تاريخ

معركة الصوفيين والإصلاحيين… عن فن التمثيل في دمشق عام 1911/ تيسير خلف

03 يونيو 2025

من سوء حظ فن التمثيل أنه كان ذريعة للهجوم على الشيخَين جمال الدين القاسمي وعبد الرزاق البيطار لحضورهما مسرحية “زهير الأندلسي”، فكان هذا الحدث بمثابة الظهور الأول لفتاوى تحريم التمثيل لذاته وليس لموضوعه.

اعتراضات اجتماعية

خلال عهد السلطان عبد الحميد، حين عُرف التمثيل في دمشق على يد الشيخ أبي خليل القبّاني، لم يضع أحد من العلماء أو الفقهاء الدمشقيين، أو الشاميين عموماً، هذا الفن الجديد في موضع الجدل الفقهي، أو الإباحة والتحريم، ولم تصدر حوله أي فتوى من شيخ الإسلام في العاصمة إسطنبول أو المفتين في الولايات، على اعتبار أن هذا الأمر متعلقٌ بولي أمر المسلمين السلطان عبد الحميد. وكانت الاعتراضات عليه في دمشق تتعلق بأسبابٍ اجتماعيةٍ كالالتهاء عن العمل، أو خرق التقاليد الاجتماعية. إلى أن حانت الساعة بعرض مسرحية “أبو الحسن المغفل”، في مسرح القباني، التي ظهر فيها الخليفة بصورة هزلية، الأمر الذي ساعد الشيخ سعيد الغبرة على حشد المعارضين للمسرح، واستصدر قراراً من الصدر الأعظم بإغلاق مسرح القباني ومنع التمثيل في ولاية سورية لسبب سياسي هذه المرّة.

مسرحية “زهير الأندلسي”

لكن الأمر تغيّر حين عرضت مسرحية “زهير الأندلسي” على مسرح المدرسة العثمانية الدمشقية في أغسطس/ آب 1911، إذ كانت السلطة قد تغيّرت، وكانت المعركة بين التيارَين الصوفي والسلفي الشامي (الإصلاحي) على أشُدّها. وكان حضور الشيخَين جمال الدين القاسمي وعبد الرزاق البيطار لهذه المسرحية مناسبة من جانب التيار الصوفي لتنظيم حملةٍ من شأنها أن تجهز عليهما نهائياً، بعد محاولة قتل الشيخ رشيد رضا في الجامع الأموي أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني في العام 1908، وتهديد الشيخين القاسمي والبيطار حينها بحياتيهما، وربما كانت مناسبة هذه المسرحية النشاط الاجتماعي الأول للشيخَين بعد حادثة الشيخ رشيد رضا المذكورة، إذ استغل خصومهما هذه المناسبة، فلفّقوا رسالة من شخص مجهول الاسم إلى مجلة “الحقائق” يتساءل عن فيها عن حكم التمثيل، واصفاً المشهد كما يلي:

“قد شهدت رواية “زهير الأندلسي” التي قام بتمثيلها لفيف من غلمان المدرسة العثمانية الدمشقية، فدهشت لبراعة أولئك الطلبة المرد الممثلين الذين حازوا قصب السبق في مضمار التمثيل، وقد افتتح الرواية أحد أساتذة المدرسة المذكورة عارف الشهابي  بخطاب أطال فيه بمدح التمثيل، وبلغ به الغلو حتى قال إنّه قد ورد في القرآن العظيم والحديث الشريف الحثّ عليه، واستشهد لذلك بقوله تعالى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر 2]  وقوله عليه الصلاة والسلام (إنما بُعثت لأتمِّمَ مكارم الأخلاق)، وفسر الاعتبار في الآية من عنده، بالتمثيل وزعم أنه من تتميم مكارم الأخلاق، ثم ارتفع الستار الأول عن سائر الغلمان الممثلين حاسري الرؤوس مسرّحي الشعور فأنشدوا أدواراً منها. وقد اشتملت الرواية الأدبية (بزعمهم) على تخنّث وتلوٍّ وانحناء قارب الركوع، وتزيٍّ بزي الإفرنجة الإسبانيين بلبس القبعة (البرنيطة) إلى غير ذلك من الأفعال التي يأباها الدين والمروءة، لذلك استعظمت هذا التهجم من الشهابي على القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وأنكرت ذلك في نفسي ثم توقفت عن الإنكار لأنه كان من الحاضرين المستمعين طائفة من العلماء الأعلام الذي تقتدي بهم الخواص والعوام، ولم ينكر أحد منهم ذلك الأمر على الشهابي، فخطَّأت وقتئذٍ نفسي، وقلت لو كان الأمر كما خطر لي لقام أحد هؤلاء العلماء الأفاضل ورد على القائل، وبين الحقيقة للعوام المساكين الذين كانوا يصفقون لكل ما يسمعون ولا يعلمون، ثم إنّني حضرت صلاة الجمعة في الجامع الأموي فقام على منبره خطيبه المشهود له بالفضل، المشهور بالتقى والصلاح الشيخ حسن أفندي الأسطواني، فتلا خطبة طويلة وعرض بتمثيل تلك الرواية فيها وقبّحها ولام من قاموا بتمثيلها، وحذر الإسلام من قبول تلك الخرافات، وخطّأ من قال إنّ التمثيل ورد الحثُّ عليه في القرآن والحديث وأنه فرض ..إلخ، فلما سمعتُ من الخطيب خطبته أخذتني الحيرة، ووقعت في دهشة، وقلت يا ترى مَن نصدّق ومَن نكذب؟ ومَن نخطِّئ ومن نصوّب؟ لذلك أتيت بعباراتي هذه أسطرها على صفحات حقائقكم الموقوفة لخدمة الدين، راجياً منكم ومن رجال العلم المحافظين على الدين بيان الخطأ من الصواب، وتمييز الحقِّ من الباطل، والله أفادني إلى سواء السبيل”.

عشرة أجوبة

وقد أوضحت المجلة في الجواب الأول الذي تلقّته من أحد شيوخ دمشق، وهو محمد عارف المنير الحسيني أن الشيخَين جمال القاسمي وعبد الرزاق البيطار وبعض من صحبهما، هم المقصودون بالرسالة، إذ كتب الشيخ عارف المنير أن “الجواب عن سائر ما وقع في الجمعية التمثيلية بما أشار له السائل وطلب الجواب عنه، منوط كما قدمنا بمن شاهده من علماء الدين مثل أصحاب الفضيلة؛ الشيخ عبد الرزاق أفندي البيطار، والشيخ جمال أفندي القاسمي الحلاق، والشيخ رشيد أفندي سنان، وعبد الرزاق أفندي الدردري، ومحمد أفندي الحكيم، وأبي السعود أفندي مراد الذين حضروها وشاهدوا الأعمال التي حوتها”.

وقد توالت الردود على الرسالة من جانب عدد من علماء دمشق وبيروت وحلب وعينتاب وحمص يمكن اختزالها بما يلي: رأى الشيخ محمد عارف المنير الحسيني أن التمثيل نوع من الغيبة، واستشهد بأحكام الغيبة في القرآن والسنة، مستنتجاً من كل ذلك حرمة التمثيل لذاته. ورأى الشيخ محمد القاسمي الحلاق أن التمثيل تلبيس وتدليس وكذب، لأنه إلباس الغلمان لباس الملوك الماضين والأمم السالفين، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع.. كونه كذباً قولاً وفعلاً.. وهو أيضاً من الافتراء على أولئك الرفات، كما أشار إلى ما في التمثيل من “مجالسة المُرد والنظر إليهم مع تخنّثهم وتلويهم وإنشادهم الشعر ملحّناً بأصواتهم المطربة”، كما رأى الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت أن “التمثيل لا يخلو عن المنكّرات، وحيث كان مشتملاً على شيء منها فلا يجوز النظر إليه، خصوصاً عند عدم أمن الفتنة بالنظر إلى المرد الممثلين، فيجب اجتنابه والامتناع من حضوره، كما يجب النهي عنه على كل ذي قدرة”، لكنّه أشار إلى أن ” تمثيل الروايات الأدبية، إذا روعي فيه عدم المحظور ولم يترتب عليه مفسدة لابأس به، وإلا فهو ممنوع”، غير أنه عاد إلى تأكيد تحريمه حتّى وإن كان فيه مصلحة “لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقد قال العلماء: من علم وقوع شيء من الشر ولو في خير يريد فعله تعيَّن عليه أن يجتنب فعل ذلك الخير، وإلا فهو عاصٍ آثم”. ولم تخرج الردود التي بلغت عشرة عن هذه الأفكار وكانت تدور في فلكها.

ردود جريدة “المفيد”

كان واضحاً أن الردود السابقة جرت بترتيبٍ مُحكمٍ من مدير مجلة “الحقائق” الشيخ عبد القادر الإسكندراني، الذي كان يظن أن الموضوع سيقفل ويحقق غرضه بالردود العشرة السابقة، التي شملت مناطق مختلفة من بلاد الشام، وكان لافتاً صمت مجلة “المقتبس” الدمشقية، التي كان يتوقع منها أن تهبَّ للدفاع عن الشيخَين جمال القاسمي وعبد الرزاق البيطار، ولكن حين نعلم أن صاحبها محمد كرد علي كان هو الآخر يتعرّض ومجلته لحملة من “الحقائق” نفسها، تحت دعاوى الافتراء على الدين والدعوة إلى المعصية، وما إلى ذلك من تهم يمكن أن تهدّد سلامته، نفهم سبب لجوئه إلى الصمت على عكس المتوقع منه. ولكن جريدة “المفيد” البيروتية التي كان يرأس تحريرها عبد الغني العريسي تولت مهمة الرد على “الحقائق” بالطريقة نفسها، أي عبر رسالة بتوقيع شخص أطلق على نفسه اسم “رائد حقيقة” استفزّته مقالات “الحقائق” والأفكار التي انطوت عليها، حيال “روايات مثلت ورصد ريعها إلى الحملة الطرابلسية وبعض المشاريع الخيرية”، طالباً معرفة رأي المعنيين و”العلماء الحقيقيين في التمثيل الأخلاقي الذي لا يشوبه ما ينافي الأخلاق، هل هو محرم ديناً؟ وهل يجوز أن نطلق على فاعليه وحاضريه ما أطلقه عليهم محرّرو “الحقائق” من المروق من الدين، وثلم العرض، والإخلال بالمروءة؟”، ثم يتساءل : “إذا كان هؤلاء محقين فيما يدّعون، فما السبب في سكوت العلماء الحقيقيين وأرباب الجرائد والمجلات الراقية عن تنبيه الناس وإرشادهم إلى الابتعاد عن هذا المنكر؟”، وكانت هذه الرسالة مناسبة لأن تدعو جريدة “المفيد” من يرغب بالكتابة عن هذا الموضوع والرد على هذه الفئة التي حرمت التمثيل، تماماً كما حرمت من قبل مطالعة الصحف.

وتوالت الردود على صفحات المفيد، ومنها مقال بعنوان “دحض باطل”، موقَّعاً بحرفي الياء والصاد، قال فيه صاحبه إنه لم يكن يجهد نفسه بالبحث عن البديهيات، لكن عزَّ عليه أن يرى الدين أصبح ألعوبة تتقاذفها الأهواء ويظل ساكتاً. فقال في رده بعد أن شرح علاقة المجتهد بالمقلد: “أما قياس التمثيل على الغيبة فهو قياس مع الفارق، إذ قد يمنع وجود علة الأصل في الفرع، ولو أن ذكر أي اسم كان مقام إهانة من الغيبة المحرمة، لكانت كتب التاريخ كلها من قسم الغيبة لاشتمالها على كثير من مثالب الأقدمين، ولوجب أن نحكم بفسق مؤلفيها، مع أن بين هؤلاء أئمة ثقاة كالإمام البخاري، وابن جرير الطبري، وابن عساكر، والخطيب البغدادي، والشيخ الأكبر، وابن خلدون، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، وابن حلفان، والسيوطي، والمحبي، وأصحاب الطبقات كالتاج السبكي، وابن سعد، وغيرهم ممن أجمعت الأمة على الثقة بأقوالهم وتلقت أكثر أصول الدين عنهم، وأي عاقل فيه مسكة من الدين يتهجّم على تفسيق مثل هؤلاء السراة الأعلام إلّا من أعمى الله بصيرته”.

وأضاف صاحب الرد في جريدة “المفيد”: “ويترتب على سفسطة محرّري “الحقائق” القول بتفسيق أكثر الناس، إن لم نقل كلهم، لاشتغال القسم الغالب منهم بمطالعة التاريخ”.

وفي ردٍّ آخر، ذكر أحد الذين حضروا المسرحية المذكورة، فكتب مقالاً، شرح فيه ما حصل بالضبط، رداً على ما ورد في مجلة “الحقائق” قال فيه: “ما كنت أحلم أن تلك المجلة التي نشأت باسم الدفاع عن حوزة الدين، ولمّ شعث المسلمين، ودحض أباطيل المتفرنجين، يرضى أصحابها بأن تصبح ساحة تمخرق في أرجائها ثعابين الأغراض باسم الدين.. وبالنظر إلى أنّني حضرت الرواية مرّتَين وأنا أذكر خلاصة ما شاهدته مما يتعلق بالبحث: ارتفع الستار عن الخطيب الأمير عارف الشهابي، فأفاض في البحث عن أسباب انحطاط المدارس عندنا، وتطرق إلى ذكر فوائد التمثيل الأخلاقي. ولم يذكر شيئاً مما نَسبه له ذلك السائل ومجيبوه من القول إنّ الله تعالى فرض علينا التمثيل أو غير ذلك”.

وعدد صاحب الرد أسماء الشخصيات التي حضرت المسرحية وبينهم لفيف من العلماء والوجهاء ذكر منهم: والي الولاية، والقاضي، وكثير من الفضلاء المعروفين بالصلابة في الدين والتمسك بأهداب الشرع الشريف. فلو أن ثمة ما ينافي الآداب الإسلامية لكان هؤلاء الأعلام وأمثالهم ممن حضر الرواية أولى بالإنكار من ذاك السائل المعترف بجهله في نص جوابه”.

وفجر صاحب الرد مفاجأة من العيار الثقيل حين أكد أن “مدير مجلة “الحقائق” الشيخ عبد القادر الإسكنراني ومحرّريها حضروا تلك الرواية، وكانوا أكثر الناس استحساناً لمشاهدها وأوفرهم تصفيقاً وإطراءً للممثلين.

إقفال الجدل

وبعد ردود وردود مضادّة أقفل صاحب مجلة “الحقائق” عبد القادر الإسكندراني الجدل بمقالَين أحدهما افتتح به العدد عنوانه “الإصلاح ومنتحلوه”، شنّ فيه هجوماً على دعاة الإصلاح متهماً إياهم بالدعوة إلى “الفواحش والتياترو والتمثيل واللهو والفسق على صفحات جرائدهم، ويحترفون السمسرة إلى المدارس الأجنبية ويرغبون الناس في الدخول إليها”. وفي مقال آخر بعنوان “جوابنا على التمثيل” كرّر فيه أفكاره السابقة بتكفير وتفسيق الحاضرين، مؤكداً حرمة التمثيل حرمة مطلقة. وقد تنبهت سلطة “الاتحاديين” متأخرة للمخاطر الجسيمة التي ينطوي عليها السماح بمجلة مثل “الحقائق” نصَّبت نفسها قيِّمة على “شريعة الأمة”، وبدأت تصدر أحكام التكفير والتفسيق على الغارب، إذ إنّ معاركها ضدّ الفنون لم تتوقف، منذ صدور عددها الأول، كالرسم والنحت، والتصوير الفوتوغرافي، والموسيقى، وكذلك ضد أي دعوة إلى التحديث والعصرنة. حتى وصل الأمر بها إلى اعتبار الجرائد وجهاز “الفونوغراف” من البدع المستحدثة الواجب محاربتها، وأنهما من “أشراط الساعة”! فما كان من السلطات إلّا أن أوقفتها بعد 34 عدداً لم يخلُ عدد من معركة هنا، وحملة تكفير هناك.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى