التدخل الاسرائيلي السافر في سورياسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةعن أشتباكات صحنايا وجرمانا

عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 01 حزيران 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة

لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي

عن أشتباكات صحنايا وجرمانا

——————————

إسرائيل مسألةً ثلاثية الأوجه، استعماري ويهودي وهولوكوستي/ ياسين الحاج صالح

تتأرجح أشكال حضور إسرائيل في وعي العرب المعاصر بين تصورين غير عقلانيين: إما كونها موضوع صراع دائم أو قدر محتوم يجب الاستسلام له. واليوم نحن بأمسّ الحاجة للتعامل مع إسرائيل بوصفها مسألة شائكة ومعقدة لكن يمكن استيعابها عقلانياً والسيطرة عليها فكرياً، وأولى الخطوات في هذا الاتجاه هو بالنظر لها ضمن أوجهها الرئيسية الثلاث: وجهها الاستعماري، ووجهها اليهودي، ووجهها الهولوكوستي.

إسرائيل شاغل كلّي الحضور في وعي العرب المعاصرين، لكنها قلّما كانت موضوع تَفكُّر جدّي خارج بعض الدوائر الفلسطينية. قد يأخذ الحضورُ الإسرائيلي شكلَ ذريعةٍ لتسويغ أوضاعٍ غير صالحةٍ في المجال العربي كما في سوريا ولبنان. أو يأخذ حضورُها شكلَ قوّة شرٍّ غير سياسيةٍ تَطوّر حيالَها مركّبٌ من مقاومةٍ وممانعةٍ على يد قوىً غير تحرريةٍ تبدو معنيّةً بدوام الصراع أكثر من التوصل لحلولٍ أعدل له. كما قد تَحضر إسرائيلُ في وعي العرب قَدَراً ساحقاً يُسوغ حالةً من عدم الفعل، إن لم يكن التسليمَ والمراضاة.

غرضُ هذه المناقشة المساهمةُ في قول ما هي إسرائيل، لكن يتعداه إلى محاولة بلورة تصورٍ للمسألة الإسرائيلية بوصفها مزيجاً من محنةٍ نفسيةٍ وتحدٍّ سياسيٍّ وسؤالٍ فكريٍّ استهلَك غيرَ قليلٍ من أعمارنا ويرجَّح أن ترافقنا مفاعيلُه السُّميّة لأمدٍ طويل. إن لإسرائيل ثلاثة أوجهٍ: وجهٌ استعماريٌّ، وآخَر يهوديٌّ، وأخيرٌ قربانيٌّ تضحويٌّ أو هولوكوستيٌّ (نسبةً إلى المحرقة التي سامها النازيّون اليهودَ في الحرب العالمية الثانية). وفي تصور هذه المناقشة أن من شأن تنظيم التفكير في إسرائيل –وهي المسألة المزمنة والمعقدة– أن يساعدَ في تكوّن العرب ذاتاً تاريخيةً فاعلةً، أي جماعةً عندها الوعي والإرادة اللازمان لتشكيل الأحداث التاريخية وتحريكها بدلاً من أن يكونوا مجرّدَ موضوعاتٍ متأثّرةٍ بها. فالمسألة الإسرائيلية مسألةٌ عربية، وتحرُّر العرب وانعتاقُهم رهنُ ضبط  تصوراتنا ووضوحها إزاء هذه القوّة المُصمِّمة الفتاكة التي تَراهم واحداً.

 إسرائيل في قراءةٍ أُولى، قوّةٌ استعماريةٌ وامتدادٌ للاستعمار الذي عرفته أكثر البلدان العربية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ولعلها أكثرُ من ذلك، فهي امتدادٌ لشكلٍ خاصٍّ من الاستعمار يدعى الاستعمار الاستيطاني الذي عرفته الجزائرُ وحدها من بين البلدان العربية. وتضاف في أدبياتٍ فلسطينيةٍ صفة الإحلالي إلى عبارة الاستعمار الاستيطاني، لتعطي دلالة إحلال قومٍ وافدين محلَّ أهل البلاد الأصليين.

ويبدو أن هذا الضرب من الاستعمار الاستيطاني الإحلالي حاملٌ لطاقةِ إبادةٍ عاليةٍ، مثلما تُبرهِن أمثلتُه في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. قد تأخذ هذه الطاقة شكل إبادةٍ سياسيةٍ، أو ما يطلق عليه “بوليتيسايد”، من صنف ما تكلم عنه عالم الاجتماع الإسرائيلي الكندي باروخ كمرلنغ في كتابٍ له بهذا العنوان. ناقش كمرلنغ جهود إسرائيل المنهجية لتقويض الهوية الوطنية والسياسية الفلسطينية بسياسات الاحتلال والتوسع الاستيطاني والهيمنة الاقتصادية، وإن كان قد حَمّل مسؤوليتَها رئيسَ الوزراء الإسرائيلي السالف آرييل شارون وحده، لا المشروعَ الصهيوني بوصفه استعماراً استيطانياً إحلالياً. ويمكن أن تعني الإبادةُ السياسية قتلاً واسع النطاق لمجموعةٍ بشريةٍ لأسبابٍ سياسية. وهذا النوع من القتل الجماعي لم تلحظه اتفاقيةُ الأمم المتحدة لسنة 1948 المعنيةُ بمنع “جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، أو ما يطلق عليه “الجينوسايد”، وتعني حرفياً إبادةَ الجنس، والتي اقتصرت على استهداف جماعاتٍ عرقيةٍ أو دينيةٍ أو قومية أو إثنية. وقد تعني الإبادةُ السياسيةُ القتلَ السياسيَّ لجماعةٍ بشريةٍ ما، بمعنى حرمانها المستمر من قياداتٍ سياسيةٍ بالقمع والاغتيال وتغذية الانقسامات أو إفساد قطاعاتٍ من النخبة السياسية واستتباعها. كذلك يمكن لطاقة الإبادة أن تأخذ شكلاً يمتزج فيه الاستعمار الاستيطاني بالفصل العنصري، أو ما يسمى “الأبارتهايد”، وهو التوصيف الذي وَصفَت به منظمةُ العفو الدولية إسرائيلَ في تقريرٍ جريءٍ في مطلع فبراير 2022. أو مثلما رأى عزمي بشارة، في بحثه “استعمار استيطاني أم نظام أبارتهايد: هل علينا أن نختار؟” المنشور في خريف 2021.  وأخيراً يمكنها أن تأخذ شكل “الجينوسايد”، أي القتل متعدّد الوسائل وواسع النطاق لمجموعةٍ بشريةٍ، دون تمييزٍ بين المدني والعسكري، ليس بالسلاح وحده بل كذلك بالحصار والتجويع وصدّ المساعدات الإنسانية أو التحكم الشديد بها، مثلما تفعل إسرائيل في غزة بعد 7 أكتوبر 2023.

من التسويغات النظرية التي بَرّر بها هذا التكوينُ السياسيّ استعمارَه الاستيطانيّ فلسطينَ اعتبارُها أرضاً بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض، بحسب الصهيوني البريطاني إسرائيل زانغويل (1864-1926). فإذْ ينفي وجودَ شعبٍ في فلسطين فهو يؤسِّس لما يسمّى اليوم –ومنذ حروب تفكّك يوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي– بالتطهير العرقي، وهو ما حدث فعلاً في النكبة سنة 1948. لقد هُجّر ثلاثةُ أرباع سكّان البلد، وكانوا نحو مليونٍ وقتها، جرّاء مجازر وتهديدٍ بها وضروبٍ متنوعةٍ من العنف الاقتلاعي، ما جعل النكبة حدثاً مؤسّساً لإسرائيل وضرباً من “خطيئة أصلية” ترجع صداها في كلّ ما أعقبَها، على ما يفيد كتابُ دومينيك فيدال “خطيئة إسرائيل الأصلية”.

أما من بقي من الفلسطينيين على أرضهم فقد وقعوا تحت حكمٍ عسكريٍّ حتى سنة 1966. أي أنهم، مدّةً طويلةً، تحوّلوا لأناسٍ مستباحين يعيشون في “حالة استثناء”، إذا ما أردنا استخدام أطروحة الفيلسوف الإيطالي المعاصر جيورجيو أغامبن. فقد اجترح أغامبن نموذجَ الإنسان المستباح من تجربة نزلاء معسكرات الاعتقال النازية، لكنه ينطبق أيضاً على من هم تحت حكمٍ استعماريٍّ يسيطر عليهم بالتوجيهات والتعميمات الإدارية، مثلما أظهرت ذلك الفيلسوفة الألمانية اليهودية حنّه آرنت في كتابها  “أصول الشمولية” ومثّلَت عليه باللورد كرومر، الحاكم الاستعماري لمصر طيلة ثلاثين عاماً أثناء الاستعمار البريطاني. ولا شكّ أن حالة الفلسطينيين أسوأ بما لا يقاس من حالة المصريين أيام كرومر، من حيث أنهم يعامَلون بوصفهم غرباء في وطنهم، يضيّق عليهم بكلّ السبل كي يرحلوا، فيما يلبث ألوفٌ منهم دوماً في المعتقلات الإسرائيلية بقراراتٍ من محاكم عسكريةٍ في عملية قطع رأسٍ سياسيٍّ مستمرّةٍ، إذ يفوق عدد الأسرى الفلسطينيين اليوم عشرة آلاف. وقد ظهرت حالة الاستباحة هذه بجلاءٍ لا مزيد عليه بعد عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023.

على أن الواقعة التي تجسد التكوين الاستعماري لإسرائيل تكمن في أنها نشأت تحت مظلة الانتداب البريطاني. فقد أقرّ صكُّ الانتداب البريطاني على فلسطين – الذي وُضعت أسسه الأولى في مؤتمر سان ريمو بإيطاليا في أبريل 1920، واعتمده مجلس عصبة الأمم رسمياً في يوليو 1922 – وعدَ بلفور جزءاً أساسياً من نصّ الانتداب. وتشير الفقرة الثانية من مقدمته إلى هذا الوعد وإلى تبنّي دول الحلفاء له، كما أوضح الأكاديمي الفلسطيني رائف زريق في كتيّبه “القضية الفلسطينية وحلّ الدولة/الدولتين”.

والانتداب هو الشكل الذي أخذه الاستعمار الأوروبي في بعض بلداننا، ومنها، إلى جانب فلسطين، سوريا ولبنان اللذين كانا من نصيب فرنسا. على هذا النحو عمل الانتداب البريطاني أمّاً للكيان الإسرائيلي، حمله في بطنه ثلاثين عاماً. في سنة 1938، قال أُورد ونغيت، الضابط البريطاني في فلسطين “نحن موجودون هنا لنصنع الجيش الصهيوني”، بحسب ما ذكر الكاتب الإسرائيلي آري شبيط في كتابه “أرض إسرائيل، النصر والمأساة”.  

والمشروع الصهيوني بدأ أصلاً في أوروبا، وليس في فلسطين أو الشرق الأوسط. وذلك نتيجة تقاطع ثلاث ظواهر أوروبية، وهي صعود القومية العدوانية وتوسّع الإمبريالية الأوروبية ونموّ معاداة اليهود، أو اللاسامية، شكلاً خاصّاً من أشكال العنصرية. فشرطُ إمكانه هو الإمبريالية الأوروبية بما تعنيه من سياساتٍ استعماريةٍ توسعيةٍ وما يرتبط بها من استغلالٍ اقتصاديٍّ للشعوب المستعمَرة حول العالم. والزمن الذي شكّل فيه أبو الصهيونية ثيودور هرتزل هذا المشروعَ فقد كان زمنَ صعود اللاسامية وقضية دريفوس. ودريفوس هذا كان ضابطاً يهودياً فرنسياً اتُّهم في سنواتٍ باكرةٍ من القرن العشرين بالخيانة والعمالة لألمانيا دون وجه حقّ. ويؤكّد المؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند في كتابه “اختراع أرض إسرائيل” أن هرتزل كان استعمارياً، و”لم يكن امتلاكُ وطنٍ خارج أوروبا، يشكّل امتداداً للعالم البرجوازي المتحضّر، يحتاج، في نظره، إلى أيّ تبريراتٍ أو مسوّغاتٍ فائضة”.

وقبل أيّ نقاشٍ تاريخيٍّ أو نظريٍّ، عاش الشعبُ الفلسطينيُّ والنخبُ العربيةُ الواقعةَ الإسرائيليةَ استعماراً فَرض نفسَه بالعنف الحربيّ واقترن بالعنف دوماً منذ قيامه إلى يومنا هذا. ولا يجب الاستهانة بهذا البعد الذاتيّ في تقرير استعماريةِ إسرائيل لأنه يدلّ على أن المتأثرين بالوجود الإسرائيلي خبروه عدواناً على كيانهم بلا ذنبٍ اقترفوه. ونشأَت في وجه هذا العدوان مقاوَماتٌ متنوعةٌ، قامت وقت انطلاقها في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته على أسسٍ تحرّريةٍ أكثر اتساقاً مما نرى في العقود الأخيرة، وإنْ كانت متعثّرةً بأثرِ فرادةِ العدوّ الذي تواجهه وتَراجُعِ المكوّنات التحرّرية في السياسات العربية الداخلية والخارجية منذ سبعينيات القرن العشرين.

ومن أوجُه هذه الفرادة تفوّقُ القوّة الإسرائيلية المكفولُ من التحالف الغربيّ. يُنسب إلى بن غوريون، أوّل قادة إسرائيل، قولُه إنّ ما لا يتحقّق بالقوّة يتحقّق بمزيدٍ من القوّة. هذا منظورٌ سياديٌّ استعماريٌّ يُضمِر ما واجه المشروعَ الإسرائيليّ من رفضٍ فلسطينيٍّ ومن استعدادٍ إسرائيليٍّ مستمرٍّ للحرب والإخضاع العنيف. لكنه يضمر أكثرَ من ذلك أن تفوّقَ السلاح و”المزيد من القوة” مضمونٌ دوماً. ومعلومٌ أن هذا الضمان أخذ منذ سبعينيات القرن العشرين شكلَ تعهّدٍ أمريكيٍّ كان يتكرّر علانيةً حتى مؤتمر مدريد للسلام سنة 1993 بتفوّق إسرائيل العسكريّ النوعيّ على البلدان العربيّة مجتمعة. ولا يدلّ عدمُ التكرار العلنيّ لهذا التعهّد اليوم على أنه زال أو تراجع في أيّ وقت. فالواقع أنه صار قانوناً أمريكياً مكرّساً منذ 2008، يحظر وفقه بيع سلاحٍ أمريكيٍّ لأيّ دولةٍ عربيةٍ يهدِّد تفوّقَ إسرائيل العسكريّ النوعيّ على الدول العربية مجتمعة. أمريكا، وليس إسرائيل وحدها، تفكّر في العرب على أنهم مجموعةٌ واحدة.

لَم ينجح نهجُ “مزيد من القوة” في تدمير المقاومة الفلسطينية، لكنه نجح في تقويض الجانب العقلانيّ من وعي المنظمات الفلسطينية والدول العربية التي قاومت إسرائيل، عبر ما نجم عنه من دولٍ ومنظماتٍ مردوعة أو “مؤدبة” مع المحتل القوي. وقد سمّى رئيسُ أركان الجيش الإسرائيلي سابقاً موشيه يعالون نهجَ “المزيد من القوة” بِاسمٍ آخَر هو “كيّ الوعي”، أي حفر الردع في عمق وعي الفلسطينيين. لكن ما لم يَحتسِب له نهجُ “المزيد من القوة” هو تولّدُ منظماتٍ وطبقات وعيٍ أقلّ قابليةً للردع، تعمل على مستوىً دينيٍّ، مانعٍ أو “ممانِع”. ولعله يمكن فهم حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة وما يحتمل تفجره من حرب شاملة مع حزب الله في لبنان بوصفه مسعى لردع فائق يطال حتى المنظمات الدينية التي تستنفر الشعوري أكثر من العقلاني.    

لا تنحصر ماهيّة إسرائيل في كونها كياناً استعمارياً استيطانياً إحلالياً، بل تمتدّ لتشمل وجهين آخَرين، نخطئ كلَّ الخطأ بعدم رؤيتهما. أوّلهما وجهُها اليهوديّ، فإسرائيل تعرّف نفسَها دولةً يهوديةً. هكذا هي في واقعها، وهكذا يثبت ذلك الواقعَ الإعلانُ الأساسيُّ الذي صدر سنة 2018 ويقرّر أن إسرائيل دولةُ الشعب اليهوديّ وله وحده حقّ العودة إلى “أرض الميعاد”. لا تعني يهوديةُ إسرائيل أنها بالضرورة دولةٌ دينيةٌ، لكنها تعني ارتباطاً وثيقاً بتاريخٍ وجغرافيةٍ توراتيةٍ مقدّسةٍ مسرحُها فلسطين، أو “إرِتْس (أرض) إسرائيل”، وتشغل ضمنها القدسُ موقعاً مركزياً.

تَحضر التوراةُ بقوّةٍ في الوعي الإسرائيلي ركيزةً لهذا التاريخ المقدس. ومِن ذلك وعيُ المتديّنين بطبيعة الحال. ويشملُ أيضاً وعيَ غير المتديّنين والعلمانيين ممّن كانت لهم الكلمة العليا وقت تأسيس الدولة ونحو ثلاثة عقودٍ بعدها. واليهودية، أوّل أديان التوحيد، والأساس الإبراهيميّ الذي تقوم عليه المسيحية والإسلام. فالدين اليهوديّ، من حيث هو رابطةٌ شعوريةٌ وحسُّ انتماءٍ تغذّى أكثرَ من ألفَي سنةٍ على الغربة والتمييز، هو أساسُ فكرة “الشعب اليهودي”. ليس الأرض ولا الكيان السياسي ولا العرق، وإن جرى الإيهام بأصلٍ واحدٍ ساميٍّ، ولا حتى الإيمان بعقيدةٍ محدّدة. فغيرُ قليلٍ من اليهود انتماءً ملحدون ممارسةً، دون أن يطعن ذلك في يهوديّتهم، لا في نظرهم ولا في نظر أرباب الديانة اليهودية. والصهيونية هي الحركة القومية التي ظهرت في أوج عصر الإمبريالية والقوميّات الأوروبي لتقريب العناصر الثلاثة، أي “الشعب” الذي كان يعيش أكثرُه في “المنفى”، والأرض والدولة. ترى الصهيونيةُ نفسَها نفياً للمنفَى اليهوديّ، على ما أظهرَ غيرَ مرّةٍ الأكاديميُّ الإسرائيليُّ الناقدُ للصهيونية أمنون راكوتزكين. 

ولا تزال القصّةُ التوراتية مصدر الشرعية الرئيسي لكثيرٍ من النظّار والنقّاد الصهاينة. فعلى سبيل المثال، يعتقد أوري إليتسور، وهو “من أفصح ممثّلي الفكر الصهيونيّ الجديد” بحسب ما نقله الباحثُ الفلسطيني أمل جمال في كتابه “الفكر الصهيوني في متاهات التجديد والتحديث، جدلية التناقضات الداخلية وانعكاساتها العملية”، أنه “مِن دون قصّة الكتاب المقدّس فنحن [الإسرائيليون] لسنا سوى استيطانٍ أوروبيٍّ استعماريٍّ في الشرق الأوسط”. إلا أن هناك من يرفض تبريرَ إسرائيل بالكتاب المقدّس. إذ يقول شلومو ساند، الذي تقدّم ذكرُ كتابه “اختراع الشعب اليهودي”: “لَم يخطرْ ببالي في أثناءِ تأليف الكتاب أن يكون هناك في بداية القرن الحادي والعشرين عديدٌ من النقّاد الذين يبرّرون الاستيطانَ اليهوديّ وإقامةَ دولة إسرائيل من خلال ادّعاءات أرض الآباء، والحقوق التاريخية، أو أشواقٍ تاريخيةٍ عمرُها ألفا عام”. فعند ساند، يمكن تسويغُ إسرائيلَ بحقيقة أن “الاستيطان الصهيوني … أَنتجَ مجتمعاً وثقافةً، وحتى شعباً محلّياً لا يمكن تصوّر اقتلاعه”، وإنْ يكن أنتج كذلك “طبقة عليا استعمارية مستغِلة”.  

ولَإنْ بدأَت إسرائيلُ علمانيةً واشتراكيةً بصورةٍ ما، فإن تاريخَها منذ ما بعد حرب 1967 هو تاريخُ نموّ قوّة المتديّنين والتيّارات اليمينية. وهو ما تَكرّس سياسياً في فوز حزب الليكود في الانتخابات سنة 1977، وذلك أوّلَ مرّةٍ منذ قيام الكيان. ويعيد إيان لوستيك في كتابٍ بعنوان “الأصولية اليهودية في إسرائيل” صعودَ الأصوليين إلى حربِ 1967. وهذا أمرٌ جديرٌ بالتأمّل لأنه ثمّة اعتقادٌ على نطاقٍ واسعٍ أن صعود الأصولية الإسلامية يجد أحدَ جذوره كذلك في تلك الحرب التي كانت انتصاراً إسرائيلياً ماحقاً وهزيمةً مذِلّةً للقوى العربية. ومع صعود اليمين والتيارات الدينية المتطرفة صعدت كذلك العناصر “المسيحانية” في السياسة الإسرائيلية، أي العناصر المتصلة بالخلاص وفكرة الأرض الموعودة وقدوم المسيح اليهودي. ومثلما نَعرف من التجربة في البلدان العربية، فإن التأويل السياسيّ المباشر للمعتقدات الدينية بابٌ لعنفٍ مطلقٍ، إباديٍّ، وليس هناك ما يسوّغ الاعتقادَ بأن الأمر سيكون مختلفاً في سياقٍ إسرائيليٍّ يهوديّ. وهذا ما نحن فيه بالفعل، ونعرف نظائر له منذ أيام الحروب الصليبية، وصولاً إلى الجهادية الإسلامية المعاصرة، إلى إرادة بنيامين نتنياهو إبادةَ الفلسطينيين في غزّة نسجاً على منوالٍ توراتيٍّ في إبادة اليهود العماليقَ، وهم قومٌ سكنوا فلسطين قديماً، ويرى بعضُ الإسرائيليين في الفلسطينيين امتداداً لهم. ومعلومٌ أن ملفّ جنوب أفريقيا أمام منظمة العدل الدولية، وهو متاحٌ للعموم منذ فبراير 2024، قد تطرّق إلى هذا التصريح بوصفه تعبيراً عن نيّة الإبادة، والنية عنصرٌ مُعرِّفٌ من عناصر تعريف الأمم المتحدة جريمةَ الجينوسايد.

والواقع أن إسرائيل تحمل تكوينياً هذا التناقضَ بين الخلاصيّ أو المسيحانيّ وبين السياسيّ الدنيويّ والعلمانيّ، وهو ما تَمثّل في قولٍ ظريفٍ مأثورٍ ينسَب إلى بن غوريون: “يَهْوَه غيرُ موجودٍ، لكنه وعدَنا بهذه الأرض”. وهو تناقضٌ ينحل لمصلحة المتديّنين اليوم. فما دام اليهودُ على الأرض بعد ألفَي عامٍ من المنفى، يجبُ أن يكون يَهْوَه موجوداً، وبقوّة.

ويدخل المكوّنُ اليهوديّ في تعريف إسرائيل لكونِه من ركائز الدعم الغربي لها. فهذا الدعم لا يقتصر منشأه على الصفة الاستعمارية لإسرائيل، أو كونها “قلعة الغرب” على حدّ قول كونراد أديناور، أوّل مستشارٍ لألمانيا الغربية بعد الحقبة النازية. بل صار الغرب يُعرّفُ على نطاقٍ واسعٍ بثقافةٍ يهوديةٍ مسيحيةٍ بعد الحرب العالمية الثانية، ويُقر بدَينٍ كبيرٍ لليهود في الأزمنة الأحدث. وهو دَينٌ كبيرٌ وحقيقيٌّ، فغيرُ قليلٍ من كبار العلماء والفلاسفة والمفكرين في القرنين الأخيرَين من اليهود، من سبينوزا وماركس وفرويد، إلى إنشتاين وحنّه آرنت، إلى تشومسكي وجوديث بتلر، وآخرين بالألوف وفي مختلف المجالات.   

لكن الأمر ليس مُبَرّأً بحالٍ من “معاداةِ ساميّة” متنكّرة. ذلك أن دعم الكيان السياسيّ اليهوديّ متيسّرٌ بعد أن صار هناك في فلسطين ولَم يعُدْ هنا في أوروبا. في كتابه “اليهودي، العربي: تاريخ للعدو”، يقول غيل أنيدجار (النجار) إن اليهود كانوا في عين الأوروبيين العدوَّ اللاهوتيّ الداخليّ والمسلمون العدوَّ السياسيّ الخارجيّ. وهو ما يتضمّن أن انشغال هذين العدوّين ببعضهما أمرٌ طيّب. وهذا مؤكّدٌ في دوائر اليمين المعادية للسامية في أوروبا وعموم الغرب، ممّن يَغسلون اليومَ أيديَهم من اللاساميّة المتأصّلة في أوساطهم بالتحريض على المسلمين، أقلّيات المهاجرين منهم في الغرب أو المسلمين في ديارهم. وتجد حكومةُ نتنياهو اليمينيةُ نفسَها على وفاقٍ مع هذا اليمين الفاشيّ أو شبه الفاشيّ، في إطار تحوّل الولاء لإسرائيل ودعمها في الغرب إلى هذه الدوائر اليمينيّة والفاشيّة.         

الوجه الثالث لإسرائيل يتّصل بالهولوكوست، تلك المأساة التاريخية الكبرى نادرة المثال، التي توصف كثيراً بالفريدة. أودت الهولوكوست بحياة ستّة ملايين يهوديٍّ على يد ألمانيا النازية، التي كانت قوّةً عدوانيةً عنصريةً احتلّت أجزاء واسعةً من أوروبا وعاملَت سكّانَها بوحشيةٍ وطوّرت نظامَ إرهابٍ شاملٍ في الداخل الألمانيّ. لم يكن هناك من يمكن أن يدافع عن النازيّة، ولا سيّما بعد سقوط الحكم الهتلريّ سنة 1945، واحتلال ألمانيا من قوّات كلٍّ من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. بل على العكس حاز ضحاياها، خاصّةً اليهود، تعاطفاً عظيماً لهول ما ألمّ بهم، ولكونهم خلافاً للروس والبولنديين والأوكران والبيلاروس والتشيك والسلوفاك والفرنسيين، بلا دولةٍ أو كيانٍ سياسيٍّ يحميهم. فالصهيونيةُ، التي كانت ناشطةً في أوروبا أكثر من نصف قرنٍ وقتها، جَنت ثمارَ هذا التعاطف بتأويل الهولوكوست إلى ضرورةِ قيام دولةٍ لليهود كي لا يحدث لهم من جديدٍ ما حدث على يد النازيّين. وهذه فحوى عبارة “نيفر أغين”، أو “لو عُلام لو عود” بالعبرية، وتعني “لن تتكرّر”، فدلالتها الحصرية الاستبعادية التي تعني أن هذه الحادثة لن تتكرّر لليهود تحديداً طغت على الدلالة المنافسة التي تعني أنه يجب أن لا يحدثَ هذا لأيٍّ كان.

يتعلّق أمرُ هذا الوجه الثالث بتضحيةٍ هائلةٍ، يكفي مثلُها ويزيدُ ليكون أساساً لدِينٍ ما، وهو ما جرى فعلاً. صارت الهولوكوستُ دِيناً، ليس فقط في إسرائيل التي نجحت في استملاكٍ سياسيٍّ وأخلاقيٍّ لهذه التضحية الهائلة، وإنما في عموم الغرب. وهو دِينٌ يلقى التعزيزَ من واقعِ أن من ضُحِّيَ بهم هم جماعةٌ دينيةٌ صار ينظَر لها بعد ما أثارته الهولوكوست من شعورٍ بالذنب والدَيْن شريكاً مؤسّساً للغرب. ما تقدّم ذكرُه من كلامٍ على تراثٍ يهوديٍّ مسيحيٍّ يَستبطن هذا التحوّلَ في النظرة. 

بصورةٍ ما يمكن التفكيرُ في الهولوكوست أساساً لدِينٍ جديدٍ مثلما يُنظر إلى صَلب المسيح أساساً للمسيحيّة. لقد اضطُهِد اليهودُ في العالم الأوروبيّ المسيحيّ طوالَ أكثر من ألف عامٍ، تحميلاً لهم المسؤوليةَ عن صَلبِ المسيح ولعدمِ اعترافِهم به، ونشأت معاداة السامية جزئياً على الأقل من تحميلهم المسؤولية عن تضحية المسيح. ومثل ذلك يمكن أن يقول عن الديانة القربانية الجديدة المتكونة حول الهولوكوست، حيث يحلَّ اليهودُ المُبادون محلَّ يسوع المصلوب، فصاروا بصورةٍ ما “ابن الله” البديل. تقول شارلوت دلبو، وهي يهوديةٌ فرنسيةٌ ناجيةٌ من الهولوكوست، في كتابها ” آوشفيتز وما بعد”: “بكيتم ألفَي عامٍ على من برّح به العذاب ثلاثةَ أيامٍ وثلاثَ ليالٍ. ماذا بقي لديكم من دموعٍ يا ترى للبكاء على من تعذّبوا أكثرَ من ثلاثمئة ليلةٍ وثلاثمئة يومٍ. وكم سيكون شديداً بكاؤكم على هؤلاء الذين تعذّبوا عذاباتٍ كثيرةً، وكان عددهم فوق الحَصر”. تُحيل دلبو بالطبع إلى عذابات اليهود المهولة على يد النازيّين. وهي مهولة فعلاً وجديرةٌ بأن يُعرَف عنها أكثر في المجال العربي وأن يفكَّر فيها في سياق وصف ضروب المعاناة الفظيعة وتحليلها في مجالنا الإقليمي، بما في ذلك فلسطين بطبيعة الحال.

بات هذا الدِّين القرباني الحديثُ هو الدِّين، بلامِ التعريف، الذي تراعَى حرماتُه ويحوز مكانةً مقدّسةً عند التيّار الرئيسِ في الغرب المنتصر بعد الحرب العالمية الثانية. وهو دِينٌ حديثٌ لأن بداياته تعود إلى ستينيات القرن العشرين، أي ما بين 15 و 20 عاماً مِن بَعد حدثِ الهولوكوست نفسِه. وهو اليوم الدِين الرئيس، وليس المسيحية التي انخفضت مكانتُها في مسارات التنوير والعلمنة والحركة الاشتراكية والحداثة باعتبارها ثورةً ثقافيةً، ولا حتى اليهودية. ذلك أن الغرب هو وريث تجربة الحرب العالمية الثانية ضد النازية، وتكوينُه الحاليُّ مرتبطٌ بها، ولم يحدث ما هو أكبر من تلك التجربة في الثمانين عاماً الماضية. إلّا أن عدوَّ هذا المعتقد الجديد تحوّلَ سريعاً ليصير الفلسطينيَّ والعربيَّ عموماً، وليس الألمانيَّ الذي افتدى نفسه بتعويضاتٍ كبيرةٍ بدءاً من سنة 1952، وبامتحانِ ضميرٍ جعلَ من الهولوكوست أساساً للوجدان الألمانيّ المعاصر، ومِن أمنِ إسرائيل مبرّراً للدولة في ألمانيا كما ذكرت ذلك يوماً المستشارةُ الألمانية أنغيلا ميركل في خطابها أمام الكنيست سنة 2008. أما معبد الهولكوست، بوصفه دِيناً مدنياً، فهو مركز ياد فاشيم لدراسات الهولوكوست وأبحاثها في القدس، وهو بمثابة متحفٍ للهولوكوست يزوره مئات الألوف كلَّ سنة.

ومثل كل دين، يمكن لهذا “الدين المدني” أن يُصاب بالأصولية. فيصير ديناً سياسياً متزمتاً وحرفياً مثل الإسلام السياسي، فيطالب لنفسه بالسلطة ويمارس الحِرَم مثل المسيحية أيام سلطتها الدنيوية، ويُكفِّر ويقصي ويشرع، ويضيق بالنقد والأصوات المعترضة. نجد هذا خصوصاً في ألمانيا التي يتعذّر فيها كلَّ التعذّر فهمُ أن إسرائيل هي ألمانيا الفلسطينيين، وهي الحلُّ النهائيُّ على حساب الفلسطينيين للحلِّ النهائيِّ الألمانيِّ على حساب اليهود. يَنسبُ مارسيلو سفيريسكي، مؤلّفُ كتاب “ما بعد إسرائيل: نحو تحول ثقافي”، القولَ السديدَ الآتي إلى الناقد والصحفيّ الإسرائيليّ بوعاز إيفرون: “حدث حدثان رهيبان للشعب اليهوديّ في هذا القرن: الهولوكوست والدروس المستخلَصة منه”. والقصدُ أن هذه الدروس التي تضع اليهودَ في موقع المظلوم المطلق الدائم، الذي لا يستطيع أن يضع نفسَه محلَّ غيره ويتوقع من الجميع بالمقابل المراعاةَ والدعمَ، تؤسِّس للأنانية العادلة بدلَ أن تؤسّس هي ذاتها للغيرية وشحذ الحسّ بالعدالة. وقد لا يكون هذا هو المقام الأنسب للقول إن الإسلام الشيعيّ يَعرض النزعةَ نفسها نحو الأنانية العادلة بفعل وراثة مظلومية آل البيت. وحديثاً نرى شيئاً مماثلاً مع الإسلاميين السنيّين المشرقيين. بل قد نقول إن أحد أسباب كون الشرق الأوسط هو هذه البيئة من التوحّش والأنانية والكراهية هي وفرة المظلوميات وتنشيط بعضها بعضاً، وافتراض أصحابها أن مظلوميتهم تكفي كي يكونوا عادلين. وهذا باطلٌ تماماً بطبيعة الحال.

ومثل كلِّ دِينٍ، يثير وضعُ دِين الهولوكوست المدنيّ سؤالَ العلمانية، أي الفصل الضروري بين السلطة السياسية والدينية من أجل حماية مساحاتٍ من الحرّية والاختلاف. يمكن أن تعني العلمنةُ في هذا السياق فصلَ الهولوكوست عن إسرائيل، وفصلَ احترامه عن حرمة دولةٍ عدوانيةٍ قامت على التطهير العرقيّ وتحمل كُموناً إباديّاً عالياً. إنها تعني اعتبار إسرائيل دولةً مثل غيرها، تُنتقَد وتُدان وتُعاقَب وتُقاطَع. تتّصل أصوليةُ الهولوكوست، وتصوّر أنه دينٌ ودولةٌ متجسّدان ومتوحّدان معاً في إسرائيل، باستخدامه السياسيّ، مثلُها في ذلك مثلُ نظرة الإسلامية المعاصرة إلى الإسلام. احترام التضحية المهولة لا يجب أن يمتدّ إلى توظيفاتها السياسيةَ، سواءً في إسرائيل لتسويغ الاحتلال والعنصرية حيال الفلسطينيين، أو في الغرب للتغطية على التاريخ الاستعماري.

تقتضي هذه الطبيعةُ المتعدّدة لإسرائيل مقاربتَها على اعتبار أنها “مسألة إسرائيلية”. ومفهومُ المسألة الإسرائيلية يهدف إلى أن يغطيَ هذه الأوجهَ الثلاثة معاً، الاستعماريّ واليهوديّ والتضحويّ أو الهولوكوستيّ، التي لا تقبل الاشتقاقَ من بعضها كما فعلَت وتفعل كثيرٌ من المقارَبات العربية للدولة الصهيونية. اقتصر تفكير القومية العربية والوطنية الفلسطينية في إسرائيل على كونِها واقعاً استعمارياً حصراً. أما التفكير بوجه إسرائيل اليهوديّ فيجري في دوائر المسيحية الإنجيلية والحضاريين أو المركزيين الغربيين. وكذلك في أوساط الإسلاميين في جهتنا من العالم، وإنْ مع محمولٍ سلبيٍّ يستأنف ما يفترض أنها خصومةٌ أصليةٌ لليهود مع النبيّ العربيّ. وبدأ التفكيرُ في إسرائيل بدلالة الهولوكوست في دوائر يساريةٍ ومتنوّرةٍ في الغرب قبل أن تترسّخ الهولوكوست دِيناً عاماً تعتنقه أو تراعيه بقوّةٍ جميعُ الدوائر الاجتماعية والسياسية والثقافية هناك. جديرٌ بالذكر أن البعد الهولوكوستي لإسرائيل كان غائباً عن وعي اليهود الشرقيين في إسرائيل بالذات حتى صار جزءاً من الذاكرة الجمعية لهم، مثل الجميع، في سبعينيات القرن العشرين بحسب ما أورده توم سيغيف، مؤلّف كتاب “المليون السابع: الإسرائيليون والهولوكوست”.

الحديث عن إسرائيل بوصفِها مسألةً يعني الاعترافَ بأننا حيال وضعٍ معقّدٍ، مديدٍ، ليس له معالَجاتٌ تبسيطيةٌ ويعوزه الكثير من عمل الرؤية والفكر والحسّ السياسيّ. إنها مسألةٌ من جنس تلك المسائل الكبيرة التي عَرفنا عنها شيئاً في الأزمنة الحديثة كالمسألة اليهودية في أوروبا والمسألة الشرقية المتعلقة بالإمبراطورية العثمانية. بل إن إسرائيل والعرب المعاصرين هم في واقع الأمر ورثةُ الحلول التي قدّمَتها قوى السيطرة الدولية، وبخاصّةٍ الإمبرياليات الغربية، لهاتين المسألتين.

يدفع فشلُ المواجهات العربية مع إسرائيل إلى اليوم ونجاحُ إسرائيل فيها إلى مساءلة تصوّراتنا وتفكيرنا في الواقعة الإسرائيلية التي نكّدت حياةَ أجيالٍ منّا، عشرات الملايين وأكثر، بل أكثر بما لا يقاس من عدد جميع اليهود في العالَم الذين يقدّرون بنحو خمسة عشر إلى ستة عشر مليوناً. كان المسرحيُّ السوريّ الراحل سعد الله ونّوس قد قال في فيلمٍ وثائقيٍّ أنجزه عنه الراحلُ أيضاً المخرج عمر أميرالاي إن إسرائيل سرقَت عمرَه، وهذا بما تسمّم به هذا العمرُ (1941- 1997) من شعورٍ بالذلّ وفقدان الاعتبار. حاول ونّوس الانتحار إثر زيارة أنور السادات القدسَ سنة 1977. نجا منها، لكنه ظلّ صامتاً سنواتٍ بعدها في ضربٍ من الانتحار الرمزيّ. ومثالُه أشيعُ في المشرق العربي ممّا يبدو، وإنْ لم يأخذ دوماً صورةً درامية. كان ياسين الحافظ، المثقّف السوريّ الذي رحل سنة 1978 عن 48 عاماً، قد كتب أنه فكّر في الانتحار إثر هزيمة 1967، وما منعه من ذلك إلا “بقايا ثقةٍ ميتافزيقيةٍ [أي تتجاوز المادّة] بقدرات الشعب العربي” بحسب تعبيره. ومعلومٌ أن الشاعر اللبنانيّ خليل حاوي (1919-1982) انتحر عند احتلال إسرائيل بيروتَ في صيف 1982. أذكر هذه الأمثلة، وهي بلا ريب غيضٌ من فيضٍ، للقول إن لدينا عديداً من الأسباب النفسية، فضلاً عن السياسية والعسكرية والحقوقية والأخلاقية، للعمل على جعل إسرائيل سؤالاً أو مسألةً يمكن أن يجاب عليها. ذلك أن شيئاً يدعو مثقّفين مُرهفين إلى الانتحار أو التفكير به، ويبثّ الشعورَ بالذلّ في قلوب الملايين، ويسمّم حياةَ كثيرين تسميماً مزمناً، يحتدّ كلَّ بضعة أعوامٍ بالضغينة ومعاداة العالم، وكان مصدرَ تغذية منازع عدميةٍ جمعيةٍ بين كثيرٍ من العرب طوال الجيلين الماضيين. أقول إن هذا الشيءَ مشكلةٌ كبيرةٌ، محنةٌ للنفس وتحدٍّ للإرادة ومعضلةٌ للفكر، ممّا يستوجب جهداً لتنظّم إدراكه ومحاولة السيطرة عليه فكرياً، على أمل أن يساعد ذلك يوماً في السيطرة عليه بالفعل. لا نتكوّن ذاتاً تاريخيةً فاعلةً دون تحويل انفعالاتنا ومشاعرنا المختلطة إلى مسائل نعمل على معالجتها وحلّها.

لا يَظهر فشلُ تكوّن الذات الفاعلة أكثرَ ممّا في فكر الممانعة وغريمه الذي يمكن تسميته بالممانعة المعكوسة التي تتقبّل الواقعةَ الإسرائيلية البالغة التطرّف بذريعة الاعتدال. ليست الممانعةُ مقاومةً تحرريةً تستند إلى أسسٍ حقوقيةٍ وأخلاقيةٍ عالميةٍ، وتندرج بذلك في إطار تراث التحرر العالميّ في العصور الحديثة. إنها رفضٌ سياسيٌّ ذو أسسٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ، تعترض على الحداثة الديمقراطية وتحتاج إلى أعداء كي تسيطر على مجتمعاتنا. من هذا الباب يبدي الإسلاميون جميعاً، الشيعة والسنة على حد سواء، والقوميون العرب التقليديون، استعداداً ممانِعاً، حتى حين يجد بعضهم أنفسهم في موقعٍ سياسيٍّ غير متوافقٍ مع محور الممانعة الراهن الذي تقوده إيران وتُشكّل الشيعية السياسية متنه. الممانعة وليدةُ ما تقدّم ذكرُه من تحطّم الطبقة العقلانية من الوعي العربي بيد المطرقة الإسرائيلية وحاميها الأمريكيّ.

وبقدرِ ما تُعنى الممانعة بدوامِ الصراع من أجل سيطرتها السياسية، تتقبلُ الممانعةُ المعكوسة الواقعةَ الإسرائيلية دون سؤال. لكن حتى لو “رضينا بالهمّ، الهمّ مو راضي فينا”، على ما يقول التعبير الشعبي، وما تثبته محصّلات اتفاق أوسلو طوال أكثر من ثلاثين عاماً. من الغريب أن توجد دولٌ تتقبّل اختلالاً مهولاً لموازين القوى لمصلحة بلدٍ مجاورٍ حتى لو لم يكن هذا البلد حادثَ التكوين، بدأ بحرب تطهيرٍ عرقيٍّ، ولم يقبل بحدٍّ أدنى من العدالة لضحاياه المباشرين ومن المساواة مع محيطه. الممانِعون المعكوسون قصيرو النظر حين يتصوّرون أنه يمكن تطبيع إسرائيل والتطبيع معها. فإسرائيل ليست طبيعيةً، وهي لا تقبل أنها كيانٌ سياسيٌّ مثل غيره يُنتقَد ويقاطَع ويقاوَم ويُدان، ويعاهَد ويسالَم ويؤمَن جانبه. إسرائيل لا تقبل أنداداً في المجال العربيّ.

يساعد تصوّرُ وجوهِ المسألة الإسرائيلية الثلاثةِ على تجديد التفكير في سبل معالجتها وتطوير لغةٍ أكثر تركيباً للنظر فيها من الجهة العربية. فبوجهها اليهوديّ، يمكن البناء على حقيقةِ أن الوجود اليهوديّ في فلسطين والمجال العربي لم يكن أمراً إشكالياً قبل ظهور الصهيونية، وأن واقع الصهيونية وإسرائيل قوّةً استعماريةً هو ما يحول دون عودة الوضع كما كان. وعليه يتعيّن نقلُ وجود اليهود في المجال العربي إلى نطاق الوعي به والترحيب به. وهذا لا يشمل اليهود العرب فقط، أي الذين عاشوا في بلداننا وكانت العربية لغتهم، بل الترحيب بعموم اليهود في هذه المنطقة التي هي مهد الأديان الإبراهيمية وتعرّبت بعد الإسلام، ولكنها أضاعت سبيل النهوض والحضارة في العصر الحديث. كانت منطقتنا متعدّدة دينياً طوال تاريخها، وانحسر هذا التعدّد في القرنين الأخيرين بفعل تكوّن مركز جذبٍ وخلخلةٍ تمثّل في الغرب الحديث، وزاد انحساره بعد ظهور الصهيونية وقيام إسرائيل، ثم بفعل تلك البنى الفكرية والسياسية العربية الحديثة، القومية والإسلامية، الطاردة للبشر والتي لا ترحّب بأهلها كي ترحّب بغيرهم. ليس في الانفتاح العربي على الوجود اليهودي ما يهدّد الطابع العربي للمنطقة أكثر ممّا يهدّد وجودُ المسلمين في أوروبا كيانَ بلدانها، وهو قولُ اليمين الفاشيّ في هذه البلدان.

أمّا وجهها القرباني الهولوكوستي، فلِإسرائيل كامل الحقّ في الوجود في ألمانيا، وربما بولندا والتشيك. لكن الفلسطينيين والعرب مدعوّون إلى التعبير عن كامل الاحترام لهذه التضحية الهائلة، التي تحول عبئها ليجثم على كواهلهم. بل لعلنا مدعوّون إلى المزيد من دراسة الهولوكوست لتحسين فهمنا لا لإسرائيل وحدها، ولا لألمانيا والغرب المعاصر، بل للمَنازع التدميرية البشرية والفاشية والإبادية والعدمية. وللعلاقة بين التضحيات الكبيرة والتفجّرات الدينية. ليس أيٌّ من هذه الظواهر غريباً على العرب المعاصرين، إنما الغريب هو التواني وقلّة الاكتراث بها في المجال العربي.

وأما بُعدها الاستعماريّ الذي تمخّض عن تشريد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني بالمجازر والترويع، البعد المستمر والمتفاقم طوال أكثر من ستة وسبعين عاماً، فليس لإسرائيل أيّ حقٍّ في الوجود، كما ليس هناك حقٌّ في الوجود لأيّ استعمارٍ أو نظام تمييزٍ عنصريّ. وهو ما يوجب نزع استعمارية إسرائيل إن كان لها أن تكون جزء من هذه المنطقة. المهمة صعبة، بل لعلها مستحيلة دون تغير جوهري في النظام السياسي والحضاري الدولي. المسائل عموماً لا تحل دون تغيرات ضخمة، جيولوجية، في البنى الدولية.

غير أننا نعلم أن إسرائيل القائمةَ في فلسطين، وليس في ألمانيا، ولا في شتاتٍ بلا مركزٍ، تركيبٌ من هذه الوجوه الثلاثة. فوجهٌ يهوديٌّ يوفّر لها عمقاً تاريخياً أسطورياً وضرباً من “رسالة خالدة” وسرديّة عن الميعاد و”أرض إسرائيل”. ووجهٌ قربانيٌّ تضحويٌّ يوفّر لها شعوراً بالعدالة والشرعية مهما فعلَت. ووجهٌ استعماريٌّ يؤمّن لها قوّةً وطاقةً إباديّةً قد تشمل العربَ كلّهم وليس الفلسطينيين فحسب. هذه الإسرائيلُ، “مجتمعاً وثقافة وشعباً”، بحسب شلومو ساند، قائمةٌ منذ ثلاثة أجيالٍ، وغيرُ قليلٍ من سكّانها اليهود لا يعرفون لأنفسهم بلداً غيرها. فهل في تصوّر المسألة الإسرائيلية ما يساعد على الوصول يوماً إلى معالجةٍ متكاملةٍ لهذه المشكلة الهائلة؟ علينا أن نذهب، مثلما فعل إدوارد سعيد (1935-2003)، إلى أبعد من الحقّ المجرّد من أجل الإجابة عن السؤال. رَفَضَ سعيد مراراً فكرةَ تهجير أيّ كتلٍ سكانيةٍ ممّا يشكّل اليوم، وفي أيامه، فلسطينَ إسرائيل، لكنه أصرّ على وجوب نزع الطابع الاستعماريّ والعنصريّ عن إسرائيل.

إدراك المسألة الإسرائيلية بأوجهها الثلاثة يفتح الباب للتفكير في حلولٍ مركّبة تشملها كلّها. فيمكن التفكير في الجمع بين الإصرار على القانون الدولي فيما خصّ الانسحابَ من الأراضي المحتلة سنة 1967 وعودة اللاجئين الفلسطينيين أو التعويض العادل الذي يتعيّن أن ينظر في التعويضات الألمانية لإسرائيل لكونِها سابقةً يُستأنَس بها، وهذا لأنها حجر الأساس في معالجة الوجه الاستعماري. وفرص ذلك أكبرُ بقدرِ ما يجري العمل على الوجهين الآخرين: الانفتاح على الوجود اليهودي في فلسطين والمجال العربي، بما في ذلك إعادة أملاك اليهود العرب، أو تعويضهم، إن عادوا إلى مواطنهم مقابل شيءٍ مماثلٍ لحقوق الفلسطينيين وأملاكهم. ثمّ الاهتمام بالهولوكوست نموذجاً للإبادة والجنون البشري، والعمل مثلاً على ترجمة بعض أهم الكتابات في هذا الشأن، وعقد مؤتمراتٍ وحلقاتٍ دراسيةٍ عن هذه الإبادة، وغيرها. ليس هذا شيئاً يعطى لإسرائيل والصهيونية، ولا حتى لليهود في واقع الأمر، بقدرِ ما يتعيّن أن يكون من أوجُهِ صحوِ العرب على العالم والشراكة في الدفاع عن المظلومين عالمياً. يقع العرب في أزمةٍ وجدانيةٍ حادّةٍ حين تحُلّ إحدى أكبر المظالم في العصر الحديث على حسابهم دون ذنبٍ اقترفوه، في حين يجدون أن مظلومي الأمس القريب هم ظالمو اليوم، المتعجرفون العادلون دوماً في عين أنفسهم، والمدعومون من أقوياء العالم. تصوُّر المسألة الإسرائيلية قد يكون خطوةً نحو حلّ هذه الأزمة الوجدانية.

تصبح المسألةُ الإسرائيلية بهذه الدلالة مسألةً عربية. أي أنها تحدٍّ وسؤالٌ مطروحٌ على العرب من المستبعد أن يصيروا أحراراً دون التقدم في طرحه والعمل على معالجته. لَم يعرض العربُ طوال العقود الماضية الحدّ الأدنى من الجدّية للتعامل مع هذه المشكلة الكبرى المخيّمة عليهم وتحويلها إلى مسألةٍ تقبل المعالجة والحلّ العقلانيَّين.

ويعني القول إن المسألة الإسرائيلية مسألة عربية أن التقدم في معالجتها مرتبط بالتقدم في معالجة مشكلاتٍ عديدةٍ، جعلت العربَ مشكلةً لأنفسهم ولغيرهم. يستحقّ الأمرُ نقاشاً مستقلاً، ولكن يكفي القول إن العرب المعاصرين هم من أقلّ الجماعات البشرية تمتّعاً بالحرّية، نتيجة معاناتهم من ثلاثية الطغيان الدولتيّ، وأوّلها الأنظمةُ العربيةُ التي هي أنظمةُ إبادةٍ سياسية دون استثناء، وثانيها الحضورُ الاستعماريّ، سواءً الغربيّ أو غيره، و إسرائيلُ أبرزُ مظاهره، لكنها ليست الوحيدة، وأما ثالثُها فالأصولية الدينية العدمية ذاتُ التوجّهات الفاشية.

فإذا كان لمفهوم المسألة الإسرائيلية أن يفكّر في نفسه ويُعرّف نفسه، فعليه أن يُعرّفها بالتضادّ مع المقاربات الوجودية العدمية للصراع مع إسرائيل. فأيّ تصوّرٍ أننا في صراعٍ وجوديٍّ مطلقٍ لا يفتح أفقاً لغير الإبادة، أي سلطة العدم. ومن يقدر فعلياً على الإبادة اليوم ليس إلا إسرائيل التي تفكّر نخبها، والقوى اليمينية خاصّة، في كلّ مقاومةٍ لإسرائيل خطراً وجودياً لا بدّ من محقِه. يتحدّث آري شبيط، الذي تقدّمت الإشارةُ إلى كتابه “أرض ميعادي”، عن السلاح النوويّ الإسرائيليّ، الذي يطلق عليه “نار بروميثيوس الحديثة” (وبروميثيوس هذا شخصيةٌ من الأساطير الإغريقية، يُعرف بسرقته النارَ من الآلهة ومنحها للبشر) فيقول: “للمرّة الأولى في التاريخ، يمتلك اليهودُ القدرةَ على إفناء الآخَرين”. من يُحتمل أن يكونَ الآخَرون هنا يا ترى؟ الألمان؟ الأمريكيون؟ الفرنسيون الذين وفّروا تقنية القنابل النوويّة لإسرائيل، بينما كانوا يخوضون حربهم الاستعمارية ضدّ الثورة الجزائرية وبعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956؟ يصفُ شبيط المفاعلَ النوويّ بأنه “لفتة عظيمة من فرنسا تجاه إسرائيل” قبل أن يضيف شيئاً يوضح التكوينَ الاستعماريّ لإسرائيل: “كانت التكنولوجيا النووية هدية الوداع من قوّةٍ استعماريةٍ في طور التراجع، إلى دولة المواجهة الشابّة التي أنشأها الغرب في الشرق، والتي تُترك الآن وحدها” مع أسلحة الإبادة. سوى أنها لم تُترك يوماً وحدَها في واقع الأمر. في الآن نفسه، تثير هذه الحالة انفعالاتٍ غاضبةً وتغذي التصوّرات الوجودية، أو العدمية، للصراع، خاصّةً حين تقرأ عند المؤلّف نفسه قولَه عن المفاعل النوويّ الإسرائيليّ في ديمونة بأنه “جوهر الثورة الصهيونية”. هل يعني ذلك شيئاً آخَر غير أنّ الإفناء أو الإبادة هو هذا الجوهر؟ أي بالضبط إعادة إنتاج الهولوكوست؟

إلّا أن هذا، ولأسبابٍ عمليةٍ، يدفع إلى العدول عن المقاربة الوجودية التي هي نفسها المقاربة العدمية. فالفلسطينيون العرب المحرومون من “نار بروميثيوس الحديثة” هم المرشَّحون الوحيدون للإفناء في أيّ أفقٍ منظور. لكن الأهمّ من ذلك هو أنه لا يجب أن يكون تكوينُ أهل الأرض والمنطقة حرجاً إلى درجة رهن وجودهم بعدم غيرهم، مع ما هو معلومٌ من مركزية قيم الكرم والضيافة في الثقافة العربية. فضلاً عن أن يكون تصوّر المسألة الإسرائيلية نداءً من أجل العقل والسياسة والكرم، فإنه إهابةٌ بتقاليد تعدّديةٍ ومسكونيةٍ كانت حيّةً في المجال العربي والإسلامي قبل فترة الاستعمار والدول القومية التي أعقبته.

لقد حُمّل الفلسطينيون والعرب أوزارَ حلِّ المسألة اليهودية التي هي مسألةٌ أوروبيةٌ دون ذنبٍ أتَوه ودون وجه حقّ. فليس للعرب ضلعٌ بالهولوكوست إلّا في ضمير أمثال نتنياهو الذي جعل أمينَ الحسينيّ ملهِماً لهتلر، ما أثار في وقته اعتراضاتٍ يهوديةً وألمانيةً أكثر من الاعتراضات العربية. وليس للعرب علاقةٌ من قريبٍ أو بعيدٍ بنشوء الشتات اليهوديّ تاريخياً، فقد انتزع العربُ فلسطينَ فيما انتزَعوا من أيدي البيزنطيين، وليس من أيدي أيّ كيانٍ يهوديٍّ، إذ لَم يكن لليهود كيانٌ سياسيٌّ طوال ستة قرونٍ قبل الفتح العربيّ. ولَم يقُم العرب في أيّ وقتٍ بتهجير يهودٍ من فلسطين وجوارها. أما الاستعمار، فالفلسطينيون والعرب من ضحاياه إلى جانب الأفارقة والهنود وغيرهم، وإسرائيل هي المستفيدة منه قبل نشوئها وبعده. وهذا ظلمٌ تاريخيٌّ يتحمّل المسؤوليةَ عنه التحالفُ الصهيونيّ الغربيّ. لقد دفعت ألمانيا تعويضاتٍ لإسرائيل عن جرائم النازيّين بحقّ اليهود، فيما لم تُقدَّم أيُّ تعويضاتٍ للفلسطينيين، لا مِن ألمانيا ولا مِن أيّ جهاتٍ غربيةٍ أو دوليةٍ عن سلب وطنهم وما لحق بهم من ظلمٍ فادحٍ، أو عن الاستعمار.

بالمقابل، يجدر بالعرب قيادات فكرية أو دينية أو سياسية أن يرحّبوا بالوجود اليهوديّ، وبطبيعة الحال المسيحيّ، في المنطقة، وأن ينظروا إلى المنطقة مجالاً مشتركاً للتراث الإبراهيمي. ولكن هذا الترحيب يجب أن يتجاوز مجاملة الديانة الإبراهيمية المزعومة، التي غالباً ما تكون فوقيةً ورجعيةً وكاذبةً لأنها تتجاهل القضيةَ الفلسطينية وتتجنب مناقشةَ قضايا العدالة والتمييز في المنطقة، ويجب أن يتجاوز مجاملةَ إسرائيل الاستعماريةِ والعنصريةِ، بل يجب أن يكون ضمن إطار العمل على إنهاء مشروعها الاستعماريّ.

وليس في تصوّر المسألة الإسرائيلية ما يقتضي أن يبقى أسيرَ عالم الأفكار. فهو بالعكس يبتغي أن يكون أرضيّةً عقلانيةً لسياساتٍ عامّةٍ أصلحَ تغطّي كاملَ الحقل السياسيّ، من التحليلات والتغطيات الإعلامية والدعائية، مروراً بالتنظيم والبرامج السياسية والتحالفات، ووصولاً إلى المقاومة المسلّحة والحرب. قد يكون الاشتراطُ الوحيدُ في هذا الشأن تبعيةَ الصراع المسلح للسياسة أو أولوية السياسة، وبالتالي الاستراتيجية والرؤية، على الأفعال المقاومة، والسياسيّين على المسلّحين.

عند التفكير في الأمر ربما نتبيّن أن ما يَحول دون بناء تصوّرٍ مركّبٍ للمسألة الإسرائيلية لا يقع في الجهة الإسرائيلية بل في الجهة العربية. فما هي الذاتُ التي تطرح على نفسها وضعَ تصوّرٍ وسياسةٍ حيال إسرائيل؟ تطرح على نفسها المسائلَ وتُفكّر على مستوى التاريخ؟ ليس هناك من ذاتٍ عربيةٍ تفعل ذلك. وهو ما يحكم راهناً على تصوّر المسألة الإسرائيلية بأن يبقى فكرةً ذاتيةً دون سياسيةٍ ودون تاريخية.

وعلى هذا النحو ينفتح “السؤالُ عن المسألة الإسرائيلية” على “السؤال عن المسألة العربية” التي تأخذ من وجهة نظرٍ عربيةٍ دلالةً نظريةً وعمليةً في آنٍ: كيف أخذَت في التشكّل في التاريخ المعاصر ذاتٌ عربيةٌ، وكيف تعثّر تَشكّلُها وتبدو اليوم متلاشية؟ وكيف يمكن أن تتشكّل من جديدٍ في صورةٍ أهدى، دون أوهام عظمةٍ ودون مَنازع عدميةٍ، وباعتبارها ذاتاً معنيةً بحياةٍ طيبةٍ في العالم إلى جانب المعنيّين الآخَرين؟ قد يكون المؤشّرُ الأوّلُ على السير في هذا الاتجاه التقدّمَ في تصوّر المسألة الإسرائيلية بوصفها من أكبر ما يواجه العرب من تحدّياتٍ، خاصّةً عبر صِلتها بمسألةٍ أُخرى معقّدةٍ وكبيرةٍ: المسألة الغربية.

ومن الظاهر أن أطراف المسألة الإسرائيلية هي إسرائيل والغرب والعرب. الغربُ طرفٌ في الصراع وفي المسألة، ليس حَكَماً ولا محايداً ولا هو غير مُبال. وهو طرفٌ إلى جانب إسرائيل بقدرٍ يسوغ القول إن إسرائيل شأنٌ غربيٌّ أو مسألةٌ غربيةٌ، من وجهة نظر من لا يرون تدليل إسرائيل واحتضانها في الغرب أمراً “طبيعياً” ويبحثون له عن حلّ. وإنما لذلك نرى اليوم فلسطين تصير شأناً غربياً كذلك. فكلّ من يعترض على المؤسسات الحاكمة والتيار الرئيس في بلدان الغرب، يجد نفسه معنياً بالشأن الفلسطينيّ ومتضامناً مع الفلسطينيين. وليس الأمر كذلك بخصوص قضايا أُخرى، كالقضية السورية أو الإيرانية أو حتى الأوكرانية اليوم.

وفي القول إن المسألة الإسرائيلية مسألةٌ عربيةٌ ما يضمر أنها ليست مسألةً فلسطينيةً حصراً، وإنْ كان الفلسطينيون هم من يتحمّلون وطأتَها الأشدّ ويَدفعون من كيانهم ثقلَها المهول. هذا يسيرُ عكسَ ما سارت عليه سياساتُ القوى العربية الفعلية منذ سبعينيات القرن العشرين. وهي على أيّ حالٍ سياساتٌ لم تثمر في أيّ شأن.

لا تتصرف القوى العربية الفاعلة ولا تفكر في إسرائيل مسألةً صعبةً ومعقّدة. فرفضُها وعداؤها لا يُغْني عن التفكير المتجدّد فيها والتصرّف كأنها طرفٌ في مسألةٍ عالميةٍ وتاريخيةٍ كبرى. ولأن الرفضَ عقيمٌ ولا يقبل ترجمةً سياسيةً فاعلةً، فإنه يتواتر أن ينقلب على نفسه، يتحول إلى مصالحةٍ خانعةٍ مع الواقع الإسرائيليّ، ليست سياسيةً هي الأخرى، لا تنجح في تطبيع إسرائيل، جعلها دولة مثل غيرها من الدول.  

ما هو الإطار الزمنيّ المحتمَل لحلّ المسألة الإسرائيلية؟ ذلك أن الكلام على مسألةٍ يعني الكلام على حلٍّ، والحلّ يعني السيطرة على الواقع الذي تمثّله تلك المسألة، والتحكّم به، والتحوّل من موضوعٍ منفعلٍ له إلى ذاتٍ فاعلةٍ تَفعل وتتفاعل. إذن، ما هو الإطار الزمنيّ لحلّ المسألة الإسرائيلية؟

المسألة بالتعريف وضعٌ نزاعيٌّ طويل الأمد، ليس شأن سنواتٍ، بل عقود وأجيال. كان مفهوم المسألة اليهودية في التداول وقتَ كتبَ ماركس كتاباً بهذا العنوان سنة 1843. في مئة عامٍ ونيّفٍ بين صدور الكتاب وقيام إسرائيل شهد العالمُ صعودَ معاداة السامية ذات الأسس القومية، وليس المسيحية التقليدية، وشهد كذلك ظهورَ النازية والهولوكوست الذي فكّر فيه النازيّون حلّاً نهائياً للمسألة اليهودية. إسرائيل هي الحلّ النهائيّ لهذا الحلّ النهائيّ مثلما تَقدّم القولُ، توافقَت عليه النخب الأشكنازية النافذة في الغرب و”اليشوف”، أو المهاجرين اليهود إلى فلسطين، والقوى الاستعمارية الغربية إثر الحرب العالمية الثانية التي شهدت الهولوكوست.

تقاطعت ظروفٌ متنوعةٌ لحلّ المسألة اليهودية، وهي مسألةٌ أوروبيةٌ حصراً، بهذه الصورة التي خَلقت مسألةً إسرائيليةً للفلسطينيين والعرب. أخذ الأمرُ قرناً، بل قرناً ونصف، بالنظر إلى أنّ أبكرَ النقاشات في المسألة اليهودية ظهرت بعد الثورة الفرنسية، ودارت حول ما إذا كان لليهود حقٌّ بوصفهم جماعةً أم حقوقُ المواطَنة الفردية مثل غيرهم. كانت الإبادةُ النازية، الهولوكوست، ثمّ قيامُ إسرائيل حلَّين لهذه المسألة، وقد خلقا مسألةً جديدةً متميزةً تماماً عن المسألة اليهودية الأوروبية. إنها المسألة الإسرائيلية بوصفها مسألةً عربية.

وظهرت المسألة الشرقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وقتَ ظهر أن السلطنة العثمانية هي “رجل أوروبا المريض” بتعبير قيصر روسيا نيكولاي الأول. فالمسألة الشرقية منذ البداية مسألةٌ غربيةٌ، على ما سيقول المؤرّخ البريطانيّ أرنولد توينبي لاحقاً. وبصفتِها هذه حُلّت المسألة الشرقية في نهاية الحرب العالمية الأولى بانهيار السلطنة العثمانية وتقاسمها. لكنها من وجهة نظر المعنيين، خاصّةً العرب، تحوّلت ولم تُحلّ، فلَم يسيطِرْ عليها المعنيّون فكرياً وسياسياً. صارت المسألةُ الشرقية مسألةً عربيةً، فاقَمَتها المسألةُ الإسرائيلية. وما نراه من تحلّلٍ في الإطار العربيّ هو نتاج الفشل في معالجة أيٍّ من المسألتين، العربية والإسرائيلية. التحلّل هو انهيارٌ أو تفككٌ للذات التي تعجز عن الحلّ، وربما تعجز قبل ذلك عن تصوّر المسألة. ومحاولةُ تصوّر المسألة الإسرائيلية هنا هو، بالعكس، جهدٌ لمقاومة التحلّل.  

والغرض من التذكير بالمسألتين اليهودية والشرقية إعطاء حسٍّ بأن المسائل مديدةٌ ومعقّدةٌ وأوثق صلةً ببعدٍ زمنيٍّ طويلٍ، متعالٍ على السياسة الظرفية. ويرجح أن تمتدّ عبر الأجيال الطويلة وليس السنوات والعقود القليلة. والمسألة الإسرائيلية من هذا الصنف بلا شكّ. وكي نخرج من الاكتئاب والبؤس ربما يساعد أن نفكّر فيها وفق هذا الإطار. من شأن التقدّم في تنظيم التفكير في الشؤون المعقّدة أن يساعد في الحدّ ممّا تثيره من شقاءٍ في الأنفس.  

على أنّ الكلام على إطارٍ من عقودٍ طويلة وأجيالٍ لا يُرضي بعضَ بني قومنا. وقد يسارع بعضُهم إلى رمي من يقول بمثل ذلك بالاستسلام والتطبيع وما شابه. لكن الخوف من المزايدات والمزايدين أسهَم في إيصالنا إلى أحوالٍ ناقصةٍ إلى أقصى حدٍّ، وفي ظهور صنفٍ من المُناقصين في أوساطنا، يريدون الرضى بما يتركه الأقوياء من فُتاتٍ، ولا يكفّون عن لوم غيرهم على قلّة العقل والنقص في كلّ شأن. بين المناقِصين والمزايِدين، الممانِعين والممانِعين المعكوسين، ينبغي لبعضنا أن يقولوا ما يؤمنون به دون خشيةٍ ورقابةٍ ذاتية. وتَصوّرُ المسألة الإسرائيلية سؤالاً تاريخياً مديداً محاولةٌ في هذا الاتّجاه.

———————————

تصعيد على إيقاع الوساطة بين دمشق وتل أبيب/ زاهر عمرين

01 يونيو 2025

في وقت كانت فيه عيون الصحافيين تتابع بتوجس الإشارات المتبادلة بين دمشق وتل أبيب، جاءت الغارة الجوية الإسرائيلية مساء أول من أمس الجمعة على أطراف مدينة اللاذقية لتحمل إيقاعاً مختلفاً، خرق الصمت الذي سبق الخطوة الأميركية المنتظرة، وطرح أسئلة جدية بشأن جدوى أي حوار، ولو كان غير مباشر مع إسرائيل.

قالت الحكومة السورية، على لسان وزير الإعلام، حمزة المصطفى، إن المحادثات التي جرت مع إسرائيل لم تكن مباشرة، واقتصرت على البحث في آليات العودة إلى اتفاق فك الاشتباك لعام 1974. ومع أن التصريحات جاءت حازمة في نفيها تقارير إسرائيلية وأخرى من وكالة رويترز عن محادثات أمنية مباشرة، فإن التوقيت، كالعادة، قال أشياء أكثر مما قيل رسميّاً. إذ تزامن المؤتمر الصحافي مع سقوط صواريخ إسرائيلية على منشآتٍ قالت تل أبيب إنها “تشكّل تهديداً أمنيّاً” في الساحل السوري، وبالتحديد مخازن يُزعم إنها تحوي صواريخ أرض– بحر.

لم تكن هذه المرّة الأولى، وقد لا تكون الأخيرة. فالذاكرة السورية الجديدة مثقلة بسلسلة من الغارات الإسرائيلية التي باتت جزءاً من إيقاع الحرب الباردة الدافئة في المنطقة. ومع أن الشهر الماضي (مايو/ أيار) شهد خفوتاً نسبيّاً في هذه الاعتداءات، خصوصاً بعد اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض، إلا أن هذا الهدوء يبدو حالياً أشبه باستراحة في سرديةٍ لم تُكتب نهايتها بعد.

في عمق الصورة، تتحرّك واشنطن بحذر، عبر المبعوث الأميركي الجديد إلى سورية، السفير توماس باراك، المقرّر أن يزور دولة الاحتلال الأسبوع الحالي، برفقة نائب مبعوث ترامب لشؤون الشرق الأوسط، موغان أورتاغوس، بهدف، كما تتداول الأوساط الدبلوماسية، تهيئة الأرضية لمفاوضات غير رسمية بين الطرفين السوري والإسرائيلي، قد تفضي لاحقاً إلى اتفاق “عدم اعتداء” يشكّل مدخلاً لحوار أوسع.

وقد قال باراك نفسه لصحافيين أميركيين إن “مشكلة سورية وإسرائيل قابلة للحل”، في تصريح يبدو كأنه خرج من زمن مختلف، فبينما تعبّر دمشق عن استعدادها لاستكشاف الحلول، تواجه مقاربتها واقعاً سياسياً إسرائيلياً يقوده يمين متطرّف يجد في القوة العسكرية منطقاً دائماً، لا تهزّه خطابات التهدئة، ولا تغيّره المبادرات الدبلوماسية.

المفارقة في المشهد أن تل أبيب، وبالرغم من هذا الانفتاح الأميركي، تواصل فرض شروطها عبر الجو، فلم تكن الغارة أول من أمس فقط رسالة إلى دمشق، بل كانت إشارة واضحة إلى واشنطن: نحن لا نتلقّى التعليمات بسهولة. … وهذا ما أكّده وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، حين أعلن أن الضربة استهدفت تجهيزاتٍ تهدّد أمن إسرائيل، في لهجةٍ لا تختلف كثيراً عن التي رافقت أضخم عملية نفّذها سلاح الجو الإسرائيلي في تاريخه كله، وطاولت مطاراتٍ ومنشآتٍ استراتيجية بعيد سقوط نظام الأسد.

تشهد الحدود الجنوبية لسورية، على وجه الخصوص، حركة تفاوضية موازية، بعضُها سرّي وبعضُها مكشوف، فالتسريبات عن مباحثات في أذربيجان بين تركيا وإسرائيل حول إنشاء “خط ساخن” لتفادي الاشتباك جنوب سورية، تعيد صياغة فهمنا لمفهوم “المنطقة العازلة”، خصوصاً مع إصرار تل أبيب على نزع السلاح من محافظات درعا، القنيطرة، والسويداء.

في خلفية المشهد، تقف دمشق عند تقاطعٍ صعب: رغبة في التهدئة من جهة، وشكوك عميقة في نيات الطرف الآخر من جهة ثانية. ومع كل صاروخٍ يسقط، تتراجع إمكانية الوصول إلى حل، حتى وإن بدت واشنطن متحمسة لفتح فصلٍ جديد.

ليس التصعيد أخيراً حدثاً معزولاً. إنه عودة الصوت إلى مشهد لم يغادره التوتر. وحين يهبط السفير الأميركي في تل أبيب خلال أيام، سيكون أمام أول اختبار فعلي لجدّية مقاربة ترامب الجديدة للشرق الأوسط. فالتهدئة، حتى إن بدت فكرة قابلة للنقاش، لا يمكنها أن تولد أيضاً في ظل قصفٍ مستمر، ولا أن تعيش طويلاً في غياب الاعتراف الواضح بسيادة سورية على أراضيها، ولا بمعزل عن مآلات القضية الفلسطينية.

ولكن هل يستطيع توماس باراك، الدبلوماسي الطَموح المليء بالوعود، أن يرسم حدود تهدئة حقيقية بين دمشق وتل أبيب؟ سؤال تصعب الإجابة عنه، خصوصاً أن الطائرات الإسرائيلية ومع كل طلعةٍ تنفذها فوق الأراضي السورية تزيد مهمته صعوبة وتزيد ملامح المشهد تعقيداً.

العربي الجديد

———————————-

سوريا وإسرائيل … ثمن السلام

آخر تحديث 01 يونيو 2025

لم يعد سرا أن مفاوضات غير مباشرة جرت بين سوريا وإسرائيل في دول عدة في الفترة الأخيرة، لبحث ترتيبات أمنية. لكن السر يكمن في المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه المفاوضات، خصوصا بعدما أفاد البيت الأبيض بأن الرئيس دونالد ترمب طرح على الرئيس أحمد الشرع خلال لقائهما في الرياض يوم 14 مايو/أيار “الانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية”.

——————————

إسرائيل و”سوريا الجديدة”… رياح السلام/ إبراهيم حميدي

آخر تحديث 31 مايو 2025

لم يعد سرا أن مفاوضات غير مباشرة جرت بين سوريا وإسرائيل في دول عدة في الفترة الأخيرة، لبحث ترتيبات أمنية وإحياء اتفاق فك الاشتباك لعام 1974. لكن السر يكمن في المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه المفاوضات، خصوصا بعدما أفاد البيت الأبيض بأن الرئيس دونالد ترمب طرح على الرئيس أحمد الشرع خلال لقائهما في الرياض يوم 14 مايو/أيار “الانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية”.

“سوريا وإسرائيل… ثمن السلام”، قصة غلاف “المجلة” لشهر يونيو/حزيران. نستعرض هذا الملف من جميع جوانبه. نعود بالتاريخ إلى ما قبل الاستقلال السوري في 1946، وتأسيس دولة إسرائيل في 1948، ونكشف تفاصيل مفاوضات وزيارات سرية لقادة في الحركة الصهيونية مثل موشي شاريت وحاييم وايزمان إلى دمشق، ولقاء “أبطال الاستقلال” مثل شكري القوتلي، وقادة صهاينة مثل إلياهو ساسون في فندق بلودان الكبير عام 1936، وصولا إلى مفاوضات قادة إسرائيليين والرئيس أديب الشيشكلي في 1951.

دشّن الأسد-الأب حكمه باتفاق “فك الاشتباك” مع إسرائيل في مايو/أيار 1974 بعد “حرب تشرين” 1973. ومع انهيار حليفه، الاتحاد السوفياتي، دخل برعاية أميركية في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل بعد انطلاق مؤتمر مدريد في 1991. واستضافت أميركا في منتصف التسعينات، لقاءات رئيس الأركان السوري حكمت الشهابي ونظيريه الإسرائيليين إيهود باراك وأمنون شاحاك لإقرار مبادئ الترتيبات الأمنية، وعُقد لقاء بين وزير الخارجية فاروق الشرع وباراك بصفته رئيسا للوزراء في 2000 لوضع لمسات أخيرة على اتفاق سلام تضمّن علاقات دبلوماسية واستعادة الجولان.

خلال هذه الفترة كانت المفاوضات تجري وفق مبدأ “الأرض مقابل السلام”، أي تستعيد دمشق الجولان التي خسرها الأسد عندما كان وزيرا للدفاع في 1967 مقابل علاقات دبلوماسية. وكانت آخر محاولة لقاء الأسد والرئيس بيل كلينتون في جنيف في مارس/آذار 2000.

خلال حكم بشار الأسد، جرت مفاوضات سرية، وساهمت تركيا برعاية جولات منها في 2008، حيث كان الأسد موافقا على لقاء رئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت، لكن انفجار حرب غزة أرجأ اللقاء. وتجددت الجهود في 2010، حيث توسط مبعوث أميركا فريد هوف بين الأسد ونتنياهو. هنا تغيرت المعادلة، من “الأرض مقابل السلام” إلى “الأرض مقابل التموضع الاستراتيجي”، أي استعادة الجولان مقابل تخلي الأسد عن التحالف مع إيران و”حزب الله”.

هوف يتحدث لـ”المجلة” ضمن قصة الغلاف عن الاحتمالات بعد لقاء ترمب-الشرع، بدءا من الاكتفاء بترتيبات أمنية وتأسيس خط ساخن لمنع الصدام، إلى التفاوض على اتفاق سلام. كما نقدم وجهة نظر سورية وأخرى إسرائيلية عن السلام. ونفرد مساحة لمقاربة تركيا باعتبار أنها باتت طرفا بعد سقوط النظام ووسيطا بين دمشق وتل أبيب.

بعد انهيار نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، شنت إسرائيل 700 غارة، ودمرت الأصول البرية والجوية والبحرية ومراكز الأبحاث. كما توغلت في سوريا واحتلت المنطقة العازلة بموجب اتفاق “فك الاشتباك” وقمة جبل الشيخ ومصادر المياه. وشنت غارة قرب القصر الرئاسي السوري وحذرت الحكم الجديد من استهداف الدروز السوريين.

