مراجعات الكتب

كابلان في الأرض اليباب: عبء العالم على كاهل الغرب/ صبحي حديدي

قبل الكتاب الأحدث، «أرضٌ يباب: عالم في أزمة دائمة»، الذي صدر مؤخراً عن منشورات راندوم هاوس في نيويورك؛ فإنّ أعمال الكاتب السياسي الأمريكي روبرت د. كابلان الثلاثة الأخيرة حملت العناوين التالية: «حلول الزمن: الإمبراطورية والفوضى، من البحر الأبيض المتوسط وحتى الصين»، «الذهن المأساوي: الرعب، القدر، وعبء القوّة»، «الأدرياتيكي: حفل الحضارات ونهاية العصر الحديث». وإذا عاد المرء إلى مؤلفات أخرى سابقة على هذه، لن يخيب ظنه حول ما تغصّ به العناوين من جرعات مبنى ومعنى، تتزاحم وتتدافع وتتلاطم لإحداث الدرجات القصوى من حشد الدلالات وشحن التشويق.

كيف لا، والرجل استحق صفة «عرّاف القرون»، حامل تلك البلورة السحرية التي تُبصر المستقبل الجيو – سياسي في التاريخ والجغرافيا، وفي علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والميثولوجيا والأركيولوجيا؛ حيث تشخيص المشاهد المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والتكنولوجية والثقافية، أقرب إلى التنجيم منها إلى تحليل الوقائع والملابسات والأحوال والمعطيات. ولا عجب، والحال هذه، أنّ حصتنا نحن، «أبناء الشرق الأوسط» تارة و«المجتمعات الإسلامية» تارة أخرى و«أطراف العالم القديم» بين حين وآخر، وافرة في كلّ كتاب جديد، وطافحة بكلّ ما هو قديم مكرّر مستعاد مستهلَك.

الكتاب الجديد يتألف من ثلاثة فصول: «فايمار تصبح عالمية»، «القوى العظمى في اضمحلال»، و«حشود وفوضى»؛ يسبقها اقتباس من الفيلسوف الإنكليزي روجر سكرتن، أحد كبار منظّرين الفلسفات المحافظة في الغرب وبين ألدّ أعداء فلاسفة اليسار (وكان يعتبرهم حفنة من الحمقى والمزيفين والمهيِّجين، ويحتسب أمثال هوبسباوم وجان ـ بول سارتر وميشيل فوكو وهابرماس في صفوفهم)؛ من كتاب مغمور له بعنوان «فوائد التشاؤم»، يسير هكذا: «الأمل، منفصلاً عن الإيمان وغير منضبط ببرهان التاريخ، مَلَكة خطيرة، لا تهدد الذين يعتنقونها وحدهم، بل أيضاً أولئك الواقعين في نطاق أوهامهم».

وقد يخال قارئ، متلهف على اختزال مضمون الكتاب من عنوانه أو عبر هذا الاقتباس مثلاً، أنّ السوداوية والتشاؤم وانحسار الأمل هي العناصر الكبرى الناظمة للكتاب؛ وظنّه هذا لن يرتطم بأيّ من العناصر المعاكسة، في مستوى الإيجاب والتفاؤل والاستبشار. ما خلا أنّ العالم عند كابلان، بمعنى البشر والتواريخ والحضارات والإمبراطوريات، لا يخضع لمعايير متماثلة من حيث الاستقراء والاستنتاج، وما ينطبق على استخلاص فكرة العداء للسامية لدى طلاب الجامعات الأمريكية المتضامنين مع قطاع غزّة، لا يسري (بل يتنافى تماماً!) إذا تمّ استخدامه لاستنباط سياسات فاشية وعنصرية وإجرامية في حروب الإبادة والتجويع والتهجير التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ القطاع.

أكثر من هذا، ثمة في نظر كابلان توزُّع للعالم المعاصر على أقطاب: «دولٌ عصابات»، على غرار روسيا وكوريا الشمالية؛ ودولٌ توتاليتارية، مثل الصين وكوريا الشمالية أيضاً؛ ودولٌ «ثورية إرهابية»، على شاكلة إيران وأذرعها؛ ودولٌ ما قبل وما بعد صناعية، والقاسم المشترك بينها هو… العداء للسامية، نعم! في الصين كما في روسيا، وفي كوريا الشمالية كما في الهند، إذا وضعنا جانباً المجتمعات المسلمة قاطبة. وهذه، حسب بلورة كابلان، تختلف عن عداء للسامية كان وارداً تلمّسه لدى أمثال جوزيف ستالين وماو تسي تونغ، والفارق الأكثر حسماً في يقينه هو أنّ الأعداء الجدد هؤلاء «أكثر عدمية في ميادين كثيرة». لهذا، يتابع كابلان، كان غزو أفغانستان السبب الأوّل وراء انهيار الاتحاد السوفييتي، وكان اضطرار بكين إلى التعامل مع ريتشارد نيكسون بمثابة تدشين للنظام الرأسمالي في النسخة الصينية.

وقد يتساءل القارئ، ذاته الذي تلهف على التكهّن بمضمون كتاب كابلان الجديد: هل من حدود، حتى تلك القصوى المغالية، لما يمكن أن يذهب إليه كابلان في حشر التناظرات الزائفة، وقسر العلاقات بين ظواهر لا تجمع بينها صلات ارتباط؛ على غرار ما يفعل في تكديس الأنظمة والإمبراطوريات والساسة في سلّة العداء للسامية؟ الإجابة، بالنفي مع عدم الاكتراث بتوفير أيّ تبرير، يقدمها كابلان نفسه على امتداد 224 صفحة من كتابه الجديد: نحن (يقصد الغرب، وليس البتة تلك المجتمعات والأنظمة والحضارات على الهوامش) ندخل حقبة جديدة (حقاً؟) من الارتجاجات الكونية، حيث خليط من الحرب والتبدل المناخي وتنافس القوى العظمى والتقدم التكنولوجي الهائل ونهاية الإمبراطورية؛ طبقاً لما يثير حماس الناشر، فيدوّنه على الغلاف.

مطلوب، في رأس لائحة الإنقاذ، «ليبرالية تاريخية» تعوّض عن النظام الديمقراطي في حدّ ذاته، وتنقذ العالم (بأسره هذه المرّة، ولكن تحت قيادة الغرب) من الفوضى والانهيار و… تراث جمهورية فايمار الألمانية ما بين الحربين. ليذهب القارئ أنى شاء في إسباغ أية درجة من الصدق والمصداقية، أو الترهات والخزعبلات، على فرضيات كهذه؛ الأمر الذي لا يلوح أنّ كابلان يعبأ به أصلاً، ما دام يواصل حمل صفة «عرّاف الجيو ـ سياسة» الكونية، و… الأكثر مبيعاً، طبقاً لتصنيفات صحيفة «نيويورك تابمز» والتعريف بالرجل في سوق النشر.

وإذ أقحم التناظر بين نابليون وهتلر، فلأنه شاء رشق الشخصيتين على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يواصل منذ عقود التلاعب بـ«الحزم الغربي» عن طريق خلق «نزاعات مجمدة» في أمكنة مختلفة من القوقاز والبلقان وأوكرانيا الشرقية، فضلاً عن ضمّ القرم والتدخل العسكري في سوريا. هنا، في المثال السوري تحديداً، لن ينتظر القارئ من كابلان مفردة واحدة عن نظام آل الأسد، الأب مثل ابنه الوريث، ومنظومات الاستبداد والفساد التي أطلقت انتفاضة الشعب السوري في ربيع 2011؛ هذه التي يكتفي العرّاف باختزالها إلى حال من «الذوبان» تحت ضغط ما يُسمى «الربيع العربي». ولكن، إذْ يقرّ بأنّ الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 كان نتيجة تراخي الولايات المتحدة والحلف الأطلسي ومحاولة استمالة بوتين للدخول في النظام الأمني الغربي، فإنّ كابلان يحشر هذه الخلاصة في واحدة من أبرز معادلات كتابه الجديد: أنّ معضلات العالم وأزماته هي عبء على كاهل الغرب، وكأنها إعادة إنتاج في القرن الـ21 لمفهوم «عبء الرجل الأبيض» الاستعماري القديم.

في المقابل فإنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي، ورغم انقسام سكانها حول العديد من المسائل، «موحدة بصفة مطلقة حول الحاجة إلى الدفاع عن أراضيها عسكرياً، وهزيمة حماس، وتحييد إيران وأذرعتها». وأياً كانت سيناريوهات التأزم واحتمال اندلاع مواجهات عسكرية في المنطقة، فإنّ التكاتف الشعبي الإسرائيلي لا يُقارَن بضعف القاعدة الشعبية لدى «حكّام الملالي» في إيران. هذا طراز آخر من تبصّر كابلان الجيو ـ سياسي حول الشرق الأوسط، ولا يراهننّ قارئ على أنه سوف يسلّم بنقطة قصور واحدة في مقاربة تضجّ بالتشخيصات الخاطئة أو الحمقاء أو الاختزالية أو العشوائية.

الأهمّ في ناظر كابلان يبقى التجزئة الثانوية للعالم، بعد تقسيمه إلى غرب يحمل عبء أطراف صانعة للأرض اليباب، طبقاً لمبدأ سابق أشاعه في كتابه «ثأر الجغرافيا: ما تخبرنا به الخريطة حول المعركة ضدّ القدر»، 2017: الصراع بين قوى «أرض الداخل» الأورو ـ آسيوية، مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، وقوى «هلال الأرض» المؤلفة عموماً من الولايات المتحدة وأوروبا وأوكرانيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي؛ لا يمثّل تمييزات جغرافية فقط، بل يستولد منصات متقاطعة، سياسية وتكنولوجية ورقمية، حضارية في نهاية المطاف، تعيد إحياء الإمبراطوريات القديمة أو تخسف الجديدة.

على الأرض اليباب ذاتها، حيث تمكث خالدة موازينُ القوّة بين الغرب وأطرافه الهوامش.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي»

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى