإملاءات السياسية كما جرى بعد أحداث 11 سبتمبر أو غزو العراق، بل بدأت تتبنى منهجًا أكثر براغماتية، قائمًا على التفاعل الذكي وبناء الشراكات.

في قلب هذا التوجه الجديد، تظهر معالم ما يمكن تسميته بـ نظرية الاستدعاء الاستراتيجي وهي نظرية سياسية معاصرة اقترح فيها أن القوى الكبرى، حين تواجه تحديات عالمية جديدة، تميل إلى استحضار أدوات وتجارب سابقة أثبتت نجاعتها، لكن بعد تكييفها مع البيئة الجيوسياسية المستحدثة. ليست هذه عودة إلى الماضي بمعناه الحرفي، بل هي إعادة استخدام مُوجّهة واستباقية لما كان فعّالًا في سياقات قديمة، مع إعادة هندسته وفق المعطيات الراهنة.

من الحرب الباردة إلى الحرب على النفوذ الصيني …إعادة تفعيل نموذج الاحتواء

قبل أكثر من نصف قرن، واجهت الولايات المتحدة التوسع السوفييتي عبر استراتيجية محورية عُرفت باسم الاحتواء(Containment) وهي التي شكّلت العمود الفقري للسياسة الأمريكية خلال الحرب الباردة.

هذه الاستراتيجية لم تكن محض عداء أو صراع مباشر، بل كانت قائمة على تطويق النفوذ السوفييتي عبر تحالفات، قواعد عسكرية، دعم اقتصادي للدول الحليفة، وتعزيز منظومات الردع.

بدأت مع رسالة لدبلوماسي أميركي ” جورج كينان” ينصح بها الإدارة الأميركية في سياسة الاحتواء وطورها واستخدمها الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان.

اليوم، في عالم يوصف من قبل بعض المحللين السياسيين بعالم متعدد الأقطاب، تواجه الولايات المتحدة خصمًا استراتيجيًا عنيداً ، الصين، الصعود الصيني ليس عسكريًا بالدرجة الأولى، بل هو تمدد اقتصادي وتجاري وتكنولوجي عابر للحدود.

وهذا ما جعل واشنطن تُعيد استدعاء نموذج الاحتواء، ولكن بأساليب محدثة تتناسب مع طبيعة التحدي: حماية سلاسل الإمداد، تقوية النفوذ التكنولوجي الأميركي، تعزيز الشراكات الاقتصادية، والتصدي لتغلغل الصين في البنى التحتية للدول النامية.

وهنا تتجلّى “نظرية الاستدعاء الاستراتيجي”، فواشنطن لا تبتكر استراتيجية جديدة كليًا، لكنها تُفعّل تجربة تاريخية ناجحة بعد تكييفها مع متطلبات العصر.

الدول العربية: ساحة استراتيجية وشريك ضروري

لم يكن اختيار الولايات المتحدة للمنطقة العربية ضمن أولويات احتوائها للصين أمرًا عشوائيًا. فهذه المنطقة، التي تشكل قلب العالم من حيث الموقع الجغرافي والموارد الطاقوية، باتت مسرحًا لتقاطع النفوذ العالمي بين واشنطن وبكين.

الصين عززت حضورها في السنوات الماضية عبر مبادرة الحزام والطريق واستثمرت بشكل متسارع في موانئ، بنى تحتية، ومشاريع رقمية وطاقية في الخليج وشمالي إفريقيا. في المقابل، تعمل واشنطن الآن على استرجاع المبادرة من خلال تحالفات جديدة مبنية على التنمية المستدامة، التكنولوجيا المتقدمة، والطاقة المتجددة، وليس عبر منطق السيطرة أو الإملاء.

ترى واشنطن أن الشراكة مع الاقتصادات العربية، ودمجها في سلاسل الإمداد الغربية، وتقديم بدائل مغرية لنموذج الاستثمار الصيني، يمكن أن يعزز موقفها في هذه المعركة الاستراتيجية. كما تدرك أن زمن فرض الهيمنة بالقوة قد ولّى، وأن استقطاب الشعوب لا يتم بخطاب فوقي، بل عبر شراكة ذات مصداقية، وبطبيعة الأحوال تستند هذا العلاقة في مضمونها على تاريخ طويل من العلاقات السياسية والعسكرية مما يعطيها تفوق واضح على العلاقات مع الصين التي لطالما كانت تنأى بنفسها عن أي دعم سياسي للكثير من الدول العربية والإسلامية.

دونالد ترمب من خطاب الحملة إلى سياسة الدولة

لعلّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يُجسّد أوضح مثال على استخدام “الاستدعاء الاستراتيجي” بشكل مباشر وعلني. فمنذ حملته الانتخابية في 2016، جعل من الصين العدو الأول للولايات المتحدة، واتهمها بتقويض الاقتصاد الأميركي وسرقة التكنولوجيا وتهديد النفوذ العالمي لبلاده.

وبعد أن عاد إلى البيت الأبيض مرة أخرى في عام 2025، لم يتراجع عن هذا الخطاب، بل رسخ المرحلة الجديدة من رئاسته لتعزيز الاستقلال الاقتصادي الأميركي ومواجهة التوسع الصيني. في خطاب تنصيبه، وعد الأميركيين بأن زمن الضعف قد انتهى وأن بلاده ستستعيد مكانتها العالمية، ليس عبر الحروب، بل من خلال الردع الذكي والمنافسة العادلة.

هذا الربط بين الشعارات الانتخابية والسياسات الرسمية يعكس كيف يُفعّل ترمب بطريقة واعية نماذج سابقة من القوة الأميركية، ويعيد تقديمها في حُلة جديدة، تماشيًا مع فلسفة الاستدعاء الاستراتيجي التي اتمحور حولها.

دول العرب أمام مفترق طرق قد يعيد رسم ملامح المنطقة

الواقع أن الدول العربية تجد نفسها اليوم في موقف حساس. فمن جهة، هي مستفيدة من الاستثمارات الصينية في البنى التحتية والطاقة، ومن جهة أخرى، تعتمد بشكل كبير على الدعم الأمني والعسكري والتكنولوجي من الولايات المتحدة.

لكن النظر من هذه الزاوية فقط هو تبسيط مخل. فالعالم العربي ليس مجرد ملعب تتصارع فيه القوى العظمى، بل هو يملك لو أحسن استغلال الظرف القدرة على أن يتحول إلى لاعب حاسم في تحديد معالم النظام العالمي الجديد.

نظرية الاستدعاء الاستراتيجي لا تخصّ أميركا وحدها، بل يمكن أن تكون دليلًا عمليًا للدول العربية أيضًا: لماذا لا تُعيد الدول العربية بدورها استدعاء تجارب النهضة العربية، والتكامل الاقتصادي، والتحالفات الإقليمية المستقلة التي عرفتها في مراحل سابقة لماذا لا تستثمر هذا الصراع بين واشنطن وبكين لصالح تنميتها الذاتية، وبناء نموذجها الخاص في الشراكة الذي بدوره قد ينعكس على الكثير من الملفات التي أرهقت المنطقة منها ملف فلسطين أو ملف التمدد الإيراني نحو الدول العربية وقد تصل إلى حل لكل هذه الملفات بتوافقات ورؤى جديدة لايحتاج فيها العرب سوى إلى الدبلوماسية المرنة ووضع المصالح في الخانة الأولى

الخطاب الأميركي الجديد هل هو واقع سيستمر ام ضرورة مرحلة؟

في السنوات الأخيرة، بدأ الخطاب الأميركي تجاه العالم العربي يتغير. المسؤولون الأميركيون يؤكدون أن زمن التدخلات الأحادية قد انتهى، وأنهم يطمحون إلى شراكة قائمة على الاحترام المتبادل.

هذه اللغة الجديدة تعكس أيضًا نوعًا من الاستدعاء الخطابي، حيث تحاول واشنطن محو صورة الماضي المليئ بالأخطاء، وتقدم نفسها كشريك في بناء مستقبل المنطقة، لا كقوة مفروضة عليها.

لكن هذا الخطاب، رغم نبرته الإيجابية، لا يمكن فصله عن الهدف الأساسي مثل كسب تحالفات استراتيجية تضمن تطويق الصين، وتضمن عدم فقدان النفوذ في منطقة كانت لعقود طويلة ضمن نطاق الهيمنة الأميركية ومن هذا ينبغي للدول العربية أن تدرك بأن التعاون العربي المشترك هو الذي سيفرض على الولايات المتحدة أن تستمر في نهجها الإيجابي لطالما يحقّق مصالحها دون خسائر، وعليه يمكن حينها أن تبتعد أميركا عن الكثير من الدول التي تمارس سياسة الابتزاز تجاه الولايات المتحدة مثل ” إسرائيل”وهذا ما يمكن أن نراه خلال السنوات القليلة القادمة.

بين الاستدعاء والمبادرة

العالم يعيد ترتيب أوراقه، والقوى الكبرى لا تختلق دائمًا استراتيجيات جديدة، بل تلجأ إلى التاريخ لتستلهم منه حلولًا قابلة للتطبيق. هذا هو جوهر “نظرية الاستدعاء الاستراتيجي” التي نشهد تطبيقها في السياسة الأميركية تجاه الصين والعالم العربي.

لكن السؤال الجوهري يبقى: هل يكون العرب مجرد عنصر ثانوي في معادلة النظام الدولي الجديد التي بدأت إرهاصاته؟ أم أنهم قادرون على استدعاء تجاربهم الناجحة نسبياً أيضًا، والانتقال من دور المتلقي إلى دور المبادر والفاعل الرئيسي.

 ———————————–

اتفاق قطري تركي أميركي مع سورية لتطوير مشاريع طاقة بقيمة 7 مليارات دولار/ محمد كركص

29 مايو 2025

وقّعت الحكومة السورية، اليوم الخميس، مذكرة تفاهم مع تحالف شركات عالمية بقيادة شركة “يو سي سي” القابضة القطرية، لتطوير مشاريع توليد طاقة واسعة النطاق بقيمة تصل إلى 7 مليارات دولار، ضمن مبادرة “إحياء الطاقة في سورية”. ووُقِّعَ الاتفاق في قصر الشعب بدمشق، بحسب دعوة إعلامية صادرة عن الشركة.

ويأتي الاتفاق بعد يوم واحد فقط من إعلان الحكومة السورية توقيع اتفاقيات مع أربع شركات تهدف إلى توسيع شبكة الكهرباء في البلاد، بإضافة نحو 5,000 ميغاواط إلى الإنتاج الوطني، ما قد يؤدي إلى مضاعفة الإمدادات في بلد يعاني من أزمة كهرباء حادة منذ أكثر من عقد.

وبحسب بيان الشركة، فإنّ المشروع يتضمن تطوير محطات توربينات غازية ومزارع طاقة شمسية، وسيُنفَّذ من خلال شركتها التابعة “UCC Concession Investments”، التي ستتولى دور المطوّر الرئيسي. ويضم التحالف أيضاً شركات Kalyon GES Enerji Yatirimlari” ،Cengiz Enerji” التركيتين، و”Power International USA” الأميركية. ولم تعلّق شركة “يو سي سي” القابضة، التي يترأسها رجل الأعمال السوري-القطري معتز الخياط، ويشغل منصبها التنفيذي شقيقه رامز الخياط، على الخبر عند طلب ذلك من وكالة رويترز.

وتشمل المذكرة بناء أربع محطات غاز لتوليد الكهرباء تعمل بنظام الدورة المركبة بطاقة إجمالية تبلغ أربعة آلاف ميغاوات، بالإضافة إلى محطة طاقة شمسية بقدرة ألف ميغاوات في جنوب سورية. ويُتوقع أن يبدأ البناء بعد إبرام الاتفاقات النهائية والانتهاء من الاتفاق على الجوانب المالية، ومن المستهدف الانتهاء من البناء في غضون ثلاثة أعوام بالنسبة إلى محطات الغاز، وأقل من عامين لمحطة الطاقة الشمسية.

اتفاقية بين وزارة الطاقة السورية وشركة يو سي سي

وفي هذا السياق، قال وزير الطاقة محمد البشير، خلال مراسم التوقيع، إن سورية تعيش لحظة تاريخية في قطاع الطاقة، تشكل نقطة انطلاق لإعادة تأهيل البنية التحتية، وتحقيق اكتفاء تدريجي يعيد النور إلى المدن السورية ويعزز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

وأضاف أن الاتفاقية تهدف إلى ترسيخ التعاون والتكامل الإقليمي في مجال الطاقة، مع التركيز على تحفيز مشاريع الطاقة النظيفة والمتجددة، مشيراً إلى أن قيمة الاستثمار تبلغ 7 مليارات دولار، وستسهم في توليد 5000 ميغاواط من الكهرباء، ما سينعكس بشكل مباشر على زيادة ساعات التغذية الكهربائية وتحسين حياة السوريين في مختلف القطاعات.

وتتضمن الاتفاقية تطوير أربع محطات توليد كهرباء بتقنية التوربينات الغازية من نوع “الدورة المركبة” (CCGT) موزعة في دير الزور، ومحردة، وزيزون بريف حماة، وتريفاوي بريف حمص، باستخدام تقنيات أميركية وأوروبية متقدمة، بطاقة إنتاجية إجمالية تبلغ 4000 ميغاواط، إلى جانب إنشاء محطة طاقة شمسية بسعة 1000 ميغاواط في منطقة وديان الربيع جنوبي البلاد.

من جانبه، رأى الرئيس التنفيذي لشركة أورباكون القابضة، رامز الخياط، أن هذا المشروع يفتح صفحة جديدة من العمل المشترك في إطار إعادة إعمار سورية، مشيراً إلى أن الاستثمار في الطاقة يمثل حجر الزاوية لتحقيق الاكتفاء الذاتي وبناء نهضة اقتصادية مستدامة. وفي كلمة قبل مراسم توقيع الاتفاقية، أكد المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، توماس باراك، أن اللحظة الراهنة تُعد نقطة تحول نادرة في مسار العلاقات الثنائية، مشددًا على أن الإدارة الأميركية تضع كل ثقلها لدعم الحكومة السورية الجديدة.

ولفت إلى أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 13 مايو/أيار الجاري، برفع العقوبات المفروضة على سورية، كان خطوة جريئة تُمهّد الطريق أمام مرحلة جديدة من التعاون والانفتاح، واصفًا سورية بـ”أم الحضارات”، مؤكدًا أن رفع العقوبات لم يكن مجرد خطوة سياسية، بل ترجمة عملية لتوجه استراتيجي طويل الأمد.

وتعاني سورية حالياً من انقطاعات كهربائية تمتد لـ20 ساعة يومياً في العديد من المناطق، فيما لا تتجاوز ساعات التغذية في معظم المناطق المدينية ساعتين إلى ثلاث فقط. وتعهدت حكومة الرئيس السوري أحمد الشرع، التي تسلمت الحكم بعد إطاحة بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بتسريع وتيرة إصلاح البنية التحتية وتوفير الطاقة للسكان.

وتُقدّر وزارة الكهرباء السورية أنّ القدرة الإنتاجية الفعلية لا تتجاوز 2,500 ميغاواط، مقابل طلب محلي يومي يُقدّر بـ7,000 ميغاواط، فيما كانت القدرة الإنتاجية قبل الحرب عام 2011 تتجاوز 9,000 ميغاواط. ويُتوقع أن يُسهم المشروع الجديد في تقليص العجز الحاد الذي يثقل كاهل المواطنين والصناعات على حد سواء.

وكانت سورية تعتمد سابقاً على النفط الإيراني لتشغيل محطاتها، لكن الإمدادات توقفت بعد سقوط النظام. ومنذ مارس/ آذار الماضي، بدأت قطر، أحد أبرز منتجي الغاز الطبيعي المسال، بتوفير الغاز لمحطة التوليد الرئيسية في دمشق، في حل مؤقت لتخفيف الأزمة. ويواجه قطاع الكهرباء في سورية تحديات معقدة، أبرزها العقوبات الغربية، وخصوصاً “قانون قيصر” الذي يقيّد عمليات الاستيراد والتوريد في الصناعات الحيوية، ونقص الوقود وقطع الغيار، وغياب الصيانة. وتشير تقارير رسمية إلى أن أكثر من نصف محطات التوليد باتت خارج الخدمة، أو تعمل بكفاءة منخفضة، ما انعكس سلباً على القطاعات الاقتصادية كافة، ودفع إلى نشوء سوق سوداء للطاقة بسبب الاعتماد الواسع على المولدات الخاصة وارتفاع تكاليف التشغيل.

وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد أعلنت، الأسبوع الماضي، تخفيفاً فورياً للعقوبات المفروضة على سورية، في خطوة تهدف إلى دعم الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. وأصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية ترخيصاً عاماً يتيح تعليقاً مؤقتاً للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، مع الحفاظ على بعض القيود المتعلقة بالأفراد والكيانات المدرجة في قوائم العقوبات.

——————————

المبعوث الأميركي إلى سورية يدعو إلى “اتفاق عدم اعتداء” مع إسرائيل وفتح ملف الحدود/ عبد الله السعد

29 مايو 2025

دعا المبعوث الأميركي إلى دمشق توم باراك، اليوم الخميس، إلى “اتفاق عدم اعتداء” بين سورية وإسرائيل. وقال باراك لمجموعة صغيرة من الصحافيين في دمشق: “سورية وإسرائيل مشكلة قابلة للحل. لكن يتعين أن تبدأ بالحوار”. وأضاف: “أعتقد أننا بحاجة إلى البدء باتفاقية عدم اعتداء فقط، والحديث عن الحدود”.

وبخصوص العقوبات الأميركية، أكد باراك أن الولايات المتحدة سترفع سورية من قائمة الدول الراعية للإرهاب، قائلا إن هذه المسألة “انتهت مع زوال نظام الأسد”، لكن الكونغرس لديه فترة مراجعة مدتها ستة أشهر، ثم أضاف: “نية أميركا ورؤية الرئيس (دونالد ترامب) هي أنه يتعين علينا إعطاء هذه الحكومة الشابة فرصة من خلال عدم التدخل وعدم المطالبة وعدم وضع الشروط وعدم فرض ثقافتنا على ثقافتكم”.

وجرى تعيين باراك في منصب مبعوث بلاده إلى دمشق في 23 مايو/ أيار. وهو أيضا سفير الولايات المتحدة لدى تركيا. وأشار باراك إلى أن سورية تخضع لعقوبات أميركية منذ 1979. وطبقت بعض أشد تلك العقوبات في 2020 بموجب ما يسمى بقانون قيصر الذي قال إن الكونغرس لا بد أن يلغيه في غضون 180 يوما. وقال: “أؤكد لكم أن الشخص الوحيد الذي لديه صبر أقل منكم جميعا تجاه تلك العقوبات هو الرئيس ترامب”.

وكان الرئيس السوري أحمد الشرع قد التقى المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية توماس باراك، وذلك بعد أن رفع الأخير علم الولايات المتحدة على منزل السفير الأميركي في دمشق، تمهيداً لافتتاح السفارة. وذكرت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا”، أنّ اللقاء بين الشرع والمبعوث الأميركي جرى، اليوم الخميس، في قصر الشعب بالعاصمة دمشق.

افتتاح دار السفير الأميركي في دمشق بعد 13 عاماً

وشارك وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني باراك، في رفع العلم الأميركي على سكن السفير الأميركي في العاصمة دمشق، إيذاناً بعودة البعثة الدبلوماسية الأميركية رسمياً إلى البلاد بعد 13 عاماً من الانقطاع، وذلك بحضور ممثلين عن وزارة الخارجية والسفارة الأميركية وعدد من الدبلوماسيين والإعلاميين. ويقع المنزل والسفارة في منطقة أبو رمانة، الحي الراقي في دمشق الذي يضمّ معظم البعثات الدبلوماسية في العاصمة السورية.

العلم الأميركي فوق منزل المبعوث الأميركي إلى دمشق (العربي الجديد)

وكانت الولايات المتحدة قد أغلقت سفارتها في دمشق، في فبراير/ شباط 2012، بعد استخدام العنف من جانب نظام بشار الأسد ضد شعبه على إثر اندلاع الثورة السورية، ومنذ ذلك الحين انحصر التمثيل الأميركي في سورية بمهام غير مباشرة عبر دول الجوار. ويمثل افتتاح دار السفير خطوة تمهيدية لعودة السفير إلى ممارسة مهامه من داخل سورية، في سياق الانفراج الدبلوماسي الذي أعقب تشكيل الحكومة الجديدة، ما قد يشجع برأي مراقبين دولاً أخرى على إعادة افتتاح سفاراتها في دمشق.

وقبل أيام قال باراك، إنّ زمن التدخل الغربي في الشأن السوري قد انتهى، معتبراً أن رفع العقوبات سيمكن الشعب السوري من الانطلاق نحو مستقبل يسوده الرخاء والأمن. وأضاف المبعوث الأميركي، في منشور على صفحته بمنصة إكس، أنّ “الخطأ الذي ارتُكب قبل قرن، حين فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدوداً بالقلم، وأخضع الشرق الأوسط لحكم أجنبي، لن يتكرر”، في إشارة إلى اتفاقية سايكس-بيكو التي قسّمت سورية والمنطقة. وأكد باراك أن “عصر التدخل الغربي قد انتهى”، وأن المستقبل في سورية سيكون “للحلول الإقليمية، والشراكات، ولدبلوماسية تقوم على الاحترام”، وفق قوله.

————————–

الأسباب الحقيقة وراء زيارة الشرع المفاجئة لإسطنبول/  صالحة علام

29/5/2025

أثارت الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس المرحلة الانتقالية بسوريا أحمد الشرع لإسطنبول، ولقاؤه الرئيس أردوغان جملة من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول الأسباب التي دفعت الشرع إلى هذه الزيارة غير المدرجة على جدول أعمال الرئيسين، ولم يسبق الإعلان عنها بروتوكوليا كما جرت عليه العادة.

    الشروط الأمريكية لتنفيذ قرار رفع العقوبات عن سوريا

لتحديد الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذه الزيارة، ولمعرفة الملفات التي تم بحثها بين الجانبين، ولوضع تصور عن ما يمكن أن تحمله الأيام المقبلة من تطورات في المنطقة عموما، والداخل السوري على وجه الخصوص، يجب إمعان النظر بدقة في هوية المسؤولين الذين حضروا اللقاء من قادة أمنيين وعسكريين، إضافة إلى كل من وزراء الخارجية والدفاع، ومسؤولي جهازي الاستخبارات بالبلدين، إلى جانب التطورات التي شهدها الملف السوري دوليا، وإقليميا قبلها بأيام قليلة، وربما ساعات معدودة، وكانت دافعا إلى هذا التحرك السريع من جانب الشرع.

من هذه التطورات إعلان كل من الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي على التوالي رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وهو ما يعد تحولا كبيرا في نهج الغرب عموما اتجاه دمشق، لكن تنفيذ هذه الخطوة له شروط محددة تم وضعها أمام القيادة السورية، منها ضمان أمن إسرائيل، ومنع أية تهديدات يمكن أن تتعرض لها سواء من جانب الدولة السورية نفسها، أو من بعض المنتمين للتنظيمات الجهادية داخل سوريا.

مع عدم الاستعانة بأي عنصر من المقاتلين الأجانب الذين سبق لهم التعاون مع هيئة تحرير الشام، أو تعيينهم في مناصب قيادية داخل الإدارة السورية الجديدة، والمطالبة بتدمير جميع مخازن الأسلحة الكيميائية الباقية في سوريا، والتعاون بجدية في مكافحة الإرهاب.

    لقاءات سورية إسرائيلية مباشرة تحت رعاية تركيا

وهي الشروط التي يبدو أن الإدارة السورية قد قررت القبول بها، والبدء في تنفيذها بمساعدة تركيا، حتى يتسنى لها المضي قدما في عملية إعادة إعمار البلاد التي دمرتها الحرب، وإصلاح هيكل الاقتصاد، وتحديث البنية التحتية، لجذب الاستثمارات الأجنبية وإنعاش الأسواق، وتحسين الظروف المعيشية للسوريين.

ففي سابقة هي الأولى من نوعها تناولت وسائل إعلام دولية وإقليمية معلومات عن وجود لقاءات مباشرة بين مسؤولين سوريين وآخرين إسرائيليين تحت رعاية تركية، في باكو عاصمة أذربيجان، وهو ما ألمح إليه جدعون ساعر وزير خارجية دولة الاحتلال، الذي ثمن هذه الخطوة وأثنى عليها، لكونها تهدف إلى التوصل لاتفاق يحقق الاستقرار الأمني والسياسي للطرفين على حد زعمه.

وقد استدل البعض على صحة هذه المعلومات غير المؤكدة حتى الآن بموافقة أحمد الشرع على تحقيق رغبة إسرائيل، وتسليمها متعلقات الجاسوس الإسرائيلي إيلى كوهين، كبادرة حسن نية اتجاهها واتجاه ساكن البيت الأبيض.

كما أعلنت القيادة السورية عدم رغبتها في امتلاك أي أسلحة كيميائية، وتعهدت رسميا في اجتماع للمجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي بتدمير كافة المخزون الذي احتفظ به نظام الأسد سنوات.

    تداعيات تعيين الأجانب بوزارة الدفاع

العقبة الوحيدة الآن التي يحتاج فيها الشرع بشدة لحنكة أنقرة، وتحركها دبلوماسيا لرفع الحرج عنه أمام واشنطن تحديدا، وتنفيذ وعدها برفع العقوبات عن بلاده، تكمن في معضلة المقاتلين الأجانب الذين شاركوا معه في معركة تحرير سوريا من نظام الأسد.

خاصة أنه قام فعلا بتعيين عدد من هؤلاء الأجانب في مناصب قيادية بوزارة الدفاع، أبرزهم قائد الحرس الجمهوري عبد الرحمن الخطيب وهو أردني الجنسية، وقائد فرقة دمشق العسكرية عمر محمد جفتشي المعروف باسم “مختار التركي”، وهو تركي الجنسية، وتراجعه عن هذه التعيينات، وإقصاؤهم من مناصبهم يمكن أن يسبب له مشكلة يصعب حلها أو معالجة تداعياتها في الوقت الراهن، خاصة بين أولئك الذين يدينون بالولاء لهؤلاء القادة.

     تحركات مريبة لقوات سوريا الديمقراطية

إلى جانب هذه التطورات، كان قيام قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بتوسيع نطاق خريطة تحركاتها العسكرية في مناطق دير الزور، دافعا لتوجه الشرع صوب إسطنبول، خاصة بعد أن قامت قسد بإرسال المزيد من العناصر المسلحة، والمعدات العسكرية إلى المناطق الأكثر حساسية قرب حقول النفط، وعلى ضفاف نهر الفرات، إلى جانب التصعيد الأمني، وهو التحرك الذي يخالف الاتفاق الذي سبق توقيعه في مارس/آذار الماضي بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي.

كما كان للمباحثات التي أجراها إبراهيم كالن رئيس جهاز الاستخبارات التركي مع المسؤولين في دمشق دور في قرار القيام بهذه الزيارة، بعد أن تم بحث العديد من الملفات الأمنية ذات الحساسية بالنسبة لتركيا، لارتباطها بتطورات القضية الكردية لديها، وعملية السلام التي تقودها الحكومة مع عناصر حزب العمال الكردستاني، وانعكاسات هذا الأمر على وضع قسد، وآليات تسليم هذه العناصر لسلاحها، ودمجها ضمن وحدات الجيش والقوات الأمنية السورية.

إضافة إلى عودة الحديث مجددا عن مصير مقاتلي داعش وأسرهم المحتجزين في مخيم الهول، الذي يضم وفق تقارير لعدد من منظمات حقوق الإنسان أكثر من 35 ألف شخص، معظمهم من زوجات وأبناء مقاتلي التنظيم الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، إلى جانب منطقة السجون والمعتقلات التي تضم ما يقارب 9 آلاف من المشتبه في كونهم من عناصر داعش، حيث لا يزال وضع هؤلاء وأولئك، والجهة التي ستتولى إدارة هذا الملف في المرحلة اللاحقة غير واضح.

في ظل التصريحات التي تصدر عن قيادات بقسد تؤكد أن الاتفاق مع حكومة دمشق يخص فقط آلية إجلاء المواطنين السوريين إلى المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الكردية، وليس تسليم إدارة المخيم لدمشق، وهو ما يتعارض مع المقترح التركي الذي تم إبلاغه لواشنطن، والخاص بضرورة تسليم المخيم والسجون الملحقة به للحكومة السورية مع إمكانية تقديم أنقرة المساعدة اللازمة عند الاحتياج إليها.

    خطط أمنية تركية سورية للقضاء على تهديدات داعش

ولوضع حل نهائي لهذه المسألة التي تقلق بال دمشق خشية عودة تهديد داعش، وعدم القدرة على مواجهة تهديدات التنظيم كان لا بد من التفاوض المباشر مع أنقرة لوضع آليات محددة للترتيبات الأمنية لكونها المعنية بصورة خاصة بمسألة تمكين دمشق من تولي المسؤولية الأمنية عن حدود الدولة السورية، خاصة في ظل رغبة واشنطن في سحب قواتها من الأراضي السورية.

تشمل هذه الترتيبات تسليم سجون داعش ومعسكرات الاحتجاز للجهات الأمنية المعنية، وتحديد المهام التي ستوكل إلى اللجنة التي تم تشكيلها، وتضم إلى جانب تركيا الولايات المتحدة وسوريا والعراق لبحث مصير مقاتلي داعش في معسكرات الاعتقال التي تديرها قسد منذ سنوات.

مع وضع الخطط الكفيلة بإدماج المكون الكردي السوري في المجتمع، بما يضمن إغلاق الحديث نهائيا عن طبيعة الحكم في سوريا سواء كان مركزيا أو لا مركزيا، والإسراع في عملية نزع سلاح قوات سوريا الديمقراطية، وضمها ضمن وحدات الجيش السوري، لضرب عصفورين بحجر واحد، ضمان وحدة الأراضي السورية، وحماية أمن تركيا القومي، وتبديد مخاوفها.

المصدر : الجزيرة مباشر

 كاتبة وصحفية مصرية مقيمة في تركيا

حاصلة على الماجستير في الاقتصاد.عملت مراسلة للعديد من الصحف والإذاعات والفضائيات العربية من تركيا

الجزيرة

—————————————

المجموعة الدولية للأزمات: استقرار سوريا بعد الأسد رهن بالإصلاح والدعم الخارجي

ربى خدام الجامع

2025.05.27

نشرت المجموعة الدولية للأزمات تحليلا ذكرت فيه أن المرحلة التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول 2024 شهدت خطوات سياسية جريئة في سوريا، تمثلت بتشكيل حكومة أكثر تمثيلاً، واعتماد إعلان دستوري مؤقت، إلى جانب اتفاق تاريخي مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لإدماجها ضمن الجيش الوطني.

لكن التقرير حذّر في المقابل من تحديات أمنية عميقة، و”تصاعد للعنف الطائفي”، وتوترات داخلية وخارجية تهدد بتقويض مسار الانتقال.

يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة برفع العقوبات الغربية عن سوريا سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الجهة الناشرة له ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي ومراكز الأبحاث للملف السوري، دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.

وفيما يلي ترجمة تلفزيون سوريا لهذه المادة:

منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في كانون الأول 2024، حقق قادة سوريا الجدد مكاسب مهمة وتعرضوا لتحديات متزايدة، وهم يحاولون توجيه البلد نحو التعافي، إذ خلال شهر آذار، وضع هؤلاء القادة حجري أساس مهمين، إذ شكلوا حكومة انتقالية جديدة أكثر تنوعاً، وأطلقوا إعلاناً يعتبر بمنزلة دستور مؤقت للبلد. وفي سياق منفصل، توصل هؤلاء القادة لاتفاقية مع القادة الكرد في شمال شرقي سوريا تقضي بدمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أي تلك الجماعة التي تسيطر على معظم أنحاء تلك المنطقة منذ عام 2015، ضمن الجيش الوطني الجديد، مع توسيع رقعة سيطرة الدولة ىالمركزية لتشمل تلك المناطق. كما ساعدت حملة دبلوماسية سحرية السلطات الجديدة على تكوين حالة دعم في العواصم الأوروبية وغيرها، والتي تجلت في أبهى صورها باجتماع ضم الرئيس الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب في 14 أيار الجاري، تعهد خلاله ترامب برفع واشنطن للعقوبات عن سوريا كونها خنقت الاقتصاد السوري وجعلته بحاجة ماسة للإنعاش. ومنذ ذلك الحين والاتحاد الأوروبي يحاول أن يقدم على التزام مماثل بالتماشي مع ما قدمته واشنطن.

بيد أن السلطات الجديدة ما فتئت تتعرض لمشكلات جسيمة، بعضها كانت هي السبب فيه، ولهذا ما يزال الشركاء في الخارج يحملون شيئاً من القلق تجاه الشرع والدائرة المقربة المحيطة به والتي استأثرت بالسلطة لنفسها، وذلك بالنسبة لمدى انفتاح تلك الفئة على تكوين حكومة تمثل الشعب السوري بحق. وخلال شهر آذار الماضي، شهدت المناطق الوسطى والساحلية في سوريا تفجراً للعنف الطائفي، ما أكد على وجود توتر قد يسهم في إخراج الجهود الرامية لتعزيز سلطة الدولة عن مسارها، كما أوضح بأن الحكومة المركزية تفتقر إلى القيادة والسيطرة على شطر كبير من جهاز الأمن. أما إسرائيل، ومن خلال حرصها على حماية خاصرتها الشمالية، فقد دمرت معظم الإمكانيات العسكرية السورية، واحتلت المنطقة العازلة التي تمتد على الحدود الجنوبية لسوريا، كما نفذت هجمات متواصلة طالت سلسلة واسعة من الأهداف السورية. وإلى أن تترجم الوعود برفع العقوبات إلى حقائق وأفعال، ستبقى تلك العقوبات تمثل عقبة كبيرة أمام العملية الانتقالية بعد رحيل الأسد.

وحتى يدعم الاتحاد الأوروبي عملية انتقال سلمية في سوريا، ينبغي عليه هو والدول الأعضاء فيه القيام بما يلي:

    حث دمشق على تشكيل حكومة تمثل السوريين تمثيلاً حقاً، بوجود مشاركة أكبر للنساء، إلى جانب تشجيع دمشق على التعاون مع الأمم المتحدة في صياغة دستور جديد للبلد.

    المساهمة في تعزيز الثقة بقوات الأمن السورية وبالدولة السورية بصورة أوسع، ويشمل ذلك حث السلطات الجديدة على التفكير بأمر إعادة رجال الشرطة الذي خضعوا لتفتيش أمني بعد أن خدموا أيام نظام الأسد، إلى جانب الدفع من أجل المحاسبة على الجرائم التي ارتكبتها القوات التابعة للدولة في آذار الماضي، ومواصلة الخطط الرامية لزيادة الدعم المخصص لإنعاش سوريا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، مع تقديم المساعدة التقنية لتعزيز الإمكانيات الموجودة لدى المؤسسات التابعة لعدة وزارات.

    رفد الجهود الساعية لإدماج قسد ضمن قوات الأمن التابعة للدولة، مع خفض تصعيد النزاع القائم بين قسد والقوات المدعومة تركياً والتي تندرج تحت مسمى الجيش الوطني السوري، إلى جانب تسريع عملية إجلاء المواطنين الأوروبيين المحتجزين في مخيمات تحرسها قسد بتهمة الانضمام لتنظيم الدولة.

    المشاركة في عملية دبلوماسية قائمة على التنسيق في بداية الأمر، ومنع إسرائيل من القيام بالعمليات التي من شأنها زعزعة الاستقرار في سوريا، ثم منع زيادة التصعيد بين إسرائيل وتركيا في سوريا.

    تطبيق القرار السياسي الذي أصدرته الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على جناح السرعة، والذي يقضي برفع ما تبقى من العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، مع توفير المعلومات وخلق المحفزات التي تدفع المشاريع التجارية إلى الاستثمار في سوريا.

الديناميات السياسية والأمنية

خلال الأشهر الستة التي أعقبت سقوط الأسد، سعت السلطات الجديدة في دمشق جاهدة لترسيخ سلطتها، ونشر الاستقرار في البلد، وإطلاق عملية انتقال سياسي فيها، على الرغم من النتائج المختلطة التي حققتها على هذا الصعيد. إذ في 29 كانون الثاني، نصب الشرع رئيساً مؤقتاً خلال “مؤتمر النصر”. ثم حلت الهيئة وغيرها من الفصائل نفسها، إلى جانب كامل قوات الأمن التي تعود لحقبة الأسد، لتفتح الطريق أمام تشكيل جهاز أمن جديد. وفي شباط، عقدت الحكومة المؤقتة مؤتمر الحوار الوطني والذي يهدف إلى إطلاق عملية سياسية جامعة لكن هذا المؤتمر كان أقل من التوقعات بكثير.

بعد ذلك، وقع الرئيس الشرع على الإعلان الدستوري في 13 آذار، فوضع بذلك إطار عمل قانوني لفترة انتقالية تمتد لخمس سنوات كما رسخ سيطرته على السلطة. وعند صياغة الإعلان الدستوري، تلقت السلطات المقترحات التي رفعتها الأمم المتحدة، وخاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي تلك الأثناء، شرع الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني بحملة دبلوماسية مكوكية مع نظرائهم الأجانب، سواء في العالم العربي أو في أوروبا، فحققوا بذلك خطوات مهمة ونوعية باتجاه تقبلهم على المستوى الدولي، كان آخرها تلك الخطوة المهمة التي تمثلت باللقاء التاريخي بين الشرع وترامب في الرياض في 14 أيار الجاري.

مثل الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة في 29 آذار مدى استعداد القادة الجدد لتمثيل شرائح واسعة من الشعب السوري ضمن جهاز الحكم، إذ شملت الحكومة الجديدة ممثلين عن الطائفة العلوية والمسيحية والإسماعيلية والكردية والدرزية، إلى جانب شخصيات من المجتمع المدني والتكنوقراط وشخصيات حملت حقائب وزارية في حكومة الأسد قبل الحرب. ولكن، وعلى الرغم من الآمال التي حملتها التشكيلة الوزارية التي تعبر عن تمثيل أكبر، حصل الثقات لدى الشرع على حقائب الداخلية والخارجية والدفاع والعدل والطاقة، ما يعني استئثارهم بالمناصب التي تتمتع بسلطة تنفيذية أعلى، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشخصيات الرفيعة السابقة في الهيئة بقيت في مواقع السلطة التي تتصل بعدة مجالات. وكان من بين الوزراء المعينين امرأة واحدة هي هند قبوات التي شغلت منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، على الرغم من تعهد الشرع بدعم مشاركة المرأة.

ثم إن غياب الأمن بصورة عامة مايزال يمثل مصدر قلق كبير، وذلك لأن التركة التي خلفتها الحرب السورية والتي تشمل الدمار الاقتصادي وتهتك النسيج الاجتماعي السوري، خلقت ظروفاً مواتية أمام عودة العنف. وفي الوقت ذاته، سعت القوات الحكومية المنهكة جاهدة للرد بطريقة فاعلة على أعمال القتل والاختطاف والسلب، غير أن الهجمات التي استهدفت العلويين نظراً لارتباطهم بالنظام البائد، والقتال الذي دار مؤخراً بين الجماعات المسلحة السنية والدرزية، جعل الأقليات تحس بتهميش أكبر وخطر

ثم إن العنف الذي اشتعل في وسط سوريا وفي المنطقة الساحلية في مطلع شهر آذار أدى إلى تراجع مكانة الحكومة على المستويين المحلي والدولي، إذ في السادس من آذار، شن متمردون موالون للأسد هجمات نسقوا لها واستهدفت قوات الأمن التي شكلتها الحكومة منذ فترة قريبة داخل المدن الساحلية كما استهدفت سيارات المدنيين والطريق السريع الذي يربط مدينة اللاذقية بإدلب في شمال غربي البلد. ولقد دفع عداد القتلى الكبير دمشق إلى إرسال تعزيزات ضمن حملة مضادة ضمت فصائل مسلحة اندغمت بصورة اسمية ضمن الجيش الجديد، لكنها حافظت على استقلاليتها في القيادة والسيطرة. كما انضمت عصابات من المطالبين بالثأر والانتقام لتلك الاضطرابات، وخلال الأيام التي أعقبت ذلك، أمعنت عناصر غير منضبطة من كلا الفئتين الأخيرتين تقتيلاً في أهالي قرى اللاذقية وطرطوس وحماة وأحيائها، وذلك انتقاماً منهم على ما ارتكبه نظام الأسد من جرائم، والتي يحمّل بعض السوريين كامل العلويين مسؤوليتها.

وعند عودة النظام من جديد، تبين بأن ما يقرب من 900 مدنياً علوياً قد قتلوا في تلك الأحداث، بينهم أكثر من مئة امرأة وطفل، في حين فر أكثر من 30 ألفاً إلى لبنان، وعليه، فإن أغلب سكان الساحل السوري الذين أدانوا تصرفات العناصر الموالية للأسد حملوا المسؤولية للحكومة في فشلها بحمايتهم. وعقب أحداث العنف، تعهد الشرع بمحاسبة المسؤولين عنها، ثم شكل لجنة لتقصي الحقائق كلفها بتوثيق الانتهاكات ووضع توصيات بشأن إجراءات المحاسبة، ومن المقرر أن ترفع نتائج هذا التحقيق في تموز القادم.

إلا أن التحديات التي تواجهها الحكومة أكبر من تلك المتعلقة بضمان المحاسبة على الجرائم التي ارتكبت في آذار، وذلك لأن الجرائم التي ارتكبتها قوات تابعة للدولة سلطت الضوء على وجود ثغرات كبيرة في سيطرة دمشق على الفصائل المسلحة التابعة لها، كما بينت بأن الحكومة الجديدة خلقت مشكلة جديدة عندما حلت قوات الأمن القديمة، وذلك عندما سرحت من العمل آلاف الشبان المتضررين الذين يتمتعون بخبرة قتالية وسهولة على الوصول إلى الأسلحة. ومع ندرة فرص العمل المتاحة، شكل هؤلاء سلسلة جاهزة من المجندين الذين بوسع الموالين للنظام البائد الاستفادة منهم في أي ثورة أو تمرد قد يحصل مستقبلاً، ثم إن دمج تلك العناصر غير المنضبطة التي أصبحت اليوم جزءاً من قوات الأمن التابعة للدولة ضمن قوة متماسكة تخضع لانضباط ملائم لن تكون مهمة سهلة، طالما بقيت الدولة تسعى جاهدة وهي مكبلة بالعقوبات لدفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وهذا ما جعل كثيرين من حملة السلاح يعتمدون على مصادر أخرى للدخل.

 إن عدم وجود سلسلة قيادة وتحكم واضحة بالنسبة للعناصر المسلحة التابعة للحكومة يمكن أن يتسبب بظهور موجات عنف جديدة وبكل سهولة، إذ في أواخر نيسان الماضي، تصاعدت وتيرة العنف بسرعة متحولة إلى اقتتال عنيف إثر هجمات شنتها جماعات مسلحة موالية للحكومة على ضواحي ذات غالبية درزية بالقرب من دمشق، وقد كان السبب وراءها تسيجل صوتي نسب فيه صوت المتحدث إلى شخصية قيادية درزية وهي تشتم النبي محمد، ثم وصلت الاشتباكات إلى محافظة السويداء الجنوبية ذات الغالبية الدرزية، ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص خلال ثلاثة أيام. وفي الوقت الذي تراجع الاضطراب في نهاية المطاف، فإن ما آلت إليه الأحداث سلطت الضوء على سرعة تحول أي توتر محلي إلى عنف يمتد على نطاق واسع.

هذا ويخلق الوضع الأمني تحديات كبيرة بالنسبة للنساء على وجه الخصوص، لأنه يقيد تحركاتهن في أغلب الأحيان، كما أنهن ضحية لأحداث الاعتقال العشوائي المتصاعدة ناهيك عن المضايقات التي يتعرضن لها. إذ في غياب أي رد فعال من طرف الحكومة، صار الأهل يلجأون في أغلب الأحيان لوسائل التواصل الاجتماعي من أجل المناشدة بهدف إعادة بناتهن المفقودات، بيد أن هذه المناشدات التي توجه لعامة الناس قد تعرض النساء وأهاليهن لمزيد من المضايقات، كما أن بعض المسؤولين المحليين تصرفوا باستقلالية هم أيضاً عندما تقدموا بإجراءات تقيد النساء في بعض المجالات العامة وبيئات العمل، أو تلك التي تعنى بفصل الرجال عن النساء في الحافلات والمشافي والمحاكم. بيد أن السلطات كانت تتراجع في معظم الأحيان عن تلك الإجراءات بعد أن يحتج الشارع عليها بشكل كبير.

شمال شرقي سوريا

عندما عقدت دمشق اتفاقاً مع قسد في العاشر من آذار الماضي، تأمل كثيرون بأن تكون هذه خطوة مهمة نحو ترسيخ الاستقرار في سوريا، وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية لم تفصّل كثيراً في بنودها، فإنها ألزمت كلا الطرفين بدمج قوات قسد المسلحة ومؤسساتها المدنية ضمن الدولة المركزية قبل نهاية عام 2025. ويعتبر ذلك بالنسبة لدمشق فرصة لاستعادة سلطة الدولة في شمال شرقي سوريا، حيث يتركز معظم النفط السوري، إلى جانب استعادة الدولة لمصداقيتها بعد أحداث العنف التي وقعت في مطلع آذار. ولكن بالنسبة لقسد، فإن هذه الاتفاقية حدت من التهديد التركي الذي يعتبرها امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي صنفته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كتنظيم إرهابي والذي بقيت أنقرة تحاربه على مدار عقود، لكنه أعلن منذ فترة قريبة عن حل نفسه. وهذه الاتفاقية تفتح السبيل أمام قسد نحو المشاركة السياسية في النظام بعد الحرب، ولكن ماتزال هنالك تساؤلات مهمة بقيت بلا إجابات، وعلى رأسها مدى لامركزية الدولة السورية مستقبلاً، والآليات التي ستم بموجبها عملية الدمج.

