الشرع و المقاتلين الأجانب و داعش تحديث 03 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
الشرع و المقاتلين الأجانب و داعش
—————————-
داعش والأجانب والشرع… لمن الغلبة في مثلّث غير متساوي الأضلاع؟/ جعفر مشهدية
الثلاثاء 3 يونيو 2025
ظهرت خلال الأيام الأخيرة، ملامح الاشتباك بين تنظيم داعش وعناصر الإدارة الجديدة في مناطق سورية عدة. ترافق ذلك مع تسريبات مختلفة تتحدث عن تواجد لخلايا التنظيم في عدد من المحافظات السورية، ما يجعل أمر الانفجار بين الطرفين قريباً، خصوصاً مع الحديث عن طلب أمريكي بتولّي الدولة السورية ملفّ السجناء الداعشيين في شمال شرق البلاد.
هذا الملف يُضاف إلى ملف المقاتلين الأجانب الذي جرى الحديث عن دمجهم في الجيش، خصوصاً بعد الكلام عن حلّ الحزب التركستاني الذي يضم نخبة الجهاديين الأجانب، ودمج عناصره ضمن الفرقة 84 في وزارة الدفاع، الأمر الذي يخالف واحداً من أهم الشروط الأمريكية للاعتراف بالشرع وحكومته.
وهذا كله يجعل موقف الإدارة الجديدة صعباً في كيفية التعامل مع هذين الملفَّين شديدَي التعقيد، ويجعل البلاد أمام خطر اقتتال بين الجهاديين، ما يؤثر على السلطة والشعب والإقليم، ويضعها أمام سؤالين محوريَين بعد انتهاء فورة رفع العقوبات عن سوريا أو تجميدها؛ الأوّل، هل يستطيع الرئيس السوري أحمد الشرع تجاوز هذين الملفَّين والعبور بالبلاد نحو خط الأمان في ظل استمرار النزاع الداخلي؟ والثاني، هل تستطيع الإدارة الجديدة حلّ هذه العقبات بجهودها الذاتية أم هي بحاجة إلى دعم دولي عسكري وأمني؟
خلافات ورؤى مختلفة
ليكون أيّ حديث عن الخلاف بين داعش وإدارة الشرع، أو سبب إصرار الغرب على إبعاد المقاتلين الأجانب، مفهومَين، لا بد لنا أوّلاً من فهم الرؤى المختلفة للأطراف الثلاثة حول “الجهاد” والحكم الإسلامي، فحتى لو كانوا جميعاً أبناء المدرسة الجهادية، إلا أن هناك خلافاً عميقاً في التفاصيل.
لنبدأ مع داعش، اليي يصرّ على التقسيم التقليدي للعالم بين كفّار ومسلمين، ووفق هذا يُقسّم البلاد إلى دار كفر و”جهاد” ودار إسلام. ولأنّ “الأرض لله يهبها من يشاء من عباده”، كانت الحدود بين الدول غير ملزمة لهم، ولأنّ الحكم لله، كانت كل الأعراف والقوانين الدولية مرفوضةً، والاحتكام إلى أي فكرة سواء بالشكل أو المضمون، بمثابة “احتكام للطواغيت وخروج عن دين الله”.
من جانب آخر، القاعدة التي ينتمي أغلب المقاتلين الأجانب إلى منهجها، لا تشذّ كثيراً عن أدبيات داعش، لكنها تدرك على العكس من التنظيم استحالة إقامة دولة إسلامية حقيقية بموازين اليوم، لأنها ستكون محط استهداف داخلي وخارجي، وستؤول الأمور إلى حمام دم يُنَفّر الناس من “الجهاد” الإسلامي، لذلك فضّلت خوض حرب استنزاف مع الغرب وتابعيه في المنطقة، عادّةً أنّ تكلفة الحرب صارت عاليةً على جيوش الغرب، وأنّ انكفاءه عن المنطقة سيحدث لأنّ شعوب الغرب لم تعد قادرةً على تحمّل تكاليف الحرب البشرية والاقتصادية. من هنا، اعتمدت القيام بعمليات متقطعة تستهدف من خلالها مصالح القوى الغربية في المنطقة، وتضرب هيبة الغرب في قلوب المسلمين، فتزداد أعداد المتحمسين لـ”الجهاد”، ويعجز الغرب عن ترسيخ نفوذه.
أما الحالة الثالثة التي جاء بها الشرع، فمن المهم أن ندرك خلال دراستها، أنه -أي الشرع- من جيل جديد من المجاهدين، ولديه رؤية مختلفة لـ”الجهاد” والدولة الإسلامية لم يتبلور معظمها للمراقبين، ولكن هناك ملامح عامة عنها. بدايةً، أعطى الحالة السورية خصوصيةً في “الجهاد”، وفصله في سوريا عن بُعده العالمي، ويمكن تتبّع ذلك من خلال تسميات الجماعات التي أسسها في سوريا، مثل: “جبهة نصرة أهل الشام”، و”جبهة فتح الشام”، وأخيراً “هيئة تحرير الشام”. وهذا اعتراف -وإن كان غير مباشر- بحدود سايكس بيكو، واعتراف بالمجتمع الدولي وأعرافه، ويظهر هذا جليّاً بالتقرّب من الغرب اليوم، كما أنّ العلاقة مع الغرب لم تبدأ اليوم، وهذا دليل على براغماتية الرجل والحلقة المقربة منه، ويتعزز هذا الاتجاه من خلال العلاقات المميزة مع دول الإقليم، على عكس ما كان عليه الأمر لدى الجهاديين الأوائل من اعتبار قتال الحكام العرب أكثر أهميةً، وسمّوه “جهاد العدوّ القريب”.
كل هذا يجعل إدارة الشرع مذهباً جديداً بين مذاهب الجهاديين يسعى إلى إقامة دولة إسلامية بشكل مقبول من العالم الغربي لتزول مفاعيل إسقاط الخلافة العثمانية عام 1924.
مشكلات بنيوية وحاجة إلى الخارج
يرى الناشط الحقوقي المتخصص في ملف الجماعات والحركات الإسلامية حسين شبلي، خلال حديثه إلى رصيف22، أنّ “داعش يمتلك أسباباً أيديولوجيةً لعداء الشرع، فهو يراه مرتدّاً عن الحق وكافراً؛ لأنه استخدم “الجهاد” ليصل إلى الحكم ثم انقلب على المجاهدين وتعامل مع الغرب الكافر، ولا شك لدى الجميع في أنّ الشرع ليس بمقدوره، بما يملك من قوات وخبرات، التعامل مع خطر داعش على مستوى سوريا عموماً، ولا سيّما مع سهولة تغلغل عناصره ضمن قواته نفسها، أو استقطاب عناصر من قواته ممن يشاركون داعش الاعتقاد بأن الشرع انحرف عن الطريق الذي بايعوه عليه”.
ويضيف: “لا بدّ من جهد استخباراتي دولي وإقليمي لمساعدة الشرع، غير أن هذا التعاون نفسه هو مشكلة للشرع أيضاً، فكلما ازداد تعاونه مع القوى الإقليمية والدولية، قدم لداعش أعداداً جديدةً من المتعاطفين، فالمشكلة ستبقى طالما لم تُحلّ الأسباب، بدءاً من اعتماد الشرع على عناصر جهادية لبناء الجيش والأمن وفق طابع إسلامي محدد، سواء بإدماج فصائل ذات خلفيات جهادية، أو باستقطاب العناصر الجديدة تحديداً للأمن العام وفق معايير تساهم في أدلجتهم تبعاً لتيار معيّن. هنا تنعدم الاحترافية والحيادية اللتان من المفترض أن تتمتع بهما المؤسسات الأمنية والعسكرية، ما سيخلق مشكلات داخليةً للشرع مع بقية المكونات، ومشكلات أمنيةً مع الإسلام الجهادي الراديكالي”.
يتابع شبلي: “ليس بإمكان الإدارة السورية التعويل على نجاحها في إدارة السجون التي تضمّ عناصر داعش، وهي تعتمد في كوادرها الأمنية والعسكرية على عناصر من خلفيات جهادية دون أن تضع ضمن احتمالاتها تعاطف بعضهم مع السجناء ومساعدتهم على الهروب، ما سيخلق أزمةً أمنيةً للإدارة ويضعف ثقة الغرب بإمكانياتها على محاربة الإرهاب، أو قد يتمكن عناصر التنظيم من إحداث عصيان داخل السجن، الأمر الذي سيضع الإدارة في موقف حرج مع بيئتها الحاضنة لو اضطرت إلى التعامل بعنف مع حدث كهذا. ولهذا: تكمن مشكلة الإدارة في صراعها مع داعش في اعتماد كليهما على العقل السلفي الجهادي نفسه الذي يميل إلى الراديكالية، وكل خطوة يخطوها الشرع اليوم نحو الدولة الحديثة التشاركية ستفقده رصيده رويداً رويداً لصالح من هم أكثر راديكاليةً. هنا تكمن أسباب نجاح الشرع في مقاومة داعش، عبر خلق بيئة عابرة للطوائف وحاضنة لمشروعه، والخروج بشكل حقيقي من الظلام إلى النور”.
في ما يتعلق بملف المقاتلين الأجانب، يشير شبلي، إلى أنّ “الأجانب بمعظمهم ذوو جذور قاعدية، وإن لم يُخشَ منهم على حكم الشرع لعدم امتلاكهم نموذجاً معيّناً للدولة الإسلامية، فيمكن أن يقنعهم تغليظ الأحكام الإسلامية وزيادة تدخّل الإسلام في حياة السوريين كبداية، ولكن يُخشى من أن يستخدم هؤلاء سوريا كقاعدة جهادية ينطلقون منها لضرب المصالح الغربية في المنطقة، وتقديم الدعم للحركات الجهادية في دول الجوار، فهم لا يطمحون إلى فتح القدس كما فتحوا دمشق، وكل خطاب مشابه هو للاستهلاك لا أكثر، لكن خطرهم هو أسلوب الحرب غير المباشرة الذي يفضلونه، من خلال القيام بالعمليات الأمنية، ولن يكون سهلاً إغفال خطر كهذا، فالأمر لا يتعلق بعددهم ولا بكفاءتهم القتالية، بل بكفاءة عملهم كخلايا خلف الكواليس وبشكل سرّي. ونعلم أنّ كشف خليّة من بضعة أفراد أمر صعب استخباراتياً، فكيف لو تحدّثنا عن آلاف المقاتلين، أي مئات الخلايا”.
و”بغضّ النظر عن أسلوب تعامل الشرع مع ملف المقاتلين، سواء اختار إقصاءهم والصدام معهم، أو احتواءهم وتجنيسهم”، برأي شبلي أنّ “على الإدارة السورية أن تختار بين أمرين من الصعب الجمع بينهما؛ الأول هو إصرارها على أسلوبها في تشكيل الجيش والأمن وفق صبغة أيديولوجية معينة، والثاني هو اعتمادها الكبير على المحيط الإقليمي والدولي لتثبيت حكمها، فلا سبيل إلى ضبط أي شكل إسلامي راديكالي سواء اخترنا الصدام معه أو احتواءه ببنية عسكرية وأمنية من الخلفية نفسها، فيكون كل عنصر لديك، لك وعليك في الوقت نفسه، فكلما نجحت في الحصول على رضا المجتمع الدولي وحصلت على قبوله بحكمك، تخاطر بانفجار بنيتك العميقة، خصوصاً أنّ الشرع بعد المرحلة الانتقالية لا شك سيكون أمام اختبارات ديمقراطية إن خاضها وعزز الحريات، عزز في المقابل إحساس الجماعات الإسلامية بخروجه عن جماعتهم، أما لو تمسّك باحتكار الحكم وبناء الدولة والمؤسسات بموجب الغالب والمغلوب، واستمر في إقصاء المخالفين، فمعنى هذا أنه سيضطر إلى ضبط الاختلاف السوري بالقوّة، وهذا سيبقي حكمه مرهوناً بالرضا الخارجي”.
لذلك، الحلّ الأسلم لسوريا بحسب شبلي، هو في “إعادة ضبط الأمور من جديد، وكأنّ الساعة الآن عادت إلى 6.18 وقت سقوط النظام، والقيام بإعادة هيكلة كل شيء بالشراكة مع كل السوريين لبناء جيش وطني لا فصائلي جهادي، وتفعيل العمل السياسي، وتحديداً التيارات العلمانية، لتوازن النفوذ الإسلاموي، لأنّ التوازن وعدم اختصار سوريا المتنوعة بتيار واحد، هما أكثر صحةً، ويمنعان طرفاً واحداً من الاستبداد وإلغاء الآخرين، وإلا سيكون كل حلّ يُتبع مع المقاتلين الأجانب وداعش مجرد حلّ مرحلي”.
لعنة الجغرافيا ونعيمها
وعن مستقبل السيناريو السوري، يعتقد شبلي، أنه “لا يمكن لسوريا أن تكون ليبيا أو أفغانستان، فمع كامل الاحترام للبلدين، إلا أنهما أقل أهميةً من الناحية الجيو-سياسية، ويمكن وصف جغرافيا سوريا باللعنة لها ولمحيطها، فأيّ حدث في سوريا هو حدث عالمي، كل إمبراطورية ودين يحتاجان إلى دمشق لنيل العالمية، ولا سبيل إلى احتواء حرب أهلية باردة كما في ليبيا، ففي سوريا قوات عسكرية تتبع لأربع دول، بالإضافة إلى الفصائل السورية، ولا سبيل إلى تركها لنظام يسبب إشكالاً لمحيطه كما حصل في أفغانستان، فكل دولة مهمة في العالم لديها حدود بطريقة أو بأخرى مع سوريا ومشكلاتها وطوائفها، كالصين وروسيا وأوروبا، فضلاً عن الدول الاقليمية، لذلك تحتاج سوريا إلى حلّ يشبهها ويخصّها. حتى الحديث عن طائف سوري غير ممكن، فاللحظة السورية فريدة، ولهذا رأينا أمريكا ترفع العقوبات بشكل غير معتاد منها سابقاً، ما يعني أنّ الجميع يدرك خطر انهيار سوريا”.
داعش لم يُشهر سلاحه بعد
يقول الباحث في الجماعات الجهادية حسام جزماتي، لرصيف22: “داعش منذ سقوط النظام وحتى هذه اللحظة لم يوجّه سلاحه ضد الإدارة الجديدة، وعملياته محصورة في مناطق محددة، وذلك نتيجة حسابات توازن القوى مع الإدارة برغم تكفيرها علناً، والإدارة بدورها تلاحق خلايا التنظيم وتشتبك معها ضمن عملها الروتيني، وعلينا الانتظار لرؤية التطورات المستقبلية، خاصةً إذا استلمت الإدارة الجديدة سجون داعش في شمال شرق البلاد”.
برأيه، “العلاقة بين تنظيم داعش والشرع طويلة، فهو جاء إلى سوريا ليؤسس فرعاً للتنظيم، ثم انشقّ عنه وأشهر الولاء للقاعدة، وأصبح في موقف المواجهة مع التنظيم الذي عدّه خائناً للبيعة والعهد”.
أما موضوع المقاتلين الأجانب، فيوضح جزماتي، أنّ “الشروط الأمريكية ترفض تواجد الأجانب ضمن مناصب قيادية وليس كمجنّدين، وبرغم قناعتي بعدم تعيينهم مستقبلياً كمجنّدين حتى ضمن الجيش السوري، لكن المقاتلين الأجانب غير طامعين في حصة ضمن إدارة الدولة السورية، فهم لديهم قضاياهم الخاصة، وتأثيرهم أقلّ بكثير مما هو متداول إعلامياً، وليسوا في وارد الخروج عن الشرع حالياً، وإذا وقع اقتتال مع الإدارة الجديدة فسيكون بين الإدارة ومن يرفض منهجها من جميع المتشددين، أجانب كانوا أو سوريين، خصوصاً أولئك الذين يتذمّرون من هذا المنهج ويرون أنه اختلف بعد الوصول إلى السلطة، وهم لا يقاتلون هذه السلطة حالياً، لكنهم يتصرفون كما يحلو لهم. وفي النهاية، في حال لم تنجح تجربة الإدارة الجديدة ونواياها الحسنة، فنحن ربما سنكون أمام نموذج قريب من النموذج الليبي”.
في نهاية الأمر، لا يوجد حلّ أمام السوريين إذا ما أرادوا التخلص من ثقل عقود حكم البعث والبدء ببناء دولة حقيقية واعدة سوى الاعتماد على أنفسهم والتكاتف في ما بينهم، حينها يمكن حلّ أي ملف مهما بلغ من التعقيد، فالتنوع السوري الذي ينظر إليه البعض حالياً كنقمة ومنطلق للشقاق والتطرف، يمكن أن يكون أيضاً بداية الحلّ ومرتكزه عبر مشاركة الجميع في حماية البلاد وإدارتها وإعادة إعمارها، وإن كان ذلك تحت كونترول جهة سياسية واحدة لا تستأثر بالحكم، وكل ما هو عكس ذلك يضع سوريا والمنطقة أمام خطر عقود سوداء قادمة.
رصيف 22
—————————————-
حكومة الشرع هدف “داعش” الجديد في سوريا/ صبحي فرنجية
“المجلة” تنشر شهادات ومقابلات لعناصر خرجوا من سجون “قسد”
آخر تحديث 03 يونيو 2025
مضى أكثر من ست سنوات على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب هزيمة تنظيم “داعش” بنسبة 100 في المئة” على حد قوله يوم 22 مارس/آذار 2019، إلا أن قوات التحالف الدولي ما زالت موجودة في سوريا حتى يومنا هذا، تحارب خلايا التنظيم، إضافة إلى جهود إقليمية وسورية كبيرة في الوقت الراهن لمواجهة خطر التنظيم الذي اعتقد العالم أنه انتهى في مارس 2019.
خلايا تنظيم “داعش” خلال السنوات التي تلت الإعلان الأميركي أعادت بناء نفسها، وإمكانياتها، وطورت وسائل تواصل بينها وبين قادة وعناصر التنظيم الموجودين في سجون “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، السجون التي تحتوي على قنبلة موقوتة، قد تصل نيرانها أبعد من الجغرافيا السورية.
اطلعت “المجلة” على 18 محضرا لمقابلات مع عناصر من “داعش” أمضوا سنوات طوال في سجون “قسد”. وقد أجريت هذه المقابلات لأغراض بحثية، حيث تكشف هذه المقابلات الكثير من التفاصيل حول ظروف السجون وكيف أثرت على عقلية التنظيم من خلال تقوية رغبته في الاستمرار، كما كشفت المقابلات عن استفادة قادة وعناصر “داعش” في السجون من الوقت لإجراء محاكمات فكرية لظروف نشأة التنظيم وأفوله، إضافة إلى قيامهم باستغلال فساد حراس وقضاة تابعين لـ”قسد” في السجون، ليتمكنوا من استعادة تواصلهم مع العالم الخارجي وخلايا التنظيم وقادته في البادية السورية ومناطق “قسد”، هذا التواصل كان له دور كبير في تنسيق الهجوم الشرس الذي شنّه التنظيم على سجن الصناعة في الحسكة عام 2022 الذي يحتوي على آلاف المقاتلين والقادة الذين حاربوا بين صفوف “داعش”.
وتكشف المقابلات والمعلومات التي حصلت “المجلة” على نصوصها عن إجماع شبه كامل لدى خلايا تنظيم “داعش” على أن الدولة السورية الجديدة هي هدف التنظيم القادم وأن “قتالها واجب”، وسط نقاشات معمّقة تمت بين عناصر وقادة التنظيم في سجون “قسد” من جهة، وبينهم وبين الخلايا خارج السجون من جهة أخرى، وذلك من أجل وضع خطط إضعاف الدولة السورية الجديدة، وتشتيت قدراتها، وشيطنتها لخلق فرص تجنيد عناصر جدد، خصوصا أولئك الغاضبين من توجهات الدولة السورية نحو الانفتاح مع الدول العربية والغربية، فضلا عن وضع خطط لمحاولة اختراق صفوف الحكومة السورية.
غرف مكتظة وظروف قاسية تزيد التطرف
كثرت السجون في منطقة شرق الفرات السورية منذ بدء المعركة الشرسة التي شنها التحالف الدولي بالتعاون مع “قسد” ضد “داعش” في سوريا عام 2016، وذلك عندما قال المتحدث باسم التحالف الدولي ستيف وارين في شهر أبريل/نيسان من العام نفسه خلال تصريحات صحافية إن المرحلة الثانية من الحملة الدولية ضد تنظيم “داعش” قد بدأت بالفعل. وأضاف: “المرحلة الثانية من الحرب على (داعش)، ستمكّن شركاءنا من تفكيك العدو، وتشتيت قواته وعزل مراكز جذبه وتحرير الأراضي التي يسيطر عليها”.
بعض السجون اكتظت بالمساجين فتم افتتاح سجون أخرى لتخفيف الضغط، وبحسب إحصائيات غير رسمية فإن “قسد” اليوم تُدير نحو 26 سجنا فيها 12 ألف سجين، الآلاف منهم تم اعتقالهم أثناء المعارك ضد تنظيم “داعش” وهم من جنسيات سورية، وعربية، وأجنبية.
وبحسب العناصر الذين تمت مقابلتهم، فإن الأوضاع كارثية في السجون كسجن الصناعة وسط الحكسة وسجن الرقة وسجن الكم الصيني في مدينة الشدادي، وأعداد السجناء في الغرفة الواحدة أكبر من سعتها، إضافة إلى نقص في إمكانيات النظافة والطعام، وحالات تعذيب في السجون جعلت الحديث الأبرز بين السجناء عن كيفية الانتقام من السلطات التي تُدير السجون فور خروجهم من السجن. كما أتاحت حالة الاكتظاظ هذه الفرصة أمام السجناء لإعادة ترتيب أفكارهم الخاصة بمستقبل التنظيم، خصوصا في ظل غياب أي برنامج داخل السجون لمحاربة الفكر المتشدد لهؤلاء العناصر، وإعادة تأهيلهم تمهيدا لخروجهم إلى العالم من جديد.
سالم (اسم مستعار)، 35 عاما، تم اعتقاله في عام 2018، يقول إن مرحلة التحقيق معه كانت في حقل التنك النفطي، ثم تم نقله إلى سجن الصور، لينتهي به المطاف في سجن الصناعة عام 2019، وبحسب سالم فإن “المهجع” الذي كان فيه مع نحو 140 سجينا لا يتسع لأكثر من 50 شخصا. ويتابع: “أثناء التحقيق كانوا يمارسون علينا كل أشكال التعذيب الجسدي والنفسي، والصعق الكهربائي، والسجن الانفرادي عبارة عن قبر داخل قبر”. سالم فقد من وزنه الكثير، فقد دخل السجن بوزن 105 كيلوغرامات، ليصل بعد سنوات إلى نحو 60 كيلوغراما، على حد تعبيره.
لؤي (اسم مستعار)، 28 عاما، تم اعتقاله عام 2018، هو الآخر انتهى به المطاف في سجن الصناعة لاحقا، يصف السلطات المحلية في شرق الفرات بأنها “ملحدة”، وعدّ الوضع في السجن بأنه كارثي، وأن كثيرا من السجناء الذين تم إيداعهم في الغرف المنفردة كادوا يصابون بالجنون، حتى إن بعضهم كان يواجه صعوبة في النوم لأيام طويلة. كما يقول رافع (اسم مستعار)، 41 عاما، والذي تم وضعه في السجن نفسه، إن التحقيق كان يجري باللغة الكردية بوجود مترجم، وإن “أي كلمة تخرج من السجين عن سياق التحقيق كانت نتيجتها الضرب المبرح بالعصا الغليظة”.
أما أحمد (اسم مستعار)، 38 عاما، فاعتقل عام 2020، ليُصار إلى وضعه في سجن الكم الصيني، فيقول بلغة وصفية إن “لحظة دخولك السجن هذا تقطع علاقتك تماما مع العالم النظيف والظروف الإنسانية، النظافة كلمة غريبة جدا هناك، يمكن أن تُمضي شهورا طويلة قبل أن تصل إلى صنبور المياه للاستحمام، والتهوية هناك كلمة غائبة عن قاموس السجن، فالهواء يحمل معه روائح أجساد الناس المتسخة ممزوجة بروائح القذارة الموجودة في السجن”.
في سجن الرقة، لم يكن الوضع أفضل من سجني الصناعة والكم الصيني، فبحسب أبو محمد (اسم مستعار)، 27 عاما، فإن الغرفة التي كان يوجد فيها بسجن الرقة كانت تحتوي على 40 سجينا، وأن غالبيتهم كانت اتهامات اعتقالهم هي “نشر الفكر المتطرف عبر الإنترنت، التجنيد لصالح التنظيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي”. أبو محمد يقول إن أحد المساجين في الغرفة نفسها وجد ميتا في أحد الأيام، نتيجة نقص العلاج والرعاية الطبية هناك، وذلك بعد معاناة امتدت لأيام مع آلام حادة في الصدر. يضيف أبو محمد أن بعض المساجين الذين عانوا من “الجرب” كانوا “يحكّون” أجسادهم بشدة نتيجة الألم “ما سبّب نزيفا في جلود البعض، دون وجود علاج كافٍ، إضافة إلى الانتشار السريع للأمراض الجلدية بين المساجين بسبب الاكتظاظ والتصاق السجناء ببعضهم في الغرفة الواحدة”.
جميع من تمت مقابلتهم تحدّثوا عن الأوضاع السيئة للسجون، حتى إن بعضهم تحدّث عما سموه “انتهاكات للقيم الإنسانية في التعامل”، وأن “التعذيب، والعزل، والإهانة، والمعاملة السيئة كانت الحديث الأبرز بين السجناء” الذين كانوا في الوقت نفسه يخططون للانتقام- في اللحظة المناسبة- من كل شخص عرفوه ضمن السجن، و”كان طرفا في تعذيبهم وإهانتهم”، كما كان السجناء يبذلون جهدهم لنقل معلومات عن أوضاع السجون إلى عناصر التنظيم خارج السجن عبر طرق تواصل تتم من خلال استغلال وجود قادة وعناصر مسؤولين عن حماية السجن تقاضوا المال مقابل إدخال هواتف ورسائل إلى المساجين.
تجدر الإشارة إلى أن تنظيم “داعش” استخدم عبر سنوات سيطرته على المناطق في سوريا والعراق على العنف العلني بحجة “الترهيب”، فهو الذي نفّذ إعدامات ميدانية جماعية في دير الزور والرقة، إضافة إلى قطع الرؤوس أمام الناس في الساحات العامة، ونشر فيديوهات مُعدّة بشكل احترافي يعرض فيها التنظيم طرق إعداماته من قطع الرؤوس، والذبح، وتفجير المعتقلين، والحرق، والإغراق، إضافة إلى فيديوهات تُظهر أطفالا يقومون بتنفيذ عمليات الإعدام. مشاهد كثيرة يصعب إحصاؤها، صدمت العالم، وقادت إلى تشكيل تحالف دولي وتحالفات سورية لمواجهة التنظيم من قبل جميع القوى المسلحة في سوريا.
فساد يُتيح الفرص للتنسيق والتواصل
لم يكن دخول السجن بالنسبة لكثير من عناصر “داعش” نهاية الحكاية، بل كانت مرحلة مؤقتة على حد تصوّرهم، فهم وبعد فترة وجيزة استغلّوا وجود حراس وسجانين وقادة من “قسد” توّاقين للحصول على المال، فقام عناصر التنظيم بتحويل هؤلاء إلى نقطة ارتكاز لهم لتحقيق عدة مكاسب منها حسن المعاملة في السجن والحصول على طعام جيد وأماكن جيدة والاستحمام الدوري، ومن المكاسب أيضا الوصول إلى خارج السجون عبر رشوة بعض القضاة، أو الحصول على هواتف للتواصل مع خلايا “داعش” الموجودة خارج السجن سواء في منطقة سيطرة “قسد” أو في البادية السورية جنوب دير الزور، عملية التنسيق مع هؤلاء الحراس والسجّانين كانت تتم من خلال عناصر التنظيم داخل السجن وخارجه.
وبحسب ما قاله المساجين الذين تمت مقابلتهم، يتم إدخال هواتف محمولة مزوّدة بخطوط جاهزة “عن طريق الحراس المتعاونين مع التنظيم والذين تتم رشوتهم من قبل عناصر التنظيم في الخارج”، وأحيانا تصل تكلفة تهريب الهاتف المحمول مع الخط للسجين إلى 3 آلاف دولار أميركي، يُضاف إليها دفعات دورية على سبيل شحن بطارية الجهاز أو شحن الخط كلما انتهت الباقة الخاصة به. الدفع مقابل هذه الخدمات كان يتم عبر خلايا التنظيم النشطة في الخارج من خلال طريقة تواصل خاصة بين الأطراف الثلاثة.
الهواتف يتم تهريبها إلى القياديين في التنظيم في المهاجع، وهؤلاء يكونون صلة الوصل بين الخلايا التابعة للتنظيم خارج السجن، وبقية العناصر الموجودين داخله والذين ما زالوا يوالون التنظيم وينتسبون إليه، وبحسب كثير ممن تمت مقابلتهم فإن عملية التواصل كانت موجودة بين قادة التنظيم داخل وخارج السجن فيما يخص تنسيق عمليات “داعش” خارج السجن، وعمليات تهريب الأجهزة ورشوة حراس السجن، أو عمليات تهريب عائلات عناصر التنظيم من مخيم الهول، إضافة إلى عمليات الرشوة الخاصة ببعض القضاة لإخراج قادة وعناصر للتنظيم من السجن من خلال تخفيف التهم الموجهة إليهم، أو من أجل استصدار قرارات إفراج مزورة حيث يتولى حراس متعاونون مع الخلايا- مقابل المال- مهمة إخراج العناصر من داخل السجن. وبحسب بعضهم فإن هناك عمليات تنسيق تتم حول قرارات اغتيال أشخاص خانوا التنظيم أو يعملون لصالح “قسد” داخل السجن أو خارجه، إضافة إلى ذلك يتم استخدام هذه الهواتف لأغراض التواصل بين المساجين وخلايا التنظيم المتبقية في مخيم الهول.
عمليات التواصل هذه أبقت التنظيم على الحد الأدنى من التنسيق، سواء لعمليات التهريب أو الهجمات أو إيصال معلومات عن الاستراتيجيات التي يتخذها التنظيم خارج السجن، وقد تكون الهجمات التي نفذها تنظيم “داعش” لكسر حصون سجن الصناعة هي إحدى ثمار هذا التنسيق بين الخلايا الموجودة داخل السجن وخارجه، حيث كانت الهجمات منظمة بين الخلايا، فحدثت تحركات متزامنة داخل السجن وخارجه في آن واحد.
سجن الصناعة كثمرة تواصل
مساء يوم 20 يناير/كانون الثاني عام 2022، شن تنظيم “داعش” هجمة شرسة على سجن الصناعة الواقع في حيّ غويران بالحسكة، والذي يحتوي على نحو 5 آلاف مقاتل من تنظيم “داعش” من جنسيات مختلفة عربية وأجنبية. الهجوم بدأ بين الساعة السادسة والسابعة مساء عبر إرسال التنظيم لعربتين مفخختين الأولى توجهت نحو الباب الرئيس للسجن، والثانية على خط متوازٍ يبعد عن البوابة قرابة 200 متر، وبعد انفجار العربتين فورا، شنت مجموعات “انغماسية” هجمات لدخول السجن أدت إلى انهيار سريع لكل البنية الأمنية التي وضعتها “قسد”، ودخل عناصر التنظيم إلى السجن لكسر الجدر الموصلة إلى المهاجع. في هذه الأثناء كان عناصر التنظيم داخل السجن يشنون حملات هجوم على حرس السجن، ويقتلون كل من كانت أسماؤهم على قائمة الاغتيال والذين كانوا جزءا من منظومة التحقيق أو التعذيب، فضلا عن أن الهجمات الداخلية لم تستثنِ أي أحد من العاملين في السجن. حتى صباح 21 يناير/كانون الثاني 2022، كان تنظيم “داعش” قد سيطر على السجن كاملا تقريبا وقتل كل العاملين في السجن والحرس، وبدأت عملية تهريب السجناء بعد السيطرة على مستودع أسلحة كان في السجن. ويقول سالم إن “بعض المساجين الذين عرفوا جلاديهم أثناء أحداث سجن الصناعة انتقموا منهم وقتلوهم وقطعوا رؤوسهم”.
قوات التحالف و”قسد” استطاعت السيطرة على السجن مرة أخرى بعد سبعة أيام من العمليات العسكرية هناك، والتي أدت إلى اعتقال نحو 3500 مقاتل من التنظيم الذين كانوا داخل السجن، دون معرفة كثير من المعلومات عن مصير نحو أكثر من ألف سجين سواء كانوا قُتلوا أم فرّوا. هذا الهجوم المنسق والمنظّم أثبت أن التنظيم ما زالت لديه القدرة على التنسيق وتنفيذ عمليات نوعية. فاتخذ التحالف و”قسد” إجراءات مشددة داخل السجن، ووضعوا كاميرات مراقبة، وبحسب كثير من المساجين فقد تم تقليل كميات الطعام على المساجين. الإجراءات الأمنية لم تكن توازي قدرة التنظيم على التأقلم، فحتى بعد تشديد القبضة الأمنية على المساجين بعد هجمات سجن الصناعة فإن عناصر التنظيم استطاعوا مجددا إدخال الهواتف المحمولة واستئناف التواصل مع الخلايا الخارجية، ومع بعض الخلايا في المخيمات التي تديرها “قسد” مثل مخيم الهول.
ويشير مزاج بعض العناصر الذين تمت مقابلتهم إلى وجود دفعة عاطفية إيجابية قوية بعد هجمات سجن الصناعة، كما أن “أحداث سجن الصناعة كانت نقطة تحول بالنسبة لمقاتلي التنظيم الموجودين في السجن، فقد أثبتت أن السجن لا يعني النهاية”، كما أن الهجمات التي نفذتها خلايا التنظيم في سوريا فتحت الباب للمساجين من أجل إجراء مراجعات دقيقة ومفصلة لمراحل نشأة التنظيم، وقوته، وأفول سيطرته على المناطق في سوريا والعراق، هذه المراجعات التي سمحت ظروف السجن بها- حيث إن الغرف مكتظة بالمساجين- وصلت إلى مراحل رسم استراتيجيات لمستقبل التنظيم وطرق إعادة إحيائه بالاستفادة من أخطاء الماضي.
مراجعات فكرية ورسم معالم استراتيجية جديدة
ساعات طويلة يُمضيها العناصر مع القادة الموجودين بينهم، يتحدثون خلالها عن الدين والدولة وتنظيمهم الذي سيطر على مساحات واسعة دون أن يتمكن من الحفاظ عليها لفترة طويلة، يدرسون استراتيجيتهم القديمة بإيجابياتها وأخطائها، بمن كان معهم ومن خانهم، و”الاختلافات بين القادة التي أدت إلى إضعاف قوة التنظيم وانهيار قدرته الجغرافية”. هذه المراجعات لم تكن تتم داخل السجن وتنتهي فحسب، بل كانت مخرجاتها تسير عبر الهواتف والرسائل إلى الخلايا خارج السجن، ليُصار إلى تمحيصها ومحاكمتها، وتتحول في نهاية المطاف إلى نقطة ارتكاز تعتمد عليها الخلايا في عملياتها أو سكونها.
يقول لؤي إن المساجين في سجن الصناعة “يتبادلون الأفكار، يخططون للمستقبل، يؤكدون بينهم أن الحرب لم تنتهِ وأن دولة الخلافة ستعود”، ويشير إلى أن بعض النقاشات تتم حول الظروف الممكنة التي ستساعد التنظيم لإعادة قوته، كفائدة الفوضى، وآليات التجنيد بالاعتماد على استراتيجيات جديدة، وطرق استغلال الثغرات الأمنية والخلافات بين القوى الموجودة في سوريا.
كما يقول أبو محمد، إنه في سجن الرقة كانت النقاشات أحيانا حادّة، حيث أسمع أصواتهم وهم يتهمون بعضهم البعض بالضلال أو الخطأ أو الخروج عن المنهج، ومن بين النقاشات التي سمعها أبو محمد أن مجموعة من العناصر كانوا يطالبون بتغيير جذري للتكتيك القديم الذي استخدمه التنظيم، واعتماد تكتيكات جديدة مثل التحول قليلا إلى المرونة والتكيف مع الظروف المتغيرة، لكن دون أن يكون هناك تغيير في الثوابت القائمة على إقامة دولة الخلافة من جديد.
ويمكن تلخيص طبيعة تلك النقاشات ومخرجاتها- بحسب ما ذكره الأشخاص الذين تمت مقابلتهم- في النقاط التالية:
حدثت نقاشات حول الأخطاء التي ارتكبها قادة التنظيم باعتقادهم أن القوة والقتل والترهيب تكفي للسيطرة على الأرض، وبحسب النقاشات فإن ذلك لم يكن صحيحا واستدلوا باستنتاجهم بمساعدة المدنيين لأي قوة حاربت التنظيم، مما يعني أنهم لم يستطيعوا كسب الناس، كما أن من الأخطاء المتصلة بالقوة والترهيب هي الخطاب المتشدد جدا، والذي لم يفهمه الناس، ما أدى إلى عزل التنظيم لنفسه عن القاعدة الشعبية.
من خلاصات النقاشات التحول من فكر الدولة- مؤقتا- إلى فكر الخلايا السرية، وذلك من خلال إعادة الهيكلة التنظيمية للتنظيم، واعتماد مبدأ اللامركزية للخلايا، حيث يتم إرسال الاستراتيجية والأهداف للخلايا من قبل القيادات، ويُترك أمر التنفيذ لقادة الخلايا. وبذلك يصعب على القوى متابعة الخلايا واستهدافها بشكل كامل.
ضرورة التركيز في الوقت الحالي على ما يطلقون عليه اسم “الدفاع الجهادي”، بمعنى القيام بالعمليات الخاطفة والصغيرة، وعدم الدخول في معارك كبرى تؤدى إلى خسائر فادحة تُضعف خلايا التنظيم أكثر، وبحسب النقاشات التي تمت بينهم فإن هذه الاستراتيجية في الوقت الراهن تخدم التنظيم من عدة نواحٍ: خسائر أقل، خلق فوضى وثغرات أمنية تساعد الخلايا على التحرك أكثر، والحصول على فرصة أكبر لتجنيد مقاتلين جدد في التنظيم.
أهمية تشكيل شبكات سريّة تتمحور أعمالها على توفير الدعم المالي واللوجستي للخلايا، دون أن يكون لدى هذه الشبكات علم بأي تفاصيل عن طبيعة العمليات أو مكان الخلايا، بحيث يكونون بمعزل عن التنظيم وعملياته لكنهم يخدمون مصالحه المالية في الوقت ذاته.
بعض النقاشات أيضا تمحورت حول كيفية تشتيت الجهود الدولية، وذلك من خلال التواصل مع قادة التنظيم وقادة المجموعات المسلحة التي تشبه توجه التنظيم خارج إطار الجغرافيا السورية، والتنسيق معهم لتنفيذ عمليات في تلك المناطق تستهدف المصالح الدولية، لتخفيف الضغط على التنظيم في سوريا.
درست النقاشات أيضا ضرورة استخدام الإعلام كوسيلة من أجل نشر أفكار جديدة عن التنظيم-تكون أقل تشددا في المرحلة الأولى- تمهيدا لتجنيد الشباب، ويرون أن الإعلام يمكن أن يكون حجر أساس في “تكوين قاعدة صلبة من الأنصار المؤمنين بالمنهج، ويكونون رأس حربة في المستقبل لتنفيذ العمليات أو استقطاب الشباب”.
كل هذه النقاشات ونتائجها ترى طريقها إلى خارج السجن، ولعلّ أحوال التنظيم اليوم واستراتيجياته الجديدة يمكن رؤيتها من نافذة هذه النقاشات، فالتنظيم بعد سقوط النظام السوري لم يقم بعمليات واسعة، بل ما زال معتمدا على مبدأ الخلايا والهجمات السريعة والصغيرة في منطقة “قسد” ومناطق الدولة السورية، بالإضافة إلى استغلال حالة التأرجح الأمني في سوريا لنقل خلاياه والعناصر من مناطق متفرقة نحو مناطق “قسد”، والبادية السورية، وحمص، ومناطق تُحسب جغرافيا على محافظات الساحل السوري.
وبحسب المعلومات فإن تنظيم “داعش” يعمل اليوم على التجنيد، واستغلال غضب بعض الفصائل من الدولة السورية الجديدة وتوجهاتها من خلال تكثيف التواصل مع الغاضبين وتهيئة الأرضية المناسبة لتجنيدهم أو التنسيق معهم في شنّ عمليات ضد مؤسسات الدولة السورية وموظفيها، كما أن التنظيم من المرجح أن يقوم باستغلال الغاضبين وتحويلهم إلى “جواسيس” داخل أجهزة الحكومة، فضلا عن قيامه بتشجيع عناصره للانضمام إلى الأمن العام والجيش عن طريق أبواب الانتساب التي فتحتها الدولة السورية.
الحكومة السورية هدف التنظيم
جميع العناصر تمت مقابلتهم بعد سقوط النظام- خلال شهر فبراير/شباط الماضي- من بينهم 10 عناصر خرجوا في وقت سابق من السجون. الجميع قالوا إن “الدولة السورية بقيادة أحمد الشرع” هي دولة “علمانية” وأن قتالها “أمر حتمي”، ويقول سالم إن “الجولاني وجماعته منذ أن خرجوا عن عباءة الدين نحو حبّ السلطة قبل سنوات تحولوا إلى مشركين، وعناصر الجولاني هم مرتدون وعملاء”، ويضيف أن التنظيم يرى الشرع “عبارة عن عميل للغرب تم وضعه في دمشق”.
لؤي يقول أيضا إن عناصر التنظيم داخل السجن وخارجه يُجمعون على أن الدولة السورية الجديدة هي هدف للتنظيم، ويرون أن الشرع ودولته “يتعاونون مع الفصائل العلمانية والدول العربية والغربية وتركيا”، أما رافع فيرى أن قادة الدولة السورية الجديدة “يُظهرون موالاتهم للطواغيت ويناصرونهم على المسلمين، وهذا كفر صريح”.
وبحسب الذين تمت مقابلتهم، فإن كثيرا من النقاشات التي تمت في السجن ومع خلايا التنظيم في الخارج كانت حول آليات إضعاف الدولة السورية الجديدة وشيطنتها وقادتها، بحيث يمكن استغلال حالة الضعف وتعزيزها من أجل خلق فرص ملائمة لاستهداف الدولة السورية ورموزها، وفي خارج السجن تدرس الخلايا إمكانية إعادة التموضع بين المدنيين في مناطق لم يكن فيها التنظيم سابقا وذلك للتحضر من أجل شن هجمات خاطفة وسريعة ضد الدولة، إضافة إلى محاولة تجنيد عناصر جدد أو نشر الرعب من الدولة في نفوس بعض الفصائل الأجنبية التي كانت موجودة في مناطق “هيئة تحرير الشام” سابقا من خلال إقناعهم بأن الدولة السورية ستستهدفهم قريبا وتنهي وجودهم في سوريا، ما يجعلهم يبحثون عن حليف لضمان سلامتهم.
“داعش”… خطر تتحضر له الدولة السورية
لأول مرة منذ سقوط النظام، تبنى “داعش” يوم الخميس الماضي 29 مايو/أيار، هجوما ضد الحكومة السورية عبر معرفاته، وبحسب ما نشر التنظيم فقد “انفجرت عبوة ناسفة زرعها جنود (دولة الخلافة) مسبقا على آلية لميليشيا جيش سوريا الحرّة بمنطقة تلول الصفا”. وأضاف البيان أن “الهجوم أدى لمقتل عنصر وإصابة 3 آخرين”.
الهجوم الذي شنّه “داعش” جاء بعد أيام من عمليتين نفذتهما الحكومة السورية في حلب وريف دمشق ضد خلايا “داعش”، أسفرت عن اعتقال عدد من عناصر التنظيم ومقتل آخرين، فضلا عن مصادرة أسلحة وعبوات ناسفة كان التنظيم ينوي استخدامها في هجماته ضد الحكومة السورية والسوريين.
يقول محافظ دير الزور غسان السيد في حديثه مع “المجلة” إن خطر الميليشيات الإيرانية وخطر تنظيم “داعش” من أبرز المخاطر التي تواجهها المحافظة، مؤكدا أن خطر “داعش” قائم في محافظة دير الزور والبادية، وهو خطر حقيقي، موضحا أن هناك عمليات تهريب تتم من مناطق “قسد” نحو محافظة دير الزور، والبادية، وأن لدى الدولة السورية معلومات حول نشاط التنظيم وتعمل على مواجهته بكل السبل الممكنة.
كما تحدّثت “المجلة” مع عدد من قادة الأمن العام في الحكومة السورية حول خطر “داعش” القادم، والجهود المبذولة لمواجهة هذا الخطر، الجميع أكدوا أن جهودا كبيرة يتم بذلها لمراقبة نشاط “داعش” وخلاياه وسبل تجفيف قدراتهم العسكرية والرقمية، إضافة إلى أن الدولة السورية أرسلت الكثير من التعزيزات إلى مناطق وجود الخلايا كبادية دير الزور وتدمر ومنطقة الحماد وغيرها من المناطق المفتوحة على الصحراء السورية. هذه التعزيزات تضمنت أيضا إرسال عناصر على الحدود السورية العراقية لمنع التهريب الذي يمكن أن تقوم به خلايا “داعش”.
لا شك أن الدولة السورية وحدها لن تكون قادرة على مواجهة خطر “داعش” بسرعة، خصوصا في ظل وجود توترات وعدم استقرار أمني بين الحكومة وبعض القوى العسكرية سواء في جنوب البلاد أو في شرقها. يُضاف إلى ذلك خطر جدّي آخر يتمثل في بقايا النظام السابق، وبعض العناصر السابقين ضمن الميليشيات الإيرانية والذين ما زالوا على تواصل مع الميليشيات التابعة لإيران سواء في لبنان أو العراق. عدم قدرة الحكومة على وضع كامل إمكانياتها لمواجهة التنظيم في الوقت الحالي يفتح الأبواب أمام فرص تعاون إقليمي ودولي مع الحكومة السورية وتنسيق مشترك من أجل دعم الجهود السورية والدولية للقضاء على “داعش” ، وهو أمر لن ترفضه دمشق التي أبدت استعدادا له من خلال الاعتماد على معلومات من قبل الجانب الأميركي في شهر يناير/كانون الثاني من العام الجاري، حيث نشرت صحيفة “واشنطن بوست” في الشهر نفسه تقريرا ذكرت فيه أن المخابرات الأميركية زوّدت دمشق بمعلومات عن مخطط لتنظيم “داعش” من أجل استهداف مزار السيدة زينب بريف دمشق.
ويمكن قراءة تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، من دمشق يوم 29 مايو الماضي، في سياق التحالف المشترك الممكن بين واشنطن ودمشق لمحاربة تنظيم “داعش”، حيث قال باراك إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعتزم إعلان سوريا دولة غير راعية للإرهاب قريبا، موضحا أن الإدارة الأميركية تهدف إلى تمكين الحكومة في دمشق، وأن الجيش الأميركي أنجز ببراعة 99 في المئة من مهمته ضد تنظيم “داعش” في سوريا.
المجلة
——————————-
من هم «سرايا أنصار السنة»؟
مجموعات «غاضبة» تظهر وتخبو في سوريا… أشباح افتراضية أم تنظيمات إرهابية تنمو في الظل؟/ سلطان الكنج
ترفض التقارب مع إسرائيل وتهدد دمشق وطرابلس اللبنانية
1 يونيو 2025 م
عدّ لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترمب في الرياض بتاريخ 14 مايو (أيار) الماضي، مشهداً سياسياً غير مألوف في السياق السوري، ومفاجئاً. وإذ عبّر كثيرون عن فرحتهم بهذا اللقاء، فإن وقع الصدمة كان عميقاً داخل أوساط التيار المتطرف الذي تأسس خطابه اعتبار الولايات المتحدة عدوه الأبرز، حسبما تصوّره أدبياته.
اللقاء الذي جمع الشرع بترمب، وهو في مخيال الأوساط المتطرفة رمز للمنظومة الدولية المعادية، أطلق موجة ردود فعل متباينة وصل بعضها إلى حد التكفير. لم تتخذ هذه الردود طابعاً مركزياً أو منظّماً، لكنها ظهرت بتواتر عبر تطبيق «تلغرام» – الذي يُعدّ (للمفارقة) المنصة المفضلة للمجموعات الإرهابية – وفي جلساتهم المغلقة، وأحياناً في حسابات تابعة لهم على منصة «إكس». تباينت تلك المواقف بين التوجّس، والتكفير، والغضب، والتململ من سياسة الانفتاح التي ينتهجها الشرع تجاه الغرب، خاصة تجاه إسرائيل، والتبرير الشرعي لضرورة المرحلة.
مع ذلك، لا يمكن القول إن هذه المواقف تمثّل تياراً له ثقل داخل الدولة السورية الجديدة، أو داخل القوى الأمنية والعسكرية التي تشكلت بعد سقوط النظام السابق، خصوصاً أن الكتلة الكبرى ضمن هذه القوى – أي «هيئة تحرير الشام» سابقاً – تُبدي انسجاماً واضحاً مع سياسات الشرع ومواقفه السياسية والعسكرية والأمنية. فهذه الكتلة، التي شكّلت البنية الأساسية للجيش والأجهزة الإدارية الجديدة، لا تظهر أي مؤشرات على رفض خط الرئيس، بل تعدّه المسار الأنسب لقيادة البلاد في هذه المرحلة، ومعها بقية القوى التي انضوت تحت سلطة الدولة بمختلف مجالاتها.
تتكون هذه القوى من فصائل متعدّدة، أغلبها كان ضمن غرفة العمليات العسكرية التي أسقطت النظام السوري في دمشق. هذه الفصائل باتت اليوم جزءاً من الجيش السوري الجديد، وتُجمع غالبيتها على تأييد الرئيس الشرع، وترى في خطواته تجاه الخارج – بما فيها إسرائيل – ضرورة لمرحلة ما بعد النظام.
لكن، في مقابل هذا التماهي داخل المؤسسات، بدأت تظهر أصوات رافضة لهذا التوجّه من خارج بنية الدولة. ويبدو أن «سرايا أنصار السنة» هي الجهة الوحيدة التي تعبّر بشكل معلن عن هذا الرفض. الجماعة، التي ما زال يحيط بها كثير من الغموض، وتعدّ أحدث التنظيمات التي ظهرت على الساحة بعد سقوط الأسد، بدأت نشاطها من خلال قنوات مغلقة في «تلغرام»، وتبنّت خطاباً شديداً في التكفير والتهديد، دون أن تظهر على الأرض أو تقدم هوية تنظيمية واضحة. وكان أحد البيانات الصادرة عنها وتم تداوله أخيراً، يعلن أن التنظيم سيصعّد ضرباته في جميع المحافظات السورية وفي طرابلس في لبنان التي أعلن سابقاً عن نشاطه فيها.
وصحيح أنه حتى الساعة لا يبدو أن للتنظيم أي ثقل عملياتي على الأرض، لكن في هذه الأوساط تكفي أحياناً قلة لإطلاق «ذئاب منفردة» وزعزعة الأمن.
وكانت «سرايا أنصار السنة» قد أعلنت عن نفسها للمرة الأولى في فبراير (شباط) الماضي، ببيان تأسيسي تبنّت فيه عملية في قرية أرزة بريف حماة، أوقعت أكثر من عشرة قتلى من المدنيين. وركّز البيان على مفاهيم «الانتقام الطائفي» و«مهاجمة النصيرية والروافض»، وأكد أن الجماعة «لا مركزية» وتتبنّى أسلوب «الذئاب المنفردة» دون مقرات أو قيادة واضحة.
وبينما رفضت وزارة الداخلية السورية الإدلاء بتفاصيل حول الجماعة، أكدت أنها تتابع نشاطها من كثب، ما يشير إلى أن الدولة تأخذ التهديد على محمل الجد، رغم غياب البنية التنظيمية الملموسة.
من هم «سرايا أنصار السنة»؟
علمت «الشرق الأوسط» من مصادر مطّلعة في شمال سوريا، أن «سرايا أنصار السنة» هي الجهة التي أعلنت مسؤوليتها عن عمليات اغتيال في ريفي حماة وحمص، واستهدفت مدنيين من الطائفة العلوية، مبررة ذلك بأنه «انتقام» ممن وصفتهم بـ«الشبيحة» الذين لم تُحاسبهم الدولة، متهمين إياها (الدولة) بعدم الإيفاء بوعود تحقيق العدالة الانتقالية التي باتت مثار سخرية بعض ممن يسمونها «العدالة الانتقائية».
غير أن الجماعة لا تزال، حتى الآن، تفتقر إلى أي وجود علني ملموس، ولا تتعدى بياناتها المكتوبة حدود القنوات المغلقة. وتشير المصادر الخاصة إلى أن الجماعة تعتمد بالكامل على بث بيانات تكفيرية بلغة حادة، دون ظهور مرئي لقادتها. ومن أبرز الأسماء التي ظهرت في سياق هذه الجماعة، «أبو عائشة الشامي» و«أبو الفتح الشامي»، وهما اسمان مستعاران، يرجَّح أن صاحبيهما كانا سابقاً في صفوف «حراس الدين»، المنشق عن «القاعدة». وتشير المعطيات إلى أن الشخصين المذكورين أعادا التموضع ضمن خلايا صغيرة تنشط بشكل سرّي في مناطق محدودة من ريفي حمص وحماة.
وفي بيان نُشر على قناة للجماعة على «تلغرام»، شنّ «أبو الفتح الشامي»، الذي يُقدَّم بوصفه المسؤول الشرعي، هجوماً عنيفاً ضد الشرع، متهماً إياه بالكفر والردة. وجاء في بيانه لغة شديدة تُعيد تأصيل العداء مع الحكومة السورية الجديدة بوصفها «عدواً عقائدياً»، وليست فقط خصماً سياسياً. ومع ذلك، فإن الجماعة تتجنب حتى الآن الصدام المسلح المباشر مع الحكومة، وتُركّز على فكرة الانتقام من «الحواضن الاجتماعية» للنظام السابق.
هذا الخطاب – الذي يتمثّل في العداء العقائدي دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع السلطة – يعكس امتداداً للانقسام القديم بين تيار «القاعدة التقليدي»، والتيار المحلي الذي قادته «تحرير الشام» بقيادة الشرع. هذا الانقسام، الذي كان قد خفّ وهجه لفترة، عاد للواجهة بقوة بعد لقاء الشرع وترمب، وأعاد فتح باب الجدل في أوساط المنظّرين.
وعلمت «الشرق الأوسط» أن من بين أبرز الأصوات المتطرفة التي عبّرت عن رفضها العلني لسياسات الرئيس السوري أحمد الشرع، كان خالد أبو قتادة الأنصاري، القيادي البارز في تنظيم «حراس الدين» سابقاً، الذي وجّه اتهامات للدولة السورية بـ«الخيانة» و«الانحراف عن النهج».
وفي السياق ذاته، برز موقف سامر العلي (أبو عبيدة)، الشرعي السابق في «جبهة النصرة»، الذي وصف زعيم الرئيس أحمد الشرع بأنه «مرق عن المنهج» واتهمه بالتخلي عن ثوابت المشروع الأساسي لصالح حسابات سياسية.
أما خارج سوريا، فقد عبّر عدد من المنظّرين عن مواقف مشابهة، أبرزهم أبو عبد الله الشامي، أحد الأصوات البارزة على الساحة العراقية، منتقداً ماعدّه تحوّلاً جذرياً على حساب العقيدة.
وقد ظهر هذا الجدل بوضوح بين منظرين بارزين؛ فـ«أبو محمد المقدسي» جدّد خطابه الرافض للشرع، وعدّ تقاربه مع واشنطن وإسرائيل خروجاً عن «الثوابت»، بينما رأى «أبو قتادة» أن هذه التحولات قد تكون ضرورية في مرحلة ما بعد إسقاط النظام، لحماية مكاسب الثورة. هذا التباين يعكس انقساماً بين رؤية ترى في «الشرع مرتداً»، وأخرى تعدّ خطواته واقعية ومُبررة وتجعل منه رجل المرحلة.
لا معارضة داخل الحكومة
في هذا السياق، يرى القيادي العسكري السابق، أدهم عبد الرحمن، أنه لا يوجد تيار متطرّف واضح وثقيل يعارض سياسات الحكومة. وقال في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «هي سياسة سلطة وليست سياسة فرد، ولو أن الشرع هو من رسم طريقها. الرفض الشعبي أو الإسلامي لمسألة السلام مع إسرائيل موجود، لكنه اليوم أقل حساسية، وربما مع الوقت سيتبلور في شكل تيارات متعددة، لا تيار واحد، ولن تكون دينية متشددة فحسب، بل قومية وحزبية أيضاً».
ويضيف: «الجماعات المتطرفة المهاجرة تحديداً، تسير الآن نحو الاندماج، وتركز على المعيشة والحياة الطبيعية، حتى لو لم تقتنع تماماً بالسلطة الجديدة. هذا ما لاحظته في أكثر من حالة».
وحول إمكانية استغلال تنظيمَي «القاعدة» و«داعش» لهذا الامتعاض، يقول عبد الرحمن إن «تنظيم الدولة» يسعى بالفعل لإعادة ترتيب صفوفه، ويملك القدرة على جذب شرائح مهمّشة عبر شعاراته المعتادة. ومع ذلك، فإن الحكومة الجديدة، التي خرجت من تجربة تنظيمية أصيلة، وتراكمت لديها خبرات أمنية وعسكرية كبيرة خلال سنوات الحرب، لا تبدو لقمة سائغة أمام هذه التحديات.
تباينات في «تحرير الشام»
يرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، أحمد سلطان، أن هناك تبايناً بين تيارات داخل «هيئة تحرير الشام»، التي تشكل العمود الفقري للدولة السورية الجديدة. بعض هذه التيارات لا يزال يميل إلى السياسة المتشددة التقليدية ويبدو غاضباً من سياسة أحمد الشرع، من دون أن يمتلك تصوراً واضحاً لمفهوم الدولة المرجوّ بعد سقوط النظام السابق. إلا أنه لا يزال يؤمن بوجهة النظر التقليدية التي تعدّ مجرد التواصل مع «الأعداء» معادلاً للردة.
في المقابل، هناك تيار آخر موازٍ يرى في الانفتاح السياسي «تكتيكاً وضرورة مرحلية». وأكد سلطان أن إدارة الشرع تراوح بين التيارين لاحتواء الغاضبين، بهدف الحفاظ على تماسكها، لا سيما في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها سوريا.
وقال الباحث لـ«الشرق الأوسط»: «التيار الرافض لا يبدو أنه الكتلة الكبرى. الكتلة الكبيرة هي التي تتماهى وتساند الشرع، وهي التيار الأقوى. إدارة الشرع حسمت أمرها بأنها لن تسير مع التيار المعارض أو المتوجس من الانفتاح، وقد يتم التفاهم معه تفادياً لأي خطر، خصوصاً أن الشرع يدرك أن القبول الدولي به قائم على كبح التيارات الأكثر تشدداً».
مخاوف من انشقاقات وتأهب للحسم
عدّ سلطان أنه في حال حدوث انشقاقات داخل «تحرير الشام»، التي تُعد العصب الأساسي في الدولة السورية، فإن ذلك سيكون مهدداً لتماسك إدارة الشرع، كما هو حالها الآن، وقد يؤدي إلى اقتتال داخلي يؤثر على الدولة كلها.
وبحسب الباحث تستعد الإدارة الآن لحسم ملفات مهمة، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرقي البلاد، وملف المقاتلين الأجانب، وضبط الحدود وتكريس سلطتها؛ لذلك لا بد من احتواء التيارات المتشددة. ويقول: «لدى الشرع وسائل عملية لتفادي مخاطر التيارات المتشددة داخل حكومته، مثل الاحتواء قدر الإمكان، عبر الدروس الشرعية واستخدام النص الديني الذي يقنع تلك الجماعات بضرورة الوحدة والتكاتف لتجاوز مخاطر المرحلة. لا سيما أن بعض الشرعيين المقربين من الشرع لهم ثقل وهيبة لدى التيارات المتشددة، ومن ثمّ يمكنهم إقناع هؤلاء في حال بدأت الخلافات تتعمق».
ويشير سلطان إلى أن من بين الوسائل أيضاً «الاستئصال» لبعض الأجسام أو المكونات التي لا يمكن إقناعها بالوسائل الشرعية، ويختتم بالقول: «في النهاية، لن يتهاون الشرع مع عقلية التيار المتشدد إذا قرر الذهاب باتجاه التشويش والتحريض، وسيلجأ إلى أدوات قد تصل إلى حد الاعتقال أو التصفية».
الاحتقان يهدد الحاضنة الشعبية
يقول محمد الإبراهيم، المعروف باسم «أبو يحيى الشامي»، وهو قائد عسكري سابق في أحد الفصائل الإسلامية ومطّلع على تقلبات الجماعات المتطرفة، إن المشهد السوري لا يزال معقداً، ولا يمكن التنبؤ بما قد يحدث. ويضيف: «سوريا اليوم فيها قوى كثيرة، وإذا أرادت الحكومة أن تستمر، فعليها ألا تخسر حاضنتها الكبرى من الثوار».
أبو يحيى الشامي شدد على أن «التكفير هو سلاح الغلاة والدواعش، وهو أمر مرفوض من قبلنا ومن قبل كثيرين داخل الحركة الإسلامية». ورأى أن مواجهة الأخطاء والاجتهادات الخاطئة لدى السلطة يجب أن تتم بوسائل علمية ومجتمعية متزنة، قائلاً: «لا يوجد شيء اسمه تشويش شرعي، فالشرع هو المعيار الذي يحكم على صحة أو بطلان الأفعال».
وأشار إلى وجود مخاوف من تأثر بعض الشباب المتحمسين أو الغلاة بخطاب الجماعات المتطرفة، مؤكداً أن «أهل الخبرة والوعي يعملون على احتواء هذه النزعات، لأنها لا تحل المشكلات بل تفاقمها».
وحذّر الإبراهيم من استغلال تنظيم «داعش» لحالة الاحتقان في بعض الأوساط السلفية، وقال إن التنظيم ينشط في البيئات التي يسودها الجهل والغلو، وقد يستفيد من المنشقين من التيارات المعارضة للإدارة الجديدة وهؤلاء الذين يعانون ضغط الحكومة على من عاشوا تجربة القتال ورفع الشعارات، ليصطدموا لاحقاً بواقع سياسي مختلف.
الشرق الأوسط»
———————————————
المقاتلون الأجانب في سوريا… العقدة والحل/ سلطان الكنج
هل تنجح الإدارة الجديدة في تجاوز امتحان ترمب؟
2 يونيو 2025 م
ترافق إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفع العقوبات عن سوريا بخمسة شروط أو مطالب، منها «مغادرة جميع المقاتلين الأجانب» من الأراضي السورية. ويشكّل هذا المطلب تحدياً كبيراً بالنسبة للإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع لما لهؤلاء المقاتلين من «دَين» في عهدة «هيئة تحرير الشام» على مدى السنوات الماضية وحتى سقوط نظام بشار الأسد.
فمنذ أن أُعلن عن تشكيل «الجيش الحر» في بدايات الثورة السورية، بدأت مرحلة جديدة من تدفق المقاتلين الأجانب من دول عربية وأجنبية. وكانت الحدود التركية ممراً مزدوجاً للسوريين الفارين من جحيم الحرب وجعلوا لنفسهم فيها موطناً أو رحلوا منها إلى الدول الأوروبية، ولمئات المقاتلين من غير السوريين المتوجهين إلى جبهات القتال داخل سوريا والتحقوا بدايةً بالتشكيلات المسلحة غير «المؤدلجة» في تلك المرحلة.
«حواضن الثورة»
بين عامي 2012 و2014، حين اشتد القصف بالبراميل المتفجرة وأنواع الأسلحة كافة على الأحياء الخارجة عن سيطرة النظام السابق، حظي المقاتلون الأجانب بسمعة جيدة فيما سُمي «حواضن الثورة»، لا سيما في الشمال السوري، لا لكونهم شاركوا بقوة وفاعلية في القتال ضد قوات الأسد فحسب، وإنما أيضاً لما عُرف عنهم من شدة في القتال. كذلك في مرحلة ما، شكَّلوا مجموعات «الانغماسيين» و«الانتحاريين» ونفَّذوا عمليات «نوعية» واقتحامات فاكتسبوا تعاطفاً شعبياً واسعاً وأُطلق عليهم اسم «المهاجرين».
وبعد سقوط النظام السوري السابق في 8 ديسمبر (كانون الأول)، كانت تنظيمات المقاتلين الأجانب، مثل «الحزب الإسلامي التركستاني» و«أجناد الشام» (شيشان) وأجناد القوقاز جزءاً أساسياً من «غرفة إدارة العمليات العسكرية» بقيادة «هيئة تحرير الشام». وفي أول تصريح حول قضية المقاتلين الأجانب في البلاد، قال الرئيس السوري أحمد الشرع إن هؤلاء الذين ساهموا في إطاحة نظام الأسد «يستحقون المكافأة». وأوضح الشرع، في لقاء مع صحافيين منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، أن جرائم النظام السابق دفعت إلى الاعتماد على المقاتلين الأجانب، وهم يستحقون المكافأة على مساندتهم الشعب السوري، ملمّحاً إلى إمكانية منحهم الجنسية السورية؛ وهو ما أثار نقاشات واسعة في حينه.
ولم يمضِ وقت كثير قبل أن تعلن الإدارة السورية الجديدة تعيين مجموعة من هؤلاء المقاتلين في مناصب عسكرية رفيعة ورتب تتراوح بين عميد وعقيد في الجيش السوري الجديد، وأبرزهم عبد الرحمن حسين الخطيب، وهو أردني تمت ترقيته إلى رتبة عميد، وعلاء محمد عبد الباقي، وهو مصري، وعبد العزيز داوود خدابردي التركستاني من الإيغور، ومولان ترسون عبد الصمد (طاجيكي)، وعمر محمد جفتشي مختار (تركي)، وعبد البشاري خطاب (ألباني)، وزنور البصر عبد الحميد عبد الله الداغستاني، قائد «جيش المهاجرين والأنصار».
العقدة والحل
اليوم، في حين القرار بشأن مصيرهم على المحك، يشكّل هؤلاء الأجانب أحد أوجه العقدة والحل في مستقبل سوريا. وفي السياق، قال لـ«الشرق الأوسط» قيادي سابق في «هيئة تحرير الشام»، فضَّل عدم ذكر اسمه، إن «إدارة الشرع لن تمانع من الاستجابة لشرط الإدارة الأميركية»، مؤكداً أن «الإخوة المهاجرين» أنفسهم لا يتمسكون بالمناصب «إن كانت تعيق مصلحة البلاد».
وبالفعل، بعد أقل من يوم على لقاء ترمب – الشرع في العاصمة السعودية، بدأت وكالات محلية سورية تبث أخباراً حول مداهمة الأمن العام مقار تابعة للمقاتلين الأجانب في ريف إدلب. وفي حين لم يتسن لـ«الشرق الأوسط» تأكيد هذه المداهمات بعد، فإن الإجراء سواء كان حقيقياً وبدأ بالفعل أو أنه مجرد فقاعة إعلامية، فإنه يرسل إشارة واضحة إلى النوايا.
ويقول كريم محمد، وهو قيادي في الجيش السوري (الحالي) وكان قائد كتيبة في «هيئة تحرير الشام» تضم مقاتلين أجانب، يقيم حالياً في دمشق، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «لا مصلحة للحكومة بأي خطوة سلبية تجاههم» لكونهم يتمتعون بشعبية قوية داخل صفوف الجيش والأمن الجديد وحاضنة الثورة. ويضيف محمد: «بدأت منذ فترة بعض الدول تطرح مسألة المقاتلين الأجانب بصفتها ورقةَ ضغطٍ على الحكومة الجديدة. هؤلاء المقاتلون، الذين نسميهم نحن بصفتنا ثواراً (المهاجرين)، كان لهم دور حاسم منذ بداية الثورة، وبرزت خبراتهم العسكرية في المعارك»، مؤكداً أن الحكومة «تبذل جهوداً واضحة لإبعاد المهاجرين عن الصراعات الداخلية وإعادتهم إلى مواقعهم في إدلب، مع وعود بدمجهم بالمجتمع، وربما حتى منحهم الجنسية السورية مستقبلاً».
«لا مطالب بطرد الأجانب»
الباحث في الجماعات المتطرفة حسام جزماتي يرى أن هناك سوء فهم كبيراً لهذه المسألة؛ إذ إن المطالب الأميركية والغربية لا تتضمن طرد المقاتلين الأجانب «بقدر ما تشترط أمرين، ألا يحتل هؤلاء مناصب بارزة في الدولة الوليدة، ولا سيما في الجيش والأمن والحكومة، وألا يتخذ أي منهم من الأراضي السورية منصة لانطلاق عمليات عسكرية في الخارج أو الإعداد لها أو التدريب عليها».
وأضاف جزماتي لـ«الشرق الأوسط»: «عندما كانت (هيئة تحرير الشام) تسيطر على إدلب، ومنذ سنوات، التزمت بعدم السماح لأي فصيل باتخاذ الأراضي السورية منصة للتهديد، وقد ضبطت إيقاع الجهاديين بشكل لا يطمحون معه للعمل عبر الحدود».
وتابع: «ما يرفضه حلفاء (المهاجرين) وإخوانهم هو طردهم من البلاد التي قاتلوا للدفاع عن أهلها في وجه نظام متوحش، أو تسليمهم إلى دولهم، حيث تنتظرهم السجون وربما الإعدام. وعموماً، لا أظن أن قيادات ومقاتلي (هيئة تحرير الشام) وسواها من الفصائل، والحاضنة الإسلامية أو الثورية المحبة لنموذج المهاجر، مصرّة على أن يتصدر هؤلاء بناء الدولة. ولا أعتقد أن ذلك في ذهن (المهاجرين) أنفسهم».
ويؤكد ذلك أبو حفص التركستاني، وهو يرأس حالياً كتيبة في الجيش السوري (ضمن تشكيلات وزارة الدفاع) غالبية عناصرها من التركستان وتوجد بين ريف إدلب وريف اللاذقية، وكان قيادياً في «الحزب الإسلامي التركستاني». ويقول التركستاني لـ«الشرق الأوسط»: «لم نأتِ إلى سوريا لقتل السوريين، ولم نأتِ هنا لكسب مادي أو مناصب، فقط قدِمنا لنصرتهم، لنشاركهم همومهم وننصرهم بقدر ما نستطيع والحمد لله تحقق النصر ولنا شرف مشاركة إخوتنا به». وأضاف التركستاني أن هناك هجوماً إعلامياً ممنهجاً عليهم حالياً يتهمهم بأنهم وراء أي تجاوز يحدث، وأنهم «وراء الهجمات على قرى الساحل أو السويداء وهذه مجرد افتراءات».
وأوضح: «نحن لم نتدخل يوماً في شؤونهم (السوريين)، كنا نعيش طوال هذه السنين معهم ولم نتدخل في أساليب حياتهم. نحن نعرف أن لكل شعب اختلافات في العادات، وإن كنا لا نتفق في كثير من الأمور، لكن لم نتدخل في المجتمع السوري. وإن حدثت بعض التجاوزات في السنين الماضية في إدلب، فهي أحداث لم تتكرر، والسوريون يعرفون ذلك جيداً».
ويرى جزماتي أنه يمكن لـ«المهاجرين» أن «يبقوا في سوريا بصيغ قانونية رسمية واضحة يتفق عليها، وبصفة مدنية فقط من دون أن يتصدروا الواجهة بدولة ليسوا مشغولين بحكمها أصلاً، وأن يتعهدوا بعدم استخدام أراضيها لتنفيذ مخططات جهادية خاصة بهم في بلدانهم الأصلية أو في أنحاء العالم، لما قد يسببه ذلك من ضرر بالغ. وإلا، فيمكنهم المغادرة إلى الوجهة التي يختارون».
معضلة التعيينات
قال أحد المقاتلين الأجانب (من جنسية عربية) ويكنى بـ«أبي محمد» لـ«الشرق الأوسط»: «نحن لن نقف ضده (الشرع) كما فعلنا طوال السنوات الماضية. لم نتدخل في قتال الفصائل وكنا على مسافة من الجميع ونراعي مصالح سوريا التي لم ولن تتضارب مع مصالحنا يوماً. كنا نقدِم على الموت من أجل حياة السوريين، ونعرف كيف نعيش الآن تحت ظل دولة نقدّرها ونحترمها».
ولكن المعضلة – بحسب جزماتي – تكمن في صعوبة «التراجع عن التعيينات وقرارات ترفيع العسكريين التي أعلنتها القيادة العامة، بعد ثلاثة أسابيع فقط من سقوط نظام بشار الأسد، وبينهم ثلاثة عمداء وثلاثة عقداء».
وحسب التسريبات التي اطلع عليها جزماتي، فقد تعهد المسؤولون بإيقاف تعيين غير السوريين منذ الآن، وتبقى مسألة الذين جرى تعيينهم بالفعل عالقة وتحتاج إلى حل لا يحرج وضعهم ورتبهم وربما مناصبهم.
وعن احتمالات استغلال الجماعات المتطرفة مسألة التضييق على عناصرها وإبعاد المقاتلين الأجانب منهم، قال الباحث: «لا أرى أن تنظيم (القاعدة) في وارد إحياء نشاطه في سوريا بعدما حلّ فرعه فيها، أي حراس الدين. أما (داعش)، التي لا نعرف مخططاته السورية بالضبط، فربما يستقطب معترضين على سياسة الحكومة الحالية، سواء كانوا من السوريين أو من غيرهم. وربما تحاول ذلك مجموعات أو تنظيمات جديدة ترى في سلوك السلطة الحالية ابتعاداً عن تطبيق الشريعة كما يريدون».
ولا تقف كل مجموعات المقاتلين الأجانب عند نقطة واحدة على طيف التطرف. فهناك تمايز آيديولوجي بينها بدأ لحظة توافدهم إلى سوريا وطريقة هذا التوافد، سواء بالتجنيد المسبق أو الاندفاع الذاتي. فأحياناً كان يتم إرسال مقاتل إلى بلده ليجنّد شباناً راغبين في المجيء إلى سوريا بعد التواصل معهم عبر الإنترنت، فيتم تنظيم انتقالهم بطريقة مدروسة منذ لحظة انضمامهم وحتى عبورهم الحدود وانضمامهم إلى تنظيم محدد. وأحياناً أخرى كان البعض يصل منفرداً بالاعتماد على المهربين ورحلات سياحية عبر تركيا وغالباً كانوا يتكبدون تكاليف السفر من جيوبهم.
ومع الوقت، وخصوصاً أواسط 2013، تشعبت الفصائل وكثرت وبدأت تظهر عملية الفرز والتمايز بينها؛ لكن بقيت وجهة غالبية المقاتلين الأجانب الجماعات الجهادية، لا سيما «جبهة النصرة»، في حين التحقت قلة من الأجانب بجماعات «معتدلة» مثل «لواء التوحيد» في حلب.
خلافات وانشقاق وتشكيلات
مع تعمق الخلافات المتعلقة بالأفكار أو التنافس على النفوذ، انتقل أغلب «المهاجرين» إلى جماعات انقسمت على بعضها في فترات معينة، مثل «جبهة النصرة» التي كانت تابعة لتنظيم الدولة (داعش) وانشقت عنه بعد رفض قائدها حينذاك أحمد الشرع مبايعة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وإعلانه في المقابل بيعته وتنظيمه لزعيم «القاعدة» السابق أيمن الظواهري.
في تلك الفترة انشق المزيد من المقاتلين الأجانب وقيادات من «النصرة» للالتحاق بتنظيم «داعش»، عادّين أن «بيعة الظواهري» غير مقبولة ليدخل الفصيلان في جولات اقتتال أفضت بجزء منها إلى تشكيل جماعات مستقلة عنهما، أبرزها «جند الأقصى» الذي أسسه الجهادي العراقي المولد الفلسطيني الأصل أبو عبد العزيز القطري، وتشكيلات أخرى اعتمدت التمحور حول جنسيتها الأصلية مثل الإيغور والأوزبك والشيشان.
لكن مع تمدد «داعش» جغرافياً أواسط 2014 في محافظات غرب وشمال غربي العراق وصولاً إلى محافظات دير الزور والرقة وجزء من محافظة الحسكة وريفي حلب وإدلب، بدأت حالة من العداء بين التنظيم وجماعات أخرى تشكلت من مقاتلين أجانب أيضاً وحكم عليها التنظيم بـ«الردة». وهذه معظمها بقيت على علاقة جيدة بـ«جبهة النصرة»، مفضلة «الحياد» في كثير من المعارك على الانحياز إلى طرف دون آخر في «قتال الإخوة».
ومن تلك الفصائل التي بقيت على حالها حتى سقوط نظام الأسد، «الحزب الإسلامي التركستاني»، و«أجناد الشام» و«أجناد القوقاز» و«أنصار التوحيد»، وبقايا فصيل «جند الأقصى» الذي كان أغلب قادته من السوريين وانفرط عقده في 2017. وذهب قسم منه باتجاه «داعش» وآخر بقي في مناطق إدلب باسم «أنصار التوحيد» وكان أحد التشكيلات المتحالفة مع «هيئة تحرير الشام» في إدارة العمليات العسكرية التي سيطرت على دمشق.
«سورنة» المعركة
في الأعوام بين 2014 و2018، كانت «هيئة تحرير الشام» بدأت تكبح منهجياً من سلطة المقاتلين الأجانب وتنحيهم عن تصدر القيادة والظهور في الإعلام كما كان الوضع سابقاً، واعتقلت الكثيرين منهم كما فعلت مع «حراس الدين». كذلك طردت من صفوفها الكثير ممن رفضوا الانصياع للتغيرات التي أحدثها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) وقتها. فقد بدأ هؤلاء المقاتلون الأجانب يشكّلون عائقاً في وجه مشروع «هيئة تحرير الشام» داخلياً وخارجياً. فمن جهة راح يتنامى لدى السوريين شعور بأن «الهيئة» تفضل عناصرها وقادتها من الأجانب على السوريين، وخارجياً صار هؤلاء يظهرون في الإعلام وينشطون في المساجد، ويتركز خطابهم على أدبيات جهادية كتلك التي تقول بها «القاعدة»، بل ووجدت «هيئة تحرير الشام» أنهم يعرقلون علاقتها مع تركيا؛ إذ حرّموا التعامل مع الجيش التركي؛ كونه ينتمي إلى حلف شمال الأطلسي، «ناتو».
وعليه، عمل الشرع على «تشذّيب المتشددين داخل الهيئة من السوريين والأجانب على السواء»، وغيّر الخطاب من «جهاد عابر للحدود» إلى محلي سوري، فبدأت تظهر في خطاباته عبارات تدل على المحلية وأن سوريا لها الأولوية كعبارة «ثورة أهل الشام» التي كثيراً ما كان يرددها.
في تلك المرحلة اصطف معه كثير من المقاتلين الأجانب وتبنّوا رؤية الشرع «الوطنية»، عادّين أن سوريا للسوريين وأنهم «أنصار» في هذا، وعمل هو بالتوازي على «سورنة المعركة والمقاتلين» من خلال دمجهم في السياسة الجديدة القائمة على الابتعاد عما هو خارج الحدود.
فهل ينجح اليوم وقد صار أحمد الشرع رئيساً للبلاد في إجراء المزيد من التشذيب والدمج بما يحقق شروط الخارج ومصالح الداخل؟
الشرق الأوسط
———————————
واشنطن بوست: المقاتلون الأجانب التحدي الأكبر أمام الشرع بعد إسقاط الأسد
2025.06.01
سلط تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست الضوء على تحدٍ جديد يواجه الرئيس السوري، أحمد الشرع، يتمثل في وجود آلاف المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في الإطاحة بنظام بشار الأسد، والذين باتوا اليوم يشكّلون تهديداً محتملاً لاستقرار السلطة الجديدة في دمشق.
وبحسب التقرير، فإن عدداً من هؤلاء المقاتلين، المنحدرين من دول في أوروبا وآسيا الوسطى، ما يزالون ناشطين في سوريا، ويتمركز معظمهم في محافظة إدلب، وقد تم دمج بعضهم في مواقع أمنية حساسة داخل وزارة الدفاع.
ويواجه الشرع ضغوطاً من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لطرد هؤلاء المقاتلين كشرط لتخفيف العقوبات عن سوريا، في حين تحذّر أطراف دولية من خطر تحوّل بعض هؤلاء إلى مصدر لـ “الاضطراب الطائفي أو العنف المتجدد”.
ويستعرض التقرير شهادات لمقاتلين أجانب يعارضون النهج الجديد للسلطة السورية، ويتهمون الشرع بالتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا ضد “جماعات جهادية متشددة”، كما يبيّن محاولات الحكومة الانتقالية لاحتواء هؤلاء الأفراد عبر دمجهم في الجيش وإخضاعهم لرقابة مشددة.
وفي حين تشدد بعض العواصم الغربية على ضرورة إخراج من يُصنفون كـ “إرهابيين أجانب”، تشير الصحيفة إلى تعقيدات قانونية ولوجستية تحول دون ترحيلهم، لا سيما في ظل رفض دولهم الأصلية استقبالهم مجدداً.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بملف رفع العقوبات عن سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
عندما دخل المتمردون السوريون دمشق منتصرين أواخر العام الماضي، كان زعيمهم المعارض أحمد الشرع يعتمد جزئياً على آلاف المقاتلين الأجانب للمساعدة في الإطاحة بدكتاتورية بشار الأسد.
وبعد ستة أشهر، أصبح الشرع رئيساً، واستمرار وجود هؤلاء المتشددين الإسلاميين أنفسهم – الذين جاؤوا من أماكن بعيدة مثل أوروبا وآسيا الوسطى للانضمام إلى الثورة – يمكن أن يشكل الآن تحدياً عميقاً لبقائه السياسي.
عيّن الشرع بعضاً منهم في مناصب عليا في وزارة الدفاع، وأشار إلى أن العديد من المقاتلين العاديين قد يحصلون على الجنسية السورية، لكن إدارة ترمب طالبت بطرد كل هؤلاء المقاتلين الأجانب كشرط لتخفيف العقوبات الأميركية التي أصابت الاقتصاد السوري بالشلل، فبعد وقت قصير من لقاء الرئيس دونالد ترمب بالشرع في السعودية هذا الشهر، غردت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارولين ليفيت قائلة إن ترمب حث الزعيم السوري الجديد على “إخبار جميع الإرهابيين الأجانب بالمغادرة”.
وعلاوة على ذلك، في حين يبدو أن الشرع عازم على إبقاء مجموعة من الحلفاء الأجانب حوله، فإن بعض هؤلاء المسلحين السنة المتشددين يخلقون بالفعل مشكلات له، ووفقاً لجماعات مراقبة، فإن بعض المقاتلين الذين شاركوا في هجوم قبل شهرين عبر البلدات الساحلية السورية، وأسفر عن مقتل المئات من أفراد الأقلية العلوية، كانوا من المسلحين الأجانب، وتهدد هذه التوترات الطائفية بزعزعة استقرار المرحلة الانتقالية الهشة في عهد الشرع.
وأكثر هؤلاء المقاتلين تشدداً يوجهون غضبهم بالفعل إلى الشرع، غاضبين من أن رفيقهم السابق في السلاح – الذي كان يُعرف منذ فترة طويلة بالاسم الحركي “أبو محمد الجولاني” – لم يفرض الشريعة الإسلامية بعد، ويُزعم أنه تعاون مع القوات الأميركية والتركية لاستهداف الفصائل المتطرفة، وقال أحد المتشددين الأوروبيين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لأنه تلقى أوامر بعدم التحدث، في مقابلة بمدينة إدلب شمالي سوريا: “الجولاني يهاجمنا من الأرض، وأميركا من السماء”.
صنع الحياة في سوريا
تدفّق عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق المجاور خلال العقدين الماضيين، وانضم كثير منهم إلى القتال ضد الأسد خلال الحرب الأهلية المستمرة منذ نحو 14 عاماً، انضم العديد من المقاتلين الأجانب إلى جماعات متطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية، في حين التحق آخرون بفصائل أقل تطرفاً، ويقدّر الباحثون أن هناك نحو 5000 منهم ما زالوا في سوريا، وقد تم دمج كثير منهم في المجتمعات المحلية، لا سيما في الركن الشمالي الغربي من البلاد، وتزوجوا من سوريات ولديهم أطفال نشأوا هناك.
قاتل الشرع نفسه كعضو في تنظيم القاعدة في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وأسس لاحقاً جبهة النصرة في سوريا، وعندما أعيدت تسمية الجماعة إلى “هيئة تحرير الشام” في عام 2017، قطعت علاقاتها مع تنظيم القاعدة وقمعت الفصائل الإسلامية الأخرى، وعززت سلطتها كقوة متمردة مهيمنة.
وفي حين يكافح الرئيس الجديد لتحقيق توازن دقيق، ورد أن الحكومة أمرت الأجانب بالبقاء في الظل وعدم التحدث، وفقاً لما ذكره محللون سياسيون ومقاتلون.
وفي ثلاث زيارات سابقة إلى سوريا منذ سقوط الأسد في كانون الأول/ديسمبر، التقى مراسلو صحيفة واشنطن بوست بمقاتلين أجانب في عدة مناطق من البلاد. ففي كانون الأول/ديسمبر، كانوا متمركزين على طول الطريق المؤدي إلى مدينة حماة وسط البلاد، وقام المقاتلون الأتراك بتأمين طريق على قمة تل إلى ضريح زين العابدين، حيث اندلعت أعنف المعارك، وتجول المسلحون العراقيون في المدينة كسائحين، وفي آذار/مارس، كان أحد المقاتلين من آسيا الوسطى يقود نقطة تفتيش تسد الطريق المؤدي إلى جبل قاسيون الشهير في دمشق، ثم، في أوائل أيار/مايو، اختفوا إلى حد كبير – على الأقل من نقاط التفتيش والشوارع في وسط وجنوب سوريا.
وقال جيروم دريفون، كبير المحللين في الجهاد والصراع الحديث في مجموعة الأزمات الدولية: “حاولت الحكومة عزلهم”، وأضاف: “لكن هناك مشكلة حقيقية في تنفيذ الطلب الأميركي. يقولون إن جميع الإرهابيين خرجوا، لكن هذا يثير السؤال: من هم الإرهابيون في هذه الحالة؟”. ولم تصنف الأمم المتحدة سوى عشرات من المقاتلين كإرهابيين، وفي كثير من الحالات لا تملك الحكومات المحلية سوى معلومات محدودة عن أنشطة رعاياها في سوريا، وعندما يقولون ‘اخرجوا’، فإلى أين؟” سأل دريفون. “بلدانهم لا تريدهم”.
حياة يومية في إدلب
اليوم، فإن غالبية المقاتلين الأجانب تحت راية “هيئة تحرير الشام”، أو الجماعة الإسلامية التي يرأسها الشرع، أو “الحزب الإسلامي التركستاني” المتحالف بشكل فضفاض، يعيش معظمهم في محافظة إدلب، المنطقة التي حكمتها “تحرير الشام” كدولة رديفة خلال السنوات الأخيرة من حكم الأسد.
وفي أحد الأيام الأخيرة في إدلب، كان الرجال يتجولون في الشوارع المزدحمة على دراجات نارية لشراء الخبز والبقالة، ويتوجهون في مجموعات إلى المساجد عند سماع الأذان، بدا أن العديد منهم من آسيا الوسطى، وارتدى بعضهم ملابس رسمية، وبعضهم الآخر ملابس مدنية، وأصر أولئك الذين قبلوا إجراء مقابلات على درجة من عدم الكشف عن هويتهم، بسبب الأوامر بتجنب وسائل الإعلام.
وقال مقاتل فرنسي يُدعى مصطفى، إنه سافر من باريس للانضمام إلى القتال ضد قوات الأسد عام 2013، أولاً مع فصيل صغير يتكون في الغالب من المصريين والفرنسيين، ولاحقاً مع جبهة النصرة، النسخة السابقة من “تحرير الشام” التي كانت آنذاك مرتبطة بتنظيم القاعدة.
وفي محل حلاقة واجهته زجاجية في وسط إدلب، قال الحلاق محمد كردي (35 عاماً): “دائماً أبدأ مواعيدي بالسؤال عن مكان الزبون”، مضيفاً: “كان هناك أشخاص من بيلاروسيا والشيشان وأوزبكستان وأماكن أخرى”، وأوضح: “في بعض الأحيان، كنت أسأل عن الزبائن الذين توقفوا عن المجيء، ثم نكتشف أنهم قُتلوا”.
ويقول خبراء يراقبون الجماعات الإسلامية إن المقاتلين أصبحوا عموماً أقل تطرفاً مع مرور الوقت، رغم أنهم لا يزالون محافظين بشدة، وقالت أروى عجوب، طالبة الدكتوراه في جامعة مالمو: “الغالبية العظمى من الذين بقوا تحت قيادة تحرير الشام حتى تقدموا إلى دمشق، تم استيعابهم واحتواؤهم بطريقة أو بأخرى”.
لم يرغب أي من المقاتلين الذين أجريت معهم المقابلات في مغادرة سوريا، مشيرين إلى احتمال اعتقالهم أو حتى إعدامهم في بلدانهم الأصلية، وقال المقاتل الفرنسي مصطفى: “أنا مطلوب في معظم الدول الأوروبية”، وأضاف آخر: “ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه”.
ضغط من المتشددين
في حين عبّر معظم الذين أُجريت معهم المقابلات عن دعمهم لتطبيق الشريعة الإسلامية تدريجياً، إلا أن مجموعة صغيرة من المتشددين بدأت تفقد صبرها، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، انتقد رجال السلطات الجديدة واصفين إياها بأنها غير إسلامية، لعدم تطبيقها الشريعة، ولعقدها لقاءات مع قادة غربيين يعارضونهم أيديولوجياً.
وقال رجل الدين الكويتي علي أبو الحسن، وهو مسؤول ديني سابق في جبهة النصرة، على قناته على تلغرام هذا الشهر: “أصبح المهاجرون عبئاً على الجولاني بعد أن كانوا قوته”، مضيفاً: “سيتخلص منهم بمجرد أن يؤمن بديلاً”.
ويزيد من سخط المتشددين اعتقادهم بأن الشرع تعاون مع الولايات المتحدة وتركيا في استهداف خلايا تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة عبر ضربات جوية، في حين يسعى لتعزيز سيطرة “تحرير الشام”، أولاً في إدلب ثم في دمشق. وقال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في كانون الأول/ديسمبر: “لقد ساعدونا كثيراً”، وأضاف: “على مر السنين تعاونوا معنا في توفير المعلومات الاستخباراتية”. وفي الشهر التالي، ذكرت واشنطن بوست أن الحكومة السورية الجديدة استخدمت معلومات استخباراتية أميركية للمساعدة في إحباط مؤامرة لتنظيم الدولة الإسلامية لمهاجمة ضريح ديني شيعي قرب دمشق.
وقال برودريك ماكدونالد، زميل مشارك في برنامج أبحاث XCEPT في كينغز كوليدج لندن: “نرى منشورات تقول إن الصبر بدأ ينفد. بعضهم يتحدث عن استعداده لمحاربة طاغية جديد”، وأضاف: “إنهم ينظرون إلى الوضع ويسألون: هل هذا ما قاتلنا من أجله طوال 14 عاماً؟”.
وفي مسجد في إدلب، وصف مقاتل أوروبي من فصيل “حراس الدين” المنحل الشرع بأنه عدو بقدر ما هو عدو للولايات المتحدة، وقال: “إنهم يعطون إحداثياتنا للأميركيين لقصفنا”.
الشريعة لتحقيق التوازن
حالياً، تشعر الحكومة بالقلق من أن يُنظر إليها على أنها تستهدف المقاتلين الذين بقوا موالين لها أو تثير غضب المتشددين المحبطين، وقال دريفون: “إنها لا تريد أن تخونهم، لأنها لا تعرف في النهاية ما الذي سيفعلونه”، وأضاف: “قد يختفون، قد ينضمون إلى جماعات أخرى، قد يبدأون بالعنف الطائفي، وقد تسوء الأمور”.
وبدلاً من ذلك، تحاول السلطات وضع مبادئ توجيهية واضحة للسلوك المتوقع من الأجانب: تجنب التحريض على العنف الطائفي أو السياسي، والامتناع عن الدعوة إلى شن هجمات على دول أخرى، كما تسعى حكومة الشرع إلى دمج معظم المقاتلين الأجانب في الجيش الجديد للبلاد، وقال دريفون: “الفكرة هي وضعهم في هيكل عسكري، ومن الأسهل السيطرة عليهم بهذه الطريقة”، لكنه أشار إلى أن التقدم كان بطيئاً.
وقد عيّن الشرع بالفعل ستة أجانب في مناصب عليا في وزارة الدفاع – وهي خطوة قال خبراء إنها تهدف إلى عزله ضد الانقلابات المحتملة من خلال وضع المناصب الأمنية، بما في ذلك قيادة الحرس الرئاسي، في أيدي موالين أجانب لا يملكون قاعدة سلطة مستقلة، لكن هذه التعيينات أثارت جدلاً كبيراً، سواء بين السوريين أو في العواصم الغربية.
وفي رسالة إلى الإدارة الأميركية قبل أسابيع من زيارة ترمب إلى السعودية، قالت حكومة الشرع إنها أوقفت منح الرتب العسكرية العليا للمواطنين الأجانب، لكنها لم توضح ما إذا كانت الترقيات السابقة قد أُلغيت، حسبما ذكرت وكالة رويترز.
وأشاد المبعوث الأميركي الخاص المعيّن حديثاً إلى سوريا، توماس باراك، بحكومة الشرع في بيان صدر في 24 أيار/مايو، لاتخاذها “خطوات ذات مغزى” بشأن قضية المقاتلين الأجانب، من دون تقديم مزيد من التفاصيل.
وقال ماكدونالد عن الشرع: “لقد مشى على هذا الخط لفترة طويلة لتحقيق توازن بين دوائره الانتخابية”، وأضاف: “هذا هو الاختبار الكبير الآن”.
المصدر: The Washington Post
تلفزيون سوريا
————————————–
مقاتلون أجانب في سوريا: لسنا موظفين في شركة تغيّرت إدارتها!/ فراس دالاتي
03.06.2025
“جئتُ إلى الشام مهاجراً في سبيل الله عام 2012، عابرًا الجبال والحدود عبر تركيا إلى الشام. تركتُ ورائي أمي وأبي وإخوتي ولغتي ووطني. لم يبقَ لي من هذه الدنيا إلا بندقيتي وإخوتي في الخنادق. سلكنا دروب التغيير [مع هيئة تحرير الشام] حتى أصبحنا ما نحن عليه اليوم تحت راية الشيخ أبو محمد. كان الحزب الإسلامي التركستاني موطني”.
منذ أن دخلت قوات إدارة العمليات العسكرية دمشق فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر وأمسكت بمفاتيح “قصر الشعب” عند ظهيرته، تشاركت الأطراف الإقليمية والدولية موقفاً موحداً على رغم الاختلافات المتباينة على حصة كل منها من كعكة سوريا الجديدة: نبذ المقاتلين الأجانب، وكلٌّ حسب أسبابه.
اختلفت المواقف كون أولئك “المهاجرين” لم يأتوا للوقوف عند “حدود سايكس بيكو المصطنعة” التي تحكم دول جوار سوريا، فيما دول “محور الاعتدال الخليجي” ترى في أولئك المقاتلين تقويضاً لمشروع التغيير الذي يقوده محمد بن سلمان منذ عقد، أما الولايات المتحدة، فموقفها يفسر بارتباط كثير من هؤلاء المقاتلين بتنظيم القاعدة، عدوّها الأول منذ مطلع الألفية.
لكن أميركا ترامب تقلبت بموقفها من المسألة مع تقلُّب موقف زعيمها وإدارته من حكام سوريا الجدد، إذ بدأ الأمر بمطالبة نبذهم كلياً، ثم تحول إلى عدم تسليمهم “مناصب عليا” في الدولة بعد ورود أنباء عن تنصيب تركي وأردني قادةً للحرس الجمهوري وفرقة دمشق التي حلَّت بديلاً عن فرقة ماهر الأسد الرابعة سيئة السمعة، ثم عادت وطالبت بطردهم جميعاً كشرط لتخفيف العقوبات، لينتهي الحال بما كشفته وكالة رويترز عن إمكانية دمجهم في الجيش السوري الجديد شريطة فعل ذلك بـ “شفافية ومسؤولية”، أيّاً كان يعني ذلك!
انحصر ما كشفت عنه رويترز بمقاتلي الحزب الإسلامي التركستاني الذي أعلن حلَّ نفسه ضمن وحدة في الجيش السوري الجديد، وعلى رغم أنهم الكتلة الأكبر و”القوة الضاربة” التي ربما تتحول إلى “فرقة مهام خاصة”، إلا أنَّهم ليسوا الوحيدين الذين باتوا يقاتلون تحت علم البلاد وسيرددون نشيدها الوطني الجديد الذي لم يُكتب بعد.
من هم المقاتلون الأجانب؟
يقول مصدر من وزارة الدفاع السورية لـ “درج”، إنه إلى جانب المقاتلين الأويغور (التركستان)، وهم الفئة الأكبر، يأتي الشيشان، ومن ثم المقاتلون العرب الآتون في معظمهم من دول الخليج والأردن ومصر وتونس والمغرب، يليهم الأوروبيون وجلّهم من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. إلا أنَّ أعداد الأخيرين ضئيلة جداً، إذ عاد عدد كبير منهم إلى بلدانهم، وفقًا للمصدر. كما يوجد مقاتلون أفراد من جنسيات مختلفة من آسيا الوسطى.
ويشير المصدر نفسه إلى أن أبرز الجماعات التي توصلت وزارة الدفاع إلى تفاهمات أولية معها لحل نفسها والانضمام إلى الجيش الجديد، إلى جانب الحزب الإسلامي التركستاني، هم فصيل أنصار التوحيد (حوالي 200 مقاتل)، وفصيل أجناد القوقاز (حوالي 250 مقاتلاً)، وفصيل أجناد الشام (حوالي 300 مقاتل شيشاني).
لكن كثيراً ما سمعنا عن المقاتلين الأجانب في صفوف الدولة/الهيئة وقليلاً ما سمعنا منهم، خصوصاً في ما يتعلق بسؤال مصيرهم الذي أضحى شأناً عالمياً بعدما شرَع بعضهم بافتتاح الأفران ومطاعم السوشي والبحث عن الحياة بعيداً عن “الجهاد”.
وبينما قال المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس بارّاك إن المقاتلين الأجانب المنضمين حديثاً الى الجيش “موالون جداً” للإدارة الجديدة، أباحت أصواتٌ أخرى منهم لصحيفة واشنطن بوست بمواقف مغايرة ضد “رفيق سلاحها السابق” الأسبوع الفائت، إذ نقلت عن أحد المقاتلين الأوروبيين قوله إن “الجولاني يهاجمنا من الأرض، وأميركا من السماء”، مستخدماً الاسم الحركي لأحمد الشرع الذي تبناه بين 2013 و2024 عندما نال البيعة.
هل “لكل إنسان وطنان، وطنه الأم وسوريا”؟
نتلّمس ملامح الخيبة وضياع الهوية لدى بعض المقاتلين في ظل غياب الحديث عن منحهم الجنسية السورية مع عضوية الجيش. إذ يحكي إسماعيل بعربيةٍ بليغة، وهو مقاتل أويغوري من تركستان الشرقية، ويخدم حالياً في مدينة اللاذقية في حديث لـ”درج”: “جئتُ إلى الشام مهاجراً في سبيل الله عام 2012، عابرًا الجبال والحدود عبر تركيا إلى الشام. تركتُ ورائي أمي وأبي وإخوتي ولغتي ووطني. لم يبقَ لي من هذه الدنيا إلا بندقيتي وإخوتي في الخنادق. سلكنا دروب التغيير [مع هيئة تحرير الشام] حتى أصبحنا ما نحن عليه اليوم تحت راية الشيخ أبو محمد. كان الحزب الإسلامي التركستاني موطني”.
يتحدث إسماعيل عن رحلته قائلاً: “لم نكن مجرد ضيوف في بلاد الشام، بل كنا درعها وسيفها. سالت دمائي في معارك حلب، واهتزت الأرض تحت قدميّ في إدلب، ودفنت رفاقي بيدي في سهل الغاب. وقفت إلى جانب رجال الشام حين خاف أهلها، وتحملت الجوع والحصار معهم. رأيت طفلي ذا الأربع سنوات يكبر في ترابها”.
وعندما سألناه عن رأيه في الضغوط الدولية الحالية على الشرع لإبعادهم، قال: “بعد كل هذه المعاناة، وبعدما تغيّرت السياسات وتغيرت الأعلام، أشعر أن ظهري مكشوف. كأننا نُسينا. كأن المهاجر الذي ضحى بكل شيء أصبح عبئًا. نُهمّش ونُراقَب ويُطلب منا الصمت. نُطرد بصمت من جبهات القتال، وتُجرى المفاوضات بدوننا”.
يضيف: “نسمع اليوم همسات عن تسوية قد تُدمجنا في فرقة جديدة من الجيش الجديد… وكأننا موظفون جُدد في شركة لا نعرفها. أين حقوقنا؟ أين ولاء الدولة لمن دافع عنها في أحلك أيامها؟ هل هذا جزاء الصدق؟”.
يقول مقاتلٌ طاجاكيّ آخر التقاه “درج” على باب أحد الأفرع الأمنية الشهيرة في دمشق رفض الإفصاح عن اسمه: “لا أطلب الكثير. لا أريد منزلاً ولا راتباً. أطلب الاعتراف فقط. جنسية تضمن لابني أن يذهب إلى المدرسة منن دون أن يُسأل إن كان أجنبياً. وإن مرضتُ، فلن أموت على باب المستشفى لأني (أجنبي)، أريد أن أُحسب من أهل الشام، فلم يعد لي وطن سواها”.
مغامرة إعادة النظر في الأيديولوجيا
زار “درج” بعض نقاط التفتيش العسكرية على جبل قاسيون، المُطل على دمشق، والمُقابل للقصر الرئاسي. وهي منطقة تولَّت مسؤولية حمايتها فرقة الحرس الجمهوري منذ عام 1973. فهناك تمترس عددٌ من المقاتلين الأجانب منذ الأيام الأولى لسقوط الأسد؛ كانت هناك نقطتا تفتيش على الطريق الرئيسي، يحرس كلاً منهما حوالي ستة مقاتلين. تحدث إلى أربعة منهم، ثلاثة من الأويغور وواحد من الطاجيكيين. أكدوا جميعاً أن “هذه نقاط تفتيش تابعة للجيش السوري”، لكن لم يُفصّل أيٌّ منهم أكثر من ذلك.
يطمئن الباحث عباس شريفة، الخبير في شؤون الجماعات الجهادية، قرّاء رويترز ومن نقل عنها، من تطرّف المقاتلين الذين تم ضمهم إلى الجيش، لكونهم “أظهروا ولاءهم للقيادة السورية” وتمت “فلترتهم أيديولوجياً”، ويضطلع بهذا الدور، بحسب مصادر “درج”، المستشار الإعلامي للرئاسة حسن الدغيم، الذي شغل لسنوات منصب مسؤول إدارة التوجيه المعنوي في الجيش الوطني التابع لتركيا، الذي يعقد منذ أسابيع جلسات “تدجين” أيديولوجيّة مع مقاتلين لطالما عدّوه “مرتدّاً”.
– كاتب وصحفي سوري
درج
———————————
=============================