أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

بين يمين الطائفة ويسار الإسلام الجهادي/ أحمد الشمام

 

2025.06.03

عند حدوث تحول جذري في الدولة لابد وأن يهتز المجتمع، ويختلط الأمر على العامة في البحث عن منارات تهتدي بها؛ سعيا لمعرفة التطورات التي تعتري هذا التحول والمخرجات الناجمة عنه، ويختلف ذاك البحث تبعا لمقدار القلق أو الخوف الذي يساور المجتمع أو أي جزء منه، وقد لعب النظام على عقدة الخوف ليصار إلى نكوص العلاقات الاجتماعية المسكونة برغبة الخلاص، والانتقال من ثقافة استقرار الدولة وأمنها إلى شعور الجماعات المتكورة على نفسها بدافع غريزي، وارتداد الأفراد إلى جماعاتهم مادون الدولة -قبيلة طائفة- لضمان الحماية.

الآن وبعد أشهر من سقوط النظام نجد أنفسنا أمام مجتمع سوري متمايز أفقيا بين تطلعات وآمال البقاء على قيد الحياة، وآمال بناء الدولة التي تخدم شعبها، وآمال نخب اقتصادية في العودة لقطاع الإنتاج وتأمين دوران عجلته، وآمال مجموعة من “النخب” في شكل الدولة. يتدرج طيف التمايز في عدة مستويات أفقية تخترق البنى التقليدية للمجتمع السوري، وتوحي بتنافس طبقي سينضج ولو بعد حين. قبالة ذلك نجد تخلخلا في مستوى العلاقات بين النخب يطرح انشطار عموديا في المجتمع السوري؛ بما يربك حركة المجتمع وتدافع طبقاته المبشر بحياة اجتماعية وسياسية صحية.

لو تفكرنا في نمط وبنية المؤثرات التي تقلق المجتمع السوري بعد سقوط النظام وبدء مرحلة إعادة البناء رغم ثقل الأنقاض التي لم ترفع بعد؛ سنجد أنه يمكن تحديد محوري تأثير بعد سقوط النظام؛ الأول شركاء الأسد في المصالح والجرائم من كل البيئات الاجتماعية، مع التذكير بأن قسما من بناة هذا المحور هم القوميون العرب، وأتباع تيار الممانعة من مثقفي يسارنا التقليدي الذين بدؤوا في التشبيك مع نظرائهم في المحور التالي، أما الثاني فيمثله شطر كبير من معارضي الأسد من المثقفين وهم ليسوا سواء؛ وينحت التشظي والتناحر الأيديولوجي فيما بينهم؛ ولعلهم يشكلون المحور الأخطر، حيث انكمش المحور الأول بسقوط الأسد باحثا عن محاولة الهروب أو تدوير نفسه في الدولة الجديدة – باستثناء فقهاء التشبيك السابق ذكرهم، وتكمن خطورته في اعتماده نفس الذهنية القديمة بعيدا عن حركة المجتمعات وثرائها.

تتمثل عقدة اليسار الماركسي والقومي عموما بمعضلة نضاله ضد الإسلام السياسي التي بقيت معركة مفتوحة حتى الآن، وشكلت لديه جرحا نرجسيا وربما جرح هوية؛ إذ لم يتفكر معظم أتباعه بأن الموقف من الإسلام صار هويتهم التي يُعرِّفون بها أنفسهم؛ وهي هوية ثقافية وسياسية يُخلصون لها؛ ولعل مقولة الهوية تفيد في تشكيل تصور أوضح عن اعتبارها تميزا خاصا بهم وفقا لرؤيتهم لأنفسهم من جهة، ومن جهة أخرى كونها تتطلب أو تنبني على تعصب هوياتي غير موضوعي يقدس الذات على الآخر – باعتبار الهوية مرتبطة بالذاتي الموروث أو المتخيل وأبعد ماتكون عن الموضوعية-، يتعصب لها ويخوض حربا عقدية في معركة ثنائيات متخيلة في ساحة الفعل الاجتماعي والسياسي المفتوحة على مجالات عدة؛ رغم احتياجها الشرطي للهدوء والتريث في السياق المرحلي، بدلا من التوتر المفخخ بروح المحارب الشرس أو المحرض، خصوصا وأنا أمام تكشف اصطفافات جديدة ماقبل وطنية في كثير من البيئات الاجتماعية، وتحشيد طائفي تعفُّ عنه سلطة دمشق وأبدت رفضها الصريح له، وتحشيد أيديولوجي لدرجة أصبح تأييد السلطة فيما تصيب تطبيلا بعيون أولئك بالرغم من الحفاظ على مسافة النقد تجاهها، ولنجد أنفسنا ضحايا حمى تأطير وتأطير مقابل يضيع علينا فرصة نقد عقلاني لسلوكهم ذاك. ومع الأخذ بعين الاعتبار لوجود عامة تؤمن بالقائد أي قائد؛ تعظمه وتبجله وتتبعه برؤية قطيعية؛ وجد المرء نفسه ضمن هذا الزحام والتوتر ضحية سيرة جلد لمن يؤيدها خصوصا أبناء الأكثرية تحت اعتبار أنها سلطتهم كجماعة والمعبرة عنهم، وصار على أي مؤيد أن يبحث عمن هو خارج هذا المنبت – الأكثرية- ليدعم بها موقفه، ولئن كان الأسد ابن طائفة فليست كل الطائفة أسدية ومعبَّرا عنها بالأسد ونهجه، مثلما أنه يجب ألا يفوتنا أنه إن كانت السلطة بدمشق تنتمي للأكثرية فذاك لايعني حكما أن كل العرب السنة معبَّرا عنهم عبر تلك السلطة، وتتناسى أغلبية هؤلاء أن السلطة بعد المرحلة الانتقالية فيما لو انتهجت نهجا يحيد عن كونها معبرة عن الدولة التي حلموا بها؛ ستولد معارضة يكون متنها الأكثرية نفسها حكما وبصورة غير تحشيدية، لأنها ستكون حينها تعبيرا سياسيا مدنيا متعاليا على سرديات المظلومية والتنابذ الطائفي؛ وهو مايعني سلب السلطة حينذاك أي تنميط يمكن أن تطلقه فيما لو فكرت بإقصاء معارضتها خارج الأطر الدولتية القانونية العادلة، أما وقد رفضن مثقفون كثر من الأكثرية إضافة إلى مثقفي يسارنا العتيد ومثقفي العلمانية الأقلوية وصم الطائفة بجرم السلطة المنتمية لها بالمنشأ وهو رفض محق، فلماذا يستسهل هؤلاء تنميط الآخر وحبسه بانتمائه الاجتماعي، القومي، وحتى الديني من قبل المثقفين أنفسهم وإلباسهم ثوب السلطة وبلاءها.

لقد فشل اليسار في استيعاب الثورة وتبنيها إضافة لتخشبه في رؤية أقرب إلى الستالينية في تقديس الفرد، والسكوت عن الدكتاتورية، وقرأَنَة ماركس وفقا لقول أحد المفكرين، مقارنة باليسار الأوربي الذي تجاوز الولاء للقادة والحفاظ على وجوده ورصيده بنسبة ما، ما يظهر خواء يسارنا وحاجة البلاد لطرح وطني يتقدم على تلك النخب، هنا سيكون التعويل على الشباب مالم تعد العجلة إلى الوراء بإفساد مفاهيم الطبقية والصراع الطبقي، والاصطفاف خلف ثنائيات عملت وتعمل على تشظية المجتمع. مقابل ذلك ووفقا للثنائيات المفترضة هناك توجه إسلامي مثلته جبهة النصرة وحركة تحرير الشام على الأرض الآن، مع تراجع واضح للإخوان المسلمين فيما اصطلح عليه بالإسلام السياسي؛ وتقدم الإسلام الجهادي وتجاوزه ذهنية التنظيم إلى الدولة، وتحقيقه نظريا لقفزة في رؤيته للدولة والحكم عجزت عنه رؤى اليسار، إضافة لحضور وازن وإن لم يكن مؤطرا ومنتظما في أحزاب وتيارات؛ كما أن هناك إسلام مرن الهوية يمثله التدين الشعبي ويكاد يضم غالبية المسلمين السوريين، وهو الرصيد بين السنة لتشكيل تيارات وطنية؛ بعيدا عن حروب الثنائيات التي لم يعد يلوكها ويعيد سردياتها سوى اليسار الذي دفع باليمين الإسلامي التقليدي أن يمارسها كذلك، الذي إن أبقى على خطابه سيؤدي إلى فشل ذريع في احتمال تشكل تيارات سياسية؛ مبنية على مشتركات وطنية عامة بعيدا عن الدين ومحاربته أو محاولة إزاحة حضوره في المجال العام، خصوصا وأن حضوره الحالي والقادم سيكون في جزء منه بعدا طبيعيا نتيجة لإزاحته من قبل نظام الأسد.

ولعل التشنج من مفردة الأموية التي مثلت رمزيا حضارة بدأت في أورقة بني أمية؛ وشعرة معاوية التي لم يقطعها بينه وبين مخالفيه، ومثلت الشكل النهائي لحضارة وصلت حدود أوروبا؛ و بنت هويتها بتنوع وشراكة المسيحية الأموية للمسلمين وصارت إرثا تاريخيا حضاريا من بلاد الشام التي قطنها جميع الفرقاء الآن، ومثلما يعتز أي سوري بتاريخ بلاد الشام؛ سيعتز بها ويعتبرها مثالا يحتذي به، لكن الفعل الحشدي الذي انبرى للتنطع لأي صفة أو مقولة رمزية؛ قام بمماهاتها مع السنة وخصوصا عامة السنة القابلين للتحشيد واستهلاك أي مقولة حضارية بتحويلها لسلعة أو ترنيمة كأغنية في السوق؛ بالتساوق مع تشويهها من قبل فصائل غير منضبطة وأخرى نفعية أو ثأرية بسبب العسكرة ومعاناتها واختلاطاتها، فذهبت لارتكاب جرائم مفصلية أهمها قبل التنفيذ ذاك الجهد النظري والتعميمي على الآخر؛ وإلباسه لبوس الخيانة من دون إنكار منا على وجود حالات تعتبر بكل مقاييس الدول خيانة وطنية كبرى، من هنا علينا أمام الخضة التي تشهدها الساحة السورية؛ التحلي بالعقل قبالة سوق الأخبار والشائعات، وحمى التحريض، والبحث عن المشترك الوطني بعيدا عن التنابذ الأيديولوجي الذي مزق مجتمعاتنا، وأغرقها في ضجيج تبادل اتهامات التطبيل والتخوين، والتعاون ليس في رفع أنقاض المدن المدمرة بل تنقية العقول والنفوس من كثير من أنقاض الأفكار والتنميطات المسبقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى