لقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا تحديث 30 أيار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
—————————-
“أميركا المتواضعة” في “سوريا الجديدة”/ إياد الجعفري
2025.05.30
كتب المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، قبل أيام، منشوراً ذكياً يندرج في سياق ما يُعرف بـ “الدبلوماسية الشعبية” التي تستهدف التأثير في الرأي العام وإغواءه.
ولا يعني ذلك أن الرجل كان يكذب في مجمل منشوره، بقدر ما كان يعبّر عن رغبة في تعظيم أدوات القوة الناعمة الأميركية، في نظام دولي يتسم بـ “التعددية القطبية”، تراجعت فيه قدرة الغرب على الهيمنة المباشرة، وصعد فيه دور القوى الإقليمية بصورة ملحوظة.
في نظام دولي من هذا الطراز، يكثر اللاعبون، وتزداد فوضى العلاقات الدولية، وتزداد الحروب والصراعات المسلحة. ووفق المتخصصين، كانت الحربان العالميتان، الأولى والثانية، نتاج نظام دولي “تعددي الأقطاب”.
وقد اختبر العالم إرهاصات التحوّل إلى “التعددية القطبية” منذ نهايات العقد الأول من القرن الحالي. وكانت سوريا خلال العقد الثاني منه، إحدى ساحات الحروب بالوكالة بين اللاعبين الكثر، واختباراً جلياً لمحدودية قدرات كل منهم، وعجزه عن حسم المشهد وحده.
مع ميل الكفّة لصالح قوى الإقليم، مقارنة بالقوى الدولية. لكن الكلفة الباهظة الناجمة عن ذلك، لم ينحصر أثرها على السوريين فقط، بل طالت بآثارها السلبية معظم الدول الجارة لسوريا، وصولاً إلى أوروبا. وقد أظهرت التجربة السورية، كنموذج من نماذج محاولة اللاعبين الإقليميين والدوليين، ترتيب قواعد لـ “تعددية قطبية مضبوطة”، أن “التعاون التنافسي” خرج عن السيطرة، و”قواعد الصراع” المرسومة كُسرت، جراء محاولة كل لاعب توسيع الهامش المتاح له. فكانت الخاتمة انهيار قوة محلية مسيّطرة، وصعود أخرى، بصورة، يعتقد كاتب هذه السطور، أنها فاجأت معظم اللاعبين الإقليميين والدوليين، خلافاً لما تذهب إليه بعض التحليلات، بهذا الصدد.
وإن احتُسب هذا التحوّل في سوريا، بوصفه “نصراً” لقوى إقليمية (تركيا، قطر، السعودية..)، على حساب أخرى (إيران، إسرائيل..)، وبوصفه يصب في صالح قوى دولية (الغرب)، على حساب أخرى (الصين وروسيا)، إلا أنه يبقى أن خاتمة هذه التجربة في سوريا، كانت كفيلة بإظهار محدودية قدرة أي لاعب، إقليمياً، كان أم دولياً، على الحسم والتحكم في الأمور.
وكانت اختباراً لقدرة القوة الصلبة (العسكرية والأمنية) على الفعل، في ظل كثرة اللاعبين المنافسين. وهو الاختبار الذي جاء بنتائج سلبية للاعبين أنفسهم. مما رفع من أسهم “القوة الناعمة”، وإحدى أدواتها الأبرز، الدبلوماسية القائمة على نسج الشراكات، كما أشار المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، في منشوره المشار إليه.
وإن كانت إشارة باراك في عبارته “لقد انتهى عصر التدخلات الغربية”، تبدو أقرب للمغازلة الموجهة للشارع العربي –السوري خصيصاً-، الذي يحمل لاوعياً موروثاً، ينظر بسلبية لمواقف الغرب حيال المنطقة، منذ أكثر من قرن، تبقى إشارات باراك الأخرى، في منشوره الملفت، تعبيراً عن فهم متواضع وحذق، لمحدودية القدرة الأميركية الصرفة، والحاجة للشركاء في المنطقة، وداخل سوريا ذاتها.
إلا أن أبرز ما حملته إشارات باراك، تلك التي تعبّر عن عدم رغبة الغرب بتقسيم سوريا. وكان لافتاً أن منشور باراك، جاء بعيد لقائه بالرئيس أحمد الشرع، في تركيا. الشرع وفق بيان الرئاسة السورية، شدّد خلال الاجتماع على رفض أي محاولات لتقسيم البلاد، وأكّد تمسّك الحكومة السورية بوحدة وسيادة الأراضي السورية. ولا بد أن باراك طمأن الشرع، في لقائهما، بأن واشنطن لا تؤيّد أية مشاريع لتقسيم سوريا. ومن ثم، قال باراك ذلك مباشرةً، في منشوره الموجّه للرأي العام الشعبي –السوري بصورة خاصة-، كرسالة طمأنة وتودّد حيال شعب يعرف الرجل المتحدّر من أصول لبنانية، طبيعة نظرته المرتابة حيال السياسات الغربية في المنطقة.
ولا يعني ذلك، أن باراك لم يقصد ما قاله بخصوص إدانة دور الغرب بتقسيم شرق المتوسط، في إشارته لإرث معاهدة سايكس – بيكو. لكنه لا يعني، بالضرورة، إدانة أخلاقية، بقدر ما هي فهم لمحدودية قدرة الغرب، بما فيه الولايات المتحدة، على الهيمنة المباشرة، والحاجة للشراكات مع قوة سورية فاعلة –الحكومة بدمشق-، والقوى الإقليمية المؤثرة فيها (تركيا والخليج)، كي يحقق مصالحه، بصورة أفضل، وبكلفة أقل.
وبالإشارة إلى التكلفة الأقل، يدرك صانع القرار الأميركي، الكلفة الباهظة المحتملة لانفراط عقد الكيان السوري باتجاه حرب أهلية أو فوضى شاملة، كما أشار إلى ذلك، بصورة علنية، وزير الخارجية ماركو روبيو، خلال جلسة الاستماع التي عقدها مجلس الشيوخ، قبل نحو أسبوع.
كلام روبيو حينها، مضافاً لمنشور باراك بعدها بأيام، يكشف كيف أن واشنطن تفضّل التدخل الإيجابي الناعم بسوريا، عبر الشراكات والاستثمارات والدبلوماسية، بدل التدخل السلبي الصلب عبر القوة العسكرية أو محاولات الهيمنة والاستتباع. وهو ذات النَفَس الذي يحكم نظرة الأوروبيين لمصالحهم في سوريا، أيضاً. حيث الاستقرار غاية مهمة.
هي لحظة فريدة في تاريخنا، كسوريين، أن تتلاقى مصالح الأغلبية منا، مع مصالح الغرب ومعظم دول الإقليم. وبينما تزداد أدوار القوى المحلية والإقليمية الصاعدة في ظل “التعددية القطبية” الراهنة، تزداد الفرص، والمخاطر أيضاً.
لكن يمكن القول، إن اقتناص الفرص المتاحة، ولجم المخاطر المرافقة لها، أمر متاح بصورة كبيرة، لنا، كسوريين، اليوم. وهو ما يميّز هذه اللحظة الفريدة، التي يجب الإمساك بها بقوة، وعدم تضييعها. لأنها قد تكون لحظة النهوض بهذا البلد المنكوب، نحو مسيرة تنمية نوعية شاملة، قد تصبح بعد عقود، موضع إشادة تاريخية من دارسي تجارب الشعوب التي تنفض عن كاهلها غبار المآسي، وتحقق أنموذجاً للارتقاء.
تلفزيون سوريا
——————————-
مستقبل قطاع الطاقة في سوريا بعد رفع العقوبات الأميركية والأوروبية/ حسن الشاغل
2025.05.29
قد يشهد قطاع الطاقة في سوريا تحولات جذرية في الفترة القادمة مع إعلان كل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وخاصة تلك المتعلقة بقطاع الطاقة. انطلاقاً من ذلك تهدف هذه المقالة إلى تحليل كيف يمكن توظيف رفع العقوبات لإعادة تأهيل البنية التحتية للطاقة؟
الآثار المباشرة لرفع العقوبات عن قطاع الطاقة
بعد رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن سوريا من المتوقع أن تبدأ وزارة الطاقة بتنفيذ المشاريع الأكثر تحقيقاً لتغيرات ملموسة على واقع وحياة الناس، وهنا نقصد قطاع الكهرباء، حيث من المتوقع أن يشهد تحسناً ملموساً في الفترة القادمة لعدة عوامل:
– القدرة على استيراد قطع الغيار اللازمة لصيانة وإصلاح محطات توليد الكهرباء المتضررة.
– استيراد الوقود اللازم لتشغيل محطات توليد الكهرباء بشكل أكثر استقراراً. وبالفعل وقعت سوريا مع تركيا على اتفاقية استيراد 6 ملايين متر مكعب من الغاز يومياً، لضخه للمحطات الحرارية المنتجة للكهرباء. وفي سياق متصل ستصدر تركيا إلى سوريا 400 كيلو واط عبر الخط الخماسي بعد تأهيلها.
– من المتوقع أن تشهد سوريا ربط شبكة الكهرباء مع شبكات الدول المجاورة من الأردن والسعودية، مما سيسهم في تحسين استقرار الإمداد الكهربائي.
وقد تشهد ساعات تشغيل الكهرباء تحسناً تدريجياً، مع توقع زيادة ساعات التغذية الكهربائية من 2-4 ساعات يومياً حالياً إلى 12-16 ساعة يومياً خلال نهاية العام، والنصف الأول من العام المقبل 2026.
ومن جانب آخر، قد تشهد سوريا خلال الفترة الحالية تحسناً مباشراً في إمدادات النفط والغاز، والتي ستصبح أسهل مع رفع العقوبات عن البنك المركزي، حيث كانت الحكومة تسند عمليات استيراد النفط والغاز لرجال أعمال، أما الآن فباستطاعة الدولة عقد صفقات شراء مع شركات ودول عبر البنك المركزي.
وفي سياق متصل، قد تبدأ الشركات الأجنبية المتخصصة بالدخول إلى سوريا، لإعادة هيكلة حقول النفط، ولتحديث مصافي حمص وبانياس، لتحسين كفاءة التكرير وتقليل الاعتماد على استيراد المشتقات النفطية.
وقبل الاستثمار في آبار النفط لا بد من معالجة مشكلة الإشعاعات النووية المنتشرة حول آبار النفط. فقد أدت الطرق البدائية في استخراج النفط التي استخدمتها قوات سوريا الديمقراطية “قسد” -ومن قبلها داعش- إلى انتشار هذه الإشعاعات بشكل أكبر من السابق، مما يتطلب جهوداً كبيرة وتكنولوجيا متقدمة لتنظيفها.
مستقبل الطاقة في سوريا
تحديث البنية التحتية
على مستوى البنية التحتية للنفط، من المهم أن تعمل وزارة الطاقة على خطة لاستحداث مصافٍ جديدة في البلاد إلى جانب تحديث المصافي القديمة. وكانت الطاقة الإنتاجية لمصافي النفط في سوريا في أحسن أحوالها تصل إلى 240 ألف برميل يومياً قبل عام 2011، وهو ما يشكل أكثر من 60% من الطلب اليومي الذي وصل إلى 400 برميل يومياً. ومن هذا المنطلق لابد من بناء مصافٍ جديدة لتصل القدرة التكريرية اليومية إلى 400 ألف برميل، بما يحقق الاكتفاء الذاتي.
وفي السياق ذاته لا بد من التركيز على ربط مناطق إنتاج وتكرير النفط بمناطق الاستهلاك بشبكة من خطوط الأنابيب الحديثة. ومن المهم أيضاً، أن تبدي الوزارة اهتماماً لتطوير صناعة البتروكيماويات مع التركيز على إنتاج المشتقات النفطية ذات القيمة المضافة العالية.
تبني مقاربة طاقوية جديدة
وعلى الرغم من أهمية تحسين تقنيات إنتاج النفط لتلبية الاحتياجات الداخلية الاساسية، إلا أن ذلك لا يجب أن يمنع تبني مقاربة جديدة لأمن الطاقة في سوريا يخرجه عن الطابع التقليدي المكلف مالياً. حيث تعتمد سوريا على المحطات الحرارية بنسبة تتعدى 90% لإنتاج الكهرباء، والتي تعمل على الفيول والغاز. كما تعتمد سوريا على الديزل لتغطية قطاع التدفئة المنزلية.
هذا الشكل يجعل من أمن الطاقة في البلاد معرضاً للاختلال، لأن انقطاع الغاز والفيول لسبب معين في البلاد يعني انقطاع شبه كامل للكهرباء كما حصل في السنوات السابقة. وانطلاقاً من ذلك، لابد من تنويع مصادر إنتاج الكهرباء بالدرجة الأولى، واستغلال كل المصادر المتاحة بما يحقق التنوع الذي يفضي لمستوى متقدم من الأمن الطاقوي، ويخفض من التكلفة على الدولة والمواطن.
وأحد أبرز أشكال التنوع الذي يمكن تبنيه على مستوى عالٍ في الدولة، طرح مشاريع الطاقة المتجددة الشمسية لإنتاج الكهرباء، والتي من المتوقع أن تنجح سوريا في هذا المجال، وذلك نتيجة لعدة عوامل:
– الميزة النسبية لسوريا: تتمتع سوريا بميزة نسبية في مجال الطاقة الشمسية، حيث تسطع الشمس فيها على مدار العام لساعات طويلة في العديد من المناطق لاسيما في وسط البلاد، مما يجعلها مؤهلة لإنتاج كميات كبيرة من الطاقة الشمسية.
– انخفاض تكاليف الطاقة المتجددة الشمسية: مع انخفاض تكاليف تكنولوجيا الطاقة المتجددة عالمياً، ستصبح الاستثمارات في هذا المجال أكثر جدوى اقتصادياً.
– وجود شركات اقليمية عربية متخصصة في بناء مشاريع إنتاج الطاقة الشمسية مثل شركة اكوباور السعودية.
كما من الممكن أن تعتمد الدولة على طاقة الرياح لإنتاج الكهرباء في بعض المناطق المرتفعة. وعلى الرغم من ارتفاع تكلفة عنفات الرياح مقارنة بتكلفة تركيب محطات الطاقة الشمسية، لكن يمكن الاعتماد عليها في مناطق جبال الساحل، والجبال الممتدة بين حمص ودمشق.
وفيما يتعلق بقطاع التدفئة المنزلية، فهناك فرصة كبيرة في سوريا لتغيير منظومة التدفئة التي تستهلك قسم كبير من الديزل سنوياً. فسوريا على أعتاب عملية إعادة إعمار مناطق شاسعة من البلاد، وسيتم العمل على بناء بنية تحتية متكاملة، وهنا لا بد من الإشارة إلى العمل لإنشاء شبكة ضخ للغاز المنزلي الخاص للتدفئة، للاستغناء عن الديزل الذي يعد أكثر تكلفة من الغاز.
ويمكن لسوريا أن تعتمد على الغاز المنتج محلياً إضافة للاستيراد إما عبر خطوط الأنابيب، أو عبر بناء محطات تسييل الغاز لتصبح البلاد قادرة على استقبال أو تصدير الغاز.
نستخلص من هذه المقالة، أن رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عن سوريا يشكل تحولاً استراتيجياً في مسار قطاع الطاقة، ويفتح المجال أمام إعادة تأهيل البنية التحتية الطاقية بشكل شامل. فمن المتوقع أن يؤدي هذا الانفتاح إلى تحسين كبير في إمدادات الكهرباء، عبر استيراد الغاز من تركيا لتشغيل المحطات الحرارية، وربط الشبكة السورية بشبكات دول الجوار مثل الأردن والسعودية وتركيا، مما ينعكس على استقرار التغذية الكهربائية ورفع عدد ساعات التشغيل اليومي.
في موازاة ذلك، تبرز الحاجة الملحة لتحديث البنية التحتية النفطية، من خلال إعادة تأهيل المصافي القائمة في حمص وبانياس، وبناء مصافٍ جديدة لرفع القدرة التكريرية إلى مستوى الاكتفاء الذاتي، إضافة إلى تطوير خطوط نقل النفط والغاز وتعزيز الصناعات البتروكيماوية ذات القيمة المضافة.
وبالنظر إلى التحديات المرتبطة بالاعتماد المفرط على الوقود الأحفوري، يصبح من الضروري تنويع مصادر الطاقة، عبر الاستثمار في الطاقة المتجددة، خصوصاً الطاقة الشمسية التي تملك سوريا فيها ميزة نسبية، نظراً لمعدل السطوع الشمسي العالي طوال العام. كما يمكن استغلال طاقة الرياح في المناطق الجبلية لرفد الشبكة الكهربائية بمصادر نظيفة ومستقرة.
في سياق إعادة الإعمار، تبرز أيضاً ضرورة تطوير منظومة التدفئة المنزلية، من خلال إنشاء شبكة حديثة لتوزيع الغاز المنزلي، بما يقلل الاعتماد على الديزل ويخفض التكاليف البيئية والاقتصادية.
بالتالي، فإن رفع العقوبات يتيح فرصة نادرة لتأسيس نظام طاقي وطني متكامل، متعدد المصادر، وأكثر استدامة، قادر على دعم التنمية الاقتصادية وتعزيز أمن الطاقة في سوريا.
تلفزيون سوريا
—————————
نهج ترامب في سوريا.. الفرص والتوقعات/ محمود علوش
2025.05.29
مثّل رفع الولايات المتحدة لجزء كبير من العقوبات المفروضة على سوريا دفعة إيجابية قوية للسوريين وعزز الأمل لديهم بأن تُدشّن الخطوة الأميركية عهد إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي.
والحقيقة أن قيمة هذه الخطوة لا تقتصر على أبعادها الاقتصادية، بل أعطت زخمًا كبيرًا للاعتراف الدولي بحكم الرئيس أحمد الشرع، وقد تؤسس لتحول تاريخي محتمل في العلاقات الأميركية السورية. مع ذلك، لا ينبغي تجاهل أن سوريا تحتاج إلى ما هو أبعد بكثير من هذا المستوى من التفاعل الدولي معها، في خضم المبادرات الأميركية والأوروبية بخصوص العقوبات. من منظور الواقعية السياسية، يبدو الانفتاح الأميركي نتيجة كبيرة وغير متوقعة مقارنة بالفترة الزمنية التي استغرقها والظروف المُعقدة التي تُشكل طبيعة علاقة الحكم الجديد بالمجتمع الدولي.
لكن، حتى مع الأخذ بعين الاعتبار الدوافع المُعلنة لإدارة ترامب في خطوة رفع العقوبات، والمتمثلة بدعم استقرار السلطة الحالية ومساعدتها على التعامل مع التحدّيات الكبيرة التي تواجهها، فإن التحرك الأميركي لا يبدو كافيًا لتحقيق هذه الأهداف.
فمن جهة، تزيد فترة ستة أشهر المُخصصة لرفع العقوبات من حالة عدم اليقين بشأن مستقبل السياسة الأميركية في سوريا على المدى الطويل. من المتصور الآن أن يعمل الرفع المؤقت للعقوبات كعامل مُحفز للدول الراغبة بدعم سوريا على المُضي قدمًا في هذا الاتجاه، لكن التمويل المؤقت لن يكون كافيًا. كما أن الاستثمارات الأجنبية الطويلة الأجل التي تحتاجها عملية إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي تتطلب رفعًا كاملًا ونهائيًا للعقوبات كي يقتنع المستثمرون بأن سوريا أصبحت وجهة مُغرية للاستثمار والانخراط الاقتصادي. والواقع أن كل يوم يتأخر فيه إيجاد هذه البيئة يزيد من الضغوط الاقتصادية على سوريا بدلاً من الحد منها.
علاوة على ذلك، لا تزال السياسة الأميركية في سوريا في الوقت الراهن غير واضحة الأهداف تمامًا. مع أن إدارة ترامب تُبدي نظرة واقعية للملف السوري من حيث تركيزها على أهمية استقرار السلطة الانتقالية كضرورة لمنع انزلاق سوريا إلى حرب أهلية، إلا أن هناك تصورًا عامًا لدى السوريين والعالم بأن التكاليف التي تنتظرها أميركا من الرئيس أحمد الشرع قد تكون ثقيلة على سوريا، خصوصًا فيما يتعلق بملف العلاقة مع إسرائيل. ويبدو أن التوجه الأميركي الجديد نجح جزئيًا في تقليص الضغط الذي تُمارسه إسرائيل على سوريا منذ التحول وحتى الآن، إلا أن هناك اعتقادًا بأن الرفع الشامل والنهائي للعقوبات مرهون أيضًا بانضمام سوريا إلى اتفاقيات السلام مع إسرائيل. وبهذا المعنى، فإن الانفتاح الأميركي على الرئيس أحمد الشرع، وإن بدا في جانب فرصة كبيرة لسوريا، فإنه مصمم أيضًا لتعظيم التأثير الأميركي على دمشق وخياراتها في التعامل مع قضايا مُعقدة مثل العلاقة مع إسرائيل وقوات سوريا الديمقراطية.
إن الرسائل التي تُرسلها الولايات المتحدة بخصوص رغبتها في استقرار السلطة الانتقالية وتحفيز الاستثمارات الأجنبية في سوريا مُهمة ولا يُمكن التقليل من تأثيرها الإيجابي، لكنها ليست كافية وحدها إذا ما قورنت بخطوات أخرى لتحقيق هذه الأهداف. وسيتعين على واشنطن التأكيد على أن فترة ستة أشهر المُخصصة لرفع العقوبات تندرج في إطار استراتيجية تدريجية تفرضها ظروف المرحلة الحالية، وليست مصممة للضغط على دمشق لإجبارها على خيارات ذات تكاليف مرتفعة عليها. كما سيتعين عليها ممارسة مزيد من الضغط على إسرائيل لإجبارها على تغيير جذري لنهجها في سوريا، وليس فقط تجميد نشاطها العسكري. أظهر الرئيس أحمد الشرع استعدادًا لمعالجة التحدي الإسرائيلي بنهج دبلوماسي، ويجب أن يُقابل هذا الاستعداد بتشجيع هذا النهج والضغط على إسرائيل لوقف تحركاتها العدوانية في سوريا، بما في ذلك التوغلات اليومية في المناطق الحدودية والتوقف عن التدخل في شؤون سوريا الداخلية مثل قضية الدروز.
وفي ملف قوات سوريا الديمقراطية، فإن الانخراط الأميركي كان له دور رئيسي في التوصل إلى اتفاقية بين الرئيس أحمد الشرع والجنرال مظلوم عبدي لدمج قسد في الدولة السورية الجديدة.
مع ذلك، لا تزال هذه العملية تمضي بوتيرة بطيئة. كما أن المطالب التي تطرحها قسد بخصوص تصوراتها لدور الأكراد في النظام السياسي الجديد لا تسهم في تهيئة بيئة مناسبة لإتمام اتفاقية الاندماج. بالنظر إلى التأثير الأميركي على قسد، فإنه سيتعين أيضًا على إدارة الرئيس ترامب إبلاغ المسؤولين الأكراد بوضوح بأن اتفاقية الاندماج وُضعت لتُنفذ، وبأن أي طرح للنظام السياسي يجب أن يحظى بموافقة الشعب السوري، وبأن مهام السلطة الانتقالية تتركز على توحيد البلاد وتشكيل جيش وطني واحتكار السلاح بيدها. إن إتمام اتفاقية دمج قسد بنجاح من شأنه أن يُعظم من قدرة استقرار سوريا في هذه المرحلة، ويُرسل رسائل قوية للأطراف المحلية والخارجية التي تسعى لعرقلة السلطة الانتقالية بأن الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة هو الحفاظ على وحدة سوريا واستقرارها.
من المؤكد أن النهج الذي اتخذه الرئيس ترامب ساعد إلى حد كبير في تهدئة التوترات بين تركيا وإسرائيل في سوريا. وقد شرع البلدان بالفعل في محادثات للتوصل إلى ترتيب للحد من التصعيد. مع ذلك، يمكن لواشنطن أن تتقدم أكثر في هذا المسار من خلال إبلاغ المسؤولين الإسرائيليين بوضوح بأن دور تركيا في سوريا محوري لضمان استقرارها، وبأن هذا الاستقرار هو السبيل الوحيد الذي يُعالج الهواجس الإسرائيلية المزعومة. بقدر ما أن استقرار السلطة الانتقالية يُشكل مصلحة للولايات المتحدة، فإن سوريا الجديدة تجلب فرصًا كبيرة لواشنطن في الشرق الأوسط. وهذه الفرص تستحق أن يكون النهج الأميركي في سوريا أكثر فعالية وقدرة على التأثير.
تلفزيون سوريا
—————————————
تطورات متسارعة بشأن تطبيع الحالة السورية/ بكر صدقي
28 – مايو – 2025
كانت البداية مع استقبال الرئيس الفرنسي ماكرون لأحمد الشرع في قصر الإليزيه كأول لقاء بهذا المستوى مع زعيم دولة غربية لديها عضوية دائمة في مجلس الأمن. ثم «فاجأنا» ترامب بلقائه في الرياض بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ومشاركة عن بعد من الرئيس التركي أردوغان. ولم تكن تصريحات السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد بشأن «تأهيل الجولاني» منذ سنوات وما تلا ذلك من الكشف عن دور بريطانيا الصامت بواسطة جوناثان بأول محض مصادفة.
إن إخراج اجتماع الرياض بالشكل الذي تم فيه هو من مستلزمات أسلوب الصدمة الذي يحبه ترامب، ولكن لا يخفى على أحد أنه دشن مرحلة جديدة في مسار التحول السوري الكبير باحتضان أمريكي فرنسي بريطاني، ورعاية سعودية ـ تركية مباشرة. تم تتويج هذا المسار بسرعة من خلال تعليق العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا لستة أشهر قابلة للتمديد، ليظهر أن هذا الاحتضان الغربي ـ الإقليمي ـ العربي للسلطة الجديدة ليس شيكاً على بياض، بل هو فرصة لها بإطار زمني واضح وشروط تكرر ذكرها مراراً منذ سقوط نظام الأسد على مسامع كل من الشرع والشيباني في جميع المناسبات الدبلوماسية إضافة إلى وسائل الإعلام، يمكن تلخيصها بنقطتين أساسيتين هما التحوّل إلى دولة والتموضع في الاصطفاف الغربي بعيداً عن محور موسكو ـ بكين ـ طهران.
أما ما عدا ذلك فيترك أمره للسوريين أنفسهم ليختاروا النموذج الذي يناسبهم لمستقبل كيانهم وعيشهم. حتى العلاقة مع إسرائيل لن تفرض على سوريا كما قد يفهم من مطالبة ترامب بانضمامها إلى اتفاقات أبراهام. أما في الشؤون الداخلية فلن يضغط أحد على سلطة دمشق لتمضي نحو نموذج ديمقراطي في الحكم أو علمانية الدولة أو النظام الفيدرالي أو غيرها من مطالب قطاعات من السوريين. غير أن التحوّل من جماعة مسلحة إلى دولة يفترض بداهةً أن تحتضن هذه كل السوريين بجماعاتهم الأهلية وثقافاتهم المتنوعة وطبقاتهم الاجتماعية وتعدديتهم السياسية والإيديولوجية بما يُشعر السوريين أن الدولة هي دولتهم مهما تغيرت السلطة الحاكمة، وأن هذا التغيير ممكن بإرادة أغلبية السوريين، بعد انتهاء حقبة الأبد الأسدية المعادية للتغيير، وأن يضمن النظام السياسي المفترض إقامته وسائل سلمية للتغيير من غير حاجة إلى انفجارات اجتماعية جديدة للتخلص من سلطات قد تميل إلى تأبيد نفسها مجدداً.
الدول الغربية، ومثلها دول الجوار العربي والإقليمي، تريد من السلطة في سوريا تحقيق الاستقرار ليتوقف هذا البلد عن الاحتراب الداخلي وتصدير اللاجئين والإرهاب والكبتاغون ويتحول إلى وجهة مرغوبة للاستثمار. لا مشكلة لديهم مع سلطة دكتاتورية تحقق هذه الأهداف. فلم تكن مشكلتهم مع النظام المخلوع أنه دمر البشر والحجر طوال ما يقارب عقداً ونصف من السنوات، بل في أنه فشل في استثمار جميع الفرص التي أتيحت له لاستعادة الاستقرار الذي كان متوفراً قبل العام 2011، بل عمل بكل ما يملك من إمكانات ومع حلفائه الروس والإيرانيين وحزب الله على تصدير اللاجئين والإرهاب والمخدرات خارج الحدود.
منذ الأيام الأولى بعد سقوط النظام واستقرار الشرع في قصر الشعب قال في إحدى تصريحاته لوسائل الإعلام الأجنبية إنه ينبغي الانتقال من عقلية الفصائل إلى عقلية الدولة. وتشير مسيرته الطويلة من التحولات إلى طموح سلطوي لديه لا يمكن تحقيقه في قيادة الدولة السورية بغير هذا الانتقال. لكن الأشهر الستة التي تلت ذلك أظهرت محدودية قدرته على تحقيق هذا الهدف، وأساساً بسبب محدودية سيطرته على الفصائل التي قامت تحت قيادته بالاستيلاء على السلطة في مناطق سيطرة النظام المخلوع، إضافة إلى تردده في المضي قدماً في الاتفاق الذي وقعه مع قوات سوريا الديمقراطية، وفشله في تكريس تفاهم مستقر مع محافظة السويداء، ومحاسبة مرتكبي المجازر في منطقة الساحل وبعض مناطق الجماعة الدرزية. وما من داع لتكرار أن الخطوات التأسيسية التي قام بها لم ترتق إلى مستوى تطلعات السوريين في تأسيس دولة تستحق هذا الاسم. فكل هذا سبق وتم تسليط الضوء عليه أولاً بأول.
الفرصة الجديدة التي يتيحها تعليق العقوبات ستمنح السلطة وسائل لتدارك ما فاتها ووقتاً محدوداً للقيام بذلك. تبقى العقبة الرئيسية على هذا الطريق هي التخلص التام من الحالة الفصائلية ونشاط تلك الفصائل الهدام، سواء بالإقناع أو بقوة الدولة المدعومة بتوافق دولي حاضن. حتى إسرائيل التي تختلف رؤيتها لسوريا التي تريدها (دولة ضعيفة مفككة) عما تريده الدول الحاضنة، من الواضح أنها فرملت تدخلاتها الفظة في الآونة الأخيرة، بطلب أمريكي مباشر على الأرجح. فقد لاحظنا بالتوازي مع انفتاح ترامب على السلطة في دمشق (ومغازلته لأردوغان) فتوراً منه تجاه نتنياهو، إضافة إلى ارتفاع منسوب الاستياء الغربي من مواصلة إسرائيل حربها الإبادية على غزة والضفة الغربية.
لا نعرف هل ستتمكن المجموعة الحاكمة من السيطرة على فوضى الفصائل ونزع سلاحها وحلها كما تقرر أكثر من مرة. فمن شأن نجاح هذه الخطوة الأولى الأساسية أن يفتح الطريق أمام الخطوات الأخرى التي لا بد منها لتأسيس الدولة الجديدة المأمولة.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————————–
في قمّة برج ترامب/ مضر رياض الدبس
29 مايو 2025
لا يعني اللقاء السعودي الأميركي السوري أخيراً في الرياض (14 مايو/ أيار) أن سورية المُحرّرة من حكم الأسد التقت الولايات المتحدة التي أقنعتها السعودية وقطر وتركيا بالانفتاح على سورية الجديدة، إلا تبسيطاً. في العمق، التقت في الرياض ثلاثُ ظاهراتٍ جديدةٍ نسبياً في العالم. الأولى هي “الوهابي الأخير”، وقد انتهى إلى ظاهرة لافتةً جدّاً يمكن أن نسمّيها الـ “محمد بن سَلمانيَّة”، بما تعنيه من اتجاهٍ يحيل على التنمية والانفتاح، وبما أنتجته من ظاهراتٍ فرعيةٍ، مثل الهيئة العامّة للترفيه، التي تعمل بجدّ في قلب السردية السعودية التي طالما ارتبطت قبل ذلك بهيئةٍ من نوعٍ آخر، كان اسمها “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر”. والثانية ظاهرة المُجاهد “السلفي الأخير”، وقد وضع ربطة عنق، ودخل إلى الدبلوماسية العالمية بثقةٍ ورشاقةٍ، بوصفه رئيسَ دولةٍ مهمّةٍ بالمعنى التاريخي والجيوسياسي. والثالثة ظاهرة “الرجل الأبيض الأخير”، ويمثِّله ترامب، وكلّ الجدل الذي أثاره (ولا يزال)، وقد نجح في إثبات الترامبية بوصفها ظاهرةً، وليست أعواماً أربعةً عابرةً انتهت مع ولايته الأولى. ولا أتصوّر أن أحداً يبالغ إذا قال إن هذا اللقاء حدثٌ ينتمي إلى فلسفة العلاقات الدولية للإنسان الأخير، أكثر ممّا ينتمي إلى السياسة نفسها. وكأنّ فكر صموئيل هنتنغتون، صاحب نظرية صدام الحضارات، ومعه منهجية تفكيره كلّها، قد أصيبت برصاصة رحمةٍ أخيرة بعد هذا اللقاء، فلو أتيح لأحدٍ من أصاحب الخيال الواسع أن يروي مشهداً مثل هذا لهنتنغتون قبل موته (2008)، لعدَّه الأخيرُ مجنوناً يهذي.
وبعد تجريد هذا الحدث من أبعاد السياسة المرحلية، يمكن أن نقرأه كالآتي: حدثَ لقاءٌ شائق بين سردية الأمويين المنبوشة من غياهب التاريخ نبشاً، لتدعّم صورة النصر المُبين، مع سردية الرجل الأبيض التقليدي المُحافظ، أو النسخة الأخيرة منه الأكثر جدلاً، الذي انتصر هو الآخر في بلده انتصاراً كبيراً، وكأن المنطقة في صورتها الأكثر أمويةً قد صافحت أميركا في صورتها ذات الرقبة الحمراء (red nick)، وقد يعني هذا أن معاوية الجديد قد يصير جيفرسون، أو جون آدمز، أو جورج واشنطن، أو أن ترامب قد يصير معاوية. في الحالتَين، مات هنتنغتون (المريض أصلاً) في هذا اللقاء، ودفن، وأُبّن. وكان تأبيناً مَرِحاً، فلا يبدو أن أحداً يبكيه في المنطقة باستثناء بنيامين نتنياهو وعلي خامنئي، اللذَين (في الأصل) لا يتقنان شيئاً مثلما يتقنان البكاء، بل يَتّخذانه حرفةً سياسيةً، ثمّ “يحشون بالدموع البندقية”، بتعبير محمود درويش.
على أيّ حال، لن يكون معاوية الجديد كسروي التنظيم والإدارة، كما كان في القرن الهجري الأول، ولكن الأرجح (إلى الآن) أنه سيكون ترامبياً على مستوى التنظيم والإدارة، وهذه بداية عصرٍ جديدٍ، قد يحدث خرقاً في فكرة الدولة السلطانية التي لم تتغيّر منذ أن تحوّلت الخلافة إلى مُلك، بتعبيرات ابن خلدون (أي منذ معاوية). ولو جرى بناء برج ترامب في دمشق، فسيكون هذا البرج هو المَعلم الأوّل الذي ينافس المسجد الأموي أهميةً في هذه المدينة العريقة. والثنائي (مسجد بني أميّة الكبير، وبرج ترامب) في مدينةٍ مثل دمشق (الآن) قد يعنيان نمطَ تفكيرٍ دولي جديد في موضوع الإسلام برمته، ومن ثمّ في موضوع الديمقراطية وفكرتها؛ والحداثة وموضوعاتها السياسية، وهذا الكلام ليس تبشيراً بطبيعة الحال، ولا تحذيراً أيضاً، لكنَّه توقُّعُ شيءٍ جديدٍ فحسب.
وهذا الجديد بدأ يظهر مثلاً في تصريح لافتٍ للمبعوث الأميركي الخاصّ إلى سورية، توم باراك، يعترف فيه بخطأ الغرب في “سايكس بيكو”، وأنها اتفاقية لم تكن من أجل السلام، بل من أجل “مكاسب إمبريالية”، ووعد بعدم تكرارها، مؤكّداً أن عصر التدخّل الغربي داخل حدود هذه الدول قد انتهى، وبدأ عصر “الشراكة الدبلوماسية”. قد يكون هذا الجديد تطوّراً، وقد يكون نكوصاً، لا يوجد تصوّر دقيق لدينا الآن؛ فهذا التصوّر يحتاج إلى تفكيرٍ أكثر. ولكن هذه الظاهرات الثلاث علاقتها مع الوفاء بالوعود جيّدة، فكلٌّ من الشرع وترامب وفّى بوعدٍ سريالي لم يصدِّقُه أحدٌ حين إطلاقه. وعد الأول بالعودة إلى البيت الأبيض، حين كان الثاني يعد بالوصول إلى دمشق، وحين كان بن سلمان ينفّذ وعداً قطعه في مبادرة مستقبل الاستثمار في 2018، بأن يجعل الشرق الأوسط أوروبا الجديدة، ولا يزال الرجلُ يمضي في تنفيذ ما وعد به بجدٍّ، من دون أن يتنازل لفكرة الديمقراطية أيَّ تنازلٍ سياسي. كلُّ واحدٍ من هؤلاء الرجال الثلاثة كان أهلاً لوعده، مع أن وعودَهم لم يأخذها غالبية المتابعين لشؤون هذه البلدان على محمل الجدّ عند بداية طرحها.
يحضر في سياق هذا اللقاء أيضاً مُفكِّرَان كبيرَان، توماس هوبز وإدوارد سعيد. فالمعنى الهوبزي لا يقبل (إلى الآن) توصيفَ “مجتمع” عند الحديث دولياً، لأن المجتمع يُحدَّد بالدولة بوصفها الليفياثان (Leviathan) الذي يؤدّي إلى القضاء على الحالة الطبيعية، وهي الحالة التي يميل فيها الناس إلى العنف والقوة والحرب، حسب هوبز. وما دام لا يوجد نظير عالمي لمفهوم الدولة الداخلي؛ لا يمكن أن يكون الوسط الدولي مُجتمعاً، فالعالم غير قادرٍ إلى الآن على تحقيق مشروع سلامٍ أبدي مثل الذي وضعه الأب دوسان بيير في أوروبا، استناداً إلى الفكرة الهوبزية في العلاقات الدولية، ثم بنى عليه روسو، ثمّ كانط في مشروع السلام الدائم. وعليه لا يمكن أن نقول إننا نمتلك مجتمعاً دولياً إلا على سبيل المجاز. الذي حصل في الرياض دولياً قد يذكّرنا بمقولة دوسان بيير في مشروعه للسلام الدائم في أوروبا الذي وضعه في 1713، فقال: “إبرامُ معاهداتٍ دفاعيةٍ وهجوميةٍ مع جيران المسيحيين من الحكّام الذين يدينون بالديانة المحمّدية، وذلك حفاظاً على سلامة الجميع، كلٌ داخل حدوده، وتبادل ما أمكن من ضمانات الأمن”. هذه المعاهدات عند ترامب تكون صفقاتٍ وأعمالاً، ومن ثمّ فإن تعبير “كلٌّ داخل حدوده” بموجب الفهم الترامبي، سوف يُمهِّد لدمجَ الفِكَر غير الديمقراطي في وسط التحالف العالمي الفعَّال، وقد يؤول ذلك إلى جعل الانتقال إلى الديمقراطية شأناً لا يعني للغرب شيئاً.
وأمّا إدوارد سعيد، فنتذكر في هذا الموقع تنظيراته في فكرة الاستشراق، بدايةً من تخيّل الإسلام في الغرب كأنه كتلةً صلبةً واحدةً، ثمّ الخوف منه كلّه. ويبدو أن هذه النظرية قد بدأت تنتهي معلنةً نهاية الاستشراق، والتوجّه إلى الاندماج التنموي الذي يميّز بين إسلامٍ وآخر بموجب السياسة والاقتصاد، وهذا توجّهٌ مدعوم بالتطوّر التكنولوجي الهائل، والذكاء الاصطناعي، والأعمال، وكلِّ الذي يمثله إيلون ماسك مثلاً، وقد صار اسماً لامعاً في عالم السياسة أيضاً.
على المستوى السوري الداخلي، لا يعني هذا أن السلفية الجهادية ثبَّتت أقدامها دولياً مع ثنائية الشرع والشيباني، بل يعني أنها أصبحت شيئاً آخرَ، وهذا الشيء الآخر هو الذي انتصر؛ فالتنمية مفهومٌ لطَّف الجهاد، وأحدث فيه تغييرات بنيوية، وقدَّمَ التعمير في الأرض على قتال المُختلف، وهذا بطبيعة الحال لا يتقدّم كثيراً من دون إنهاءٍ كاملٍ لعصرِ الأيديولوجيا، ومن دون تضافر الجهود تحت كلمة التنمية، مترافقةً مع حقوق الإنسان واحترامه. وليس هذا التوجّه الديني جديداً، فتحقيق السلام من بوابة التنمية مسألة تكلم فيها البابا بولس السادس عام 1965 من على منبر الأمم المتحدة، حين ركَّز عليها بوصفها فكرةً مضادّةً للحرب، ثمّ قال في عام 1967 (في الفقرة رقم 87 من رسالته البابوية التي حملت عنوان “تقدُّم الشعوب”)، إن التنمية هي “التسمية الجديدة للسلام”، مع أن البابا يوحنّا بولس الثاني، أضاف أن هذا السلام ينحصر بعدم المساس بحقوق الإنسان واحترامها.
ومن جهةٍ سورية أخرى، قد نقول إن دمشق تبدو اليوم ميكيافليّة الهوى، ليس بالمعنى التقليدي الضيّق الذي يقول إن الغاية تسوّغ الوسيلة. لا مطلقاً؛ ولكن بالمعنى الذي طرحه ميكيافلي للعلاقة بين السياستين، الداخلية والخارجية، حين قال إن “المسائل الداخلية سوف تُعالَج دائماً حين تُعالج المسائل الخارجية، ما لم يحدُث تآمر داخلي يعكّر صفو الحال”.
العربي الجديد
——————————
هل يعيد ترامب تشكيل إرث “سايكس بيكو”؟/ سمير صالحة
2025.05.29
أكد توماس باراك، السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص للرئيس دونالد ترامب إلى سوريا، أن مرحلة التدخلات الغربية في شؤون الشرق الأوسط قد انتهت، مشددًا على ضرورة تبني حلول إقليمية قائمة على الشراكات والاحترام المتبادل لإعادة بناء سوريا والمنطقة.
وقال: “اتفاقية سايكس-بيكو قسّمت سوريا والمنطقة لتحقيق مصالح قوى إمبريالية، وليس من أجل السلام.
أجيالٌ كاملة تحملت وزر ما جرى. لن نسمح بتكراره مرة أخرى، فالمستقبل يعود للحلول الإقليمية المبنية على الشراكات والدبلوماسية القائمة على الاحترام”.
وقّعت بريطانيا وفرنسا في عام 1916 اتفاقية سرّية تُعرف باسم “سايكس بيكو”، نسبة إلى المفاوضين البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، بهدف تقاسم مناطق النفوذ في المشرق العربي. فهل ما تخطط له واشنطن اليوم هو دفن آخر ما تبقى من ذلك النظام عبر مشروع أميركي جديد بصيغة “سايكس بيكو” مختلفة وأكثر مرونة؟ وهل تسعى إدارة ترامب إلى إعادة ترتيب أوراق نفوذها في المنطقة في سياق البحث عن استراتيجية جديدة قادرة على التعامل مع التحديات والمتطلبات السياسية والأمنية والاقتصادية، تستدعي تجديد أدواتها الدبلوماسية والاستراتيجية، وتأخذ بعين الاعتبار موازين القوى الحديثة وتوجهات اللاعبين الإقليميين والدوليين؟ وهل يتحدث باراك، ابن زحلة في البقاع اللبناني، باسمه أم نيابة عن ترامب؟ وهل يمتد كلامه إلى حدود “بلفور”، أم أنه “سيكويّ” عند هذا المنعطف الذي أعدّته له بريطانيا قبل أكثر من قرن؟
من اللافت أن تعود الولايات المتحدة اليوم إلى فتح ملف “سايكس بيكو”، وهي الاتفاقية التي لم تكن طرفًا فيها. البداية كانت مع تبنّي أميركا سياسة الانكفاء انطلاقًا من قرار “الحياد” الذي اعتمده الرئيس ويلسون، والذي يتماشى مع مبدأ “حق تقرير المصير” إبّان الحرب العالمية الأولى. لكن قرار باريس ولندن استبعاد واشنطن عن التقاسمات الكبرى كان له تأثير كبير، ما دفع أميركا إلى اعتماد سياسة الانزواء والتريث حتى صيف 1944، مع إنزال النورماندي، تلبيةً لنداء النجدة الأوروبي في مواجهة التوغل الألماني، لتنتقم واشنطن لنفسها بعد كل هذا الانتظار.
رسائل توماس باراك، بما تنقله من نقد ساخر لإرث سايكس بيكو، ليست مجرد مراجعة تاريخية متأخرة، بل محاولة لإعادة صياغة الدور الأميركي في المنطقة على أسس جديدة، تُخالف النموذج الأوروبي القديم. وتعكس التصريحات الأميركية المتلاحقة على لسان الرئيس دونالد ترامب، ووزير خارجيته روبيو، ومبعوثه الخاص إلى سوريا، توماس باراك، حقيقة أن واشنطن تمهّد لمشروع إقليمي أميركي جديد بصيغة مغايرة.
اليوم، وبعد مرور ثمانية عقود، يدخل اللاعب الأميركي بثقله من جديد إلى الساحة الإقليمية مع وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض. رأينا واشنطن تعيد رسم السياسات والمواقف في لبنان أولًا، ثم تنتقل إلى الملف السوري بالتنسيق مع حلفاء وشركاء إقليميين مؤثرين مثل تركيا والسعودية وقطر والإمارات ثانيًا. ثم جاءت القمة الرباعية في الرياض برعاية سعودية، وتصريحات الرئيس الأميركي حول شخصية الرئيس السوري وما ينتظره منه في اتجاه إنجاز المرحلة الانتقالية في سوريا، بعيدًا عن إيران وروسيا. تبع ذلك قرار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، ليتوّج برسائل مبعوثه الشخصي وسفيره الجديد في أنقرة، توماس باراك، حول اتفاقية “سايكس بيكو” وانعكاساتها السلبية على الشرق الأوسط.
بعد 14 عامًا على انطلاق الثورة السورية، وسقوط نظام الأسد، ووصول سلطة سياسية جديدة، لم تجد إدارة ترامب الكثير من الخيارات أمامها سوى الإصغاء لمتطلبات مصالحها، ولِما يقوله ويريده العديد من الحلفاء والشركاء – عدا إسرائيل – بشأن ضرورة اعتماد سياسة أميركية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التوازنات المحلية والإقليمية، وإعادة تعريف مقاربتها للملف السوري.
لم يصغِ ترامب لأوروبا أو لإسرائيل في التعامل مع الملفات الإقليمية الساخنة، بل رجّح التعاون مع شركاء وحلفاء آخرين لأميركا في المنطقة. فشل نتنياهو في الحصول على ما يريده من ترامب في سوريا، فاختار اللحاق بما يجري هناك من خلال تفعيل الحوار مع الجانب التركي ومحاولة فتح قنوات تواصل مع الجانب السوري.
يقول ترامب إن أخطاء الماضي لن تتكرر: “جيشنا لن يتولى مهام إنشاء الدول بقوة السلاح، بل الدفاع عن الوطن”. ويقول وزير خارجيته روبيو إن ترامب يريد مسارًا جديدًا في العلاقات الدولية، فيه الكثير من الواقعية. أما باراك فيردد: “لن يكون هناك سايكس بيكو جديد هذه المرة”.
قد لا نرى خريطة تقاسم نفوذ استعماري جديد كما حصل عام 1916، لكن الواقع الميداني يشير إلى توزيع نفوذ وإعداد خرائط لا تُرسم بالمسطرة، بل تتحدد بناءً على تفاهمات وتقاطع مصالح. قد لا يكون ترامب يسعى إلى كتابة مشروع “سايكس بيكو” جديد، لكنه بالتأكيد يحاول محو القديم، والتأسيس لشرق أوسط تُحدّد واشنطن معالمه مع شركاء وحلفاء في الإقليم، بعكس ما فعلته باريس ولندن قبل قرن.
لن تفقد منطقة الشرق الأوسط خصوصيتها الجيوسياسية كساحة للتنافس الشديد على الثروات والجغرافيا والنفوذ بين القوى المحلية والخارجية. لكن التحدي الأكبر الذي ينتظر فريق ترامب يكمن في مدى قدرة هذه الرؤية الجديدة على تجاوز إرث سايكس بيكو فعليًا، دون أن يتحول الأمر إلى مجرد إعادة توزيع مصالح على حساب شعوب ودول المنطقة.
هشاشة الوضع الإقليمي القائم فتحت المجال أمام الولايات المتحدة للتموضع وفق خرائط بديلة. وهناك احتمال كبير بأن لا يكون أمن إسرائيل هو مركز الثقل الأميركي في المنطقة هذه المرة، خصوصًا إذا نجحت إدارة ترامب في إنجاز خطط إعادة رسم خرائط التموضع السياسي والأمني الجديد بالتعاون والتنسيق مع حلفاء وشركاء فاعلين منفتحين على السلام والأمن والتعاون الحقيقي في المنطقة.
بعض الوقت، ونعرف إن كان ترامب وفريق عمله جادَّين في إعادة ترتيب مشروع جديد، أم أنها لعبة “لفٍّ ودوران” بوجهٍ مغاير!
تلفزيون سوريا
——————————-
شرقُ أوسطٍ جديد بنكهة السلام والشراكة/ حسان الأسود
2025.05.29
يشهد العالم بأسره هذه الأيام تطورات كبيرة جدًا، وفي جهاته المختلفة، لكنّ مشهد الشرق الأوسط هو الأكثر وضوحًا حتى اللحظة.
ما حصل في الرياض واستُكمل في الدوحة وأبو ظبي ليس مجرّد زيارة عادية لرئيس أميركي عادي، إنّه انعطافة استراتيجية كبيرة لمواجهة العالم الجديد الذي بدأت ملامحه تتشكّل منذ فترة ليست بالقصيرة. يدرك الأميركيون، وربّما غيرهم كثيرون أيضًا، أنّ ثمّة عملاقاً اقتصادياً وديمغرافياً هائلاً هو الصين، بدأ يُسرّع خطواته لتصدُّرِ المشهد العالمي، وربّما يأتي يوم ليس ببعيد يحلّ فيه محلَّ الريادة ويزيح الأميركيين المتوّجين منذ زمنٍ قادةً لا مجال لمنافستهم.
يتطلّب هذا نوعًا من التحوّط والإقدام لاستكشاف الفرص المتاحة لهذه المواجهة التي بدأت فعلًا. لم يعد بالإمكان حصر أسباب التقدّم في الغرب وحده، فقد أثبتت حرب الأيام الأربعة بين الهند وباكستان أنّ الصين استطاعت تطوير أسلحة هزمت المنظومة الغربية، أو على الأقل نافستها بشكل واضحٍ لا لبس فيه. إسقاط طائرات رافال الفرنسية ليس مسألة عسكرية فقط، بل هي مؤشرٌ على ما هو أعمق من ذلك بكثير. من هنا هرع الرئيس ترامب لوقف الحرب من خلال إقناع قادة باكستان والهند بأنّه ما من فائز فيها، وأنّ الاستثمار في خدمة المصالح أولى من المضيّ في هدمها.
يرى محللون كثُر أنّ الرئيس ترامب قد فشل في تحقيق شعاره الكبير “أميركا قويّة من جديد” عن طريق الضغط على الدول من خلال فرض التعرفات الجمركية الاعتباطية بما يشبه البلطجة، فقد انحنت بعضها للعاصفة وماطلت حتى تمر، في حين صعّدت الصين وردّت بتعرفات مماثلة. وهنا كان التراجع الأميركي خطوة إلى الوراء فعلًا، لكنّه في الوقت ذاته كان مقدّمة للتفكير في آليات جديدة تجلّت في زيارة دول الخليج العربي. عنوان التجربة هذه هو ذاته، أميركا أولًا، ولكن مع غيرها من الدول وليس على حسابها. هكذا يمكن قراءة التهدئة مع الحوثيين الذين هم ذراعٌ إيرانية في النهاية رغم استقلالهم الكبير نسبيًا بعكس بقية أفراد المحور في العراق ولبنان. وهكذا هو واقع التركيز على التفاوض مع إيران بعد شدّ وتر القوس إلى منتهاه من دون إطلاق السهم.
ومن هنا يمكن أيضًا فهم هذا التحجيم لنتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، فالمصالح الإسرائيلية التي باتت خلال الفترة الأخيرة مزروعة تحت الجلد الأميركي تؤرّق ساكن البيت الأبيض، ولن يسمح لها أن تُعيق مشروعه الكبير. صحيحٌ أنّ ترامب لم يخض في رحلته هذه بحر القضيّة الفلسطينية، لكنّ الإشارات التي أعطاها واضحةٌ بابتعاده عن دعم هذا الطفل المزعج مهما فعل من دون حساب. تركيز ترامب على أنّه رفع العقوبات عن سوريا بناءً على طلب من الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد السعودي بالتزامن مع طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هو مؤشر واضح على الحدود التي يجب أن تقف إسرائيل عندها.
نحن من يرسم الحدود لا أنتم، ونحن من يضع الشروط ويفرض المسارات ويوزّع الأدوار، وعليكم أن تعرفوا حجمكم. كانت لافتة تلك العبارة الوصائية من ترامب خلال أحد التصريحات عندما قال: “ستصب جهودنا في النهاية بمصلحة إسرائيل، حتى لو لم يدرك قادتها هذا الأمر”.
ومن هنا أيضًا يمكن قراءة تحرّك أميركا منفردة للإفراج عن الأسير عيدان ألكسندر مزدوج الجنسية (أميركي إسرائيلي)، الأمر الذي يعطي رسائل قويّة لإسرائيل وغيرها من الدول بمن يملك القرار النهائي في القضايا الشائكة والمعقّدة.
قد يكون نتيجة ذلك تحريك موضوع حل الدولتين ضمن ترتيباتٍ جديدة بضغطٍ عربي خليجي، فلا بدّ أنّ ترامب قد فهم وأدرك أنّ بؤرة الصراع المحتدم وشرارة الحرب الدائمة ليست عند العرب والفلسطينيين، بل عند إسرائيل التي قامت على الحرب ويرى متطرفوها أنها ستسقط بتوقفها.
سيسير نهج ترامب إذن عبر مسارات متعددة، بعضها خشنٌ لا ينفع مع الجميع، وبعضها ناعمٌ يمكن أن يؤتي أُكُلَهُ عبر تعاون وثيق مع شركاء إقليميين، يسعى بعضهم لأن يكون لاعبًا دوليًا كما هو حال المملكة العربية السعودية. يمكن القول باختصارٍ شديدٍ وربّما مجحفٍ نوعًا ما، إنّ الأيديولوجيا قد ماتت، أو هي تحتضر الآن.
لم تعد تُطرح شعارات حقوق الإنسان ولا الديمقراطية حتى في بازارات الضغط السياسي، وتلك التي كانت تستخدمها الإدارات الأميركية السابقة باتت الآن في مزبلة ترامب. التوجّه الآن واضح نحو بناء شراكات قائمة على المصالح لا على الأيديولوجيا. من هنا كانت هزيمة محور الشر الحقيقي المتمثل بإيران وأذرعها مقدّمة لعالم جديد تعود فيه الدول هي الكيانات الوحيدة الموجودة والفاعلة. سيتمّ القضاء على جميع البنى ما تحت الدولتية التي تشكّلت على هامش انفراط عقد الدول في المنطقة. سيتم كنس الميليشيات والجماعات المسلّحة من الخريطة، ومن لم يفهم هذا بالحسنى من الميليشيات العراقية، سيفهمه بالقوّة العارية وسيكون مصيره مصير حزب الله اللبناني. من هنا يمكن قراءة أحد جوانب القرار التاريخي لحزب العمّال الكردستاني حلّ نفسه، فرغم الاستحقاقات الداخلية في تركيا التي لعبت دورًا رئيسًا في هذا الأمر، فإنّ المشهد الدولي العام حاضرٌ في الخلفية. لن يُسمح لأية مجموعات مهما كانت صفتها وأيًا كان تاريخها، أن تُشكّل تهديدًا لطرق التجارة، وخطوط الطاقة، وسلاسل التصنيع، والتوريد.
لا شكّ أنّ ترامب منزعجٌ جدًا من عدم قدرته على فرض وقفٍ سريع للحرب الروسية الأوكرانية، وحُنقه كبيرٌ أيضًا على الأوروبيين الذين وقفوا مع أوكرانيا لدعمها بعد أن ضغط هو على رئيسها زيلنسكي لتقديم تنازلات كبيرة واستراتيجية، رأت فيها أوروبا خطرًا حقيقًيا ونصرًا كبيرًا لروسيا وبوتن شخصيًا. لذلك، ومن هنا يمكن قراءة مسألة رفع العقوبات عن سوريا وأخذها بضمانة سعودية قطرية باتجاه الحلف الأميركي لإبعادها عن روسيا والصين من جهة، ولتعزيز استقرار المنطقة من جهة أخرى، وهذه إشارة ثانية لإسرائيل بضرورة احترام الشركاء الإقليميين القدامى، السعودية وتركيا، والجدد أيضًا. يعتقد كاتب هذه السطور أيضًا أنّ ترامب يرى في الملف النووي الإيراني ليس فقط تهديًدا للأمن القومي الأميركي، بل هو أيضًا تحدٍّ يزعزع الأمن الإقليمي الذي لا بدّ أن يستقر حتى تمضي سياسة مواجهة الصين أميركيًّا. من هنا كان التفاوض مع إيران أولى من استعمال العنف، لهذا لم يترك لإسرائيل أن تؤجج الصراع وأن تقصف المنشآت النووية الإيرانية.
وقد فهم الإيرانيون الأمر فأرسلوا يخاطبون شهيّة ترامب المفتوحة على الاستثمارات الهائلة في بلادهم. في النهاية سيجري الأمر كذلك، لأنّ دول الإقليم لا تريد حربًا ضدّ إيران حتى وإن كانت هي خارجها، فمعظمُ النار من مُستصغر الشرر. هكذا يتخلّقُ الآن عالمٌ جديد قائمٌ على السلام والشراكة عوضًا عن الحروب والاستئثار، والشرق الأوسط في قلب هذا العالم وليس على طرفه، وإن كان الرابح الأكبر هو العم سام، فإنّه لن يكون هناك خاسرون، بل شركاء في مواجهة الغول الصيني القادم من أقصى آسيا، ونحن السوريين لن نترك القطار يفوتنا، بل سنكون في عرباته المتقدّمة رفقة أشقائنا العرب، وبرعايتهم، ورجاؤنا أن يشمل الخير أهلنا في غزّة الذين دفعوا الفاتورة الكبرى، وما زالوا.
———————————-
رفع ترامب العقوبات عن سوريا يحيي آمال ما بعد الحرب/ سانتياغو مونتاغ سولير
30.05.2025
على رغم تحسّن قيمة العملة المحلية فور إعلان ترامب، لا تزال أسعار الوقود والسلع الأساسية شديدة التقلّب، ومع قلة السيولة النقدية وغياب وسائل الدفع الرقمي، يعجز كثر من السوريين عن شراء حاجاتهم. يعيش نحو 69 في المئة من السكان — أي ما يعادل 14 مليون شخص — تحت خط الفقر. خفت التفاؤل الذي رافق سقوط النظام سريعاً بسبب نقص الوظائف والدمار الهائل، ما ألقى بظلاله على صورة الحكومة الجديدة.
في خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من الرياض، قراره رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا. وفي اليوم التالي، التقى بأحمد الشرع، ممثل الحكومة السورية الجديدة، وبولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في قصر الحكم، في صورة ستُسجّل في ذاكرة التاريخ. هذا الحدث مثّل استئناف العلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا بعد انقطاع دام 25 عاماً، وفتح صفحة جديدة بين البلدين.
قال ترامب إنه سيرفع العقوبات “لنجعل سوريا عظيمة من جديد”. جاء هذا الإعلان بعد 14 عاماً من الدمار الذي خلفته الحرب، والتي فاقمتها العقوبات الغربية المفروضة على نظام بشار الأسد وحلفائه الاقتصاديين، لكنها في المحصلة أثّرت بشكل مباشر على الطبقات الفقيرة والعاملة في البلاد.
وكما اعتاد العالم من ترامب، كانت الخطوة مفاجئة، سريعة، وصادمة حتى لأعضاء إدارته. وعلى رغم غياب خطة واضحة لإعادة الإعمار أو جدول زمني للتنفيذ، انتشرت الاحتفالات في شوارع سوريا، وعادت هتافات الثورة تُدوّى مجدداً: “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد”.
منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر، ركزت الحكومة الجديدة في “هيئة تحرير الشام” على المطالبة برفع العقوبات كركيزة أساسية لإعادة إعمار البلاد. ومع أن الانتقال السياسي لا يزال بطيئاً، فإن الاقتصاد يواصل الانهيار تحت وطأة العقوبات، ما يجعل رفعها خطوة بالغة الأهمية لاستعادة الاستقرار.
لماذا يُعدّ رفع العقوبات مهماً إلى هذا الحد؟
منذ سقوط نظام الأسد، لم تتمكن سوريا من التعافي. يعيش سكان دمشق على بضع ساعات من الكهرباء يومياً، وتزداد الأوضاع سوءاً في مناطق أخرى. ارتفع سعر الخبز ثمانية أضعاف منذ كانون الأول/ ديسمبر، ما دفع بالكثيرين إلى حافة الجوع، فيما يصطفّ الناس لساعات أمام الصرافات الآلية لسحب القليل من المال المتبقي.
على رغم تحسّن قيمة العملة المحلية فور إعلان ترامب، لا تزال أسعار الوقود والسلع الأساسية شديدة التقلّب، ومع قلة السيولة النقدية وغياب وسائل الدفع الرقمي، يعجز كثر من السوريين عن شراء حاجاتهم. يعيش نحو 69 في المئة من السكان — أي ما يعادل 14 مليون شخص — تحت خط الفقر. خفت التفاؤل الذي رافق سقوط النظام سريعاً بسبب نقص الوظائف والدمار الهائل، ما ألقى بظلاله على صورة الحكومة الجديدة.
وعلى رغم أن هذه الصعوبات ترجع إلى عقود من الديكتاتورية والحرب الأهلية وعدم الاستقرار بعد سقوط النظام، تبقى العقوبات الغربية، لا سيما الأميركية والأوروبية، سبباً جوهرياً في تعميق الأزمة الاقتصادية.
عقوبات مدمّرة
في عام 2011، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حزمة من العقوبات على نظام الأسد ردّاً على القمع العنيف للاحتجاجات الشعبية. وعلى رغم أن هذه الإجراءات نجحت إلى حد ما في عزله دولياً وإضعاف قدرته العسكرية، فإنها ألحقت أضراراً فادحة بالاقتصاد السوري.
تقول فاطمة السيد، مهندسة زراعية في الثانية والثلاثين من عمرها، لموقع “درج”: “الكثير من الشركات التابعة لعائلة الأسد أو المقربين منها استفادت من العقوبات”. وتضيف: “أطلقت هذه الشركات دورة اقتصادية مغلقة تخدم مصالحها فقط”. نشأت طبقة أوليغارشية مرتبطة بالنظام، سيطرت على ما تبقى من القطاع الخاص، وفتحت المجال لتلقي الدعم العسكري من روسيا وإيران. وبهذا، عززت العقوبات من قبضة النظام سياسياً، فيما أضعفت عموم الشعب.
دفعت هذه العزلة الدولية السوريين إلى الهامش، حتى باتوا يُعامَلون كمنبوذين. تقول فاطمة: “العقوبات تمسّ كل القطاعات، نحن لسنا بلداً مستقلاً”. وقد أجبرت هذه السياسات شرائح واسعة من المجتمع على اللجوء إلى العمل غير النظامي، وأحياناً إلى الاعتماد على شبكات الزبائنية. خلال العقد الماضي، تقلّص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 53 في المئة، وانهارت الأنشطة الاقتصادية بنسبة 84 في المئة، ما أدى إلى تراجع حاد في مستوى المعيشة، إذ يعيش أكثر من 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، ونصف القوة العاملة بلا وظائف.
يقول زيد صمد، سائق تاكسي في الخامسة والأربعين: “العقوبات دمّرت صناعتنا. لا قدرة لدينا على إنتاج الحاجات الأساسية”. ويضيف: “لا يمكننا الاستيراد، وفقد كثيرون وظائفهم”.
وكانت العقوبات حالت دون تسديد قطر مبلغ 29 مليون دولار شهرياً لسوريا، مخصصاً لدفع رواتب القطاع العام على مدى ثلاثة أشهر، وهو دعم كان من المفترض أن يخفّف من التوترات الاجتماعية المتزايدة.
الاستثمار ممنوع
منعت العقوبات الأميركية — التي تحظر تقريباً جميع التعاملات التجارية والمالية — دخول الاستثمارات وعطّلت نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة، ما أضعف قدرة البلاد على النهوض. استهدفت العقوبات الأوروبية قطاعات حيوية مثل النفط، والاستثمار، والمصارف، والاتصالات، بذريعة إرث “تحرير الشام” المسلح. وتواصل البنوك رفض التعامل مع سوريا، في حين يتعذّر على التجار استيراد السلع قانونياً، ما زاد من تهريب المواد الأساسية ورفع الأسعار.
كما أن العقوبات، إلى جانب عدم الاستقرار السياسي، تمنع عودة الكفاءات السورية من الشتات، والتي يمكن أن تساهم في إعادة الإعمار. تشير التقديرات إلى أن تكلفة إعادة بناء سوريا تتراوح بين 250 مليار وتريليون دولار، بينما لا يزال أكثر من 140 ألف مبنى، و3 آلاف مدرسة ومستشفى، مدمّرة.
تصويت بالثقة
تغيّر نبرة ترامب تجاه الشأن السوري كان لافتاً. فقد كان يعتبر أحمد الشرع “إرهابياً”، لكنه وصفه اليوم بـ”الرجل الصلب ذي الماضي الصعب”. ويُعدّ هذا الاعتراف انتصاراً للقيادة السورية الجديدة، التي ظهرت أخيراً إلى جانب إيمانويل ماكرون على برج إيفل، في مشهد يعكس تحوّلاً في صورة الشراكة الدولية.
بعد أكثر من خمسة أشهر على سقوط بشار الأسد، بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بإعادة تقييم العقوبات وتسهيل وصول المساعدات، وإن كانت هذه الخطوات لا تزال خجولة ولم تحقق نتائج ملموسة. فالإجراءات الحالية لا تزال تعيق قدرة الدولة على تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، ما يُنذر بتفاقم الأوضاع.
الهدف الغربي ما زال واضحاً: ضمان خضوع النظام الجديد للمعايير السياسية الغربية، وتأمين مصالح الشركات الكبرى، وإعادة رسم موازين القوى في المنطقة، خصوصاً في مواجهة إيران وروسيا.
مصالح قبل كل شيء
على رغم أن ترامب قدّم مجموعة مطالب للقيادة السورية، إلا أنها لم تكن مشروطة، بحسب المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت. من أبرز هذه المطالب: انضمام سوريا إلى “اتفاقيات أبراهام” وتطبيع العلاقات مع إسرائيل — خطوة ترفضها دمشق تاريخياً، بالنظر إلى استمرار احتلال الجولان، وتكرار الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية منذ سقوط الأسد.
لكن الشرع أشار حديثاً إلى وجود محادثات غير معلنة لحل النزاع. كما أن الاتفاق مع الحوثيين بعد استهداف مطار تل أبيب، والتوجه نحو إعادة التفاوض على البرنامج النووي الإيراني، كلها رسائل لنتانياهو بأن أولويات واشنطن باتت في مكان آخر — ما يعقّد العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
كذلك طلب ترامب من الشّرع مواجهة خطر عودة “داعش” وإدارة مراكز احتجاز مقاتلي التنظيم في الشمال الشرقي، إلى جانب ترحيل من وصفهم بـ”الإرهابيين الفلسطينيين”. كانت واشنطن تعتمد سابقاً على “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية في هذه المهمة، لكن هذا الدعم تراجع مع إدارة ترامب، ما يهدد استقرار المنطقة.
أبدت سوريا، من جهتها، رغبة في توقيع اتفاقيات مع شركات أميركية في قطاعي النفط والغاز، مقابل رفع العقوبات والسماح بالمشاركة الدولية في إعادة الإعمار. ويأتي ذلك في سياق توقيع اتفاقيات استثمارية ضخمة مع السعودية والإمارات بقيمة 600 مليار و1.4 تريليون دولار على التوالي.
سوريا اليوم على حافة انهيار اقتصادي يهدد أي أفق لبناء مستقبل خالٍ من العنف والتوتر. وعلى رغم أن التقارب مع الولايات المتحدة قد يفتح نافذة إنقاذ، إلا أنه لن يكون بلا ثمن. إذ تبقى الهيمنة الاقتصادية الخارجية سيدة الموقف، في مشهد تتكرّر فيه سياسات الغرب تجاه الدول الضعيفة. وبالنسبة الى ترامب، تبقى المصالح فوق كل اعتبار.
– صحافي تشيلي
درج
———————————
أردوغان وبوش – ترامب والشرع.. هل تُقرأ الرسالة من أعلى أم من أسفل؟/ عبد الناصر القادري
2025.05.29
قبل أقل من شهر من عملية 11 سبتمبر 2001، تأسس حزب العدالة والتنمية التركي في 14 أغسطس من العام نفسه، كان ذلك الفوز نقطة مفصلية وجوهرية في التحرك الأميركي بالمنطقة بعد حدث مهول ما زالت الروايات كلها غير دقيقة عن صحة ما جرى فيه.
نشأ حزب العدالة والتنمية من كتلة وازنة من المحافظين وبقايا الوسط ومجموعات متنوعة (حزب الفضيلة، وحزب الوطن الأم، وحزب الطريق القويم) مؤسسون لم يكونوا يرون في الخط التقليدي للإخوان المسلمين أي حلول ممكنة، خصوصاً مع الخسارات المتلاحقة والانقلابات التي جرت عليهم بقيادة أبو الإسلام السياسي في تركيا نجم الدين أربكان (رحمه الله).
كان فوز العدالة والتنمية غريباً وجنونياً بالنسبة للمنطقة، قيادات شابة، محافظة، في حزب ينفي إسلاميته بشدة، يؤمن باقتصاد السوق المؤيد لليبرالية، يدعم عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ألوان برتقالية حيوية وشعار “اللمبة” المتقدة، يبحث مؤسسوه عن عدالة وتنمية في بلد أكلته نخبة فاسدة وعسكر متسلطون كثيرو الانقلاب.
في الانتخابات الأولى للحزب، حاز 34.28% من الأصوات فقط (363 مقعداً) مكنته من تأسيس أول حكومة منفردة بقيادة عبد الله جُل ثم أسقطت التهم عن أردوغان ليتسلم دفة القيادة منذ مارس عام 2003 حتى الآن.
قبل أن يتمكن أردوغان من قيادة الحكومة، دعته الإدارة الأمريكية بإدارة جورج بوش الابن لزيارة البيت الأبيض كرئيس الحزب الفائز بالانتخابات، وفعلاً حدثت الزيارة في 10 ديسمبر 2002، كان لقاءاً مثمراً شمل جورج بوش ونائب الرئيس ديك تشيني وكولن باول وزير الخارجية وأعضاء آخرين بالإدارة.
لم يخرج تماماً ما حصل في ذلك الاجتماع، ولا أظنه سيخرج، الواقع أن أميركا كانت تعد العدة لحرب ضروس في العراق، ولم تكن تريد من تركيا أي تشويش، هل كانت تركيا أصلاً تستطيع منع الحرب؟ الحقيقة لا. هل كان التشويش سيجدي نفعاً؟ ربما إلى حد كبير، لكن سيكون الوضع في تركيا انقلاب عسكري جديد ببساطة ينهي تجربة وليدة هي “العدالة والتنمية” التي تمكنت بقراءة سياسية واعية من تجنب انقلابات كثيرة، لعل أهمها “أول الحكم”، ومن ثم تجاوز الكثير من المطبات والتحديات والمحاولات.
في 14 مايو 2025، التقى الشرع مع ترامب في السعودية، بحضور ولي العهد محمد بن سلمان، في مفاجأة مدوية، دخلت التاريخ السياسي للمنطقة، رجل كان في القاعدة التي نفذت 11 سبتمبر يلتقي مع الرئيس الأميركي الذي يضعه على لوائح الإرهاب في الرياض التي خرج منها بن لادن، يمكننا الحديث عن صورة العام التي تختارها الوكالات سنوياً، هذه تفوز، المهم من حضر الاجتماع إنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر الاتصال الرقمي.
هل قرأ الشرع تلك الزيارة التي أجراها أردوغان إلى واشنطن، هل عرف أنه عندما كان شاباً تائهاً في دمشق، لا يعرف ماذا سيحل به بعد سنوات فقط؟، هل سمع الخبر على شاشة الجزيرة “أردوغان يلتقي جورج بوش في واشنطن”، انتهى الخبر. بعد أشهر قليلة، الدبابات الأميركية تدخل مطار بغداد الدولي، ويستنفر الشباب إلى العراق ويذهب بنفسه ليعاين “فليس الخبر كالعيان”.
هل أعاد قراءة السياسة الأميركية وعرف أن ديك تشيني هو أكثر نائب رئيس أميركي كان يحكم، ولديه نفوذ واسع على بوش الابن والإدارة الأميركية، وهو من التقى بأردوغان مطولاً أيضاً، ويحمل العديد من مواصفات ترامب في شخصيته، إلا أن ابنته “المثلية” حالت دون ترشحه للانتخابات التالية على الحزب الجمهوري فضاعت فرصه كلها.
ماذا جرى في الاجتماع بين ترامب والشرع وأردوغان أيضاً، مفارقات عجيبة وتشابهات تشعرنا بأن التاريخ يتكرر على أشكال مختلفة، وبظروف أشد صعوبة، هل تطرقوا إلى العراق؟ هل ناقشوا مساعي ترامب للفوز بجائزة نوبل للسلام؟ أم اقتصر الأمر على عدم التشويش كذلك.
حروب أخرى تجري في المنطقة، غزة عارها كبير جداً إنسانياً وإسلامياً ودينياً، لا أحد يستطيع إيقافها وإيقاف معاناتها مع كل أسف، البعض يريد وأد التجربة من أجل التشويش، والبعض يريد الاستمرار مهما كلف الأمر، وآخرون يريدون الحلول الوسطى التي تراعي واقع أهلنا وأحبتنا في الأراضي المحتلة.
في البيان الذي أصدره، المبعوث الأميركي توماس باراك (سفير تركيا أيضاً وصديق مقرب لترامب)، يقول لنا بعد لقائه الرئيس أحمد الشرع في إسطنبول – عدنا إلى تركيا من جديد – : إن “الغرب فرض قبل قرن من الزمان خرائط وانتدابات وحدوداً مرسومة بالحبر وإن اتفاقية (سايكس بيكو) قسمت سوريا والمنطقة لأهداف استعمارية لا من أجل السلام.
واعتبر باراك (اللبناني الذي يعرف المنطقة جيداً ويتقن العربية أيضاً) أن ذلك التقسيم كان خطأ ذا كلفة على أجيال بأكملها ولن يتكرر مرة أخرى، وأن زمن التدخل الغربي انتهى وأن المستقبل سيكون لحلول تنبع من داخل المنطقة وعبر الشراكات القائمة على الاحترام المتبادل.
وأشار باراك إلى أن مأساة سوريا ولدت من الانقسام وأن ميلادها الجديد يأتي عبر الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها، مضيفاً “نقف إلى جانب تركيا ودول الخليج وأوروبا ليس بالجيوش وإلقاء المحاضرات أو بالحدود الوهمية”.
وأكد باراك على أن ولادة سوريا الجديدة تبدأ بالحقيقة والمساءلة والتعاون مع المنطقة، وأن سقوط نظام بشار الأسد فتح باب السلام وأن رفع العقوبات سيمكّن الشعب السوري من فتح الباب واستكشاف الطريق نحو الازدهار والأمن.
بيان يحكي لنا، كيف يفكر الأميركيون، وكيف يمكن فهمهم؟ تحالف مع من يقرأ الرسالة من أعلى إلى أسفل، يعرف العنوان جيداً ثم يطرق الباب الصحيح ويدخل بعد المصافحة والسلام، بيان عاطفي وشعبي لمبعوث ترامب إلى سوريا، إلا أنه لحظة من لحظات المرحلة كذلك.
هناك في شارع بنسلفانيا 1600 شمال شرقي واشنطن العاصمة، يوجد بيت يعيش فيه شخص قد كتب الرسالة وعنونها وختم عليها، ولا يستطيع دخوله أو دخول غيره من لم يقرأها جيداً من أعلى إلى أسفل، وفي السياسة إن تهيأت الظروف (ثورة شعبية عظيمة حققت النصر بتضحيات شعبية هائلة) والهمة والسعي وحسن التدبير وسعة الأفق والهدوء كل ذلك ممكن، وبعض من الحظ وحسن الطالع أيضاً.
———————-
هاجر جده بـ20 ليرة من متصرف عثماني.. توماس باراك دبلوماسي أميركي يستحضر معاوية
2025.05.29
في جلسة عقدتها لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي يوم الثلاثاء، 20 أيار/مايو، قدّم وزير الخارجية ماركو روبيو شهادة رسمية حول ميزانية وزارة الخارجية لعام 2026. لم تقتصر الجلسة على الجوانب المالية، بل كشف روبيو خلالها عن ملامح هيكلة جديدة لطريقة عمل الوزارة، ستُطبَّق للمرة الأولى في سوريا باعتبارها حقل اختبار رئيسياً لهذا النهج الجديد في إدارة السياسة الخارجية الأميركية.
وقال روبيو إن الهيكلة الجديدة تهدف إلى نقل السلطة وصلاحيات اتخاذ القرار إلى المكاتب الإقليمية والسفارات الأميركية حول العالم، بعيداً عن البيروقراطية المركزية في واشنطن. وأوضح أن القرارات التنفيذية المرتبطة بالمساعدات والسياسات ستُتخذ في الميدان، استناداً إلى الاحتياجات الفعلية والمعطيات المحلية لكل دولة.
وأشار إلى أن الفريق الدبلوماسي الأميركي الموجود في تركيا، إضافة إلى السفير، سيُمنحون صلاحيات كاملة للتواصل مع المسؤولين المحليين السوريين وتحديد نوع المساعدات المطلوبة، وقال “سنسمح لأفرادنا الموجودين على الأرض. سواء موظفي سفارتنا في دمشق المتواجدين في تركيا، وبالنسبة للفترة الزمنية القصيرة على الأقل، سفيرنا المؤقت في تركيا للعمل مع المسؤولين المحليين هناك لاتخاذ قرارات بشأن نوع المساعدة التي يحتاجونها. هل هي إنسانية؟ هل هي تحسين وظائف إنفاذ القانون أو الحوكمة؟ نعتقد أنها ستكون الاختبار الأول لهذا النموذج الجديد.. أعتقد بقوة أن قراراتنا والسلطة لاتخاذ القرارات يجب أن تُدار من قبل المكاتب الإقليمية لأنها تكون في صميم وقلب كل ما نقوم به”.
ذكر الوزير أن الهيكلة الجديدة تتضمن إصلاحات في آلية تقديم المساعدات الخارجية، بحيث تُوجَّه مباشرة إلى المستفيدين بإشراف المكاتب الإقليمية، مع الابتعاد عن التعقيدات البيروقراطية السابقة، وتحقيق سرعة وكفاءة أكبر في الاستجابة للمتغيرات على الأرض.
وأوضح: “سوريا مثال رائع، ليس لدينا أي أموال في ميزانية السنة المالية لسوريا، لأنه، بصراحة، لم يكن أحد منا يتوقع أننا سنتحدث عن مساعدة الحكومة السورية قبل ستة أو ثمانية أشهر، ولكن الآن لدينا فرصة للقيام بذلك، وبدلاً من الاضطرار إلى إعادة البرمجة وجميع أنواع التعديلات، فإن المرونة على مستوى ما للتمكن من الاستجابة بسرعة لأمر كهذا”.
وكان نقاش الوزير وطرحه لسوريا كمثال وحديثه عن “حرب أهلية” وشيكة، هدفه تبرير إصلاحاته بدمج “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” ضمن وزارة الخارجية، لتصبح جزءاً من أدوات الدبلوماسية الأميركية بدلاً من كونها جهازاً مستقلاً عن التوجهات السياسية العامة.
وعلى رأس هذه الاستراتيجية أو إعادة الهيكلة التي طرحها روبيو والتي تهدف للعمل من “الأسفل إلى الأعلى” بحيث يكون للمكاتب الإقليمية والسفارات الكلمة الفصل في السياسة الخارجية الأميركية يظهر توماس باراك السفير الأميركي في تركيا والمعين بمنصب المبعوث الخاص إلى سوريا.
قصة توماس باراك بروايته
قدم توماس باراك قصته لأعضاء الكونغرس خلال مناقشات تعيينه كسفير في تركيا خلال نيسان الماضي، وركز على جذوره وارتباطه بالمنطقة وكيف أنه يفهمها ولديه “رؤية” للعمل قائمة على التسامح إلى جانب “السيف والسوط”.
أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، سرد باراك ملخصاً عن رحلته الشخصية، معتبراً إياها “تحية للحلم الأميركي”. وقال “هاجر جدّاي إلى الولايات المتحدة قرابة عام 1900. يوسف عبد الله (جو)، في سن الثانية عشرة وخليل شاهين (كيلي) في سن الرابعة عشرة. كلاهما نشأ في لبنان، والتي كانت تتمتع بسمعة طويلة منذ بداياتها الفينيقية بنسيج متعدد الثقافات من التأثيرات العربية والمسيحية وكانت منطقة إدارية داخل الإمبراطورية العثمانية. كان جو واحداً من تسعة أطفال مسيحيين موارنة وأصغر ستة أولاد يعيشون في زحلة، وهي بلدة في سهل البقاع. في ذلك الوقت كانت هناك حرب رهيبة مستعرة بين الموارنة والدروز، ولم تكن والدة جو ترغب في التضحية بابنها الأصغر في هذا الصراع الوحشي والعبثي. كانت عائلة البراك عائلة تجارية متواضعة الإمكانات، ولم يكن لديهم القدرة على إعالة عائلتهم الكبيرة أو مساعدة أي من أبنائهم الستة في إيجاد العزاء أو الراحة في أي مكان آخر. كانت زحلة تحكم من قبل قائمقام عثماني يُعرف بالمتصرف. كان المتصرف مسيحياً غير لبناني تم اختياره من قبل العثمانيين المتمركزين في القسطنطينية (إسطنبول الآن) وكان يتمتع بسلطة مطلقة على المسيحيين والدروز. كانت والدة جو خادمة منزلية لدى المتصرف وطلبت مساعدته للسماح لابنها الأصغر، جو، بالصعود على متن سفينة شحن ستصل في النهاية إلى أميركا. كانت كلفة “درجة الشحن” في ذلك الوقت نحو 20 ليرة تركية، والتي لم تكن عائلة جو تمتلكها. ثم تبرع الحاكم العثماني لوالدة جو بأجرة السفر وجواز سفر عثماني لسفر جو وأخبرها أنه حر في الذهاب. مشياً يداً بيد 34 ميلاً إلى ميناء بيروت، حيث صعد لأول مرة على متن الباخرة البريدية العثمانية إلى نابولي حيث انتقل إلى السفينة الأكبر، إس إس باتريا، لرحلة ثلاثة أسابيع إلى أميركا. اعتقدت أنها لن تراه مرة أخرى أو ربما لن تعرف مكانه أبداً… أم فقط يمكن أن تمتلك تلك القوة. زحف إلى الحفرة القذرة لتلك السفينة ومعه 13 ليرة تركية، قميص واحد، بنطال واحد، ومذكرة معلقة على قميصه مكتوبة باللغة العربية تقول: «شكراً لكم على قبولي».
هل يعيد ترامب تشكيل إرث “سايكس بيكو”؟
استعرض باراك بعد ذلك مسيرة العائلة في أميركا، حيث عاش والده وجده معاً في كاليفورنيا يديران متجراً صغيراً، وكانت تلك التجربة مصدراً لغرس قيم الشجاعة، والمرونة، والرحمة، والامتنان، وتجاوز الفوارق الدينية والعرقية في نفسه وأخته.
انتقل باراك للحديث عن مسيرته المهنية، مشيراً إلى أنه كرس حياته لفهم تعقيدات بناء الفرق في الأسواق المالية العالمية، وصقل حاسة ثقافية خاصة، والسير في طرق لم يسبق أن سار عليها أحد. بعد حصوله على تعليم يسوعي ودراسة القانون، عمل في واحدة من أكبر شركات المحاماة الأميركية ممثلاً شركات هندسية وإنشائية في الشرق الأوسط، مثل فلور وبيكتل وجاكوبس، التي كانت من عمالقة الابتكار الأميركي في منطقة الشرق الأوسط التي كانت تشهد طفرة نفطية كبرى.
وأوضح أنه عمل كمحامٍ مالي في السعودية عام 1973 على مشاريع تمويل منشآت نفطية وغازية في المنطقة الشرقية، في بيئة قاسية تصل فيها درجات الحرارة إلى 120 درجة فهرنهايت، بلا وسائل ترفيه أو اتصال حديث، ولا كنائس أو معابد يهودية أو فنادق أو مصارف، بل مجرد مجمع أرامكو وثقافة بدوية أصيلة متجذرة في الإسلام. يروي باراك أنه كان يحضر المجالس المسائية، ويشرب القهوة العربية مع الشيوخ، ويستمع لقصصهم عن السياسة وشؤون المياه والنزاعات القبلية والأعمال، بلغة لم يكن يفهمها. كان يصلي مع أصدقائه السنة أيام الجمعة، كما نشأ في حي يهودي ودرس في مدارس كاثوليكية واعتاد مشاركة أصدقائه طقوس السبت اليهودية. وجد نفسه في مغامرة جديدة مع الإسلام. وأكد أن سنواته في الشرق الأوسط جعلته يتبنى قيمة “التسامح” كبوصلة في حياته.
أشار باراك إلى أن هذه التجربة كانت من الأسس التي بنى عليها عمله كرئيس لمجموعة كولوني كابيتال، شركة الاستثمارات العالمية التي أسسها عام 1991، والتي أصبح لها مكاتب في 19 دولة من ضمنها الشرق الأوسط، وتضم مستثمرين من معظم القارات.
وتحدّث باراك عن انتقاله من القطاع الخاص إلى العمل الحكومي، مبينا أنه تولى منصب نائب وكيل وزارة الداخلية في إدارة الرئيس رونالد ريغان، وهي التجربة التي أتاحت له تقدير كفاءة موظفي الخدمة المدنية والدبلوماسيين، وأهمية التنسيق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وأكد أنه سيقود البعثة الأميركية في تركيا بروح الاحترام والتعاون.
واختتم شهادته بمقولة الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان الشهيرة من دون أن ينسبها إليه واعتبرها شعاراً لعمله الدبلوماسي: “إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها”.
تسلّم باراك مهامه رسمياً في أنقرة منتصف مايو 2025، وقدم أوراق اعتماده للرئيس أردوغان. عمل منذ وصوله على فتح قنوات التواصل مع المسؤولين الأتراك، فاجتمع مع وزير الخارجية هاكان فيدان وبدأ لقاءات تعريفية مع كبار المسؤولين، ليُعيَّن قبل أسبوعين بمنصب المبعوث الأميركي إلى سوريا أيضاً.
سايكس-بيكو وخطاب التجاوز
ويبدو أن باراك يحب استخدام “التضمين الرمزي” في خطابه والأسلوب السردي وكتب بعد لقائه بالمسؤولين السوريين في إسطنبول منشوراً أثار اهتماماً كبيراً حين قال: “قبل قرن، فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدوداً مرسومة بقلم رصاص، وحكماً أجنبياً. اتفاق سايكس-بيكو قسّم سوريا والمنطقة من أجل مكاسب إمبريالية، لا من أجل السلام. لقد كان خطأً كلّف أجيالاً، ولن نكرره”.
وأضاف: “زمن التدخلات الغربية قد ولّى. المستقبل هو للحلول الإقليمية، للشراكات، ولدبلوماسية قائمة على الاحترام”. واستشهد بكلمة للرئيس ترامب ألقاها في الرياض بتاريخ 13 أيار/مايو، قال فيها إن “زمن تدخّل الغربيين في الشرق الأوسط لإلقاء المحاضرات عن كيفية العيش والحكم قد انتهى”. وتابع: “مأساة سوريا وُلدت من الانقسام، ونهضتها يجب أن تبدأ بالكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها. وهذا يبدأ بالحقيقة والمحاسبة، والعمل مع دول المنطقة لا الالتفاف عليها”.
وفي إشارة إلى التغير في طبيعة الدعم، أكد: “نقف إلى جانب تركيا والخليج وأوروبا – ليس بالقوات والمحاضرات أو الحدود المتخيلة، بل جنباً إلى جنب مع الشعب السوري.. مع سقوط نظام الأسد، بات الباب مفتوحاً للسلام – ومن خلال رفع العقوبات، نتيح للسوريين أخيراً فرصة عبور ذلك الباب نحو طريق الأمن والازدهار”.
رغم شاعرية الخطاب فإنه لا ينفصل عن إشكالية جوهرية: فهو في الوقت الذي يدين فيه تقسيمات القرن العشرين، يغضّ النظر عن الجولان السوري المحتل. ففي عام 2019، اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسمياً بضم إسرائيل للجولان، في مخالفة واضحة لقرارات الشرعية الدولية، وعلى رأسها القرار 497 لمجلس الأمن. هذا الاعتراف لم يكن مجرد موقف رمزي، بل خطوة قانونية – سياسية تُكرّس تغييراً في حدود دولة ذات سيادة، بفعل قوة خارجية يتطابق مع جوهر سايكس-بيكو.
واستخدام باراك للتاريخ بهذه الطريقة يُضفي إيحاءً بحدوث تحول أو تجاوز للماضي، من دون أن يُرافقه أي تغيير حقيقي في أدوات السيطرة أو أنماط النفوذ. أما الحديث عن “الحلول الإقليمية” كمستقبل بديل، فيفترض وجود إقليم موحد ومنسجم، بينما الواقع يكشف عن تباين حاد في المصالح وتفاوت في مستويات التأثير والقدرة بين دول الجوار السوري.
من هو توماس باراك؟
يُعد توماس جوزيف باراك شخصية محورية في تقاطع عالم المال والسياسة الأميركية، فهو رجل أعمال ملياردير وصديق مقرب ومستشار للرئيس السابق (والحالي) دونالد ترامب. وُلد باراك في كاليفورنيا عام 1947. نشأ في كولفر سيتي حيث كان والده يمتلك متجر بقالة. تخرج من جامعة جنوب كاليفورنيا بدرجة بكالوريوس في التاريخ عام 1969، وبرز كرياضي في فريق الرجبي بالجامعة. واصل دراسته وحصل على درجة الدكتوراة في القانون من جامعة سان دييغو عام 1972، كما عمل محرراً لمجلة القانون في كلية الحقوق بجامعة USC.
بدأ باراك مسيرته المهنية كمحامٍ وعمل لفترة في مكتب المحامي الشخصي للرئيس نيكسون، هربرت كلومباك. لكن نقطة التحول المبكرة كانت في السبعينيات عندما أوفد إلى المملكة العربية السعودية للعمل هناك. هذه الفترة سمحت له باكتساب خبرة في المنطقة وتأسيس علاقات مع مستثمرين من الشرق الأوسط، كما ساهمت في تعلمه اللغة العربية بدرجة معينة من الطلاقة بفضل جذوره الشرق أوسطية وعمله في السعودية.
في عام 1985، دخل باراك قطاع الاستثمار العقاري الخاص. كانت أول صفقة بارزة له مع دونالد ترامب حين باعه حصة في سلسلة متاجر ألكسندرز. في عام 1990، أسس شركته الخاصة Colony Capital (التي عُرفت لاحقاً باسم Colony NorthStar ثم DigitalBridge). حققت شركته نجاحاً كبيراً في اقتناص الأصول والعقارات المتعثرة وتحويلها إلى أرباح، محققة عوائد بنحو 50% في أول عامين.
توسعت استثمارات باراك لتشمل مئات الملايين من الدولارات في العقارات بالشرق الأوسط وأوروبا، وشراء أصول معروفة مثل فندق بلازا في نيويورك ومنتجع “نيفرلاند” الخاص بمايكل جاكسون. كما دخل مجال الاستثمار الرياضي والإعلامي، حيث اشترى نادي باريس سان جيرمان الفرنسي لكرة القدم عام 2012 قبل أن يبيعه لجهاز قطر للاستثمار، واستحوذ على شركة ميراماكس للإنتاج السينمائي ثم باعها لجهات قطرية محققاً أرباحاً. هذه النجاحات أدخلته لفترة ضمن قائمة فوربس لأغنى أثرياء العالم، حيث احتل المرتبة 833 بثروة قدرت بـ 1.1 مليار دولار في 2011. ورغم تراجع ثروته عن عتبة المليار لاحقاً، ظل مؤثراً، خاصة في جذب رؤوس أموال خليجية وآسيوية لشركته.
صديق ترامب وجسره نحو الخليج:
لم يقتصر دور باراك على الأعمال، بل بنى شبكة علاقات سياسية قوية، أبرزها صداقته الطويلة مع دونالد ترامب التي تعود لثمانينيات القرن الماضي عبر صفقات عقارية. أصبح باراك أحد أبرز الداعمين الماليين لحملة ترامب الرئاسية عام 2016، حيث جمع التبرعات وساهم في التمويل. الأهم من ذلك، لعب دوراً كمستشار خلف الكواليس وحلقة وصل بين حملة ترامب وبعض قادة الشرق الأوسط. كشفت تقارير عن فتحه قنوات اتصال مع مسؤولين في الإمارات والسعودية، وتوصيته بتعيين بول مانافورت مديراً للحملة، وسعيه لترتيب لقاء بين مانافورت ومسؤولين خليجيين. هذا الدور جعله يُوصف بأنه “جسر ترامب نحو أمراء الخليج”، مستفيداً من علاقاته القديمة هناك، مثل صداقته وعمله السابق مع السفير الإماراتي يوسف العتيبة. سعى باراك لطمأنة المسؤولين الخليجيين حيال تصريحات ترامب المثيرة للجدل، واصفاً ترامب في رسالة للعتيبة بأنه “ملك المبالغة ويمكننا إرشاده نحو الحكمة” ومؤكداً حاجته لعقول عربية حوله.
بعد فوز ترامب عام 2016، ترأس باراك لجنة تنصيب الرئيس. ورغم التوقعات، نأى بنفسه عن تولي منصب رسمي بارز، ورفض عروضاً مثل وزير الخزانة. اقترح إنشاء منصب مبعوث رئاسي للتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط ليتولاه، لكن الفكرة لم تلق دعماً. عاد للتركيز على أعماله، واستفادت شركته Colony NorthStar بعد الانتخابات من الأجواء الإيجابية مع الحلفاء الخليجيين، مستقطبة أكثر من 7 مليارات دولار استثمارات، نحو 24% منها من صناديق سيادية ومستثمرين في الإمارات والسعودية.
قضايا قانونية وتبرئة مفاجئة:
على الرغم من نفوذه، واجه باراك متاعب قانونية كبيرة. في يوليو 2021، اتهمته وزارة العدل الأميركية بالعمل كعميل أجنبي غير مسجل لصالح الإمارات، والتآمر، وعرقلة العدالة، والإدلاء ببيانات كاذبة لمكتب التحقيقات الفدرالي (FBI). زعمت الوزارة أنه استغل نفوذه للتأثير على السياسات الأميركية لصالح دولة أجنبية من دون الإفصاح القانوني، وأن شركته تلقت مئات الملايين من الصناديق الإماراتية في أثناء سعيه للتأثير على مواقف ترامب.
تم اعتقاله في 2021 وأفرج عنه بكفالة ضخمة بلغت 250 مليون دولار. استمرت القضية حتى محاكمته أمام هيئة محلفين في نيويورك عام 2022. في نوفمبر 2022، برّأته هيئة المحلفين من جميع التهم. اعتبرت التبرئة مفاجئة للكثيرين نظراً لجدية التهم، ورأى محللون أنها أظهرت صعوبة إدانة شخصيات مقربة من الرئيس. طويت صفحة القضية من دون إدانة، مما أزال عقبة أمام تعيينه لاحقاً في مناصب رسمية.
تلفزيون سوريا
——————————-
عالم مستمر في التحول وموقع العرب بين الحاضر والماضي/ عدي محمد الضاهر
2025.05.29
في خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي، تعود الولايات المتحدة الأميركية اليوم إلى موقع الفاعل الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، لكن هذه العودة ليست كتلك التي اعتاد عليها العالم العربي في العقود الماضية.
لم تعد واشنطن تنظر إلى المنطقة من زاوية التدخل العسكري المباشر، أو من خلال فرض الإملاءات السياسية كما جرى بعد أحداث 11 سبتمبر أو غزو العراق، بل بدأت تتبنى منهجًا أكثر براغماتية، قائمًا على التفاعل الذكي وبناء الشراكات.
في قلب هذا التوجه الجديد، تظهر معالم ما يمكن تسميته بـ نظرية الاستدعاء الاستراتيجي وهي نظرية سياسية معاصرة اقترح فيها أن القوى الكبرى، حين تواجه تحديات عالمية جديدة، تميل إلى استحضار أدوات وتجارب سابقة أثبتت نجاعتها، لكن بعد تكييفها مع البيئة الجيوسياسية المستحدثة. ليست هذه عودة إلى الماضي بمعناه الحرفي، بل هي إعادة استخدام مُوجّهة واستباقية لما كان فعّالًا في سياقات قديمة، مع إعادة هندسته وفق المعطيات الراهنة.
من الحرب الباردة إلى الحرب على النفوذ الصيني …إعادة تفعيل نموذج الاحتواء
قبل أكثر من نصف قرن، واجهت الولايات المتحدة التوسع السوفييتي عبر استراتيجية محورية عُرفت باسم الاحتواء(Containment) وهي التي شكّلت العمود الفقري للسياسة الأمريكية خلال الحرب الباردة.
هذه الاستراتيجية لم تكن محض عداء أو صراع مباشر، بل كانت قائمة على تطويق النفوذ السوفييتي عبر تحالفات، قواعد عسكرية، دعم اقتصادي للدول الحليفة، وتعزيز منظومات الردع.
بدأت مع رسالة لدبلوماسي أميركي ” جورج كينان” ينصح بها الإدارة الأميركية في سياسة الاحتواء وطورها واستخدمها الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان.
اليوم، في عالم يوصف من قبل بعض المحللين السياسيين بعالم متعدد الأقطاب، تواجه الولايات المتحدة خصمًا استراتيجيًا عنيداً ، الصين، الصعود الصيني ليس عسكريًا بالدرجة الأولى، بل هو تمدد اقتصادي وتجاري وتكنولوجي عابر للحدود.
وهذا ما جعل واشنطن تُعيد استدعاء نموذج الاحتواء، ولكن بأساليب محدثة تتناسب مع طبيعة التحدي: حماية سلاسل الإمداد، تقوية النفوذ التكنولوجي الأميركي، تعزيز الشراكات الاقتصادية، والتصدي لتغلغل الصين في البنى التحتية للدول النامية.
وهنا تتجلّى “نظرية الاستدعاء الاستراتيجي”، فواشنطن لا تبتكر استراتيجية جديدة كليًا، لكنها تُفعّل تجربة تاريخية ناجحة بعد تكييفها مع متطلبات العصر.
الدول العربية: ساحة استراتيجية وشريك ضروري
لم يكن اختيار الولايات المتحدة للمنطقة العربية ضمن أولويات احتوائها للصين أمرًا عشوائيًا. فهذه المنطقة، التي تشكل قلب العالم من حيث الموقع الجغرافي والموارد الطاقوية، باتت مسرحًا لتقاطع النفوذ العالمي بين واشنطن وبكين.
الصين عززت حضورها في السنوات الماضية عبر مبادرة الحزام والطريق واستثمرت بشكل متسارع في موانئ، بنى تحتية، ومشاريع رقمية وطاقية في الخليج وشمالي إفريقيا. في المقابل، تعمل واشنطن الآن على استرجاع المبادرة من خلال تحالفات جديدة مبنية على التنمية المستدامة، التكنولوجيا المتقدمة، والطاقة المتجددة، وليس عبر منطق السيطرة أو الإملاء.
ترى واشنطن أن الشراكة مع الاقتصادات العربية، ودمجها في سلاسل الإمداد الغربية، وتقديم بدائل مغرية لنموذج الاستثمار الصيني، يمكن أن يعزز موقفها في هذه المعركة الاستراتيجية. كما تدرك أن زمن فرض الهيمنة بالقوة قد ولّى، وأن استقطاب الشعوب لا يتم بخطاب فوقي، بل عبر شراكة ذات مصداقية، وبطبيعة الأحوال تستند هذا العلاقة في مضمونها على تاريخ طويل من العلاقات السياسية والعسكرية مما يعطيها تفوق واضح على العلاقات مع الصين التي لطالما كانت تنأى بنفسها عن أي دعم سياسي للكثير من الدول العربية والإسلامية.
دونالد ترمب من خطاب الحملة إلى سياسة الدولة
لعلّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يُجسّد أوضح مثال على استخدام “الاستدعاء الاستراتيجي” بشكل مباشر وعلني. فمنذ حملته الانتخابية في 2016، جعل من الصين العدو الأول للولايات المتحدة، واتهمها بتقويض الاقتصاد الأميركي وسرقة التكنولوجيا وتهديد النفوذ العالمي لبلاده.
وبعد أن عاد إلى البيت الأبيض مرة أخرى في عام 2025، لم يتراجع عن هذا الخطاب، بل رسخ المرحلة الجديدة من رئاسته لتعزيز الاستقلال الاقتصادي الأميركي ومواجهة التوسع الصيني. في خطاب تنصيبه، وعد الأميركيين بأن زمن الضعف قد انتهى وأن بلاده ستستعيد مكانتها العالمية، ليس عبر الحروب، بل من خلال الردع الذكي والمنافسة العادلة.
هذا الربط بين الشعارات الانتخابية والسياسات الرسمية يعكس كيف يُفعّل ترمب بطريقة واعية نماذج سابقة من القوة الأميركية، ويعيد تقديمها في حُلة جديدة، تماشيًا مع فلسفة الاستدعاء الاستراتيجي التي اتمحور حولها.
دول العرب أمام مفترق طرق قد يعيد رسم ملامح المنطقة
الواقع أن الدول العربية تجد نفسها اليوم في موقف حساس. فمن جهة، هي مستفيدة من الاستثمارات الصينية في البنى التحتية والطاقة، ومن جهة أخرى، تعتمد بشكل كبير على الدعم الأمني والعسكري والتكنولوجي من الولايات المتحدة.
لكن النظر من هذه الزاوية فقط هو تبسيط مخل. فالعالم العربي ليس مجرد ملعب تتصارع فيه القوى العظمى، بل هو يملك لو أحسن استغلال الظرف القدرة على أن يتحول إلى لاعب حاسم في تحديد معالم النظام العالمي الجديد.
نظرية الاستدعاء الاستراتيجي لا تخصّ أميركا وحدها، بل يمكن أن تكون دليلًا عمليًا للدول العربية أيضًا: لماذا لا تُعيد الدول العربية بدورها استدعاء تجارب النهضة العربية، والتكامل الاقتصادي، والتحالفات الإقليمية المستقلة التي عرفتها في مراحل سابقة لماذا لا تستثمر هذا الصراع بين واشنطن وبكين لصالح تنميتها الذاتية، وبناء نموذجها الخاص في الشراكة الذي بدوره قد ينعكس على الكثير من الملفات التي أرهقت المنطقة منها ملف فلسطين أو ملف التمدد الإيراني نحو الدول العربية وقد تصل إلى حل لكل هذه الملفات بتوافقات ورؤى جديدة لايحتاج فيها العرب سوى إلى الدبلوماسية المرنة ووضع المصالح في الخانة الأولى
الخطاب الأميركي الجديد هل هو واقع سيستمر ام ضرورة مرحلة؟
في السنوات الأخيرة، بدأ الخطاب الأميركي تجاه العالم العربي يتغير. المسؤولون الأميركيون يؤكدون أن زمن التدخلات الأحادية قد انتهى، وأنهم يطمحون إلى شراكة قائمة على الاحترام المتبادل.
هذه اللغة الجديدة تعكس أيضًا نوعًا من الاستدعاء الخطابي، حيث تحاول واشنطن محو صورة الماضي المليئ بالأخطاء، وتقدم نفسها كشريك في بناء مستقبل المنطقة، لا كقوة مفروضة عليها.
لكن هذا الخطاب، رغم نبرته الإيجابية، لا يمكن فصله عن الهدف الأساسي مثل كسب تحالفات استراتيجية تضمن تطويق الصين، وتضمن عدم فقدان النفوذ في منطقة كانت لعقود طويلة ضمن نطاق الهيمنة الأميركية ومن هذا ينبغي للدول العربية أن تدرك بأن التعاون العربي المشترك هو الذي سيفرض على الولايات المتحدة أن تستمر في نهجها الإيجابي لطالما يحقّق مصالحها دون خسائر، وعليه يمكن حينها أن تبتعد أميركا عن الكثير من الدول التي تمارس سياسة الابتزاز تجاه الولايات المتحدة مثل ” إسرائيل”وهذا ما يمكن أن نراه خلال السنوات القليلة القادمة.
بين الاستدعاء والمبادرة
العالم يعيد ترتيب أوراقه، والقوى الكبرى لا تختلق دائمًا استراتيجيات جديدة، بل تلجأ إلى التاريخ لتستلهم منه حلولًا قابلة للتطبيق. هذا هو جوهر “نظرية الاستدعاء الاستراتيجي” التي نشهد تطبيقها في السياسة الأميركية تجاه الصين والعالم العربي.
لكن السؤال الجوهري يبقى: هل يكون العرب مجرد عنصر ثانوي في معادلة النظام الدولي الجديد التي بدأت إرهاصاته؟ أم أنهم قادرون على استدعاء تجاربهم الناجحة نسبياً أيضًا، والانتقال من دور المتلقي إلى دور المبادر والفاعل الرئيسي.
———————————–
اتفاق قطري تركي أميركي مع سورية لتطوير مشاريع طاقة بقيمة 7 مليارات دولار/ محمد كركص
29 مايو 2025
وقّعت الحكومة السورية، اليوم الخميس، مذكرة تفاهم مع تحالف شركات عالمية بقيادة شركة “يو سي سي” القابضة القطرية، لتطوير مشاريع توليد طاقة واسعة النطاق بقيمة تصل إلى 7 مليارات دولار، ضمن مبادرة “إحياء الطاقة في سورية”. ووُقِّعَ الاتفاق في قصر الشعب بدمشق، بحسب دعوة إعلامية صادرة عن الشركة.
ويأتي الاتفاق بعد يوم واحد فقط من إعلان الحكومة السورية توقيع اتفاقيات مع أربع شركات تهدف إلى توسيع شبكة الكهرباء في البلاد، بإضافة نحو 5,000 ميغاواط إلى الإنتاج الوطني، ما قد يؤدي إلى مضاعفة الإمدادات في بلد يعاني من أزمة كهرباء حادة منذ أكثر من عقد.
وبحسب بيان الشركة، فإنّ المشروع يتضمن تطوير محطات توربينات غازية ومزارع طاقة شمسية، وسيُنفَّذ من خلال شركتها التابعة “UCC Concession Investments”، التي ستتولى دور المطوّر الرئيسي. ويضم التحالف أيضاً شركات Kalyon GES Enerji Yatirimlari” ،Cengiz Enerji” التركيتين، و”Power International USA” الأميركية. ولم تعلّق شركة “يو سي سي” القابضة، التي يترأسها رجل الأعمال السوري-القطري معتز الخياط، ويشغل منصبها التنفيذي شقيقه رامز الخياط، على الخبر عند طلب ذلك من وكالة رويترز.
وتشمل المذكرة بناء أربع محطات غاز لتوليد الكهرباء تعمل بنظام الدورة المركبة بطاقة إجمالية تبلغ أربعة آلاف ميغاوات، بالإضافة إلى محطة طاقة شمسية بقدرة ألف ميغاوات في جنوب سورية. ويُتوقع أن يبدأ البناء بعد إبرام الاتفاقات النهائية والانتهاء من الاتفاق على الجوانب المالية، ومن المستهدف الانتهاء من البناء في غضون ثلاثة أعوام بالنسبة إلى محطات الغاز، وأقل من عامين لمحطة الطاقة الشمسية.
اتفاقية بين وزارة الطاقة السورية وشركة يو سي سي
وفي هذا السياق، قال وزير الطاقة محمد البشير، خلال مراسم التوقيع، إن سورية تعيش لحظة تاريخية في قطاع الطاقة، تشكل نقطة انطلاق لإعادة تأهيل البنية التحتية، وتحقيق اكتفاء تدريجي يعيد النور إلى المدن السورية ويعزز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
وأضاف أن الاتفاقية تهدف إلى ترسيخ التعاون والتكامل الإقليمي في مجال الطاقة، مع التركيز على تحفيز مشاريع الطاقة النظيفة والمتجددة، مشيراً إلى أن قيمة الاستثمار تبلغ 7 مليارات دولار، وستسهم في توليد 5000 ميغاواط من الكهرباء، ما سينعكس بشكل مباشر على زيادة ساعات التغذية الكهربائية وتحسين حياة السوريين في مختلف القطاعات.
وتتضمن الاتفاقية تطوير أربع محطات توليد كهرباء بتقنية التوربينات الغازية من نوع “الدورة المركبة” (CCGT) موزعة في دير الزور، ومحردة، وزيزون بريف حماة، وتريفاوي بريف حمص، باستخدام تقنيات أميركية وأوروبية متقدمة، بطاقة إنتاجية إجمالية تبلغ 4000 ميغاواط، إلى جانب إنشاء محطة طاقة شمسية بسعة 1000 ميغاواط في منطقة وديان الربيع جنوبي البلاد.
من جانبه، رأى الرئيس التنفيذي لشركة أورباكون القابضة، رامز الخياط، أن هذا المشروع يفتح صفحة جديدة من العمل المشترك في إطار إعادة إعمار سورية، مشيراً إلى أن الاستثمار في الطاقة يمثل حجر الزاوية لتحقيق الاكتفاء الذاتي وبناء نهضة اقتصادية مستدامة. وفي كلمة قبل مراسم توقيع الاتفاقية، أكد المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، توماس باراك، أن اللحظة الراهنة تُعد نقطة تحول نادرة في مسار العلاقات الثنائية، مشددًا على أن الإدارة الأميركية تضع كل ثقلها لدعم الحكومة السورية الجديدة.
ولفت إلى أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 13 مايو/أيار الجاري، برفع العقوبات المفروضة على سورية، كان خطوة جريئة تُمهّد الطريق أمام مرحلة جديدة من التعاون والانفتاح، واصفًا سورية بـ”أم الحضارات”، مؤكدًا أن رفع العقوبات لم يكن مجرد خطوة سياسية، بل ترجمة عملية لتوجه استراتيجي طويل الأمد.
وتعاني سورية حالياً من انقطاعات كهربائية تمتد لـ20 ساعة يومياً في العديد من المناطق، فيما لا تتجاوز ساعات التغذية في معظم المناطق المدينية ساعتين إلى ثلاث فقط. وتعهدت حكومة الرئيس السوري أحمد الشرع، التي تسلمت الحكم بعد إطاحة بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بتسريع وتيرة إصلاح البنية التحتية وتوفير الطاقة للسكان.
وتُقدّر وزارة الكهرباء السورية أنّ القدرة الإنتاجية الفعلية لا تتجاوز 2,500 ميغاواط، مقابل طلب محلي يومي يُقدّر بـ7,000 ميغاواط، فيما كانت القدرة الإنتاجية قبل الحرب عام 2011 تتجاوز 9,000 ميغاواط. ويُتوقع أن يُسهم المشروع الجديد في تقليص العجز الحاد الذي يثقل كاهل المواطنين والصناعات على حد سواء.
وكانت سورية تعتمد سابقاً على النفط الإيراني لتشغيل محطاتها، لكن الإمدادات توقفت بعد سقوط النظام. ومنذ مارس/ آذار الماضي، بدأت قطر، أحد أبرز منتجي الغاز الطبيعي المسال، بتوفير الغاز لمحطة التوليد الرئيسية في دمشق، في حل مؤقت لتخفيف الأزمة. ويواجه قطاع الكهرباء في سورية تحديات معقدة، أبرزها العقوبات الغربية، وخصوصاً “قانون قيصر” الذي يقيّد عمليات الاستيراد والتوريد في الصناعات الحيوية، ونقص الوقود وقطع الغيار، وغياب الصيانة. وتشير تقارير رسمية إلى أن أكثر من نصف محطات التوليد باتت خارج الخدمة، أو تعمل بكفاءة منخفضة، ما انعكس سلباً على القطاعات الاقتصادية كافة، ودفع إلى نشوء سوق سوداء للطاقة بسبب الاعتماد الواسع على المولدات الخاصة وارتفاع تكاليف التشغيل.
وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد أعلنت، الأسبوع الماضي، تخفيفاً فورياً للعقوبات المفروضة على سورية، في خطوة تهدف إلى دعم الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. وأصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية ترخيصاً عاماً يتيح تعليقاً مؤقتاً للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، مع الحفاظ على بعض القيود المتعلقة بالأفراد والكيانات المدرجة في قوائم العقوبات.
——————————
المبعوث الأميركي إلى سورية يدعو إلى “اتفاق عدم اعتداء” مع إسرائيل وفتح ملف الحدود/ عبد الله السعد
29 مايو 2025
دعا المبعوث الأميركي إلى دمشق توم باراك، اليوم الخميس، إلى “اتفاق عدم اعتداء” بين سورية وإسرائيل. وقال باراك لمجموعة صغيرة من الصحافيين في دمشق: “سورية وإسرائيل مشكلة قابلة للحل. لكن يتعين أن تبدأ بالحوار”. وأضاف: “أعتقد أننا بحاجة إلى البدء باتفاقية عدم اعتداء فقط، والحديث عن الحدود”.
وبخصوص العقوبات الأميركية، أكد باراك أن الولايات المتحدة سترفع سورية من قائمة الدول الراعية للإرهاب، قائلا إن هذه المسألة “انتهت مع زوال نظام الأسد”، لكن الكونغرس لديه فترة مراجعة مدتها ستة أشهر، ثم أضاف: “نية أميركا ورؤية الرئيس (دونالد ترامب) هي أنه يتعين علينا إعطاء هذه الحكومة الشابة فرصة من خلال عدم التدخل وعدم المطالبة وعدم وضع الشروط وعدم فرض ثقافتنا على ثقافتكم”.
وجرى تعيين باراك في منصب مبعوث بلاده إلى دمشق في 23 مايو/ أيار. وهو أيضا سفير الولايات المتحدة لدى تركيا. وأشار باراك إلى أن سورية تخضع لعقوبات أميركية منذ 1979. وطبقت بعض أشد تلك العقوبات في 2020 بموجب ما يسمى بقانون قيصر الذي قال إن الكونغرس لا بد أن يلغيه في غضون 180 يوما. وقال: “أؤكد لكم أن الشخص الوحيد الذي لديه صبر أقل منكم جميعا تجاه تلك العقوبات هو الرئيس ترامب”.
وكان الرئيس السوري أحمد الشرع قد التقى المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية توماس باراك، وذلك بعد أن رفع الأخير علم الولايات المتحدة على منزل السفير الأميركي في دمشق، تمهيداً لافتتاح السفارة. وذكرت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا”، أنّ اللقاء بين الشرع والمبعوث الأميركي جرى، اليوم الخميس، في قصر الشعب بالعاصمة دمشق.
افتتاح دار السفير الأميركي في دمشق بعد 13 عاماً
وشارك وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني باراك، في رفع العلم الأميركي على سكن السفير الأميركي في العاصمة دمشق، إيذاناً بعودة البعثة الدبلوماسية الأميركية رسمياً إلى البلاد بعد 13 عاماً من الانقطاع، وذلك بحضور ممثلين عن وزارة الخارجية والسفارة الأميركية وعدد من الدبلوماسيين والإعلاميين. ويقع المنزل والسفارة في منطقة أبو رمانة، الحي الراقي في دمشق الذي يضمّ معظم البعثات الدبلوماسية في العاصمة السورية.
العلم الأميركي فوق منزل المبعوث الأميركي إلى دمشق (العربي الجديد)
وكانت الولايات المتحدة قد أغلقت سفارتها في دمشق، في فبراير/ شباط 2012، بعد استخدام العنف من جانب نظام بشار الأسد ضد شعبه على إثر اندلاع الثورة السورية، ومنذ ذلك الحين انحصر التمثيل الأميركي في سورية بمهام غير مباشرة عبر دول الجوار. ويمثل افتتاح دار السفير خطوة تمهيدية لعودة السفير إلى ممارسة مهامه من داخل سورية، في سياق الانفراج الدبلوماسي الذي أعقب تشكيل الحكومة الجديدة، ما قد يشجع برأي مراقبين دولاً أخرى على إعادة افتتاح سفاراتها في دمشق.
وقبل أيام قال باراك، إنّ زمن التدخل الغربي في الشأن السوري قد انتهى، معتبراً أن رفع العقوبات سيمكن الشعب السوري من الانطلاق نحو مستقبل يسوده الرخاء والأمن. وأضاف المبعوث الأميركي، في منشور على صفحته بمنصة إكس، أنّ “الخطأ الذي ارتُكب قبل قرن، حين فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدوداً بالقلم، وأخضع الشرق الأوسط لحكم أجنبي، لن يتكرر”، في إشارة إلى اتفاقية سايكس-بيكو التي قسّمت سورية والمنطقة. وأكد باراك أن “عصر التدخل الغربي قد انتهى”، وأن المستقبل في سورية سيكون “للحلول الإقليمية، والشراكات، ولدبلوماسية تقوم على الاحترام”، وفق قوله.
————————–
الأسباب الحقيقة وراء زيارة الشرع المفاجئة لإسطنبول/ صالحة علام
29/5/2025
أثارت الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس المرحلة الانتقالية بسوريا أحمد الشرع لإسطنبول، ولقاؤه الرئيس أردوغان جملة من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول الأسباب التي دفعت الشرع إلى هذه الزيارة غير المدرجة على جدول أعمال الرئيسين، ولم يسبق الإعلان عنها بروتوكوليا كما جرت عليه العادة.
