سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الثقافة

نظريات العلاقات الدولية المغيبة عن سوريا/ محمد السكري

2025.05.31

ما زالت المدارس التقليدية في العلاقات الدولية، تهيمن على العقل العربي عند محاولة تحليل البنى الدولية والإقليمية، وتنحصر عملية التحليل لأي فعل أو سلوك سياسي ضمن اعتقادات تقليدية شبه ثابتة، ولا تخرج لدى تحليل النظام الدولي عن مدى محدد مؤطّر في المدرستين التقليديتين الواقعية أو المثالية.

هذا الجمود النظري يفرض نفسه على مجمل تحليل السلوك السياسي والفعل الدولي، إذ ينصبّ التركيز على نظريات يُعتقد أنّها لم تعد جزءًا من السياق الدولي الجديد، وذلك في ظل المتغيرات الكثيرة التي رافقت العالم منذ نهاية الحرب الباردة والتي مزّقت التعددية القطبية، ومن ثم عاودت بالظهور من المدخل السوري، علماً أنّ هذا الملف يتطلب اعتماد منهجيات شديدة التركيب من أجل فهم ديناميته لا سيما نظريات ما بعد الدولة أو المتعددة الجوانب التي تساعد على تفكيك الملف وفهم تعقيداته الكثيرة.

تتمثل إحدى الإشكاليات المركزية في أنّ كثيراً من القراءات العربية للعلاقات الدولية ما تزال تنطلق من محطات تاريخية كبرى كالحرب العالمية الثانية أو الحرب الباردة، وما رافقهما من انقسامات قطبية وهذا مقبول بنائياً؛ لكن ليس في السياق الحديث. فلا تساعد تلك النظريات على تفكيك ديناميات التغيير التي عصّفت بالعالم عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وصعود أنماط جديدة من الفاعلية السياسية والتدخل الإقليمي والدولي، ويتجلى هذا بوضوح عند قراءة الملف السوري.

يعاني سورياً، علم العلاقات الدولية من ضعف وفوضى شديدة، في التفاعل مع واقعه ونظرياته الحديثة، وذلك يعود لأسباب كثيرة منها؛ تأخر الاهتمام بالعلوم السياسة، إلا عقب اندلاع الثورة السورية؛ ومع ذلك هذا الاهتمام تجسد في اجتهادات فردية في الشخصيات التي درست خارج سورية، أكثر من الاهتمام المؤسساتي، مع وجود بعض المحاولات في شمال غربي سورية “المناطق المحررة خلال الثورة”، فعلى سبيل المثال: تأسست كلية العلوم السياسية في سوريا العام ١٩٧٧ وبقيت محصورة ضمن كوادر نظام الأسد.

ويندر في سوريا أهل الاختصاص في علم العلاقات الدولية، في حين تكثر العقلية المشيخية في التفسيرات إذ تنطلق من مقاربات وعظية لا معرفية أو واقعية وتنأى عن الطرح العلمي، أو تتماهى مع تفسيرات تسعى للحفاظ على بنية الاستبداد والعنف، مما يجعله من العلوم المظلومة في سوريا.

هذا ويعتمد كثير من الأكاديميين المحليين المختصين في هذا الحقل على نظريات باتت “كلاسيكية” في محاكاة الواقع الجديد للعلاقات الدولية، سواء على مستوى التلقي الأكاديمي أو على مستوى الإنتاج التحليلي؛ وهذا ما سبب أزمة حقيقية في تتبع المتغيرات داخل الملف السوري خلال الثورة السورية؛ مع أن الثورة حفّزت القوى المحلية والأكاديمية للتفاعل مع تدويل الملف السوري من أجل تلمس نظريات العلاقات الدولية من مدخل الملف نفسه.

في ذات التوقيت، أدى استمرار تحليل العلاقات الدولية وفهم الملف السوري بناءً على محورين (غربي-شرقي) لعدم التوصل إلى نتائج عملية وعلمية لمتغيرات الشرق الأوسط لأنّ النظريات القديمة لا تقدّم رؤى وتفسيرات كافية متفاعلة مع الحدث وسياقه؛ خاصة القطبية في الواقعية التقليدية، والأكثر خطورةً أن التفاعل السوري السياسي والأكاديمي ضمن العلاقات الدولية ما زال محكوماً بثنائيات مطلقة “غرب-شرق” أو الاعتقاد أن النظام الدولي هو نظام تراتبي “هيراريكي”.

هذا الفهم المتأخر يعرقل إمكانية تطوير مقاربة أكثر واقعية، بل وأكثر مرونة، من أجل فهم التحولات البنيوية التي شهدها النظام الدولي، ومنها تفكك القطبية وصعود فاعلين من غير الدول، وتحوّلات مفهوم “agency” أي فاعلية الأفراد والجماعات والمؤسسات في السياسة الدولية، ما يؤدي إلى وجود فجوة كبيرة بين التفسير السياسي والفاعلية السياسية في سوريا.

في الواقع، لقد طرأ على العلم الكثير من التغيرات التي تجاوزت النظريات التقليدية وحدودها التفسيرية، فحتّى النظرية الواقعية لم تعد على حالها، أو على صورتها الكلاسيكية والأبستمولوجية، بل تطورت لمقاربات أكثر شمولاً كحال الواقعية البنيوية كما ظهرت نظريات جديدة كالبنائية وما بعدها، مقدمةً أدوات تحليلية طوّرت قضايا الأمن والهُوية والخطاب السياسي؛ وفيها من روح نقد العقل المحض حول التصورات المسبقة التي بنيت عليها النظريات.

وفي هذا السياق، عالجت المدرسة البريطانية في العلاقات الدولية، مطلع القرن العشرين فهم جديد لنظريات العلاقات الدولية، كواحدة من أبرز المنعطفات لتجاوز الثنائيات الجامدة، حيث قدّم روادها، ولا سيما إدوارد هالت كار EDWARD HALLETT CARR، مقاربة نقدية للمثالية والواقعية، ولا سيما في سياق سجال المثالية والواقعية الذي سيطر على واقع العلاقات الدولية عقب الحرب العالمية الأولى.

نبّه إدوار من خطورة الانزلاق في الواقعية الساخرة، التي تنفي أي إمكانية للتعاون الدولية أو تحقيق العدالة والمشاركة، وذلك في كتابه الشهير “الأزمة العشرينية”، وأشار إلى أنّ رفض المثالية بالكامل؛ كما ظهر عقب الحرب العالمية الأولى، لا يقل خطورةً عن التمسك بها بصورة حالمة، ودعا إلى “واقعية أخلاقية” تتفهم المصالح لكنها لا تُقصي القيم، حيث مهدت نظريته لتعاون على المستوى الإقليم في الاتحاد الأوربي 1955 عندما شدد على ضرورة تجاوز مفهوم الهوية إلى الهويات السياسية المتعددة multinational.

وقد جاء كتابه كردة فعل على الصدمة التي عاصرها العالم عقب مرحلة طويلة من الأنسنة والتنوير بمخرج الحرب العالمية الأولى والذي شكّل “صدمة حضارية” دفع لإعادة النظر بالمثالية لا سيما قطبها الكانطي، والعودة إلى البسماركية أو ما يسمّى “توازن بسمارك” والقبول بمبدأ الواقعية كمحرك للدولة وفق لغة المصالح الديكارتي والهوبزي.

اعتقد إدور أنّ ولوج العالم في الواقعية ونفيهم للمثالية وفق مقاربة “خذ وأعطي”، سيصنع مأزق كبير في ديناميات الحركة والفعل بين الدولة وسيعيد تكرار ذات المأساة؛ مشدداً على أنّ ما تحتاجه الدول هو أكثر دبلوماسية وأقل مثالية، وليس نفي المثالية في المطلق، لأن الواقعية بدون المثالية يمكن أن تشكيل سخرية الواقعية السياسية ” cynical realpolitik”.

ونفى مفكرو المدرسة الإنكليزية في العلاقات الدولية، النظريات الجامدة لا سيما التقوقع بين ثنائيات المثالية والواقعية حتى عندما كان العالم أكثر حاجة لها. مع الأسف، بعد انقضاء أكثر من ٨٠ عاماً ما زال العديد من الباحثين العرب في العلاقات الدولية يتمسكون بتلك الثنائيات، مع أنّ حتى مقاربة “كار” يزيد عمرها عن ٧٠ عاماً، وبل بالكاد ما تبحث نظريات أكثر عملية كما في حال Democratic Peace Theory بمفهومها الكانطي الجديد الذي عالجه John Mearsheimer ببراعة.

تعطي النظرية أهمية كبيرة لنوعية تطور الأنظمة السياسية ودور المؤسسات والدولة الحديثة والفرد كفكر داخل سياق تفاعل العلاقات، سيما وأنّها عاودت النضوج عقب نهاية الحرب الباردة ونضجت أكثر مع موجات جديدة من الثورات عقب ثورات الربيع العربي، وذلك بعودة صعود مفهوم دمقرطة الدول.

وقلما ما يتناول الباحثون في المنطقة نظريات كثيرة أخرى تفاعلت ونشأت مع ارتفاع حركة تشكل التيارات النقدية في العلاقات الدولية؛ منها “مدرسة كوبنهاغن” الشهيرة، والتي عالجت البنائية Structuralism، من مدخل نقدي أو ما يسمّى النقدية الأمنية الحديثة Critical Security Studies التي تطورت عقب نهاية الحرب الباردة ولا سيما مع طرح بدء الباحثين بطرح أسئلة عديدة منها “إذا لم يعد هناك تهديد عسكري مباشر بين قوتين عظميين، فما معنى الأمن الآن؟”.

وباتت ما بعد البنائية Post-Structuralism محركة الفكر الغربي في العلاقات الدولية، فقد عالجت تفسيرات أكثر تفاعلًا مع متغيرات الأمن والتنمية وما نتج عن سؤال الأمننة Securitization Theory في القضيتين السورية والأوكرانية أو نزع الأمننة Desecuritization، وذلك يعود لأدوات النظرية الفعّالة؛ لأن أدوات الحركة والسلوك والتفسير تغيرت، وبات تشكيل الخطاب السياسي ودوافعه في رسم المشهد الدولي أحد أهم أعمدة تلك النظرية.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى