الآس… نبتة الموت المتشبثة بالحياة/ آلاء عامر

03 يونيو 2025
“تشكل آسي” إحدى العبارات الدمشقية العذبة التي تُقال للتعبير عن الحب النقي والوفاء العميق. حين تهمس أم أو حبيبة لمن تحب: “تشكل آسي”، فهي تتمنّى أن يعيش بعدها، وأن يبقى الوفاء بينهما حتى بعد الرحيل.
تطلب منه أن يُزيّن قبرها بنبتة الآس، وكأنها توصي بحضورٍ رمزي أخضر لا ينقطع حتى بعد الموت. والدمشقيات، اللواتي يهوين الزينة والجمال، لا يقلن “تحط” أو “تضع” الآس، بل “تشكل”، فكما يشكّلن شعرهن بعناية، يشكّلن مشاعرهن وقبورهن أيضاً، ففي اللهجة الشامية، “تشكل” لا تعني فقط “تضع”، بل تحمل معنى “تزيّن” أيضاً.
قررت نبتة الآس أن تنمو وحدها دون الحاجة إلى مزارع في مبادرة تطوعية منها للتضامن مع أحزاننا، وكأنها تريد مواساة أهل الشام ومرافقة وداعاتهم الثقيلة.
يصل الآس من الساحل إلى العاصمة، ويُباع أمام أبواب المقابر وفي الأزقة، كذلك تُصفّ رزم الآس أمام أبواب المساجد القريبة من الترب، يحاول الآس الصمود والتمسك بالحياة قدر استطاعته، فهو لا يذبل بسرعة رافضاً الاستسلام أمام الموت، وكأن السوريين استخدموا الآس للتشبث بالحياة حتى في أكثر الأماكن قرباً من الموت: المقابر.
في سورية، تتعدد أسماء الأماكن التي نواري بها أجساد أحبتنا من منطقة إلى أخرى: “المقبرة”، “البرية”، “التربة”، “الجبّانة” أو “المِجَنّة”، وهذا الأخير، أي المِجَنّة، يدلّ على مكان يُستتر فيه أو أرض تُكثِر الجنّ من زيارتها بحسب المعتقد الشعبي. ورغم تنوّع الأسماء، ليست “المقبرة” في المخيال السوري نهاية، بل عتبة بين عالمين، تفصل بين الحياة والموت، دون أن تقطع خيوط الذاكرة. فهي ليست مكاناً للنسيان، بل درب نعود إليه مراراً: في الأعياد والمناسبات، ومع كل شوق لا يُروى، وكذلك تتعدد صيغ الحب التي نتمنى من خلالها أن يعيش المحبوب عمراً أطول من عمرنا، ففي الغزل الدمشقي نقول: تقبرني، تكفّني، تقبشني (القبش هو وضع القطن في أذان الميت)، وفي الغزل الديري نقول: رحلك فدوة (أموت فداءً لك)، وفي التراث الفراتي يتغزل المحب بدموع حبيبته ويتمناها على قبره: طيبة دمعتك عقبري عاد شلون!
صلة الرحم فرض لا تقطعه القبور
تزدحم مقبرة الباب الصغير في دمشق كغيرها من المقابر السورية في أوائل أيام الأعياد. ففي طقس سوري بحت يحرص الأهالي على زيارة موتاهم، مصطحبين معهم أطفالهم لتعليمهم هذا الطقس الذي يريدونه أن يكون أبدياً، فينقلونه من جيل إلى آخر كي يحرص الأبناء على زيارة الآباء عندما يصبحون في مكان الأجداد.
كانت والدتي تأخذني وأختي لنزور قبور أجدادنا من طرف أمي وأبي في صبحية كل عيد، وكانت أمي تحرص على أن تكون الزيارة في الصباح الباكر جداً، أي بين السادسة والسابعة صباحاً، لأنه إذا تأخرنا فإننا حسب وصفها “ما بيعود في أرنة نحط فيها رجلنا”، لكن مهما ذهبنا باكرين، كانت المقبرة دائماً مزدحمة.
عند قبور أجدادنا، كنّا نجد خالاتي وعمّاتي وأبناءهم، كلٌّ يحمل أغصان الآس، ومصحفاً صغيراً نقرأ منه قرب القبر سورة “يس” بخشوع، نضع الآس ونسقي الزرع النابت على القبر، لم يكن الحزن هو ما يسيطر على المكان، بل إحساس عميق بالصلة، بالامتداد.
كنا نزورهم وكأنهم ما زالوا بيننا، وكنا نعلم أن الزيارة لن تنتهي هناك، بل ستتبعها قهوة صباحية عند خالة أو عمّة، في جزء من طقس العيد ذاته، تلك الزيارات لم تكن مجرد عادة، بل كانت امتداداً لفرضٍ مقدس لا يُسقطه الموت: صلة الرحم.
مؤانسة الميت
في دمشق، كما في حلب، دير الزور، حمص، وسواها من المدن السورية، لا تُفهم المقبرة بأنها مساحة للموت فقط، بل امتداد روحيّ للبيت، مكان لا يغادر فيه الأحبة حياة أهلهم تماماً، بل ينتقلون إلى “البيت الآخر” الذي نزوره ونصل أواصرنا معه بالدعاء والقرآن والسكينة.
رغم اختلاف العادات والتفاصيل الصغيرة بين مدينة وأخرى، لكننا في النهاية نحرص كلٌّ بطريقته على طمأنينة المنتقل إلى بيته الجديد، ولذلك اعتادت الكثير من العوائل الدمشقية البقاء لعدة ساعات بعد اليوم الأول للرحيل بجانب قبر الميت بهدف “تونيسه” كي لا يستوحش وحدته، حيث تُقرأ سورة “يس” أو “الملك” على الميت، ويُقال إن ذلك يؤنسه في قبره ويضيء له وحدته. وفي أحيان كثيرة يُستدعى مقرئ للقرآن الكريم ليصدح بالآيات بصوت شجيّ، بينما يجلس الحضور بصمت وخشوع، فالموت، في وجدان السوريين، ليس قطيعة، بل تحوُّل في شكل العلاقة.
رشّة سكر على الموت
يُقال إنه في القرن الثاني عشر، وبينما كان صلاح الدين الأيوبي يمرّ في أحد أحياء دمشق، رأى مشهداً لعدد من المسيحيين يزورون قبور موتاهم، يحملون الزهور، ويوزعون الحلوى على الفقراء، فأعجبه الطقس، وتأثر به، إذ رأى فيه نبلاً إنسانياً لا يخصّ ديناً بعينه، دعا إلى تعميمه بين المسلمين، ليكون عيداً مشتركاً بين المسلمين والمسيحيين في نوع من التعبير عن الوفاء والرحمة والتآخي، ومن هنا نشأ ما يُعرف بـ”خميس الأموات” أو “خميس الحلاوة” في سورية.
خميس الأموات هو الخميس السابق لأحد الفصح عند المسيحيين الشرقيين، وفي هذا اليوم تتحوّل المقابر إلى ما يشبه ساحة حبّ جماعية للراحلين، حيث تمتلأ المقابر بالفقراء الذين ينالون حصتهم من الحلاوة أو الخبز.
في مدينة حمص لهذا العيد مكانة خاصة تميزه عن بقية المدن السورية، إذ يتفنن الحمصيون بالحلويات التي يُعتبر خميس الأموات موسماً لها؛ بداية من الحلوى الهرمية الملونة بالأصفر الفاتح والزهري، وصولاً إلى البشمينة التي تكون عبارة عن مكعبات مصنوعة من الطحين والسمن والسكر، والسمسمية.
خلق السوريون سرديتهم الخاصة للموت، لا تشبه تلك الباردة التي تكتفي بالفقد، بل تُطرّز بعناصر الحضور، وتُروى امتداداً للحياة لا نقيضاً لها. فالمقبرة ليست مكاناً للوداع، بل مساحة للزيارة، للوصال، ولصون العهد، وفيها تُقرأ سورة “يس” وكأنها رسالة حب، ويُزرع الآس كأنه يد لا تزال تمسك بالأخرى من العالم الآخر، وتُوزّع الحلوى في “خميس الأموات”، في محاولة لرش السكر على الموت. في هذه السردية، لا يُعامل الموت كفصل نهائي، بل كصفحة جديدة في كتاب العلاقة، تُكتب بصوت قارئ القرآن الكريم، تُروى بصبر الأمهات، وتُعلّم للأطفال كما تُعلَّم الحكايات المهمة.
العربي الجديد