الشروط الأمريكية لتنفيذ قرار رفع العقوبات عن سوريا
لتحديد الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذه الزيارة، ولمعرفة الملفات التي تم بحثها بين الجانبين، ولوضع تصور عن ما يمكن أن تحمله الأيام المقبلة من تطورات في المنطقة عموما، والداخل السوري على وجه الخصوص، يجب إمعان النظر بدقة في هوية المسؤولين الذين حضروا اللقاء من قادة أمنيين وعسكريين، إضافة إلى كل من وزراء الخارجية والدفاع، ومسؤولي جهازي الاستخبارات بالبلدين، إلى جانب التطورات التي شهدها الملف السوري دوليا، وإقليميا قبلها بأيام قليلة، وربما ساعات معدودة، وكانت دافعا إلى هذا التحرك السريع من جانب الشرع.
من هذه التطورات إعلان كل من الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي على التوالي رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وهو ما يعد تحولا كبيرا في نهج الغرب عموما اتجاه دمشق، لكن تنفيذ هذه الخطوة له شروط محددة تم وضعها أمام القيادة السورية، منها ضمان أمن إسرائيل، ومنع أية تهديدات يمكن أن تتعرض لها سواء من جانب الدولة السورية نفسها، أو من بعض المنتمين للتنظيمات الجهادية داخل سوريا.
مع عدم الاستعانة بأي عنصر من المقاتلين الأجانب الذين سبق لهم التعاون مع هيئة تحرير الشام، أو تعيينهم في مناصب قيادية داخل الإدارة السورية الجديدة، والمطالبة بتدمير جميع مخازن الأسلحة الكيميائية الباقية في سوريا، والتعاون بجدية في مكافحة الإرهاب.
لقاءات سورية إسرائيلية مباشرة تحت رعاية تركيا
وهي الشروط التي يبدو أن الإدارة السورية قد قررت القبول بها، والبدء في تنفيذها بمساعدة تركيا، حتى يتسنى لها المضي قدما في عملية إعادة إعمار البلاد التي دمرتها الحرب، وإصلاح هيكل الاقتصاد، وتحديث البنية التحتية، لجذب الاستثمارات الأجنبية وإنعاش الأسواق، وتحسين الظروف المعيشية للسوريين.
ففي سابقة هي الأولى من نوعها تناولت وسائل إعلام دولية وإقليمية معلومات عن وجود لقاءات مباشرة بين مسؤولين سوريين وآخرين إسرائيليين تحت رعاية تركية، في باكو عاصمة أذربيجان، وهو ما ألمح إليه جدعون ساعر وزير خارجية دولة الاحتلال، الذي ثمن هذه الخطوة وأثنى عليها، لكونها تهدف إلى التوصل لاتفاق يحقق الاستقرار الأمني والسياسي للطرفين على حد زعمه.
وقد استدل البعض على صحة هذه المعلومات غير المؤكدة حتى الآن بموافقة أحمد الشرع على تحقيق رغبة إسرائيل، وتسليمها متعلقات الجاسوس الإسرائيلي إيلى كوهين، كبادرة حسن نية اتجاهها واتجاه ساكن البيت الأبيض.
كما أعلنت القيادة السورية عدم رغبتها في امتلاك أي أسلحة كيميائية، وتعهدت رسميا في اجتماع للمجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي بتدمير كافة المخزون الذي احتفظ به نظام الأسد سنوات.
تداعيات تعيين الأجانب بوزارة الدفاع
العقبة الوحيدة الآن التي يحتاج فيها الشرع بشدة لحنكة أنقرة، وتحركها دبلوماسيا لرفع الحرج عنه أمام واشنطن تحديدا، وتنفيذ وعدها برفع العقوبات عن بلاده، تكمن في معضلة المقاتلين الأجانب الذين شاركوا معه في معركة تحرير سوريا من نظام الأسد.
خاصة أنه قام فعلا بتعيين عدد من هؤلاء الأجانب في مناصب قيادية بوزارة الدفاع، أبرزهم قائد الحرس الجمهوري عبد الرحمن الخطيب وهو أردني الجنسية، وقائد فرقة دمشق العسكرية عمر محمد جفتشي المعروف باسم “مختار التركي”، وهو تركي الجنسية، وتراجعه عن هذه التعيينات، وإقصاؤهم من مناصبهم يمكن أن يسبب له مشكلة يصعب حلها أو معالجة تداعياتها في الوقت الراهن، خاصة بين أولئك الذين يدينون بالولاء لهؤلاء القادة.
تحركات مريبة لقوات سوريا الديمقراطية
إلى جانب هذه التطورات، كان قيام قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بتوسيع نطاق خريطة تحركاتها العسكرية في مناطق دير الزور، دافعا لتوجه الشرع صوب إسطنبول، خاصة بعد أن قامت قسد بإرسال المزيد من العناصر المسلحة، والمعدات العسكرية إلى المناطق الأكثر حساسية قرب حقول النفط، وعلى ضفاف نهر الفرات، إلى جانب التصعيد الأمني، وهو التحرك الذي يخالف الاتفاق الذي سبق توقيعه في مارس/آذار الماضي بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي.
كما كان للمباحثات التي أجراها إبراهيم كالن رئيس جهاز الاستخبارات التركي مع المسؤولين في دمشق دور في قرار القيام بهذه الزيارة، بعد أن تم بحث العديد من الملفات الأمنية ذات الحساسية بالنسبة لتركيا، لارتباطها بتطورات القضية الكردية لديها، وعملية السلام التي تقودها الحكومة مع عناصر حزب العمال الكردستاني، وانعكاسات هذا الأمر على وضع قسد، وآليات تسليم هذه العناصر لسلاحها، ودمجها ضمن وحدات الجيش والقوات الأمنية السورية.
إضافة إلى عودة الحديث مجددا عن مصير مقاتلي داعش وأسرهم المحتجزين في مخيم الهول، الذي يضم وفق تقارير لعدد من منظمات حقوق الإنسان أكثر من 35 ألف شخص، معظمهم من زوجات وأبناء مقاتلي التنظيم الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، إلى جانب منطقة السجون والمعتقلات التي تضم ما يقارب 9 آلاف من المشتبه في كونهم من عناصر داعش، حيث لا يزال وضع هؤلاء وأولئك، والجهة التي ستتولى إدارة هذا الملف في المرحلة اللاحقة غير واضح.
في ظل التصريحات التي تصدر عن قيادات بقسد تؤكد أن الاتفاق مع حكومة دمشق يخص فقط آلية إجلاء المواطنين السوريين إلى المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الكردية، وليس تسليم إدارة المخيم لدمشق، وهو ما يتعارض مع المقترح التركي الذي تم إبلاغه لواشنطن، والخاص بضرورة تسليم المخيم والسجون الملحقة به للحكومة السورية مع إمكانية تقديم أنقرة المساعدة اللازمة عند الاحتياج إليها.
خطط أمنية تركية سورية للقضاء على تهديدات داعش
ولوضع حل نهائي لهذه المسألة التي تقلق بال دمشق خشية عودة تهديد داعش، وعدم القدرة على مواجهة تهديدات التنظيم كان لا بد من التفاوض المباشر مع أنقرة لوضع آليات محددة للترتيبات الأمنية لكونها المعنية بصورة خاصة بمسألة تمكين دمشق من تولي المسؤولية الأمنية عن حدود الدولة السورية، خاصة في ظل رغبة واشنطن في سحب قواتها من الأراضي السورية.
تشمل هذه الترتيبات تسليم سجون داعش ومعسكرات الاحتجاز للجهات الأمنية المعنية، وتحديد المهام التي ستوكل إلى اللجنة التي تم تشكيلها، وتضم إلى جانب تركيا الولايات المتحدة وسوريا والعراق لبحث مصير مقاتلي داعش في معسكرات الاعتقال التي تديرها قسد منذ سنوات.
مع وضع الخطط الكفيلة بإدماج المكون الكردي السوري في المجتمع، بما يضمن إغلاق الحديث نهائيا عن طبيعة الحكم في سوريا سواء كان مركزيا أو لا مركزيا، والإسراع في عملية نزع سلاح قوات سوريا الديمقراطية، وضمها ضمن وحدات الجيش السوري، لضرب عصفورين بحجر واحد، ضمان وحدة الأراضي السورية، وحماية أمن تركيا القومي، وتبديد مخاوفها.
المصدر : الجزيرة مباشر
كاتبة وصحفية مصرية مقيمة في تركيا
حاصلة على الماجستير في الاقتصاد.عملت مراسلة للعديد من الصحف والإذاعات والفضائيات العربية من تركيا
الجزيرة
—————————————
المجموعة الدولية للأزمات: استقرار سوريا بعد الأسد رهن بالإصلاح والدعم الخارجي
ربى خدام الجامع
2025.05.27
نشرت المجموعة الدولية للأزمات تحليلا ذكرت فيه أن المرحلة التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول 2024 شهدت خطوات سياسية جريئة في سوريا، تمثلت بتشكيل حكومة أكثر تمثيلاً، واعتماد إعلان دستوري مؤقت، إلى جانب اتفاق تاريخي مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لإدماجها ضمن الجيش الوطني.
لكن التقرير حذّر في المقابل من تحديات أمنية عميقة، و”تصاعد للعنف الطائفي”، وتوترات داخلية وخارجية تهدد بتقويض مسار الانتقال.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة برفع العقوبات الغربية عن سوريا سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الجهة الناشرة له ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي ومراكز الأبحاث للملف السوري، دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة تلفزيون سوريا لهذه المادة:
منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في كانون الأول 2024، حقق قادة سوريا الجدد مكاسب مهمة وتعرضوا لتحديات متزايدة، وهم يحاولون توجيه البلد نحو التعافي، إذ خلال شهر آذار، وضع هؤلاء القادة حجري أساس مهمين، إذ شكلوا حكومة انتقالية جديدة أكثر تنوعاً، وأطلقوا إعلاناً يعتبر بمنزلة دستور مؤقت للبلد. وفي سياق منفصل، توصل هؤلاء القادة لاتفاقية مع القادة الكرد في شمال شرقي سوريا تقضي بدمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أي تلك الجماعة التي تسيطر على معظم أنحاء تلك المنطقة منذ عام 2015، ضمن الجيش الوطني الجديد، مع توسيع رقعة سيطرة الدولة ىالمركزية لتشمل تلك المناطق. كما ساعدت حملة دبلوماسية سحرية السلطات الجديدة على تكوين حالة دعم في العواصم الأوروبية وغيرها، والتي تجلت في أبهى صورها باجتماع ضم الرئيس الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب في 14 أيار الجاري، تعهد خلاله ترامب برفع واشنطن للعقوبات عن سوريا كونها خنقت الاقتصاد السوري وجعلته بحاجة ماسة للإنعاش. ومنذ ذلك الحين والاتحاد الأوروبي يحاول أن يقدم على التزام مماثل بالتماشي مع ما قدمته واشنطن.
بيد أن السلطات الجديدة ما فتئت تتعرض لمشكلات جسيمة، بعضها كانت هي السبب فيه، ولهذا ما يزال الشركاء في الخارج يحملون شيئاً من القلق تجاه الشرع والدائرة المقربة المحيطة به والتي استأثرت بالسلطة لنفسها، وذلك بالنسبة لمدى انفتاح تلك الفئة على تكوين حكومة تمثل الشعب السوري بحق. وخلال شهر آذار الماضي، شهدت المناطق الوسطى والساحلية في سوريا تفجراً للعنف الطائفي، ما أكد على وجود توتر قد يسهم في إخراج الجهود الرامية لتعزيز سلطة الدولة عن مسارها، كما أوضح بأن الحكومة المركزية تفتقر إلى القيادة والسيطرة على شطر كبير من جهاز الأمن. أما إسرائيل، ومن خلال حرصها على حماية خاصرتها الشمالية، فقد دمرت معظم الإمكانيات العسكرية السورية، واحتلت المنطقة العازلة التي تمتد على الحدود الجنوبية لسوريا، كما نفذت هجمات متواصلة طالت سلسلة واسعة من الأهداف السورية. وإلى أن تترجم الوعود برفع العقوبات إلى حقائق وأفعال، ستبقى تلك العقوبات تمثل عقبة كبيرة أمام العملية الانتقالية بعد رحيل الأسد.
وحتى يدعم الاتحاد الأوروبي عملية انتقال سلمية في سوريا، ينبغي عليه هو والدول الأعضاء فيه القيام بما يلي:
حث دمشق على تشكيل حكومة تمثل السوريين تمثيلاً حقاً، بوجود مشاركة أكبر للنساء، إلى جانب تشجيع دمشق على التعاون مع الأمم المتحدة في صياغة دستور جديد للبلد.
المساهمة في تعزيز الثقة بقوات الأمن السورية وبالدولة السورية بصورة أوسع، ويشمل ذلك حث السلطات الجديدة على التفكير بأمر إعادة رجال الشرطة الذي خضعوا لتفتيش أمني بعد أن خدموا أيام نظام الأسد، إلى جانب الدفع من أجل المحاسبة على الجرائم التي ارتكبتها القوات التابعة للدولة في آذار الماضي، ومواصلة الخطط الرامية لزيادة الدعم المخصص لإنعاش سوريا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، مع تقديم المساعدة التقنية لتعزيز الإمكانيات الموجودة لدى المؤسسات التابعة لعدة وزارات.
رفد الجهود الساعية لإدماج قسد ضمن قوات الأمن التابعة للدولة، مع خفض تصعيد النزاع القائم بين قسد والقوات المدعومة تركياً والتي تندرج تحت مسمى الجيش الوطني السوري، إلى جانب تسريع عملية إجلاء المواطنين الأوروبيين المحتجزين في مخيمات تحرسها قسد بتهمة الانضمام لتنظيم الدولة.
المشاركة في عملية دبلوماسية قائمة على التنسيق في بداية الأمر، ومنع إسرائيل من القيام بالعمليات التي من شأنها زعزعة الاستقرار في سوريا، ثم منع زيادة التصعيد بين إسرائيل وتركيا في سوريا.
تطبيق القرار السياسي الذي أصدرته الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على جناح السرعة، والذي يقضي برفع ما تبقى من العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، مع توفير المعلومات وخلق المحفزات التي تدفع المشاريع التجارية إلى الاستثمار في سوريا.
الديناميات السياسية والأمنية
خلال الأشهر الستة التي أعقبت سقوط الأسد، سعت السلطات الجديدة في دمشق جاهدة لترسيخ سلطتها، ونشر الاستقرار في البلد، وإطلاق عملية انتقال سياسي فيها، على الرغم من النتائج المختلطة التي حققتها على هذا الصعيد. إذ في 29 كانون الثاني، نصب الشرع رئيساً مؤقتاً خلال “مؤتمر النصر”. ثم حلت الهيئة وغيرها من الفصائل نفسها، إلى جانب كامل قوات الأمن التي تعود لحقبة الأسد، لتفتح الطريق أمام تشكيل جهاز أمن جديد. وفي شباط، عقدت الحكومة المؤقتة مؤتمر الحوار الوطني والذي يهدف إلى إطلاق عملية سياسية جامعة لكن هذا المؤتمر كان أقل من التوقعات بكثير.
بعد ذلك، وقع الرئيس الشرع على الإعلان الدستوري في 13 آذار، فوضع بذلك إطار عمل قانوني لفترة انتقالية تمتد لخمس سنوات كما رسخ سيطرته على السلطة. وعند صياغة الإعلان الدستوري، تلقت السلطات المقترحات التي رفعتها الأمم المتحدة، وخاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي تلك الأثناء، شرع الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني بحملة دبلوماسية مكوكية مع نظرائهم الأجانب، سواء في العالم العربي أو في أوروبا، فحققوا بذلك خطوات مهمة ونوعية باتجاه تقبلهم على المستوى الدولي، كان آخرها تلك الخطوة المهمة التي تمثلت باللقاء التاريخي بين الشرع وترامب في الرياض في 14 أيار الجاري.
مثل الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة في 29 آذار مدى استعداد القادة الجدد لتمثيل شرائح واسعة من الشعب السوري ضمن جهاز الحكم، إذ شملت الحكومة الجديدة ممثلين عن الطائفة العلوية والمسيحية والإسماعيلية والكردية والدرزية، إلى جانب شخصيات من المجتمع المدني والتكنوقراط وشخصيات حملت حقائب وزارية في حكومة الأسد قبل الحرب. ولكن، وعلى الرغم من الآمال التي حملتها التشكيلة الوزارية التي تعبر عن تمثيل أكبر، حصل الثقات لدى الشرع على حقائب الداخلية والخارجية والدفاع والعدل والطاقة، ما يعني استئثارهم بالمناصب التي تتمتع بسلطة تنفيذية أعلى، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشخصيات الرفيعة السابقة في الهيئة بقيت في مواقع السلطة التي تتصل بعدة مجالات. وكان من بين الوزراء المعينين امرأة واحدة هي هند قبوات التي شغلت منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، على الرغم من تعهد الشرع بدعم مشاركة المرأة.
ثم إن غياب الأمن بصورة عامة مايزال يمثل مصدر قلق كبير، وذلك لأن التركة التي خلفتها الحرب السورية والتي تشمل الدمار الاقتصادي وتهتك النسيج الاجتماعي السوري، خلقت ظروفاً مواتية أمام عودة العنف. وفي الوقت ذاته، سعت القوات الحكومية المنهكة جاهدة للرد بطريقة فاعلة على أعمال القتل والاختطاف والسلب، غير أن الهجمات التي استهدفت العلويين نظراً لارتباطهم بالنظام البائد، والقتال الذي دار مؤخراً بين الجماعات المسلحة السنية والدرزية، جعل الأقليات تحس بتهميش أكبر وخطر
ثم إن العنف الذي اشتعل في وسط سوريا وفي المنطقة الساحلية في مطلع شهر آذار أدى إلى تراجع مكانة الحكومة على المستويين المحلي والدولي، إذ في السادس من آذار، شن متمردون موالون للأسد هجمات نسقوا لها واستهدفت قوات الأمن التي شكلتها الحكومة منذ فترة قريبة داخل المدن الساحلية كما استهدفت سيارات المدنيين والطريق السريع الذي يربط مدينة اللاذقية بإدلب في شمال غربي البلد. ولقد دفع عداد القتلى الكبير دمشق إلى إرسال تعزيزات ضمن حملة مضادة ضمت فصائل مسلحة اندغمت بصورة اسمية ضمن الجيش الجديد، لكنها حافظت على استقلاليتها في القيادة والسيطرة. كما انضمت عصابات من المطالبين بالثأر والانتقام لتلك الاضطرابات، وخلال الأيام التي أعقبت ذلك، أمعنت عناصر غير منضبطة من كلا الفئتين الأخيرتين تقتيلاً في أهالي قرى اللاذقية وطرطوس وحماة وأحيائها، وذلك انتقاماً منهم على ما ارتكبه نظام الأسد من جرائم، والتي يحمّل بعض السوريين كامل العلويين مسؤوليتها.
وعند عودة النظام من جديد، تبين بأن ما يقرب من 900 مدنياً علوياً قد قتلوا في تلك الأحداث، بينهم أكثر من مئة امرأة وطفل، في حين فر أكثر من 30 ألفاً إلى لبنان، وعليه، فإن أغلب سكان الساحل السوري الذين أدانوا تصرفات العناصر الموالية للأسد حملوا المسؤولية للحكومة في فشلها بحمايتهم. وعقب أحداث العنف، تعهد الشرع بمحاسبة المسؤولين عنها، ثم شكل لجنة لتقصي الحقائق كلفها بتوثيق الانتهاكات ووضع توصيات بشأن إجراءات المحاسبة، ومن المقرر أن ترفع نتائج هذا التحقيق في تموز القادم.
إلا أن التحديات التي تواجهها الحكومة أكبر من تلك المتعلقة بضمان المحاسبة على الجرائم التي ارتكبت في آذار، وذلك لأن الجرائم التي ارتكبتها قوات تابعة للدولة سلطت الضوء على وجود ثغرات كبيرة في سيطرة دمشق على الفصائل المسلحة التابعة لها، كما بينت بأن الحكومة الجديدة خلقت مشكلة جديدة عندما حلت قوات الأمن القديمة، وذلك عندما سرحت من العمل آلاف الشبان المتضررين الذين يتمتعون بخبرة قتالية وسهولة على الوصول إلى الأسلحة. ومع ندرة فرص العمل المتاحة، شكل هؤلاء سلسلة جاهزة من المجندين الذين بوسع الموالين للنظام البائد الاستفادة منهم في أي ثورة أو تمرد قد يحصل مستقبلاً، ثم إن دمج تلك العناصر غير المنضبطة التي أصبحت اليوم جزءاً من قوات الأمن التابعة للدولة ضمن قوة متماسكة تخضع لانضباط ملائم لن تكون مهمة سهلة، طالما بقيت الدولة تسعى جاهدة وهي مكبلة بالعقوبات لدفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وهذا ما جعل كثيرين من حملة السلاح يعتمدون على مصادر أخرى للدخل.
إن عدم وجود سلسلة قيادة وتحكم واضحة بالنسبة للعناصر المسلحة التابعة للحكومة يمكن أن يتسبب بظهور موجات عنف جديدة وبكل سهولة، إذ في أواخر نيسان الماضي، تصاعدت وتيرة العنف بسرعة متحولة إلى اقتتال عنيف إثر هجمات شنتها جماعات مسلحة موالية للحكومة على ضواحي ذات غالبية درزية بالقرب من دمشق، وقد كان السبب وراءها تسيجل صوتي نسب فيه صوت المتحدث إلى شخصية قيادية درزية وهي تشتم النبي محمد، ثم وصلت الاشتباكات إلى محافظة السويداء الجنوبية ذات الغالبية الدرزية، ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص خلال ثلاثة أيام. وفي الوقت الذي تراجع الاضطراب في نهاية المطاف، فإن ما آلت إليه الأحداث سلطت الضوء على سرعة تحول أي توتر محلي إلى عنف يمتد على نطاق واسع.
هذا ويخلق الوضع الأمني تحديات كبيرة بالنسبة للنساء على وجه الخصوص، لأنه يقيد تحركاتهن في أغلب الأحيان، كما أنهن ضحية لأحداث الاعتقال العشوائي المتصاعدة ناهيك عن المضايقات التي يتعرضن لها. إذ في غياب أي رد فعال من طرف الحكومة، صار الأهل يلجأون في أغلب الأحيان لوسائل التواصل الاجتماعي من أجل المناشدة بهدف إعادة بناتهن المفقودات، بيد أن هذه المناشدات التي توجه لعامة الناس قد تعرض النساء وأهاليهن لمزيد من المضايقات، كما أن بعض المسؤولين المحليين تصرفوا باستقلالية هم أيضاً عندما تقدموا بإجراءات تقيد النساء في بعض المجالات العامة وبيئات العمل، أو تلك التي تعنى بفصل الرجال عن النساء في الحافلات والمشافي والمحاكم. بيد أن السلطات كانت تتراجع في معظم الأحيان عن تلك الإجراءات بعد أن يحتج الشارع عليها بشكل كبير.
شمال شرقي سوريا
عندما عقدت دمشق اتفاقاً مع قسد في العاشر من آذار الماضي، تأمل كثيرون بأن تكون هذه خطوة مهمة نحو ترسيخ الاستقرار في سوريا، وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية لم تفصّل كثيراً في بنودها، فإنها ألزمت كلا الطرفين بدمج قوات قسد المسلحة ومؤسساتها المدنية ضمن الدولة المركزية قبل نهاية عام 2025. ويعتبر ذلك بالنسبة لدمشق فرصة لاستعادة سلطة الدولة في شمال شرقي سوريا، حيث يتركز معظم النفط السوري، إلى جانب استعادة الدولة لمصداقيتها بعد أحداث العنف التي وقعت في مطلع آذار. ولكن بالنسبة لقسد، فإن هذه الاتفاقية حدت من التهديد التركي الذي يعتبرها امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي صنفته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كتنظيم إرهابي والذي بقيت أنقرة تحاربه على مدار عقود، لكنه أعلن منذ فترة قريبة عن حل نفسه. وهذه الاتفاقية تفتح السبيل أمام قسد نحو المشاركة السياسية في النظام بعد الحرب، ولكن ماتزال هنالك تساؤلات مهمة بقيت بلا إجابات، وعلى رأسها مدى لامركزية الدولة السورية مستقبلاً، والآليات التي ستم بموجبها عملية الدمج.
شكل كلا الطرفين لجنة خاصة به حتى تبدأ بالمهمة الشاقة المتمثلة بوضع التفاصيل الخاصة بما يمكن أن يتحول إلى سلسلة معقدة من المفاوضات قد تمتد لأشهر. وقد نجح الاتفاق المبدئي حتى الآن في خفض تصعيد الاقتتال بين قسد وفصائل الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً والذي قتل مئات الناس، أغلبهم مقاتلين، وذلك خلال الفترة ما بين شهري كانون الأول وشباط. وفي نيسان الماضي، ركزت المحادثات المستمرة بين دمشق وقسد على بؤر التور في الشمال السوري، ثم اتفق الطرفان في حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، على خطوات مرحلية باتجاه إزالة المظاهر العسكرية من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية التي تخضع لسيطرة قسد، إلى جانب دمجهما من جديد ضمن باقي أجزاء حلب. ومن المتوقع للمحادثات حول سد تشرين المتنازع عليه والمقام على نهر الفرات أن تتمخض عن اتفاقية واضحة، بيد أن تلك المحادثات خففت حتى الآن من خطر وقوع قتال من أجل تلك المنشأة التي تعتبر ضرورية من أجل توليد الطاقة والمياه في البلد. كما بدأ الطرفان في مناقشة أمور قطاع التعليم، على الرغم من أن أهم عقبة ذلك هي تضييق الفجوات المعنية بدمج الهياكل الحكومية والأمنية والعسكرية.
وفي تلك الأثناء، بقيت قسد تحرس المقرات التي تؤوي مقاتلي تنظيم الدولة المحتجزين هم وعائلاتهم، بينهم نحو أربعين ألفاً في مخيم الهول، كما بينهم آلاف الأجانب من حملة الجنسيات الأوروبية، ناهيك عن الأطفال الذين يحمل أهاليهم جنسيات أوروبية. وفي الوقت الذي تبنت واشنطن نهجاً استباقياً بالنسبة لإجلاء مواطنيها، تأخرت معظم الدول الأوروبية عن القيام بتلك الخطوة، ما جعل السلطات المحلية تتحمل عبء تأمين مقرات الاحتجاز، وفي حال تدهور الظروف في تلك المخيمات بعد تخفيض المساعدات الذي أقر مؤخراً، أو في حال سحب القوات الأميركية، فمن المرجح أن تحدث إثر ذلك اضطرابات قد تشمل حالات شغب جماعية إلى جانب محاولات للهروب من تلك المقرات.
وفي المنطقة الشرقية بالبادية، ماتزال خلايا تنظيم الدولة تختبئ ضمن مساحات شاسعة لا تخضع لسيطرة الدولة، كما أنها تعتمد على قدرتها في المناورة لتعزيز إمكانياتها في مجال التحضير لشن هجمات مستقبلاً، ويخبرنا أهالي تلك المنطقة بأن تنظيم الدولة يحاول وبصورة فعلية أن يجند أتباعاً جدداً له، في حين ذكرت مصادر من قوات الأمن القديمة والحالية بأن تنظيم الدولة يستقطب شخصيات قيادية صاحبة خبرة جرى تحريرها من سجون نظام الأسد، ولكن خلال الوقت الراهن، ما يزال التحالف لمحاربة تنظيم الدولة الذي تقوده الولايات المتحدة يسهم في إبعاد الجهاديين عن المشهد.
التدخلات الإسرائيلية
ظهرت إسرائيل كأشد قوة خارجية عملت على زعزعة استقرار سوريا بعد سقوط الأسد، وذلك لأنها استراتيجيتها تقوم على استباق أي احتمال لظهور خطر أمني قد يهدد حدودها الشمالية الشرقية مستقبلاً. كما أبدت إسرائيل قلقها تجاه تنامي قوة ونفوذ تركيا داخل الحكومة السورية الجديدة، بما أن إسرائيل تعتبر تركيا منافسة لها في المنطقة. ولذلك حافظت إسرائيل على موقفها على الرغم من تطمينات الشرع وغيره لها وتعهدهم بعدم وجود أي نية لديهم باستعدائها.
وعلى الصعيد العسكري نشطت إسرائيل إلى حد بعيد، إذ فور سقوط نظام الأسد، تحرك الجيش الإسرائيلي إلى المنطقة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان والتي أقيمت في عام 1974، وأعلن عن قيام منطقة عازلة تمتد قبالة الجنوب السوري، وحظر على القوات السورية الدخول إلى تلك المنطقة، ثم أعلن مسؤولون إسرائيليون كبار عن نية إسرائيل بإبقاء قواتها متمركزة في تلك المنطقة لأجل غير مسمى. وفي تلك الأثناء، أخذت الطائرات الحربية الإسرائيلية تدك مواقع في سوريا، فدمرت سلاح الجو فيها، كما دمرت سلاح البحرية والأسلحة الثقيلة. ومنذ فترة قريبة، شن سلاح الجو الإسرائيلي غارة بالقرب من القصر الرئاسي في سوريا موجهاً بذلك رسالة واضحة للحكومة السورية مفادها أن إسرائيل لن تسمح للقوات السورية بالانتشار جنوبي العاصمة. وبالتوازي مع ذلك، حرصت إسرائيل على تأييد الطائفة الدرزية لها في جنوب غربي سوريا، بعد أن وعدت أبناء تلك الطائفة بتقديم الحماية لهم. وعبر قيامها بذلك، أخذت تتودد لحلفائها في الداخل، وتدق إسفيناً بين هذه الطائفة وبين السلطات الموجودة في دمشق.
ولهذا، وفي الوقت الذي أخذت الحكومة الجديدة في دمشق بتلمس موضع قدميها، كانت ممارسات إسرائيل وعملياتها قد أضعفت حكام سوريا الجدد وهددت بإعادة سوريا إلى أحد السيناريوهات التي أعلنت الحكومة عن رغبتها في تجنبه، والذي يتمثل إما بتأجيج حالة الإضطراب بشكل يساعد المقاتلين الجهاديين على استغلال الوضع أو دفع الحكومة الجديدة في دمشق إلى التقرب من أنقرة.
عبء العقوبات
في وقت يلوح معه تخفيف العقوبات في الأفق، مايزال الاقتصاد السوري يعاني من حالة اختناق بسبب سلسلة كبيرة من العقوبات التي فرضتها عليه الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتعتبر العقوبات الأميركية هي الأشد، على الرغم من أن جميع العقوبات ألحقت أضراراً بالاقتصاد السوري، وتلك العقوبات كانت ستلحق مصيبة بالبلد الذي يعيش 90% من سكانه في فقر من دون وجود أي شريان يمدهم بالحياة. فقد كان النظام البائد يعتمد على إيران وروسيا لدعم ميزانيته، كما كان يستعين بالعائدات التي توفرها إمبراطورية المخدرات غير المشروعة التي أقامها والتي كانت تدر على آل الأسد مليارات الدولارات، غير أن السلطات الجديدة في دمشق ليس لديها أي مصدر للكسب بسهولة، ناهيك عن الضغط المتصاعد الذي تتعرض له من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، والتي تبدأ بدفع رواتب العاملين في القطاع العام وتنتهي بتأمين ما يكفي من الوقود والكهرباء. وفي حال تعثر تلك السلطات في تأدية تلك المهام، فإنها ستخسر شرعيتها، وهذا ما سيستغله المفسدون سواء في الداخل أم في الخارج.
جرى تحقيق تقدم بالنسبة لتخفيف هذا العبء عن سوريا، إذ في العشرين من أيار، وبعد مرور ستة أيام على إعلان ترامب تخفيف العقوبات عن سوريا، لحق به الاتحاد الأوروبي عبر قرار يقضي برفع ما تبقى من العقوبات الاقتصادية عن هذا البلد، مع إبقاء العقوبات المفروضة على نظام الأسد أو على الأسلحة والتقانة التي يمكن أن تستخدم لقمع الشعب في الداخل. وأكدت بروكسل على قدرتها على التراجع عن تلك الخطوات، مع مراقبتها للوضع السوري عن قرب، ويشمل ذلك مراقبة مدى التطور الحاصل في ملف المحاسبة وذلك فيما يخص أحداث العنف الأخيرة. ولكن يجب التركيز اليوم على تطبيق هذه القرار، بالإضافة إلى ضمان اتخاذ الدول التي ترفع العقوبات لخطوات مناسبة مكملة لتلك العملية وذلك من أجل التشجيع على الاستثمار في الاقتصاد السوري بما أنه بات بحاجة ماسة لذلك.
ما الذي بوسع الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فعله ؟
بوسع الاتحاد الأوروبي بل ينبغي على الدول الأعضاء فيه أن تتحول إلى شريكة لسوريا خلال مرحلة التعافي والانتعاش، إذ على الرغم من أن دمشق لم تحقق من التقدم سوى النزر القليل مما كان مأمولاً منها وذلك بالنسبة لتعزيز عملية الانتقال السياسية الجامعة لكل السوريين، ومن المؤكد أن تلك مهمة صعبة بالنسبة لبلد خرج لتوه من حرب مدمرة امتدت لأكثر من عقد، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل إلحاحه وأن يستمر في دفع هذا البلد نحو هذا الاتجاه، فلقد أبدى قادة سوريا الجدد استجابتهم لهذا الضغط في السابق، سواء خلال فترة حكمهم لإدلب خلال الحرب، أو منذ أن تولوا زمام أمور البلد في دمشق. ومن ضمن تلك الجهود، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل دعم منظمات المجتمع المدني السورية وإسماع أصوات المعارضة بصورة أكبر بعد أن تحدثت عن توجهات السلطات في مجال الإقصاء، وطالبتها بتحسين أدائها. كما ينبغي على الاتحاد الأوروبي التشديد على أهمية مشاركة المرأة في القيادة، ولذلك يجب عليه تشجيع الحكومة المؤقتة على مواصلة تعاونها مع الأمم المتحدة، وخاصة فيما يتصل بصياغة دستور جديد.
ثانياً، يجب على الاتحاد الأوروبي الاستثمار في تعزيز قطاع الأمن وصفوف قواته، ويمكن له تشجيع دمشق على إعادة جهاز الأمن الذي اعتمد أيام النظام البائد بعد إجراء فحص أمني لكوادره كافة، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يحقق تقدماً في مجال المخططات الساعية لتوسيع نطاق برامج المساعدات الإنمائية، وخاصة فيما يتصل بدعم التعافي الاقتصادي بسوريا، وذلك عبر دعم مجال خلق فرص عمل مثلاً، أو في مجال الرعاية الصحية أو التعليم، ويجب على الاتحاد الأوروبي أن يبحث في فرصة دعم قدرة الدولة على دفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وذلك بهدف الاحتفاظ بالكوادر الحالية إلى جانب توظيف كوادر جديدة، وذلك عبر التنسيق بشكل وثيق مع العناصر الفاعلة الدولية الأخرى. وينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يخلق حالة توازن دقيقة بين ميله لفرض شروط على الدعم تقوم على تحقيق تقدم في الأمور السياسية والأمنية وبين الحقيقة القائلة بإن إمكانيات الدولة بحد ذاتها تعتبر شرطاً ضرورياً لتحقيق تلك الأهداف. وبالتوازي مع كل هذا، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل البحث في نوع المساعدة التقنية التي بوسعه تقديمها من أجل إعادة بناء إمكانيات الدولة، مثل تلك التي تقدم في مجال الأمن أو المصارف. ويجب على الاتحاد الأوروبي التأكيد على أهمية التزام الدولة بما تعهدت به وذلك في مجال فتح تحقيق بأحداث آذار وضمان محاسبة مرتكبي تلك الجرائم.
ثالثاً، وفي شمال شرقي سوريا، يجب على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه مواصلة دعم اندماج قسد ضمن الدولة وتشجيع الطرفين على اتخاذ الخطوات الكفيلة بخفض تصعيد النزاع بين قسد والجيش الوطني السوري، ويشمل ذلك الضغط على أنقرة حتى توجه رسالة للجماعات التي تدعمها في المنطقة بخصوص ذلك. وفي تلك الأثناء، يعتبر الخطر المستمر المتمثل بعودة تنظيم الدولة من الأمور الأساسية التي تدفع قوات التحالف للبقاء في هذا البلد إلى أن ينجز الاتفاق بشكل كامل بين الطرفين، وذلك لمنع تلك الجماعة من التحول إلى عنصر يعمل على زعزعة الاستقرار في سوريا. ولتخفيف العبء عن قسد، وخاصة فيما يتصل بإدارة مقرات الاحتجاز، يتعين على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه تسريع عملية إجلاء مواطنيهم الذين بايعوا تنظيم الدولة، إلى جانب تسريع عملية تحديد جنسية الأطفال الذين لا يحملون أية وثائق.
رابعاً، فيما يتصل بممارسات إسرائيل المثيرة للقلق، يجب على الدبلوماسيين الأوروبيين التواصل مع إسرائيل وذلك عبر توجيه رسالة لها بالتنسيق بينهم، مفادها بأن ما تمارسه من أعمال يقوض استقرار سوريا، وبالتالي فإنه يضر بمصلحتها العليا. ويجب على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه الاستعانة بقنواتهم لتجنب حدوث تصعيد كبير بين إسرائيل وتركيا على الأراضي السورية.
خامساً، يجب على بروكسل أن تطبق وبسرعة القرار الذي أصدرته في العشرين من أيار الجاري والقاضي برفع كامل العقوبات الاقتصادية عن سوريا، ويجب على بروكسل أيضاً تقديم الدعم المخصص لإعادة الإعمار وتشجيع المستثمرين الأوروبيين في القطاع الخاص على العودة إلى سوريا، إلى جانب مساعدتهم في التغلب على العقبات الموجودة في قطاعات مثل المال والطاقة، وتوفير الحوافز لهم قدر الإمكان، ثم إن الدعم الموجه للاستثمارات المبكرة في قطاع الطاقة قد يعتبر نقطة بداية عملية في هذا المضمار، لأن الشركات الأوروبية التي سبق لها العمل على البنية التحتية للطاقة في سوريا مستعدة لإحياء شبكة الكهرباء في ذلك البلد. هذا وينبغي للاتحاد الأوروبي التعاون مع الدول الأعضاء والمؤسسات المالية للحد من حالة الإفراط في عملية الانصياع، والتي من الممكن أن تستمر حتى بعد رفع العقوبات، ويشمل ذلك تقديم توجيهات تنظيمية تخص تلك المسائل.
في النهاية، فإن مسألة إعادة إعمار سوريا بعد عقود من الحكم الديكتاتوري والصراع المريع أصبحت بيد السلطات الجديدة في دمشق، وكذلك بيد المجتمع المدني في سوريا والشعب السوري، ولكن بوسع الاتحاد الأوروبي بل عليه وعلى غيره من القوى الخارجية الأخرى أن يمدوا يد العون لهم بما أنه بأمس الحاجة لذلك، بل إنهم يستحقون ذلك فعلاً، وذلك لأن عدم مد يد العون للسلطات في دمشق وللشعب السوري وللمجتمع المدني في سوريا يعتبر إجهاضاً لهذه التجربة الواعدة في مجال إعادة بناء مجتمع دمرته الحرب.
المصدر: The International Crisis Group
تلفزيون سوريا
—————————————–
سوريا: رفع العقوبات من الدّاخل قبل الخارج/ أمين قمورية
2025-05-30
تواصل واشنطن منح سوريا الجديدة الفرصة تلو الأخرى. شرعت أخيراً في اتّخاذ الخطوات لرفعها كليّاً عن قائمة “الدول الراعية للإرهاب”، استكمالاً لقرار الرئيس دونالد ترامب رفع العقوبات عنها.
كانت سوريا من أوائل البلدان التي صُنّفت على أوّل قائمة أميركية للدول الراعية للإرهاب عام 1979، أي منذ 46 سنة. سبقت بذلك كلّاً من إيران المصنّفة منذ 1984، وكوريا الشمالية المصنّفة في 2017، وكوبا التي ضمّها ترامب للتصنيف في ولايته الأولى عام 2021، ثمّ حذفها الرئيس جو بايدن في كانون الثاني الماضي، غير أنّ ترامب ألغى قرار جو بايدن، وأعادها للتصنيف مرّة أخرى.
يمكن لوزارة الخارجية الأميركية أن تقدّم إشعاراً للكونغرس الأميركي لإبلاغه برفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والأسباب التي دعت إلى ذلك، وإذا لم يعارض الكونغرس رسميّاً في مهلة مدّتها 45 يوماً، يجري شطبها من القائمة. واذا ما حصل ذلك تكون دمشق قطعت فعلاً شوطاً كبيراً في التخلّص من العوائق والقيود التي فُرضت عليها في عهد النظام المخلوع وأرهقت الشعب السوري طوال سنوات، ووُضعت على سكّة التعافي الاقتصادي، وبدأت مسار التحوّل نحو مستقبل أفضل.
ترافقت خطوات رفع العقوبات الأميركية مع خطوات أوروبية مماثلة، لا تقلّ إيجابية، ومن شأنها المساهمة في رفع معاناة السوريين والانطلاق في ورشة إعادة إعمار ما دمّرته الحرب والسياسات الخاطئة طوال عقود من الزمن. وعلى ما يبدو فإنّ هذه الإيجابيّات لم تقتصر على الشأنين الاقتصادي والاستثماري بل تعدّتهما إلى الشأنين الأمنيّ والسياسيّ. إذ لاحظت صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ تقارب ترامب مع القيادة السورية الجديدة تسبّب في إرباك الاستراتيجية العسكرية لإسرائيل، وأدّى إلى توقّف شبه كامل للغارات الجوّية الإسرائيلية على الأراضي السوريّة.
الاستقرار الدّاخليّ والبيئة المناسبة للاستثمار
يشكّل رفع العقوبات الغربية عن سوريا عاملاً حاسماً في إخراجها من عنق الزجاجة. لكنّ ذلك وحده ليس كافياً لإحداث التحوّل الكبير في بلد نكبته الحروب والصراعات الدامية والديكتاتورية. التأثيرات الخارجية عوامل مهمّة تساعد في التغيير وتكون رافعة له، لكنّها لا تحدِثه ولا تضمنه.
يبقى العنصر الأهمّ العوامل الداخلية والتسيير والإدارة الذاتيَّين. لن تقدِم الدول العربية والأجنبية والشركات الكبرى ورجال الأعمال الكبار على الاستثمار والتوظيف في سوريا، ما لم توفّر السلطة السوريّة الجديدة بيئةً مناسبةً للاستثمار تبدأ باستقرار سياسي وضمانات ماليّة للمستثمرين، وتمرّ بتحرير سعر صرف العملة الوطنية وسنّ قوانين مشجّعة للاستثمار والضرائب واستقلالية القضاء، وصولاً إلى ضمانات لتحويل الأموال ونظام مصرفي حديث وشفّاف يحظى بالثقة.
لا ينفصل الاقتصاد عن السياسة. الاثنان يحتاجان إلى استقرار داخليّ واندماج وطنيّ بين مكوّنات المجتمع السوري. وينبثق تحقيق الاستقرار من اعتماد سياسات داخلية تنال الرضى المجتمعيّ على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وتكون أساساً لعقد اجتماعي وطني متّفق عليه وترضى به غالبيّة الشرائح والمكوّنات. ذلك أنّ السياسات القائمة على الغلبة أو الإرادة الناقصة لا تحقّق استقراراً مستداماً ومن شأنها زرع ألغام في المجتمع والدولة السوريَّين تنعكس سلباً على الوحدة الوطنية وتشرّع الأبواب والنوافذ السوريّة أمام رياح التدخّلات الخارجية الطامعة بالنفوذ والمكاسب والموارد والموقع الجيوسياسيّ.
“التّحقيق المستمرّ” بدل “الثّقة المسبقة”
لن تُرفع العقوبات فوراً. تلك المفروضة بموجب “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” لعام 2019، وهي الأشدّ ضرراً على السوريّين، لا يمكن رفعها من دون تشريع صادر عن الكونغرس. لكن يمكن لإدارة ترامب تعليق تنفيذها مؤقّتاً كما فعلت، وأمّا إلغاؤها نهائيّاً فسيستغرق وقتاً طويلاً. لن تفرّط واشنطن بنفوذها في بلاد الشام. اختارت نهج “التحقيق المستمرّ” بدلاً من “الثقة المسبقة”. من أجل ذلك تحتفظ بورقتين: إمكان تفعيل العقوبات مجدّداً والإبقاء على وجود عسكري أميركي محدود على الأرض.
هكذا يستدعي الرفع الكامل للعقوبات من السلطة السورية الجديدة تنفيذ سلسلة من المطالب الحسّاسة أو تقديم إجابات مقنعة كي تضمن عدم العودة إلى فرضها مجدّداً. هذا يستدعي منها تبنّي سياسة شفّافة لتوفير الاستقرار السياسي والإجماع الوطني على الخيارات السياسية والاقتصادية. فإمّا تتّخذ مواقف تتعارض مع وجهة نظر واشنطن والغرب، فتعود العقوبات على نحو أشدّ، وإمّا تذهب إلى خيارات تناقض الإجماع الوطني فيقع المحظور الداخلي والانقسام الأهليّ.
يتعلّق هذا الأمر خصوصاً بمطلب التطبيع مع إسرائيل الذي تصرّ عليه الإدارة الأميركية. يصعب السير في هذا المطلب من دون ربطه باستعادة الجولان والأراضي السورية المحتلّة، وقد يرتّب تجاهل الربط بين الاثنين على الإدارة السورية أعباء سياسية جمّة.
سوريا الجديدة التي ورثت تركة ثقيلة: دولةً منهارة، وخراباً عظيماً، ومجتمعاً جريحاً، ومؤسّساتٍ مترهّلة، وسكّاناً تسعون في المئة منهم يعيشون تحت خطّ الفقر، هي في أشدّ الحاجة إلى رفع العقوبات رأفةً بناسها وتوفيراً للقمة عيشهم وللحدّ الأدنى من مقوّمات حياتهم، والعودة إلى دولة طبيعية. لكنّ الخشية أن تتحوّل هذه الحاجة الماسّة إلى حجّة وذريعة لضبط الناس والمجتمع عبر توفير الأمن والغذاء وإغلاق باب الحرّيات العامّة والخاصّة وكبح الأصوات المعارضة، والتغاضي عن الإصلاح السياسي، واستئثار فئة دون غيرها بالحكم والسياسة والتحكّم بمصير البلاد والعباد.
أساس ميديا
————————
تقرير: تخفيف عقوبات واشنطن على سوريا خطوة جريئة لا تخلو من المخاطر
30 مايو 2025
سلط “مجلس الأطلسي” الضوء في تقرير له على قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب تخفيف العقوبات عن سوريا، الأمر الذي يشكل تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق، مما يفتح الباب أمام جهود الإغاثة وإعادة الإعمار ومشاركة القطاع الخاص. لكنه حذّر في المقابل من أن استمرار التصنيفات القانونية والعقوبات المؤقتة يبقي المخاطر السياسية والاقتصادية قائمة.
يرى “مجلس الأطلسي” في التقرير أن قرار إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بتخفيف العقوبات عن سوريا عبر الإجراءات التي اتخذتها وزارتا الخارجية والخزانة في 23 أيار/مايو الجاري، يُمثل “خطوة جريئة”، مشيرًا إلى أن تخفيف هذه العقوبات غير المسبوقة سيسهم في دعم جهود الإغاثة، وصولًا إلى رفعها بشكل كامل.
وأضاف التقرير أن تخفيف العقوبات الأميركية فتح الباب أمام إعادة الإعمار ومشاركة القطاع الخاص، لافتًا إلى إلى جهود مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية، المتمثلة بإصدار الترخيص العام رقم 25، برفقة الأجوبة التي تجيب على الأسئلة بهذا الشأن، مذكرًا بإصدار وزارة الخارجية الأميركية إعفاءً بخصوص “قانون قيصر”.
كما لفت التقرير إلى إصدار شبكة إنفاذ القانون بالنسبة للجرائم المالية الإعفاء الاستثنائي المرتبط بالمادة 311 من قانون “باتريوت” الأميركي، لما يمثله من أهمية للمصرف التجاري السوري، إلى جانب الإعفاءات الأخرى، الأمر الذي سيؤدي إلى إزالة العقبات أمام إعادة ربط المصرف المركزي السوري وبعض المؤسسات المالية التجارية بسوريا بالنظام المالي العالمي.
ومع ذلك، أشار “مجلس الأطلسي” إلى أن على الرغم أن هذه الإجراءات تمثل مؤشرًا مهمًا، إلا أنها لا تعني عودة إلى العلاقات مع سوريا لما كانت عليه بعد مرور 46 عامًا على فرض العقوبات الاقتصادية المشددة على نظام آل الأسد، مرجعًا ذلك إلى أن سوريا لا تزال تمثل خطرًا بعد سنوات من النزاع.
وأعاد التقرير التذكير بأن سوريا لا يزال عليها التعامل مع الفساد المستشري، وانهيار مؤسسات الدولة، وتجارة المخدرات والكبتاغون، بالإضافة إلى ضعفها في ملف مكافحة عمليات غسل الأموال، والقيود المفروضة على تمويل الإرهاب.
وبحسب “مجلس الأطلسي”، أكدت مجموعة العمل المالي الدولية في شباط/فبراير الماضي استمرار إدراج سوريا على “القائمة الرمادية” للدول الخاضعة للمراقبة المشددة، مضيفًا أن إجراءات تخفيف المعلنة من قبل وزارتي الخارجية والخزانة الأمريكية تُعدّ مؤقتة بطبيعتها، مثل إعفاء قانون قيصر لمدة 180 يومًا، أو حتى يمكن إلغاؤها في أي وقت، مثل الرخصة العامة 25 والإعفاء الاستثنائي من المادة 311 من قانون باتريوت الأميركي.
كما ذكر التقرير أن سوريا لا تزال تواجه قيودًا قانونية واقتصادية، والتي لخصها بأنها:
تصنيف سوريا دولة راعية للإرهاب، وهذا ما يحد نوعًا ما من حصانة السيادة السورية أمام المحاكم الأميركية.
تصنيف الجماعات العاملة في سوريا ضمن التنظيمات الإرهابية الأجنبية وما يصاحب ذلك من مسؤولية جنائية تترتب على الدعم المادي لهذه التنظيمات، وهي مساءلة تنفذها وزارة العدل الأميركية، وبالمثل ضحايا الإرهاب المدنيين في الولايات المتحدة.
عقوبات الأمم المتحدة المفروضة على شخصيات مهمة في الحكومة السورية المؤقتة.
القيود التي فرضتها وزارة المالية الأميركية على عمليات.
وبناء على ذلك، خلص “مجلس الأطلسي” في تقريره إلى مجموعة من التوصيات، وفقًا للتالي:
توضيح السياسة المرتبطة بالقيود الاقتصادية والقانونية الخاصة بتصنيف سوريا كـ”دولة راعية للإرهاب”، وتصنيف “التنظيمات الإرهابية الأجنبية”. كما يمكن للإدارة إصدار مذكرة من وزارة العدل توضح سياستها في محاكمة الأفراد أو الكيانات المتهمين بتقديم دعم مادي للمنظمات الإرهابية في سوريا. ورغم أن هذه الخطوة ستكون غير تقليدية، فإنها ستوفر تفسيرًا قانونيًا، خاصة للمنظمات الإنسانية العاملة داخل سوريا.
العمل مع الكونغرس على مراجعة العقوبات القانونية المفروضة على سوريا، وذلك بما يتماشى مع سقوط نظام الأسد والتطورات السياسية الحالية.
التعاون مع الحلفاء والشركاء على تقييم عقوبات الأمم المتحدة بالنسبة للمخاطر الحالية.
تقديم التوجيه والإرشاد والذي يشمل الرد على الأسئلة المتكررة، فيما يخص الإعفاء من قانون قيصر والإعفاء الاستثنائي من المادة 311 لقانون “باتريوت”، بالإضافة إلى التوجيهات السياسية التي تقدمها الوكالات الأميركية بالنسبة لخارطة الطريق المعنية بتخفيف المزيد من العقوبات.
وضع سياسة اقتصادية إيجابية بالتعاون مع الشركاء الدوليين، مثل المساعدة الفنية على إعادة تأهيل القطاع المالي، إلى جانب إصدار التراخيص والإعفاءات ورفع القيود الاقتصادية.
واختتم “مجلس الأطلسي” تقريره مشيدًا بالتحرك السريع للإدارة الأميركية لتحديث نظام العقوبات وغيرها من الإجراءات التي تعبر عن الواقع القائم على الأرض، مضيفًا أنه لا يزال هناك الكثير من العمل المسؤول بتقييم الإجراءات الاقتصادية التقييدية، وبين أهداف السياسة الخارجية الأميركية، ودعم السبل الاقتصادية الإيجابية، بما يتيح للشعب السوري الاستفادة من هذا التغير الجذري في سياسة واشنطن تجاه دمشق.
الترا سوريا
——————————————
بعد رفع العقوبات… هل تتحوّل سوريا إلى وادي السيليكون؟/ نزيهة سعيد
الاثنين 26 مايو 2025
فَتح سقوط نظام بشار الأسد، آفاقاً واسعةً أمام السوريين والسوريات في المهجر، تحديداً أولئك الذين لطالما راودتهم الرغبة في توظيف خبراتهم للمساهمة في مشاريع بناء مستقبل البلاد. وقد تُرجمت هذه الرغبة إلى سلسلة من المؤتمرات المتخصصة، عكست تنوّع الخلفيات الأكاديمية والاقتصادية للمشاركين/ ات.
إلا أنّ هذه الجهود تزامنت مع تصعيد طائفي حادّ داخل سوريا، ما أثار تساؤلات جدّيةً حول مستقبل البلاد، ومدى واقعية المبادرات القادمة من الخارج: هل هي خطوات عملية نحو إعادة الإعمار أو مجرد أحلام بعيدة المنال؟
وسط هذا الجدل، جاء إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن نيته رفع العقوبات عن سوريا، ليتبعه الاتحاد الأوروبي بعد أسبوع، وتتحرر البلاد من القيود الاقتصادية، ولا سيّما المتعلقة بحرية تنقّل المال والدخول في النظام المالي العالمي، وحرية التحرك داخل الشبكة العنكبوتية، وغيرها من العقبات التي كانت تقف في وجه الشركات الناشئة والمشاريع الريادية، تحديداً في القطاعات الجديدة، ولتقف هذه المبادرات أمام التحدّي الحقيقي لإمكانية تحققها وقدرتها على التحول من مجرد أفكار إلى مشاريع قابلة للتنفيذ.
ولعلّ من أبرز هذه المبادرات مبادرة “سينك” التكنولوجية، التي أطلقتها مجموعة من المختصّين/ ات في هذا المجال، ممن يُعرَفون بـ”جماعة شغيلة”، ويتوزعون بين وادي السيليكون في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، ودمشق، وبرلين.
تكنولوجيا الإعمار
“سينك” مبادرة عالمية ترمي إلى الربط بين روّاد/ رائدات الأعمال السوريين/ ات، وقادة: قائدات التكنولوجيا، وصنّاع/ صانعات التغيير، من أجل تعزيز التعاون والابتكار في مجالات التكنولوجيا وريادة الأعمال. وتعمل المبادرة على جمع الأفراد ذوي/ ات الاهتمامات المشتركة، الشغوفين/ ات بالتغيير المُحفّز، لتشكيل نواة عملية للتعاون العالمي حول مشاريع تستهدف سوريا بشكل مباشر، من خلال إنشاء بؤر متخصصة في مختلف دول العالم.
بعد رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية، بدأ المهاجرون والمهاجرات من أصول سورية يفكّرون في استثمار مهاراتهم المتنوعة في وطنهم الأم
انبثقت فكرة “سينك”، من لقاء جمع عدداً من المختصّين/ ات في مجال التكنولوجيا في وادي السيليكون، حيث ناقشوا/ ن إمكانية الإسهام في إعادة بناء سوريا بعد سقوط النظام، فخططوا/ ن لعقد مؤتمرهم/ نّ الأوّل في دمشق في شباط/ فبراير الماضي. هدف اللقاء كان جمع البيانات والملاحظات والأفكار، بالإضافة إلى تقييم واقع البنية التحتية التكنولوجية في البلاد.
وبعد المؤتمر، جرى تحليل البيانات المستخلصة، وإعداد تقارير متخصصة، تمّت مشاركتها لاحقاً في مؤتمر ثانٍ عُقد في وادي السيليكون، بحثاً عن سبل ممكنة لتوليد قنوات دعم عملية، وفق ما يوضح علاء مصطفى، أحد منظّمي المبادرة في برلين.
يقول: “في طفولتي، عملت في وظيفتَين بجانب دراستي، وأنا أعلم جيداً أنّ السوريين/ ات بالمجمل ‘جماعة شغيلة’؛ فالمعاناة والمآسي جعلتنا أكثر وعياً بقيمة العمل، ومن هنا ينبع تفاؤلي بهذه المبادرة”.
أما عن سرعة انطلاق المبادرة، فيوضح فراس خليفة، أحد منظّمي مؤتمرَي دمشق من 7 إلى 8 شباط/ فبراير، ووادي السيليكون من 21 إلى 22 شباط/ فبراير، واجتماع برلين 25 آذار/ مارس، أنّ ذلك جاء استجابةً مباشرةً لحاجة البلاد إلى إعادة البناء، مشيراً إلى أنّ القائمين/ ات على المبادرة يأملون في تنظيم مؤتمر جديد قريباً في إحدى دول الاتحاد الأوروبي، استكمالاً لمسار العمل القائم.
تشبيك المهارات
حول لقاء برلين، يقول فراس خليفة، مؤسس شركة “كاربون موبايل” وعضو فرق “سينك” في وادي السيليكون ودمشق وبرلين: “نسعى إلى التواصل مع البيئة التكنولوجية المزدهرة في برلين، والاستفادة من الحراك المتنامي للشركات الناشئة السورية فيها، بهدف التعاون لإيجاد حلول عملية تُسهم في خلق فرص عمل للسوريين/ ات داخل سوريا، من خلال تطوير المهارات، وتقديم التوجيه، واستكشاف طرق دعم المواهب السورية عبر التدريب والتوظيف. كما تطمح ‘سينك’ إلى أن تكون مجتمعاً متنامياً يحتضن لقاءات دوريةً لتعزيز التواصل وتبادل المعرفة وتوسيع نطاق التأثير”.
وفي حديثه إلى رصيف22، يضيف خليفة: “هناك تجمعات في سوريا تُعنى بحقوق الإنسان، والمساعدات الإنسانية، والرعاية الصحية، لكن لا يوجد كيان يركّز على التكنولوجيا. من هنا نشأت الحاجة إلى تأسيس هذا التجمّع، الذي لا يقتصر هدفه على التشبيك والتعارف، بل يتجاوز ذلك إلى بناء البلد من خلال التكنولوجيا، وتطوير الاقتصاد، وتبنّي مشاريع جديدة، وتنمية مهارات الشبّان/ الشابّات داخل سوريا، وتوفير فرص العمل”.
ويتابع: “هدفنا هو تأمين 25 ألف فرصة عمل خلال خمس سنوات للسوريين والسوريات داخل سوريا، للعمل من بُعد لصالح جهات خارج البلاد وداخلها. هناك سوق عالمي يتنافس فيه عمّال من بُعد من بلدان مثل بولندا، الهند، فيتنام، وأوكرانيا، ونحن نمتلك المؤهلات والطاقات لنجعل من سوريا إحدى هذه الدول. لدينا شبّان وشابات يمتلكون/ ن الإمكانيات، ويحتاجون/ ن إلى تأهيل وتطوير مهاراتهم/ نّ فحسب، إلى جانب خلق فرص عمل. أما الخطوة التالية، فهي بناء نظام بيئي متكامل يشمل شركات ناشئةً، روّاد/ رائدات أعمال، واستثمارات مخاطرة داخل سوريا، وهو ما يتطلب بيئةً حاضنةً وبنيةً تحتيةً قادرةً على استيعاب التجربة والمخاطرة”.
ويختصر رؤيته بقوله: “هدفنا أن تصبح سوريا قادرةً على منافسة المنطقة العربية بأكملها خلال خمس سنوات، وأن تتحوّل إلى وادي سيليكون مُصغّر”.
ويعبّر خليفة، عن دهشته من حجم الكفاءات السورية العاملة في قطاع التكنولوجيا: “كنا نعلم أنّ هناك أعداداً كبيرةً من السوريين/ ات في هذا المجال، لكن لم يكن هناك أي إطار جامع. السوريون/ ات منتشرون/ ات في أنحاء العالم ويعملون/ ن في مجالات متعددة، لكنهم/ نّ متفوّقون/ ات في قطاع التكنولوجيا بشكل خاص. هذا اللقاء كشف لنا عن إمكانياتنا، التي لم نكن ندركها بسبب غياب التجمعات التخصصية التي توحّدنا”.
وقد شهد مؤتمر “سينك دمشق”، حضور أكثر من 750 مشاركاً/ ةً، فيما بقي عشرات الأشخاص على قوائم الانتظار أو انضموا لاحقاً إلى المبادرة.
في الوقت المناسب
وفي ما يخصّ الوضع الأمني وإمكانية الاستثمار في سوريا، يقول خليفة: “أنا رائد أعمال منذ 15 عاماً. أدرت أربع شركات، ولم تكن الظروف مثاليةً حين أطلقت أيّاً منها. أسّسنا ‘سينك’ ليس لأنّ الظروف مناسبة، بل لأنّ الحاجة ملحّة. نحن، ومعنا كثيرون/ ات، نؤمن بأنه يمكننا العمل لتغيير الظروف، وجعلها أكثر ملاءمةً”.
ويضيف: “لا بدّ من وجود خطة تُخرج الناس من حالة البقاء على قيد الحياة، نحو التفكير في المستقبل، والتطوير، والأمل. الانشغال ببناء البلد يخلق وحدةً مجتمعيةً حقيقيةً، ويحدّ من التمييز والطائفية. ففي لقاءاتنا، يشارك أشخاص من مختلف الطوائف والأعراق في سوريا، يتحدثون بلغات متعددة، ويجتمعون في مكان واحد، توحّدهم التكنولوجيا وتجمعهم على مشاريع مشتركة، بدلاً من النزاعات”.
ويختتم حديثه بالقول: “هناك تواصل مع مسؤولين في الداخل السوري، وهناك رؤية إيجابية، برغم أنّ الوضع الأمني لا يزال غير مستقرّ. شخصياً، أرى أنّ سوريا اليوم تمثّل أرضاً خصبةً للاستثمارات، خصوصاً للشركات الناشئة. هذه المرحلة، برغم ما تحمله من مخاطر، تمثّل أفضل فرصة للاستثمار، كونها تأتي بعد الحرب مباشرةً، حيث الحاجة كبيرة، والطموح أكبر”.
تأنيث التكنولوجيا
من بين المحاور التي توليها مبادرة “سينك” اهتماماً خاصاً، مسألة العدالة الجندرية، من خلال السعي إلى منح النساء أدواراً قياديةً وتمكين المزيد منهنّ في قطاع التكنولوجيا. فقد شهدت الفعاليات الثلاث التي نظّمتها المبادرة حتى الآن حلقات نقاش مخصصةً لدور المرأة في هذا المجال، تخللتها قصص وتجارب ملهمة ومؤثرة لنساء سوريات يعملن في قطاع التكنولوجيا.
هذا ما تؤكّده علياء أسعد، وهي عضو في فريق “سينك برلين” ومديرة المنتجات في إحدى الشركات التكنولوجية في العاصمة الألمانية.
وتضيف في حديثها إلى رصيف22: “في قطاع التكنولوجيا، لا يوجد تمثيل كافٍ للنساء. أعمل في هذا المجال منذ 15 عاماً في ألمانيا، وكنت المرأة الوحيدة في العديد من الفرق الهندسية لسنوات طويلة. كما توجد مشكلة حقيقية في وصول النساء إلى الأدوار القيادية، إذ إنّ مواقع القيادة لا تزال محصورةً في الغالب على الرجال. وحتى خلال دراستي علوم الكمبيوتر، كان عدد الطالبات قليلاً جداً. لذلك، من خلال ‘سينك برلين’ نسعى إلى مشاركة تجاربنا كنساء في هذا القطاع، بهدف تمكين السوريات من خلال تسليط الضوء على التحديات المشتركة، وتقديم نصائح عملية للتعامل معها”.
وتشير أسعد، إلى أنّ هذا التجمع يكشف عن “القوة التي تمتلكها السوريات في مجال التكنولوجيا، والمنظور الفريد الذي يضفنَه إلى هذا القطاع. هناك الكثير ممّا يمكن تعلّمه من تجاربنا هنا في ألمانيا، ونطمح إلى نقل هذه المعرفة لدعم مزيد من النساء للدراسة في هذا المجال، والسعي إلى أدوار قيادية فيه، والمساهمة لاحقاً في بناء سوريا”.
وتعبّر أسعد، عن تفاؤلها قائلةً: “من الجميل أن يعمل الإنسان على مبادرة تنبع من شغفه، وأن يشعر بأنه يساهم في بناء وطنه. ونحن كنساء، سنكون جزءاً أساسياً من عملية بناء سوريا، فالتكنولوجيا ليست مجرد أداة، بل قوة حقيقية وفاعلة في مسار الإعمار والتغيير”.
الأمن أولاً
عن مؤتمر دمشق، يقول باسل أوجيه، الرئيس التنفيذي لشركة “ليغا داتا”، ونائب الرئيس السابق لشركة “ياهو”، خلال مشاركته من بُعد في اجتماع برلين من مقرّ إقامته في وادي السيليكون: “كان المؤتمر خطوةً أولى نحو تحقيق هدفنا في خلق 25 ألف فرصة عمل في مجال التكنولوجيا داخل سوريا. استمعنا إلى احتياجات العاملين/ ات هناك، وناقشنا في وادي السيليكون سبل تحويل هذه الاحتياجات إلى مشاريع واقعية. نأمل أن يتجاوز عدد أعضاء المبادرة 35 ألف عضو تقريباً”.
ويسلّط أوجيه، الضوء على تحدي العقوبات الاقتصادية، مؤكداً أنّ تحركاتهم من الولايات المتحدة لا تزال محدودةً، بينما تتيح ألمانيا فرصةً أكبر لخلق شراكات مستقبلية. ويضيف: “نركّز على الفرص وليس على الصعوبات فحسب، فالرغبة في العمل والتطوير موجودة بوضوح داخل سوريا، ودورنا هو تمكينها عبر التدريب وتطوير المهارات وفتح أبواب العمل”.
أما علاء مصطفى، مهندس شبكات الكلاود في برلين وعضو تنظيمي في “سينك دمشق” و”سينك برلين”، فيؤكد أنّ الإيمان بعمل المجموعة هو ما يمنح المبادرة قوّتها، يقول: “حتى لو لم نحقق الهدف العددي الكامل، تبقى أهمية ‘سينك’ في قدرتها على جمع السوريين/ ات من كل مكان، لبناء بيئة عمل ومجتمع مشترك. نحن قطع أحجية مبعثرة، وهذه المبادرة محاولة لإعادة تشكيل الصورة”.
ويضيف لرصيف22: “نعمل حالياً على توسيع المبادرة لتشمل سوريين/ ات في مدن أوروبية أخرى، بحيث تصبح ‘سينك’ منصّة جامعة لكل من يعمل/ تعمل في مجال التكنولوجيا ويرغب/ ترغب بالمساهمة في بناء سوريا”.
وفي ما يتعلق بالتحديات الأمنية، يعلّق الصحافي المتخصص في الشأن الأمني مهند صبري، لرصيف22، قائلاً: “لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار حقيقية في ظلّ انفلات أمني وغياب سيادة القانون. الإصلاح القضائي، وضمان العدالة، ووجود نظام حكم نزيه، كلها شروط أساسية تسبق أي عملية تنموية”.
ومن المنتظر عقد مؤتمر قريب في أوروبا يجمع العاملين/ ات السوريين/ ات في قطاع التكنولوجيا، استكمالاً للمسار الذي بدأ في دمشق ووادي السيليكون، واستعداداً للمرحلة المقبلة من المبادرة.
رصيف 22
—————————————
الخارجية الأميركية توضح للجزيرة رؤية ترامب بشأن سوريا
29/5/2025
قال المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأميركية مايكل ميتشل إن رؤية الرئيس دونالد ترامب تتماشي مع رفع العقوبات عن سوريا، مؤكدا أن الولايات المتحدة مستعدة لبدء عصر جديد من التعاون والشراكة مع سوريا.
وكشف ميتشل -في حديثه للجزيرة- عن بدء تنفيذ الخارجية الأميركية لرؤية ترامب بعد زيارته الخليجية الأخيرة، التي شملت كلا من السعودية وقطر والإمارات.
وأشار إلى أن هذه الرؤية قائمة على السلام والاستقرار، ودعم حكومة جديدة تتصرف بطريقة مسؤولة و”لا تشكل خطرا على جيرانها”.
وأكد أن إدارة ترامب تريد رؤية حكومة سورية قادرة على فرض سيطرتها على كافة الأراضي السورية، وكذلك تحترم حقوق السوريين بغض النظر عن الدين والعرق، إضافة إلى محاسبة المتورطين بتأجيج العنف والمذهبية.
وأمس الخميس، افتتح المبعوث الأميركي لسوريا توماس باراك مقر إقامة سفير بلاده بدمشق لأول مرة بعد 13 عاما من قطع العلاقات بين البلدين.
وقال باراك إن ترامب اتخذ قرارا جريئا بشأن سوريا دون شروط أو متطلبات، وتتلخص رؤيته في إعطاء الحكومة السورية فرصة بعدم التدخل، كما أنه سيرفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
ولفت المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية إلى أن صلاحيات ترامب تمكنه من رفع العقوبات عن سوريا بشكل مؤقت، لكنه يحتاج الكونغرس لرفعها بشكل كامل، كاشفا عن اتصالات يجريها ترامب مع الأطراف المعنية لتحقيق الإلغاء التام للعقوبات المفروضة.
وشدد على حاجة سوريا لاستثمارات من أجل تأهيل البنى التحتية والنظام الكهربائي، مما يؤدي إلى تحسين الوضع الأمني، ورؤية مستقبل أفضل للسوريين.
ووفق ميتشل، فإن من أولويات الولايات المتحدة وأهدافها منع عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية أو أي تنظيم إرهابي آخر في سوريا.
سوريا وإسرائيل
وأشار المتحدث الأميركي إلى علم واشنطن بـ”اتصالات مباشرة بين سوريا وإسرائيل لمناقشة الملفات الأمنية”، معتبرا هذه الاتصالات “أساسا لأي حل دبلوماسي دائم ومستدام للمشكلة”.
واستند في حديثه إلى تصريحات الإدارة السورية الجديدة بأنها تريد السلام مع جيرانها، و”لا تريد أن تشكل خطرا على أي بلد مجاور”.
وفي هذا السياق، قال المبعوث الأميركي “نحن بحاجة للبدء باتفاقية عدم اعتداء بين سوريا وإسرائيل والحديث عن الحدود”، مؤكدا أنها “مشكلة قابلة للحل، لكن الأمر يبدأ بالحوار”.
يذكر أن ترامب التقى الرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض منتصف شهر مايو/أيار الجاري، وأعلن ترامب وقتها رفع إدارته العقوبات الأميركية على سوريا.
وتم تعيين باراك في منصب مبعوث بلاده إلى دمشق في 23 مايو/أيار الجاري، وهو أيضا سفير الولايات المتحدة لدى تركيا. ويجري حاليا أول زيارة رسمية له إلى سوريا.
المصدر : الجزيرة
——————————-
==========================