عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 03 حزيران 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة
لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
—————————-
قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية/ فضل عبد الغني
3 يونيو 2025
شكَّل سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 نقطة تحوُّل جيوسياسية محورية في الشرق الأوسط، حيث أنهى هذا التحول المفاجئ، الذي لم تتوقعه القوى الإقليمية والدولية، عقودًا من الحكم الأوتوقراطي والثبات السياسي النسبي الذي اتسم به النظام السوري منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970.
وفَّر هذا التحول غير المتوقع لإسرائيل فرصة غير مسبوقة لإعادة رسم المشهد الإقليمي بما يتماشى مع رؤيتها الأمنية والسياسية. فقد تبنّت إسرائيل موقفًا عدائيًا واضحًا، متجاهلةً محاولات أحمد الشرع للانفتاح و”الاعتدال السياسي”، حيث وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس حكومة الشرع بأنَّها “تهديد وجودي”، مركِّزين على خلفيته الجهادية، ورافضين الاعتراف بتخليه عن أيديولوجيته السابقة. بل ذهبت إسرائيل إلى حدّ اعتبار حكومته متوافقة أيديولوجيًا مع حركة حماس، في مسعى واضح لتبرير خطط توسعية معدة مسبقًا.
وفي أخطر تصعيد عسكري/سياسي، فجر يوم الجمعة الموافق 2 أيار/مايو 2025، شنَّت طائرات حربية تابعة لقوات الاحتلال الإسرائيلي غارة جوية استهدفت موقعًا قريبًا من القصر الرئاسي في دمشق. وعقب الهجوم، صدر بيان مشترك عن نتنياهو وكاتس، اعتبرا فيه الغارة رسالة مباشرة إلى النظام السوري، مؤكدَين رفضهما القاطع لما وصفاه بـ “تهديد الطائفة الدرزية أو إرسال قوات إلى الجنوب”.
احتلال إسرائيلي دائم لأراضٍ سورية
اتجهت أنظار إسرائيل، مباشرة بعد انهيار نظام الأسد، إلى السيطرة على المنطقة العازلة التي تراقبها الأمم المتحدة. ففي 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، سارعت القوات الإسرائيلية إلى احتلال أجزاء واسعة من المنطقة المنزوعة السلاح، التي تمتد بطول يقارب 75 كيلومترًا، ويتراوح عرضها بين 10 كيلومترات في الوسط و200 متر في أقصى الجنوب. وعلى مدار خمسة عقود، شكلت هذه المنطقة حاجزًا أمنيًا محوريًا تحت إشراف قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF)، مما أسهم في الحفاظ على درجة من الاستقرار الحدودي، رغم غياب معاهدة سلام رسمية بين الطرفين.
وفي خطوة مدروسة تعكس تحوّلًا استراتيجيًا، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّ اتفاقية فك الاشتباك لم تعد سارية، معتبرًا أنَّ الترتيبات السابقة فقدت صلاحيتها في ضوء الواقع الجديد. رافق الاحتلال الإسرائيلي عمليات تضييق كبير على مهام قوة الأمم المتحدة، حيث انخفض عدد دورياتها اليومية من 55 – 60 مهمة إلى 3 – 5 فقط. كما كشفت تقارير ميدانية عن قيام القوات الإسرائيلية بإنشاء منشآت عسكرية جديدة ووضع رموز سيادية داخل المنطقة العازلة، في انتهاك مباشر للصلاحيات الممنوحة للبعثة الأممية.
فإلى جانب السيطرة على المنطقة العازلة، عمدت إسرائيل إلى توسيع رقعة نفوذها الإقليمي لتشمل:
كامل مرتفعات الجولان، التي تبلغ مساحتها نحو 1200 كيلومتر مربع، حيث عززت إسرائيل وجودها فيها رغم احتلالها المستمر منذ عام 1967.
مناطق إضافية تتجاوز مساحتها 500 كيلومتر مربع في جنوب غرب سوريا، مما يشكل توغلًا غير مسبوق داخل العمق السوري.
كما كشفت التحركات الإسرائيلية على الأرض عن نية واضحة لترسيخ الوجود العسكري طويل الأمد في المناطق السورية المحتلة حديثًا. فقد أظهرت صور الأقمار الصناعية قيام إسرائيل بإنشاء عدة قواعد عسكرية جديدة، وأكّدت تقارير إذاعة الجيش الإسرائيلي أنَّ تسع قواعد أُقيمت منذ كانون الأول/ديسمبر 2024، توزعت على النحو التالي:
قاعدتان في جبل الشيخ، تعزز الهيمنة الإسرائيلية على أعلى النقاط الجغرافية في المنطقة.
سبع قواعد عسكرية داخل المنطقة العازلة، ما يعكس توجهًا نحو تثبيت الاحتلال بشكل دائم.
ويُلاحظ أنَّ هذه القواعد لا تقتصر على البنية العسكرية، بل تتضمن أيضًا منشآت سكنية وكنيسًا يهوديًا، في مؤشر على وجود خطة منهجية تهدف إلى فرض واقع ديموغرافي وسياسي جديد في المناطق المحتلة. كما تجري أعمال بناء طرق في تلك المناطق، ما يُفسَّر كجزء من جهود دعم العمليات العسكرية وتعزيز السيطرة طويلة الأمد.
تنسيق مع بعض مشايخ الطائفة الدرزية
في أعقاب سقوط نظام الأسد، كثَّفت إسرائيل مساعيها للتواصل مع بعض الشخصيات البارزة في الطائفة الدرزية داخل سوريا، متبنية خطابًا يُظهِرها كمدافع عن الأقليات في مواجهة ما وصفته بالتهديدات المحتملة من الحكومة السورية الجديدة ذات التوجه الإسلامي. وفي هذا السياق، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعليمات مباشرة للجيش الإسرائيلي بضرورة توفير الحماية للتجمعات السكانية الدرزية، مترافقة مع تحذيرات واضحة بأنَّ إسرائيل ستقوم باستهداف القوات السورية في حال اقترابها من قرى محددة، كبلدة جرمانا.
تباين المواقف داخل المجتمع الدرزي
اعتمد الدروز السوريون تاريخيًا مقاربات سياسية متفاوتة، تأقلمت مع تحولات ميزان القوى، وقد تجلى هذا النمط في تباين المواقف تجاه التدخل الإسرائيلي بعد سقوط الأسد. تراوحت المواقف بين انخراط محدود وتعاون حذر من جهة، ورفض قاطع من جهة أخرى:
الانخراط الحذر: رحبت بعض الفئات داخل المجتمع الدرزي بالحماية الإسرائيلية، التي أُطلق عليها محليًا وصف “القبة الحديدية الدرزية”. وقد أبدت بعض القيادات الدرزية استعدادًا لتنسيق أمني محدود مع إسرائيل، وأُنشئت تشكيلات عسكرية محلية سعت إلى الحصول على ضمانات أمنية من الجانب الإسرائيلي.
الرفض الشعبي والسياسي: في المقابل، عبّرت شرائح واسعة من الدروز عن رفضها القاطع لأي تدخل إسرائيلي. شهدت محافظة السويداء مظاهرات رفعت لافتات تؤكد على وحدة الأراضي السورية ورفض الوصاية الأجنبية. وفي آذار/مارس 2025، خرجت احتجاجات واسعة في بلدة جرمانا استنكارًا لتصريحات نتنياهو بشأن “حماية” الدروز، وردد المحتجون شعارات مثل: “نحن سوريون ولا نحتاج حماية أجنبية” و”وحدة سوريا خط أحمر”، مؤكدين تمسكهم بالسيادة الوطنية ورفضهم أي تدخل خارجي.
تداعيات التدخل الإسرائيلي على السيادة السورية والاستقرار الإقليمي
يشكل الاحتلال الإسرائيلي خرقًا واضحًا للمبادئ الجوهرية في القانون الدولي، وعلى رأسها مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، وأُعيد تأكيده في قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967. ومن خلال تجاهلها لاتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، التي نظمت الوضع في المنطقة العازلة طيلة خمسة عقود، فإنَّ إسرائيل تُقوِّض الأطر القانونية التي تحكم العلاقات الدولية، وتفتح المجال أمام سابقة خطيرة.
ويؤكد إنشاء قواعد عسكرية وبنية تحتية دائمة في الأراضي السورية المحتلة عزم إسرائيل على ترسيخ احتلال طويل الأمد. ومن شأن هذا التوسع أن يُخضع أجزاء واسعة من جنوب سوريا للهيمنة الأمنية الإسرائيلية، في تكرارٍ لنموذج الاحتلال الذي مارسته في جنوب لبنان بين عامي 1982 و2000.
كما أدت هذه الحملة العسكرية إلى إضعاف كبير في القدرات الدفاعية السورية. وتشير التقارير إلى أنَّ ما بين 70 % إلى 80 % من الأصول العسكرية الاستراتيجية لسوريا قد دُمّرت، بما يشمل أنظمة الدفاع الجوي والقدرات الصاروخية والبنية التحتية العسكرية التقليدية. وهو ما ينعكس سلبًا على قدرة الحكومة السورية في الدفاع عن أراضيها أو بسط سيادتها، خصوصًا في المناطق التي تشهد نزاعات مع فصائل مدعومة من أطراف خارجية.
ويشكّل التنسيق الإسرائيلي مع الطائفة الدرزية وقوات سوريا الديمقراطية، في أعقاب سقوط نظام الأسد، تحديًا مباشرًا لسلطة الدولة السورية. فمن خلال تقديم نفسها كجهة حامية للدروز، وإنشاء قنوات اتصال وتنسيق أمني مباشر معهم، تسعى إسرائيل إلى إعادة رسم التوازنات الداخلية في سوريا بما يتجاوز حدود المواجهة العسكرية التقليدية. ويُتيح هذا التنسيق لإسرائيل بناء هياكل سلطة موازية تُضعف المركزية الحكومية، وتُهدد وحدة الدولة الوطنية.
تأثير الاحتلال الإسرائيلي على الحياة اليومية
تُظهر شهادات سكان القرى السورية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي آثارًا مدمرة على نمط حياتهم اليومي. ففي بلدات مثل جملة وعابدين، أفاد الأهالي بأنَّ دوريات إسرائيلية قامت بإحراق مركبات عسكرية، وتنفيذ عمليات تفتيش، مع فرض مطالبات بنزع السلاح وتسجيل أسماء القيادات المحلية. كما أبلغ السكان عن حالات مصادرة مواشٍ، واحتجاز مدنيين، وفرض قيود صارمة على النشاط الزراعي، خاصة في المناطق القريبة من مواقع قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، مما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني في المنطقة.
وقد أسفرت العمليات العسكرية الإسرائيلية، والاستحواذ القسري على الأراضي، عن موجة نزوح جديدة طالت آلاف السوريين من المناطق المتأثرة، ليلتحقوا بملايين النازحين داخليًا نتيجة الصراع الممتد منذ عام 2011. ويُشكّل هذا التهجير المستمر عبئًا إضافيًا على الموارد الإنسانية والخدمات العامة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، مما يزيد من تعقيدات جهود الإغاثة وإعادة التوطين.
مسؤولية الحكومة السورية: تشاركية سياسية كضرورة وطنية وحراك دبلوماسي وقانوني موسع
تتحمّل الحكومة السورية الجديدة مسؤولية وطنية عاجلة لتعزيز التشاركية السياسية مع الطائفة الدرزية، من خلال تبني رؤية متكاملة تضمن تمثيلهم الفاعل في مختلف مستويات صنع القرار، ابتداءً من المجالس المحلية ووصولًا إلى المناصب العليا في الدولة. كما يتطلب الأمر منحهم دورًا ملموسًا في مسارات العدالة الانتقالية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، مع الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية والدينية وحمايتها.
ويجب تخصيص موارد تنموية كافية للمناطق ذات الأغلبية الدرزية، والتي عانت من التهميش والإهمال لسنوات طويلة، إلى جانب إشراك أبناء الطائفة في صياغة ميثاق وطني جديد يكفل حقوق جميع المكونات السورية على أساس المساواة والمواطنة. من شأن هذا النهج التشاركي أن يعزز من شرعية الحكومة الانتقالية داخليًا، ويقطع الطريق أمام محاولات إسرائيل استمالة بعض الفئات الدرزية وتوظيفها كأداة لتمزيق النسيج الوطني السوري. كما يُسهم في إفشال سياسة “فرّق تسد” التي تسعى إسرائيل إلى ترسيخها كأداة استراتيجية لإضعاف الدولة السورية وتقويض سيادتها.
حراك دبلوماسي واسع
تواجه الحكومة السورية الانتقالية ضرورة حتمية للتصدي للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عبر تبني حراك دبلوماسي نشط ومتعدد المستويات. ويتطلب ذلك المبادرة الفورية بطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي عقب الهجوم الإسرائيلي على القصر الرئاسي، مدعومة بملف قانوني متكامل يوثق سلسلة الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة السورية ومبادئ القانون الدولي. بالتوازي، يجب على سوريا طلب عقد اجتماع عاجل لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري لاستصدار موقف عربي موحد يدين العدوان ويدعم الحقوق السورية المشروعة.
كما أنَّ التحرك الدبلوماسي النشط تجاه الاتحاد الأوروبي، وتحديدًا الدول ذات المواقف المستقلة نسبيًا، يشكل أولوية لاستصدار إدانة أوروبية للعدوان الإسرائيلي تتخطى بيانات القلق المعتادة. ويجب أن يترافق هذا مع حملة إعلامية منظمة تستند إلى التوثيق الدقيق للانتهاكات الإسرائيلية، وتفعيل التحالفات مع القوى الدولية المناهضة للاحتلال، واللجوء إلى المنظمات الأممية المتخصصة كمحكمة العدل الدولية، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، بهدف تعزيز الشرعية السورية وكشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي أمام الرأي العام العالمي، وحشد الدعم الدولي لحماية السيادة السورية ووحدة أراضيها.
الترا سوريا
————————–
ما يريده نتنياهو من الدولة السورية الجديدة/ ياسر أبو هلالة
03 يونيو 2025
أولاً، التركيع والتطبيع والتوقيع من دون إعادة أيّ من حقوق الشعب السوري في أرض هضبة الجولان (وإعادة مليون نازح)، ولا في جبل الشيخ ومزارع شبعا وشواطئ طبرية الشرقية. يعني التخلّي عما يعرف بـ”وديعة رابين”. يُسوَّق ذلك في إطار اتفاق “وقف الاعتداء”، وهو اختراع نتنياهوي لا سابقة له في تاريخ البشرية، يعني شرعنة الاعتداء الدائم احتلالاً وتهجيراً، مقابل وقف الاعتداء المؤقّت، واعتبار الدفاع عن القانون الدولي اعتداءً، والتوقيع على ذلك. ثانياً، في حال رفض التركيع، تتواصل “الحرب الأبدية” ضدّ سورية وتحويل الدولة وجيشها وأمنها فصيلاً “إرهابياً”، مثل حزب الله وحركة حماس، تضربه إسرائيل متى شاءت، في مطاردة ساخنة، والغرض ضرب الاستقرار في سورية، بمنع قيام الدولة، وتقسيمها وفق منطق “تحالف الأقلّيات”، فيصل الجيش الإسرائيلي إلى كلّ كائن أقلّوي يشعر بالخوف من الدولة، ما يعني ضرب الاستقرار والاستثمار.
بحسب السفير الأميركي روبرت فورد، في محاضرته التي أُلقيت ونشرت عبر قناة مجلس بالتيمور للشؤون الخارجية على “يوتيوب”، وهاجمها كثيرون من دون أن يستمعوا إليها، إسرائيل هي الطرف الوحيد الذي لا يريد الاستقرار في سورية. على الرغم من الرسائل الإيجابية من خلال ضبط النفس واستقبال يهود سوريين والسماح لهم بترميم معابدهم. ووجّه نقداً لاذعاً لإسرائيل التي لم تقصف خلال الثورة السورية، مع قصف نظام الأسد مناطق معارضة بالكيماوي والبراميل، أي قواعد جوية ولا معسكرات طوال حكم الأسد، وفعلوا هذا بعد سقوطه. ويقول بوضوح إن إسرائيل تريد سورية “ضعيفةً مقسّمةً”. في المقابل، يتحدّث عن الأتراك أنهم أصدقاء كبار لسورية، وإنهم القادرون على مواجهة إسرائيل. ويتحدّث عن مخاوفه بشأن صراع تركي إسرائيلي، باعتبار أن إسرائيل قوة عسكرية طاغية، وتركيا قوة عسكرية صاعدة، وعضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو). … تحتاج الدولة السورية، بعيداً من المزايدات والمناقصات، إلى حماية من العدوان الإسرائيلي القديم والجديد. حتى لو أريد لها أن تكون دولةً منزوعة السلاح مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية. حسناً، تقام قواعد عسكرية تركية في سورية، وهي بلد عضو في “ناتو”، لحمايتها من الاعتداءات، وفوق ذلك تبقى قاعدة أميركية لحمايتها من إسرائيل، وإيران أيضاً، أو السماح لها مثل كلّ دول العالم ببناء جيش قوي.
لا يفهم نتنياهو قصّة العدو الإيراني المشترك، ومن يتابع الإعلام الإسرائيلي، ويستمع إلى المسؤولين الأميركيون الموالين لإسرائيل (مسؤول مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض مثلاً)، يدرك أنهم يرون في الرئيس أحمد الشرع تجميعاً ليحيى السنوار وصدّام حسين. أقنع السنوار نتنياهو أنه يريد حكم غزّة، ففاجأه بهجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وصدّام أوهم الغرب أنه يحارب إيران، وفي الحقيقة كانت عدوّه إسرائيل. وللتذكير، في أوج الحرب العراقية الإيرانية ضرب الطيران الإسرائيلي مفاعل تمّوز النووي (1981)، وكان صدّام الرئيس العربي الوحيد الذي حاول الموساد اغتياله. وللتذكير، الحاكم العربي الوحيد الذي قصف الطيران الإسرائيلي قصره هو أحمد الشرع، رغم كلّ رسائل التطمين.
وفي سياق رسائل التطمين، منح الرئيس السوري أحمد الشرع مقابلةً لجوناثان باس، من “المجلة اليهودية” (Jewish Journal)، وهي صحيفة تصدر في لوس أنجليس، وتُعدّ من أبرز المنصّات الإعلامية المعنية بشؤون الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة والعالم، ولم يحصل الصحافي على ما يريده من التزام بالتطبيع والسلام، وخلط أعداء الشرع بين تحليله الصحافي وأمنياته وما قاله الشرع. في المقابلة أكد باس نصّاً: “ورغم أنه لم يقترح تطبيعاً فورياً، إلا أن الشرع لمّح إلى انفتاح على محادثات مستقبلية تستند إلى القانون الدولي والسيادة”. يعني “لمّح” تحوّلت شراكةً أمنيةً مع إسرائيل لمواجهة إيران (حسب جماعة المحور)؟ وفوق ذلك، اعتبر أن موضوع الدروز “غير قابل للتفاوض”. يقول باس: “أبدى رغبته في العودة إلى روح اتفاق فكّ الاشتباك لعام 1974، ليس فقط خطّاً لوقف إطلاق النار، بل أساساً لضبط النفس المتبادل وحماية المدنيين، خصوصاً مجتمعات الدروز في جنوب سورية وهضبة الجولان”. ويقتبس باس من الشرع: “دروز سورية ليسوا بيادق. إنهم مواطنون، راسخون تاريخياً، أوفياء، ويستحقّون كلّ حماية بموجب القانون”. أمنهم غير قابل للتفاوض. قال: “أريد أن أكون واضحاً، عصر القصف المتبادل الذي لا ينتهي يجب أن ينتهي. لا تزدهر أمّة وسماؤها مليئة بالخوف. الحقيقة أننا نملك أعداء مشتركين، ويمكننا أن نلعب دوراً رئيساً في الأمن الإقليمي”. لقد سبق أن لعب صدّام حسين على ورقة الأعداء المشتركين إلى آخر يوم قبل الحرب الأميركية، وحارب إيران ثماني سنوات. وفي الحقيقة كان هو وإيران “الأعداء المشتركين” وليس العكس.
لا تحتاج سورية اليوم إلى من يورّطها في مواجهة خشنة مدمّرة مع نتنياهو، ولا إلى تطبيع مدمّر ناعم، بقدر ما تحتاج وقفةً صادقةً من حلفائها لوقف العدوان عليها، وصولاً إلى إعادة حقوقها التاريخية. كيف يمكن المواءمة بين رفع العقوبات وجلب الاستثمارات في ظلّ الاعتداءات؟ وكيف يمكن الحفاظ على شرعية الدولة الثورية التي قدّمت مليون شهيد في سبيل الكرامة، في ظلّ فرض التركيع والتطبيع والتنازل عن حقوق الشعب السوري؟… يحاول “الأعداء المشتركون” دفع العهد الجديد في سورية باتجاه إسرائيل لنزع شرعيته وإظهاره خائناً وعميلاً صهيونياً، وهم أنفسهم من يقبلون سكوت حزب الله، وهو حركة مقاومة وليس دولةً، على الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة عليه ولا يردّ بطلقة، يشنّون الحملات على العهد الجديد في سورية عندما لا يردّ على الاعتداءات الصهيونية. العداء للصهيونية مسألة مبدئية أخلاقية، وليست دعايةً سياسيةً للترويج أو التشويه. فمن يقف ضدّ الصهيونية عندما تعتدي على كنيسة القيامة، يقف ضدّها عندما تعتدي على المسجد الأقصى، ومن يقف ضدّ الصهيونية عندما تعتدي على حزب الله، يقف ضدّها عندما تعتدي على “حماس” أو الدولة السورية أو اليمنية.
تظلّ الورقة الأقوى بيد الدولة السورية موقف شعبها، مشهد هجوم الأبطال السوريين العزّل على الدورية الإسرائيلية في القنيطرة، وإنزال العلم الإسرائيلي ودوسه وحرقه عبّر عن شجاعة وذكاء ووعي. فلم تتمكّن الدورية من الاشتباك مع العزّل، ولو كان فيهم مسلّح لكرّرت مجزرة الكويا، التي استشهد فيها ستة شبان تصدّوا بسلاح خفيف للدورية الغازية. مقابل هذه المقاومة الشعبية، توسوس أصوات نشاز تزعم الانتساب للثورة بنظرية نتنياهو في التطبيع. من المفيد للدولة السورية الاستثمار في الورقة الشعبية، وهي تحتاج تأطيراً وتنسيقاً، للجان لنازحي الجولان، ولجان للاجئين الفلسطينيين، وللتضامن مع غزّة… لا أنسى يوماً التقيت فيه اللواء إلياس رزق في مشروع بحثي عام 2009، وكان عضواً في الوفد السوري المفاوض، عندما سألته عن عدد نازحي الجولان، فقال: مليون. سألته لماذا لا يخرجون مظاهرات تطالب بالعودة. لم يُجب. اليوم مفترض أن يخرجوا.
ليس الحديث عن مركزية القضية الفلسطينية تكراراً لما كان يردّده الرئيس أحمد الشرع في إدلب، ولا قادة هيئة تحرير الشام، بقدر ما هو توثيق لموقف الدولة السورية منذ تأسيسها. فكلّ العهود في سورية تبنّت المواقف العربية في مركزية القضية الفلسطينية، وإضافة إلى الأعداء يحاول بعض الحلفاء بحسن نيّة إلقاء العبء على الدولة السورية، وتتنوع نصائحهم إلى درجة التناقض، فثّمة من ينصح بتجنب التفاوض المباشر مع العدو، وإسناد ذلك إلى الحلفاء، مقابل من ينصح بالتفاوض المباشر بشكل سرّي أو علني. والأسوأ من ذلك كلّه من ينصح بالتوقيع والتركيع ونسف شرعية دولة الثورة، ثورة الكرامة أمام المستبدّ والمحتلّ.
العربي الجديد
—————————-
الشرع وإسرائيل… أرضيّة هشّة/ حسام أبو حامد
03 يونيو 2025
شكّل لقاء أحمد الشرع – دونالد ترامب في الرياض، منتصف الشهر الماضي (مايو/ أيار)، نقطة تحوّل غير مسبوقة في مسار العلاقات السورية الأميركية، والغربية عموماً، خصوصاً مع قنوات تواصل غير مباشرة مع إسرائيل (مستمرّة). لم يكن الحدث خرقاً للمحظور السياسي التقليدي في سورية فقط، بل لحظة مفصلية تكشف طبيعة المرحلة المقبلة، مرحلة إعادة صياغة التوازنات، محلّياً وإقليمياً. إلا أن ما يجب الانتباه إليه ليس الحدث في ذاته، بل تداعياته على الداخل السوري، الذي تغيّر في تركيبته وأولوياته.
بالانفتاح على الغرب، والقبول الضمني بتفاوض مع إسرائيل، يقدّم النظام السوري الجديد نفسه براغماتياً قادراً على كسر الجمود السياسي، مقابل مكاسب اقتصادية وخروج من العزلة، إلا أن مخاطره الداخلية عميقة. صحيحٌ أن الشعارات القومية لم تعد أولويةً لدى قطاع واسع من السوريين، لكن ذلك لا يعني أن الذاكرة الجمعية قد غفرت للاحتلال الذي يحتل أراضي سورية ولا يزال يقصف العمق السوري. هناك فرق بين تراجع الحماسة والقبول العلني بالتطبيع. هذه المسافة، إن لم تُدر بحكمة، قد تولّد انفجارات مفاجئة. لا يمكن تفسير الصمت قبولاً شعبياً، بل ناتج تراكمي لعوامل عدّة، بعد أن أنهكت سنوات الحرب الذاكرة السياسية، وغيّرت الوعي الجمعي، فالأجيال الجديدة أقلّ انغماساً في القضايا الكبرى، وأكثر حساسية لمسائل المعيشة المباشرة، ما ينتج مناخاً يقبل (أو يتسامح مع) تحوّلات جذرية في السياسة الخارجية، ما دامت تُفضي إلى تحسّن اليومي المُعاش. لكن هذا الصمت ظرفي، هشّ، لا يمكن البناء عليه مؤشّراً استراتيجياً، وأيّ خطوة علنية نحو التطبيع، إن لم تُغطّ داخلياً برؤية وطنية شاملة، قد تواجه ردّات فعل واسعة، حتى لو تأخّرت.