لا شك أنه بعد خروج إيران و”حزب الله” من سوريا وإضعاف روسيا فيها، باتت تركيا وإسرائيل لاعبين رئيسين. وقامت تل أبيب بمنع أنقرة من تأسيس قواعد جوية، وشنت غارات على مواقعها المحتملة. وكاد الطرفان أن يقعا في مواجهة مباشرة لولا تدخل ترمب وتسهيل اجتماع مبعوثي أردوغان ونتنياهو في أذربيجان، لتأسيس “خط ساخن” ومنع الصدام.

تطورت اللقاءات السرية وانضم إليها الجانب السوري، وباتت قائمة المحادثات طويلة، تشمل ترتيبات في جنوب سوريا تضمن أمن إسرائيل وتضبط مخاوفها من تكرار سيناريو “هجمات 7 أكتوبر” في غزة، والتعاون ضد أي وجود إيراني ومنع تهريب السلاح إلى “حزب الله”، إضافة إلى منع تموضع خلايا جهادية في الجنوب.

لا تزال المحادثات محصورة في الإطار الأمني، مع أن مسؤولين أبدوا اهتماما بتجربة مصر وقيام الرئيس أنور السادات بكسر الحاجز النفسي وإلقاء خطاب في الكنيست عام 1977 تمهيدا لتوقيع اتفاق السلام.

هل تنتقل إسرائيل-نتنياهو و”سوريا الجديدة” من الترتيبات الأمنية إلى الجوانب السياسية التي تتعلق باتفاق السلام؟ هل يساهم رجال أعمال إسرائيليون في إعمار سوريا؟ هل تنضم دمشق إلى “الاتفاقات الإبراهيمية” أم إن قصتها مختلفة، فهي تملك أراضي محتلة منذ يونيو/حزيران 1967 وأخرى مقضومة منذ 8 ديسمبر 2024، على عكس الإمارات والبحرين والمغرب التي لا تحتل إسرائيل أراضي لأي منها؟ ثم، ما ثمن السلام بين سوريا وإسرائيل؟ هل تقدم دمشق مفاجأة جديدة بعد “معجزة” إسقاط النظام؟

المجلة

——————————

ترمب والشرع… باب سوري – إسرائيلي يُفتح/ فريدريك سي هوف

آخر تحديث 01 يونيو 2025

واشنطن- أعقب إعلانَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن إنهاء العقوبات المفروضة على سوريا لقاء جمع الرئيسين دونالد ترمب وأحمد الشرع في الرياض، ثم استعادة العلاقات بين دمشق وواشنطن. وستفتح هذه التطورات الباب أمام استقرار البلاد وإعادة إعمارها كدولة تعيش في سلام مع جيرانها، وبشراكة مع واشنطن. ولكن السؤال المطروح هو: هل سيعبر أحد هذا الباب؟

بناء على نصيحة السعودية، قرر ترمب أن يغامر بحذر ويدعم القوى السورية التي أطاحت ببشار الأسد، وشَكّلت لاحقا حكومة مؤقتة وأصدرت إعلانا دستوريا. بيد أن هذه الخطوة تنطوي على مخاطر رئيسة ثلاث.

أولا، يتكوّن النظام الذي يترأسه الشرع، إلى حد كبير، من شخصيات كانت على ارتباط سابق بتنظيم “القاعدة”. بل إن الشرع نفسه كان مدرجا على لائحة الإرهاب الأميركية. وعلى الرغم من إعلان الحكومة الجديدة التزامها بسيادة القانون ومناهضة الإرهاب، فإن سوريين تعرّضوا لانتهاكات على أيدي مجموعات مسلحة تابعة للقيادة الجديدة. فإذا ما استمرّت هذه القيادة في التواطؤ مع العنف الطائفي، أو تجاهلته، أو عجزت عن كبح جماحه، فإن ترمب سيكون عرضة لانتقادات واسعة بسبب مجازفته غير المحسوبة.

ثانيا، حتى لو كانت حكومة الشرع، كما يُصرّح، جادة في تبنّي مشروع وطني قائم على المواطنة، وملتزمة بحماية جميع السوريين من الثأر والفوضى، فإنها لا تزال بعيدة عن فرض احتكار فعلي للسلاح في البلاد. ولئن كان معظم السوريين، الذين أُنهكت غالبيتهم من حكم الأسد القمعي والناهب، يتمنون نجاح القيادة الجديدة، فإنهم يرون أنها لا تملك القدرة على ضبط المجموعات المسلحة الخارجة عن القانون. فهل هناك، سوى ترمب، من هو مستعد لأن يراهن بثقة على من سيكون الحاكم الفعلي لسوريا بعد شهر أو عام؟

ثالثا، تشنّ إسرائيل حربا مفتوحة من طرف واحد ضد سوريا ما بعد الأسد. وكما يُقال، رأس المال جبان. لقد أدّت العقوبات الأميركية، التي قد يستغرق الكونغرس أشهرا لإلغائها بالكامل بعدما خففت، إلى ردع المنح والقروض والاستثمارات المرتبطة بإعادة الإعمار. ويريد ترمب الآن إزالة هذا العائق. ولكن، هل يمكن للمستثمرين أن يضخوا أموالا ضخمة في سوريا بينما تواصل إسرائيل قصف أراضيها دون رادع، واحتلالها مناطق سورية في انتهاك لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974؟

من الواضح أن ترمب يأمل في أن يوافق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بسرعة على وقف دائم لإطلاق النار في غزة. لكن هل هو مستعد أيضا لمواجهته بشأن سوريا؟ وهل يستطيع تحمّل التبعات السياسية لذلك داخليا؟

في محاولة لتقليص هذه المخاطر، ضغط ترمب على الشرع لكي يطرد كل الجماعات الإرهابية من سوريا، ويشارك في الهزيمة الكاملة لـ”داعش”، بما في ذلك تولّي إدارة مراكز الاعتقال، والانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام” تمهيدا للسلام مع إسرائيل. وإذا كانت لدى الشرع أدوات تساعده على تحقيق بعض هذه الأهداف، فإن السلام مع إسرائيل يتطلب، قبل كل شيء، أن تتوقف الحرب الإسرائيلية على سوريا.

تستند التبريرات الإسرائيلية إلى ما يُقال إنه “درس مستفاد” من مجازر “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. قوام هذا الدرس أن كل جماعة إسلامية تظهر على حدود إسرائيل تتبنّى نهجا جهاديا. لذلك، يجب توجيه ضربة استباقية وساحقة. أما التفسيرات غير الرسمية، فتربط هذه الحرب برغبة نتنياهو في الحفاظ على صورته كقائد زمني لحرب، لتفادي المساءلة عن فشل إسرائيل يوم السابع من أكتوبر، تحت ذريعة أن زمن الحرب لا يسمح بإجراء تحقيقات أو محاسبة. وإذا فُرض عليه وقف الحرب في غزة، فبوسعه أن يشير إلى سوريا ولبنان واليمن وحتى إيران، كساحات تبرر استمرار العمليات العسكرية. وعززت إسرائيل مزاعمها بتأكيدها أن من حقها أن تدافع عن الدروز السوريين من الاضطهاد المزعوم الذي يتعرضون له من قبل الحكومة السورية الجديدة.

ومع ذلك، وبصرف النظر عن التبرير، يبدو أن إسرائيل، خلافا للولايات المتحدة، لم تُعر اهتماما حقيقيا لانهيار التهديد الإيراني– ومن خلال “حزب الله”– بعد سقوط الأسد وهروبه إلى المنفى. لقد سعت إيران وذراعها اللبنانية طويلا لفتح جبهة ثانية ضد إسرائيل انطلاقا من سوريا، وفشلت في ذلك. كان من الطبيعي أن يُقابل هذا الفشل بالترحيب في تل أبيب. لكن إسرائيل لم تكتف بإدارة الظهر للحكومة الجديدة، بل أدانت علنا الدور التركي في دعم عملية إسقاط الأسد. وتركيا، كما هو معلوم، حليف في “الناتو”، ورئيسها يحتفظ بعلاقة متينة مع ترمب. ومن الواضح أن أردوغان وترمب متفقان على ترسيخ دحر إيران في سوريا، وأن تُمنح دمشق الجديدة فرصة حقيقية للنجاح. أما نتنياهو، فيغرد خارج السرب تماما.

ثمة تقارير  تتحدث عن محادثات غير رسمية بين سوريا وإسرائيل، وقد يعطي ذلك فسحةً للتفاؤل. على أن أي تقدم سيتوقف على الدوافع الحقيقية وراء السلوك الإسرائيلي. فإذا كانت المخاوف الأمنية والاعتبارات الإنسانية، كحماية الدروز، هي الدافع الفعلي، فإن محادثات المسار الثاني قد تسفر عن خطوات بناءة، مثل إعادة تفعيل اتفاقية عام 1974، أو التفاوض على هدنة ثنائية أو اتفاقية عدم اعتداء، تمهيدا للتطبيع الكامل. ولا يعني ذلك أن تتنازل سوريا عن مطالبتها بالأراضي التي احتُلت عام 1967. لكن الحاجة الماسّة لإعادة الإعمار، في بلد دمّره نظام الأسد ونهبه، يجب أن تدفع القيادة الجديدة إلى رفض فكرة الحرب وسيلةً لتحقيق المطالب. وسيتطلب هذا الخيار تعاونا كاملا من إسرائيل. أما إذا كانت الدوافع محصورة ببقاء نتنياهو السياسي، فستحتاج إسرائيل إلى حكومة جديدة إذا أرادت اجتذاب سوريا نحو مسار تطبيع مستقبلي.

المخاطر المحيطة بانفتاح ترمب على سوريا ستتعاظم إذا تبيّن أن إعلان رفع العقوبات ولقاءه مع الشرع لا يعدوان كونَهما مبادرات رمزية. وعلى المستوى الداخلي، ينبغي للإدارة أن تضغط على الكونغرس لتفكيك منظومة العقوبات. وعلى الصعيد الدولي، عليها أن تحثّ الدول الشريكة التي شجعت هذا الانفتاح على مراقبة أداء الحكومة السورية، وتقديم ما يلزم من دعم لمساعدتها على محاربة الإرهاب وردع الفوضى. كما يجب أن تضغط على إسرائيل لاحترام اتفاقية 1974. وكان مهماً تعيين دبلوماسي أميركي رفيع لبناء العلاقات، والتأثير في مسار القرارات، ونقل صورة الوقائع.

فتح ترمب الباب، فهل سيعبره أحد؟ الجواب مرهون بمدى استعداده للبقاء منخرطا. سبق أن نظر إلى سوريا باعتبارها هامشية، لكنه يبدو اليوم أكثر إدراكا لحجمها في حسابات الحلفاء العرب الذين يسعى لكسبهم. إن اختبار الإرادة بدأ، والمأمول أن يبقى الباب مفتوحا أمام سوريا مزدهرة، تنعم بالسلام مع محيطها، وتسير بخطى متناغمة مع واشنطن في الإقليم وما بعده.

————————————

الحوار السوري – الإسرائيلي… ضرورة اللحظة وبناء الثقة/ عمار عبد الحميد

آخر تحديث 01 يونيو 2025

منذ انهيار نظام الأسد وصعود السلطة الانتقالية بقيادة “هيئة تحرير الشام” في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 2024، شنت إسرائيل ما يقارب سبعمئة غارة جوية على الأراضي السورية، رغم أن رصاصة واحدة لم تُطلق عبر الحدود من سوريا. وعلى ظاهر الأمر، تبدو إسرائيل هي الطرف المعتدي، لا سيما في ظل الدعوات العلنية التي أطلقها عدد من الوزراء الإسرائيليين لتقسيم سوريا. ويبدو حجم هذه الغارات وتواترها، في أحسن الأحوال، غير متناسب، وفي أسوئها جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى إبقاء سوريا ضعيفة ومشتتة.

غير أن الاكتفاء بإدانة السلوك الإسرائيلي يغفل المنطق الاستراتيجي الذي يحكمه. وفهم هذا المنطق لا يعني تأييده، لكنه شرط لا بد منه لأي تواصل مثمر، كما لا يمكن من دونه الدفاع بفعالية عن مصالح سوريا الوطنية على المستويين الإقليمي والدولي.

لينا جرادات لينا جرادات

من منظور إسرائيل، تتمثل أبرز التهديدات التي تواجهها في الحركات الإسلامية، سواء تمثلت في إيران وشبكة وكلائها كـ”حزب الله” و”حماس” والحوثيين، أو في الجماعات الجهادية العابرة للحدود كـ”داعش” و”القاعدة” وتفرعاتها. وفي حين تعرض القيادة السورية الانتقالية نفسها اليوم كطرف برغماتي وغير معادٍ، فإن كثيرين من صفوفها يرتبطون بسابق انتماء إلى جماعات إسلامية متشددة، ولا يزال بعضهم يتبنى مواقف أيديولوجية تسهم في زعزعة الاستقرار الإقليمي.

لقد تشكلت العقيدة الأمنية الإسرائيلية من خلال تجارب مؤلمة، في مقدمتها ما واجهته مع “حماس” في غزة. تلك التجربة عمقت قناعة راسخة لدى كثير من الإسرائيليين بعدم إمكانية الثقة في الحكومات التي تقودها حركات إسلامية، إذ يُنظر إليها على أنها لا تلبث أن تتخلى عن البرغماتية لصالح الأيديولوجيا. فامتناع حكومة ما عن العنف اليوم لا يضمن لها أن تبقى على هذا النهج غدا، حين تتغلب العقيدة على حسابات الحكم الرشيد. ومن هذا المنطلق، فإن المبادرات السورية الأخيرة نحو التهدئة، وتلميحاتها بشأن الانضمام المستقبلي إلى “اتفاقات أبراهام”، لا تُستقبل في تل أبيب بوصفها اختراقات، بل تُقابل بشكوك، باعتبارها وعودا مؤقتة تفرضها الضرورات الانتقالية، لا قناعات دائمة.

لينا جرادات لينا جرادات

ومع ذلك، لا يصح أن تُمنح الهواجس الإسرائيلية صلاحية دائمة لانتهاك السيادة السورية، ولا ينبغي أن يُستخدم ماضي سوريا المضطرب ذريعة تحول دون سعيها لبناء مستقبل أكثر استقرارا وشمولا. إن ما هو مطلوب في هذه المرحلة ليس مزيدا من الغارات أو الخطابات المتشددة، بل حوار مباشر وشفاف وواقعي.

ينبغي أن يبدأ هذا الحوار بأهداف محدودة وملموسة في الوقت نفسه. لا تشمل أي منها التطبيع، أو الانضمام إلى “اتفاقات أبراهام”. ستتطلب هذه الخطوات تنازلات صعبة- وخاصة فيما يتعلق بمرتفعات الجولان- تنازلات لا تستطيع أن تقدمها بشكل مشروع إلا حكومة مستقبلية منتخبة ديمقراطيا. وبدلا من ذلك، ينبغي أن يكون الهدف المباشر من أي حوار مقبل هو التوصل إلى اتفاق مؤقت يعالج المخاوف الأمنية الإسرائيلية بشأن مسار سوريا، مع التأكيد على أنه لا يمكن اعتبار سوريا منطقة عازلة دائمة أو ساحة معركة للأذرع المختلفة.

وقد تشمل إجراءات بناء الثقة تنسيقا ثنائيا بشأن أمن الحدود، أو عمليات مراقبة مشتركة، أو تعاونا محدودا في مشاريع إعادة الإعمار والطاقة في جنوب سوريا، بشكل مشابه للمشاركة البرغماتية التي شهدتها أجزاء من شمال سوريا الخاضعة للنفوذ التركي. والهدف هو بناء الثقة والقدرة على التنبؤ بما تحمله الأيام المقبلة، مما يمهد الطريق لمفاوضات ذات جدوى أكبر في المستقبل.

قد يزعم البعض أن مثل هذه المبادرة غير مجدية، وأن تحالفات إسرائيل العالمية، وخاصة تحالفها مع الولايات المتحدة، لا يجبرها على تقديم أي تنازلات. إلا أن هذا الافتراض قد يفتقر إلى الدقة اليوم. في الواقع، يشير قرار الرئيس دونالد ترمب الأخير برفع العقوبات عن سوريا، رغم اعتراضات القادة الإسرائيليين الحاليين على ما يبدو، إلى بعض التحول في المواقف. وسواء كان هذا القرار استراتيجياً أم ذا طابع معاملاتي، فهو يشير إلى أن واشنطن منفتحة على منح الحكومة الانتقالية السورية فرصة لإثبات نفسها.

إن تخفيف العقوبات هذا ليس موافقة غير مشروطة، بل يمثل فترة اختبار بتوقعات واضحة: إحراز تقدم في إيجاد حلول لوجود المقاتلين الأجانب، والمشاركة المسؤولة في الحرب المستمرة ضد “داعش”، واحترام التعددية وحقوق الأقليات، وأخيرا وليس آخرا علاقات بناءة مع الجيران، بما في ذلك إسرائيل. والطريقة التي تتعامل بها القيادة السورية مع هذه القضايا ستحدد استمرار تخفيف العقوبات أو تجديدها.

وتشكل هذه اللحظة فرصة نادرة ينبغي على السلطة الانتقالية بقيادة “هيئة تحرير الشام” أن تنتهزها، فعلى الرغم من كل أعبائها الأيديولوجية، فإن هذه السلطة تملك اليوم فرصة حقيقية كي تثبت أنها قادرة على الحكم بشكل مختلف، وأنها قادرة على التعلم من الماضي وقيادة سوريا على مسار جديد. وسيكون الدخول مع إسرائيل في حوار جاد ومفتوح يعترف بالحقائق الصعبة بينما يطمح إلى تسوية حقيقية، دليلا قويا على هذا التطور.

لسنا بحاجة إلى تأييد أفعال إسرائيل في غزة أو في أي مكان آخر أو إضفاء الشرعية عليها كي ندرك أن إسرائيل حقيقة جيوسياسية. فهي مهيمنة عسكريا واقتصاديا، وراسخة دبلوماسيا، ومدعومة- في أوقات مختلفة- من كافة القوى الكبرى، بما فيها روسيا والصين. ولا يعتبر تجاهل هذا الواقع استراتيجية ذكية أو صحيحة، بل مواجهته بحكمة ووعي هو الاستراتيجية الصحيحة.

لن يبنى مستقبل سوريا بالشعارات أو بالصمت والتمنيات، بل سيصاغ من خلال قرارات صعبة، تُتخذ بوعي وإدراك، وتسمو فوق كل التحديات كي تكون مصالح الشعب السوري محركها ودليلها الأوحد. وفي هذه المرحلة، يبدو أن الحوار هو السبيل الأجدى أمام سوريا.

المجلة

———————————–

4 أسباب للخلاف بين ترامب ونتنياهو بشأن سوريا/ محمود علوش

29/5/2025

رفعت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب جزءًا كبيرًا من العقوبات المفروضة على سوريا، بهدف تعزيز نهجها الجديد القائم على دعم استقرار حكم الرئيس أحمد الشرع، والاستفادة من الفرص التي تقدمها سوريا الجديدة لإحداث تحول تاريخي في العلاقات مع دمشق، وإعادة صياغة دورها في الشرق الأوسط.

من بين الجوانب التي تبدو غامضة في السياسة الأميركية تجاه سوريا حاليًا، الهوة الواضحة بينها وبين السياسة الإسرائيلية. وتتجلى هذه الهوة في مؤشرات متضاربة؛ فمن جهة، يتعارض نهج ترامب مع السياسة الإسرائيلية التي اعتبرت حتى وقت قريب الحكم الجديد في سوريا تهديدًا إستراتيجيًا، وتبنت تصورات مثل إبقاء سوريا دولة ضعيفة والدفع نحو إقامة فدراليات طائفية كمدخل لتقسيمها. ومن جهة أخرى، تُظهر إدارة ترامب اهتمامًا كبيرًا بالمصالح الإسرائيلية، وترى في التحول السوري فرصة تاريخية لتطبيع العلاقات بين سوريا وإسرائيل في المستقبل.

علاوة على ذلك، لا تقتصر هذه الهوة على النظرة إلى حكم الرئيس أحمد الشرع. ففي الوقت الذي تحرص فيه إدارة ترامب على تعزيز الانخراط التركي والسعودي في سوريا، ترى إسرائيل في الوجود التركي تهديدًا جيوسياسيًا.

إن هذا التعارض بين حليفين وثيقين يُعد أمرًا نادرًا في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكنه يصبح أكثر وضوحًا عند النظر إلى الدوافع والأسباب المتعددة التي تشكل نهج ترامب. يمكن تلخيص هذه الدوافع في أربعة محاور رئيسية:

    أولًا، يوفر التحول السوري فرصة تاريخية للولايات المتحدة لتحويل سوريا إلى حليف جديد في الشرق الأوسط، بعد عقود من تموضعها في المعسكر المناهض لها.

ومن شأن هذا التحول إعادة تعريف النفوذ الأميركي في الجغرافيا السياسية الإقليمية، إذ يشكل أيضًا قاعدة انطلاق للتأثير على دول مجاورة مثل لبنان والعراق. ومن هذا المنظور، يُشكل النهج الإسرائيلي، الذي يسعى إلى إبقاء سوريا في حالة فوضى، تهديدًا كبيرًا لهذه الفرصة.

    ثانيًا، يندرج اهتمام الرئيس دونالد ترامب بتعزيز انخراط دول المنطقة، وفي مقدمتها تركيا والسعودية، في سوريا، ضمن رغبة الولايات المتحدة في تقليص انخراطها المباشر في الشرق الأوسط، وتمكين القوى الحليفة من إدارة شؤون المنطقة بدرجة أكبر من الاستقلالية.

وبالتالي، فإن انضمام سوريا إلى تكتل الدول الحليفة لأميركا في المنطقة يعزز قوة النظام الإقليمي الجديد الذي تطمح إليه واشنطن. وعليه، فإن النهج الإسرائيلي في سوريا لا يدعم تشكيل هذا النظام الإقليمي، بل يُضيف ضغوطًا جديدة على سياسة ترامب في الشرق الأوسط.

    ثالثًا، تعتقد الولايات المتحدة أن انخراطها القوي في سوريا والانفتاح على حكم الرئيس أحمد الشرع يحدان من مخاطر انهيار الاستقرار السائد في البلاد منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد.

إن سيناريو انهيار الاستقرار قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، مثل اندلاع حرب أهلية تشكل بيئة خصبة لعودة تنظيم الدولة، مما يعقد هدف ترامب بالانسحاب العسكري من المنطقة، فضلًا عن احتمال عودة روسيا وإيران إلى سوريا، وتصاعد التوتر الجيوسياسي بين تركيا وإسرائيل إلى مواجهة عسكرية. ومن هذا المنظور، فإن النهج الإسرائيلي يزيد من هذه المخاطر بدلًا من الحد منها.

    رابعًا، يرى ترامب، الذي يولي أهمية كبيرة في ولايته الثانية لتوسيع اتفاقيات السلام بين دول المنطقة وإسرائيل، أن استقطاب سوريا إلى معسكر الأميركي في المنطقة يوفر فرصة تاريخية لتطبيع العلاقات السورية- الإسرائيلية على المدى البعيد.

ويُشكل هذا الهدف فائدة إستراتيجية كبيرة لإسرائيل. وانطلاقًا من ذلك، فإن محاولات إسرائيل زعزعة استقرار الحكم الجديد ستؤدي حتمًا إلى نتائج عكسية.

تتجلى ثلاثة مؤشرات واضحة تشير إلى تحول في النهج الإسرائيلي نتيجة سياسة ترامب، وهي:

    تراجع ملحوظ في النشاط العسكري الإسرائيلي في سوريا مؤخرًا مقارنة بالفترة التي أعقبت الإطاحة بنظام الأسد.

    تغير النبرة الإسرائيلية تجاه الحكم الجديد بعد بدء محادثات غير مباشرة معه.

    دخول إسرائيل في حوار مع تركيا لتهدئة التوترات في سوريا والتوصل إلى تفاهمات لإدارتها.

مع ذلك، فإن استقرار السياسة الإسرائيلية في سوريا على مسار واضح يظل مرهونًا بمجموعة من العوامل، أبرزها تطور العلاقات الأميركية السورية.

ويمكن النظر إلى فترة الستة أشهر التي حددتها واشنطن لرفع العقوبات عن سوريا على أنها مصممة بشكل رئيسي لاختبار الرئيس أحمد الشرع، وتهيئة الأرضية لعلاقات جديدة، وفي الوقت ذاته، فرصة للتوصل إلى تفاهمات واضحة تعالج التهديد الذي تشكله إسرائيل لسوريا.

ورغم أن هدف الرئيس دونالد ترامب بتحقيق تطبيع سوري- إسرائيلي يبدو بعيد المنال في المستقبل القريب، فإن السياق الجديد لسوريا والانخراط الأميركي القوي فيها يعملان حاليًا على تجميد التحدي الإسرائيلي لسوريا، بما يُعزز من قدرة الرئيس أحمد الشرع على التفرغ للتحديات الداخلية والاستفادة من رفع العقوبات للشروع في عملية الإنعاش الاقتصادي الذي يُشكل بوابة ضرورية للاستقرار الأمني والسياسي والمجتمعي.

كما يوفر الانخراط الأميركي فرصة لتركيا وإسرائيل للتفاهم على آليات عمل تتجاوز الحد من مخاطر التصعيد إلى التعاون في سوريا. وهذا ما يطمح إليه ترامب، الذي يسعى إلى جعل سوريا أرضية لنظام إقليمي جديد يحافظ على النفوذ الأميركي في المنطقة، مع تقليص انخراطها المباشر فيها في الوقت ذاته.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

باحث في العلاقات الدولية

الجزيرة

—————————————-

لورانس العرب هنا: توم برّاك/ بيار عقيقي

31 مايو 2025

لافتين كانا الإعلانان اللذان نشرهما موقع السفارة الأميركية في سورية، في منصة إكس، يومَي 25 و28 مايو/ أيار الحالي. لافتان إلى درجة أنه لو لم يكن كاتبهما المسؤول الأميركي الأول في دمشق توم برّاك لكان الكاتب حكماً من المنتسبين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، المؤمن بوحدة سورية والعراق والأردن وفلسطين ولبنان في بلدٍ واحد، ضمن هلال خصيب تكمله قبرص نجمةً في البحر الأبيض المتوسط. في 25 مايو، اعتبر برّاك، المتحدّر من أصول لبنانية من مدينة زحلة (شرقي لبنان)، أن “الغرب فرض خرائطَ وحدوداً مرسومةً ووصاياتٍ وحكماً أجنبياً. فقد قسّمت اتفاقية سايكس – بيكو سورية والمنطقة الأوسع لتحقيق مصالح إمبريالية، لا من أجل السلام… وقد كلّف هذا الخطأ أجيالاً كاملةً، ولن نسمح بتكراره”. أمّا في 28 مايو، فذكر خلال لقائه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أن “الأردن عنصر ثمين وحيوي للغاية في الفسيفساء السورية، بقيادة ملك كريم ووزير خارجية حكيم ولامع”. وعلى هذه الوتيرة، لم يعد مستبعداً أن يتطرّق برّاك إلى العراق ولبنان وفلسطين وقبرص، بوصفها أجزاءً من سورية، بما يوحي أن واشنطن تؤيّد أيّ خطوة “وحدوية” في المشرق العربي. بالطبع، تجاوز برّاك، وضمن منطقه، حلّ الدولتَين بين فلسطين وإسرائيل، نحو إطاحتهما معاً لمصلحة تلك البلاد الممتدّة من تخوم جبال زاغروس شرقاً وطوروس شمالاً وشبه الجزيرة العربية جنوباً والبحر المتوسط غرباً.

غير أنه في الوقت الذي يتحوّل فيه برّاك إلى “لورانس عرب” آخر، في القرن الـ21 هذه المرّة، من الضروري الإضاءة على ما يقصده، لا بجملة عابرة، بل بمصطلحاتٍ يبدو مصرّاً على تردادها، تحديداً تلك المتعلّقة بسورية التاريخية. يبدو واضحاً أن ما يقصده برّاك هو “استقلالية” القرار السوري عن إيران وحتى عن روسيا، مع تكريس التقارب مع المحيط الإقليمي، من تركيا إلى الخليج. وفي هذه الاستقلالية صيغة أميركية جديدة في المشرق العربي، تُحاكي تصوّراً لا يكون فيه لإيران دور. والاختبار السوري سيُشكّل نقطة انطلاق أميركية تحديداً، رغم قوله العكس، نحو لبنان والعراق. وهذا التصوّر الأميركي، سيدفع إيران حكماً إلى ما وراء الحدود العراقية شرقاً، باتفاقٍ نووي أو من دونه. كذلك، فإن حديثه عن وحدة سورية، يندرج حكماً في عدم تقبّل الأميركيين أي احتمال لتقسيمها بين دويلات. مع العلم أنه في العقدَين الماضيين راج لدى أصحاب نظريات المؤامرة في الشرق الأوسط أن الأميركيين يسعون إلى تقسيم الشرق الأوسط بين دويلات طائفية، فيما بدا موقف برّاك هنا لا عابراً لهذه التقسيمات، بل داعياً إلى تناغم الأكثريات والأقلّيات في سورية والجوار.

وهنا، لا يعني قوله عن سايكس ـ بيكو أن الأميركيين يسعون إلى توحيد العراق ولبنان وسورية وفلسطين وقبرص ضمن دولة سورية واحدة، بل إيجاد تكتّل إقليمي متناغم بين أقاصي شبه الجزيرة العربية ومداخل إسطنبول التركية أوروبياً. مثل هذا التكتّل يتناسب مع حاجات الشعوب في الشرق الأوسط، خصوصاً الغارقة في بؤسها، لنجدتها اقتصادياً واجتماعياً. وفي إشارته إلى أن “الغرب فرض خرائطَ وحدوداً مرسومةً…”، عبور إلى الفكرة الأميركية التي لم تنجح في حينه في محاولتها سحب النفوذ البريطاني والفرنسي من الشرق الأوسط، عبر طرح شعارات وحدوية واسعة النطاق. برّاك هنا يعلن عملياً أن الأميركيين لن يتركوا الشرق الأوسط للأوروبيين، عكس ما حصل بعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، وأن التدخّل العسكري الأميركي لتحرير الكويت من عراق ـ صدّام حسين في عام 1991، لم يكن عابراً ولا استثنائياً، بل محطّةً أساسيةً في الطريق إلى الغرب الصيني.

الآن، ما على برّاك سوى مواصلة ما يتفوّه به، لأن في ذلك تراكماً أميركياً متصاعداً، وتصالحاً مع شعوب شرق أوسطية إلى حدّ ما. لورانس العرب فكرة والفكرة لا تموت.

العربي الجديد

———————————

الهجري: متمسكون بحمل السلاح حتى تستقر الدولة

أطلق الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، تصريحات أفصح فيها عن التحركات تجاه المرحلة المقبلة، معتبرًا أن الأحداث السابقة في ريف دمشق والسويداء، دفعت لـ”التعلق بحق حماية النفس، وحمل السلاح حتى تستقر الدولة”.

الشيخ الهجري من الشخصيات الدينية البارزة في الطائفة الدرزية، وهو مناهض للحكومة السورية، في وقت يلعب فيه شيوخ آخرين دورًا تفاوضيًا مع الحكومة لحل المشكلات العالقة في المناطق ذات الغالية الدرزية، مثل شيخ عقل الطائفة يوسف جربوع، والشيخ حمود الحناوي، وقادة عسكريين محليين كليث البلعوس، ويحيى الحجار.

وقال الشيخ الهجري في بيان، نشر مساء 31 من أيار الماضي، إن “اندلاع نيران الحقد المستتر بستائر الدين، زاد تعلقنا بحق حماية أنفسنا”، مضيفًا أن “حمل السلاح وصونه وتنظيمه واجب علينا حتى تستقر الدولة”.

 وترّحم الهجري، على من وصفهم بشهداء “المجازر الإرهابية” التي أوقعتها “العصابات التكفيرية اللاإنسانية في مناطقنا بريف دمشق والسويداء”، وفي الساحل وكل المناطق السورية الثكلى، داعيًا بالشفاء للجرحى، بإشارة إلى أحداث صحنايا وجرمانا والسويداء، التي حدثت في نيسان الماضي، وأحداث الساحل في آذار الماضي.

وفي خضم ما نمر به من ويلات وحرب “دامية” لم نكن نتوقعها، ولم نتجه إليها، بحسب الهجري، قال الرئيس الروحي، “بقينا ولا زلنا على مبادئنا ثابتين لتأمن بلادنا وتحضن أبناءها بسلام ومواطنة مشتركة ينظّمها دستور مدني حديث، مبني على دولة ديمقراطية حضارية لامركزية بتوافق السوريين بكل مكوناتهم وأطيافهم دون تسلّط ولا انفراد بالسلطة”.

 و”عبر مرحلة انتقالية سادها الحزن على ما بدر خلالها من حالات فتنة طائفية تعمل على تمزيق الوحدة الإنسانية”، لم يكن يتوقع الهجري، تكرار “المجازر والويلات التي حصلت وتجدد الإرهاب بصور أعنف، وحالات “التغييب القسري لأبنائنا”.

وأشار إلى عدم رغبته في “عودة الحرب الطائفية أو التخوينية الغريبة عن معتقداتنا وتربيتنا التي اعتادت أن تحقن دماء السوريين وتحترمهم”، مستهجنًا “انفجار التحريض الطائفي المقيت”.

 وتمنى الهجري من بعض وسائط الإعلام العربية المعروفة، أن “تحمل مصداقيتها وأن تتمتع بحيادها لتكون محل الأمانة الموكلة إليها، بحسب قوله، معتبرًا أنها ساهمت بشكل كبير وعبر برامجها بنقل الفتن بلا مصداقية ونقلت الأخبار مجتزئة، وطلب من تلك الوسائل أن “يعودوا إلى حسن المبادئ والحقيقة لأن التجييش والتحريف الإعلامي رصاص حقيقي يحرك أشباح الموت على الواقع”.

وختم الهجري بيانه بالقول “جاء العيد (الأضحى) ولا تزال دماء الأبرياء منثورة على أراضي سورية كلها هنا وهناك، فأفراح التحرير كفنها الإرهاب بالمجازر والترهيب والتحريض الطائفي، ولا تزال صرخة الشعب مدوّية لينال حريته ويقطف مكاسب ثورته ويداوي جراحه ويدفن شهداءه وله منا جزيل التقدير والعرفان”.

الحكومة: هناك فرصة في الأفق

فيما يخص الوضع في السويداء، قال وزير الإعلام، حمزة المصطفى في مؤتمر صحفي في 30 من أيار، إن “الحكومة حاولت، على مدى الأشهر الماضية، الوصول إلى صيغ وتفاهمات مع القوى الموجودة في السويداء، ووصلت الجهود إلى درجة أن الحكومة قبلت تقريبًا كل مطالب هذه القوى”.

لكن بعض القوى تراجعت عن مطالبها التي قدمتها، أو هي لا تستطيع تنفيذها، بحسب المصطفى، وحصلت مجموعة من التصرفات التي لا تمت إلى وطنية أهالي محافظة السويداء، ولعل أبرزها ما جرى مع السيد المحافظ”.

وأضاف وزير الإعلام: “التقى السيد الرئيس وفدًا من محافظة السويداء، وكانت هناك مطالبات عديدة بضرورة حل المسألة، لأن حالة الاستعصاء وقلة الخدمات المقدمة، إضافة إلى بعض الظواهر المنفلتة الناتجة عن انتشار السلاح وما شابه، تشكل تحديات أساسية وتلقي بثقلها على كاهل المواطن.

وأكد الشرع للمجتمعين بحسب وزير الإعلام على ضرورة أن “يلفظ (يتخلص) عقلاء السويداء والقوى الوطنية بعض الأصوات التي تحاول تبني خطاب استجدائي يراهن على تدخل خارجي، وخاصة بعد رفع العقوبات. هناك فرص تلوح في الأفق، والجميع مدعو إلى الالتفاف حول الوطن السوري، فلا خيار لنا سوى النجاح، وهذه مهمة الجميع”.

توتر في السويداء وحرس الوطني

وتأتي تصريحات الهجري في وقت تشهد فيه محافظة السويداء، توترات، وأحداث متلاحقة، آخرها كان الاعتداء المسلح على محافظ السويداء، مصطفى بكور، في 21 من أيار الماضي، والذي تبعه فيما طلب البكور بالاستقالة.

وقبل الاعتداء على المحافظ بيوم، خرج الأمين العام لحزب “اللواء السوري”، مالك أبو الخير، والمقيم في فرنسا ليعلن إنشاء فصيل يدعى الحرس “الحرس الوطني” في السويداء مهمته قيادة المشهد الأمني والعسكري في السويداء، وفي خطوة يتم العمل عليها ويتم توجيه دعوات انتساب للفصائل في السويداء”.

ويجري تداول معلومات أن الفصيل الذي أسسه نجل شيخ طائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، إلا أن عنب بلدي، لم تعثر على ما يؤكد هذه المعلومة.

وأضاف أبو الخير، أن تشكيل “الحرس الوطني”، هو خيار الطائفة الدرزية ككل كردة فعل طبيعية على ماحدث في جرمانا وصحنايا والسويداء مؤخرًا،  وما ترتب عليها من انتهاكات دون محاسبة حقيقة معتبرًا أن هناك فقدان ثقة في الحكومة السورية والفصائل غير منضبطة”.

———————————-

الشرع أمام وفد السويداء: حصتكم من التنمية مهمة لكنها غير ممكنة في ظل الفوضى

31 مايو 2025

زار وفد من السويداء، في 29 أيار/مايو الجاري، القصر الرئاسي في العاصمة دمشق، وأجرى لقاء مطولًا مع الرئيس أحمد الشرع، وذلك لبحث سبل النهوض بواقع محافظة السويداء.

ضم الوفد عددًا من المثقفين والسياسيين والوجهاء الاجتماعيين والدينيين، على رأسهم إمام جامع مدينة شهبا، الشيخ سليمان الهوارين، إضافةً إلى ممثلين عن شيخي عقل طائفة الموحدين، يوسف جربوع وحمود الحناوي، وأعيان من الطائفة المسيحية، ومحافظ السويداء مصطفى البكور.

وحصل “الترا سوريا” على نص الرسالة التي قدمها الوفد إلى الرئيس الشرع، وحملت ما يشبه خارطة الطريق لـ”إصلاح ذات البين”، وجاء في الرسالة: “تبنى الأوطان بالحوار والتوافق الوطني العريض على العدالة والاستقرار والأمان وهذا عمل تشاركي سبقتنا عليه تجارب التاريخ يجب أن نستفيد منها”.

وقالت الرسالة: “نحن أبناء السويداء من كافة مكوناتها الدينية، على تنوعها، والسياسية والأهلية، أكدنا ونؤكد على ثوابتنا الوطنية العامة”، وقد تمثلت هذه الثوابت، وفق الرسالة، بعدد من النقاط، منها أن السويداء جزء أصيل من سوريا “ونحن متمسكون بوحدة الأرض والهوية الوطنية ونبذ المشاريع الانفصالية والاستقواء بالخارج”. والرفض التام لخطاب الكراهية والتحريض الطائفي المقيت الذي يهدد النسيج الوطني العام، مع التأكيد على ضرورة إصدار قانون يجرم ويحاسب مرتكبيه وفقًا للقانون.

وكذلك التأكيد على سيادة القانون كمظلة وطنية سورية يتساوى أمامها الجميع دون تمييز عرقي أو ديني أو ثقافي “وتزيل آثار استبداد وأفعال النظام المجرم بكل أشكاله المادية والمعنوية والثقافية وذلك بالعمل على الشراكة الوطنية السورية العامة وصولًا لدولة الحق والقانون، دولة لكل السوريين”.

    طالب الشرع أهالي السويداء بإنهاء حالة الفوضى والتعامل مع الفصائل المنفلتة التي تسبب القلق والفوضى

وتابعت الرسالة: “إننا وإذ نتابع باهتمام وقلق ومسؤولية مجريات الفترة الماضية، سواء المتغيرات الدولية أو العقبات الداخلية، وإذ كانت قراءتنا السياسية قد بشرت برفع العقوبات عن سوريا وشعبنا الكريم، لكننا بذات الوقت نعمل على أسلم الطرق للعمل المشترك لحل المشاكل التي طفت على السطح في الآونة الأخيرة، والتي أصابتنا بوجداننا الوطني الذي وقفنا لأجله منذ 2011 وتابعناه في ساحات الكرامة لعام ونصف متواصلة حتى سقوط النظام البائد”.

واقترحت الرسالة تفعيل خطة زمنية وفق ثلاثة مستويات هي:

المستوى الأول، ويتمثل بتحقيق الأمان وسيادة القانون، وذلك من خلال:

    تثبيت وتمكين الضابطة العدلية والشرطية ماديًا ولوجستيًا بمرجعية وزارة الداخلية وفتح بوابات الانتساب إليها.

    العمل على “تنسيق الوحدة العسكرية من أبناء السويداء وفق التفاهمات السابقة مع وزارة الدفاع تدريجيًا والاستعانة بخبرة العسكريين السابقين وأبناء الجبل في فصائله الثورية التي كانت ضد النظام السابق”.

    تأمين حماية المحافظة من اعتداء الخارجين عن القانون وتأمين طريق دمشق السويداء.

    تشكيل لجنة تقصي حقائق في الأحداث السابقة في السويداء وصحنايا والإفراج عن المعتقلين ضمن القانون.

أما المستوى الثاني فيتعلق بالشأن الإداري والخدمي، من تأمين الكهرباء وحماية خطوطها وإصلاح آبار المياه واستمرار تدفق خطوط التجارة من وإلى المحافظة. وإعادة هيكلة الدوائر الرسمية ومؤسسات الدولة إداريًا “والاستفادة من خبرات أبناء المحافظة الأكاديمية والتعليمية بكافة المجالات سواء داخل المحافظة أو على المستوى الوطني العام”. وحل المشاكل المتعلقة برواتب الموظفين والمتعاقدين والعمل على زيادتها. إضافة إلى العمل على خطط اقتصادية تنموية للمحافظة تستقطب كافة فعالياتها، خاصة العاطلين عن العمل.

ويتعلق المستوى الثالث بموضوع الحوار الوطني، إذ أكدت الرسالة على فتح الحوار السوري حول القضايا الوطنية العامة “سواء المتعلقة بالإعلان الدستوري أو القضايا الثقافية وشؤون الدولة حتى وإن كانت خلافية”، والعمل على إجراء المصالحات المحلية بين درعا والسويداء والعشائر.

وقال العقيد المتقاعد يوسف قطيش، وهو أحد أعضاء الوفد الذي زار دمشق، لـ”الترا سوريا” إن “اللقاء مع الرئيس الشرع كان جيدًا واستمر لنحو ساعة ونصف بعد أن كان مقررًا له 45 دقيقة”.

وأضاف قطيش أن الرئيس “تحدث عن دور السويداء التاريخي وحاضرها الوطني الممثل في ساحة الكرامة، وأن الدولة السورية تسعى للوصول إلى قواسم مشتركة مع أهالي السويداء وتبديد حالة عدم الثقة الحاصلة مؤخرًا”.

كما طالب الشرع، وفق قطيش، أهالي السويداء بإنهاء حالة الفوضى والتعامل مع الفصائل المنفلتة التي تسبب القلق والفوضى “الرئيس قالها بوضوح: أنا عشت تجربة الفصائل في مرحلة ما من حياتي، وأعلمُ حالة الفساد والقلق التي تسببها للناس”.

ونقل قطيش عن الرئيس قوله إن “السويداء لها حصة مهمة من خطط التنمية ومشاريع البنية الأساسية التي تخطط لها الدولة، لكن لا يمكن تحقيق ذلك في ظل حالة الفوضى والفلتان الأمني السائد في المحافظة”.

وأضاف قطيش، نقلًا عن الرئيس الشرع، أن “الدولة مقبلة على نهضة تنموية كبيرة ولا يمكن إضاعة الوقت في السويداء، بينما باقي المحافظات تتهيّأ للمشاركة في إعادة البناء، ويكفي ما عانته المحافظة من تهميش النظام البائد”.

وتحدث الرئيس أمام وفد السويداء عن أحداث الساحل، ووفق قطيش، قال إنها “كانت قائمة على رد الفعل الذي خرج عن السيطرة، بعد أن تم قتل أكثر من 200 عنصر من الأمن العام، مما أثار رد فعل عصبي من الفصائل التي قُتل أفراد منها، ولم يكن مخططًا لها أبدًا، بل كان الأمن العام يبني علاقات طيبة مع أهل الساحل وتفاجأ بالهجوم المنظم الذي خلق تلك الفوضى الأمنية”.

وأكد الشرع أمام الوفد أن الدولة السورية “لن تقبل ببقاء أي منطقة في سوريا الجديدة خارج سيطرة الدولة، وهي إرادة كل السوريين، كما أن المجتمع المحلي والإقليمي والدولي داعم لنا في هذه الخطوة ونملك تفويضًا بهذا الخصوص”.

كما تطرق الشرع في حديثه للعلاقة مع إسرائيل حيث أكد أن “علاقاتنا مع إسرائيل يتم بناؤها على أساس دولة تتعامل مع دولة، وأي كلام حول تعامل إسرائيل مع مجموعات محلية خارجة عن سلطة الدولة هو وهم وسذاجة سياسية”.

كما أكد الشرع، بحسب قول قطيش، على السعي للسيطرة على العصابات الإرهابية والمتطرفة والخارجة عن القانون والتي لا تناسب هذه المرحلة الحساسة في إعادة بناء الدولة السورية. وأن “العالم ينظر إلينا وإلى أفعالنا”، وأنه سيتم “تأسيس سوريا الجديدة على أُسس ومناهج وقوانين حديثة تناسب العصر وقواعد الاستثمار، وأول ذلك الاستقرار الاجتماعي الذي يؤدي إلى استقرار أمني، وبدون تحقيق ذلك نكون قد فشلنا والجميع خاسر”.

ومن جانبه قال د. جمال الشوفي، عضو آخر في الوفد، لـ”الترا سوريا”، إن “الرئيس الشرع طالب العقلاء في محافظة السويداء بالتعاون لنبذ خطاب الفتنة وأكد على تجريم الخطاب الطائفي من كل الأطراف، وأن الرئاسة السورية وأهالي السويداء تنبذ هذا الخطاب جملةً وتفصيلًا، ويجب على الوجهاء وقادة الفصائل في السويداء تطبيق التفاهمات السابقة وتفعيل القانون والضابطة العدلية تحت سلطة الدولة السورية قبل أن تصاب السويداء بالعزلة التي لا يريدها أحد”.

———————————–

========================================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى