لورانس العرب هنا: توم برّاك/ بيار عقيقي

31 مايو 2025
لافتين كانا الإعلانان اللذان نشرهما موقع السفارة الأميركية في سورية، في منصة إكس، يومَي 25 و28 مايو/ أيار الحالي. لافتان إلى درجة أنه لو لم يكن كاتبهما المسؤول الأميركي الأول في دمشق توم برّاك لكان الكاتب حكماً من المنتسبين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، المؤمن بوحدة سورية والعراق والأردن وفلسطين ولبنان في بلدٍ واحد، ضمن هلال خصيب تكمله قبرص نجمةً في البحر الأبيض المتوسط. في 25 مايو، اعتبر برّاك، المتحدّر من أصول لبنانية من مدينة زحلة (شرقي لبنان)، أن “الغرب فرض خرائطَ وحدوداً مرسومةً ووصاياتٍ وحكماً أجنبياً. فقد قسّمت اتفاقية سايكس – بيكو سورية والمنطقة الأوسع لتحقيق مصالح إمبريالية، لا من أجل السلام… وقد كلّف هذا الخطأ أجيالاً كاملةً، ولن نسمح بتكراره”. أمّا في 28 مايو، فذكر خلال لقائه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أن “الأردن عنصر ثمين وحيوي للغاية في الفسيفساء السورية، بقيادة ملك كريم ووزير خارجية حكيم ولامع”. وعلى هذه الوتيرة، لم يعد مستبعداً أن يتطرّق برّاك إلى العراق ولبنان وفلسطين وقبرص، بوصفها أجزاءً من سورية، بما يوحي أن واشنطن تؤيّد أيّ خطوة “وحدوية” في المشرق العربي. بالطبع، تجاوز برّاك، وضمن منطقه، حلّ الدولتَين بين فلسطين وإسرائيل، نحو إطاحتهما معاً لمصلحة تلك البلاد الممتدّة من تخوم جبال زاغروس شرقاً وطوروس شمالاً وشبه الجزيرة العربية جنوباً والبحر المتوسط غرباً.
غير أنه في الوقت الذي يتحوّل فيه برّاك إلى “لورانس عرب” آخر، في القرن الـ21 هذه المرّة، من الضروري الإضاءة على ما يقصده، لا بجملة عابرة، بل بمصطلحاتٍ يبدو مصرّاً على تردادها، تحديداً تلك المتعلّقة بسورية التاريخية. يبدو واضحاً أن ما يقصده برّاك هو “استقلالية” القرار السوري عن إيران وحتى عن روسيا، مع تكريس التقارب مع المحيط الإقليمي، من تركيا إلى الخليج. وفي هذه الاستقلالية صيغة أميركية جديدة في المشرق العربي، تُحاكي تصوّراً لا يكون فيه لإيران دور. والاختبار السوري سيُشكّل نقطة انطلاق أميركية تحديداً، رغم قوله العكس، نحو لبنان والعراق. وهذا التصوّر الأميركي، سيدفع إيران حكماً إلى ما وراء الحدود العراقية شرقاً، باتفاقٍ نووي أو من دونه. كذلك، فإن حديثه عن وحدة سورية، يندرج حكماً في عدم تقبّل الأميركيين أي احتمال لتقسيمها بين دويلات. مع العلم أنه في العقدَين الماضيين راج لدى أصحاب نظريات المؤامرة في الشرق الأوسط أن الأميركيين يسعون إلى تقسيم الشرق الأوسط بين دويلات طائفية، فيما بدا موقف برّاك هنا لا عابراً لهذه التقسيمات، بل داعياً إلى تناغم الأكثريات والأقلّيات في سورية والجوار.
وهنا، لا يعني قوله عن سايكس ـ بيكو أن الأميركيين يسعون إلى توحيد العراق ولبنان وسورية وفلسطين وقبرص ضمن دولة سورية واحدة، بل إيجاد تكتّل إقليمي متناغم بين أقاصي شبه الجزيرة العربية ومداخل إسطنبول التركية أوروبياً. مثل هذا التكتّل يتناسب مع حاجات الشعوب في الشرق الأوسط، خصوصاً الغارقة في بؤسها، لنجدتها اقتصادياً واجتماعياً. وفي إشارته إلى أن “الغرب فرض خرائطَ وحدوداً مرسومةً…”، عبور إلى الفكرة الأميركية التي لم تنجح في حينه في محاولتها سحب النفوذ البريطاني والفرنسي من الشرق الأوسط، عبر طرح شعارات وحدوية واسعة النطاق. برّاك هنا يعلن عملياً أن الأميركيين لن يتركوا الشرق الأوسط للأوروبيين، عكس ما حصل بعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، وأن التدخّل العسكري الأميركي لتحرير الكويت من عراق ـ صدّام حسين في عام 1991، لم يكن عابراً ولا استثنائياً، بل محطّةً أساسيةً في الطريق إلى الغرب الصيني.
الآن، ما على برّاك سوى مواصلة ما يتفوّه به، لأن في ذلك تراكماً أميركياً متصاعداً، وتصالحاً مع شعوب شرق أوسطية إلى حدّ ما. لورانس العرب فكرة والفكرة لا تموت.
العربي الجديد