تستفيد التيّارات المتطرّفة، في مقدّمها سرايا أنصار السنة (أعلنت تشكّلها في فبراير/ شباط الماضي، وتتغذّى ممّا تسميه “انتقاماً طائفياً” ضدّ بقايا الحاضنة الاجتماعية للنظام السابق)، وإنْ لم تزل محدودة التأثير عسكرياً، من هذه اللحظات الرمادية لتوسيع قاعدتها، انطلاقاً من “هوامش العدالة المؤجّلة”، وتُقدّم نفسها أداةً انتقاميةً ضدّ ما تراه تنازلاً شرعياً وطنياً وطائفياً، في آنٍ معاً. فالانتقال السياسي ما بعد الأسد لم يرافقه انتقالٌ عادلٌ في البنية الحقوقية، وليس هناك بعد أيّ محاكمات بحقّ أبرز رموز النظام السابق، ولا مشروعَ مقنعاً للعدالة الانتقالية أو المصالحة الوطنية. يفتح هذا الفشل الباب أمام مشاعر متصاعدة من الإحباط، خصوصاً من الضحايا أو عائلاتهم. “القاعدة” و”داعش” يعيدان ترتيب أوراقهما في مناطق سورية، ويجاهران بتكفير الشرع، ورغم التحوّلات السياسية والعسكرية في هيئة تحرير الشام، لا تزال في بقاياها تيّارات متشدّدة، قد ترى في خطوات الشرع نحو الغرب وإسرائيل انحرافاً خطيراً عن المبادئ العَقَدية الثورية. لا يعني صمت هذه التيّارات، حتى اللحظة، موافقةً، بل قد يكون انتظاراً لفرصة الطعن أو الانقضاض. والرئيس الشرع، وإن نجح في احتوائها بمزيج من الشرعية الدينية والتماسك الأمني، يعلم جيّداً أن أيّ شرخ داخلي في هذا الكيان سيفتح باباً لانفراط عقد السلطة، فنجاح مشروع الشرع في الانفتاح السياسي مرهونٌ ببقاء الهيكل العسكري والأمني متماسكاً، شرطاً أساسياً لمنع الانشقاقات أو الانهيارات الداخلية. ولا بدّ من صيغة قانونية وتوافقية للمصالحة، تطمئن الطوائف، وتنصف الضحايا السوريين جميعهم، وتكسر دائرة الانتقام. ومن المهم تقديم أيّ علاقة مع إسرائيل جزءاً من تفاهماتٍ استراتيجيةٍ تضمن المصالح الوطنية، لا تسويةً على حساب الكرامة أو المبادئ.
سورية الجديدة في مفترق طرق صعب، الانفتاح على إسرائيل إن ضمن دعماً دولياً وشرعيةً خارجيةً، إلا أنه لا يضمن وحده الشرعية الأخلاقية والشعبية، التي تُبنى على إصلاح داخلي حقيقي، وعدالة انتقالية شجاعة، ومشروع وطني يتجاوز الطوائف والانقسامات. ونجاح الشرع مرهونٌ بقدرته على صناعة توازن صعب؛ محاورة الخارج بلا تنازل عن الثوابت، وضبط الداخل بلا قمع، وصوغ عقد وطني لا يخاف من مواجهة الماضي ولا التفاوض على المستقبل، فالسلام بلا مكاسب وطنية هدنة مؤقّتة، غير مضمونة بحكم طبيعة المشروع الإسرائيلي نفسه، والانفتاح بلا تماسك داخلي خطر مؤجَّل.
العربي الجديد
———————————–
واشنطن خارج التعقيدات السورية/ مازن بلال
26/05/2025
ما طرحه السفير الأمريكي في تركيا، توم باراك، عن سوريا يشكل الحلقة المفرغة الجديدة في سياسة واشنطن تجاه المنطقة، فبعد تعيينه مبعوثاً أمريكياً إلى سوريا ولقائه رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع في تركيا؛ ظهرت تصريحاته لتكشف أن المقاربات التي قدمها تحمل “أحلاماً” لا تصورات سياسية، وعلى الرغم من أن تقسيم المنطقة يشكل وتراً حساساً للسوريين من “سايكس-بيكو”، لكن السفير الأمريكي شطب الحقبة السياسية ونتائج الحروب وحتى نفوذ تركيا الحالي في المنطقة.
التصريحات التي ساقها تلامس اليوم السياسات التركية، فمسألة “سايكس-بيكو” هي ترميز لمرحلة الضعف التركي، ولانحسار الدور العثماني في المشرق، والعودة إليها اليوم يعبر تعبيراً واضحاً عن توجه لإعادة ذلك الدور وبآليات جديدة، فتعقيدات المنطقة لم تبدأ بالصراع الفرنسي-البريطاني على المنطقة إنما بتحول الميزان الدولي منذ الثورة الصناعية الذي جعل الدولة العثمانية تتحول تحولاً بطيئاً نحو الانكفاء.
عملياً فإن الانفتاح الأمريكي على دمشق تم بوساطة الرياض، لكنه يتأسس في أنقرة بوصفها دولة محورية في النظام الإقليمي، والمسألة السورية بكامل أوراقها أصبحت وبإرادة أمريكية ضمن مهام الخارجية التركية، وهذا الأمر كان واضحاً في زيارة الرئيس الشرع تركيا ولقائه “باراك” بدلاً من أن يبدأ المبعوث الأمريكي مهمته بزيارة دمشق، فنحن أمام عاملين أساسيين:
الأول أن تركيا لا تملك فقط “سماحاً” أمريكياً بالتحرك في سوريا؛ بل أصبحت “البوابة الإقليمية” للمسألة السورية، وهو أمر كان متوقعاً ولكنه اليوم يُؤسس من جديد بجهد دبلوماسي ترعاه واشنطن.
من الصعب فهم الدور التركي الحالي من دون مسألة “التهدئة” السورية-“الإسرائيلية”، فمهام أنقرة لا تتعلق بترتيب البيت السوري بالداخل؛ بل بالمساعدة في بناء “دولة محايدة” أيضاً، وبصرف النظر عن نجاحها أو فشلها في هذا الموضوع، لكن العلاقات الأمنية والعسكرية كافة تؤشر على أن أنقرة تعمل لإيجاد “منظومة” تعاون ثلاثية مع سوريا و”إسرائيل” لاستيعاب ثمانية عقود من الصراع.
العامل الثاني يرتبط بالسوريين الأكراد، فالمشروع السياسي السوري المطروح المرتبط بالفيدرالية لم يفقد موقعه، لكنه أصبح في مساحة دور أنقرة المركزي لا دمشق، وأي حلول لشمال سوريا الشرقي باتت مرتبطة بعلاقة تركيا مع التشكيلات الكردية التركية.
سيختلف وضع السوريين الأكراد عن الحالة السياسية في إقليم كردستان العراق، فمن الصعب إيجاد معادلة سياسية شبيهة لما حدث في العراق في ظل الدور التركي الحالي، أو حتى في مساحة العمل الكردي في سوريا نتيجة حساسية أنقرة تجاه التشكيلات الموجودة في الجزيرة السورية، وهي أوجدت حزاماً أمنياً ضيقاً عند حدودها مع سوريا؛ يشكل مشروعاً للحد من أي حالة لا تتوافق مع دورها الإقليمي.
المبعوث الأمريكي إلى سوريا وفي منصة “إكس” كشف بطريقة غير مباشرة عن اهتمام أمريكي هامشي لأبعد الحدود بالشأن السوري، فتركيا، لا العرب الذين سعوا إلى رفع العقوبات عن سوريا، هي من ستتولى ترتيب الأمن الإقليمي من البوابة السورية، وهي أيضاً ستتحرك بنفوذها لتحريك مسارات السلام والتطبيع مع “إسرائيل”.
————————-
هل توقّف السوريون عن حبّ فلسطين؟/ عبير داغر اسبر
03 يونيو 2025
لا يمكن النظر إلى ما يجري في غزة اليوم بلا انكسار مزدوج: انكسار في تلقّي الصور والأخبار، وآخر في الاستجابة لها. نعلم تماماً أن لا أحد فينا يتفرّج ببرود، لكنّ كثيرين لا يعرفون كيف يحبّون فلسطين كما اعتادوا أن يفعلوا. ولعل السوريين تحديداً، بعد سقوط النظام، يجدون أنفسهم في أكثر لحظاتهم التباساً تجاه ذلك الحبّ القديم غير المبروء منه، فتربكهم العلاقة، لا نكراناً ولا نسياناً، بل إنهاكاً وإحباطاً ناتجَين عن طول وتجدّد المعاناة، وحتماً كثافة الألم.
ثمّة ما يشبه “اقتصاداً عاطفياً” جديداً نشأ لدى السوريين بعد عقد ونصف العقد من القتل والتشريد، على نحوٍ يُذكّر بالتسمية التي أطلقتاها الباحثتان سارة أحمد في “السياسات الثقافية للعاطفة”، وجوديث بتلر حول إدارة الألم في “الحياة الهشة: قوى الحداد والعنف”. فالسوريُّ، الآن، لا يوزّع تضامنه كيفما اتفق، صار يُرتّب ألمه، يؤجّل وجعاً ليواجه آخر، ويختار مَن يستحق دموعه، ومَن لا يملك ترف الحزن عليه.
من مرويات الحرب على غزّة، اختار الطبيب محمد مصطفى عدم استهلاك “الحصّة الشحيحة” التي يملكها من مخدّر الألم على الأطفال الذين سيموتون لا محالة، واستخدمه فقط مع من يملكون فرصة للنجاة. هذا الاختيار القاتل، هذا المنطق “البراغماتي” كما وصفه، يبدو للوهلة الأولى لا أخلاقياً، لكنّه قد يشرح كيف ينظر بعضهم اليوم إلى فلسطين. ليس كرهاً، بل مجرد تشخيص مأساوي: لـ”قضية خاسرة”، و”لا أمل فيها”، مقابل بارقة احتمال ضئيل بالنجاة من كارثة سورية لم تنتهِ بعد.
هناك حقائق لا تحتاج إثباتاً، وهذه واحدة منها: لفلسطين موقع مركزي في التكوين العاطفي والسياسي للسوريين، لم تكن القضية مجرّد “قضية”، بل أحد مرتكزات الوعي الجمعي للسوريين. اهتزّ هذا الموقع خلال السنوات الماضية نتيجة الزلزال السوري الداخلي: جيل كامل خرج من المنافي والسجون والمخيّمات وهو يسأل، بتعب لا بعتب: أين كان العالم حين كنّا نحن نُباد؟
والسؤال خطير بحدّ ذاته، كونه تحوّل أخيراً معياراً للعدالة. سأله السوريون بتعسّف وتعصّب وقسوة لبعضهم بعضاً: “أين كنتم منذ 14 عاماً؟”، ويسأله السوريون الآن لكلّ أهل الأرض، وللفلسطينيين أيضاً. السؤال خطير بحدّ ذاته، إذ لا تجوز المقارنة بين الضحايا كما لو أنهم وُضعوا بمفاضلة في ميزان أخلاقي.
لكنّ العبث الذي نعيشه اليوم أوجد منطقاً هشّاً بالتأكيد، لكنّه منطق المتألّم الذي لم يعد يملك جسداً فتيّاً قادراً على تلقّي حطام الجسد الآخر.
السوريُّ كالفلسطينيّ، وجدَ نفسَه بلا دولة، بلا سقف رمزي، وبلا سند عالمي. كلاهُما اختُبر بأعلى درجات الألم، وكلاهما عَلِق على هامش الأولويات الدولية. ما يتغيّر اليوم ليس الحبّ النهائي والقطعي لفلسطين، بل قدرة السوري المنهك على الاستمرار في استيعابها في وجدانه، دون أن يتهاوى.
من الظلم أن يُتّهم السوريون اليوم بالجفاء. إنهم ليسوا أقلّ وفاءً، لكنهم أكثر إنهاكاً. الحبّ لم يمت، قد يظهر فجأة في صورة طفل غزّي يشبه ذاك الذي دُفن في حماة، وفي دمعة عصيّة حين تُذكر “العودة” ومفاتيح البيوت. قد يبدو اليوم أن الحبّ السوري لفلسطين خافت، ربما متردّد، وهذا التردّد لا يعبّر عن نهاية القصّة، بل عن لحظة عجزٍ كبرى، لحظة يتعايش فيها السوري مع فكرة أن العدل مفهوم تائه في هذا الكون الدنيء، وأن مأساته الخاصة أضاعت اتجاهاته بحيث ضلّت بوصلته الأخلاقية، ومع هذا ظلّ يتلمّس طريقه رغم الغبار، موقناً أن استمرار السؤال: “هل لا زلنا نحبّ فلسطين؟”، هو دليلٌ أننا لم نخرج منها، ولا خرجت منّا.
العربي الجديد
————————–
نحو مقاربة سورية وطنية للسلام من دون تطبيع في زمن الضغوط/ ماهر حسن شاويش
2025.06.03
في ظل ما نشهده من تحوّلات إقليمية متسارعة، تتزايد الضغوط المباشرة وغير المباشرة على الملف السوري، وخصوصًا فيما يتعلق بموضوع المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي.
خلال الأسابيع الماضية، لاحظتُ – كغيري من المتابعين – تصاعد الحديث الإعلامي عن سيناريوهات “السلام” بين سوريا وإسرائيل، بشكل يوحي أن المسألة باتت أقرب إلى الطرح السياسي منها إلى التحليل النظري أو التهويل الإعلامي.
وسط هذا المشهد، تبرز الحاجة إلى مقاربة سورية واضحة وناضجة، لا تنطلق من ردّ فعل، ولا تتورّط في انفعال، بل تُعبّر عن رؤية وطنية مسؤولة تدرك توازنات المرحلة الانتقالية، وتضع في أولوياتها الثوابت الوطنية، وفي مقدّمتها استعادة الجولان المحتل ورفض التطبيع بجميع أشكاله.
واقع جديد.. وأسئلة كبرى
لا يمكن إنكار أن المزاج الشعبي السوري، رغم تمسكه برفض التطبيع، يميل اليوم إلى الاستقرار والبناء، بعد أكثر من عقد من الدمار والتشريد. كذلك، هناك جنوح رسمي نحو تفكيك بعض الألغام الأمنية على الجبهات، وهو أمر مفهوم ضمن سياق الحاجة إلى إعادة التوازن الميداني والسياسي، وتخفيف حدّة الصراع.
لكن، هل يعني هذا القبول بأي “تهدئة” تحت عنوان السلام؟ وهل يمكن لمثل هذه الخطوات أن تتم في ظل غياب الشرعية السياسية والدستورية الكاملة لسوريا الجديدة؟ والأهم: كيف يمكن لسوريا أن تتفادى الوقوع في فخ “التطبيع مقابل الاستقرار”؟
مقاربة مسؤولة لا تُفرّط ولا تُغامر
أدعو من هذا المنبر إلى بلورة مقاربة سورية متماسكة للسلام العادل من دون تطبيع، تقوم على أربعة مرتكزات رئيسية:
الحقوق غير القابلة للتفاوض:
الجولان المحتل ليس ورقة تفاوض أو صفقة مرحلية، بل جوهر قضية وطنية يجب أن يُعاد إلى السيادة السورية بالكامل، وفق قرارات الشرعية الدولية.
الشرعية الكاملة شرط لأي اتفاق نهائي:
لا يمكن الحديث عن سلام دائم في ظل غياب منظومة حكم شرعية تمثّل السوريين جميعًا، وتملك تفويضًا شعبيًا واضحًا لاتخاذ قرارات مصيرية.
فصل التفاهمات الأمنية عن المسار السياسي:
أي إجراءات تهدئة أو منع تمدد إسرائيلي في الجنوب يجب أن تُعالج ضمن صيغة “هدنة 1974” أو ما يماثلها، بعيدًا عن مسار تطبيعي أو اعتراف سياسي.
رفض التطبيع كمبدأ دستوري وثقافي:
يجب أن يُصاغ هذا الموقف بشكل واضح في الدستور الجديد، وأن تدعمه سياسة إعلامية وثقافية تربّي الأجيال القادمة على الوعي بتاريخ الصراع وسياقاته العادلة.
ولا يمكن إغفال أن في سوريا ما يقارب نصف مليون لاجئ فلسطيني، يشكّلون جزءًا من النسيج الوطني والاجتماعي السوري، ومن واجب أي مقاربة سلام أن تحفظ حقوقهم، وتضمن عدم التفريط بقضيتهم في أي اتفاق مستقبلي، خاصةً أن ملف اللاجئين هو أحد أركان الصراع العربي الإسرائيلي.
تجارب السلام… دروس لا ينبغي تجاهلها
رغم مرور عقود على توقيع اتفاقيات سلام بين بعض الدول العربية وإسرائيل، إلا أن التجارب تشير إلى أن التطبيع لم يُحقّق سلامًا حقيقيًا أو استقرارًا استراتيجيًا. فمعاهدة “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل مثّلت نموذجًا للتسوية السياسية، لكنها لم تثمر عن تطبيع شعبي حقيقي، وبقيت العلاقات محصورة في الإطار الرسمي والمخابراتي. أما في حالة الأردن، فلم تمنع معاهدة “وادي عربة” استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، ولم تُخفف من التهديدات الوجودية التي تواجه فلسطين.
هذه التجارب تُثبت أن أي سلام لا يُبنى على عدالة القضية واستعادة الحقوق، يُنتج هشاشة سياسية، ومجتمعات متوجّسة، واتفاقات بلا روح. وسوريا، بتاريخها وموقعها، لا يمكن أن تنخرط في مسار مشابه من دون أن تفقد كثيراً من وزنها الاستراتيجي ومكانتها في وجدان شعوب المنطقة.
الرأي العام السوري ليس قابلًا للاختزال
المزاج الشعبي السوري، حتى في أحلك الظروف، لم يُظهر أي استعداد للقبول بالتطبيع مع الاحتلال، بل ظلّ رافضًا ومتمسكًا بثوابته تجاه فلسطين والجولان. وهذا الموقف لم يقتصر على الشرائح القومية أو الإسلامية، بل يمتدّ إلى تيارات مدنية وليبرالية تُدرك أن أي تطبيع غير مشروط يشكّل تفريطًا بالسيادة وخيانة للتاريخ.
كما أن فصائل وقوى وطنية سورية – داخلية وخارجية – لن تقبل باتفاق لا يُعيد الحقوق بوضوح، ولا يُعبّر عن الإرادة السورية الجماعية. لذلك، فإن أي انزلاق نحو التطبيع قد يؤدي إلى صدع سياسي واجتماعي يصعب ترميمه، ويقوّض مسار بناء الشرعية الوطنية.
لماذا نحتاج هذه المقاربة الآن؟
لأننا ببساطة أمام لحظة دقيقة من تاريخ سوريا. لحظة تتطلب موقفًا يُحافظ على كرامة الدولة وهيبتها، من دون أن يغفل عن حاجات الناس الحقيقية.
المقاربة المقترحة ليست “ضد السلام”، لكنها ضد السلام المغشوش الذي يتحوّل إلى غطاء لهيمنة جديدة.
إنها دعوة لسلام ناضج، يُعيد الحقوق، ولا يبيعها، ويضع سوريا في موقع المسؤول لا المساير، والندّ لا التابع.
مقترح عملي
أدعو إلى صياغة ورقة سياسية وطنية جامعة بعنوان:
“من أجل مقاربة سورية جديدة للسلام العادل دون تطبيع”
تُعرض هذه الورقة على الفعاليات الوطنية، والقوى السياسية والمجالس الانتقالية، وتتضمن:
تثبيت حق سوريا في استعادة الجولان.
تحديد شروط وضوابط التفاهمات الأمنية المؤقتة.
رفض التطبيع كقضية دستورية وثقافية.
تأكيد أن أي اتفاق سلام لا يمكن عقده قبل اكتمال المرحلة الانتقالية.
خاتمة: فهم طبيعة المشروع الصهيوني
ورغم أهمية أي مقاربة مسؤولة، تبقى الخطوة الأولى نحو موقف وطني متماسك، هي فهم طبيعة المشروع الصهيوني نفسه: مشروع لم يُخلق ليصنع سلامًا، بل ليكون قاعدة متقدّمة للهيمنة الغربية في قلب المنطقة.
لهذا، لا ينبغي التعويل على أي “تفاوض” بوصفه بوابة تلقائية للسلام، بل يجب النظر إليه كمحطة اختبار للسيادة، وكمساحة لصياغة موقف وطني حقيقي، لا مجرد ترتيبات أمنية تحت الضغط.
#السوريون اليوم مرهقون… من الحرب، من الشعارات، من الخيبات.
وأي خطاب سياسي لا يُراعي هذا التعب، سيُفهم على أنه مجرد #مزايدات.
لكن حين تُطرح مسألة #مفاوضات مباشرة مع #إسرائيل، لا بد أن نكون واضحين:
هل نحن أمام تفاوض سيادي يُعيد الأرض والكرامة؟ أم أمام ترتيبات أمنية مؤقتة لا تُنهي الاحتلال بل تُعيد تدويره؟
الاحتلال لا يُسوّى أمنيًا.
والجولان لا يعود بتفاهمات تقنية.
وأي اتفاق لا يُعيد الحقوق ولا يُنهي القهر… ليس سلامًا.
قد يُقال إن مثل هذا الاتفاق “يسحب البساط من تحت أقدام الانفصاليين”…
لكن الانفصالية لا تُهزم باتفاق حدود، بل تُهزم بعقد وطني يُعيد الثقة للناس، لا بالقوة، بل بالكرامة.
ومن يريد بناء سوريا جديدة بعد انتصار ثورة عظيمة، فليبدأ من الناس، ويقطع مع كل إرث النظام الساقط، بما في ذلك منطقه في تحديد العدو والصديق.
فألف باء السياسة الوطنية، أن نُحدّد معسكر الأعداء والأصدقاء بدقة.
وإسرائيل كانت وما تزال عدوًا استراتيجيًا، لا طرفًا تفاوضيًا محايدًا.
تلفزيون سوريا
———————————–
هل يهدد موفق طريف في إسرائيل زعامة آل جنبلاط في لبنان؟/ سوسن مهنا
يتحول التنافس بين الرجلين من خلاف في الرؤية إلى صراع على من يترجم الهوية الدرزية في زمن التحولات
الثلاثاء 3 يونيو 2025
في زمن تتشظى فيه المرجعيات، ويتنازع فيه الدين والسياسة على الصوت والمكان، يتحول التنافس بين وليد جنبلاط والشيخ موفق طريف من خلاف في الرؤية إلى صراع على من يترجم الهوية الدرزية في زمن الاصطفافات الكبرى. وهو ليس خلافاً على الطقوس أو المبادئ، بل على من يملك مفاتيح التمثيل: الزعيم الذي يحمل إرث المختارة، أم الشيخ الذي يحمل توقيع المؤسسة الدينية في زمن التطبيع؟
أثارت صورة جمعت بين رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون، والزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل موفق طريف، في أروقة الفاتيكان نهار الـ18 من مايو (أيار) الماضي، أي يوم تنصيب البابا لاوون الـ14، موجة جدل حاد في لبنان والمنطقة، تجاوزت الإطار البروتوكولي إلى عمق التمثيل والشرعية، ولكن انتشارها كان أشد وقعاً داخل الطائفة الدرزية، محدثاً زلزالاً سياسياً في صفوفها، وعلق الإعلام الإسرائيلي على اللقاء بالقول، “صورة لا نراها كل يوم”.
التقطت صورة مصافحة “ودية” بين الرجلين، ولكنها في المفهوم السياسي العام في لبنان ليست مجرد مصافحة عابرة، فحين يظهر رئيس دولة لا تزال نظرياً في حال حرب مع إسرائيل، وهو يبتسم أمام شخصية دينية من تلك الدولة، يصبح الصمت الرسمي “مشبوهاً”، والنفي اللاحق أكثر ضجيجاً من “الاعتراف”.
وتكاثرت الأسئلة، ومنها: هل كان اللقاء عفوياً؟ أم مدروساً؟ وهل الشيخ طريف مجرد زائر ديني، أم حامل مشروع “اختراق” ناعم للطائفة الدرزية في لبنان وسوريا تحت عباءة الحوار الروحي والانفتاح الدولي؟
الضجة لم تندلع لأن الصورة انتشرت، بل لأن ما ترمز إليه بات واضحاً، هناك من يريد إعادة رسم خريطة الزعامة الدرزية في الشرق الأوسط، من بوابة الفاتيكان، لا من بوابة المختارة أو السويداء، علماً أن الدعوة التي وجهت للشيخ طريف، جاءت بصفته ممثلاً عن الطائفة الدرزية في العالم.
عون ينفي معرفته بطريف
على أثر البلبلة التي أحدثتها الصورة في الأوساط اللبنانية، وبخاصة الدرزية، صدر بيان عن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية في لبنان، أشار إلى أنه “خلال توجه عون إلى مقعده في القداس الحبري الأول للبابا لاوون الـ14، تقدم منه أحد رجال الدين الدروز المشاركين في القداس وصافحه، علماً أن رئيس الجمهورية لا يعرفه ولم يسبق أن التقاه”.
وتابع البيان، “تبين في ما بعد أنه الشيخ موفق طريف، ممثل الدروز في إسرائيل، وقد تعمدت هيئة البث الإسرائيلية توزيع الصورة مع تعليق يجافي الحقيقة”. وأشار مكتب الإعلام إلى أن “مثل هذه الممارسات المشبوهة تتخصص بها وسائل الإعلام الإسرائيلية في لقاءات دولية مماثلة، وهي لا تلغي حقيقة الموقف اللبناني الرسمي عموماً، وموقف الرئيس عون خصوصاً، ومن ثم لا حاجة إلى الترويج لمثل هذه الأكاذيب وخدمة العدو الإسرائيلي، لذا اقتضى التوضيح”.
لكن البيان أشعل موجة نقاش آخر، وأكثر حدة، وتساءل كثير من المتابعين: كيف يمكن لرئيس الجمهورية ألا يعرف الشيخ طريف، وهو شخصية معروفة ويظهر كثيراً في الإعلام العربي والأجنبي؟ ووفقاً لمصادر من المجلس الديني الأعلى كانت رافقت الشيخ طريف إلى روما، في تصريحات لـ”اندبندنت عربية” فإنه “جرى حديث ودي بين الرجلين (small talk)، وأن الرئيس تعرف إلى سماحته فوراً”، وتابعت المصادر أن المجلس الديني لم يصدر بياناً توضيحياً للقاء “منعاً لإحراج رئيس الجمهورية اللبناني”.
وكانت “اندبندنت عربية” حصلت على معلومات أفادت أن البيان الرئاسي جاء بعد ضغط من قبل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان الوزير السابق وليد جنبلاط على قصر بعبدا، وصولاً إلى التهديد بالانسحاب من الحكومة من خلال الوزراء المنتمين إليه، لكن مصادر الحزب التقدمي الاشتراكي استهجنت المعلومات، متسائلة “كيف يمكن للحزب أن يرشد القصر إلى طريقة عمله؟”، في حين أكدت مصادر من بعبدا لـ”اندبندنت عربية” إلى أن “كل ما أشيع حول البيان، وما أثير في وسائل التواصل عار عن الصحة جملة وتفصيلاً، وأن لا حديث ودياً جرى بين الرجلين في الفاتيكان”.
يرى كثير من المتابعين أن إنكار رئيس الجمهورية اللبنانية معرفته بالشيخ موفق طريف، على رغم الصور التي أظهرت مصافحته له في الفاتيكان، ليس تفصيلاً بروتوكولياً أو سهواً شخصياً، بل يحمل دلالات سياسية دقيقة للغاية، ويمكن تفسيره من زوايا عدة. فالرئيس عون، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية في مرحلة انتقالية دقيقة، يدرك أن أي اعتراف رسمي بشيخ الطائفة الدرزية في إسرائيل قد يفهم على أنه شرعنة لدور طريف خارج فلسطين، وإقرار ضمني بشرعية تمثيله طائفة لبنانية أو إقليمية، وهو ما يمس مباشرة بموقع الزعامة الدرزية في لبنان، خصوصاً زعامة المختارة. والاعتراف بطريف قد يفسر كـ”مجاملة” لإسرائيل على حساب الزعامة التاريخية للدروز اللبنانيين، لذلك جاء الإنكار كرسالة طمأنة بأنه “لا مرجعية درزية للبنان خارج حدوده”.
أضف إلى ذلك أن أي تواصل رسمي أو حتى شبه رسمي مع شخصية دينية مقيمة في إسرائيل (حتى لو كانت درزية) يستثمر مباشرة في سياق “التطبيع”، ولأن طريف زار دولاً عربية، وتحدث باسم “الدروز في الشرق الأوسط”، فإن الاعتراف به يمثل لغماً سياسياً داخلياً، وبخاصة أمام جمهور الحزب. من هنا قد يكون إنكار الرئيس معرفته بالشيخ طريف جاءت لأسباب سياسية تتعلق بميزان الطائفة الدرزية، والتحالفات الداخلية، وتوازنات الصراع العربي – الإسرائيلي، لا لأنه فعلاً لا يعرفه، فالصورة كانت واضحة، لكن المصلحة السياسية فرضت النفي العلني.
صراع تمثيلي وليس دينياً
لكن “الصورة” فتحت ملفاً “مسكوتاً عنه” في العلاقات داخل الطائفة الدرزية، حيث تلتقي السياسة بالدين، وتتصارع المرجعيات على من يمثل الدروز في الداخل والخارج. يمثل وليد جنبلاط الزعامة السياسية التاريخية للدروز في لبنان، وورث الزعامة كما هو معروف عن والده كمال جنبلاط، وينظر إليه كمرجعية سياسية للغالبية الساحقة من دروز لبنان، وصاحب نفوذ إقليمي ودولي في التفاوض باسم الطائفة.
في المقابل ورث الشيخ موفق طريف الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية في إسرائيل، عن جده الشيخ أمين طريف ضمن تقليد عائلي. وعلى عكس جنبلاط، فإن طريف لا ينتمي إلى مسار سياسي، بل يمثل القيادة الدينية الرسمية للطائفة في إسرائيل. من هنا فإن التنافس لا يدور حول الدين أو الفقه الديني، بل يتمحور حول من هو المرجع الحقيقي والشرعي للدروز كأقلية إقليمية موزعة بين دول الصراع (لبنان، سوريا، فلسطين/ إسرائيل). وفي حين يرى جنبلاط نفسه ممثلاً شرعياً لتاريخ طويل من النضال السياسي، وهو إن صح التعبير “يستأثر بالقرار الدرزي” في المنتديات الدولية والعربية، لكنه حذر جداً من محاولات إسرائيل استخدام طريف كـ”وجه مقبول” للحديث باسم الطائفة.
في الأعوام الأخيرة برز توتر غير معلن بين جنبلاط وطريف، على رغم ما كان بين الطرفين من تقدير واحترام في فترات سابقة. فجنبلاط نفسه سبق وأشاد بالدور التاريخي لعائلة طريف، وعلى رأسها الشيخ “أبو يوسف” أمين طريف، الذي ساند دروز لبنان في مراحل عصيبة، وأشار إلى أن هذا الدعم استمر من خلال خليفته الشيخ موفق. غير أن موقف جنبلاط لم يدم، إذ ما لبث أن تراجع عنه، مطلقاً مواقف حادة ضد دروز إسرائيل، ومتهماً الصهيونية بأنها تستخدم الدروز لقمع الفلسطينيين، وتريد التمدد إلى جبل العرب (الدروز) في سوريا، وحذر من حرب أهلية يسعى إليها “بعض ضعفاء النفوس”.
وقال جنبلاط إن “الصهيونية تستخدم الدروز جنوداً وضباطاً لقمع الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، واليوم يريدون الانقضاض على جبل العرب في سوريا”. مضيفاً “يريدون جر بعض ضعفاء النفوس، أهل سوريا يعلمون ماذا يفعلون، وسأذهب إلى دمشق لتأكيد مرجعية الشام بالنسبة إلى الدروز”، كذلك أكد أن الشيخ موفق طريف “لا يمثلنا، وهو مدعوم من إسرائيل”، مشيراً إلى أن “هناك استجراراً للبعض، وإذا ما نجح فسيؤدي إلى حروب أهلية لا ندري كيف ستنتهي”.
تقول مصادر متابعة للشأن الدرزي، إن تحول جنبلاط هذا لا يفهم إلا في سياقين: محلي وإقليمي. فمن جهة، بدأ نجم الشيخ طريف يسطع خارج حدود إسرائيل، بعدما بات يستقبل بصفته ممثلاً للدروز في دوائر القرار العالمية، من البيت الأبيض إلى الكرملين فالإليزيه، ومن جهة أخرى نجح طريف، خلال الحرب السورية، في لعب دور محوري لحماية دروز جبل الشيخ ودعم دروز السويداء، في حين مني جنبلاط بانتكاسة حادة إثر فشله في حماية دروز إدلب، وتحديداً في منطقة قلب لوزة، التي شهدت مجازر مروعة عام 2015، على رغم استجابتهم لندائه بمناصرة الثورة السورية ضد النظام آنذاك.
وأخيراً لبس الشيخ طريف “العباءة المقلمة”، وهي عباءة المرجعيات الدينية الدرزية، وشرح لنا أحد مشايخ الدروز رمزيتها بالقول، إنها “ازدواجية النور والظلمة، والقسوة والرحمة، والظاهر والباطن، وإن الموحدين يأخذون الطريق الثالث أو طريق الوسط”، ووفقاً لمصادر متابعة فإن العباءة صنعت في لبنان.
هذا التفاوت في النتائج، بين نجاح طريف في نسج شبكة علاقات دولية، وإخفاق جنبلاط في إنقاذ مناصريه، لم يكن بلا أثر، بخاصة بعد الأحداث التي عصفت بسوريا، والمجازر التي لحقت بالدروز في جرمانا وأشرفية صحنايا. ومما أثار قلق جنبلاط، الذي يعتبر نفسه المرجعية التاريخية والسياسية الأولى للدروز، أن تأثير الشيخ طريف بدأ يتسلل إلى الداخل اللبناني، حتى ضمن أوساط يفترض أنها محسوبة على جنبلاط نفسه، فقد بدأ بعض رجال الدين الدروز وشباب مناصرون له في ترديد أناشيد تمجد عائلة طريف، وتثني على دورها الديني والسياسي.
طريف: “أنا لست زعيماً”
في هذا المشهد، يبدو أن التنافس الدرزي – الدرزي لم يعد محصوراً داخل حدود لبنان، بل اتخذ أبعاداً إقليمية ودينية عابرة للحدود، ويهدد طريف من خلاله موقع الزعامة التاريخي الذي احتكره آل جنبلاط عقوداً.
“اندبندنت عربية” سألت الشيخ موفق طريف عن رأيه في ما يشاع عن منافسة على الزعامة الدرزية بينه وبين جنبلاط، فأجاب “أنا لست زعيماً، ولا أطلب أن أكون زعيماً، لي الشرف أن أكون خادماً لأبناء طائفتي الكريمة”. علماً أن طريف كان قد دعا في بيان بوقت سابق من هذا الشهر، إلى وقف التدخل في “القرارات الإستراتيجية” للطائفة الدرزية في سوريا، مشدداً على ضرورة تمسكهم بالهوية السورية. وقال إنه كان على تواصل دائم مع مشايخ الدروز داخل سوريا، في ظل ما شهدته الطائفة الدرزية من تحديات خلال الفترة الماضية، مضيفاً أن ذلك كان “للاطمئنان على أحوالهم وتقديم المساعدة لهم قدر المستطاع، وفقاً لرؤيتهم وقراراتهم الداخلية التي لا نتدخل فيها ولا نؤثر فيها، آملين أن تتجه الأمور نحو الحلول المرجوة”.
وأكد طريف تمسكه بمساندة الدروز داخل سوريا من منطلق “حفظ الإخوان”، لكنه شدد على عدم تدخله في “القرارات الإستراتيجية الداخلية” لأنها “من شأن الطائفة في سوريا”. ودعا الدروز السوريين إلى “الحفاظ على الهوية وأخذ المكانة المستحقة في الوطن السوري الموحد”، مشدداً على أنهم “سوريون بامتياز، متمسكون بكل فخر بانتمائهم السوري العربي التاريخي”.
مراحل التباين
التباين بين الشيخ طريف ووليد جنبلاط لم يكن دائماً واضحاً أو علنياً، لكنه بدأ يتبلور تدريجاً مع تحول دور طريف من مرجعية دينية محلية داخل إسرائيل إلى شخصية تؤدي دوراً إقليمياً باسم الطائفة الدرزية. وكثيراً ما جمعت الرجلين علاقة “ود واحترام متبادل”، وكان ينظر إلى طريف في لبنان كمرجعية دينية درزية داخل الأراضي المحتلة، من دون أن يتجاوز حدوده نحو التمثيل السياسي.
في هذه المرحلة كانت العلاقة مع جنبلاط قائمة على التوازن التقليدي: السياسة في يد الزعامات اللبنانية، والدين في يد المشايخ الروحيين كل ضمن حدوده الجغرافية. بدأ التحول عندما بدأ طريف يزور دولاً أوروبية، ويلتقي مسؤولين دوليين، ويتحدث عن الدروز “كأقلية إقليمية”، وليس فقط كمكون داخل إسرائيل. هنا بدأ التباين مع جنبلاط يظهر بصمت، إذ رأى في هذا التوسع محاولة لخلق “مرجعية بديلة” قد تزيح زعامة المختارة من تمثيل الدروز إقليمياً. وبعد الحرب السورية (2011)، وخلال معارك جبل العرب في سوريا، حاول طريف أن يؤدي دوراً في حماية دروز سوريا عبر التنسيق مع النظام أو مع إسرائيل، بينما كان جنبلاط يدعم المعارضة، قبل أن يتحول لاحقاً إلى الحياد.
وبعد انفتاح بعض الدول العربية على إسرائيل وتوقيع “اتفاقات أبراهام”، بدأ طريف يتردد على الإمارات كممثل للدروز في المنطقة، وليس فقط في فلسطين. وكان لاستقبال الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان له في ديسمبر (كانون الأول) 2024، وقع كبير، وهو ما اعتبر “تجاوزاً خطراً” لزعامة جنبلاط، ومحاولة إسرائيلية لصناعة “دروز معتدلين” تابعين لمحورها، وهذا يفسر سر التوتر الصامت بين الرجلين. من هنا قيل إن بيان قصر بعبدا الذي أنكر معرفة الرئيس عون بطريف، لم يكن موجهاً لطريف وحسب، بل كان استجابة مباشرة لغضب جنبلاط من هذا الاختراق.
جنبلاط والشرع
تزامنت تلك الزيارة مع تعرض دروز جرمانا لضغط أمني ومجازر محدودة النطاق، مما فتح الباب أمام انقسام درزي – درزي حاد في قراءة الموقف، بين من رأى في الزيارة خطوة واقعية لحماية الدروز، ومن اعتبرها “انتكاسة” لكرامة الطائفة التي دفعت أثماناً باهظة للحفاظ على حضورها وقرارها الحر.
وهنا تجلت أبرز لحظات التباين العلني والخطر بين جنبلاط والشيخ موفق طريف. ففي حين كانت جرمانا، وهي بلدة درزية قرب دمشق، تتعرض لضغوط أمنية وقصف من جماعات موالية للنظام، وسط صمت رسمي وخذلان من قبل مؤسسات الدولة السورية، وتزامناً كان هناك تصعيد إسرائيلي في الجنوب السوري، وضغوط على الدروز في السويداء، وانكفاء واضح لقوى المعارضة، زار جنبلاط دمشق وقابل الرئيس أحمد الشرع في لحظة حرجة، وأظهر تحولاً كاملاً في موقفه من النظام، وبرر زيارته بأنها محاولة لحماية ما تبقى من الدروز في سوريا، وتأمين خطوط اتصال مع الدولة السورية لتجنيب الطائفة مذبحة محتملة، لكنه لم يصدر أي موقف مباشر يدين ما يحصل في جرمانا، مما اعتبره بعض المراقبين تجاهلاً متعمداً أو تسوية على حساب “الدم الدرزي”.
على المقلب الآخر، لم يكن طريف على وئام يوماً مع النظام السوري، وأصدر بياناً عالي النبرة يطالب بـ”حماية دولية للدروز” ويندد بتواطؤ النظام، وحذر من التداعيات الخطرة التي قد تنجم عن استمرار العنف وتأثيرها في أمن وسلامة أبناء الطائفة الدرزية في سوريا، وأكد أهمية تضافر الجهود الإقليمية والدولية لضمان حماية حقوق الأقليات في سوريا، وفي مقدمها الطائفة الدرزية التي عانت طويلاً تداعيات الصراع الدائر في البلاد.
قسم هذا الحدث الدروز إلى معسكرين: معسكر الواقعية الجنبلاطية الذي رأى أن الشرع هو من يمسك بالدولة، والزيارة ضرورة، ومعسكر السيادة “الروحية الطريفية”، الذي قال “لا تسوية على الدم ولا شرعية لنظام يقتل أبناء الطائفة”. تلك الزيارة مثلت لحظة اختبار بين دروز السلطة ودروز الكرامة، بين من يسعى إلى ضمان البقاء ولو على حساب المبادئ، ومن يرفع الصوت ولو من دون أدوات قوة.
في زمن تتشظى فيه المرجعيات، ويتنازع فيه الدين والسياسة على الصوت والمكان، يتحول التنافس بين وليد جنبلاط والشيخ موفق طريف من خلاف في الرؤية إلى صراع على من يترجم الهوية الدرزية في زمن الاصطفافات الكبرى. وهو ليس خلافاً على الطقوس أو المبادئ، بل على من يملك مفاتيح التمثيل: الزعيم الذي يحمل إرث المختارة، أم الشيخ الذي يحمل توقيع المؤسسة الدينية في زمن التطبيع؟ وبينهما تبقى الطائفة الدرزية رهينة سؤال أعمق: هل يمكن للأقليات أن تبقى خارج لعبة المحاور، أم أن البقاء نفسه بات رهينة الاصطفاف؟ في هذا التنافس، لا يحسم النصر بالخطابات ولا بالمصافحات، بل بمن يحفظ الكرامة ويحمي الوجود، من دون أن يبيع الهوية.
—————————
==========================