مراجعات الكتب

عن أحمد شوقي علي و”معجم المفردات العادية”/ يوسف بزي

الأربعاء 2025/05/28

لا يصح القول إن مصر “تفاجئنا” بكتّاب مبهرين. ذلك أننا اعتدنا أن تهبنا مصر وبسخاء روائيين وقاصّين نشعر دوماً أنهم يسبقون توقعاتنا، جيلاً بعد جيل. مع ذلك، لا مهرب من تعبير “المفاجأة” حين تقع بين أيدينا رواية أو مجموعة قصصية آتية من القاهرة، وحاملة معها الجديد الطازج في فن الكتابة، كما هو حال الكتاب القصصي “معجم المفردات العادية”، لأحمد شوقي علي.

وأظن أن دهشتي بقراءته، مصدرها أمران. الأمر الأول، افتراق علي عن أقرانه لغوياً. فهو يجمع حرصاً على ميزة سيولة العامية المصرية ولسانها، ويقيدها في الوقت نفسه، بفصحى صارمة، لا ندري تماماً نسبها، ولا نمسك بمرجعيتها. كأنها “محاكاة” معاصرة للنثر القديم، أو هي مستلة من رواسب ثقافة شعرية. والأمر الثاني، أن الكتاب هو رواية كاملة وقد جرى تفكيكها لا بناءها. ويبدو أنه فعل ذلك عمداً، ليكون شغله اللغوي وأسلوب قصّه وعالم حكاياته، معاً، اقتراحاً لخيانة السائد في تأليف الروايات الرائج راهناً على نحو ممل ومحبط.

وأحسب أن تفكيك الرواية (والإيحاء بوجودها كجسد حكائي ونصّي)، يتصل على نحو أو آخر، بفساد أي ادعاء بالتماسك العمراني والاجتماعي. فراهن مصر (وبلداننا والعالم) إنما هو تداعي الأشياء وفوضى المعاني. الزمن نفسه غير قابل للقياس. وعليه، يصير عمران الرواية عشوائياً بدوره.. أو كاذباً. لذا، تحاشى أحمد شوقي علي “العشوائية” و”الكذب”، وكان على روايته أن تبقى هكذا متوارية، متحرّرة ومفككة ونزقة.

مدار حكاياته كلها، يدل عليها استهلال الكتاب: “الآل: السراب. وآل الرجل: أهله وعياله، وأتباعه وأنصاره” (المعجم الوسيط). فهي كلها عن الأسرة والأقارب، سلالة الراوي وأهله. وفي الوقت عينه هي سراب وعبث وخواء في معنى صلات الرحم، بل وثقل وطأتها وقسوتها.

الغواية في هذه القصص، وعلى نحو مفارق، هي اللغو.. الأحاديث والكلام الذي يتحول إلى دوامة وورطة وسوء فهم. الكلام لا يعبّر عن أي مشاعر بل يكتمها. هذا هو مأزق العلاقات الأسرية كلها: كبت العواطف والاستمرار في اللغو. إنها مهمة شاقة في منح الثرثرة قوة أدبية، إيحائية وجذابة. فالكلام هنا ليس لغة، مجاني، ومع ذلك يملك سلطة قاهرة تمنع اللغة من التشكل. ألهذا بات من الصعب على الأفراد (في الواقع وفي الأدب) أن “يقولوا” حقاً، أن يقرروا ويختاروا، وأن يعبروا بوضوح عن مشاعرهم وأفكارهم، أن يكتبوا؟ بدا ذلك واضحاً في نص “ما اجتمع على عنق الديك” بما فيها من استعادة متكلفة لدوستويفسكي وروايته “الجريمة والعقاب”.

بالتوازي، هناك الفضيحة الصغيرة، مركونة في كل نص. أو بالأحرى في أعماق ذاكرة طفولية، ولا يمكن محوها. مؤلمة ومخجلة وإن كانت على الأغلب نتاج البراءة أو القدر. شخصياً، تحيلني بعض النصوص (خصوصاً “الألف سنة” و”ما خلّفه الميت”) إلى وقاحة جورج باتاي ونثره، حيث البوح والكتابة صنو الرغبة واللذة. فالحكاية غالباً تأتي بلا تبرير أو شرح، وليس بالضرورة أن تحمل طرافة أو كآبة. إلا أنها بالتأكيد تبطن المتعة والخوف، الجنس والموت. وللدقة: بلا واو العطف.

أبعد من ذلك، أيقنت أن أحمد شوقي علي، يكتب كإدمان على الحكي/الكتابة. يقول: “أحكي من دون تدبير مسبق لما سأحكيه، للحكاية نشوة لا يعرفها إلا الحكّاء”. لكن إذا كنا عالقين -حسب تصوره- “في يوم طويل، لا يكرر نفسه، هو فقط اليوم ذاته لا يريد أن ينتهي”، فلا شيء يبقى للكتابة سوى التعب السقيم والضجر الوجودي. وبهذا المعنى، صار الأدب أكثر صعوبة في يكون روايةً مرحة أو مأسوية أو ذات معنى أصلاً. هذا بالضبط ما جعلني أقرأ “معجم المفردات العادية”.

المدن

——————————-

معجم المفردات العادية”… نصوص تعالج وقائع غرائبية

صدر عن دار “العين” للنشر في القاهرة، كتاب “معجم المفردات العادية” للكاتب أحمد شوقي علي، ويضم 16 نصاً، يشتبك خلالها مع المفردات العربية الدارجة ذات المعاني المتعددة، محاولاً تقديم نصوص موازية لدلالتها المهجورة (بعيداً عن أي صبغة مدرسية قد تسم هذا الهدف من استعمال اللغة)، من خلال حوار فني يعكس المفارقة بين استخدام معاني مفرداتها، والتعامل مع الوقائع الغرائبية للحياة. أي بين استغراب العادي من المعنى لندرة استعماله، واستئناس الغريب من الواقع لاعتياده.

ويعود شوقي علي في كتابه الجديد إلى تصنيف “كتاب قصصي” الذي أتبعه في كتابه الأول “القطط أيضاً ترسم الصور”، وهو التصنيف الذي يقول إنه “التصنيف الذي أفضله في كتابتي، وأندم على أنني لم أقدم روايتي من خلاله، ليس لعدم قدرتي على صياغة نص روائي طويل أو قصير، وإنما لأنني كتبتُ “حكايات الحُسن والحُزن” وفقاً له، ولم أكن شجاعاً بما يكفي لإصدارها تحت هذا التصنيف. وقد مرت 10 سنوات عليها، وأظن أنني اكتسبت خلالها الجرأة الكافية للتعبير عن نصي دون قلق من اعتبارات السوق وما يقبل عليه القراء والناشرون”.

وعلى رغم أنه يكتب قصصاً، فإنه لا يرى في الوقت نفسه أن كتابه الجديد يعبر عن هذا التصنيف. يقول: “في الحقيقة، أعتز بفن القصة، ولا أجدها استراحة بين رواية وأخرى، أو تعبيراً عن لحظة متشظية في حياتي، أو غيره. ولست أكتب قصصاً متفرقة على مدار سنوات ثم أجمعها في كتاب، أستثقل وزنه، فأقول إنه هكذا انتهى. بل أدخل إلى الكتاب تأسرني فكرة محددة، ورغبة في التعبير عن موقف من الحياة والفن. هذا لا تستطيع أن تعكسه قصة تتناول وجهاً واحداً من وجوهه، بل نصوص عدة، وهو ما يضيف إلى المنتج النهائي سمات الكتاب الذي يتناول موضوعاً محدداً، ويختبر وجوهه كافة. أما الرواية، فترتبط بالآخرين، مصائر أخلقها وتقود نفسها بنفسها، ولا يمكنني تحديدها حسب رغبتي أو لمصلحة فكرة تسيطر عليّ، وإلا فسدت”.

ويضيف أن هناك “من قرأ الكتاب الجديد، وهو كاتب له ثقله الكبير، وقال إنه ببعض التعديلات قد يصلح لأن يكون رواية، لكنني رفضت فكرته لأنها تخرج بكتابي عن هدفه. هدفي في التجريب، والتعبير بجرأة عن موقفي. أعرف كتّاباً كباراً كتبوا قصة طويلة، وآخرين كتبوا سيرتهم الذاتية، أو نصوصاً متعددة على مدار عدة سنوات، وظنوا أن بينها مشتركًا يسمح بصدورها مجتمعة في كتاب، ثم نُصحوا بأنها قد تصلح لتكون رواية، فأقروا الرأي ونشروها وفق تصنيف يلوي عنق النص، وعدوا ذلك تجريباً. كيف يكون التجريب تجريباً من دون نية واضحة تحكمه منذ البداية؟ هل يصح أن أدخل المطبخ لصناعة طبق “مسقعة” فتفسد الطبخة، أو يتغير أصلها لسهو، أو لاكتشافي أن الثلاجة خالية من الفلفل، فأخرج لأقول إنني ابتكرت أكلة جديدة”.

وأحمد شوقي علي كاتب وصحافي مصري، متخصص في الصحافة الثقافية منذ أكثر من 15 عاماً. عمل في منصات ثقافية، ونُشرت مجموعته القصصية الأولى “القطط أيضاً ترسم الصور” عام 2010، تلتها روايته “حكايات الحُسن والحزن” (2015)، التي نالت اهتماماً نقدياً واسعاً، وفازت بجائزة ساويرس لشباب الأدباء عام 2018.

أسهم أحمد شوقي علي أيضاً في تأسيس “صالون غوته” في القاهرة، و”مهرجان القاهرة الأدبي”، بالإضافة إلى مشاركته في لجان تحكيم ثقافية لدعم حركة الترجمة والمواهب الأدبية الشابة.

النهار

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى