“ماء العروس” لخليل صويلح: مايسترو الجنازات يقف عارياً/ شاكر الأنباري

السبت 2025/05/31
قرأت الرواية منتصف شباط المنصرم، وكنت أقيم في أشرفية صحنايا الواقعة بريف دمشق، وصودف أن كان الطقس بارداً بصورة غير مألوفة لشتاء دمشقي. وكون الكهرباء غائبة، وثمة صعوبة للحصول على غاز للتدفئة، قضيت أوقات قراءاتي تحت البطانية. وفي الرواية يقع الكاتب على “فلاشة” في كومبيوتره الشخصي فيما كان يبحث عن صور شخصية قديمة يعيد طباعتها لدى المصور كي يجدد جواز سفره. وجد الملف المنسي الذي يحمل اسم “مستودع الأنقاض”، وقد هيّأه الكاتب قبل سنوات، وجمع فيه قصاصات أفكار، وصوراً عتيقة، وذكريات، وأغلفة كتب، ويوميات، وحِكَم لكتّاب عالميين، من أجل تهيئة خلفية مفصلة لرواية جديدة.
وكان أبرز الشخصيات المطمورة بين تلك الأنقاض، اسماعيل ساري البشير، ابن الجزيرة الفراتية شرقي سوريا، والذي سيتخذ منه الكاتب الخيط الأبرز للمّ شمل روايته تحت عنوان “ماء العروس”.
وماء العروس، في الطقوس الفلاحية، هو إقدام الأطفال على الغوص عميقاً في النهر لإطفاء ظمئهم، لأن الماء عادة ما يكون نقياً صافياً قبل تلوث الأنهار، والآبار، والبحيرات. وهو في الوقت ذاته استعارة يضعها الكاتب نصب عينيه لقراءة ما تحت السطوح والواجهات، وتلك تقنية يلاحظها القارئ في فصول الرواية كلها تقريباً، أي قراءة ما تحت السطح البراق، المخادع، عند درجة معينة.

من ذلك “الفلاش ميموري”، ينسج خليل صويلح روايته، عابراً في كثير من الأحيان عتبة الواقع إلى الخيال بخفة غراب صحراوي يترصد فرائسه. ويتم العبور من الواقع إلى الخيال عادة عبر الفانتازيا، والخيال المجنّح، والتجريب السردي، مرقوشاً على الورق بريشة سوريالية تذكّر بالجاحظ وماركيز وزكريا تامر وحكايات ألف ليلة وليلة.
في بيت قريبي ذاك، في أشرفية صحنايا، كنت أقرأ في جو زمهريري، وقلق من تحولات الوضع غير الواضح، واندمجت في القراءة لسببين أكيدين في مخيلتي. الأول أن بطل خليل صويلح نشأ في الجزيرة الفراتية، مثلي، ومثل كاتب الرواية ذاته، وكان يعيش في أجواء مألوفة لديّ، كعادات البدو والفلاحين وأساطيرهم، ونمط حياتهم، وتحولاتهم من البداوة إلى الفلاحة، لفترة زمنية تقع في منتصف القرن العشرين تقريباً، ولهجة تكاد تتشابه مع لهجتنا في القرية حيث ولدت، وعشت طفولتي وصباي على شواطئ الفرات. والسبب الثاني هو أن بطل الرواية ينتقل بقفزة حضارية عملاقة من شواطئ الخابور إلى دمشق، ودمشق كانت تجربة واقعية وأليفة لي خلال سنوات طويلة، وتحت مختلف الظروف. خبرتها بشوارعها، وساحاتها، وغرفها المستأجرة، وحاناتها، ومثقفيها، وأكاد أتعرف لى بعضهم في أحداث الرواية، وإضافة إلى إيقاعها اليومي قبل حربها الأخيرة مع نفسها. ودفعني ذلك كله للاستغراق في مغامرة المؤلف وهو يستجمع أنقاض أرشيفه من أجل نحت رواية جديدة سيسميها “ماء العروس”.
عمد الكاتب إلى ربط وقائع حية قديمة أو معاصرة بثقافة الراوي، ما أضاء تلك الوقائع برؤية واعية ترسم هوية وفهماً يضيفان لوناً طيفياً فيه الكثير من التفرد في قراءة تاريخ سوريا. منذ موت طارق بن زياد متسولاً في زقاق دمشقي عتيق جراء غضب الخليفة الأموي حينها، وحتى انهيار الحياة اليومية في حارات دمشق بسبب الثورة، والعنف، والتطرف، والتسلط الفاشي، والتدخل الخارجي، والتابوت المظلم الذي وجدت نفسها فيه سجينة كأيّ من نساء ألف ليلة وليلة الحالمات بالخلاص من قلعة الجنيّ في صحراء قاحلة.
وكان لاحترافية الكاتب في ربط كل تلك الشخصيات، والأحداث، وقدرته على الانتقال السريع بين الماضي والحاضر، وتقمص شخصيات عتيقة أو اختلاقها أو توهمها، أن يقود السرد إلى فرادته وتجريبيته. وقد اندمج الراوي في تلك اللعبة الذهنية هرباً من حياة باردة، يائسة، موحشة، وضعته دمشق في فرنها، بلا ضوء في نهاية النفق، ومن دون دليل سوى أسلافه الموتى. أسلافه المثقفون مثل الجاحظ وأبي العلاء المعري والمتنبي وبازوليني وماركس. أو أسلافه الواقعيون الموتى الذين ترددت قصصهم طوال عقود على ضفاف نهر الخابور وخط الحدود بين العراق وسوريا.
حاضر الراوي بائس مُزرٍ: طائرات حربية وانفجارات وشح للماء وانقطاع للكهرباء وعوق في الانترنت وإشاعات سامة وشوارع موحشة وحرائق لأحياء دمشق القديمة وتغيير ديموغرافي وإزالة غابات. وذلك كله دفع الراوي أن ينتهي متشظياً سابحاً بوجل بين الماضي والحاضر. بنوع من الاختلال الوجودي يمكن أن يرسم لوحة مأساوية لفرد عادي لم يجد جواباً لسبب تعاسته حتى اللحظة.
ولا يمكن المرور بلغة الرواية من دون التوقف عند السلاسة في ترتيب الحدث، والانتقالات السردية، وقفزات الذهن بين الراوي وشخصياته، خصوصاً شخصية إسماعيل ساري البشير، الصحافي وكاتب القصة، واذي لاحقه الكاتب منذ ولادته في خيمة شَعر، حتى ضياعه في حارات دمشق. وعبر تجريب روائي بارع، ونص تفاعلي بين الواقع والخيال، المدوّن والشفاهي، نجح الكاتب في اجتياز المواصفات التقليدية للرواية من حبكة، إلى حوار ووصف، وتنامٍ للأحداث، والحفر في التاريخ كما قرأنا في فصل البحث عن شرايين مدونة ألف ليلة وليلة. ولا تفارق ذلك النكهة الصحافية، فيلاحظ قارئ النص خلوه من ثغرات في الجمل أو ركاكة في البناء، ما جعل السلاسة واضحة لدى المتابعة.
وتُلاحظ كذلك قوة النص في الضربات البارعة عند الانتقال بين الماضي والحاضر، والتزاوج بين الطريقة المونولوجية في السرد حين تأتي على لسان الراوي، والطريقة الموضوعية إذا ما لاحق الكاتب مسيرة بطله اسماعيل ساري البشير، وأقرانه. وهنا تنزاح الحدود بين الكاتب وراويه، المتخيل والمحسوس المجسّد، وهذا ما يعطي الانطباع باحترافية صحافية، وروائية، في التقاط الفصول وشحن المشاهد وهي ترقص على طاولة الثقافي واليومي والسيروي والقص المحايد.
وكانت اللغة الشاعرية رافعة للتجريب والسلاسة، وقفزات الزمن في الصفحات، وهي لغة موحية، مرمّزة، استعارية تفاجئ الذهن. وجاءت الشاعرية أيضاً من براعة الكاتب في نحت الاستعارات للكلمات والجُمل، وبشكل غير مألوف يستوقف القارئ ويباغت ذهنه بعض الأحيان، مما أوحى بذكاء الكاتب في اللعب مع الكلمات، والعبارات، والأفكار.
المدن