باسل شحادة: العبور إلى سورية بنظرات أخيرة/ ميار مهنا

03 يونيو 2025
في الذكرى الأولى لاستشهاده بعد سقوط نظام بشار الأسد، صار للمخرج السوري باسل شحادة (1984 – 2012)، قبرٌ في قلب دمشق القديمة، يعلوه نقشٌ لصورته وعبارته الشهيرة: “لا مستقبل لمواطن بلا وطن حر”، التي خطّها الفنان منير الشعراني، واستقاها من إجابة شحادة حين سُئل عن سبب عودته من أميركا إلى بلاده مع بدايات الثورة السورية.
تخلى باسل شحادة عن منحة فولبرايت المرموقة لدراسة السينما في أميركا، وعاد إلى سورية مع اشتعال الاحتجاجات عام 2011. لم يعُد متفرّجاً، بل لينخرط في ميدان الثورة والتغيير، مرافقاً المتظاهرين في حمص، وموثقاً بعدسته عنف نظام بشار الأسد ضد التظاهرات السلمية قبل نشوء تنظيمات المعارضة المسلحة.
مضى باسل شهيداً هناك، في حمص، عام 2012، ودُفن أولاً في قبر بلا اسم. غنّى له رفاقه، ورتّلوا صلاة وداع. وهناك، كتب نبوءته الأخيرة: “ما لقيت غير حمص تفهمني وافهما.. ضمتني حمص حتى غمّضت عيوني.. أنا، باسل شحادة”.
في دمشق، حيث وُلد، مُنعت عائلته من إقامة جنازة تليق به، وأُغلقَت أبواب كنيسة الروم الكاثوليك في حي القصاع بأوامر أمنية، ليقام القداس في الشارع، في ظل حصار رجال الأمن لمنزل أسرته.
لم يكن شحادة مجرد صانع أفلام، كان شاهداً على اللحظة السورية الفارقة، وفناناً مواجهاً لاستبداد الدكتاتورية الأسدية. استخدم أدواته المعرفية والفنية لتدريب شباب حمص على التصوير والمونتاج، وساهم في تأسيس شبكة مواطنين صحافيين وثّقوا تفاصيل الثورة بالصوت والصورة، من الهتاف الأول للحرية حتى سقوط أول شهيد، ومن بعدها استشهاده هو.
بالنسبة له، كانت الكاميرا سلاحاً في معركة غير متكافئة، تعبر به الحدود بين الجسد والرصاصة، بين الحياة والموت. أفلامه القصيرة التي أنجزها بين عامي 2011 و2012، لم تكن مجرد توثيق، بل مواقف إنسانية وفنية تنبض بروح الثورة، وتسجل المشاعر الأولى للمتظاهرين الذين هتفوا بعد سنوات من الخوف بوجه رجال الأمن. صيحات تدعو بشار الأسد إلى التخلي عن كرسيه.
في سنواته الـ28 القصيرة، عاش باسل شحادة سيرة حياة تتجاوز هذه الأعوام. درس الهندسة، وعزف الموسيقى، وكتب ولحّن أغنيات، وأحيا حفلات، وسافر على دراجته النارية الروسية التي سمّاها “لينين” من دمشق إلى الهند، في رحلة امتدت نحو ثلاثة أشهر.
لكن الثورة كانت موعده الأهم، وهناك قرّر أن يكون شريكاً في التغيير، ليس متفرجاً من بعيد، إلا أن سيرته فناناً لديه هم إنساني لم تبدأ مع عام 2011، بل قبلها بسنوات. ففي 2004، ألّف أغنية لأطفال فلسطين بعنوان “كل يوم عم أحلم بوطني”. وفي 2010 أخرج فيلمه القصير “هدية صباح السبت”، عن طفل لبناني داهمت قنبلة يوماً من أيام عطلته من المدرسة، فاخترقت جدار غرفته، وحفرت نقشاً في ذاكرته. كان ذلك التمهيد لمسيرته السينمائية، التي ستدخل لاحقاً منطقة الخطر، حين صار للخطر وجوه عدة، تتمثّل في القنّاص، والاعتقال، والموت أمام الكاميرا، أو خلفها كما حدث له.
أن تصوّر تحت الخطر ليس مجازاً في السينما الوثائقية السورية التي وُلدت من قلب الشارع زمن الثورة، بل شرط وجودي لها، فلا وجود لسينما الثورة من دون اصطدام مباشر مع الحدث. والموت لم يكن هاجساً في أفلام تلك المرحلة، بل احتمالاً يومياً. في أحد مشاهد فيلمه “شوارعنا.. احتفالاً بالحرية”، الذي صوّره بعد عام على اندلاع الاحتجاجات، يسأل باسل شحادة إحدى الشخصيات: “هل أخبئ الكاميرا؟”، ثم يقرر المضي في التصوير. كأن الحكاية لا تكتمل إلا إذا قيلت كلها، حتى على مسافة قريبة من رصاصة قد تنهي كل شيء.
في أفلام باسل شحادة، نشعر أن الخطر ليس في الخلفية بل في مقدمة الكادر، في اهتزاز الصورة، في زوايا التصوير المنحرفة، في الأجساد التي تظهر بأطرافها ليس بوجوهها، وكأن الكاميرا تمارس فعل الحماية؛ تخفي لتعري، تغلّف لتكشف.
الشخوص لا تظهر بهوياتها، بل بما يحيل إليها: صوت، يد، شفاه تبتسم وأخرى ترتجف، كتفا رجل يمشي. ومع ذلك، قد لا يشعر المُشاهد بحاجة إلى “لقاء” الشخص بهويته، وقد لا تهمنا الأسماء ولا الملامح، ما يهمنا هو ما يُروى، من دون افتعال.
في فيلمه “ميلاد مجيد حمص”، يتنقل شحادة بين عالمين متداخلين في المدينة نفسها؛ عالم عيد الميلاد في كنيسة مظلمة، ربما من انقطاع التيار الكهربائي، فنستمع إلى أصوات التراتيل، ونرى بعض المصلين، في خلفيةٍ تعجّ بأصوات القصف. في الكنيسة تنشد فتاة ترنيمة للسيد المسيح تقول الترنيمة: “روح زورهن لوّن سواد تيابهن… بيتن فقير ما عندن شي… علّق أمر عبوابن”. ومن ثم رجل يحكي عن فقر المدينة: “في ناس عم تاكل خبز يابس، في ناس ما معها حق ربطة خبز”.
أما العالم الآخر فهو الشارع الذي يتربص به قنّاصون، يأخذنا شحادة إلى الخطر مجدداً، خطر عبور الشارع. نرافق، نحن المشاهدين، رجلاً يهمّ بالعبور يهتف: “حرية للأبد غصباً عنك يا أسد”، فيتعالى صوت الرصاص. يعلّق الأخير: “هم يكرهون كلمة حرية… لو كنت مسلحاً، لما أطلقت الرصاص بهذه الكثافة”.
الكاميرا هنا ليست مجرد وسيلة تسجيل، بل طرف حيّ في المعادلة، هي عين المخرج نفسه، فشحادة يركض وكذلك العدسة، يسقط فتسقط، تختبئ، تنهض، تلهث، كما جسد صاحبها. في لحظة من الفيلم، يصوّر باسل صديقه وهو يقول: “تشهّد وامشي، وإذا صار شي، إن شاء الله أقدر أسحبك”.
يركض باسل، وتركض الكاميرا معه. يهتف أحد الأشخاص بعد أن نجح بالعبور إلى الطرف الآخر “يا صديقي يا قناص، الحرية بترفع الراس”. تتجه الكاميرا إلى السماء، ثم إلى الأرض، يزفر باسل، نعرف أنه نجا. لكنه، كما نعلم، لم ينجُ من اختبار الموت التالي.
حين هتف باسل شحادة: “هبّي يا رياح التغيير”، ربما لم يكن يدرك بعد حجم العنف والدمار الذي سيتركه النظام كي يبقى بشار الأسد جالساً على كرسيه. في عام 2012، أنجز آخر أفلامه قبل رحيله في 28 مايو/ أيار 2012، وهو عمل قصير لا يتجاوز دقيقتين، بعنوان “سأعبر غداً”. يصوّر الفيلم جنازة سرية لشهيد قضى برصاص الأمن السوري.
في شارع مظلم في حمص القديمة، يُحمل الشهيد على الأكتاف، ملفوفاً بكفنه. الظلمة تبتلع كل شيء حتى المشيعين، ولا يظهر سوى الجسد الممدود الجاثم. يظهر الجسد ويختفي تحت ضوء فلاشات الهواتف المحمولة، فيما تصدح في الخلفية أغنية “يما مويل الهوى”.
الفيلم يضعنا أمام سؤال العبور: هل عبر هذا الشهيد إلى العالم الآخر؟ نعم، وفق ما يقوله مضمون الفيلم. لكن العنوان يربكنا: “سأعبر غداً”، بصيغة المتكلم. من الذي يتكلم هنا؟ هل هو الشهيد الذي سبق المخرج إلى الغياب؟ أم هو باسل نفسه، وقد صار يشعر أن موعده يقترب، وأن العبور بات وشيكاً؟
في كل الحالات، يصبح العبور مجازاً عن الموت في زمن لا يُسمح فيه حتى للجثث أن تُكرّم، أو تُدفن على مرأى من أحبائها.
في هذا السياق، كانت جنازة باسل شحادة نفسه واحدة من هذه الجنازات المحرّمة، فهو كما أسلفنا الذكر قُتل ثم دُفن في حمص من دون ضوضاء.
في مقابلة قبل عودته إلى سورية، يُسأل باسل: “ماذا يعني الوطن بالنسبة لك؟”. يصمت برهة ويكرّر السؤال نفسه مفكراً: “الوطن هو الوطن” ويضحك، ثم يتابع: “إنه سؤال صعب”. اليوم، سقط النظام بعد استشهاد باسل بـ13 عاماً. لا تزال صورته وهو مغمض العينين باسط اليدين، حية في ذاكرة السوريين. هذه الذاكرة التي أمست بعد 14 عاماً من الحرب كما لو أنها مقبرة جماعية.
العربي الجديد