شكل كلا الطرفين لجنة خاصة به حتى تبدأ بالمهمة الشاقة المتمثلة بوضع التفاصيل الخاصة بما يمكن أن يتحول إلى سلسلة معقدة من المفاوضات قد تمتد لأشهر. وقد نجح الاتفاق المبدئي حتى الآن في خفض تصعيد الاقتتال بين قسد وفصائل الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً والذي قتل مئات الناس، أغلبهم مقاتلين، وذلك خلال الفترة ما بين شهري كانون الأول وشباط. وفي نيسان الماضي، ركزت المحادثات المستمرة بين دمشق وقسد على بؤر التور في الشمال السوري، ثم اتفق الطرفان في حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، على خطوات مرحلية باتجاه إزالة المظاهر العسكرية من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية التي تخضع لسيطرة قسد، إلى جانب دمجهما من جديد ضمن باقي أجزاء حلب. ومن المتوقع للمحادثات حول سد تشرين المتنازع عليه والمقام على نهر الفرات أن تتمخض عن اتفاقية واضحة، بيد أن تلك المحادثات خففت حتى الآن من خطر وقوع قتال من أجل تلك المنشأة التي تعتبر ضرورية من أجل توليد الطاقة والمياه في البلد. كما بدأ الطرفان في مناقشة أمور قطاع التعليم، على الرغم من أن أهم عقبة ذلك هي تضييق الفجوات المعنية بدمج الهياكل الحكومية والأمنية والعسكرية.

وفي تلك الأثناء، بقيت قسد تحرس المقرات التي تؤوي مقاتلي تنظيم الدولة المحتجزين هم وعائلاتهم، بينهم نحو أربعين ألفاً في مخيم الهول، كما بينهم آلاف الأجانب من حملة الجنسيات الأوروبية، ناهيك عن الأطفال الذين يحمل أهاليهم جنسيات أوروبية. وفي الوقت الذي تبنت واشنطن نهجاً استباقياً بالنسبة لإجلاء مواطنيها، تأخرت معظم الدول الأوروبية عن القيام بتلك الخطوة، ما جعل السلطات المحلية تتحمل عبء تأمين مقرات الاحتجاز، وفي حال تدهور الظروف في تلك المخيمات بعد تخفيض المساعدات الذي أقر مؤخراً، أو في حال سحب القوات الأميركية، فمن المرجح أن تحدث إثر ذلك اضطرابات قد تشمل حالات شغب جماعية إلى جانب محاولات للهروب من تلك المقرات.

وفي المنطقة الشرقية بالبادية، ماتزال خلايا تنظيم الدولة تختبئ ضمن مساحات شاسعة لا تخضع لسيطرة الدولة، كما أنها تعتمد على قدرتها في المناورة لتعزيز إمكانياتها في مجال التحضير لشن هجمات مستقبلاً، ويخبرنا أهالي تلك المنطقة بأن تنظيم الدولة يحاول وبصورة فعلية أن يجند أتباعاً جدداً له، في حين ذكرت مصادر من قوات الأمن القديمة والحالية بأن تنظيم الدولة يستقطب شخصيات قيادية صاحبة خبرة جرى تحريرها من سجون نظام الأسد، ولكن خلال الوقت الراهن، ما يزال التحالف لمحاربة تنظيم الدولة الذي تقوده الولايات المتحدة يسهم في إبعاد الجهاديين عن المشهد.

التدخلات الإسرائيلية

ظهرت إسرائيل كأشد قوة خارجية عملت على زعزعة استقرار سوريا بعد سقوط الأسد، وذلك لأنها استراتيجيتها تقوم على استباق أي احتمال لظهور خطر أمني قد يهدد حدودها الشمالية الشرقية مستقبلاً. كما أبدت إسرائيل قلقها تجاه تنامي قوة ونفوذ تركيا داخل الحكومة السورية الجديدة، بما أن إسرائيل تعتبر تركيا منافسة لها في المنطقة. ولذلك حافظت إسرائيل على موقفها على الرغم من تطمينات الشرع وغيره لها وتعهدهم بعدم وجود أي نية لديهم باستعدائها.

وعلى الصعيد العسكري نشطت إسرائيل إلى حد بعيد، إذ فور سقوط نظام الأسد، تحرك الجيش الإسرائيلي إلى المنطقة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان والتي أقيمت في عام 1974، وأعلن عن قيام منطقة عازلة تمتد قبالة الجنوب السوري، وحظر على القوات السورية الدخول إلى تلك المنطقة، ثم أعلن مسؤولون إسرائيليون كبار عن نية إسرائيل بإبقاء قواتها متمركزة في تلك المنطقة لأجل غير مسمى. وفي تلك الأثناء، أخذت الطائرات الحربية الإسرائيلية تدك مواقع في سوريا، فدمرت سلاح الجو فيها، كما دمرت سلاح البحرية والأسلحة الثقيلة. ومنذ فترة قريبة، شن سلاح الجو الإسرائيلي غارة بالقرب من القصر الرئاسي في سوريا موجهاً بذلك رسالة واضحة للحكومة السورية مفادها أن إسرائيل لن تسمح للقوات السورية بالانتشار جنوبي العاصمة. وبالتوازي مع ذلك، حرصت إسرائيل على تأييد الطائفة الدرزية لها في جنوب غربي سوريا، بعد أن وعدت أبناء تلك الطائفة بتقديم الحماية لهم. وعبر قيامها بذلك، أخذت تتودد لحلفائها في الداخل، وتدق إسفيناً بين هذه الطائفة وبين السلطات الموجودة في دمشق.

ولهذا، وفي الوقت الذي أخذت الحكومة الجديدة في دمشق بتلمس موضع قدميها، كانت ممارسات إسرائيل وعملياتها قد أضعفت حكام سوريا الجدد وهددت بإعادة سوريا إلى أحد السيناريوهات التي أعلنت الحكومة عن رغبتها في تجنبه، والذي يتمثل إما بتأجيج حالة الإضطراب بشكل يساعد المقاتلين الجهاديين على استغلال الوضع أو دفع الحكومة الجديدة في دمشق إلى التقرب من أنقرة.

عبء العقوبات

في وقت يلوح معه تخفيف العقوبات في الأفق، مايزال الاقتصاد السوري يعاني من حالة اختناق بسبب سلسلة كبيرة من العقوبات التي فرضتها عليه الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتعتبر العقوبات الأميركية هي الأشد، على الرغم من أن جميع العقوبات ألحقت أضراراً بالاقتصاد السوري، وتلك العقوبات كانت ستلحق مصيبة بالبلد الذي يعيش 90% من سكانه في فقر من دون وجود أي شريان يمدهم بالحياة. فقد كان النظام البائد يعتمد على إيران وروسيا لدعم ميزانيته، كما كان يستعين بالعائدات التي توفرها إمبراطورية المخدرات غير المشروعة التي أقامها والتي كانت تدر على آل الأسد مليارات الدولارات، غير أن السلطات الجديدة في دمشق ليس لديها أي مصدر للكسب بسهولة، ناهيك عن الضغط المتصاعد الذي تتعرض له من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، والتي تبدأ بدفع رواتب العاملين في القطاع العام وتنتهي بتأمين ما يكفي من الوقود والكهرباء. وفي حال تعثر تلك السلطات في تأدية تلك المهام، فإنها ستخسر شرعيتها، وهذا ما سيستغله المفسدون سواء في الداخل أم في الخارج.

جرى تحقيق تقدم بالنسبة لتخفيف هذا العبء عن سوريا، إذ في العشرين من أيار، وبعد مرور ستة أيام على إعلان ترامب تخفيف العقوبات عن سوريا، لحق به الاتحاد الأوروبي عبر قرار يقضي برفع ما تبقى من العقوبات الاقتصادية عن هذا البلد، مع إبقاء العقوبات المفروضة على نظام الأسد أو على الأسلحة والتقانة التي يمكن أن تستخدم لقمع الشعب في الداخل. وأكدت بروكسل على قدرتها على التراجع عن تلك الخطوات، مع مراقبتها للوضع السوري عن قرب، ويشمل ذلك مراقبة مدى التطور الحاصل في ملف المحاسبة وذلك فيما يخص أحداث العنف الأخيرة. ولكن يجب التركيز اليوم على تطبيق هذه القرار، بالإضافة إلى ضمان اتخاذ الدول التي ترفع العقوبات لخطوات مناسبة مكملة لتلك العملية وذلك من أجل التشجيع على الاستثمار في الاقتصاد السوري بما أنه بات بحاجة ماسة لذلك.

ما الذي بوسع الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فعله ؟

بوسع الاتحاد الأوروبي بل ينبغي على الدول الأعضاء فيه أن تتحول إلى شريكة لسوريا خلال مرحلة التعافي والانتعاش، إذ على الرغم من أن دمشق لم تحقق من التقدم سوى النزر القليل مما كان مأمولاً منها وذلك بالنسبة لتعزيز عملية الانتقال السياسية الجامعة لكل السوريين، ومن المؤكد أن تلك مهمة صعبة بالنسبة لبلد خرج لتوه من حرب مدمرة امتدت لأكثر من عقد، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل إلحاحه وأن يستمر في دفع هذا البلد نحو هذا الاتجاه، فلقد أبدى قادة سوريا الجدد استجابتهم لهذا الضغط في السابق، سواء خلال فترة حكمهم لإدلب خلال الحرب، أو منذ أن تولوا زمام أمور البلد في دمشق. ومن ضمن تلك الجهود، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل دعم منظمات المجتمع المدني السورية وإسماع أصوات المعارضة بصورة أكبر بعد أن تحدثت عن توجهات السلطات في مجال الإقصاء، وطالبتها بتحسين أدائها. كما ينبغي على الاتحاد الأوروبي التشديد على أهمية مشاركة المرأة في القيادة، ولذلك يجب عليه تشجيع الحكومة المؤقتة على مواصلة تعاونها مع الأمم المتحدة، وخاصة فيما يتصل بصياغة دستور جديد.

ثانياً، يجب على الاتحاد الأوروبي الاستثمار في تعزيز قطاع الأمن وصفوف قواته، ويمكن له تشجيع دمشق على إعادة جهاز الأمن الذي اعتمد أيام النظام البائد بعد إجراء فحص أمني لكوادره كافة، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يحقق تقدماً في مجال المخططات الساعية لتوسيع نطاق برامج المساعدات الإنمائية، وخاصة فيما يتصل بدعم التعافي الاقتصادي بسوريا، وذلك عبر دعم مجال خلق فرص عمل مثلاً، أو في مجال الرعاية الصحية أو التعليم، ويجب على الاتحاد الأوروبي أن يبحث في فرصة دعم قدرة الدولة على دفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وذلك بهدف الاحتفاظ بالكوادر الحالية إلى جانب توظيف كوادر جديدة، وذلك عبر التنسيق بشكل وثيق مع العناصر الفاعلة الدولية الأخرى. وينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يخلق حالة توازن دقيقة بين ميله لفرض شروط على الدعم تقوم على تحقيق تقدم في الأمور السياسية والأمنية وبين الحقيقة القائلة بإن إمكانيات الدولة بحد ذاتها تعتبر شرطاً ضرورياً لتحقيق تلك الأهداف. وبالتوازي مع كل هذا، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل البحث في نوع المساعدة التقنية التي بوسعه تقديمها من أجل إعادة بناء إمكانيات الدولة، مثل تلك التي تقدم في مجال الأمن أو المصارف. ويجب على الاتحاد الأوروبي التأكيد على أهمية التزام الدولة بما تعهدت به وذلك في مجال فتح تحقيق بأحداث آذار وضمان محاسبة مرتكبي تلك الجرائم.

ثالثاً، وفي شمال شرقي سوريا، يجب على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه مواصلة دعم اندماج قسد ضمن الدولة وتشجيع الطرفين على اتخاذ الخطوات الكفيلة بخفض تصعيد النزاع بين قسد والجيش الوطني السوري، ويشمل ذلك الضغط على أنقرة حتى توجه رسالة للجماعات التي تدعمها في المنطقة بخصوص ذلك. وفي تلك الأثناء، يعتبر الخطر المستمر المتمثل بعودة تنظيم الدولة من الأمور الأساسية التي تدفع قوات التحالف للبقاء في هذا البلد إلى أن ينجز الاتفاق بشكل كامل بين الطرفين، وذلك لمنع تلك الجماعة من التحول إلى عنصر يعمل على زعزعة الاستقرار في سوريا. ولتخفيف العبء عن قسد، وخاصة فيما يتصل بإدارة مقرات الاحتجاز، يتعين على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه تسريع عملية إجلاء مواطنيهم الذين بايعوا تنظيم الدولة، إلى جانب تسريع عملية تحديد جنسية الأطفال الذين لا يحملون أية وثائق.

رابعاً، فيما يتصل بممارسات إسرائيل المثيرة للقلق، يجب على الدبلوماسيين الأوروبيين التواصل مع إسرائيل وذلك عبر توجيه رسالة لها بالتنسيق بينهم، مفادها بأن ما تمارسه من أعمال يقوض استقرار سوريا، وبالتالي فإنه يضر بمصلحتها العليا. ويجب على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه الاستعانة بقنواتهم لتجنب حدوث تصعيد كبير بين إسرائيل وتركيا على الأراضي السورية.

خامساً، يجب على بروكسل أن تطبق وبسرعة القرار الذي أصدرته في العشرين من أيار الجاري والقاضي برفع كامل العقوبات الاقتصادية عن سوريا، ويجب على بروكسل أيضاً تقديم الدعم المخصص لإعادة الإعمار وتشجيع المستثمرين الأوروبيين في القطاع الخاص على العودة إلى سوريا، إلى جانب مساعدتهم في التغلب على العقبات الموجودة في قطاعات مثل المال والطاقة، وتوفير الحوافز لهم قدر الإمكان، ثم إن الدعم الموجه للاستثمارات المبكرة في قطاع الطاقة قد يعتبر نقطة بداية عملية في هذا المضمار، لأن الشركات الأوروبية التي سبق لها العمل على البنية التحتية للطاقة في سوريا مستعدة لإحياء شبكة الكهرباء في ذلك البلد. هذا وينبغي للاتحاد الأوروبي التعاون مع الدول الأعضاء والمؤسسات المالية للحد من حالة الإفراط في عملية الانصياع، والتي من الممكن أن تستمر حتى بعد رفع العقوبات، ويشمل ذلك تقديم توجيهات تنظيمية تخص تلك المسائل.

في النهاية، فإن مسألة إعادة إعمار سوريا بعد عقود من الحكم الديكتاتوري والصراع المريع أصبحت بيد السلطات الجديدة في دمشق، وكذلك بيد المجتمع المدني في سوريا والشعب السوري، ولكن بوسع الاتحاد الأوروبي بل عليه وعلى غيره من القوى الخارجية الأخرى أن يمدوا يد العون لهم بما أنه بأمس الحاجة لذلك، بل إنهم يستحقون ذلك فعلاً، وذلك لأن عدم مد يد العون للسلطات في دمشق وللشعب السوري وللمجتمع المدني في سوريا يعتبر إجهاضاً لهذه التجربة الواعدة في مجال إعادة بناء مجتمع دمرته الحرب.

المصدر: The International Crisis Group

تلفزيون سوريا

—————————————–

 سوريا: رفع العقوبات من الدّاخل قبل الخارج/ أمين قمورية

2025-05-30

تواصل واشنطن منح سوريا الجديدة الفرصة تلو الأخرى. شرعت أخيراً في اتّخاذ الخطوات لرفعها كليّاً عن قائمة “الدول الراعية للإرهاب”، استكمالاً لقرار الرئيس دونالد ترامب رفع العقوبات عنها. 

كانت سوريا من أوائل البلدان التي صُنّفت على أوّل قائمة أميركية للدول الراعية للإرهاب عام 1979، أي منذ 46 سنة. سبقت بذلك كلّاً من إيران المصنّفة منذ 1984، وكوريا الشمالية المصنّفة في 2017، وكوبا التي ضمّها ترامب للتصنيف في ولايته الأولى عام 2021، ثمّ حذفها الرئيس جو بايدن في كانون الثاني الماضي، غير أنّ ترامب ألغى قرار جو بايدن، وأعادها للتصنيف مرّة أخرى.

يمكن لوزارة الخارجية الأميركية أن تقدّم إشعاراً للكونغرس الأميركي لإبلاغه برفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والأسباب التي دعت إلى ذلك، وإذا لم يعارض الكونغرس رسميّاً في مهلة مدّتها 45 يوماً، يجري شطبها من القائمة. واذا ما حصل ذلك تكون دمشق قطعت فعلاً شوطاً كبيراً في التخلّص من العوائق والقيود التي فُرضت عليها في عهد النظام المخلوع وأرهقت الشعب السوري طوال سنوات، ووُضعت على سكّة التعافي الاقتصادي، وبدأت مسار التحوّل نحو مستقبل أفضل.

ترافقت خطوات رفع العقوبات الأميركية مع خطوات أوروبية مماثلة، لا تقلّ إيجابية، ومن شأنها المساهمة في رفع معاناة السوريين والانطلاق في ورشة إعادة إعمار ما دمّرته الحرب والسياسات الخاطئة طوال عقود من الزمن. وعلى ما يبدو فإنّ هذه الإيجابيّات لم تقتصر على الشأنين الاقتصادي والاستثماري بل تعدّتهما إلى الشأنين الأمنيّ والسياسيّ. إذ لاحظت صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ تقارب ترامب مع القيادة السورية الجديدة تسبّب في إرباك الاستراتيجية العسكرية لإسرائيل، وأدّى إلى توقّف شبه كامل للغارات الجوّية الإسرائيلية على الأراضي السوريّة.

الاستقرار الدّاخليّ والبيئة المناسبة للاستثمار

يشكّل رفع العقوبات الغربية عن سوريا عاملاً حاسماً في إخراجها من عنق الزجاجة. لكنّ ذلك وحده ليس كافياً لإحداث التحوّل الكبير في بلد نكبته الحروب والصراعات الدامية والديكتاتورية. التأثيرات الخارجية عوامل مهمّة تساعد في التغيير وتكون رافعة له، لكنّها لا تحدِثه ولا تضمنه.

يبقى العنصر الأهمّ العوامل الداخلية والتسيير والإدارة الذاتيَّين. لن تقدِم الدول العربية والأجنبية والشركات الكبرى ورجال الأعمال الكبار على الاستثمار والتوظيف في سوريا، ما لم توفّر السلطة السوريّة الجديدة بيئةً مناسبةً للاستثمار تبدأ باستقرار سياسي وضمانات ماليّة للمستثمرين، وتمرّ بتحرير سعر صرف العملة الوطنية وسنّ قوانين مشجّعة للاستثمار والضرائب واستقلالية القضاء، وصولاً إلى ضمانات لتحويل الأموال ونظام مصرفي حديث وشفّاف يحظى بالثقة.

لا ينفصل الاقتصاد عن السياسة. الاثنان يحتاجان إلى استقرار داخليّ واندماج وطنيّ بين مكوّنات المجتمع السوري. وينبثق تحقيق الاستقرار من اعتماد سياسات داخلية تنال الرضى المجتمعيّ على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وتكون أساساً لعقد اجتماعي وطني متّفق عليه وترضى به غالبيّة الشرائح والمكوّنات. ذلك أنّ السياسات القائمة على الغلبة أو الإرادة الناقصة لا تحقّق استقراراً مستداماً ومن شأنها زرع ألغام في المجتمع والدولة السوريَّين تنعكس سلباً على الوحدة الوطنية وتشرّع الأبواب والنوافذ السوريّة أمام رياح التدخّلات الخارجية الطامعة بالنفوذ والمكاسب والموارد والموقع الجيوسياسيّ.

“التّحقيق المستمرّ” بدل “الثّقة المسبقة”

لن تُرفع العقوبات فوراً.  تلك المفروضة بموجب “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” لعام 2019، وهي الأشدّ ضرراً على السوريّين، لا يمكن رفعها من دون تشريع صادر عن الكونغرس. لكن يمكن لإدارة ترامب تعليق تنفيذها مؤقّتاً كما فعلت، وأمّا إلغاؤها نهائيّاً فسيستغرق وقتاً طويلاً. لن تفرّط واشنطن بنفوذها في بلاد الشام. اختارت نهج “التحقيق المستمرّ” بدلاً من “الثقة المسبقة”. من أجل ذلك تحتفظ بورقتين: إمكان تفعيل العقوبات مجدّداً والإبقاء على وجود عسكري أميركي محدود على الأرض.

هكذا يستدعي الرفع الكامل للعقوبات من السلطة السورية الجديدة تنفيذ سلسلة من المطالب الحسّاسة أو تقديم إجابات مقنعة كي تضمن عدم العودة إلى فرضها مجدّداً. هذا يستدعي منها تبنّي سياسة شفّافة لتوفير الاستقرار السياسي والإجماع الوطني على الخيارات السياسية والاقتصادية. فإمّا تتّخذ مواقف تتعارض مع وجهة نظر واشنطن والغرب، فتعود العقوبات على نحو أشدّ، وإمّا تذهب إلى خيارات تناقض الإجماع الوطني فيقع المحظور الداخلي والانقسام الأهليّ.

يتعلّق هذا الأمر خصوصاً بمطلب التطبيع مع إسرائيل الذي تصرّ عليه الإدارة الأميركية. يصعب السير في هذا المطلب من دون ربطه باستعادة الجولان والأراضي السورية المحتلّة، وقد يرتّب تجاهل الربط بين الاثنين على الإدارة السورية أعباء سياسية جمّة.

سوريا الجديدة التي ورثت تركة ثقيلة: دولةً منهارة، وخراباً عظيماً، ومجتمعاً جريحاً، ومؤسّساتٍ مترهّلة، وسكّاناً تسعون في المئة منهم يعيشون تحت خطّ الفقر، هي في أشدّ الحاجة إلى رفع العقوبات رأفةً بناسها وتوفيراً للقمة عيشهم وللحدّ الأدنى من مقوّمات حياتهم، والعودة إلى دولة طبيعية. لكنّ الخشية أن تتحوّل هذه الحاجة الماسّة إلى حجّة وذريعة لضبط الناس والمجتمع عبر توفير الأمن والغذاء وإغلاق باب الحرّيات العامّة والخاصّة وكبح الأصوات المعارضة، والتغاضي عن الإصلاح السياسي، واستئثار فئة دون غيرها بالحكم والسياسة والتحكّم بمصير البلاد والعباد.

أساس ميديا

————————

تقرير: تخفيف عقوبات واشنطن على سوريا خطوة جريئة لا تخلو من المخاطر

30 مايو 2025

سلط “مجلس الأطلسي” الضوء في تقرير له على قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب تخفيف العقوبات عن سوريا، الأمر الذي يشكل تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق، مما يفتح الباب أمام جهود الإغاثة وإعادة الإعمار ومشاركة القطاع الخاص. لكنه حذّر في المقابل من أن استمرار التصنيفات القانونية والعقوبات المؤقتة يبقي المخاطر السياسية والاقتصادية قائمة.

يرى “مجلس الأطلسي” في التقرير أن قرار إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بتخفيف العقوبات عن سوريا عبر الإجراءات التي اتخذتها وزارتا الخارجية والخزانة في 23 أيار/مايو الجاري، يُمثل “خطوة جريئة”، مشيرًا إلى أن تخفيف هذه العقوبات غير المسبوقة سيسهم في دعم جهود الإغاثة، وصولًا إلى رفعها بشكل كامل.

وأضاف التقرير أن تخفيف العقوبات الأميركية فتح الباب أمام إعادة الإعمار ومشاركة القطاع الخاص، لافتًا إلى إلى جهود مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية، المتمثلة بإصدار الترخيص العام رقم 25، برفقة الأجوبة التي تجيب على الأسئلة بهذا الشأن، مذكرًا بإصدار وزارة الخارجية الأميركية إعفاءً بخصوص “قانون قيصر”.

كما لفت التقرير إلى إصدار شبكة إنفاذ القانون بالنسبة للجرائم المالية الإعفاء الاستثنائي المرتبط بالمادة 311 من قانون “باتريوت” الأميركي، لما يمثله من أهمية للمصرف التجاري السوري، إلى جانب الإعفاءات الأخرى، الأمر الذي سيؤدي إلى إزالة العقبات أمام إعادة ربط المصرف المركزي السوري وبعض المؤسسات المالية التجارية بسوريا بالنظام المالي العالمي.

ومع ذلك، أشار “مجلس الأطلسي” إلى أن على الرغم أن هذه الإجراءات تمثل مؤشرًا مهمًا، إلا أنها لا تعني عودة إلى العلاقات مع سوريا لما كانت عليه بعد مرور 46 عامًا على فرض العقوبات الاقتصادية المشددة على نظام آل الأسد، مرجعًا ذلك إلى أن سوريا لا تزال تمثل خطرًا بعد سنوات من النزاع.

وأعاد التقرير التذكير بأن سوريا لا يزال عليها التعامل مع الفساد المستشري، وانهيار مؤسسات الدولة، وتجارة المخدرات والكبتاغون، بالإضافة إلى ضعفها في ملف مكافحة عمليات غسل الأموال، والقيود المفروضة على تمويل الإرهاب.

وبحسب “مجلس الأطلسي”، أكدت مجموعة العمل المالي الدولية في شباط/فبراير الماضي استمرار إدراج سوريا على “القائمة الرمادية” للدول الخاضعة للمراقبة المشددة، مضيفًا أن إجراءات تخفيف المعلنة من قبل وزارتي الخارجية والخزانة الأمريكية تُعدّ مؤقتة بطبيعتها، مثل إعفاء قانون قيصر لمدة 180 يومًا، أو حتى يمكن إلغاؤها في أي وقت، مثل الرخصة العامة 25 والإعفاء الاستثنائي من المادة 311 من قانون باتريوت الأميركي.

كما ذكر التقرير أن سوريا لا تزال تواجه قيودًا قانونية واقتصادية، والتي لخصها بأنها:

    تصنيف سوريا دولة راعية للإرهاب، وهذا ما يحد نوعًا ما من حصانة السيادة السورية أمام المحاكم الأميركية.

    تصنيف الجماعات العاملة في سوريا ضمن التنظيمات الإرهابية الأجنبية وما يصاحب ذلك من مسؤولية جنائية تترتب على الدعم المادي لهذه التنظيمات، وهي مساءلة تنفذها وزارة العدل الأميركية، وبالمثل ضحايا الإرهاب المدنيين في الولايات المتحدة.

    عقوبات الأمم المتحدة المفروضة على شخصيات مهمة في الحكومة السورية المؤقتة.

    القيود التي فرضتها وزارة المالية الأميركية على عمليات.

وبناء على ذلك، خلص “مجلس الأطلسي” في تقريره إلى مجموعة من التوصيات، وفقًا للتالي:

    توضيح السياسة المرتبطة بالقيود الاقتصادية والقانونية الخاصة بتصنيف سوريا كـ”دولة راعية للإرهاب”، وتصنيف “التنظيمات الإرهابية الأجنبية”. كما يمكن للإدارة إصدار مذكرة من وزارة العدل توضح سياستها في محاكمة الأفراد أو الكيانات المتهمين بتقديم دعم مادي للمنظمات الإرهابية في سوريا. ورغم أن هذه الخطوة ستكون غير تقليدية، فإنها ستوفر تفسيرًا قانونيًا، خاصة للمنظمات الإنسانية العاملة داخل سوريا.

    العمل مع الكونغرس على مراجعة العقوبات القانونية المفروضة على سوريا، وذلك بما يتماشى مع سقوط نظام الأسد والتطورات السياسية الحالية.

    التعاون مع الحلفاء والشركاء على تقييم عقوبات الأمم المتحدة بالنسبة للمخاطر الحالية.

    تقديم التوجيه والإرشاد والذي يشمل الرد على الأسئلة المتكررة، فيما يخص الإعفاء من قانون قيصر والإعفاء الاستثنائي من المادة 311 لقانون “باتريوت”، بالإضافة إلى التوجيهات السياسية التي تقدمها الوكالات الأميركية بالنسبة لخارطة الطريق المعنية بتخفيف المزيد من العقوبات.

    وضع سياسة اقتصادية إيجابية بالتعاون مع الشركاء الدوليين، مثل المساعدة الفنية على إعادة تأهيل القطاع المالي، إلى جانب إصدار التراخيص والإعفاءات ورفع القيود الاقتصادية.

واختتم “مجلس الأطلسي” تقريره مشيدًا بالتحرك السريع للإدارة الأميركية لتحديث نظام العقوبات وغيرها من الإجراءات التي تعبر عن الواقع القائم على الأرض، مضيفًا أنه لا يزال هناك الكثير من العمل المسؤول بتقييم الإجراءات الاقتصادية التقييدية، وبين أهداف السياسة الخارجية الأميركية، ودعم السبل الاقتصادية الإيجابية، بما يتيح للشعب السوري الاستفادة من هذا التغير الجذري في سياسة واشنطن تجاه دمشق.

الترا سوريا

——————————————

بعد رفع العقوبات… هل تتحوّل سوريا إلى وادي السيليكون؟/ نزيهة سعيد

الاثنين 26 مايو 2025

فَتح سقوط نظام بشار الأسد، آفاقاً واسعةً أمام السوريين والسوريات في المهجر، تحديداً أولئك الذين لطالما راودتهم الرغبة في توظيف خبراتهم للمساهمة في مشاريع بناء مستقبل البلاد. وقد تُرجمت هذه الرغبة إلى سلسلة من المؤتمرات المتخصصة، عكست تنوّع الخلفيات الأكاديمية والاقتصادية للمشاركين/ ات.

إلا أنّ هذه الجهود تزامنت مع تصعيد طائفي حادّ داخل سوريا، ما أثار تساؤلات جدّيةً حول مستقبل البلاد، ومدى واقعية المبادرات القادمة من الخارج: هل هي خطوات عملية نحو إعادة الإعمار أو مجرد أحلام بعيدة المنال؟

وسط هذا الجدل، جاء إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن نيته رفع العقوبات عن سوريا، ليتبعه الاتحاد الأوروبي بعد أسبوع، وتتحرر البلاد من القيود الاقتصادية، ولا سيّما المتعلقة بحرية تنقّل المال والدخول في النظام المالي العالمي، وحرية التحرك داخل الشبكة العنكبوتية، وغيرها من العقبات التي كانت تقف في وجه الشركات الناشئة والمشاريع الريادية، تحديداً في القطاعات الجديدة، ولتقف هذه المبادرات أمام التحدّي الحقيقي لإمكانية تحققها وقدرتها على التحول من مجرد أفكار إلى مشاريع قابلة للتنفيذ.

ولعلّ من أبرز هذه المبادرات مبادرة “سينك” التكنولوجية، التي أطلقتها مجموعة من المختصّين/ ات في هذا المجال، ممن يُعرَفون بـ”جماعة شغيلة”، ويتوزعون بين وادي السيليكون في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، ودمشق، وبرلين.

تكنولوجيا الإعمار

“سينك” مبادرة عالمية ترمي إلى الربط بين روّاد/ رائدات الأعمال السوريين/ ات، وقادة: قائدات التكنولوجيا، وصنّاع/ صانعات التغيير، من أجل تعزيز التعاون والابتكار في مجالات التكنولوجيا وريادة الأعمال. وتعمل المبادرة على جمع الأفراد ذوي/ ات الاهتمامات المشتركة، الشغوفين/ ات بالتغيير المُحفّز، لتشكيل نواة عملية للتعاون العالمي حول مشاريع تستهدف سوريا بشكل مباشر، من خلال إنشاء بؤر متخصصة في مختلف دول العالم.

    بعد رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية، بدأ المهاجرون والمهاجرات من أصول سورية يفكّرون في استثمار مهاراتهم المتنوعة في وطنهم الأم

انبثقت فكرة “سينك”، من لقاء جمع عدداً من المختصّين/ ات في مجال التكنولوجيا في وادي السيليكون، حيث ناقشوا/ ن إمكانية الإسهام في إعادة بناء سوريا بعد سقوط النظام، فخططوا/ ن لعقد مؤتمرهم/ نّ الأوّل في دمشق في شباط/ فبراير الماضي. هدف اللقاء كان جمع البيانات والملاحظات والأفكار، بالإضافة إلى تقييم واقع البنية التحتية التكنولوجية في البلاد.

وبعد المؤتمر، جرى تحليل البيانات المستخلصة، وإعداد تقارير متخصصة، تمّت مشاركتها لاحقاً في مؤتمر ثانٍ عُقد في وادي السيليكون، بحثاً عن سبل ممكنة لتوليد قنوات دعم عملية، وفق ما يوضح علاء مصطفى، أحد منظّمي المبادرة في برلين.

يقول: “في طفولتي، عملت في وظيفتَين بجانب دراستي، وأنا أعلم جيداً أنّ السوريين/ ات بالمجمل ‘جماعة شغيلة’؛ فالمعاناة والمآسي جعلتنا أكثر وعياً بقيمة العمل، ومن هنا ينبع تفاؤلي بهذه المبادرة”.

أما عن سرعة انطلاق المبادرة، فيوضح فراس خليفة، أحد منظّمي مؤتمرَي دمشق من 7 إلى 8 شباط/ فبراير، ووادي السيليكون من 21 إلى 22 شباط/ فبراير، واجتماع برلين 25 آذار/ مارس، أنّ ذلك جاء استجابةً مباشرةً لحاجة البلاد إلى إعادة البناء، مشيراً إلى أنّ القائمين/ ات على المبادرة يأملون في تنظيم مؤتمر جديد قريباً في إحدى دول الاتحاد الأوروبي، استكمالاً لمسار العمل القائم.

تشبيك المهارات

حول لقاء برلين، يقول فراس خليفة، مؤسس شركة “كاربون موبايل” وعضو فرق “سينك” في وادي السيليكون ودمشق وبرلين: “نسعى إلى التواصل مع البيئة التكنولوجية المزدهرة في برلين، والاستفادة من الحراك المتنامي للشركات الناشئة السورية فيها، بهدف التعاون لإيجاد حلول عملية تُسهم في خلق فرص عمل للسوريين/ ات داخل سوريا، من خلال تطوير المهارات، وتقديم التوجيه، واستكشاف طرق دعم المواهب السورية عبر التدريب والتوظيف. كما تطمح ‘سينك’ إلى أن تكون مجتمعاً متنامياً يحتضن لقاءات دوريةً لتعزيز التواصل وتبادل المعرفة وتوسيع نطاق التأثير”.

وفي حديثه إلى رصيف22، يضيف خليفة: “هناك تجمعات في سوريا تُعنى بحقوق الإنسان، والمساعدات الإنسانية، والرعاية الصحية، لكن لا يوجد كيان يركّز على التكنولوجيا. من هنا نشأت الحاجة إلى تأسيس هذا التجمّع، الذي لا يقتصر هدفه على التشبيك والتعارف، بل يتجاوز ذلك إلى بناء البلد من خلال التكنولوجيا، وتطوير الاقتصاد، وتبنّي مشاريع جديدة، وتنمية مهارات الشبّان/ الشابّات داخل سوريا، وتوفير فرص العمل”.

ويتابع: “هدفنا هو تأمين 25 ألف فرصة عمل خلال خمس سنوات للسوريين والسوريات داخل سوريا، للعمل من بُعد لصالح جهات خارج البلاد وداخلها. هناك سوق عالمي يتنافس فيه عمّال من بُعد من بلدان مثل بولندا، الهند، فيتنام، وأوكرانيا، ونحن نمتلك المؤهلات والطاقات لنجعل من سوريا إحدى هذه الدول. لدينا شبّان وشابات يمتلكون/ ن الإمكانيات، ويحتاجون/ ن إلى تأهيل وتطوير مهاراتهم/ نّ فحسب، إلى جانب خلق فرص عمل. أما الخطوة التالية، فهي بناء نظام بيئي متكامل يشمل شركات ناشئةً، روّاد/ رائدات أعمال، واستثمارات مخاطرة داخل سوريا، وهو ما يتطلب بيئةً حاضنةً وبنيةً تحتيةً قادرةً على استيعاب التجربة والمخاطرة”.

ويختصر رؤيته بقوله: “هدفنا أن تصبح سوريا قادرةً على منافسة المنطقة العربية بأكملها خلال خمس سنوات، وأن تتحوّل إلى وادي سيليكون مُصغّر”.

ويعبّر خليفة، عن دهشته من حجم الكفاءات السورية العاملة في قطاع التكنولوجيا: “كنا نعلم أنّ هناك أعداداً كبيرةً من السوريين/ ات في هذا المجال، لكن لم يكن هناك أي إطار جامع. السوريون/ ات منتشرون/ ات في أنحاء العالم ويعملون/ ن في مجالات متعددة، لكنهم/ نّ متفوّقون/ ات في قطاع التكنولوجيا بشكل خاص. هذا اللقاء كشف لنا عن إمكانياتنا، التي لم نكن ندركها بسبب غياب التجمعات التخصصية التي توحّدنا”.

وقد شهد مؤتمر “سينك دمشق”، حضور أكثر من 750 مشاركاً/ ةً، فيما بقي عشرات الأشخاص على قوائم الانتظار أو انضموا لاحقاً إلى المبادرة.

في الوقت المناسب

وفي ما يخصّ الوضع الأمني وإمكانية الاستثمار في سوريا، يقول خليفة: “أنا رائد أعمال منذ 15 عاماً. أدرت أربع شركات، ولم تكن الظروف مثاليةً حين أطلقت أيّاً منها. أسّسنا ‘سينك’ ليس لأنّ الظروف مناسبة، بل لأنّ الحاجة ملحّة. نحن، ومعنا كثيرون/ ات، نؤمن بأنه يمكننا العمل لتغيير الظروف، وجعلها أكثر ملاءمةً”.

ويضيف: “لا بدّ من وجود خطة تُخرج الناس من حالة البقاء على قيد الحياة، نحو التفكير في المستقبل، والتطوير، والأمل. الانشغال ببناء البلد يخلق وحدةً مجتمعيةً حقيقيةً، ويحدّ من التمييز والطائفية. ففي لقاءاتنا، يشارك أشخاص من مختلف الطوائف والأعراق في سوريا، يتحدثون بلغات متعددة، ويجتمعون في مكان واحد، توحّدهم التكنولوجيا وتجمعهم على مشاريع مشتركة، بدلاً من النزاعات”.

ويختتم حديثه بالقول: “هناك تواصل مع مسؤولين في الداخل السوري، وهناك رؤية إيجابية، برغم أنّ الوضع الأمني لا يزال غير مستقرّ. شخصياً، أرى أنّ سوريا اليوم تمثّل أرضاً خصبةً للاستثمارات، خصوصاً للشركات الناشئة. هذه المرحلة، برغم ما تحمله من مخاطر، تمثّل أفضل فرصة للاستثمار، كونها تأتي بعد الحرب مباشرةً، حيث الحاجة كبيرة، والطموح أكبر”.

تأنيث التكنولوجيا

من بين المحاور التي توليها مبادرة “سينك” اهتماماً خاصاً، مسألة العدالة الجندرية، من خلال السعي إلى منح النساء أدواراً قياديةً وتمكين المزيد منهنّ في قطاع التكنولوجيا. فقد شهدت الفعاليات الثلاث التي نظّمتها المبادرة حتى الآن حلقات نقاش مخصصةً لدور المرأة في هذا المجال، تخللتها قصص وتجارب ملهمة ومؤثرة لنساء سوريات يعملن في قطاع التكنولوجيا.

هذا ما تؤكّده علياء أسعد، وهي عضو في فريق “سينك برلين” ومديرة المنتجات في إحدى الشركات التكنولوجية في العاصمة الألمانية.

وتضيف في حديثها إلى رصيف22: “في قطاع التكنولوجيا، لا يوجد تمثيل كافٍ للنساء. أعمل في هذا المجال منذ 15 عاماً في ألمانيا، وكنت المرأة الوحيدة في العديد من الفرق الهندسية لسنوات طويلة. كما توجد مشكلة حقيقية في وصول النساء إلى الأدوار القيادية، إذ إنّ مواقع القيادة لا تزال محصورةً في الغالب على الرجال. وحتى خلال دراستي علوم الكمبيوتر، كان عدد الطالبات قليلاً جداً. لذلك، من خلال ‘سينك برلين’ نسعى إلى مشاركة تجاربنا كنساء في هذا القطاع، بهدف تمكين السوريات من خلال تسليط الضوء على التحديات المشتركة، وتقديم نصائح عملية للتعامل معها”.

وتشير أسعد، إلى أنّ هذا التجمع يكشف عن “القوة التي تمتلكها السوريات في مجال التكنولوجيا، والمنظور الفريد الذي يضفنَه إلى هذا القطاع. هناك الكثير ممّا يمكن تعلّمه من تجاربنا هنا في ألمانيا، ونطمح إلى نقل هذه المعرفة لدعم مزيد من النساء للدراسة في هذا المجال، والسعي إلى أدوار قيادية فيه، والمساهمة لاحقاً في بناء سوريا”.

وتعبّر أسعد، عن تفاؤلها قائلةً: “من الجميل أن يعمل الإنسان على مبادرة تنبع من شغفه، وأن يشعر بأنه يساهم في بناء وطنه. ونحن كنساء، سنكون جزءاً أساسياً من عملية بناء سوريا، فالتكنولوجيا ليست مجرد أداة، بل قوة حقيقية وفاعلة في مسار الإعمار والتغيير”.

الأمن أولاً

عن مؤتمر دمشق، يقول باسل أوجيه، الرئيس التنفيذي لشركة “ليغا داتا”، ونائب الرئيس السابق لشركة “ياهو”، خلال مشاركته من بُعد في اجتماع برلين من مقرّ إقامته في وادي السيليكون: “كان المؤتمر خطوةً أولى نحو تحقيق هدفنا في خلق 25 ألف فرصة عمل في مجال التكنولوجيا داخل سوريا. استمعنا إلى احتياجات العاملين/ ات هناك، وناقشنا في وادي السيليكون سبل تحويل هذه الاحتياجات إلى مشاريع واقعية. نأمل أن يتجاوز عدد أعضاء المبادرة 35 ألف عضو تقريباً”.

ويسلّط أوجيه، الضوء على تحدي العقوبات الاقتصادية، مؤكداً أنّ تحركاتهم من الولايات المتحدة لا تزال محدودةً، بينما تتيح ألمانيا فرصةً أكبر لخلق شراكات مستقبلية. ويضيف: “نركّز على الفرص وليس على الصعوبات فحسب، فالرغبة في العمل والتطوير موجودة بوضوح داخل سوريا، ودورنا هو تمكينها عبر التدريب وتطوير المهارات وفتح أبواب العمل”.

أما علاء مصطفى، مهندس شبكات الكلاود في برلين وعضو تنظيمي في “سينك دمشق” و”سينك برلين”، فيؤكد أنّ الإيمان بعمل المجموعة هو ما يمنح المبادرة قوّتها، يقول: “حتى لو لم نحقق الهدف العددي الكامل، تبقى أهمية ‘سينك’ في قدرتها على جمع السوريين/ ات من كل مكان، لبناء بيئة عمل ومجتمع مشترك. نحن قطع أحجية مبعثرة، وهذه المبادرة محاولة لإعادة تشكيل الصورة”.

ويضيف لرصيف22: “نعمل حالياً على توسيع المبادرة لتشمل سوريين/ ات في مدن أوروبية أخرى، بحيث تصبح ‘سينك’ منصّة جامعة لكل من يعمل/ تعمل في مجال التكنولوجيا ويرغب/ ترغب بالمساهمة في بناء سوريا”.

وفي ما يتعلق بالتحديات الأمنية، يعلّق الصحافي المتخصص في الشأن الأمني مهند صبري، لرصيف22، قائلاً: “لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار حقيقية في ظلّ انفلات أمني وغياب سيادة القانون. الإصلاح القضائي، وضمان العدالة، ووجود نظام حكم نزيه، كلها شروط أساسية تسبق أي عملية تنموية”.

ومن المنتظر عقد مؤتمر قريب في أوروبا يجمع العاملين/ ات السوريين/ ات في قطاع التكنولوجيا، استكمالاً للمسار الذي بدأ في دمشق ووادي السيليكون، واستعداداً للمرحلة المقبلة من المبادرة.

رصيف 22

—————————————

الخارجية الأميركية توضح للجزيرة رؤية ترامب بشأن سوريا

29/5/2025

قال المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأميركية مايكل ميتشل إن رؤية الرئيس دونالد ترامب تتماشي مع رفع العقوبات عن سوريا، مؤكدا أن الولايات المتحدة مستعدة لبدء عصر جديد من التعاون والشراكة مع سوريا.

وكشف ميتشل -في حديثه للجزيرة- عن بدء تنفيذ الخارجية الأميركية لرؤية ترامب بعد زيارته الخليجية الأخيرة، التي شملت كلا من السعودية وقطر والإمارات.

وأشار إلى أن هذه الرؤية قائمة على السلام والاستقرار، ودعم حكومة جديدة تتصرف بطريقة مسؤولة و”لا تشكل خطرا على جيرانها”.

وأكد أن إدارة ترامب تريد رؤية حكومة سورية قادرة على فرض سيطرتها على كافة الأراضي السورية، وكذلك تحترم حقوق السوريين بغض النظر عن الدين والعرق، إضافة إلى محاسبة المتورطين بتأجيج العنف والمذهبية.

وأمس الخميس، افتتح المبعوث الأميركي لسوريا توماس باراك مقر إقامة سفير بلاده بدمشق لأول مرة بعد 13 عاما من قطع العلاقات بين البلدين.

وقال باراك إن ترامب اتخذ قرارا جريئا بشأن سوريا دون شروط أو متطلبات، وتتلخص رؤيته في إعطاء الحكومة السورية فرصة بعدم التدخل، كما أنه سيرفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

ولفت المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية إلى أن صلاحيات ترامب تمكنه من رفع العقوبات عن سوريا بشكل مؤقت، لكنه يحتاج الكونغرس لرفعها بشكل كامل، كاشفا عن اتصالات يجريها ترامب مع الأطراف المعنية لتحقيق الإلغاء التام للعقوبات المفروضة.

وشدد على حاجة سوريا لاستثمارات من أجل تأهيل البنى التحتية والنظام الكهربائي، مما يؤدي إلى تحسين الوضع الأمني، ورؤية مستقبل أفضل للسوريين.

ووفق ميتشل، فإن من أولويات الولايات المتحدة وأهدافها منع عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية أو أي تنظيم إرهابي آخر في سوريا.

سوريا وإسرائيل

وأشار المتحدث الأميركي إلى علم واشنطن بـ”اتصالات مباشرة بين سوريا وإسرائيل لمناقشة الملفات الأمنية”، معتبرا هذه الاتصالات “أساسا لأي حل دبلوماسي دائم ومستدام للمشكلة”.

واستند في حديثه إلى تصريحات الإدارة السورية الجديدة بأنها تريد السلام مع جيرانها، و”لا تريد أن تشكل خطرا على أي بلد مجاور”.

وفي هذا السياق، قال المبعوث الأميركي “نحن بحاجة للبدء باتفاقية عدم اعتداء بين سوريا وإسرائيل والحديث عن الحدود”، مؤكدا أنها “مشكلة قابلة للحل، لكن الأمر يبدأ بالحوار”.

يذكر أن ترامب التقى الرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض منتصف شهر مايو/أيار الجاري، وأعلن ترامب وقتها رفع إدارته العقوبات الأميركية على سوريا.

وتم تعيين باراك في منصب مبعوث بلاده إلى دمشق في 23 مايو/أيار الجاري، وهو أيضا سفير الولايات المتحدة لدى تركيا. ويجري حاليا أول زيارة رسمية له إلى سوريا.

المصدر : الجزيرة

——————————-

==========================

العدالة الانتقالية في سوريا تحديث 30 أيار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

العدالة الانتقالية في سوريا

——————————–

مناطق نفسية آمنة لخفض التصعيد.. سوريا: نشوة المنتصر وخوف المهزوم/ مالك داغستاني

2025.05.29

يبدو أنه في لحظات التحولات الجذرية، لا ينهار النظام السياسي فقط، بل تنهار أيضاً توازنات نفسية عميقة لدى الأفراد والجماعات. في الحالة السورية، ومع السقوط المفاجئ لنظام الأسد نتيجة لتوافق دولي غير مُتوقَّع، طبعاً من دون نسيان التضحيات الأسطورية التي قدّمها السوريون، برزت أزمة من نوع آخر، أزمة النخب.

الأزمة بين من شعروا بأنهم “انتصروا أخيراً” بعد سنوات من الانكسار، وآخرون وجدوا أنفسهم فجأة في عالم لا يشبه أي سيناريو توقعوه. تفجّر الانقسام لا على أساس الرؤى أو المصالح فقط، بل على مستوى المشاعر العميقة والهويّة النفسية والطائفية والعرقية. هنا، تبرز الحاجة إلى ما يمكن تسميته “مناطق نفسية آمنة لخفض التصعيد”، على غرار مناطق خفض التصعيد العسكرية التي عرفتها سوريا في السنوات الأخيرة قبل سقوط الأسد. خفض التصعيد، هذه المرّة، ليس بين جهات متحاربة، بل بين نفوس متصارعة، وجراح مفتوحة.

مع لحظة سقوط الأسد، بدا المنتصرون كالسكارى، وظهر عبء النصر على المجتمع والبلد المحطَّم وكأنه يتجاوز النصر. اجتاحت موجة عارمة من النشوة بعض الفئات التي شعرت أن هذا الحدث هو انتصارها الشخصي. هؤلاء لم يعودوا قادرين على تمييز الفارق بين لحظة التحرر، ولحظة الثأر الرمزي. تراهم على وسائل التواصل يسخرون، يُقصون، يُصنّفون الآخرين حتى اليوم، وكأنّ معركة الاعتراف بالنصر لم تنتهِ بعد.

بعض هؤلاء المنتصرين إسلامي متشدد وآخرون إسلاميون معتدلون، لكن هناك حتى يساريون وعلمانيون سيطرت عليهم الموجة، ولم يشذّوا كثيراً عن باقي المنتصرين، وشعبياً هناك مستقلون مُوَجّهون عاطفياً، هم لم يشاركوا في إسقاط النظام ولا معارضته فعلياً. وهو أساساً سقوطٌ أسهمت في تقرير توقيته إرادات دولية معقدة، ومع ذلك يتصرف هؤلاء وكأنّ النصر وليد “حكمتهم” وصبرهم. والنتيجة، عنف رمزي ضد المختلف، توبيخ للمشكك، وسخرية من كل من لم يشاركهم لحظة النشوة.

على الضفة الأخرى، هناك من أصيبوا بما يشبه الفقد الوجودي. ليس لأنهم مؤيدون للأسد بالضرورة، بل لأنهم لم يكونوا يتصورون نهايةً تأتي من خارج سرديتهم. هؤلاء المهزومون المرتبكون يشعرون بألم الخسارة التي انبثقت “بغفلة من الزمن” من داخل الحلم، فلا يجدون مكاناً لأنفسهم في مشهد جديد يرعاه “إسلاميون” حتى لو ادّعوا الاعتدال، ويشعرون بأن النصر لم يكن نصراً لحلمهم عن سوريا، بل صفقة لتسوية لم يُستشاروا فيها. هذه الفئة تعبّر عن نفسها

بصيغ متعددة. انسحاب من الحياة العامة، نزعة تشكيكية، عنف كلامي ضد الجميع، بمن فيهم حلفاء الأمس. ولن نعدم هنا، في المستوى الشعبي، صيغاً وسيناريوهات تفترض أن “الأسد الغائب” سيعود قريباً بنسخة “ماهر الأسد”، عبر تبَنٍّ لصيغ وسيناريوهات مؤامراتية خيالية. وطبعاً هذا كله، في جوهره، ناتج عن صدمة نفسية، من دون أن يستند إلى أية قراءة سياسية.

ولكن، كيف واجه بشرٌ آخرون الصدمة بعد مثل تلك التحولات في بلدان أخرى؟ لم تكن سوريا البلد الأول الذي يشهد نهاية مفاجئة لنظام إجرامي قمعي، لكن الدول التي اجتازت هذه المراحل وجدت أدوات لتفكيك الأزمات النفسية قبل السياسية. في جنوب إفريقيا، المثال الأشهر، شكّلت السلطات الجديدة “لجنة الحقيقة والمصالحة”. فبعد نهاية الفصل العنصري، لم يبدأ مانديلا ببناء الدولة من فوق، بل من القلب. شكَّلَت تلك اللجنة مساحة آمنة، حيث اعترف الجلادون بجرائمهم، واستمع الضحايا، وغُفرت أحياناً الذنوب من دون محاكمات. لم يكن الأمر سهلاً، لكنه حمى البلاد من حرب أهلية نفسية.

في رواندا، بعد الإبادة الجماعية، تم تشكيل ما عُرف بمحاكم “الغاشاتشا” الشعبية. اختارت الدولة هناك أن تعالج الجراح الجماعية عبر القضاء المجتمعي، لا القانوني فقط. جلس القتلة أمام عائلات الضحايا في ساحات القرى، واعترفوا، وبكوا، وسُمح للضحايا بالكلام والرد. لم يكن حلاً كاملاً، لكنه كان وسيلة لتطهير النفس الجمعية من سموم الكراهية.

في تشيلي والأرجنتين، احتاج الأمر سنوات من العمل السياسي الشاق مسنوداً على الضغط الاجتماعي حتى بدأت محاسبة تدريجية لرموز الحكم العسكري. للمفارقة، وبما يشبه حالتنا، لعب المثقفون خلال ذلك، دوراً خطيراً في إذكاء الخلافات والتوترات الطويلة أو التهدئة. من هنا، تبدو مسؤولية النخب الثقافية والسياسية لدينا حاسمة.

إذاً، ما الذي يمكن فعله في سوريا؟ شخصياً أرى، أن سوريا تحتاج، من بين الكثير، إلى “مناطق نفسية آمنة”، هل بدا لكم التعبير ساذجاً، بينما على الأرض هناك كثير من التجاوزات والانتهاكات والجرائم؟ معكم بعض الحق. لكن للتوضيح أنا أعني هنا أن على السلطات والنخب المتوازنة خلق وتعزيز فضاء ثقافي وسياسي وإعلامي، تُعلَّق فيه الأحكام القطعية. فضاءٌ يُشجّع فيه التفهّم بدلاً من مشاعر الانتصار أو الهزيمة. منطقة تُسفّه الشتم أو التشكيك بالنيات، ومحاولات التدمير النفسي للمختلف، والأهم ألا يُفرض فيها الصمت أيضاً. منطقة هي أقرب إلى مساحة علاج جماعي، لا مناظرة سياسية لهزيمة الآخر.

بداهةً، السقوط السياسي لنظام قمعي لا يُنتِج تلقائياً شفاءً مجتمعياً. بل في أحيان كثيرة، يُطلق العنان لأمراض كانت مكبوتة، كما نشهد حالياً في سوريا. وإذا لم نفهم أن ما يجري اليوم هو صراع نفسي أكثر من كونه سياسياً، فقد يودي بنا هذا إلى أن نستبدل نظاماً ديكتاتورياً ضبط المجتمع على إيقاعات سلطته، بنظام آخر مشابه لكن تختلف إيقاعاته كثيراً أو قليلاً عمن سبقه، بما يتناسب مع التصدّعات الجديدة.

طبعاً كل ذلك، إن لم يُشفَ المجتمع من تلك الأمراض ويخلق ضوابطه الذاتية، وليس خافياً أننا نعيش اليوم بنظام نفسي جماعي إن لم يكن أكثر تعقيداً مما كان عليه في السابق، فهو معقد بدرجة قريبة مع تجلّيات مغايرة.

السوريون اليوم يحتاجون إلى اعتراف جماعي بالشرخ، وهو شرخ لا يمكن رأبه وتضميده دون أن نعترف بوجوده. نحتاج إلى ما يشبه ميثاقاً اجتماعياً وسياسياً تواصلياً جديداً، يتضمّن قواعد جديدة لخطاب النخب في الحياة العامة وعلى وسائل الإعلام والتواصل. قواعد إن لم تكن تمنع بالقانون العنف الرمزي والتصنيف الأخلاقي، فعلى الأقل يجب أن تدين وتسفِّه مرتكبيه، بما يجعله من بين السلوكيات والقيم المرذولة. ربما تأتي بعد ذلك حلقات نقاش تُخاض فيها حوارات داخلية بين أطراف سياسية وثقافية مختلفة، لا تُبَث، ولا تُعلن، ولكن تُبنى فيها الثقة. قد تكون الأصوات غير المؤدلجة قادرة على لعب دور الوسيط النفسي والرمزي في هذا الموقع الذي يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد والصبر.

سوريا تحتاج إلى خفض تصعيد، ليس في جبهات القتال، بل في جبهات اجتماعية ونفسية وحتى عاطفية. المنتصر الحقيقي اليوم، ومن يحق له ادّعاء البطولة، هو من ينتصر على رغبته في الإذلال، فيبتعد عن كل ما يشبه سلوكيات نظام الأسد وجرائمه، ويتطلّع إلى سوريا جديدة ومختلفة. والمهزوم الحقيقي هو من يختار الغرق في أوهام وأحلام وسيناريوهات ستقلب الأوضاع قريباً، بدل الاعتراف بالحقيقة، بأن هناك سوريا جديدة ولدت. بلدٌ إن لم يسهم كامل مجتمع السوريين في تشكيل وجهه، فإن ديكتاتورية جديدة، مدعومة دولياً، ستشكل لها الوجه الذي يناسبها. فاستيقظوا.

تلفزيون سوريا

——————————–

العدالة الانتقالية والمصالحة في سورية… جدلية الأولويات/ بشار نرش

30 مايو 2025

من البديهي أن تُفضي الثورات الشعبية على الأنظمة الاستبدادية إلى مرحلة تستدعي جهوداً حثيثةً لبناء الدولة، وسورية ليست باستثناء، فالشواهد على ذلك كثيرة. إلا أنّ الحالة السورية تستوجب قدراً أكبر من الاهتمام والتركيز، ولعلّ أبرز مسوّغات ذلك أنّ سورية شهدت عقوداً طويلة من الحكم الاستبدادي، تراكمت خلالها مظالم سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة، ثمّ جاءت الثورة عام 2011، وما تلاها من صراع دموي، لتزيد المشهد تعقيداً، إذ انكشفت هشاشة البنية السياسية والاجتماعية، وبرزت الحاجة الملحّة إلى إعادة بناء عقد اجتماعي جديد يعيد الاعتبار للمواطنة والكرامة والعدالة.

اللافت للنظر في السياق السوري أنّه لا يتبع المسار التقليدي المعتاد لعمليات الانتقال السياسي، كما هو الحال في العديد من التجارب الأخرى في مصر وتونس، بل يمرّ بمسارٍ أكثر تعقيداً يمكن تلخيصه بأربع مراحل متداخلة: من دولةٍ إلى لا دولة، ثمّ إلى الثورة، وأخيراً إلى محاولة إعادة تأسيس الدولة. هذا التسلسل غير النمطي يفرض مقارباتٍ خاصّةً لفهم الواقع السوري والتعامل معه، خصوصاً أنّ مسألة بناء الدولة لا تبدأ من نقطة الصفر فحسب، بل من تحت الصفر، في ظلّ الانهيار الكامل لمؤسّسات الدولة، وانقسام المجتمع، وفقدان الثقة بين المكوّنات المختلفة.

ومن الجدير بالملاحظة هنا أنّ تجارب ما يُعرف بثورات “الربيع العربي” لا تصلح أن تكون مرجعية موحّدة لفهم الواقع السوري، نظراً إلى اختلاف السياقات وتشابك العوامل، فالاستبداد حين يتجذّر ويُكرّس عبر عقود، كما في الحالة السورية، ينتج بيئةً أكثر استعصاء على التغيير. وهنا يمكن مقارنة ما يجري في اليمن وليبيا والسودان من انفلات واحتراب طويل مع الاستقرار النسبي في مصر وتونس، لتتضح حقيقة أن مقاومة الاستبداد ليست عمليةً واحدةً في جميع البلدان، وأنّ تعميم المقاربات في هذا السياق قد يقود إلى استنتاجات مُضلِّلة.

من هذا المنطلق، من المهم استجلاء السجال الحاصل في سورية في ما يخصّ الجدال بشأن إشكالية حسم الأولويات بين العدالة والمصالحة، وكيفيّة التوصّل إلى رؤيةٍ تنجلى فيها هذه الضبابية المعيقة للاستقرار والتنمية، وذلك بغية المساهمة في مساعي تجاوز المأزق الراهن. فعند تفحّص الأدبيات ذات الصلة، بما في ذلك النظر إلى الحالات المماثلة، نجد أنّ هناك عدّة مقاربات ومدارس فكريّة بخصوص مسألة الأولويات، في ما يتعلّق بالجدل حول إشكالية الأولويات بين العدالة والمصالحة.

فهناك رؤية تؤكّد أولوية العدالة الانتقالية، من خلال وضع مرجعيات قانونية تضمن الحقوق الناجمة عن الأضرار والانتهاكات التي ارتُكبت، وتتضمّن الإجراءات والأطر المؤسّساتية الرسمية الراعية والداعمة لجهود المصالحات، وما ينجم عنها من توافقات ونتائج. وهناك رؤية أخرى مناقضة للأولى، تستند إلى فرضيّة مفادها بأنّ المصالحة عمليّة استباقية للعدالة الانتقالية، وبالتالي، لا يمكن تحقيق الأخيرة وتفعيلها إلا بإجراء مصالحة وطنية شاملة.

وهناك توجّه يمزج بين الرؤيتَين السابقتَين، أي يؤسّس منطلقاته الفكرية على تلازم متوازٍ لعمليتي العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، بحيث لا يمكن تحقيق إحداهما من دون الأخرى. هذا المنحى يُعوّل أساساً على التفسيرات والاجتهادات القانونية لهذه العلاقة، والتي تؤكّد أنّ المصالحة جزء لا يتجزّأ من منظومة العدالة، ويؤكّد حتمية التماهي بين الموضوعَين، وذلك من حيث درجة الترابط والتشابك والتداخل والاعتمادية. أي بمعنى أنّهما (العدالة والمصالحة) تدخلان ضمن إطار بنيةٍ متكاملةٍ تتمثّل في العدالة الاجتماعية، ولهذا لا يمكن تحقيق نجاح لأيّ منهما بمعزل عن الأخرى.

من هذا المنظور، فإنّ الحالة السورية تقتضي تجاوز النقاش النظري بين هذه المقاربات الثلاث، والتوجّه نحو صياغة رؤية واقعية تأخذ في الحسبان تعقيدات السياق السوري، وحجم التركة الثقيلة من الانتهاكات والانقسامات، فضلاً عن الحضور الإقليمي والدولي في تفاصيل الملفّ السوري، وهو ما يجعل من مسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية مشروعاً سياسياً وقانونياً واجتماعياً معقداً، لا يمكن حسم ترتيبه أو أسبقيته، إلا ضمن إطار وطني جامع، تتوافر فيه الإرادة السياسية والتوافق المجتمعي.

فأيّ انحياز مسبق لأحد المسارين على حساب الآخر (سواء العدالة أو المصالحة) قد يُفضي إلى نتائج عكسية، تكرّس الانقسام وتُجهض فرص بناء دولة القانون. فإذا فُرضت العدالة بمنطق الثأر من دون مراعاة الظروف السياسية والاجتماعية، فإنّها قد تُعمّق الشروخ المجتمعية وتُغذّي النزعات الانتقامية، في حين أنّ الدفع بالمصالحة من دون تأسيس قانوني وأخلاقي سليم، قد يُفضي إلى مصالحة شكلية، تُكرّس الإفلات من العقاب، وتُفرّغ العدالة من مضمونها. من هنا، تبدو الحاجة ماسّة إلى تطوير مقاربة سورية خالصة للعدالة الانتقالية، تُبنى على أسس الحوار الوطني، والمكاشفة المجتمعية، وإشراك الضحايا في رسم معالم المرحلة الانتقالية. ولعلّ التحدّي الأبرز في هذه المقاربة يكمن في القدرة على تحقيق التوازن بين مقتضيات العدالة والضرورات السياسية، من دون الوقوع في فخ الانتقام أو ثقافة العفو المجاني.

العربي الجديد

——————————-

 هيئة العدالة الانتقالية .. جدل حول حصر المحاسبة بجرائم النظام واستثناء بقية الأطراف

أنور البني لـ سناك سوري: يمكن للضحايا اللجوء للقضاء .. العبدالله: الجميع ارتكبوا الانتهاكات

السبت, 24 مايو 2025,

أصدر الرئيس السوري “أحمد الشرع” في 17 أيار الجاري المرسوم رقم 20 القاضي بتشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، لكنه حصر مهامها بكشف الحقائق حول الانتهاكات التي تسبب فيها النظام البائد.

سناك سوري _ محمد العمر

وعلى الرغم من أن “العدالة الانتقالية” كانت مطلباً رئيسياً بعد سقوط نظام “بشار الأسد” وحتى قبل سقوطه، إلا أن أصواتاً كثيرة حذّرت خلال الأشهر الماضية من أن تتحوّل إلى عدالة “انتقامية” أو “انتقائية”.

وحين ظهر مرسوم تشكيل وجعل مهمتها مقتصرة فقط على التحقيق بانتهاكات النظام ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر الضرر الواقع على الضحايا وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية، بدأ الجدل حول تقييد نشاط وعمل اللجنة بجرائم النظام، وهذه الجرائم على كثرتها طبعاً لكنها لا تختصر كل مآسي السوريين خلال 14 عاماً شاركت في الساحة السورية أطراف مختلفة ارتكبت بدورها انتهاكات واسعة وكان لها الكثير من الضحايا الذين لا يزال من حقهم معرفة الحقيقة وجبر ضررهم أيضاً، ويكفي أن نعرف مثلاً أن الصيغة الحالية للمرسوم استثنت انتهاكات تنظيم “داعش” التي من الصعب أن يختلف اثنان على وحشيتها وفداحة أثرها على السوريين.

طرق أخرى للعدالة

لا يرى المحامي السوري الناشط في مجال حقوق الإنسان “أنور البني” أزمةً في تشكيل الهيئة بمرسوم يصدر عن الرئاسة بدلاً من المجلس التشريعي، معتبراً أن الأهم تشكيل هيئة العدالة وتحديد آليات عملها لا سيما لناحية محاكمة المجرمين، هل سيكون عبر محكمة خاصة سورية أم مشتركة أم دولية، وكيف ستبدأ بإجراءات تعويض الضرر والبحث عن الحقائق ونشرها.

وأضاف “البني” في حديثه لـ سناك سوري أن خطوة المحاكمة مهمة خاصةً أن السلطة القائمة حالياً تقوم باعتقال الأشخاص وإبقائهم دون محاكمة، فيما لا يزال قسم من المجرمين طلقاء في الشوارع.

واعتبر أن حصر عمل الهيئة بجرائم النظام فقط غير مبرر لكن بالإمكان تفهّم عقلية الطرف الذي قرر تشكيل الهيئة، لكنه أوضح أن هيئة العدالة الانتقالية ليست الطريق الوحيد للضحايا للحصول على العدالة، فلديهم الحق باللجوء إلى أطر أخرى قد تكون أكثر صعوبة لكن من حقهم اللجوء إلى القضاء العادي سواءً المدني أو الجزائي ولا يمكن منع الضحايا من الحصول على العدالة إلا بحالة واحدة هي صدور مرسوم عفو عن مجلس تشريعي منتخب بعد 5 سنوات عن أشخاص أو جرائم محددة في حال سمح له الدستور الجديد بذلك.

وعن مسألة التشاور مع المجتمع المدني، رأى “البني” أنها يجب أن تحصل حالياً بعد تكليف رئيس لهيئة العدالة بتشكيلها، وبالتالي عليه إجراء مشاورات، مبيناً أن إقرار إنشاء الهيئة لا يحتاج لمشاورات فالسوريون مجمعون على ضرورة العدالة الانتقالية على حد قوله.

تحذير من تسييس العدالة الانتقالية

المحامي السوري “إياد الشعراني” قال أن هناك أسباب سياسية وراء صدور قرار تأسيس الهيئة بشكله الحالي، معتبراً أن حصر عمل الهيئة بجرائم النظام البائد لا يحقق الهدف الرئيسي لمسار العدالة الانتقالية الذي يهدف لتحقيق السلام الاجتماعي المستدام.

وأضاف “الشعراني” في حديثه لـ سناك سوري أن الذهاب إلى مسار عدالة انتقالية منقوص ومسيّس لا يشمل جميع الأطراف المرتكبة للانتهاكات سيؤدي إلى حالة انعدام استقرار اجتماعي وسياسي، موضحاً أن هناك ضحايا لانتهاكات أطراف أخرى غير النظام البائد، وإذا لم يتم إنصافهم فسنواجه مظلومية جديدة.

وشدّد على الأخذ بجميع آليات العدالة الانتقالية دون نقصان، وضرب مثالاً على أن التجربة العراقية لم تأخذ بلجان الحقيقة ما أدى إلى عدم وجود سردية وطنية لما حدث، مبيناً أن من المهم أن تبنى سردية وطنية سورية لما حدث وأن جذر الصراع كان سياسياً بين النظام والشعب ولو أنه لاحقاً أخذ أبعاداً اجتماعية وطائفية لكن جذره كان سياسياً.

ولفت إلى ضرورة تطوير البنية التشريعية السورية لتناسب مسار العدالة الانتقالية بما في ذلك أن تنص على جرائم الحرب والانتهاكات ضد الإنسانية وضم الاتفاقات الدولية الإنسانية إلى التشريعات السورية، إضافة إلى بناء المؤسسات بما فيها الجيش على أساس وطني جامع دون إقصاء.

وحذّر من احتكار مسار العدالة الانتقالية من قبل السلطة، داعياً إلى أن يكون المسار قائماً على الضحايا والاستفادة من منظمات المجتمع المدني وخبراتها والكوادر التي درّبتها، كما أكّد على ضرورة إتاحة الدور للمرأة السورية في لعب دورها المنتج في إعادة الاعتبار للهوية الوطنية السورية الجامعة لأنها العنصر الأهم نظراً لأن الأمهات والزوجات والأخوات هنّ ذوي الضحايا.

من جانب آخر، أوضح “الشعراني” أن المادة 39 من الإعلان الدستوري أتاحت لرئيس الجمهورية اقتراح القوانين، في حين ينص القانون المدني على أن الشخصية الاعتبارية تمنح بموجب قانون، وبالتالي فإن إحداث هيئة العدالة الانتقالية تتمتع بالاستقلال المالي والإداري كشخصية اعتبارية يستوجب أن تحدَث بقانون، وإقرارها بمرسوم بدلاً من ذلك يجعلها مشوبةً بعيب قد يؤثر بشرعيتها.

وتابع أن «بالنظر لتجربة السوريين مع استخدام المراسيم التي تصدر عن رئاسة الجمهورية كآلية تشريعية يجعلنا كحقوقيين بالنظر لطبيعة و الخلفية الفكرية السياسية للإدارة الجديدة ، أمام هواجس حقيقية و شكوك مشروعة سيما أن العدالة الانتقالية كمسار لا بد أن يقوم على قاعدة تشميلية و ترتكز على الضحايا و ما يحقق جبر الضرر و يؤسس لمصالحة وطنية تؤسس لسلام اجتماعي مستدام».

الجميع ارتكب انتهاكات

المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة “محمد العبد الله” تحدّث عن ضرورة عدم تسييس ملف “العدالة الانتقالية” والتعامل معه مجدداً على أنه ملف إنساني يرتبط بمصائر الناس وعوائلهم وضرورة معرفة هذا المصير وحصول العائلة على اعتذار واعتراف وتعويض ومساعدة طبية ونفسية وقانونية، لكن في المقابل سيكون هناك كثيرون ممن لن يحصلوا على الشيء ذاته.

يتابع “العبد الله” أن الجميع ارتكبوا انتهاكات في “سوريا” على الرغم من تفاوت نسبتها وفداحتها، فيقول «لكن الجميع ارتكب انتهاكات: الجيش الحر بمختلف فصائله وتشكيلاته، الجيش الوطني، قسد، داعش، حزب الله، إيران، روسيا، تركيا، ميليشيات طائفية من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان، التحالف الدولي الذي دمر بيوتاً على أهلها خلال حربه على “داعش”، وغيرها وطبعاً هيئة تحرير الشام التي وصلت إلى السلطة».

واعتبر أن المرسوم يبرّئ الجميع عدا نظام “الأسد”، كما أن مصطلح “انتهاكات جسيمة” تحمل تفسيرات عدة، فما هو الانتهاك الجسيم؟ ومن يقرر إن كان جسيماً؟ فيما كان من الممكن ببساطة الإشارة إلى “الانتهاكات الواقعة ضد القانون الدولي” فتشمل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في “سوريا”.

ودعا الحقوقي السوري إلى إعادة النظر بهيئة العدالة الانتقالية قبل أن تباشر عملها، احتراماً للضحايا السوريين جميعاً، حيث تؤسس محاسبة طرف دون آخر إلى ما يعرف بـ”عدالة المنتصر” وهي نسخة ملطّفة من أعمال الانتقام التي تحدث خارج نطاق القانون، ورأى أن المعضلة هي في “هيئة تحرير الشام” تحديداً لأنها لو فتحت أبواب محاسبة بقية الفصائل، ستعلو الأصوات المطالبة بمحاسبتها.

قرار مخيب للآمال ويخالف الإعلان الدستوري

أما رئيسة رابطة عائلات قيصر “ياسمين مشعان” فكتبت أنه لم يكن من السهل عليها قبول القرار الرئاسي الذي كانت تنتظره بفارغ الصبر، والمتعلق بإنشاء هيئة العدالة الانتقالية.

وأضاف “مشعان” أن القرار جاء مخيباً للآمال إذ يختصر العدالة لأنه قرار يختصر العدالة بجرائم النظام السوري، ولم يكن منصفاً لكل الضحايا ويعترف بحقهم في المشاركة بعمليات العدالة الانتقالية ويخالف الإعلان الدستوري نفسه.

ترى الناشطة التي فقدت 4 من إخوتها على يد النظام وأخاً خامساً على يد “داعش”، أن القرار كأنه ببساطة يطلب منها التفريق بين أخيها الذي غيّبه “داعش” وبين أخوتها البقية الذين غيّبهم النظام، وتضيف أن نظام “الأسد” كان “أس الجرائم في سوريا” لكن هذا لا يعني تجاهل بقية المجرمين، وختمت بأن النضال مستمر ولن يتوقف.

تشكيل الهيئة دون مجلس تشريعي

رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان “فضل عبد الغني” اعتبر أن المسار الأفضل لتشكيل “هيئة العدالة الانتقالية” كان إقرارها عبر مرسوم يصدر من مجلس تشريعي منتخب وليس مرسوماً تنفيذياً يصدر عن الرئاسة، وذلك بناءً على تجارب دول أخرى في هذا السياق.

وأشار “عبد الغني”  في حديثه لـ“الإخبارية السورية” إلى إيجابية الاستقلال المالي والقضائي للهيئة عن الوزارات، لما لذلك أثر في أن تكون الهيئة على مسافة واحدة من جميع الضحايا، وأن تكون المحاسبة شاملة لجميع الأطراف على الرغم من نظام “الأسد” وحلفائه ارتكبوا النسبة الأكبر من الانتهاكات لكن هناك نسبة ارتكبتها أطراف أخرى، الأمر الذي أغفله المرسوم بسبب غياب المشاورات قبل صدوره.

استبعاد عائلات الضحايا

المحامي “ميشال شماس” وصف المراسيم الرئاسية بـ”المتسرعة” وقال أنه ليس مطمئناً على العدالة في ظل استبعاد كامل لرأي عائلات الضحايا والمنظمات الحقوقية والمدنية التي عملت طويلاً على هذه الملفات ولديها خبرة متراكمة، إضافةً إلى حصر المحاسبة على الجرائم التي ارتكبها النظام البائد.

بدوره، اعتبر رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير “مازن درويش” أنه يجب استخدام العدالة والمحاسبة كأداة للسلام وليس كسلاح للانتقام.

يذكر أن المادة ٤٩ من الإعلان الدستوري تنص على أن تُحدَثُ هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية، تعتمد آليات فاعلة تشاورية مرتكزة على الضحايا، لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف للضحايا والناجين، بالإضافة إلى تكريم الشهداء، وتستثنى جرائمُ الحرب والجرائمُ ضد الإنسانية وجريمةُ الإبادة الجماعية وكلُّ الجرائم التي ارتكبها النظام البائد من مبدأ عدم رجعية القوانين.

سناك سوري

——————————–

أنور البني: العدالة الإنتقالية في سوريا مازالت بعيدة.. و250 ألف مفقود في سجون

——————————–

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى