العدالة الانتقالية تحديث 03 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
————————-
إبراهيم اليوسف ومدرسة المدفعية مجدداً/ حسام جزماتي
2025.06.02
قبل حوالي عشرة أيام بثت قناة «سوريا بودكاست» على يوتيوب حديثاً أجرته مع عزيزة جلود
، زوجة النقيب الذي قاد العملية الشهيرة في مدرسة المدفعية بحلب، صيف العام 1979.
ورغم ما مر بالبلاد من ويلات عقب ذلك، وما تجدد بصورة أكبر خلال سنوات الثورة؛ تحتفظ هذه العملية بموقع تأسيسي لا ينازعها عليه حدث آخر، وبأثر راضٍّ في الأوساط العلوية يتجدد طازجاً بمجرد ذكر اسم إبراهيم اليوسف. الرجل الذي يثير استقطاباً حاداً بين من يرى أنه تجسيد كامل لوصف «المجرم»، وبين من يعتقد، على الضفة الأخرى، أنه «بطل» تنبه مبكراً إلى مجموعة حقائق أكدتها سنوات الثورة؛ كالتمييز الطائفي في الجيش كنموذج مركز عن الحياة العامة، واستحالة مقارعة نظام الأسد إلا بالوسائل العسكرية التي تعد طريقاً للفداء إن كانت ضعيفة كما كانت حال اليوسف ورفاقه الذين قضوا شهداء في نظر أنصارهم، أو يكون العمل الجهادي سبيلاً للنصر كما حصل مع «الثورة الثانية» كما يحلو للبعض أن يسمّوا ما جرى في سوريا منذ العام 2011، محتفظين للتمرد الذي أطلقه تنظيم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين»، في نهاية عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات، بوصف الثورة الأولى.
والحقيقة أن بين الحراكين وشائج وتناقضات. فقد انطلق الأول على يد مجموعة صغيرة، مسلحة، طائفية، نشأت في رحم «الإخوان المسلمين» من دون رضى الأم التي انزلقت إلى الصراع، الذي حفز جماهير على الانتفاض في حماة وحلب وأقل من ذلك في محافظات أخرى، وشجّع نقابات وأحزاباً سياسية قومية ويسارية على رفع الصوت والمطالبة بإسقاط النظام. في حين أن الثورة، بالمعنى المتفق عليه الآن، بدأت بالعكس؛ حراكاً سلمياً اضطر إلى التسلح، ومطالب سياسية اتجهت نحو الجذرية، وطابعاً ظاهراً من المدنية متعددة الطوائف انحسر إلى تكثيف سنّي لم يهدّئه انتصار الثورة بل أطلقه من قمقمه وصول جماعة إسلامية إلى الحكم.
والحال أن أحد العناصر التي يتفق عليها الجهاديون هي كراهية «الإخوان المسلمين»، سواء أخرجوا أصلاً من عباءتهم أم لا. وهو ما تتفق عليه «الطليعة المقاتلة»، ولا سيما في أيامها الأخيرة، مع «هيئة تحرير الشام» التي لم تؤثر عنها علاقة طيبة مع «الإخوان» لا خلال سنوات الثورة ولا بعدها. ولطالما كان السبب هو لوم الأخيرين على «سياسيتهم»، في «التحالف الوطني لتحرير سوريا» في آذار 1982 وفي «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» منذ تشرين الثاني 2012 حتى إعلان حل نفسه.
في البودكاست المشار إليه، وقبله في كتاب كانت أصدرته بعنوان «إبراهيم اليوسف وصفحات من تاريخ الطليعة المقاتلة في سوريا»، تتبنى جلود رواية الثورتين المتكاملتين بعد مدة انقطاع طويلة. وترى أن سنوات سجنها الإحدى عشرة لم تذهب سدى الآن، وأن «حق» زوجها سيعود، خاصة وأن قوات السلطة الحالية قبضت، بالصدفة، على مساعد الأمن الذي أطلق عليه الرصاصة الأخيرة. وإن كانت تختتم ذلك مستغربة من إطلاق سراحه بعدها.
تدافع أم ياسر عما فعله زوجها بأنه ردة فعل، ليست عادلة بالضرورة، على ما شعر به من تمييز وصل إلى حد الانتقاص من مكانته كضابط، لكنه «سنّي» في نهاية الأمر. بل إنها امتلكت أسبابها الخاصة لكراهية النظام والمشاركة في العمل ضده بسبب ما عانته، وشاهدته، في فروع المخابرات التي دخلتها بداية لمجرد أنها زوجة مطلوب لم تكن تعلم، في حقيقة الأمر، شيئاً عن الانتماء السري لرجلها، ولم تلتقط منه، في صباح ذلك اليوم الذي نفّذ فيه عمليته، أي إشارة إلى ما سيحدث ويقلب حياتهما.
وفي مواجهة منح جلود صوتها، ومنح الجميع أصواتهم بطبيعة الحال، يبرز موقفان؛ يدعو الأول منهما إلى طيّ السجادة والجثة بداخلها بدعوى أن فتح ملف المجازر يؤجج الأحقاد ويهدد السلم الأهلي في مرحلة «حرجة» لا تنتهي. ويمارس الثاني، عملياً ومن دون إعلان، احتكار الرواية لصالح جهة. كما سبق للنظام أن فعل بصدد هذه المجزرة منذ حدوثها وحتى أصدرت قناته الرسمية، «الإخبارية السورية»، قبل سنوات، فيلماً وثائقياً عنها بعنوان «بصمات الدم الأولى» التقى ببعض الشهود الأحياء من الذين استهدفتهم. وكلا الموقفين خاطئ.
فمن جهة أولى لم يُفد تجاهل المجازر في منع تكراراها وتولدها من بعضها بل العكس، طالما هي حية في نفوس الناجين منها وأهل ضحاياها وبيئتهم. بل إن وضعها على الطاولة والتفرس فيها هو الكفيل بتخفيف الاحتقانات الناجمة عنها. أما رفض سماع رواية أحد الطرفين كلياً فانحياز عار مهما تستر بعدم السماح للمرتكبين، أو من يمثلهم، بممارسة التشويش على رواية الضحية. ففي النهاية ينتمي المجرم الكامل والضحية التامة إلى عالم ليس من هذه الأرض التي تحوي تدافعاً مستمراً من الأفعال وردّاتها. ويفيد فهم هذا التراكم وتحليل السياق في تقليل التكرار.
هل ستؤدي قصة عزيزة جلود إلى معرفة أكبر بدوافع زوجها؟ نعم. وهل ستخفف من غلواء من يعدّونه شيطاناً بشرياً خالصاً؟ ستفعل على الأغلب. لكن ذلك لازم بقدر ما هي هامة مشاهدة اللقاء الذي أجرته «الإخبارية السورية» ضمن الوثائقي نفسه مع أحمد ميهوب علي، الكهل وقتئذ، الضرير منذ أكثر من ثلاثين عاماً بعدما فقد بصره نتيجة لإصابته بشظايا في ذلك اليوم. بل إن اللحظة القصوى ربما تكون حين يلتقي الشاهدان؛ مؤيد العملية وضحية المجزرة.
هذا هو سبيل التعافي المجتمعي وشق طرق السلام الصعبة. وهو أحد المقومات الرمزية للعدالة الانتقالية طالما أن العدالة الفعلية يفترض أن تبقى بيد قضاء عادل وبارد يحاسب على الأفعال. تاركاً ما سوى ذلك من مشاعر الحقد أو التقديس أو التعاطف أو الغضب بعيداً عن قوس المحكمة التي تأخذ بالقسط.
تلفزيون سوريا
——————————-
ملاحظات قانونية حول بعض “المراسيم”/ محمد صبرا
2025.06.02
تخطو سوريا اليوم خطوات كبيرة باتجاه إعادة التموضع في نسيج العلاقات الدولية والإقليمية، وتكاد تكون هذه الخطوات قفزات تاريخية بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهناك من جهة إرادة دولية وإقليمية صادقة وجادة في توفير كل أسباب النجاح للسلطة الانتقالية، وفي الجانب الآخر تبدي هذه السلطة المرونة الكافية لفهم تعقيدات العلاقات الدولية، وتتكيف معها ضمن مصفوفة من التوازنات التي تسير فيها بنجاح ملحوظ حتى اللحظة، ونتمنى أن تبدأ السلطة الانتقالية بالالتفات إلى بناء الدولة كمفهوم وكمؤسسات خاضعة للقانون من أعلى قمة السلطة إلى أدناها.
فالسلطة السياسية في عالمنا المعاصر، تقوم على ركيزتين: الأولى قناعة الناس بشرعيتها، أي اعترافهم بحقها في إصدار الأوامر والنواهي، والثانية امتلاكها وسائل الإكراه لتنفيذ هذه الأوامر عند الضرورة، وهاتين الركيزتين تقومان على مبدأ أساس وهو سيادة القانون، وبذلك تكون السلطة الخاضعة للقانون سلطة شرعية بقدر احترامها له وبقدر صدور أوامرها طبقاً له، وهذا ما يمنح المواطنين الشعور بأنهم ملزمون بالخضوع لأوامر السلطة ونواهيها لأن هذه الأوامر لا تصدر عن عبث، وإنما تستند إلى قانون منشور يعرفونه وسبق أن اطلعوا عليه، فطاعة القانون تنبع من الاعتقاد بأنه عادل وضروري لتحقيق الخير العام، وتفترض أيضاً أن من يخرقه سيتعرض للعقاب، مما يمنح الآخرين شعوراً بالأمان والثقة في النظام. وفي هذا الصدد يمكن لنا أن نسوق بعض الملاحظات التي نتمنى من السلطة بكافة مستوياتها أن تنظر لها بجدية. وهذه الملاحظات يمكن اختزالها بضرورة انسجام قرارات السلطة بكافة مستوياتها مع القوانين النافذة، وعلى رأسها الإعلان الدستوري. وهنا نذكر أن السيد رئيس الجمهورية أصدر عدداً من المراسيم، ورغم أهمية المواضيع التي صدرت فيها هذه المراسيم، إلا أن هناك شوائب قانونية شابت هذه المراسيم، سواء من ناحية الصياغة الشكلية أو من ناحية المواضيع التي تضمنتها، أو من ناحية السلطات والصلاحيات، وذلك وفق التفصيل الآتي:
عدم جواز صدور مراسيم من رئيس الجمهورية
نص الإعلان الدستوري المؤقت النافذ في سوريا حالياً على صلاحيات مقيدة للسيد رئيس الجمهورية، وجاءت هذه الصلاحيات على سبيل الحصر والتعداد، ونظمتها المواد من 31 إلى 41، ونصت المادة 36 من الإعلان الدستوري على أنواع القرارات التي تصدر عن رئيس الجمهورية على سبيل الحصر، حيث قالت: “يصدر رئيس الجمهورية اللوائح التنفيذية والتنظيمية ولوائح الضبط والأوامر والقرارات الرئاسية، وفقاً للقوانين”. وهذه المادة المقيدة من حيث الصياغة لا ترد فيها سلطة رئيس الدولة بإصدار مراسيم، وهذا أحد أوجه القصور المعيب في صياغة الإعلان الدستوري الذي لم يراعِ الكثير من القضايا والصلاحيات التي كان من المفترض أن ترد في نص الدستور. والقواعد الفقهية في القانون الدستوري تجمع على أن أي سلطة دستورية لا تستطيع أن تصدر قرارات أو تقوم بأعمال لا يسمح لها الدستور بها، أو لا ينص الدستور عليها صراحة، إذ إن تفسير النصوص الدستورية يبقى تفسيراً مقيداً ولا يجوز القياس عليها. وفي معرض القصور في النص على صلاحيات رئيس الجمهورية في الإعلان الدستوري، نذكر أيضاً أن المادة 38 التي أعطت الحق لرئيس الجمهورية بتعيين رؤساء البعثات الدبلوماسية لدى الدول الأجنبية وإقالتهم، أغفلت ذكر حق رئيس الدولة بتعيين كبار الموظفين المدنيين والعسكريين. وهذا الأمر لا يجوز افتراضه، بل لا بد من النص عليه صراحة في النص الدستوري أياً كان (إعلاناً دستورياً أو دستوراً دائماً). وخطورة هذا النقص أنها تسمح بالكثير من اللغط وربما الكثير من العثرات القانونية في المستقبل، لأن الإعلان الدستوري نفسه، والذي كان يُفترض أن يقوم على مبادئ النظام السياسي الرئاسي، أخطأ خطأ جسيماً في المادة 31 منه عندما قال: “يمارس رئيس الجمهورية والوزراء السلطة التنفيذية، ضمن الحدود المنصوص عليها في هذا الإعلان الدستوري”، وهذا الخطأ الجسيم يعني ازدواجية السلطة التنفيذية، لأن واو المعية الواردة في النص، والتي تجمع رئيس الجمهورية مع الوزراء، تعني أن ممارسة السلطة التنفيذية تكون من حق الجهتين، الأمر الذي يترك الكثير من الإرباك على مستوى الإدارة والقانون وتضارب القرارات، وهذا يتناقض مع أسس صياغة الدساتير الرئاسية مثل الدستور التركي أو الأميركي على سبيل المثال، والتي تحصر السلطة التنفيذية برئيس الجمهورية.
واستناداً إلى ما سبق، فإن الإعلان الدستوري الذي حجب عن رئيس الجمهورية سلطة إصدار مراسيم، واجب الاتباع، وبالتالي، فإنه قد يكون من المفيد تعديل الصيغ التي تصدر بها القرارات عن رئيس الجمهورية، وتعديلها إلى صيغة “قرار رئاسي”.
المرسوم رقم 18 لعام 2025، والقاضي بتغيير هيكلية الهيئة العامة للتخطيط والتعاون الدولي
مع التأكيد على الملاحظة السابقة المتضمنة عدم جواز صدور مراسيم عن رئيس الجمهورية، فإن المرسوم الذي نتحدث عنه، وهو رقم 18، خالف أيضاً نصوص الإعلان الدستوري، وذلك للأسباب التالية:
هيئة التخطيط والتعاون الدولي تم إحداثها بموجب القانون رقم 1 لعام 2011، وبالتالي فإن أي تغيير بهيكليتها يجب أن يكون عبر قانون تشريعي. وباعتبار أن الإعلان الدستوري حجب عن رئيس الجمهورية سلطة التشريع، فإن المرسوم رقم 18 لا يتفق البتة مع أحكام الإعلان الدستوري. وهنا نلاحظ أيضاً القصور في صياغة الإعلان الدستوري، والذي كان من الواجب عليه أن يضع مادة مؤقتة تقول: “يتولى رئيس الجمهورية سلطة التشريع إلى حين تشكيل مجلس الشعب، على أن تُعرض التشريعات الصادرة عن رئيس الجمهورية في هذه الفترة على المجلس خلال خمسة عشر يوماً من انعقاده، للنظر فيها ومناقشتها وإقرارها أو تعديلها أو إلغائها، فإذا لم تُعرض على المجلس زال ما لها من قوة قانونية بأثر رجعي من دون الحاجة لإصدار قرار في ذلك”. وضرورة مثل هذه المادة أن البلاد تعيش في فراغ تشريعي كامل، يخلّ بسير السلطات العامة، ويعطّل أعمال الإدارة.
إن إحداث إدارة التعاون الدولي، وإناطتها بوزارة الخارجية، وإن كانت صحيحة من حيث المضمون، إلا أن تشكيلها يجب أن يكون بقانون، لأنه يتعلق بهيكلة الوزارات الأخرى، حيث نص المرسوم 18 على أن مكاتب التعاون الدولي في الوزارات والمحافظات تتبع إدارياً وفنياً لوزارة الخارجية، وهذا يعني خلق جهات إدارية ضمن وزارة تتبع لوزير آخر، ما يعني حجب صلاحيات وسلطات الوزراء عن توجيه أو إصدار تعليمات أو قرارات تتعلق بهذه المكاتب المحدثة في وزاراتهم. وهذا يسمح لوزارة الخارجية بالتدخل الشامل في عمل كل الوزارات، وهو أمر غير جائز قانونياً، وكان من الممكن، لو تم تنظيم الأمر بقانون، أن يتم النص على إحداث مديرية التعاون الدولي في وزارة الخارجية، وندب ممثلين وموظفين منها إلى الوزارات الأخرى، للتنسيق فيما يتعلق بقضايا التعاون الدولي.
ورد في المادة الأولى من المرسوم 18 أن تعديل المهام والهيكلية لهيئة التخطيط الدولي سيتم تحديده بالتعليمات التنفيذية لهذا المرسوم، وهنا أيضاً نجد نوعاً من الإفصاح أن المرسوم هو عمل تشريعي، وهو محجوب عن رئيس الجمهورية بموجب الإعلان الدستوري النافذ. وهذا ينطبق أيضاً على المادة الرابعة منه، والتي قالت بالحرف: “يكلف المعنيون بتنفيذ أحكام هذا المرسوم واتخاذ ما يلزم من إجراءات إدارية وتشريعية لإعادة الهيكلة وفق ما ورد أعلاه”، وأيضاً هنا نجد تكليف جهة إدارية بإصدار إجراءات تشريعية، وهذا غير ممكن في ظل الإعلان الدستوري النافذ حالياً، وكان من الأفضل أن تتم صياغة كل هذه المقترحات على شكل مشاريع قوانين يقترحها رئيس الجمهورية على مجلس الشعب حين تشكيله، وذلك استناداً إلى المادة 39 فقرة 1 من الإعلان الدستوري.
المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 2025 القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين
هذا المرسوم يتعارض مع الإعلان الدستوري، فضلاً عن تعارضه مع القوانين السورية ومع المبادئ القانونية الراسخة. فإحداث هيئة وطنية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، يحتاج إلى قانون صادر عن مجلس الشعب أو إلى مرسوم تشريعي، وبما أن رئيس الجمهورية لا يستطيع إصدار مثل هذا المرسوم، فإنه لا بد من إعادة النظر في هذا الأمر ومحاولة توفيق ما أمكن مع القواعد القانونية. وإضافة إلى هذه الملاحظات، يمكن النعي على المرسوم 19 بالمثالب التالية:
لم يبيّن المرسوم 19 مرجعية الهيئة الإدارية، وهل ترتبط برئيس الجمهورية أم بإحدى الوزارات، وهل يتمتع رئيس الهيئة بسلطات وصلاحيات الوزير أم لا. وهذه القضايا على غاية من الأهمية، لأنها تتعلق بضبط المالية العامة وتحديد عاقد النفقة، وأيضاً تحديد الموازنة المالية لهذه الهيئة، وهل ستكون ضمن موازنة رئاسة الجمهورية أم لها بند خاص من بنود موازنة الدولة، أم ستأخذ موازنتها من إحدى الوزارات.
كذلك، هناك سقف مالي محدد لعاقد النفقة بحسب درجته الوظيفية، وبالتالي كان من الواجب بيان الصفة الوظيفية والتبعية الإدارية لرئيس الهيئة، لتحديد السقف المالي الذي يستطيع الأمر بصرفه من دون العودة إلى مرجع أعلى في السلطة.
كذلك فإن الولاية الممنوحة للهيئة الجديدة غير واضحة، سواء من ناحية الولاية المالية أو الولاية القانونية، وجاءت صيغة المرسوم عامة ومبهمة، حيث اكتفت بتحديد صلاحياتها بأنها مكلفة بالبحث والكشف عن مصير المفقودين، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلاتهم، وهذا يتداخل فعلياً مع عمل بعض الوزارات، مثل وزارة العدل، إذ إن البحث عن المفقودين يجب أن يكون من قبل النيابة العامة، لأن هناك عدداً هائلاً من القواعد القانونية ذات الأولوية القصوى التي تتعلق بإعلان أن فلاناً من الناس مفقود أو البتّ بمصيره. وهذه القواعد القانونية تتعلق بأحكام الوفاة وما يترتب عليها من إرث وحقوق للزوجة إن كان متزوجاً، فضلاً عن قضايا الملكية وتعقيداتها، وحتى قضايا الجنسية وإثبات النسب وغيرها من التعقيدات القانونية التي تنشأ عن حالات اعتبار الشخص مفقوداً. لذلك، وبسبب خطورة مثل هذه القضايا، كان من الأفضل أن يتم تنظيمها بقانون شامل مفصّل يُراعى فيه كل هذه التعقيدات القانونية، ويسمح بنشوء تعاون كامل بين النيابة العامة والطب الشرعي ومديرية الأحوال المدنية وغيرها من المؤسسات ذات الصلة بهذه التعقيدات الشائكة.
إن تكليف رئيس الهيئة بوضع النظام الداخلي لعملها وتشكيل فريق العمل، يعتبر أيضاً مخالفاً للإعلان الدستوري وللقانون، فالنظام الداخلي للهيئة يجب أن يصدر من الجهة صاحبة الحق في إنشاء مثل هذه الهيئة، وليس من قبل رئيسها، لأنه لا يجوز تفويض الشخص بوضع ضوابط مركزه القانوني. كذلك، فإن النظام الداخلي سيتطرق لا محالة إلى القضايا المالية التي ستحكم عمل الهيئة، وهذه من اختصاص الجهة التشريعية، لأنها تصرفات تمس المالية العامة، ويجب أن تخضع لرقابة الجهة التشريعية ولإشرافها.
كذلك، فإن تكليف رئيس الهيئة بتشكيل فريق العمل، يعتبر أمراً يتناقض مع القانون الأساسي للعاملين في الدولة، فالعاملون في الهيئة لاحقاً يجب أن يتمتعوا بمركز قانوني يستمدونه من القانون وليس من قرار رئيسهم. كذلك فإن تعيين الموظفين العموميين يخضع لآليات قانونية دقيقة تضمن مبدأ المساواة أمام الوظيفة العامة، وتحمي حقوق الموظفين المالية والمعنوية، وتضع آليات محددة لترقيتهم ولدرجتهم الوظيفية. وهذه الأمور جميعها يجب أن تخضع لتنظيم تشريعي، وليس لقرار إداري يصدر عن رئيس الهيئة.
المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 2025 القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية
للأسف، أيضاً هذا المرسوم تنطبق عليه كل الملاحظات السالفة الذكر، ونزيد عليها أن تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية يجب أن يكون بنص تشريعي حصراً، لأن هذه الهيئة تتمتع بولاية قضائية وقانونية كبيرة وواسعة جداً، ولا يمكن للسلطة التنفيذية أن تمنح مثل هذه الولاية أو أن تفوّض بها. كذلك، من غير الجائز أن يُكلّف رئيس الهيئة بوضع نظامها الداخلي، لأن ذلك عمل تشريعي يجب أن يصدر من الجهة صاحبة الحق الأصيل بإحداث هذه الهيئة. إضافة إلى ذلك، فإن تعيين فريق العمل من قبل رئيس الهيئة هو أيضاً تجاوز لكل القوانين، ولا سيما قوانين السلطة القضائية والقانون الأساسي للعاملين في الدولة. وأيضاً، وهو الأخطر، أن هذه الهيئة سيتداخل عملها إلى حد كبير مع عمل النيابة العامة ومع عمل القضاء، ولذلك يجب إحداثها بقانون وليس بقرار. كذلك، فإن مرجعيتها القانونية غائبة عن مرسوم تشكيلها، ومن غير المعروف لمن ستتبع هذه الهيئة، لرئيس الجمهورية أم لوزارة العدل أم لجهة أخرى، والقول بأنها ستتبع رئيس الجمهورية لأنه هو الذي أصدر مرسوم تشكيلها، وأن ذلك مفترض من دون حاجة للنص عليه، هو قول غير صحيح، لأنه على مستوى القانون الدستوري والإداري لا يمكن افتراض تبعية قانونية بمجرد تحديد جهة التشكيل. هذه الملاحظات، بالإضافة إلى الملاحظات المتعلقة بموضوع المساس بحقوق المالية العامة، والتي سبق أن ذُكرت سالفاً.
المرسوم التشريعي رقم 44 تاريخ 29/5/2025 والمتضمن آلية شغل الوظائف القيادية في الدولة ضمن مستوى الإدارة الوسطى:
إن هذا المرسوم يتجاوز اللائحة التنظيمية أو اللوائح التنفيذية التي نصت عليها المادة 36 من الإعلان الدستوري، وهي اللوائح التي يمكن لرئيس الجمهورية إصدارها، ويتضمن المرسوم المنوّه عنه سالفاً تعديلاً جوهرياً للقانون الأساسي للعاملين في الدولة، ما يجعله نصاً تشريعياً. ومن المبادئ المتفق عليها أن النظام الرئاسي لا يسمح لرئيس الدولة بإصدار تشريعات أو قوانين، لأن هذا يخل بمبدأ الفصل الجامد بين السلطات.
وقد يقول البعض إن المرسوم التشريعي رقم 43 لعام 1971 ما يزال نافذاً طبقاً لما نص عليه الإعلان الدستوري نفسه في المادة 51، إلا أن الرد على هذا الرأي يكمن في جوهر التغيير الذي حمله الإعلان الدستوري، والانتقال من النظام البرلماني، حيث تنقسم السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، إلى نظام رئاسي يفترض فيه الفصل الجامد بين السلطات، ما يغير من طبيعة عمل السلطة التنفيذية وصلاحياتها انسجاماً مع النص الدستوري الحالي، والذي هو الإعلان الدستوري. والمرسوم 43 لعام 1971 لم يُنشئ سلطة أو صلاحية مستحدثة لرئيس الجمهورية، بل جاء تطبيقاً للفقرة 3 من المادة 54 من الدستور المؤقت الصادر بتاريخ — والتي نصّت صراحة على ما يلي في معرض تحديدها لصلاحيات رئيس الجمهورية: “إصدار باقي المراسيم والقرارات والأوامر طبقاً للتشريعات النافذة”. كذلك ورد في الدستور السوري لعام 1973 مادة صريحة تعطي الحق لرئيس الجمهورية بإصدار المراسيم، وهي المادة 99، والتي قالت: “يصدر رئيس الجمهورية المراسيم والقرارات والأوامر وفقاً للتشريعات النافذة”، وكذلك ورد في دستور عام 2012 في المادة 101 نص صريح يقول: “يصدر رئيس الجمهورية المراسيم والقرارات والأوامر وفقاً للقانون”.
إذاً، من هذه المواد جميعاً، وطبقاً لقواعد تفسير النص الدستوري، فإن المرسوم التشريعي رقم 43 لعام 1971 لا يصلح أن يكون متكأً لإصدار مراسيم في الوقت الحالي، لأن هذا المرسوم هو إطار تنظيمي يحدد آلية صدور المراسيم من قبل رئيس الجمهورية ويستند إلى نص واضح في الدستور الذي صدر في ظله، وكذلك بقي نافذاً لأن كل الدساتير التي صدرت بعد ذلك حافظت على حق رئيس الجمهورية في إصدار المراسيم، بينما نجد أن الإعلان الدستوري لا يسمح بهذا الأمر. وكذلك فإن الاستناد إلى العرف الدستوري قد لا يسعفنا في هذا الظرف، لأن من شروط قيام العرف الاضطراد والمشروعية والعمومية في ظل عدم وجود نص، بينما نجد أن النصوص الدستورية منذ عام 1971 وحتى 2024 قد نصّت صراحة على حق رئيس الجمهورية في إصدار مراسيم.
ختاماً، فإن احترام الإعلان الدستوري وتطبيقه من قبل السيد رئيس الجمهورية الذي أصدره، ليس ترفاً أو مجرد مطلب شكلي، بل هو ضرورة أساسية لطمأنة الجمهور بأن السلطة السياسية تحترم القانون النافذ وتتصرف تحت سقفه. وهذا أمر حيوي جداً ليشعر المواطنون بالأمن، وأن سيادة القانون تشملهم وتشمل السلطة في آنٍ معاً. وإذا كان هناك ثغرات في الإعلان الدستوري تعيق سلاسة العمل الحكومي، فهذا يتطلب معالجة من نوع آخر، وليس خرق الإعلان بسلسلة من القرارات والمراسيم. ولا سيما أن الكثير من وزارات الدولة باتت تستنّ بهذه السُنّة، حيث أصدر بعض الوزراء قرارات تعطل نصوصاً قانونية، بل إن جهات إدارية باتت تفرض رسوماً وتعريفات جمركية من دون أي سند قانوني أو وجه حق، وهذا يشير إلى عمق المأزق الذي نعيشه في الوقت الحالي، والذي يتطلب أن تخضع فيه السلطة لقانون واضح ومعلن، لا أن تُتخذ القرارات وفقاً لما تراه مناسباً من دون الالتفات إلى مبدأ الشرعية وسيادة القانون.
تلفزيون سوريا
————————
==========================