الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

خارج الكهف بسطة/ غسان شما

03 يونيو 2025

وأنت خارج من كهف الأبدية، يضرب نور الشمس عينيك بقسوة مفاجئة. يزوغ بصرك قليلاً أو كثيراً، ويتهادى عقلك متأرجحاً بين الصحو والغياب، بين التصديق والتكذيب في ظل صخب المدينة غير المفاجئ.

ثمة وجوهٌ تطالعك وهي تتوارى خلف قناعها المسرحي الموشوم بالتفاؤل والتشاؤم بين عابري الألوان والأصوات، فتركض مخيّلتك وراء أفق الكلمات مستعيدة “تشاؤل” الفرد الموغل في وحدته المتقلّبة على جمر طبق ساخن من الهموم والآمال.

هذا هو “إنسان” دمشق اليوم.. ربما لا، ربما نعم.

كما العابر بين ضفتين، وهو ينوء فوق فراغ قد يشبه اللايقين، باحثاً عما يأخذ به، من أسباب الحياة والوجود، للضفة التي يتشهى العبور إليها، فوق جمر اللحظة، بصدر مشرع للهواء الجديد، والفضاء المفتوح بلا نهاية، متعالياً فوق صراخ جراحه القديمة، وأنينه الموغل في وجع رددت صداه جهات الأرض، وعابراً إلى فسحة فرح محملة فائض إثر الخروج من كهف طافح بالخوف والمهانة، فرح فوق أي توجس قد يطل برأسه الثقيل، إذ ثمة ما بعد الأبدية تلك يمكن أن يعيشها، ونعيشها..

مع تدفق الأيام، ثمة أشياء لا حصر لها بدأت تزحف في الشوارع كالضباب. بضائع أجنبية تدفع جدران عزلة قديمة إلى التهاوي، تقتحم هواء المدينة وفضاءها، تطفو على الأرصفة، قاذفة المارة إلى الطريق أو القفز من بينها كالبهلوانات، فيما صراخ الباعة يعلو مخاطباً آذان وقلوب زبائن تواقة إلى مشهد يكسر أقفال المسرح القديم وحملة مفاتيحه الجشعين، فتندفع أمام الطاولات الحديدية الصدئة لتقليب الثياب “البالية”، والأدوات الكهربائية، والأغذية المعلّبة الرخيصة، وبذور دوار القمر المكدس أكواماً صغيرة ومكشوفة فوق شاحنات السوزوكي التي يتدافع إليها كثيرون لشراء ما تسمح به جيوبهم المصاب بعضها بزوائد أنفية تعوق التنفس السليم.

أكوام أخرى من المكسّرات الأغلى ثمناً، ومن البسكويت، والشوكولا، يصدح بالتدليل عليها باعة آخرون تمرسوا في إطلاق نعوت جذابة على بضائع سرعان ما تتكشف عن رداءة في الإنتاج، لكن المواطن الخارج من عباءة الانغلاق قد لا يسلم، أمام هذا الموج الكاسح، من الوقوع في فخ البحث، وربما التعويض الانتقامي، عما حُرمَه لسنوات تبدو كدهر تراكمت طبقاته ثم تكسرت دفعة واحدة. تخيل اليوم قدرتك على شراء أربع قطع، أو خمس، من البسكويت والشوكولا… بعشرة آلاف، ما يعادل دولاراً واحداً بالسوق.. أحدهم تناول خمس قطع من هذه المعروضات ورفعها بيديه عالياً وهو يصرخ: “الله يفضح حريمون يلي كانوا حارمينا.. ولاد ألف كلب”.

اليوم، في دمشق، في كل شارع وساحة، تعلو أصوات صرافي الدولار في سوق مفتوح لمضاربات موجعة لا تعبأ بحدود القوانين المالية والمصرفية، حاشدة كل ما تملك من وسائل وأدوات، مباشرة أو مراوغة، تسهم في تسهيل عملية تدفق ما تبقى في جيوب الناس، من مخزون بسيط أو مساعدات عابرة للحدود، إلى خزائن حيتان السوق عابرة الأزمنة والأمكنة تحت شعار غير معلن، وإن كان يصم الآذان “ألا هل من مزيد؟”. فيما البنك المركزي والبنوك الخاصة أقفلت أبوابها على لوائح معلقة في صدر المكان، تشير أرقامها إلى فارق كبير بين ما هو مكتوب وما يُتداوَل، أو يُفرَض على الناس في الشارع.

وعلى هامش هذه السوق الصاخبة بدا لي في لحظة ما أن البعض من تلك الأصوات المرتفعة يتقصد إهانة “الدولار الملعون” الذي فعل بنا الكثير. وهنا تحضرني حكاية صديق أسرَّ لي ذات لحظة عابرة: سنوات طويلة كان ذكر الدولار يصيبني بالرعب، ويجعل جسدي يرتجف، وقدميّ تقصفان تحتي وتحاولان مغادرة المكان رغماً عني. وكنت أخشى شتمه لأن أجهزة التنصّت العابرة للحدود قد تنقل الشتيمة للمخابرات الأميركية فتطلبني تلك من أحد فروعها المنتشرة في كل مكان.

العربي الحديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى