الأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعالتدخل الاسرائيلي السافر في سورياالشرع و المقاتلين الأجانب و داعشالعدالة الانتقاليةالعقوبات الأميركية على سورياتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةعن أشتباكات صحنايا وجرمانالقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 03 حزيران 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

————————-

المظلومية ضدّ الدولة والعدالة/ سمير الزبن

02 يونيو 2025

تبدو المظلومية أداةً فعّالةً لدفاع الأقلّيات المظلومة عن نفسها. وهي كذلك طالما تتعرّض الأقلية للاضطهاد من السلطة القائمة، سواء كانت سلطةً تُعتبَر محسوبةً على طائفة الأكثرية في البلد، أو سلطةً تقمع الجميع، وتزيد من قمعها هذه الطائفة أو تلك. وعندما يُرفع الظلم عن هذه الأقلّية، فإن بقاء اجترار المظلومية نوع من الابتزاز المجتمعي، مع تفهّم استمرار هذه الأقلّية في المطالبة بحقوقها الطبيعية ضدّ كلّ تمييز، مثل غيرها من مكوّنات المجتمع الذي تعيش فيه. وتصبح المسألة أكثر تعقيداً عندما تكون الأكثرية الطائفية هي التي تدافع عن نفسها عبر المظلومية.

مشكلة التعامل مع الصراع بمنطق المظلومية أنه يحجب الأسس الحقيقية المكوّنة له، بوصفه صراعاً سياسياً يمارس بأدوات القتل وعابراً للطوائف، حتى لو صوّر طائفياً. وهو بذلك يختصر الصراع في صراع طوائف بوصفها جماعات محلّية ذات هُويَّات ثابتة واضحة المعالم متخندقةً حول ذاتها في مواجهة المحيط المعادي، بذلك يغيب السياسي ويصبح صراعاً هُويَّاتياً إلغائياً غير قابل للحلول السياسية، بوصف السياسة المجال الطبيعي لحلّ الصراعات في المجتمع. لا تنتج المظلومية حلولاً سياسية، ولا حلولاً تقوم على العدالة، بمعنى أن المجرم يجب أن ينال عقابه على الجرائم التي ارتكبها شخصياً، أو أثناء ممارسته لوظيفته، وهذه الجريمة يتحمّل وحده مسؤوليتها الجرمية، ويتحمّل النظام السياسي الذي ارتكبت في ظلّه، أو سمح بارتكابها المسؤولية الجرمية والسياسية. أمّا الطائفة التي ينتمي إليها هذا المجرم، سواء كانت أقلّيةً أو أكثريةً، فلا هي ولا أفرادها يتحمّلون مسؤولية جرائمه. كما أن الطوائف لا تتشكّل من مجرمين يجب الانتقام منهم، ولا تتحمّل جرائم النظام، حتى لو كان الرجل الأول في الدولة، وكبير المجرمين فيها، ينتمي إلى هذه الطائفة.

اعتماد المظلومية منظوراً ضيّقاً للصراعات وصفة لإنتاج صراع انتقامي غير قابل للحلّ، طالما أن البشر المُكوِّنين لهذا الصراع يملكون جوهراً ثابتاً لا يتغيّر، ظالمين ومظلومين. وحتى عندما تنتهي المظلومية، تبقى الجماعة تجترّها لتبرّر انتقامها اللاحق. لذلك، تنتج المظلومية حالة إلغاء الآخر، وبإخراج البشر الذين يشبهوننا إلى خارج الدائرة التي ننتمي إليها، وتصغيرهم من خلال أوصاف حيوانية، وبذلك نصنع المدخل لممارسة العنف ضدّهم، بوصفهم كتلةً صمّاء من الأعداء، وبالتالي وضع الأساس لامتلاك الحقّ بإبادتهم.

المظلومية آخر ما يصلح لحلّ الصراعات الوطنية الدموية، فهذه الصراعات تحتاج إلى إعادة بناء الأوطان على أسس من العدالة التي يجب أن تشمل الجميع، والمظلومية لا تعترف بالعدالة، إنما هي الأساس التبريري للانتقام من الآخر، وعندما تخرج الطوائف من صراعات قاسية ذات طابع إلغائي، محمّلةً بالمظلومية، فهي لا تؤسّس وطناً يتّسع للجميع، لأن كلّ صراع دموي هو في جانب منه صراع إلغائي وإبادي، فإن الخروج منه لا يكون سوى باعتراف الجميع بالجميع، بصرف النظر عن انتمائهم الطائفي والعرقي والجهوي، بوصفهم مواطنين لهم القيمة والحقوق نفسها، وعليهم الواجبات ذاتها. أمّا المظلومية، فهي تنتج استنفاراً طائفياً دائماً بين مكوّنات البلد الواحد. هو استنفار إمّا للانتقام من الآخر، وإمّا لردّ الانتقام، ما يصنع خنادقَ عميقةً بين مكوّنات البلد الواحد، خنادق غير قابلة للردم، وتصبح كلّ الحلول السياسية حلولاً مزيّفةً، تريد تغطية واقع لا يمكن تجاوزه.

هذه حال العراق بعد أكثر من عقدَين من إطاحة صدّام حسين. وقد استثمرت المظلومية التاريخية للشيعة في التاريخ الإسلامي في تعزيز مكانة الضحية، وبعد الاحتلال الأميركي للعراق، شُكِّلت السلطة الجديدة على أسس طائفية تمنح السلطة للأغلبية الشيعية، ولم يخلق هذا التقاسم الطائفي مصالحات مجتمعية، بل على العكس، فجّر حرب مظلوميات دموية. وبقيت الأكثرية الشيعية، التي حازت السلطة فعلياً، تتصرّف من موقع هذه المظلومية، ما جعل الاستقطاب (وبالتالي الصراع الداخلي) يقوم على أسس طائفية. وهو ما أعاق (ويعوق) العراق فعلياً عن بناء دولة لجميع العراقيين.

الحالة السورية الخارجة من صراع دموي في بلد مُدمّر ومُجرّف سكّانياً، ومُدمّر اقتصادياً وعمرانياً، تستبطن خطاب المظلومية. والمفارقة السورية أن خطاب المظلومية لا يقتصر على الأقلّيات الدينية، بل شمل حتى السُّنّة، طائفة الأغلبية المطلقة. وتأتي هذه المظلومية من اعتبار حكم عائلة الأسد حكماً للطائفة العلوية، الذي استهدف تصفية الطائفة السُّنّية، ودمّر مدنها، في الوقت الذي لم تعانِ الطوائف الأخرى ممّا عانى منه السُّنّة، ولم تتعرّض مدنهم للدمار. والشعارات الدينية التي تردّدت خلال سنوات الثورة لم تكن بعيدة من إعلان هذه المظلومية. مع سقوط النظام، واستلام هيئة تحرير الشام السلطة، لم يتراجع خطاب المظلومية عند السُّنّة، وتم التعامل مع السلطة الجديدة على أنها انتصار لأصحاب المظلومية من دون التخلّي عنها، ولكنّها لم تعد في موقع المعارضة، بل باتت في موقع السلطة، ولها جمهورها الكبير الذي عانى الأمرَّين من حكم عائلة الأسد، وهذا الجمهور ليس من المنتمين إلى التيّار الجهادي، وقد باتوا متحمّسين لهذه المظلومية، ومدافعين عنها أكثر من عناصر الهيئة ذاتها. وظهر ذلك جلياً في أحداث الساحل، إذ دعا كثيرون من خطباء الجوامع في سورية إلى “الجهاد” ضدّ العلويين، ولم تكن المذابح التي حصلت هناك بعيدة من انتقام هذه المظلومية. وبعد اعتراف السلطة الجديدة بهذه المذابح، سواء ارتكبتها الفصائل أو المتطوّعون، فهي جاءت انتقاماً من الطائفة بفعل هذه المظلومية، التي تعتبر العلويين كلّهم أعداء. والدفاع الشعبوي الذي ساد بعد المذابح من دعاة المظلومية يقول: “هذا لا شيء في مقابل ما فعلوه بنا”. تعود “نا” الدالة على الجماعة على السُّنّة.

تنتج المظلومية حالةً انتقاميةً، ولا تصلح لبناء دولة، ومن يريد بناء الدولة، عليه الخروج من خطاب المظلومية الانتقامي إلى خطاب المواطنة، وإلا ستكون السلطة ذاتها سلطةً انتقاميةً، وإذا لم يكن ذلك بالذبح الجماعي، فسيكون بالذبح والتمييز الفردي للطوائف المستهدفة في الانتقام، وأيّ سلطة تملك وسائل كثيرة لتوظّف انتقاماً مسكوتاً عنه ضدّهم، ستكون (في نهاية المطاف) سلطةً تحفر قبرها بيدها، لأن المظلومية التي تنتقم من الآخرين سرعان ما تجد عوامل انقسام جديدة داخل طائفة الأكثرية لممارسة الانتقام من فئة منها، قد يكون بتكفيرها، أو بأيٍّ من طرائق إخراجها من الجماعة.

—————————————-

 من يفكك الألغام السورية وقاموسها!/ مصطفى علوش

2025.06.02

بشكل متتابع  تقريباً،لا يكاد يمرّ شهر أو شهران إلا ويكتشف الألمان قنبلة مختبئة في إحدى طبقات الأرض، وذلك خلال عمليات الحفر والتحضير لبناء جديد، وهنا فوراً تحضر الشرطة وتطلب من السكان الذين يقيمون ضمن محيط المنطقة إخلاءها لفترة معينة، بعد أن تكون قد أمّنت لهم بدائل مؤقتة للسكن، ضمن أبنية تابعة للدولة، حتى تتمكن الفرق الهندسية الشرطية الاختصاصية من تفكيك القنبلة، التي تعود غالباً لفترة الحرب العالمية الثانية.

في سوريا، بالتأكيد ثمة بشر متطوعون، اختصاصيون، يعملون لتفكيك الألغام المتبقية في الأراضي والأحياء السكنية التي كانت يوماً ما حقولاً للمعارك العسكرية،وحالياً هناك وزارة للطوارئ والكوارث يقودها المحترم رائد الصالح الذي اشتغل لسنوات كمدير لفريق الخوذ البيضاء وأنقذ  من الموت مع فريقه آلاف الناس من مختلف الأعمار.

النهج الطائفي لغم أيضا                                                                           

ولكن هل لدينا فرق اختصاصية لتفكيك الألغام النفسية المنتشرة في أرواح كتلة بشرية سورية عاشت عقوداً في ظل اللادولة، كتلة بشرية لم تعش يوماً واحداً في حياتها، الحياة العادية التي يعيشها الناس في بلد مستقر؟.

أحد هذه الألغام هو النهج الطائفي، فهناك من يعتقد أنّ طائفته يجب أن تحكم، ويعتقد أنّ كل الطوائف الأخرى يجب أن تقبل بهذا الأمر، وإن حدثته أنّ الدول وبناء الدولة يشترط  وجود مفهوم “المواطنة” والعقد الاجتماعي المؤسس على دستور لبناء العلاقة بين المواطنين والدولة، هنا ينفجر بوجهك كلغم مؤجل، ويشتم العلمانية والديمقراطية والدولة، وبصيغة مشتقة من مفردات القاموس التشبيحي الأسدي البائد ينفجر بوجهك قائلاً: وأين كنتم منذ 14 عاماً؟

في وسائل التواصل الاجتماعي وأكثرها شعبية الفيس بوك، ينفجر هؤلاء كألغام في وجوه كل منتقد لأداء الحكومة الانتقالية، وصار عندنا جيش نطلق عليه جيش “أضحكني” حيث ينفجر في وجه أي ملاحظة ناقدة من خلال استخدام وجه أضحكني كمحاولة لتسخيف أي رأي ناقد أو معارض.

كيف نعالج التنمر والوقوف في وجه جيش “أضحكني”؟                                       

في العالم الغربي، وفي جامعاته يشتغل اختصاصيون على معالجة التنمر بأشكاله المتعددة، ويقدمون نصائح وطرق لحماية مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من التنمر،عندنا الأمر معقد وصعب، فهؤلاء المتنمرون يشكلون جيشاً ويعتقدون أنّ مهتهم إخراس كل صوت منتقد للحكومة السورية.

إن تفكيك لغم التنمر وهذا ال”أضحكني” يحتاج لتذكيرهم جميعاً بأن جيش الأسد البائد وأعوانه استخدموا ذات الأدوات يوماً ما لإسكاتنا جميعاً، لابل كان هناك آلاف الموظفين في إجهزة الاستخبارات الأسدية عملهم كان هو شيطنة أي رأي يقف ضد الأسد. الآن ومع خطوات الحكومة الانتقالية الجديدة،ولأننا نريد لهذا البلد الاستقرار والتطور والسلام نريد منهم أن يكونوا أكثر ثقة بالنفس فكل من يقدم ملاحظات موضوعية عن أداء الحكومة يريد أيضاً الخير لسوريا الجديدة.

أفهم جيداً أنّ الجميع وأنا منهم يحتاجون للهدوء في مشاهدة المشهد الكلي لسوريا الحالية، ولكن مهمة الإعلام المهني مختلف تماماً عن مهمة الإعلام الحزبي الموجّه. ودعونا نتفق أنه في الزمن الحالي لا أحد يستطيع منع الآخرين من التعبير عن آرائهم، فإن منعت مقالاً من النشر في منبر ما، سيقوم صاحب المقال بنشره في منصة أخرى.

ماذا عن لغم الكراهية؟                                                                             

لكن هذه الفوضى العامة والألغام المختلفة الأشكال والأنواع تحتاج لضبط منهجي، و أسوأ أنواع الألغام السورية هو الكراهية، وعلاجها يبداً من دعم كل خطوة تأسيسية في بناء الدولة السورية الوليدة.

في هذه المرحلة تماماً نحتاج إلى سماع جميع الأصوات على “الإخبارية السورية” وبقية المنصات الإعلامية المتوافرة. وأولى خطوات علاج المرض هو اقتناع المريض بمرضه، وتفكيك ألغام الكراهية وغيرها يبدأ من خلال معرفة مكان اللغم وتحديد إحداثياته وإخلاء السكان، من محيط المكان.

تحتاج المعالجة وقبل كل شيء إلى شجاعة وإشراك الجميع في صنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فسوريا ستكون ضعيفة جداً إن نظرنا لها من خلال منظار طائفي وستكون قوية جداً إن نظرنا لها من خلال منظار وطني شامل. فكل جهد مهم، وكل كلمة صادقة مهمة لتدور عجلة الحياة من جديد.

سوريا الآن تحتاج إلى بناء مدارس جديدة وإلى التعليم والتنوير وتحتاج إلى كل صوت وطني ناقد أو غير ناقد، المهم أن يكون خطابه مبنياً على رؤية تجمع الناس لا أن تفرقهم.

لدينا من الخبرات والطاقات الإبداعية والإنتاجية الكثير، وهذه الطاقات تحتاج إلى بيئة آمنة لتعمل وإلا ستهرب مجدداً من البلد، وبناء البيئة يحتاج إلى رؤية تسمح للجميع بالتعبير السلمي عن آرائهم، وتحتاج إلى تامين كل أدوات العمل السياسي والمدني.

الاعتراف بالواقع المريض أهم خطوة لعلاجه وتجاوزه، وسوريا الآن في الطريق الصحيح ولكن بشرط تفكيك جميع ألغامها الاجتماعية والنفسية.

قاموس لفظي مليء بالألغام                                                                       

تخيلوا مثلاً هذا القاموس المستخدم من قبل مجموعات سورية ومنه مثلاً: (إعادة تدوير النفايات البشرية) وأمثالها من عبارات عنفية، عنصرية، كيف لهذا القاموس أن يكون صالحاً للتخاطب بين البشر؟ الإنسان إنسان، وإذا كان مجرماً فهناك محكمة مختصة وقضاء مختص يحاكمه. وليس من حق أحد نفي صفة الإنسانية عن غيره.

الخطأ جزء من التجربة البشرية، ويبدأ التعلم من المحاولة وتفكيك جميع الألغام، العسكرية والاجتماعية والنفسية، ومسارنا العام طويل ولكنه يبدأ من احترام كرامة الإنسان وحمايتها.

فلنعمل جميعاً لبناء الدولة التي نريدها للجميع ولتكن شعاراتنا هي نفسها شعارات كفرنبل العظيمة، ومنها “سورية للجميع”.

تلفزيون سوريا

—————————–

أي تحديات تعترض سلطة الشرع بعد ستة أشهر من وصوله إلى دمشق؟

دمشق: خلال الأشهر الستة الأولى من حكمه، تمكّن الرئيس أحمد الشرع من استقطاب المجتمع الدولي ورفع عقوبات اقتصادية خانقة، لكنه يواجه تحديات كبرى، وفق محللين، أبرزها إرساء حكم فعال والنهوض بالاقتصاد، مع الحفاظ على بلده موحدا.

كيف يمكن للشرع المضي قدما في الحكم وتخطي تلك الصعوبات؟

بناء الدولة

حين وصل إلى دمشق في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، بعد إطاحة حكم الرئيس بشار الأسد، وجد الشرع نفسه أمام أربع سلطات: حكومة مركزية في دمشق، حكومة انقاذ تسيّر شؤون إدلب (شمال غرب)، وأخرى تتولى مناطق سيطرة فصائل موالية لأنقرة شمالا، إضافة الى الإدارة الذاتية الكردية. ولكل منها مؤسساتها الاقتصادية والعسكرية والقضائية والمدنية.

ويقول المدير التنفيذي للمركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية في واشنطن رضوان زيادة “أن يتمكن الشرع من أن يضمن الاستقرار في بلد هش سياسيا في مرحلة عصيبة، فهذا انجاز كبير يُحسب” له.

ويعد “إنجاح المرحلة الانتقالية” التي حدّد مدتها بخمس سنوات، “التحدي الأكثر صعوبة”، وفق زيادة.

وزعزعت أعمال العنف ذات الطابع الطائفي التي طالت الأقلية العلوية وأسفرت خلال يومين عن مقتل أكثر من 1700 شخص، ثم المكون الدرزي، الثقة بقدرة السلطة على فرض الاستقرار وحفظ حقوق أقليات قلقة على دورها ومستقبلها.

ويوضح زيادة “التعامل مع الأقليات من أبرز التحديات الداخلية، وبناء الثقة بين المكونات المختلفة يحتاج إلى جهد سياسي أكبر لضمان تحقيق التعايش والوحدة الوطنية”.

وتصطدم مساعي الشرع لبسط سيطرته بمطلب الأكراد بصيغة حكم لامركزي تمكنهم من مواصلة إدارة مؤسساتهم، وهو ما ترفضه دمشق.

ويقول القيادي الكردي البارز بدران جيا كورد “على الحكومة الموقتة أن تبتعد عن الحلول الأمنية والعسكرية لمعالجة القضايا” العالقة وأن “تنفتح أكثر على قبول المكونات السورية.. وإشراكها في العملية السياسية”.

ولا يلحظ الاعلان الدستوري إجراء أي انتخابات في الفترة الانتقالية، على أن يصار في ختامها وبعد وضع دستور جديد إلى إجراء انتخابات تشريعية.

وحذر وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الشهر الماضي من أن السلطة الانتقالية “في ضوء التحديات التي تواجهها، قد تكون على بعد أسابيع.. من حرب أهلية شاملة” تؤدي “فعليا إلى تقسيم البلاد”.

ويقول الباحث لدى مركز تشاتام هاوس نيل كيليام إن أكبر تحديات الشرع هي “رسم مسار للمضي قدما، يريد جميع السوريين أن يكونوا جزءا منه، وأن يتم بذلك بسرعة كافية، ومن دون تهور”.

تنظيم الأمن

مقارنة مع دول شهدت تبدلا سريعا في السلطة، تمكّن الشرع عموما من ضمان استقرار نسبي، رغم حلّه أجهزة الأمن والجيش السابقة.

لكن الأمن لم يستتب بالكامل بعد. فتُسجل دوريا عمليات خطف وقتل واعتقال، من قبل فصائل تابعة للسلطة أو مجموعات مجهولة، وفق ما يوثق المرصد السوري لحقوق الانسان وسكان ينشرون شهاداتهم عبر الانترنت.

وأثارت أعمال العنف ذات الطابع الطائفي، خصوصا ضد العلويين، شكوكا إزاء قدرة الشرع على ضبط فصائل مختلفة، بينها مجموعات جهادية متشددة تثير قلق المجتمع الدولي وطالبت واشنطن الشرع بدعوتها إلى المغادرة.

واتخذت السلطات مؤخرا سلسلة إجراءات لتنظيم المؤسستين الأمنية والعسكرية، بينها وجوب انضمام قادة الفصائل إلى الكلية الحربية قبل درس ترقيتهم.

وأثارت ترقية ستة جهاديين أجانب في صفوف وزارة الدفاع انتقادات على نطاق واسع.

وقال مصدر سوري، من دون الكشف عن هويته، إن السلطة الانتقالية وجّهت في وقت سابق رسالة إلى واشنطن تعهدت فيها “تجميد ترقيات المقاتلين الأجانب”.

ويشكل ملف المقاتلين الأجانب، قضية شائكة، مع عدم قدرة الشرع على التخلي عنهم بعد قتالهم لسنوات إلى جانبه من جهة، ورفض دولهم عودتهم إليها من جهة أخرى.

يضاف إليهم الآلاف من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية المحتجزين مع أفراد عائلاتهم لدى القوات الكردية. ولا تملك السلطة الحالية القدرة عدديا ولوجستيا على نقلهم الى سجون تحت إدارتها.

انفتاح اقتصادي ومطالب

ورث الشرع من الحكم السابق بلدا على شفير الإفلاس: اقتصاده مستنزف، مرافقه الخدمية مترهلة، نظامه المالي معزول عن العالم، وغالبية سكانه تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة.

وانعكس التغيير على حياة الناس، لناحية توافر الوقود وسلع ومنتجات بينها فواكه لم يكن استيرادها ممكنا. وبات التداول بالدولار شائعا بعدما كان محظورا.

ومع رفع العقوبات الاقتصادية خصوصا الأمريكية، يولي الشرع، وفق مصدر مقرب منه، أولوية كبرى لمكافحة الفقر ورفع مستوى دخل الفرد. ويعتبر ذلك ممرا “لترسيخ الاستقرار”.

لكن رفع العقوبات لا يكفي وحده، ويتعين على السلطات اتخاذ خطوات كثيرة.

ويقول الخبير الاقتصادي كرم الشعار “وضوح الأفق، بمعنى الاستقرار السياسي، يعد نقطة هامة على طريق التعافي الاقتصادي، لكن هناك عوائق أخرى، أهمها الإطار الناظم ومجموعة القوانين اللازمة للاستثمار، والتي تبدو للأسف غامضة في جزئيات كبيرة”.

وأعلنت السلطات أنها تعيد النظر حاليا بقانون الاستثمار، وتعمل على تهيئة بيئة جاذبة للاستثمارات الخارجية، قال الشرع إن بلاده تعول عليها للنهوض بقطاعات البنى التحتية والمرافق الخدمية.

وتوفير خدمات الكهرباء والتعليم والانتاج الزراعي، مسألة حيوية لإنماء المناطق المدمرة، من أجل عودة ملايين اللاجئين، وهو مطلب تريد تحقيقه دول أوروبية وأخرى مجاورة لسوريا، كتركيا والأردن ولبنان.

ولا يمر دعم سوريا ورفع العقوبات عنها من دون مطالب، عبّرت واشنطن عن أبرزها: الانضمام الى اتفاقات التطبيع مع إسرائيل، التي شنت مئات الضربات الجوية في سوريا منذ إطاحة الأسد وتتوغل قواتها جنوبا.

ويقول كيليام إن استمرار التصعيد الاسرائيلي يجعل دمشق “بعيدة كل البعد عن التفكير في التطبيع، حتى لو تعرّضت لضغوط كبيرة من الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي”.

ولم تعلن دمشق موقفا واضحا من التطبيع، لكنها أقرت بتفاوض غير مباشر مع اسرائيل لاحتواء التصعيد.

(أ ف ب)

———————————

جمهورية أحمد الشرع.. نقيض انقلابات القرن العشرين/ خالد بن داهم الهاجري

2025.06.01

تختلف “جمهورية أحمد الشرع ورفاقه” جوهريًا عن الجمهوريات العربية التي نشأت عبر الانقلابات العسكرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. فثوار سوريا (2011–2024) خاضوا تجربة نضالية مريرة ومركبة، امتزجت فيها الثورة الشعبية بالمقاومة المدنية والمسلحة، في ظل سياقات إقليمية ودولية بالغة التعقيد.

واجهوا تدخلًا روسيًا مباشرًا، وانحيازًا أميركيًا انتقائيًا، وتدخلًا تركيًا مشروطًا بالمصالح، وضغوطًا إيرانية عسكرية عبر الميليشيات الطائفية، وصعودًا انتهازيًا لقوى كردية مسلّحة، إضافة إلى تشظي الساحة الداخلية بين تجمعات أقلوية وقوى معارضة تقليدية مأزومة. ومع ذلك، تمكنوا من الصمود، وبلورة خطاب سياسي جديد، وفتحوا قنوات غير مباشرة مع واشنطن، في محاولة لبناء توازن استراتيجي وسط تحالفات متناقضة ومعارك ميدانية مستمرة.

الرئيس أحمد الشرع لم يأتِ من رحم المؤسسة العسكرية، بل من خنادق المواجهة، ومعسكرات اللجوء، ومسارات التفاوض المعقدة. خاض صراعًا متعدد الأبعاد: مع نظام دموي مدعوم من قوى كبرى، ومع تنظيمات متطرفة حاولت اختطاف الثورة، ومع أطراف إقليمية قسّمت الجغرافيا السورية إلى مناطق نفوذ. تعرض للخيانة، للحصار، للعزل الدولي، وأُنهك بين تعقيدات التمويل، وانتهازية بعض الحلفاء، وانقسامات المعارضة. ورغم كل ذلك، راكم الشرع ورفاقه تجربة سياسية وتنظيمية ناضجة، وضعتهم في موقع يختلف جذريًا عن تجارب الانقلابات العسكرية في الجمهوريات العربية السابقة.

أما الجمهوريات التي ظهرت بين عامي 1952 و1969، فقد تأسست في غالبيتها عبر انقلابات مدعومة من قوى خارجية، لا سيما وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، بهدف إخراج بريطانيا وفرنسا من المنطقة وإعادة توزيع النفوذ. لم تستند تلك “الثورات” إلى شرعية نضالية أو مشاركة شعبية حقيقية، بل اقتصرت على السيطرة على الإذاعة وإعلان البيان رقم واحد.

لا جمال عبد الناصر خاض تجربة مقاومة فعلية قبل استلامه السلطة، ولا حزب البعث السوري امتلك قاعدة جماهيرية صلبة أو تصورًا وطنيًا متماسكًا. صدام حسين لم يقد حركة تحرر، ولم يحرر أرضًا ولا وحّد شعبًا. القذافي في ليبيا اعتمد على خطاب عاطفي ومؤسسات قمعية من دون رصيد نضالي، والنظام السوري البعثي قام على توازنات أمنية لا على شرعية مدنية.

في اليمن، كان انقلاب سبتمبر 1962 وليد صراع إقليمي ودولي أكثر من كونه ثورة شعبية جامعة. وظلت الجمهورية اليمنية، رغم مرور عقود، رهينة التجاذبات القبلية والمناطقية من دون مشروع وطني مستقر.

أما السودان، فقد عرف سلسلة من الانقلابات – عبود، نميري، البشير – لم تنتج سوى إعادة إنتاج الحكم العسكري وترسيخ الانقسامات الجهوية، مع تغييبٍ تام لأي مسار ديمقراطي فعّال.

حتى في الجزائر، فإن انسحاب فرنسا لم يكن فقط بفعل نضال الشعب، بل جاء أيضًا نتيجة لضغوط أميركية على باريس لإعادة ترسيم النفوذ في شمال إفريقيا. ورغم التضحيات الجسيمة، تحوّلت جبهة التحرير إلى حزب حاكم شمولي، وصودرت الثورة لصالح نخبة عسكرية عطّلت الانتقال الديمقراطي، وأقصت القوى المدنية من الفعل السياسي لعقود طويلة.

وفي تطور رمزي بالغ الأهمية، يُتوقع أن يلقي الرئيس أحمد الشرع خطابًا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل، ليكون أول رئيس سوري يخاطب هذا المحفل منذ خطاب نور الدين الأتاسي في عام 1967. خطوة تؤكد استعادة سوريا لمكانتها الدولية، هذه المرة لا بصفتها نظامًا متسلطًا، بل دولة تمثّل إرادة شعبها.

باختصار، ما يميز تجربة ثوار سوريا الجدد أنها وُلدت من رحم المعاناة الشعبية، لا من داخل الثكنات ولا عبر انقلابات بيروقراطية. جمهورية أحمد الشرع لم تأتِ من قاعة عمليات عسكرية مغلقة، بل من ميادين الثورة والمقاومة، من مواجهة شاملة مع نظام دموي، شارك فيها المدني والمقاتل، السياسي والميداني. إنها جمهورية مدنية، نابعة من فعل شعبي تحرري، لا صنيعة مؤامرات استخباراتية أو تحالفات سلطوية. وهي بذلك تشكل، لأول مرة منذ الاستقلال، فرصة حقيقية لبناء سوريا جديدة تنتمي إلى شعبها، لا إلى أجهزتها.

أحمد الشرع، رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يمثّل لحظة نادرة في التاريخ السوري المعاصر، حيث يلتقي النضال الشعبي بالشرعية السياسية، ويُترجم الحلم الجمهوري إلى مشروع وطني حقيقي.

تلفزيون سوريا

——————————

 واشنطن بوست: المقاتلون الأجانب التحدي الأكبر أمام الشرع بعد إسقاط الأسد

2025.06.01

سلط تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست الضوء على تحدٍ جديد يواجه الرئيس السوري، أحمد الشرع، يتمثل في وجود آلاف المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في الإطاحة بنظام بشار الأسد، والذين باتوا اليوم يشكّلون تهديداً محتملاً لاستقرار السلطة الجديدة في دمشق.

وبحسب التقرير، فإن عدداً من هؤلاء المقاتلين، المنحدرين من دول في أوروبا وآسيا الوسطى، ما يزالون ناشطين في سوريا، ويتمركز معظمهم في محافظة إدلب، وقد تم دمج بعضهم في مواقع أمنية حساسة داخل وزارة الدفاع.

ويواجه الشرع ضغوطاً من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لطرد هؤلاء المقاتلين كشرط لتخفيف العقوبات عن سوريا، في حين تحذّر أطراف دولية من خطر تحوّل بعض هؤلاء إلى مصدر لـ “الاضطراب الطائفي أو العنف المتجدد”.

ويستعرض التقرير شهادات لمقاتلين أجانب يعارضون النهج الجديد للسلطة السورية، ويتهمون الشرع بالتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا ضد “جماعات جهادية متشددة”، كما يبيّن محاولات الحكومة الانتقالية لاحتواء هؤلاء الأفراد عبر دمجهم في الجيش وإخضاعهم لرقابة مشددة.

وفي حين تشدد بعض العواصم الغربية على ضرورة إخراج من يُصنفون كـ “إرهابيين أجانب”، تشير الصحيفة إلى تعقيدات قانونية ولوجستية تحول دون ترحيلهم، لا سيما في ظل رفض دولهم الأصلية استقبالهم مجدداً.

يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بملف رفع العقوبات عن سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.

وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:

عندما دخل المتمردون السوريون دمشق منتصرين أواخر العام الماضي، كان زعيمهم المعارض أحمد الشرع يعتمد جزئياً على آلاف المقاتلين الأجانب للمساعدة في الإطاحة بدكتاتورية بشار الأسد.

وبعد ستة أشهر، أصبح الشرع رئيساً، واستمرار وجود هؤلاء المتشددين الإسلاميين أنفسهم – الذين جاؤوا من أماكن بعيدة مثل أوروبا وآسيا الوسطى للانضمام إلى الثورة – يمكن أن يشكل الآن تحدياً عميقاً لبقائه السياسي.

عيّن الشرع بعضاً منهم في مناصب عليا في وزارة الدفاع، وأشار إلى أن العديد من المقاتلين العاديين قد يحصلون على الجنسية السورية، لكن إدارة ترمب طالبت بطرد كل هؤلاء المقاتلين الأجانب كشرط لتخفيف العقوبات الأميركية التي أصابت الاقتصاد السوري بالشلل، فبعد وقت قصير من لقاء الرئيس دونالد ترمب بالشرع في السعودية هذا الشهر، غردت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارولين ليفيت قائلة إن ترمب حث الزعيم السوري الجديد على “إخبار جميع الإرهابيين الأجانب بالمغادرة”.

وعلاوة على ذلك، في حين يبدو أن الشرع عازم على إبقاء مجموعة من الحلفاء الأجانب حوله، فإن بعض هؤلاء المسلحين السنة المتشددين يخلقون بالفعل مشكلات له، ووفقاً لجماعات مراقبة، فإن بعض المقاتلين الذين شاركوا في هجوم قبل شهرين عبر البلدات الساحلية السورية، وأسفر عن مقتل المئات من أفراد الأقلية العلوية، كانوا من المسلحين الأجانب، وتهدد هذه التوترات الطائفية بزعزعة استقرار المرحلة الانتقالية الهشة في عهد الشرع.

وأكثر هؤلاء المقاتلين تشدداً يوجهون غضبهم بالفعل إلى الشرع، غاضبين من أن رفيقهم السابق في السلاح – الذي كان يُعرف منذ فترة طويلة بالاسم الحركي “أبو محمد الجولاني” – لم يفرض الشريعة الإسلامية بعد، ويُزعم أنه تعاون مع القوات الأميركية والتركية لاستهداف الفصائل المتطرفة، وقال أحد المتشددين الأوروبيين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لأنه تلقى أوامر بعدم التحدث، في مقابلة بمدينة إدلب شمالي سوريا: “الجولاني يهاجمنا من الأرض، وأميركا من السماء”.

صنع الحياة في سوريا

تدفّق عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق المجاور خلال العقدين الماضيين، وانضم كثير منهم إلى القتال ضد الأسد خلال الحرب الأهلية المستمرة منذ نحو 14 عاماً، انضم العديد من المقاتلين الأجانب إلى جماعات متطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية، في حين التحق آخرون بفصائل أقل تطرفاً، ويقدّر الباحثون أن هناك نحو 5000 منهم ما زالوا في سوريا، وقد تم دمج كثير منهم في المجتمعات المحلية، لا سيما في الركن الشمالي الغربي من البلاد، وتزوجوا من سوريات ولديهم أطفال نشأوا هناك.

قاتل الشرع نفسه كعضو في تنظيم القاعدة في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وأسس لاحقاً جبهة النصرة في سوريا، وعندما أعيدت تسمية الجماعة إلى “هيئة تحرير الشام” في عام 2017، قطعت علاقاتها مع تنظيم القاعدة وقمعت الفصائل الإسلامية الأخرى، وعززت سلطتها كقوة متمردة مهيمنة.

وفي حين يكافح الرئيس الجديد لتحقيق توازن دقيق، ورد أن الحكومة أمرت الأجانب بالبقاء في الظل وعدم التحدث، وفقاً لما ذكره محللون سياسيون ومقاتلون.

وفي ثلاث زيارات سابقة إلى سوريا منذ سقوط الأسد في كانون الأول/ديسمبر، التقى مراسلو صحيفة واشنطن بوست بمقاتلين أجانب في عدة مناطق من البلاد. ففي كانون الأول/ديسمبر، كانوا متمركزين على طول الطريق المؤدي إلى مدينة حماة وسط البلاد، وقام المقاتلون الأتراك بتأمين طريق على قمة تل إلى ضريح زين العابدين، حيث اندلعت أعنف المعارك، وتجول المسلحون العراقيون في المدينة كسائحين، وفي آذار/مارس، كان أحد المقاتلين من آسيا الوسطى يقود نقطة تفتيش تسد الطريق المؤدي إلى جبل قاسيون الشهير في دمشق، ثم، في أوائل أيار/مايو، اختفوا إلى حد كبير – على الأقل من نقاط التفتيش والشوارع في وسط وجنوب سوريا.

وقال جيروم دريفون، كبير المحللين في الجهاد والصراع الحديث في مجموعة الأزمات الدولية: “حاولت الحكومة عزلهم”، وأضاف: “لكن هناك مشكلة حقيقية في تنفيذ الطلب الأميركي. يقولون إن جميع الإرهابيين خرجوا، لكن هذا يثير السؤال: من هم الإرهابيون في هذه الحالة؟”. ولم تصنف الأمم المتحدة سوى عشرات من المقاتلين كإرهابيين، وفي كثير من الحالات لا تملك الحكومات المحلية سوى معلومات محدودة عن أنشطة رعاياها في سوريا، وعندما يقولون ‘اخرجوا’، فإلى أين؟” سأل دريفون. “بلدانهم لا تريدهم”.

حياة يومية في إدلب

اليوم، فإن غالبية المقاتلين الأجانب تحت راية “هيئة تحرير الشام”، أو الجماعة الإسلامية التي يرأسها الشرع، أو “الحزب الإسلامي التركستاني” المتحالف بشكل فضفاض، يعيش معظمهم في محافظة إدلب، المنطقة التي حكمتها “تحرير الشام” كدولة رديفة خلال السنوات الأخيرة من حكم الأسد.

وفي أحد الأيام الأخيرة في إدلب، كان الرجال يتجولون في الشوارع المزدحمة على دراجات نارية لشراء الخبز والبقالة، ويتوجهون في مجموعات إلى المساجد عند سماع الأذان، بدا أن العديد منهم من آسيا الوسطى، وارتدى بعضهم ملابس رسمية، وبعضهم الآخر ملابس مدنية، وأصر أولئك الذين قبلوا إجراء مقابلات على درجة من عدم الكشف عن هويتهم، بسبب الأوامر بتجنب وسائل الإعلام.

وقال مقاتل فرنسي يُدعى مصطفى، إنه سافر من باريس للانضمام إلى القتال ضد قوات الأسد عام 2013، أولاً مع فصيل صغير يتكون في الغالب من المصريين والفرنسيين، ولاحقاً مع جبهة النصرة، النسخة السابقة من “تحرير الشام” التي كانت آنذاك مرتبطة بتنظيم القاعدة.

وفي محل حلاقة واجهته زجاجية في وسط إدلب، قال الحلاق محمد كردي (35 عاماً): “دائماً أبدأ مواعيدي بالسؤال عن مكان الزبون”، مضيفاً: “كان هناك أشخاص من بيلاروسيا والشيشان وأوزبكستان وأماكن أخرى”، وأوضح: “في بعض الأحيان، كنت أسأل عن الزبائن الذين توقفوا عن المجيء، ثم نكتشف أنهم قُتلوا”.

ويقول خبراء يراقبون الجماعات الإسلامية إن المقاتلين أصبحوا عموماً أقل تطرفاً مع مرور الوقت، رغم أنهم لا يزالون محافظين بشدة، وقالت أروى عجوب، طالبة الدكتوراه في جامعة مالمو: “الغالبية العظمى من الذين بقوا تحت قيادة تحرير الشام حتى تقدموا إلى دمشق، تم استيعابهم واحتواؤهم بطريقة أو بأخرى”.

لم يرغب أي من المقاتلين الذين أجريت معهم المقابلات في مغادرة سوريا، مشيرين إلى احتمال اعتقالهم أو حتى إعدامهم في بلدانهم الأصلية، وقال المقاتل الفرنسي مصطفى: “أنا مطلوب في معظم الدول الأوروبية”، وأضاف آخر: “ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه”.

ضغط من المتشددين

في حين عبّر معظم الذين أُجريت معهم المقابلات عن دعمهم لتطبيق الشريعة الإسلامية تدريجياً، إلا أن مجموعة صغيرة من المتشددين بدأت تفقد صبرها، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، انتقد رجال السلطات الجديدة واصفين إياها بأنها غير إسلامية، لعدم تطبيقها الشريعة، ولعقدها لقاءات مع قادة غربيين يعارضونهم أيديولوجياً.

وقال رجل الدين الكويتي علي أبو الحسن، وهو مسؤول ديني سابق في جبهة النصرة، على قناته على تلغرام هذا الشهر: “أصبح المهاجرون عبئاً على الجولاني بعد أن كانوا قوته”، مضيفاً: “سيتخلص منهم بمجرد أن يؤمن بديلاً”.

ويزيد من سخط المتشددين اعتقادهم بأن الشرع تعاون مع الولايات المتحدة وتركيا في استهداف خلايا تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة عبر ضربات جوية، في حين يسعى لتعزيز سيطرة “تحرير الشام”، أولاً في إدلب ثم في دمشق. وقال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في كانون الأول/ديسمبر: “لقد ساعدونا كثيراً”، وأضاف: “على مر السنين تعاونوا معنا في توفير المعلومات الاستخباراتية”. وفي الشهر التالي، ذكرت واشنطن بوست أن الحكومة السورية الجديدة استخدمت معلومات استخباراتية أميركية للمساعدة في إحباط مؤامرة لتنظيم الدولة الإسلامية لمهاجمة ضريح ديني شيعي قرب دمشق.

وقال برودريك ماكدونالد، زميل مشارك في برنامج أبحاث XCEPT في كينغز كوليدج لندن: “نرى منشورات تقول إن الصبر بدأ ينفد. بعضهم يتحدث عن استعداده لمحاربة طاغية جديد”، وأضاف: “إنهم ينظرون إلى الوضع ويسألون: هل هذا ما قاتلنا من أجله طوال 14 عاماً؟”.

وفي مسجد في إدلب، وصف مقاتل أوروبي من فصيل “حراس الدين” المنحل الشرع بأنه عدو بقدر ما هو عدو للولايات المتحدة، وقال: “إنهم يعطون إحداثياتنا للأميركيين لقصفنا”.

الشريعة لتحقيق التوازن

حالياً، تشعر الحكومة بالقلق من أن يُنظر إليها على أنها تستهدف المقاتلين الذين بقوا موالين لها أو تثير غضب المتشددين المحبطين، وقال دريفون: “إنها لا تريد أن تخونهم، لأنها لا تعرف في النهاية ما الذي سيفعلونه”، وأضاف: “قد يختفون، قد ينضمون إلى جماعات أخرى، قد يبدأون بالعنف الطائفي، وقد تسوء الأمور”.

وبدلاً من ذلك، تحاول السلطات وضع مبادئ توجيهية واضحة للسلوك المتوقع من الأجانب: تجنب التحريض على العنف الطائفي أو السياسي، والامتناع عن الدعوة إلى شن هجمات على دول أخرى، كما تسعى حكومة الشرع إلى دمج معظم المقاتلين الأجانب في الجيش الجديد للبلاد، وقال دريفون: “الفكرة هي وضعهم في هيكل عسكري، ومن الأسهل السيطرة عليهم بهذه الطريقة”، لكنه أشار إلى أن التقدم كان بطيئاً.

وقد عيّن الشرع بالفعل ستة أجانب في مناصب عليا في وزارة الدفاع – وهي خطوة قال خبراء إنها تهدف إلى عزله ضد الانقلابات المحتملة من خلال وضع المناصب الأمنية، بما في ذلك قيادة الحرس الرئاسي، في أيدي موالين أجانب لا يملكون قاعدة سلطة مستقلة، لكن هذه التعيينات أثارت جدلاً كبيراً، سواء بين السوريين أو في العواصم الغربية.

وفي رسالة إلى الإدارة الأميركية قبل أسابيع من زيارة ترمب إلى السعودية، قالت حكومة الشرع إنها أوقفت منح الرتب العسكرية العليا للمواطنين الأجانب، لكنها لم توضح ما إذا كانت الترقيات السابقة قد أُلغيت، حسبما ذكرت وكالة رويترز.

وأشاد المبعوث الأميركي الخاص المعيّن حديثاً إلى سوريا، توماس باراك، بحكومة الشرع في بيان صدر في 24 أيار/مايو، لاتخاذها “خطوات ذات مغزى” بشأن قضية المقاتلين الأجانب، من دون تقديم مزيد من التفاصيل.

وقال ماكدونالد عن الشرع: “لقد مشى على هذا الخط لفترة طويلة لتحقيق توازن بين دوائره الانتخابية”، وأضاف: “هذا هو الاختبار الكبير الآن”.

المصدر: The Washington Post

تلفزيون سوريا

————————————–

جلسة مع مسؤول سوري كبير!/ أحمد جاسم الحسين

2025.06.02

وردني اتصال من رقم مجهول، احترتُ: هل أردّ أم لا أرد؟ فأنا أرتاب من الاتصالات من الأرقام المجهولة من خارج البلدان التي لا أعرفها، أقول لنفسي: من لديه أمر ما معك سيبادر بإرسال رسالة صوتية، عدوتني الحياة في هولندا على النص المكتوب.

وردني اتصال من رقم مجهول، احترتُ: هل أردّ أم لا أرد؟ فأنا أرتاب من الاتصالات من الأرقام المجهولة من خارج البلدان التي لا أعرفها، أقول لنفسي: من لديه أمر ما معك سيبادر بإرسال رسالة صوتية، عودتني الحياة في هولندا على النص المكتوب.

غير أنه لم يرسل رسالة بل أعاد الاتصال ثانية: تحياتي دكتور، أنا كنت أحد طلابك، ويسعدني دعوتك على فنجان قهوة!

حاولتُ أن أعصر ذاكرة تاريخي التدريسي لعلي أربط بين وجهه وتاريخ الفرع الجامعي الذي درسته غير أنني لم أفلح، أوجدتُ لنفسي عذراً: قد يتجاوز عدد من درستهم الخمسين ألفاً، خاصة في العالم الجامعي والفصل الدراسي لا تتجاوز محاضراته العشرين، وكثير من طلاب الجامعات في العلوم الإنسانية لا يداومون نتيجة لارتباطهم بأعمال اخرى!

اتفقنا على الموعد، وكان خارج مواعيد العمل الرسمي، عرض علي الرجل أن يرسل سيارة لتأخذني، غير أنني قلت له: لا أريد أن أربكك فالشام شامي، أعرف كيف أصل من دون مشقة!

وكما اعتدتُ في الحياة الهولندية عبر 12 عاماً، من خلال نشاطاتي العملية والاستشارية المختلفة لا بدّ أن أحدّد ما الذي أريد أن أقوله، وما هدف اللقاء، وما هي الخطوة التالية. وهكذا بدأت أرتب في رأسي أفكاراً متنافرة، تأخذها مسارات عدة.

أحسبُ أن دافع الرجل الرئيسي هو الوفاء والرغبة باللقاء بأحد أساتذته. الوفاء جميل، لكن ما هي الطريقة لنحول اللقاء لإبداء رأي بالشأن العام! سألتُ نفسي، ربما لا يريد أن يستمع إلي، أو كان بيني وبينه موقف سلبي ما حين كنتُ أستاذه، فأنا أستاذ صارم، وقد لا يعجب نمط شخصيتي كثيرين!

غيرُ مهم ذلك؛ ما دام الرجل قد اتصل؛ فإنه اتصل ليستمع، فالسلطة الحكيمة تحب أن تنصت للآخرين كي تعرف طريقها ومساراتها ووجهات نظر الناس فيها!

لم يكن البناء الذي اتفقنا على اللقاء فيه غريباً عني، سبق أن زرته قبل أكثر من خمسة عشر عاماً والهدف يومها كان إزالة ظلم عن صديق تعرض لمظلمة، حاول المسؤول آنذاك أن يساعد، غير أنه اعتذر بعد لقائيْن قائلاً، بارتباك: الخصم وراءه ضابط مخابرات كبير، ولا أستطيع أن أفعل لكم شيئاً، تعساً لزمان المخابرات!

رسمتُ سيناريوهات عدة للقاء قبل الوصول، بين بهجةِ أن تشعر أنك سبق أن درست شخصاً من السلطة القائمة اليوم فيجعلك تشعر بشيء من الطمأنينة من باب الثقة بالذات وتجربتك، وكذلك أمل أنه تشرَّب شيئاً من المنظومة الأخلاقية والفكرية والمعرفية والمنهجية التي تحاول أن تبثها في طلابك كل فصل دراسي. ذلك شعورٌ يعرفه المدرسون فحسب، حيث يحاول كثير منهم أن يكون لمقرره وشخصه بصمة خاصة.

ما إنْ التقينا حتى تذكرت قسمات ذلك الوجه جيداً، اللقاء وجهاً لوجه فيه طاقة مختلفة كلياً عن عالم الصورة، فيه لغة ومودة وألفة وثقة!

من دون مقدمات وجدتُ نفسي في موقع السائل: قل لي كيف للأحلام أن تكون من دون أساسات؟ وكيف للأمنيات أن تنبت من تراب اللاشيء؟ قل لي: كيف لمن نعدهم حالمين قبل شهور أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم وأحلامهم وعوائلهم وينتقلون من حياة العسكري إلى حياة من يقود بلداً بكل أعبائها؟

لا تخبرْني عن الإيمان بالله، فذلك شيء أعلمه جيداً وسندني في معظم تفاصيل حياتي، مسترشداً بسيرة الرسول الكريم وأصحابه: لكن لا الزمان زمان الصحابة، وكذلك نحن لسنا هم. نحن اليوم في عصر الحسابات المادية والمعلومة ودراسات الجدوى، على أنه من المهم أن تكون مؤمناً بما تقوم به!

بدأ الرجل بسرد سيرته وتحولاته خلال السنوات الماضية: الانكسارات والأحلام، والخوف والإيمان والقصف والصعوبات والأمل!

بين مشاهد عاشها مع عائلته، ومشاهد حربية، ومشاهد إدارية وجدتُ نفسي أنني أجلس أمام شخص بات جزءاً من مدرسة، غير موجودة في منظومة الشركات أو التعليم العالمية، يمكن أن نسميها تجربة حياة، لا تشبه تجربة المؤسسات الأوروبية، أو المؤسسات السورية التقليدية.

تجربة طالبك هذا تجعلك تشبِّهها بإعادة اكتشاف الحياة من الصفر، يعني أن تجد نفسك وحيداً بمقدرات محدودة وأمامك هدف عظيم، بلغة الحسابات لن تمشي أو تحلم لو كنت بتلك الإمكانات!

ولأنني قادم من عالم السرد وتعدّد الأصوات؛ فقد كنت أراقب ملامح وجهه، وحركة يديه، كمن يطلع على مادة بكر لا يريد أن يفوته شيء من تفاصيلها! وبما أنني المتلقي في هذه اللحظة فإنني كما هي عادتي كنت أتلقى السارد ومادة السرد بروح إيجابية كي أستطيع النفاذ إلى دلالات السرد وتفاصيله المخبأة بين السطور!

ومع أن الحديث عن الماضي ولحظة النصر قد أخذ قسماً من جلستنا بناء على طلبي وحرصي على التعرف إلى التجربة من وجهة سردية، إلا أن الحديث عن الحاضر والمستقبل كان الأكثر حضوراً!

بالتأكيد تحدثنا عن عوامل الانتصار على النظام البائد: انشغال روسيا بأوكرانيا، وحالة أوروبا التي تضج باللاجئين، وما تعرضت له إيران وحلفاؤها من قصف، وقانون قيصر والجانب الاقتصادي، إضافة إلى لحظة التحضير الطويلة التي وصلت إلى خمس سنوات ومن ثم قرار البدء بالمعركة العسكرية.

كنتُ صريحاً معه، ونقلت له تخوفات السوريين المعارضين التقليديين وأبناء الثورة، والخوف من التدخل بالحياة اليومية عبر كثرة الممنوعات وقلة المسموحات، هواجس الأمان، آلاف الأطفال السوريين غير المتعلمين، الفقر، الخوف، عدم الثقة، تفتت العقد الاجتماعي السوري، انعدام الخدمات، الكهرباء والجفاف والماء، كنت صريحاً معه إلى أقصى درجة، وكان صادقاً إلى أبعد حد في إجاباته في ضوء ما هو بين يديه.

حدثته عن قلق السوريين من اللون الواحد نتيجة للتجارب المريرة التي مروا بها، وأن لدى عدد منهم شعوراً أن التاريخ السوري يعيد نفسه، رغم اختلاف الأدوات والمظاهر، فكيف نبدّد تلك المشاعر؟

وبعد أن استمعت إلى إجاباته، التي تشعر بصدقها وأمانتها، وأنا ابن الخامسة والخمسين الذي بات يمكن أن يميز وصلت إلى نتيجة أكيدة، وتدخل في باب ما يمكن نشره: سوريا بأياد أمينة فكرياً وأخلاقياً وإدارياً!

بالتأكيد لدى كثيرين ممن خبروا جهاز الدولة أو عارضوا النظام ويعرفون معظم سلبياته لديهم رؤيتهم وطريقة محاكمتهم وتفكيرهم وحوكمتهم، قد تختلف عن أولئك الشباب إلى حد كبير، فهم أبناء التجربة والبداية من الصفر.

ما يحتاجه أولئك الشباب الذين يقودون سوريا اليوم أن نعطيهم الوقت الكافي كي يلتفتوا إلى ما حولهم، وإني على ثقة أنه ما من خبير سوري يمكن أن يضيف للبلد شيئاً إلا وسيكون له مكان ومرحب به، ومرحّب بسوريا بأقل كم ممكن من الفساد وأعلى درجة ممكنة من الحوكمة والمتابعة!

قبل أن أغادر سألني بحياء الطالب: تأمرني بشيء، تحتاج شيئاً، أخجل أن أقول لك ذلك.

قلتً له: شخصياً لا أريد شيئاً، فأموري بخير من مختلف الجوانب. ما أريده منك ومن كل زملائك أصحاب القرار في الإدارة الحالية، هو أن يشعر السوريون، كل السوريين، في فترة إدارتكم أن سوريا بلدهم وأنهم بأمان وأنهم أحرار في التعبير عما يدور في أنفسهم، يستحق السوروين ذلك فنحن بلد المليون شهيد والخمسة وعشرين مليون محب لسوريا!

تلفزيون سوريا

—————————–

 ملاحظات قانونية حول بعض “المراسيم”/ محمد صبرا

2025.06.02

تخطو سوريا اليوم خطوات كبيرة باتجاه إعادة التموضع في نسيج العلاقات الدولية والإقليمية، وتكاد تكون هذه الخطوات قفزات تاريخية بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهناك من جهة إرادة دولية وإقليمية صادقة وجادة في توفير كل أسباب النجاح للسلطة الانتقالية، وفي الجانب الآخر تبدي هذه السلطة المرونة الكافية لفهم تعقيدات العلاقات الدولية، وتتكيف معها ضمن مصفوفة من التوازنات التي تسير فيها بنجاح ملحوظ حتى اللحظة، ونتمنى أن تبدأ السلطة الانتقالية بالالتفات إلى بناء الدولة كمفهوم وكمؤسسات خاضعة للقانون من أعلى قمة السلطة إلى أدناها.

فالسلطة السياسية في عالمنا المعاصر، تقوم على ركيزتين: الأولى قناعة الناس بشرعيتها، أي اعترافهم بحقها في إصدار الأوامر والنواهي، والثانية امتلاكها وسائل الإكراه لتنفيذ هذه الأوامر عند الضرورة، وهاتين الركيزتين تقومان على مبدأ أساس وهو سيادة القانون، وبذلك تكون السلطة الخاضعة للقانون سلطة شرعية بقدر احترامها له وبقدر صدور أوامرها طبقاً له، وهذا ما يمنح المواطنين الشعور بأنهم ملزمون بالخضوع لأوامر السلطة ونواهيها لأن هذه الأوامر لا تصدر عن عبث، وإنما تستند إلى قانون منشور يعرفونه وسبق أن اطلعوا عليه، فطاعة القانون تنبع من الاعتقاد بأنه عادل وضروري لتحقيق الخير العام، وتفترض أيضاً أن من يخرقه سيتعرض للعقاب، مما يمنح الآخرين شعوراً بالأمان والثقة في النظام. وفي هذا الصدد يمكن لنا أن نسوق بعض الملاحظات التي نتمنى من السلطة بكافة مستوياتها أن تنظر لها بجدية. وهذه الملاحظات يمكن اختزالها بضرورة انسجام قرارات السلطة بكافة مستوياتها مع القوانين النافذة، وعلى رأسها الإعلان الدستوري. وهنا نذكر أن السيد رئيس الجمهورية أصدر عدداً من المراسيم، ورغم أهمية المواضيع التي صدرت فيها هذه المراسيم، إلا أن هناك شوائب قانونية شابت هذه المراسيم، سواء من ناحية الصياغة الشكلية أو من ناحية المواضيع التي تضمنتها، أو من ناحية السلطات والصلاحيات، وذلك وفق التفصيل الآتي:

عدم جواز صدور مراسيم من رئيس الجمهورية

نص الإعلان الدستوري المؤقت النافذ في سوريا حالياً على صلاحيات مقيدة للسيد رئيس الجمهورية، وجاءت هذه الصلاحيات على سبيل الحصر والتعداد، ونظمتها المواد من 31 إلى 41، ونصت المادة 36 من الإعلان الدستوري على أنواع القرارات التي تصدر عن رئيس الجمهورية على سبيل الحصر، حيث قالت: “يصدر رئيس الجمهورية اللوائح التنفيذية والتنظيمية ولوائح الضبط والأوامر والقرارات الرئاسية، وفقاً للقوانين”. وهذه المادة المقيدة من حيث الصياغة لا ترد فيها سلطة رئيس الدولة بإصدار مراسيم، وهذا أحد أوجه القصور المعيب في صياغة الإعلان الدستوري الذي لم يراعِ الكثير من القضايا والصلاحيات التي كان من المفترض أن ترد في نص الدستور. والقواعد الفقهية في القانون الدستوري تجمع على أن أي سلطة دستورية لا تستطيع أن تصدر قرارات أو تقوم بأعمال لا يسمح لها الدستور بها، أو لا ينص الدستور عليها صراحة، إذ إن تفسير النصوص الدستورية يبقى تفسيراً مقيداً ولا يجوز القياس عليها. وفي معرض القصور في النص على صلاحيات رئيس الجمهورية في الإعلان الدستوري، نذكر أيضاً أن المادة 38 التي أعطت الحق لرئيس الجمهورية بتعيين رؤساء البعثات الدبلوماسية لدى الدول الأجنبية وإقالتهم، أغفلت ذكر حق رئيس الدولة بتعيين كبار الموظفين المدنيين والعسكريين. وهذا الأمر لا يجوز افتراضه، بل لا بد من النص عليه صراحة في النص الدستوري أياً كان (إعلاناً دستورياً أو دستوراً دائماً). وخطورة هذا النقص أنها تسمح بالكثير من اللغط وربما الكثير من العثرات القانونية في المستقبل، لأن الإعلان الدستوري نفسه، والذي كان يُفترض أن يقوم على مبادئ النظام السياسي الرئاسي، أخطأ خطأ جسيماً في المادة 31 منه عندما قال: “يمارس رئيس الجمهورية والوزراء السلطة التنفيذية، ضمن الحدود المنصوص عليها في هذا الإعلان الدستوري”، وهذا الخطأ الجسيم يعني ازدواجية السلطة التنفيذية، لأن واو المعية الواردة في النص، والتي تجمع رئيس الجمهورية مع الوزراء، تعني أن ممارسة السلطة التنفيذية تكون من حق الجهتين، الأمر الذي يترك الكثير من الإرباك على مستوى الإدارة والقانون وتضارب القرارات، وهذا يتناقض مع أسس صياغة الدساتير الرئاسية مثل الدستور التركي أو الأميركي على سبيل المثال، والتي تحصر السلطة التنفيذية برئيس الجمهورية.

واستناداً إلى ما سبق، فإن الإعلان الدستوري الذي حجب عن رئيس الجمهورية سلطة إصدار مراسيم، واجب الاتباع، وبالتالي، فإنه قد يكون من المفيد تعديل الصيغ التي تصدر بها القرارات عن رئيس الجمهورية، وتعديلها إلى صيغة “قرار رئاسي”.

المرسوم رقم 18 لعام 2025، والقاضي بتغيير هيكلية الهيئة العامة للتخطيط والتعاون الدولي

مع التأكيد على الملاحظة السابقة المتضمنة عدم جواز صدور مراسيم عن رئيس الجمهورية، فإن المرسوم الذي نتحدث عنه، وهو رقم 18، خالف أيضاً نصوص الإعلان الدستوري، وذلك للأسباب التالية:

هيئة التخطيط والتعاون الدولي تم إحداثها بموجب القانون رقم 1 لعام 2011، وبالتالي فإن أي تغيير بهيكليتها يجب أن يكون عبر قانون تشريعي. وباعتبار أن الإعلان الدستوري حجب عن رئيس الجمهورية سلطة التشريع، فإن المرسوم رقم 18 لا يتفق البتة مع أحكام الإعلان الدستوري. وهنا نلاحظ أيضاً القصور في صياغة الإعلان الدستوري، والذي كان من الواجب عليه أن يضع مادة مؤقتة تقول: “يتولى رئيس الجمهورية سلطة التشريع إلى حين تشكيل مجلس الشعب، على أن تُعرض التشريعات الصادرة عن رئيس الجمهورية في هذه الفترة على المجلس خلال خمسة عشر يوماً من انعقاده، للنظر فيها ومناقشتها وإقرارها أو تعديلها أو إلغائها، فإذا لم تُعرض على المجلس زال ما لها من قوة قانونية بأثر رجعي من دون الحاجة لإصدار قرار في ذلك”. وضرورة مثل هذه المادة أن البلاد تعيش في فراغ تشريعي كامل، يخلّ بسير السلطات العامة، ويعطّل أعمال الإدارة.

إن إحداث إدارة التعاون الدولي، وإناطتها بوزارة الخارجية، وإن كانت صحيحة من حيث المضمون، إلا أن تشكيلها يجب أن يكون بقانون، لأنه يتعلق بهيكلة الوزارات الأخرى، حيث نص المرسوم 18 على أن مكاتب التعاون الدولي في الوزارات والمحافظات تتبع إدارياً وفنياً لوزارة الخارجية، وهذا يعني خلق جهات إدارية ضمن وزارة تتبع لوزير آخر، ما يعني حجب صلاحيات وسلطات الوزراء عن توجيه أو إصدار تعليمات أو قرارات تتعلق بهذه المكاتب المحدثة في وزاراتهم. وهذا يسمح لوزارة الخارجية بالتدخل الشامل في عمل كل الوزارات، وهو أمر غير جائز قانونياً، وكان من الممكن، لو تم تنظيم الأمر بقانون، أن يتم النص على إحداث مديرية التعاون الدولي في وزارة الخارجية، وندب ممثلين وموظفين منها إلى الوزارات الأخرى، للتنسيق فيما يتعلق بقضايا التعاون الدولي.

ورد في المادة الأولى من المرسوم 18 أن تعديل المهام والهيكلية لهيئة التخطيط الدولي سيتم تحديده بالتعليمات التنفيذية لهذا المرسوم، وهنا أيضاً نجد نوعاً من الإفصاح أن المرسوم هو عمل تشريعي، وهو محجوب عن رئيس الجمهورية بموجب الإعلان الدستوري النافذ. وهذا ينطبق أيضاً على المادة الرابعة منه، والتي قالت بالحرف: “يكلف المعنيون بتنفيذ أحكام هذا المرسوم واتخاذ ما يلزم من إجراءات إدارية وتشريعية لإعادة الهيكلة وفق ما ورد أعلاه”، وأيضاً هنا نجد تكليف جهة إدارية بإصدار إجراءات تشريعية، وهذا غير ممكن في ظل الإعلان الدستوري النافذ حالياً، وكان من الأفضل أن تتم صياغة كل هذه المقترحات على شكل مشاريع قوانين يقترحها رئيس الجمهورية على مجلس الشعب حين تشكيله، وذلك استناداً إلى المادة 39 فقرة 1 من الإعلان الدستوري.

المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 2025 القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين

هذا المرسوم يتعارض مع الإعلان الدستوري، فضلاً عن تعارضه مع القوانين السورية ومع المبادئ القانونية الراسخة. فإحداث هيئة وطنية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، يحتاج إلى قانون صادر عن مجلس الشعب أو إلى مرسوم تشريعي، وبما أن رئيس الجمهورية لا يستطيع إصدار مثل هذا المرسوم، فإنه لا بد من إعادة النظر في هذا الأمر ومحاولة توفيق ما أمكن مع القواعد القانونية. وإضافة إلى هذه الملاحظات، يمكن النعي على المرسوم 19 بالمثالب التالية:

لم يبيّن المرسوم 19 مرجعية الهيئة الإدارية، وهل ترتبط برئيس الجمهورية أم بإحدى الوزارات، وهل يتمتع رئيس الهيئة بسلطات وصلاحيات الوزير أم لا. وهذه القضايا على غاية من الأهمية، لأنها تتعلق بضبط المالية العامة وتحديد عاقد النفقة، وأيضاً تحديد الموازنة المالية لهذه الهيئة، وهل ستكون ضمن موازنة رئاسة الجمهورية أم لها بند خاص من بنود موازنة الدولة، أم ستأخذ موازنتها من إحدى الوزارات.

كذلك، هناك سقف مالي محدد لعاقد النفقة بحسب درجته الوظيفية، وبالتالي كان من الواجب بيان الصفة الوظيفية والتبعية الإدارية لرئيس الهيئة، لتحديد السقف المالي الذي يستطيع الأمر بصرفه من دون العودة إلى مرجع أعلى في السلطة.

كذلك فإن الولاية الممنوحة للهيئة الجديدة غير واضحة، سواء من ناحية الولاية المالية أو الولاية القانونية، وجاءت صيغة المرسوم عامة ومبهمة، حيث اكتفت بتحديد صلاحياتها بأنها مكلفة بالبحث والكشف عن مصير المفقودين، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلاتهم، وهذا يتداخل فعلياً مع عمل بعض الوزارات، مثل وزارة العدل، إذ إن البحث عن المفقودين يجب أن يكون من قبل النيابة العامة، لأن هناك عدداً هائلاً من القواعد القانونية ذات الأولوية القصوى التي تتعلق بإعلان أن فلاناً من الناس مفقود أو البتّ بمصيره. وهذه القواعد القانونية تتعلق بأحكام الوفاة وما يترتب عليها من إرث وحقوق للزوجة إن كان متزوجاً، فضلاً عن قضايا الملكية وتعقيداتها، وحتى قضايا الجنسية وإثبات النسب وغيرها من التعقيدات القانونية التي تنشأ عن حالات اعتبار الشخص مفقوداً. لذلك، وبسبب خطورة مثل هذه القضايا، كان من الأفضل أن يتم تنظيمها بقانون شامل مفصّل يُراعى فيه كل هذه التعقيدات القانونية، ويسمح بنشوء تعاون كامل بين النيابة العامة والطب الشرعي ومديرية الأحوال المدنية وغيرها من المؤسسات ذات الصلة بهذه التعقيدات الشائكة.

إن تكليف رئيس الهيئة بوضع النظام الداخلي لعملها وتشكيل فريق العمل، يعتبر أيضاً مخالفاً للإعلان الدستوري وللقانون، فالنظام الداخلي للهيئة يجب أن يصدر من الجهة صاحبة الحق في إنشاء مثل هذه الهيئة، وليس من قبل رئيسها، لأنه لا يجوز تفويض الشخص بوضع ضوابط مركزه القانوني. كذلك، فإن النظام الداخلي سيتطرق لا محالة إلى القضايا المالية التي ستحكم عمل الهيئة، وهذه من اختصاص الجهة التشريعية، لأنها تصرفات تمس المالية العامة، ويجب أن تخضع لرقابة الجهة التشريعية ولإشرافها.

كذلك، فإن تكليف رئيس الهيئة بتشكيل فريق العمل، يعتبر أمراً يتناقض مع القانون الأساسي للعاملين في الدولة، فالعاملون في الهيئة لاحقاً يجب أن يتمتعوا بمركز قانوني يستمدونه من القانون وليس من قرار رئيسهم. كذلك فإن تعيين الموظفين العموميين يخضع لآليات قانونية دقيقة تضمن مبدأ المساواة أمام الوظيفة العامة، وتحمي حقوق الموظفين المالية والمعنوية، وتضع آليات محددة لترقيتهم ولدرجتهم الوظيفية. وهذه الأمور جميعها يجب أن تخضع لتنظيم تشريعي، وليس لقرار إداري يصدر عن رئيس الهيئة.

المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 2025 القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية

للأسف، أيضاً هذا المرسوم تنطبق عليه كل الملاحظات السالفة الذكر، ونزيد عليها أن تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية يجب أن يكون بنص تشريعي حصراً، لأن هذه الهيئة تتمتع بولاية قضائية وقانونية كبيرة وواسعة جداً، ولا يمكن للسلطة التنفيذية أن تمنح مثل هذه الولاية أو أن تفوّض بها. كذلك، من غير الجائز أن يُكلّف رئيس الهيئة بوضع نظامها الداخلي، لأن ذلك عمل تشريعي يجب أن يصدر من الجهة صاحبة الحق الأصيل بإحداث هذه الهيئة. إضافة إلى ذلك، فإن تعيين فريق العمل من قبل رئيس الهيئة هو أيضاً تجاوز لكل القوانين، ولا سيما قوانين السلطة القضائية والقانون الأساسي للعاملين في الدولة. وأيضاً، وهو الأخطر، أن هذه الهيئة سيتداخل عملها إلى حد كبير مع عمل النيابة العامة ومع عمل القضاء، ولذلك يجب إحداثها بقانون وليس بقرار. كذلك، فإن مرجعيتها القانونية غائبة عن مرسوم تشكيلها، ومن غير المعروف لمن ستتبع هذه الهيئة، لرئيس الجمهورية أم لوزارة العدل أم لجهة أخرى، والقول بأنها ستتبع رئيس الجمهورية لأنه هو الذي أصدر مرسوم تشكيلها، وأن ذلك مفترض من دون حاجة للنص عليه، هو قول غير صحيح، لأنه على مستوى القانون الدستوري والإداري لا يمكن افتراض تبعية قانونية بمجرد تحديد جهة التشكيل. هذه الملاحظات، بالإضافة إلى الملاحظات المتعلقة بموضوع المساس بحقوق المالية العامة، والتي سبق أن ذُكرت سالفاً.

المرسوم التشريعي رقم 44 تاريخ 29/5/2025 والمتضمن آلية شغل الوظائف القيادية في الدولة ضمن مستوى الإدارة الوسطى:

إن هذا المرسوم يتجاوز اللائحة التنظيمية أو اللوائح التنفيذية التي نصت عليها المادة 36 من الإعلان الدستوري، وهي اللوائح التي يمكن لرئيس الجمهورية إصدارها، ويتضمن المرسوم المنوّه عنه سالفاً تعديلاً جوهرياً للقانون الأساسي للعاملين في الدولة، ما يجعله نصاً تشريعياً. ومن المبادئ المتفق عليها أن النظام الرئاسي لا يسمح لرئيس الدولة بإصدار تشريعات أو قوانين، لأن هذا يخل بمبدأ الفصل الجامد بين السلطات.

وقد يقول البعض إن المرسوم التشريعي رقم 43 لعام 1971 ما يزال نافذاً طبقاً لما نص عليه الإعلان الدستوري نفسه في المادة 51، إلا أن الرد على هذا الرأي يكمن في جوهر التغيير الذي حمله الإعلان الدستوري، والانتقال من النظام البرلماني، حيث تنقسم السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، إلى نظام رئاسي يفترض فيه الفصل الجامد بين السلطات، ما يغير من طبيعة عمل السلطة التنفيذية وصلاحياتها انسجاماً مع النص الدستوري الحالي، والذي هو الإعلان الدستوري. والمرسوم 43 لعام 1971 لم يُنشئ سلطة أو صلاحية مستحدثة لرئيس الجمهورية، بل جاء تطبيقاً للفقرة 3 من المادة 54 من الدستور المؤقت الصادر بتاريخ — والتي نصّت صراحة على ما يلي في معرض تحديدها لصلاحيات رئيس الجمهورية: “إصدار باقي المراسيم والقرارات والأوامر طبقاً للتشريعات النافذة”. كذلك ورد في الدستور السوري لعام 1973 مادة صريحة تعطي الحق لرئيس الجمهورية بإصدار المراسيم، وهي المادة 99، والتي قالت: “يصدر رئيس الجمهورية المراسيم والقرارات والأوامر وفقاً للتشريعات النافذة”، وكذلك ورد في دستور عام 2012 في المادة 101 نص صريح يقول: “يصدر رئيس الجمهورية المراسيم والقرارات والأوامر وفقاً للقانون”.

إذاً، من هذه المواد جميعاً، وطبقاً لقواعد تفسير النص الدستوري، فإن المرسوم التشريعي رقم 43 لعام 1971 لا يصلح أن يكون متكأً لإصدار مراسيم في الوقت الحالي، لأن هذا المرسوم هو إطار تنظيمي يحدد آلية صدور المراسيم من قبل رئيس الجمهورية ويستند إلى نص واضح في الدستور الذي صدر في ظله، وكذلك بقي نافذاً لأن كل الدساتير التي صدرت بعد ذلك حافظت على حق رئيس الجمهورية في إصدار المراسيم، بينما نجد أن الإعلان الدستوري لا يسمح بهذا الأمر. وكذلك فإن الاستناد إلى العرف الدستوري قد لا يسعفنا في هذا الظرف، لأن من شروط قيام العرف الاضطراد والمشروعية والعمومية في ظل عدم وجود نص، بينما نجد أن النصوص الدستورية منذ عام 1971 وحتى 2024 قد نصّت صراحة على حق رئيس الجمهورية في إصدار مراسيم.

ختاماً، فإن احترام الإعلان الدستوري وتطبيقه من قبل السيد رئيس الجمهورية الذي أصدره، ليس ترفاً أو مجرد مطلب شكلي، بل هو ضرورة أساسية لطمأنة الجمهور بأن السلطة السياسية تحترم القانون النافذ وتتصرف تحت سقفه. وهذا أمر حيوي جداً ليشعر المواطنون بالأمن، وأن سيادة القانون تشملهم وتشمل السلطة في آنٍ معاً. وإذا كان هناك ثغرات في الإعلان الدستوري تعيق سلاسة العمل الحكومي، فهذا يتطلب معالجة من نوع آخر، وليس خرق الإعلان بسلسلة من القرارات والمراسيم. ولا سيما أن الكثير من وزارات الدولة باتت تستنّ بهذه السُنّة، حيث أصدر بعض الوزراء قرارات تعطل نصوصاً قانونية، بل إن جهات إدارية باتت تفرض رسوماً وتعريفات جمركية من دون أي سند قانوني أو وجه حق، وهذا يشير إلى عمق المأزق الذي نعيشه في الوقت الحالي، والذي يتطلب أن تخضع فيه السلطة لقانون واضح ومعلن، لا أن تُتخذ القرارات وفقاً لما تراه مناسباً من دون الالتفات إلى مبدأ الشرعية وسيادة القانون.

تلفزيون سوريا

—————————

واشنطن خارج التعقيدات السورية/ مازن بلال

26/05/2025

ما طرحه السفير الأمريكي في تركيا، توم باراك، عن سوريا يشكل الحلقة المفرغة الجديدة في سياسة واشنطن تجاه المنطقة، فبعد تعيينه مبعوثاً أمريكياً إلى سوريا ولقائه رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع في تركيا؛ ظهرت تصريحاته لتكشف أن المقاربات التي قدمها تحمل “أحلاماً” لا تصورات سياسية، وعلى الرغم من أن تقسيم المنطقة يشكل وتراً حساساً للسوريين من “سايكس-بيكو”، لكن السفير الأمريكي شطب الحقبة السياسية ونتائج الحروب وحتى نفوذ تركيا الحالي في المنطقة.

التصريحات التي ساقها تلامس اليوم السياسات التركية، فمسألة “سايكس-بيكو” هي ترميز لمرحلة الضعف التركي، ولانحسار الدور العثماني في المشرق، والعودة إليها اليوم يعبر تعبيراً واضحاً عن توجه لإعادة ذلك الدور وبآليات جديدة، فتعقيدات المنطقة لم تبدأ بالصراع الفرنسي-البريطاني على المنطقة إنما بتحول الميزان الدولي منذ الثورة الصناعية الذي جعل الدولة العثمانية تتحول تحولاً بطيئاً نحو الانكفاء.

عملياً فإن الانفتاح الأمريكي على دمشق تم بوساطة الرياض، لكنه يتأسس في أنقرة بوصفها دولة محورية في النظام الإقليمي، والمسألة السورية بكامل أوراقها أصبحت وبإرادة أمريكية ضمن مهام الخارجية التركية، وهذا الأمر كان واضحاً في زيارة الرئيس الشرع تركيا ولقائه “باراك” بدلاً من أن يبدأ المبعوث الأمريكي مهمته بزيارة دمشق، فنحن أمام عاملين أساسيين:

الأول أن تركيا لا تملك فقط “سماحاً” أمريكياً بالتحرك في سوريا؛ بل أصبحت “البوابة الإقليمية” للمسألة السورية، وهو أمر كان متوقعاً ولكنه اليوم يُؤسس من جديد بجهد دبلوماسي ترعاه واشنطن.

من الصعب فهم الدور التركي الحالي من دون مسألة “التهدئة” السورية-“الإسرائيلية”، فمهام أنقرة لا تتعلق بترتيب البيت السوري بالداخل؛ بل بالمساعدة في بناء “دولة محايدة” أيضاً، وبصرف النظر عن نجاحها أو فشلها في هذا الموضوع، لكن العلاقات الأمنية والعسكرية كافة تؤشر على أن أنقرة تعمل لإيجاد “منظومة” تعاون ثلاثية مع سوريا و”إسرائيل” لاستيعاب ثمانية عقود من الصراع.

العامل الثاني يرتبط بالسوريين الأكراد، فالمشروع السياسي السوري المطروح المرتبط بالفيدرالية لم يفقد موقعه، لكنه أصبح في مساحة دور أنقرة المركزي لا دمشق، وأي حلول لشمال سوريا الشرقي باتت مرتبطة بعلاقة تركيا مع التشكيلات الكردية التركية.

سيختلف وضع السوريين الأكراد عن الحالة السياسية في إقليم كردستان العراق، فمن الصعب إيجاد معادلة سياسية شبيهة لما حدث في العراق في ظل الدور التركي الحالي، أو حتى في مساحة العمل الكردي في سوريا نتيجة حساسية أنقرة تجاه التشكيلات الموجودة في الجزيرة السورية، وهي أوجدت حزاماً أمنياً ضيقاً عند حدودها مع سوريا؛ يشكل مشروعاً للحد من أي حالة لا تتوافق مع دورها الإقليمي.

المبعوث الأمريكي إلى سوريا وفي منصة “إكس” كشف بطريقة غير مباشرة عن اهتمام أمريكي هامشي لأبعد الحدود بالشأن السوري، فتركيا، لا العرب الذين سعوا إلى رفع العقوبات عن سوريا، هي من ستتولى ترتيب الأمن الإقليمي من البوابة السورية، وهي أيضاً ستتحرك بنفوذها لتحريك مسارات السلام والتطبيع مع “إسرائيل”.

—————————-

كيف نتخلّص من إرث الحقبة الأسدية؟/ أحمد طعمة

02 يونيو 2025

خلّفت الحقبة الأسدية في سورية إرثاً كارثياً لا يقلّ فتكاً عن أسلحة الدمار الشامل، لكنّه أكثر خفاءً وأبعد أثراً. فعلى مدى عقود من الحُكم القمعي، لم تكتفِ السلطة بتفكيك مؤسّسات الدولة، بل أمعنت في تقويض البنى الاجتماعية والأخلاقية التي شكّلت نسيج المجتمع السوري. تماهى النظام في حكمه بين بعثيّة فاشيّة وطائفية متجذّرة، ليصوغ ثقافةً سياسيةً هجينةً قائمةً على الخوف والتبعية والإقصاء. أمّا البنية التحتية، فباتت شاهدةً على الخراب المتراكم، بعد أن طاول الدمار كلّ ما يمكن أن يحمل ملامح الحياة أو يشير إلى إمكانية التعافي السريع. يبقى السؤال المحوري: كيف يمكن لسورية أن تتجاوز إرثاً بهذا العمق والتشظي؟

لا تقتصر الإجابة على جهة واحدة، بل تتطلّب تضافر جهود ثلاثة أطراف رئيسة. أولاً، السلطة السياسية، التي تقع على عاتقها مسؤولية وضع أطر قانونية ومؤسّساتية تُجرّم تمجيد المرحلة الاستبدادية، وتُرسّخ سردية وطنية جديدة تتجاوز إرث “البعث” والأسدية. ثانياً، النُّخب الفكرية والثقافية، التي يجب أن تُعيد إنتاج المفاهيم والمصطلحات، وتطرح رؤىً بديلةً تعيد الاعتبار للقيم المدنية والعدالة والمساءلة التاريخية. أمّا الطرف الثالث فهو المجتمع الذي لا غنى عن وعيه وتفاعله، من خلال تبنّي تلك الرؤى الجديدة، والضغط من الأسفل نحو التغيير. لكن ما يُثير القلق أن هذه الأطراف الثلاثة تبدو إمّا عاجزةً عن أداء دورها، وإما غير مدركة تماماً لحجم التحدّي. فغياب الرؤية المشتركة، وتراخي الإرادة السياسية، وتفتت النُّخبة.. كلّها عوامل تُبقي البلاد رهينةً لماضٍ لم يُحاسب بعد.

من بين أكثر الأضرار فتكاً التي خلّفها نظام الأسد، تبرز الطائفية أخطرَ أداةٍ لتفكيك المجتمع السوري، وإعادة تشكيله وفق منطق الولاء لا الانتماء الوطني. فقد عمل النظام، على مدى عقود، في زراعة الشكّ وتعميق الانقسامات بين مكوّنات الشعب السوري، مستخدماً الطائفية أداةً سياسيةً لإدامة حكمه، لا عرَضاً اجتماعياً طارئاً. وبدلاً من أن يكون التنوّع الطائفي مصدر غنىً ثقافي وتعدّدي، وُظّف لخلق بيئات مغلقة، يغذّيها خطاب الكراهية والسخرية المتبادلة، ما أدّى إلى تقويض أسس التعايش الذي شكّل جوهر الهُويَّة السورية عقوداً طويلة.

أحد أخطر تداعيات الهندسة الطائفية التي انتهجها النظام تمثّلت في دفع المكوّن العربي السُّنِّي (شكّل تقليدياً الإطار الأوسع للهُويَّة الوطنية السورية) إلى موقع طائفي ضيّق، لا يُعبّر عن دوره التاريخي في بناء الدولة ولا عن طبيعته المجتمعية غير الطائفية. فقد ساهمت سياسات الاستقطاب والشيطنة، وتهميش الأغلبية السُّنِّية سياسياً، في خلق شعور جماعي بالعزلة والاغتراب، وهو ما قوّض فكرةَ “الأمّة الجامعة”، التي طالما لعب هذا المكوّن دوراً محورياً في صيانتها.

لتجاوز الانقسام الطائفي العميق، لا بد أن تتبنّى السلطة (إن كانت جادّةً في بناء مستقبل وطني جامع) حزمةً من الإجراءات الفعّالة والعاجلة، في مقدمها إطلاق مسار عدالة انتقالية حقيقية لا يكتفي بالشكل أو الاستعراض. يرتكز على إنصاف الضحايا، بغضّ النظر عن انتماءاتهم، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة، بما في ذلك القادة السياسيّين والعسكريّين. ويتطلّب ذلك إصلاحاً شاملاً لمؤسّسات الدولة، في مقدّمتها النظام القضائي، إلى جانب اعتماد آليات لتعويض المتضرّرين وجبر الضرر بشكل تدريجي وعادل. كما ينبغي العمل على المصالحة المجتمعية من خلال مبادرات تقرّ بالمعاناة المشتركة، وإعادة تأهيل المعتقلين والنازحين، وضمان مشاركتهم الكاملة في الحياة العامّة. من دون هذه الخطوات، ستبقى الطائفية كامنةً في بنية الدولة والمجتمع، تهدّد أيّ محاولة لبناء سلام مستدام.

لن يكون لأيّ إصلاح مؤسّسي أو مصالحة وطنية أثر فعلي، ما لم يقترنا بإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. وهذا يتطلّب إقناع المواطنين الذين عانوا عقوداً من القمع والتهميش، بأن السلطة عازمة فعلياً على ترسيخ أسس العدالة، وسيادة القانون، وضمان الحرّيات السياسية، وتعزيز حقوق الإنسان من دون انتقائية. إن استعادة الشرعية السياسية لا تتحقّق فقط عبر القرارات، بل عبر إشارات واضحة ومتراكمة إلى التزام الدولة بمبادئ المواطنة المتساوية، والانفتاح على التعدّدية، وفتح المجال العام أمام مكوّنات المجتمع كلّها. من دون ذلك، يبقى أي حديث عن “مرحلة جديدة” مجرّد خطاب لا يحظى بالثقة أو القبول.

لم تُبدِ السلطة السورية، حتى اللحظة، ما يكفي من الجدّية أو الاستعداد لإطلاق مسار وطني يُعالج جذور الأزمة الطائفية، بل تدلّ المؤشّرات الراهنة على استمرار النهج ذاته، ما يهدّد بتأجيج الانقسامات، ويُبقي البلاد على حافَة اضطرابات قد يصعب احتواؤها لاحقاً. أمّا النُّخبة الفكرية والسياسية، فقد عجزت، في أحيانٍ كثيرة، عن لعب دورها التاريخي في تقديم خطاب جامع يتجاوز الاستقطابات الهُويَّاتية. وفي بعض الحالات، تورّط بعض رموزها في إعادة إنتاج السرديات الطائفية، إمّا بدافع الخوف أو وسيلةً لتمثيل مصالح فئوية ضيّقة، وهو ما أسهم (عن قصد أو من غير قصد) في ترسيخ منطق الانتقام بدلاً من المصالحة. وفي المقابل، لا يمكن تجاهل أن جزءاً من الرأي العام تأثّر بالبيئة المشحونة، إذ أصبحت نوازع الثأر والانقسام الطائفي أكثر حضوراً من السعي نحو العدالة والسلم الأهلي. هذه الميول، إن تُركت من دون معالجة، تهدّد بتحوّل النزاع من سياسي إلى مجتمعي، وهو سيناريو قاتم لطالما سعت الشعوب إلى تجنّبه.

ثاني الملامح المدمّرة التي ورثها السوريون عن نظام الحكم السابق الزبائنية السياسية، بوصفها نمطاً مُمأسساً من العلاقات يقوم على المحسوبية وتوزيع المنافع على أساس الولاء لا الكفاءة. هذا النموذج، المتجذّر في بنية الدولة، لم يختفِ بعد انهيار النظام، بل أعاد إنتاج نفسه في سياقات جديدة، ما يُبرز استمرار عقلية الحُكم القديمة، وإن تغيّر الشكل الظاهري للسلطة.

تتجلّى الزبائنية اليوم في تعيين شخصيات تفتقر إلى الخبرة أو التأهيل في مواقع حسّاسة، لارتباطها فقط بشبكات الولاء العقدي أو الفصائلي أو العائلي. وهو ما يُعطّل فعّالية المؤسّسات، ويُقوّض فرصَ بناء دولة قائمة على الكفاءة والمساءلة، ويُعمّق فجوةَ الثقة بين المواطن والدولة. الأسوأ أن استمرار هذا النموذج يعيد ترسيخ الفساد الإداري واقعاً طبيعياً، ما يُضعِف أيّ محاولة للتحوّل الديمقراطي الحقيقي.

من السمات اللافتة في المرحلة التي أعقبت انهيار منظومة الأسد تفشّي ظاهرة التنافس على المواقع والنفوذ على حساب الكفاءة والاختصاص. وغدا ارتجال القرارات، وتبدّلها السريع من دون إطار مؤسّساتي واضح، هو السمة الغالبة في أداء العديد من الفاعلين الجدد. تصدر التوجيهات، ثمّ تُلغى أو تُهمّش، وتُطلق الوعود للناس من دون تنفيذ فعلي، ما يُعيد إلى الأذهان مناخ التخبّط واللا مسؤولية الذي ميّز الحُكم السابق. هذا التدهور في الأداء لا يُمكن فصله عن الإرث السياسي لنظام الأسدية، الذي رسّخ عقلية الحكم الشخصي وتقديم الولاء على الكفاءة. لكن الأخطر أن السلطة الجديدة لم تُبدِ حتى الآن أيَّ توجّه جدّي نحو معالجة هذه الظاهرة، بل تبدو في كثير من الحالات وكأنها تعيد إنتاجها، نتيجة تركيزها في إعادة تموضع السلطة، بدلاً من إعادة بناء الدولة. فالفرق شاسع بين مشروع يُبنى على قواعد مؤسّسية ويستهدف إنشاء دولة قانون ومواطنة، وآخر يُكرّس سلطةً مغلقةً تحكم بمنطق الغلبة والانتماء الضيق. الأوّل يفتح الطريق أمام التحوّل الديمقراطي، أمّا الثاني فمآلاته، كما علمتنا التجربة، ليست سوى نسخة جديدة من السلطوية.

يبقى تقصير النُّخب الفكرية والسياسية في مواجهة ظاهرة الزبائنية أحد مظاهر العجز البنيوي في المشهد السوري الراهن. فهذه النُّخب، التي يُفترض أن تضطلع بدور الريادة في تصويب المسار، لم تمارس الضغط الكافي للكشف عن مخاطر استمرار الزبائنية على تماسك الدولة والمجتمع، بل إن غياب خطاب نقدي واضح تجاه هذه الظاهرة يعكس نوعاً من التواطؤ الصامت أو العجز عن مواجهة البنى التقليدية المتجذّرة.

الزبائنية، باعتبارها نظاماً غير رسمي لتوزيع الموارد والمناصب، تمثّل تهديداً مباشراً لأيّ مشروع وطني يقوم على أسس الكفاءة والمواطنة المتساوية. ومع استمرارها، تتآكل شرعية الدولة وتترسّخ ديناميات الفساد والانقسام المجتمعي. من هنا، فإن معالجة هذه الظاهرة ليست ترفاً أخلاقياً أو تنظيرياً، بل ضرورةٌ سياسيةٌ ملحّةٌ، تتطلّب حشد الإرادة من النُّخبة والمجتمع على حدّ سواء، قبل أن يتحوّل القصور المؤسّسي مأزقاً يصعب تجاوزه.

على الرغم من مرور سنوات على اندلاع الثورة السورية، لا تزال مظاهر الأزمة الأخلاقية والاجتماعية التي زرعها النظام القديم حاضرةً في تفاصيل الحياة اليومية، ولا سيّما في المدن الكبرى مثل دمشق، إذ بات من المألوف ملاحظة ضعف حسّ المسؤولية العامّة، وغياب النظام في الفضاء العام، من سلوكات المرور العشوائية إلى تراكم الأوساخ في كلّ مكان إلى الانتشار الواسع للخدمات الرديئة بأسعار باهظة، في غياب الرقابة والمحاسبة. تعكس هذه الظواهر مفاعيل عميقة لإرث طويل من التدمير المنهجي لقيم المواطنة والعمل الجماعي، حيث فُرض على المجتمع نمط من البقاء الفردي، يقدّم المصلحة الخاصّة على المصلحة العامّة، في ظلّ انهيار المنظومة التعليمية والتربوية والخدمية عقوداً.

ما يزيد هذا الواقع قتامةً استمرار بعض رموز النظام السابق في الحضور الرمزي، من خلال الأعلام الحمراء واللافتات والدعاية، في الفضاء العام، في غياب مساءلة حقيقية أو محاولة لبناء ذاكرة جماعية جديدة. وبينما كانت الثورة لحظة أمل بإعادة بناء الإنسان السوري، صار مشهد اليوم يعكس كم هو صعبٌ ترميم الذات المجتمعية بعد عقود من القهر والتشويه.

وعلى المستوى الثقافي، يبدو أن مساحات التأثير قد انتقلت، في غياب مشروع ثقافي وطني، إلى شخصيات هامشية تستثمر الفضاء الرقمي للمديح أو التجييش، غالباً من دون أيّ التزام بمسؤولية خطابية أو قيمية، ما يكرّس خواءً ثقافياً يعيق التحوّل المنشود. والأسوأ من ذلك أن بعض هذه الأصوات، ممّن يُقدَّمون على أنهم شعراء أو إعلاميون، باتوا يحظون بحضور طاغٍ في الفضاء العام، لا لشيء إلا لأنهم يُتقنون فنّ الانحياز إلى من يملك النفوذ، ويهاجمون بلا رادع كلّ من يخالفهم أو يعارض من والاهم، ولديهم متابعون ومعجبون في منصات التواصل الاجتماعي المختلفة. وهذا التحوّل من النقد إلى التكسّب، ومن الثقافة إلى الاصطفاف، يعكس حجم الفراغ القِيَمي الذي أفرزه الانهيار العام في منظومة المعايير.

لم تُظهر السلطة جدّيةً في مواجهة هذه الظواهر السلبية أو في مساءلة المُستغلِّين، الذين يغذّون مناخ الجشع والانتهازية، متجاهلين أن الثورة السورية قامت من أجل الحرية والكرامة والفقراء والمهمّشين من المجتمع. وبالمثل، لم تكن استجابة طبقة المثقّفين وأئمة المساجد على قدر التحدّي؛ إذ انشغل كثيرون منهم بقضايا هامشية لا تتناسب مع حجم الأزمة التي يمرّ بها الشعب، ممّا يعكس ضعفاً في الوعي والمسؤولية تجاه الواجب الوطني في هذه اللحظة الحرجة.

لا بدّ من تعاضد الأطراف الثلاثة: السلطة، والنُّخبة السياسية والفكرية، وعامّة الشعب، للخلاص من هذا البلاء العظيم عبر حوار وطني عام، جادّ وشفاف، يشمل جميع مكوّنات المجتمع السوري. هذا الحوار يجب أن يُفضي إلى عقد اجتماعي جديد، واضح المعالم في الحقوق والواجبات، يُطرَح ضمن مؤتمر وطني يمثل الشرائح المجتمعية كافّة، ويشكّل تتويجاً لمرحلة الوفاق السوري المنشود. نحن اليوم عند مفصل تاريخي حاسم، إمّا أن ننجح في اقتلاع الإرث المدمّر الذي خلّفه نظام من أعتى الأنظمة في تاريخ البشرية، وإما أن نستمرّ في السير على خطاه، متناسين أننا أبناء الثورة وحملة رايتها. وفي حال الخيار الثاني، سيدفع أبناؤنا ثمناً أقسى ممّا دفعه جيلنا من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية.

العربي الجديد

—————————

لبنان وسورية… فرصة تكامل اقتصادي بعد فكّ العزلة/ أنديرا الشوفي

02 يونيو 2025

مع تسارع الخطوات الغربية نحو رفع العقوبات المفروضة على سورية، تلوح في الأفق ملامح تحوّل اقتصادي كبير، لا يقتصر تأثيره على الداخل السوري فحسب، بل يمتد ليشمل دول الجوار، وفي مقدّمتها لبنان. فالتاريخ الاقتصادي بين البلدين يكشف عن تداخل بنيوي عميق يتجاوز الجغرافيا، ليشمل قطاعات المال والتجارة والصناعة والزراعة. ومن هذا المنطلق، يُعدّ فكّ العزلة الاقتصادية عن سورية حدثاً محورياً يعيد فتح الباب أمام تكامل اقتصادي يمكن أن ينعكس إيجاباً على الشعبين.

فعلى مدى العقود الماضية، لعبت المصارف اللبنانية دوراً فاعلاً داخل سورية، حيث أسّست فروعاً وعلاقات مالية مكّنتها من أداء دور الوسيط بين النظام المصرفي السوري والأسواق الدولية، بما في ذلك تسهيل التحويلات، وتمويل المشاريع، وفتح الاعتمادات التجارية. لكن العقوبات الغربية المفروضة منذ عام 2011 أدّت إلى تقطيع هذه الأوصال، فعُزلت المصارف السورية عن النظام المالي العالمي، واضطرت المصارف اللبنانية إلى الانسحاب أو تجميد نشاطها هناك خشية الملاحقة القانونية.

اليوم، ومع رفع العقوبات الأميركية والأوروبية واتجاه الغرب نحو تخفيف القيود، تُطرح مجدداً إمكانية استعادة هذه العلاقة المصرفية. فتح قنوات التواصل بين النظامين الماليين في بيروت ودمشق قد يخلق فرصاً لتسهيل التحويلات المالية، ولا سيما في ظل التداخل القائم في سوق الصرف، إذ لطالما لعبت السوق اللبنانية دور “صِمَام الأمان” للنقد الأجنبي في سورية، عبر التحويلات غير الرسمية أو من خلال السوق السوداء. ومع رفع العقوبات، يمكن لهذه الدينامية أن تدخل إطاراً رسمياً يضخّ شفافية وسيولة في النظامين معاً.

الأثر النقدي وتدفقات العملة الصعبة

أحد أبرز جوانب الانفراج المحتمل يتمثّل في قدرة سورية على جذب العملة الصعبة مجدداً، سواء عبر تحويلات المغتربين، أو الاستثمارات الأجنبية، أو من خلال الصادرات. ومن المعروف أن الأسواق اللبنانية والسورية لطالما تداخلتا في مجال النقد الأجنبي، بما في ذلك تداول الليرة السورية والدولار. وقد أثّر انهيار الليرة السورية سلباً على اللبنانيين العاملين في سورية، كما أثّر انهيار الليرة اللبنانية على السوريين المتعاملين مع السوق اللبنانية.

إذا نجحت سورية في استعادة قدر من الاستقرار النقدي نتيجة رفع العقوبات، فسينعكس ذلك على لبنان أيضاً. فاستقرار العملة السورية يخفف الضغط على الليرة اللبنانية، ويسهّل التبادل التجاري. كما قد يسهم في تقليص الفوارق في الأسعار، مما يفتح مجالاً لتبادل سلس وآمن بين الشعبين، من دون الحاجة إلى الالتفاف عبر قنوات غير رسمية.

الاستثمار والتكامل التجاري

لطالما شكّل لبنان حاضنة للمستثمرين السوريين، خصوصاً بعد عام 2011، حيث انتقلت العديد من رؤوس الأموال السورية إلى بيروت، وصيدا، وطرابلس، وكسروان، وأُسست شركات ومصانع ومراكز تجارية. اليوم، قد يحدث العكس: مع رفع العقوبات، يصبح السوق السوري وجهة محتملة للمستثمرين اللبنانيين، خاصة في القطاعات التي تحتاج إلى إعادة إعمار، كالعقارات، والبنى التحتية، والزراعة، والطاقة، والنقل.

دخول الشركات اللبنانية إلى السوق السورية لن يوفّر فرصاً جديدة فقط للربح، بل سيسهم في نقل التكنولوجيا، وتأمين فرص عمل للبنانيين، ولا سيما في مناطق البقاع وعكار، التي لطالما ارتبطت بالاقتصاد السوري بفعل الجوار الجغرافي والعلاقات العائلية.

في المقابل، ستستفيد سورية من تدفّق استثمارات لبنانية تمتلك خبرات متقدمة في مجالات التجارة، والخدمات المصرفية، والاتصالات، والسياحة. كما يمكن للبنان أن يلعب دور “همزة الوصل” لسورية مع الأسواق الخليجية والدولية، بفضل شبكاته الواسعة ومرونته التشريعية، إذا ما أُعيد الاعتبار لدوره الإقليمي مركزَ أعمالٍ.

الأمن الغذائي والتكامل الزراعي… فرصة لتعزيز الصمود

في ظل ما يمر به البلدان من أزمات اقتصادية ومعيشية خانقة، يبرز قطاع الزراعة بوصفه إحدى أبرز الأدوات الممكنة لتعزيز الأمن الغذائي وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي. تاريخياً، شكّلت المناطق الحدودية في البقاع اللبناني والغاب والحسكة في سورية حزاماً زراعياً مشتركاً، تبادلت فيه الخبرات والمنتجات واليد العاملة. ومع رفع العقوبات عن سورية، يمكن إعادة إحياء هذا التكامل الزراعي عبر مشاريع تعاون ثنائية في مجالات الإنتاج، والتخزين، والتصنيع الغذائي، وتبادل المحاصيل.

كما يمكن تفعيل الاتفاقيات السابقة بين وزارتي الزراعة في البلدين، وتحديثها بما يتلاءم مع التحديات المناخية والاقتصادية الحالية، بما في ذلك دعم الزراعة المستدامة، وتطوير شبكات الري والطاقة المتجددة، وتعزيز البحث الزراعي المشترك. وسيفيد لبنان من القدرة السورية الكبيرة على الإنتاج الواسع، في حين تستفيد سورية من الخبرات اللبنانية في التسويق والتغليف والتصدير، خصوصاً نحو الخليج وأوروبا. إن الاستثمار في التكامل الزراعي لا يسهم في دعم الأمن الغذائي فقط للبلدين، بل يوفّر آلاف فرص العمل في المناطق الريفية، ويعيد ربط المجتمعات المحلية بعضها ببعض في سياق تنموي يُرسّخ الاستقرار الاجتماعي ويقلّل من الهجرة والبطالة.

عقبات وتحديات

رغم التفاؤل، لا يمكن إغفال التحديات التي قد تعترض هذا المسار. فعودة العلاقات الاقتصادية تحتاج إلى إعادة بناء الثقة، وتوضيح الإطار القانوني للعلاقات التجارية والاستثمارية. كما تتطلب تطوير البنى التحتية الحدودية والجمركية والمصرفية، إلى جانب التنسيق النقدي بين المصرفين المركزيين في البلدين، لتفادي المضاربات أو استنزاف العملات.

كذلك، يبقى العامل السياسي حاسماً، في ظل التوازنات الإقليمية والدولية، وعدم وضوح مدى شمولية رفع العقوبات، وما إذا كان سيطاول القطاع المالي بصورة كاملة، أم سيبقى محصوراً في بعض القطاعات الإنسانية واللوجستية.

إنّ رفع العقوبات عن سورية ليس مجرد حدث داخلي، بل هو تحوّل اقتصادي إقليمي يمكن للبنان أن يكون من أكبر المستفيدين منه. فالتكامل بين البلدين يستند إلى تاريخ طويل من التبادل والتداخل، ومن شأن إعادة وصل الشرايين الاقتصادية أن تعيد الحياة إلى قطاعات منكوبة في لبنان، وتفتح أبواب التعافي التدريجي في سورية.

في نهاية المطاف، فإن مصير الاقتصادين مترابط، وكل انفراجة في أحدهما قد تكون فرصة للآخر، شريطة أن تُدار هذه المرحلة ضمن رؤية تشاركية، تستند إلى المصالح المتبادلة، وتضع رفاه الشعبين في مقدمة الأولويات.

—————————-

سورية الحرّة الطليقة/ بسمة النسور

02 يونيو 2025

تراودني نفسي الأمّارة بالحنين عن زيارة سورية بعد غياب طويل فرضته ظروف الحرب الجائرة التي شنّها نظام مجرم مستبدّ على شعب حرّ أبيّ ثار على الطغيان، ودفع الأثمان الباهظة من الأرواح والممتلكات والمصائر. شعب قَبِل الموت لا المذّلة. صبر وصابر وعضّ على الجرح طويلاً، وقدّم الشهداء بالآلاف، حتى حانت لحظة الحرّية الأغلى.

كان بهجت سليمان الذي شغل منصب سفير النظام البائد في عمّان، وطُرِد لاحقاً منها بعد أن تمادى وتجاوز الأعراف الدبلوماسية وأساء الأدب، قد تقدّم بشكوى رسمية ضدّي (وآخرين) لدى الجهات الأمنية بتهمة مساندة الثورة (يا لها من تهمة ويا له من شرف)، على خلفية نشاطي الإنساني في مخيّم الزعتري. ولمشاركتي، رفقة أردنيين أحرار، الانحياز إلى مظلمة الشعب السوري. أراد سليمان معاقبتهم لمساندتهم رموزاً في الثورة السورية أقاموا في عمّان، قبل أن يُشرَّدُوا في أصقاع الأرض، فأُدرجت أسماؤنا في قوائم النظام الهالك السوداء، وهي قوائم شرف أشدّ بياضاً من غيمة صيفية، وقد نلنا ما نلناه من حملات إساءة وتجريح وتشكيك وتشهير، من يساريّين متحمّسين لولاية الفقيه، مناصرين للدكتاتور الفارّ الذي أوغل في دماء الشعب المقهور، ولم تحقّق شكوى السفير المطرود إلا مزيداً من الخزي والعار، وأوضح تجاهلها من الجهات المختصّة توجّه الدولة الأردنية في دعم الشعب وحقّه في الحرّية والكرامة، وقد قدّم الأردن (حكومةً وشعباً) ما في وسعه من دعم إنساني ولوجستي للاجئين طوال سنوات تهجيرهم القسري، وها هم يعودون إلى وطنهم وبيوتهم أفواجاً، يتوقّفون في لحظة وداع عند الحدود ليقدّموا الشكر والعرفان لإخوتهم الأردنيين في وقفتهم النبيلة التي خفّفت من وقع اغترابهم الطويل.

صار في وسعي الآن زيارة سورية بسهولة، ومن دون تعقيدات إدارية، بعد أن ألغت وزارة الداخلية الأردنية شرط الحصول على الموافقة الأمنية. يرتجف قلبي فرحاً وأنا أتخيّل رحلتي إلى دمشق، سأتجوّل طويلاً في سوق الحميدية، وبعد زيارة المسجد الأموي، سأتوقّف عند مطعم أبو العزّ، وأتذوّق الصفيحة الشامية الشهيّة، وأنطلق إلى مقام الشيخ محيي الدين بن عربي، ألتمس فيضاً من السكينة، ثمّ أتوجّه إلى صيدنايا، سأصعد درج ديرها العالي، وأشعل شمعةً من أجل خلاص المعذّبين. سأزور حمص، وألقي التحيّة على أهلها الطيّبين، ولن أنسى حلب، والصبي (أصبح رجلاً الآن) الذي قادني ذات زيارة في زمن سحيق إلى سوق العرائس أو سوق النسوان، كما يسمّيه أهل حلب، وأصرّ على دعوتي إلى شرب القهوة مع والدته في بيتها الحلبي البسيط الجميل، المزنّر بأصص الورود.

ستصحبني الصديقة نسرين إلى بلدتها البديعة، جَبلة، في الساحل السوري، كي نشرب المتّة، ونسلّم على البحر. قد تحطّ بي الرحال في البدروسية، تلك القرية الخلّابة النائية المنسية المكتظّة بالنوارس والمطاعم الشعبية والصيادين، التي تتميّز بجمال طبيعتها وغاباتها المشرفة على البحر. سألتقي الصديقةَ المناضلة ندى الخش في مصياف. لطالما حدّثتني عن بلدتها الجبلية الجميلة في أثناء إقامتها الجبرية في إربد، جاءتها في زيارة اعتيادية لحضور ميلاد ابنتها المتزوّجة بأردني، وعلِقت بعد نشوب الحرب 14عاماً من الحنين إلى بيت ووطن وأرض، وكانت أوّل العائدين، وقد خلّفت رفيق عمرها مدفوناً في ثرى إربد. سأنتظر عودة صديقة العمر المناضلة ريما فليحان من منفاها في أستراليا، كي أرافقها إلى السويداء، جبل العرب، وموطن بني معروف الأحرار، أهل النخوة والأصالة والشهامة والجود.

سأزور سورية الحرّة الطليقة من جنوبها إلى شمالها، أتوجّس قليلاً لأنها في مرحلة تبعات الزلزال، تعاني بعض التجاوزات ومظاهر الانفلات الأمني والتشدّد الديني، لكنّي على يقين أن ذلك كلّه إلى زوال قريب، كي أحتفل مع الأحبّة بسورية الجديدة، المعافاة المتنوّعة المتعدّدة الجميلة البديعة، المدهشة بأطيافها كلّها.

———————————

شعارات سورية… البندقية تتجاهل أهدافها/ سنان ساتيك

02 يونيو 2025

يجتاز الطالب المرحلة الإعدادية في سورية منتقلاً إلى الصف العاشر الذي تبدأ به المرحلة الثانوية. يمضي من الدوام في عامه الدراسي شهر أو شهران حتى يدخل في إحدى الحصص الدراسية فجأة فريق من المدرّسين مع من يسمّى “أمين الوحدة”، حاملين رزم أوراق توزع على الطلاب كي يملأوها، فيقفون حائرين غير مدركين المطلوب منهم. بعد لحظات يعلمون أنها طلب انتساب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وفيه مجموعة من المعلومات التي يجب تدوينها وتعبئة بضع خانات عن فتيات وفتيان لا تتجاوز أعمارهم 16 عاماً.

لا يمتلك أولئك الطلاب ترف الاختيار، فلا يزالون غضين لا يعلمون كيفية الحراك السياسي والمدني أو طريقة الانتساب إلى الأحزاب كي يختاروا ما يناسب آراءهم وتطلعاتهم، ولا سيما أنهم تربية مرحلة “طلائع البعث”، فما أسهل الانخراط في هذه المنظومة ليصبحوا متلقين لمبادئها وأفكارها بتوجيه من السلطة! في تلك الأوراق بنود غامضة ومتطلبات لمن هم أكبر سناً. في أحدها بضعة أسطر لكتابة سيرة ذاتية لطالب أنهى دراسته الإعدادية تواً. تلك السيرة ستكون بيانات عن مكان ولادته ومراحله الدراسية، بلا رصيد علمي أو معرفي يتحدث عنه.

يكون طلب الانتساب عندما يقصد المرء مكاناً أو جهة أو حزباً… إلا في سورية طلب الانتساب يأتي إليك وعليك أن تقر به بلا معرفتك ماهيته ولماذا وكيف؟ تنتسب من دون أن تدري أنك تصبح بعثياً في مرحلة “النصير”، فقد أتممت واجباتك في منظمة طلائع “البعث”، وصرت مؤهلاً لتنخرط في “الحزب القائد للدولة والمجتمع”، لكن مصادرة الرأي وترويض الفتيان والاستيلاء على قراراتهم وخياراتهم تنعكس أدلجة تبث فيهم لضمان ولائهم لـ”البعث” مع ضخ مخزون الشعارات فيهم ليكونوا جاهزين مستقبلاً للدفاع عنه. الرغبة في الانتساب إلى الأحزاب تأتي ممن يكونون قد حددوا مسار حياتهم وانتقوا ما يلائم تطلعاتهم ومجتمعاتهم، فيسعون لتحقيقها عبر برنامج حزبي يسعى لإنجازها.

تتسلط الفئة الحاكمة على المجتمع وتستنبت فيه مراميها مطوّعة سردية تخدم أهدافها عبر دلالات ورموز لتنصبها ركيزة أساسية في تثبيت دعائمها، متناسية أنها تسير في طريق معاكس لإرادة الشعوب، حتى ضلّت سكّتها وارتمت في مطارح تحفر نهاياتها رويداً رويداً، فباتت مثل بندقية تتجاهل أهدافها، وتصوّب في الفراغ. الهيمنة على الوعي الكلي للأفراد تستعين بشعارات تغرف من بحر الناس وتشد وتر محاكاة التقلبات النفسية والسلوكات الاجتماعية لتسدّ فراغاً عبرها، فتتمرّس العلاقات بها بحثاً وتجريباً وتغييراً بحسب الواقع والظروف المحيطة.

قبل دخول الطلاب في مدارس “سورية الأسد” إلى صفوفهم، عليهم أن يصطفوا في الباحات أرتالاً مثنى مثنى، ويرددوا الشعارات والهتافات اليومية التي تبدأ بـ”انتبه” ليرد التلاميذ في المرحلة الابتدائية “طلائع”. وفي المرحلتين، الإعدادية والثانوية، يكون الرد “شبيبة”، فهم صاروا يتّبعون “اتحاد شبيبة الثورة”، رديف حزب البعث، بعدما كانوا “طلائع البعث”، معتمرين “السيدارة” ورابطين “الفولار” على رقابهم، ثم يأتي شعار “البعث”، ومبدأه الأول “أمة عربية واحدة … ذات رسالة خالدة/ أهدافنا … وحدة حرية اشتراكية”، إلى أن ينتهي الهتاف الصباحي بـ”رفيقي الطليعي! كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد”، ليجيب الطلاب: “مستعد دائماً” ثم “قائدنا إلى الأبد” فيتردد الصوت هادراً: “الأمين حافظ الأسد”.

تتخذ الأنظمة السلطوية السيطرة على البنية الاجتماعية والفكرية والحياتية عاملاً مسانداً لها، لذا تعمل في مسارٍ متوازٍ مع هيئات ومنظمات تغذيها، فمنذ دخول الطلاب إلى المدارس تلتقطهم منظمة طلائع البعث وتبث فيهم الأفكار عن الفرد والقائد والمجتمع مع شعارات يومية تصبح محركاً ودافعاً لحياتهم مع بعض النشاطات الطلائعية والمعسكرات، وتبدأ بتعليمهم أناشيد ثورية بعثية تغذي فيهم الحس الكامن، لتغرس في وعيهم ولاوعيهم الأفكار والمنطلقات التي ستتشكل مع نموهم ولتكون مبادئ يلتقطونها ويتربون عليها، مستعملة الشعارات أداة خطابية تنفذ إلى اللاشعور عبر بثها في الكتب المدرسية ورفدها بأناشيد وأهازيج تمتدح الحزب والقائد عبر منظّرها الأول سليمان العيسى، مستثيرة حماسة المجتمع، ورفع روحه المعنوية، في حقل دلالي يتمحور على أيديولوجيتها الفكرية والعقائدية.

أما “نشيد البعث” (كلمات سليمان العيسى وألحان إلياس الرحباني) فقد تضمن روحاً ثورية تلائم طبيعة الحزب مستنداً إلى العمال والفلاحين وطبقة البروليتاريا عامة، واعداً إياهم بتحسين حياتهم ومشاركتهم في مفاصل الحياة السياسية، فهم قاعدة الهرم في التسلسل الحزبي الذي يصل إلى الأمين العام (الرئيس). ولا تغيب شعارات “المسيرات” الطلابية التي تخرج في المناسبات “الوطنية” لتهتف للقائد الرمز و”بطل التشرينين” (نسبة إلى حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 و”الحركة التصحيحية” في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني) بشعارت مثل “حافظ أسد … رمز الأمة العربية”. أما الجداريات التي تصور “القائد المؤسس” وحوله شعارات وعبارات كـ”لن تركع أمة قائدها حافظ الأسد”، فلم تكن تخلو شوارع المدن الكبرى منها. وبعد وفاة ابنه الأكبر باسل في 21 يناير/ كانون الثاني 1994، بُثَّ “باسل المثل … بشار الأمل”، ليغدو شعار تهيئة بشار لوراثة الحكم بعد وفاة الوريث المعتمد.

“الأسد أو نحرق البلد”، صوت علا في الثورة السورية، فقد رسمه النظام بعناية. إنه الصيغة المثلى التي تبين تأدية الشعار غرضاً سياسياً أو هدفاً ما، فلقد رُفِع كي يبعث رسائل إلى السوريين بأن الأسد باقٍ، ولو على جثث السوريين ودمائهم، فهو لن يتنازل أمام رغبات الشعب ولن يحقق أي مطلب لهم. سيحرق البلد بمن/ ما فيها قبل رحيله، فهذا ما أثبته وصنعه بجعل سورية بلداً مرهقاً مستنفداً من عوامل نهوضه، حتى أمسى تعيساً “كعظمة بين أسنان كلب”، بتعبير الشاعر رياض الصالح حسين.

خاض رئيس النظام السوري الفارّ، بشار الأسد، في مايو/ أيار 2021 “انتخابات” رئاسية منتقياً شعار “الأمل بالعمل”، معتمداً عليه كي يبث أفقاً مفتوحاً بعد تحقيق استقرار جزئي في البلاد وتوقف الحرب عقب اتفاقات خفض التصعيد، لكن كعادة الأسد في سيرورته وشعاراته، فقد تكسّرت الآمال والعمل توقف، بل انحدر إلى مستوى قارب الحدود الدنيا، ولازم اليأس الناس وترسخ في نفوسهم العجز والخذلان من بلد وقيادة تذوي.

“من يحرّر يقرّر” الشعار الأبرز الذي رفع بعد سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024. هذا الشعار يشبه شعارات المرحلة الأسدية التي قدمت نفسها أنها الوحيدة القادرة على إدارة البلد وفق رؤيتها، وأنها الأدرى بالسياسات المحلية والخارجية، فجاء “من يحرر يقرر” على المنوال نفسه، مقتفياً آثار الحلول بأنه الوحيد الذي سيوصل البلاد إلى الاستقرار، ولا يحقّ لأحد المشاركة في صنع القرارات، فهم من حرّروا وسيبنونها وحدهم بإلغاء المشاركة السياسية من الفئات الأخرى. ومثله شعار “دمشق أموية” الذي اختزل تاريخ أقدم عاصمة مأهولة تاريخياً في مرحلة الأمويين، مغبناً تراثها الممتد آلاف السنين وحضاراتها المتعاقبة.

حتماً، تحتاج البلدان والسلطات والمرشّحون للانتخابات إلى شعارات تخدم أهدافهم، لكنها يجب أن تكون مدروسة محققة معايير جمعية لأفراد الوطن ولمصلحته، ليست لخدمة فرد لتعظيمه وتستقويه على الآخرين، فيستحيل من منفذ لسياسات الدولة إلى مسيطر عليها.

العربي الجديد

——————————–

باسل شحادة: العبور إلى سورية بنظرات أخيرة/ ميار مهنا

03 يونيو 2025

في الذكرى الأولى لاستشهاده بعد سقوط نظام بشار الأسد، صار للمخرج السوري باسل شحادة (1984 – 2012)، قبرٌ في قلب دمشق القديمة، يعلوه نقشٌ لصورته وعبارته الشهيرة: “لا مستقبل لمواطن بلا وطن  حر”، التي خطّها الفنان منير الشعراني، واستقاها من إجابة شحادة حين سُئل عن سبب عودته من أميركا إلى بلاده مع بدايات الثورة السورية.

تخلى باسل شحادة عن منحة فولبرايت المرموقة لدراسة السينما في أميركا، وعاد إلى سورية مع اشتعال الاحتجاجات عام 2011. لم يعُد متفرّجاً، بل لينخرط في ميدان الثورة والتغيير، مرافقاً المتظاهرين في حمص، وموثقاً بعدسته عنف نظام بشار الأسد ضد التظاهرات السلمية قبل نشوء تنظيمات المعارضة المسلحة.

مضى باسل شهيداً هناك، في حمص، عام 2012، ودُفن أولاً في قبر بلا اسم. غنّى له رفاقه، ورتّلوا صلاة وداع. وهناك، كتب نبوءته الأخيرة: “ما لقيت غير حمص تفهمني وافهما.. ضمتني حمص حتى غمّضت عيوني.. أنا، باسل شحادة”.

في دمشق، حيث وُلد، مُنعت عائلته من إقامة جنازة تليق به، وأُغلقَت أبواب كنيسة الروم الكاثوليك في حي القصاع بأوامر أمنية، ليقام القداس في الشارع، في ظل حصار رجال الأمن لمنزل أسرته.

لم يكن شحادة مجرد صانع أفلام، كان شاهداً على اللحظة السورية الفارقة، وفناناً مواجهاً لاستبداد الدكتاتورية الأسدية. استخدم أدواته المعرفية والفنية لتدريب شباب حمص على التصوير والمونتاج، وساهم في تأسيس شبكة مواطنين صحافيين وثّقوا تفاصيل الثورة بالصوت والصورة، من الهتاف الأول للحرية حتى سقوط أول شهيد، ومن بعدها استشهاده هو.

بالنسبة له، كانت الكاميرا سلاحاً في معركة غير متكافئة، تعبر به الحدود بين الجسد والرصاصة، بين الحياة والموت. أفلامه القصيرة التي أنجزها بين عامي 2011 و2012، لم تكن مجرد توثيق، بل مواقف إنسانية وفنية تنبض بروح الثورة، وتسجل المشاعر الأولى للمتظاهرين الذين هتفوا بعد سنوات من الخوف بوجه رجال الأمن. صيحات تدعو بشار الأسد إلى التخلي عن كرسيه.

في سنواته الـ28 القصيرة، عاش باسل شحادة سيرة حياة تتجاوز هذه الأعوام. درس الهندسة، وعزف الموسيقى، وكتب ولحّن أغنيات، وأحيا حفلات، وسافر على دراجته النارية الروسية التي سمّاها “لينين” من دمشق إلى الهند، في رحلة امتدت نحو ثلاثة أشهر.

لكن الثورة كانت موعده الأهم، وهناك قرّر أن يكون شريكاً في التغيير، ليس متفرجاً من بعيد، إلا أن سيرته فناناً لديه هم إنساني لم تبدأ مع عام 2011، بل قبلها بسنوات. ففي 2004، ألّف أغنية لأطفال فلسطين بعنوان “كل يوم عم أحلم بوطني”. وفي 2010 أخرج فيلمه القصير “هدية صباح السبت”، عن طفل لبناني داهمت قنبلة يوماً من أيام عطلته من المدرسة، فاخترقت جدار غرفته، وحفرت نقشاً في ذاكرته. كان ذلك التمهيد لمسيرته السينمائية، التي ستدخل لاحقاً منطقة الخطر، حين صار للخطر وجوه عدة، تتمثّل في القنّاص، والاعتقال، والموت أمام الكاميرا، أو خلفها كما حدث له.

أن تصوّر تحت الخطر ليس مجازاً في السينما الوثائقية السورية التي وُلدت من قلب الشارع زمن الثورة، بل شرط وجودي لها، فلا وجود لسينما الثورة من دون اصطدام مباشر مع الحدث. والموت لم يكن هاجساً في أفلام تلك المرحلة، بل احتمالاً يومياً. في أحد مشاهد فيلمه “شوارعنا.. احتفالاً بالحرية”، الذي صوّره بعد عام على اندلاع الاحتجاجات، يسأل باسل شحادة إحدى الشخصيات: “هل أخبئ الكاميرا؟”، ثم يقرر المضي في التصوير. كأن الحكاية لا تكتمل إلا إذا قيلت كلها، حتى على مسافة قريبة من رصاصة قد تنهي كل شيء.

في أفلام باسل شحادة، نشعر أن الخطر ليس في الخلفية بل في مقدمة الكادر، في اهتزاز الصورة، في زوايا التصوير المنحرفة، في الأجساد التي تظهر بأطرافها ليس بوجوهها، وكأن الكاميرا تمارس فعل الحماية؛ تخفي لتعري، تغلّف لتكشف.

الشخوص لا تظهر بهوياتها، بل بما يحيل إليها: صوت، يد، شفاه تبتسم وأخرى ترتجف، كتفا رجل يمشي. ومع ذلك، قد لا يشعر المُشاهد بحاجة إلى “لقاء” الشخص بهويته، وقد لا تهمنا الأسماء ولا الملامح، ما يهمنا هو ما يُروى، من دون افتعال.

في فيلمه “ميلاد مجيد حمص”، يتنقل شحادة بين عالمين متداخلين في المدينة نفسها؛ عالم عيد الميلاد في كنيسة مظلمة، ربما من انقطاع التيار الكهربائي، فنستمع إلى أصوات التراتيل، ونرى بعض المصلين، في خلفيةٍ تعجّ بأصوات القصف. في الكنيسة تنشد فتاة ترنيمة للسيد المسيح تقول الترنيمة: “روح زورهن لوّن سواد تيابهن… بيتن فقير ما عندن شي… علّق أمر عبوابن”. ومن ثم رجل يحكي عن فقر المدينة: “في ناس عم تاكل خبز يابس، في ناس ما معها حق ربطة خبز”.

أما العالم الآخر فهو الشارع الذي يتربص به قنّاصون، يأخذنا شحادة إلى الخطر مجدداً، خطر عبور الشارع. نرافق، نحن المشاهدين، رجلاً يهمّ بالعبور يهتف: “حرية للأبد غصباً عنك يا أسد”، فيتعالى صوت الرصاص. يعلّق الأخير: “هم يكرهون كلمة حرية… لو كنت مسلحاً، لما أطلقت الرصاص بهذه الكثافة”.

الكاميرا هنا ليست مجرد وسيلة تسجيل، بل طرف حيّ في المعادلة، هي عين المخرج نفسه، فشحادة يركض وكذلك العدسة، يسقط فتسقط، تختبئ، تنهض، تلهث، كما جسد صاحبها. في لحظة من الفيلم، يصوّر باسل صديقه وهو يقول: “تشهّد وامشي، وإذا صار شي، إن شاء الله أقدر أسحبك”.

يركض باسل، وتركض الكاميرا معه. يهتف أحد الأشخاص بعد أن نجح بالعبور إلى الطرف الآخر “يا صديقي يا قناص، الحرية بترفع الراس”. تتجه الكاميرا إلى السماء، ثم إلى الأرض، يزفر باسل، نعرف أنه نجا. لكنه، كما نعلم، لم ينجُ من اختبار الموت التالي.

حين هتف باسل شحادة: “هبّي يا رياح التغيير”، ربما لم يكن يدرك بعد حجم العنف والدمار الذي سيتركه النظام كي يبقى بشار الأسد جالساً على كرسيه. في عام 2012، أنجز آخر أفلامه قبل رحيله في 28 مايو/ أيار 2012، وهو عمل قصير لا يتجاوز دقيقتين، بعنوان “سأعبر غداً”. يصوّر الفيلم جنازة سرية لشهيد قضى برصاص الأمن السوري.

في شارع مظلم في حمص القديمة، يُحمل الشهيد على الأكتاف، ملفوفاً بكفنه. الظلمة تبتلع كل شيء حتى المشيعين، ولا يظهر سوى الجسد الممدود الجاثم. يظهر الجسد ويختفي تحت ضوء فلاشات الهواتف المحمولة، فيما تصدح في الخلفية أغنية “يما مويل الهوى”.

الفيلم يضعنا أمام سؤال العبور: هل عبر هذا الشهيد إلى العالم الآخر؟ نعم، وفق ما يقوله مضمون الفيلم. لكن العنوان يربكنا: “سأعبر غداً”، بصيغة المتكلم. من الذي يتكلم هنا؟ هل هو الشهيد الذي سبق المخرج إلى الغياب؟ أم هو باسل نفسه، وقد صار يشعر أن موعده يقترب، وأن العبور بات وشيكاً؟

في كل الحالات، يصبح العبور مجازاً عن الموت في زمن لا يُسمح فيه حتى للجثث أن تُكرّم، أو تُدفن على مرأى من أحبائها.

في هذا السياق، كانت جنازة باسل شحادة نفسه واحدة من هذه الجنازات المحرّمة، فهو كما أسلفنا الذكر قُتل ثم دُفن في حمص من دون ضوضاء.

في مقابلة قبل عودته إلى سورية، يُسأل باسل: “ماذا يعني الوطن بالنسبة لك؟”. يصمت برهة ويكرّر السؤال نفسه مفكراً: “الوطن هو الوطن” ويضحك، ثم يتابع: “إنه سؤال صعب”. اليوم، سقط النظام بعد استشهاد باسل بـ13 عاماً. لا تزال صورته وهو مغمض العينين باسط اليدين، حية في ذاكرة السوريين. هذه الذاكرة التي أمست بعد 14 عاماً من الحرب كما لو أنها مقبرة جماعية.

العربي الجديد

———————————–

في “التنوير” السوري/ معن البياري

03 يونيو 2025

تتعلّق أولى اتفاقيات الاستثمار في سورية مع شركاتٍ عالميةٍ كبرى، وبقيمة سبعة مليارات دولار، بالكهرباء والطاقة الشمسية، كما عوين في مراسم توقيعها في 28 الشهر الماضي (مايو/ أيار) في قصر الشعب في دمشق، وبحضور الرئيس أحمد الشرع. قد يجيز هذا الاستعانة بمجازات التعبير والإنشاء، لإنعاش حالةٍ من التفاؤل تبقى سورية في أمسّ الحاجة إليها، فبالإضافة إلى ما تلبّيه هذه الاتفاقيات من احتياجاتٍ واسعةٍ من الكهرباء والطاقة لتشغيل مصانع ومرافق ومنشآتٍ عديدة، فإنها توفّر إنارةً في الطرق والمنازل، فضلاً عن “خدماتٍ” أخرى عديدة تيسّرها الكهرباء للناس أينما كانوا. وفي الوُسع، هنا، أن يُرى الأمر، على نحوٍ مجازيٍّ مواز، كأن يُؤتى على إحالةٍ إلى شديد الحاجة في سورية لإنارة طرقٍ أخرى، طرق المجتمع، في عمومه، في وجهته إلى إعادة بناء بلده، وإلى تشكيل مؤسّساتٍ سوريةٍ الجديدة، من قبيل أن يكون التنوير عماد العمل العام، الثقافي والسياسي والاجتماعي، والمنطلق الذي تصدُر عنه مختلف المقاربات في التعليم والتأهيل والتخطيط والإدارة والتسيير. أما عن كيفيّات هذا الأمر، والخروج به من مستوى التنظير إلى الأداء والفعل، فأهل مكّة أدرى بشعابها، ولا حاجة لأدمغةٍ وكفاءاتٍ سورية بلا عدد، في بلدها وخارجه، إلى وعظيّاتٍ من صاحب هذه الكلمات.

ولئن اشتغل فلاسفة ومفكّرون كثيراً على مفهوم التنوير، فإن الذي يعنينا، في النهاية، أن نغادر العرَج إياه عند “تنويريين” عربٍ غير قليلين، عندما قصروه على مستوى الخطاب الديني، وصعّدوا ضد “الإسلام السياسي” بالمطلق، فراحوا يُطنبون في الحديث عن “الاستبداد الديني”، بحقٍّ وبغير حقّ، وأغمضوا عيونهم الحوْلاء عن الاستبداد السياسي، فصمتوا عن انقلابيين دكتاتوريين في المنطقة العربية، وخرسوا عن شناعات بشّار الأسد المشهودة. ولئن نفض السوريون عنهم وعن بلدهم استبداد آل الأسد فهذا يجعلهم في يقظةٍ دائمةٍ ضد أي محاولةٍ من أي سلطة، راهنة أو مقبلة، باتجاه الحدّ من الحرّيات، وتزبيط قوانين تنظم أصنافاً وألواناً من التسلّط على المجال العام. وهذا النقاش الواسع الذي يخوض فيه السوريون، وفيه النقد والنقد المضاد، ومطارحاتٌ تعاكس المسار الذي يمضي فيه وإليه الحكم القائم، ومطارحاتٌ أخرى تتعامل مع هذا الحكم بتشجيعه بعد كل خطوة إيجابية، وانتقاده بعد كل قرار يرى سلباً، هذا النقاش يؤشّر إلى مشهد يتصف بمقادير ظاهرة من الحيوية المحمودة، وإن ثمّة ملاحظة هنا أو هناك.

البادي، في الأول والأخير، أن العموم السوري غادر التحديق في هيئة تحرير الشام وأرشيفها، وجبهة النصرة وما كانت عليه، وهم يُعاينون أداء السلطة القائمة، الانتقالية كما يجب التذكير والتشديد، فأولوية الأولويات لدى المواطنين، في مدنهم وقراهم وأريافهم وبواديهم، أن تتوفّر الكهرباء وفرص العمل والتشغيل، سيّما أنهم لم يلحظوا أداءً جهادياً سلفياً (أو سلفياً جهادياً؟) في أداء الرئيس ومعاونيه وحكومته، وإنْ يشدّدوا على واجب الضرورة بأن تتمأسس قوى الأمن وقطاعات الجيش بمهنية واحترافية، فلا تضم عناصر وضبّاطاً لا تعطي الصورة المهابة لها. … ولكن مثقفين في نخبةٍ سورية في البلاد وخارجها يُغريهم المكوث في منطقة ذلك الكلام عن السلفيات و”النصرة” و”أحرار الشام”.

ومع كل الحق في حرية القول لهم ولغيرهم، يحسُن أن يعرفوا أن هذه الموضوعة ليس من مشاغل السوريين، ولا من أولوياتهم واهتماماتهم، لا بدليل استطلاعات رأيٍ وتحقيقاتٍ صحفية، إنما أيضاً بالمعاينة المُشاهدة وبالبديهي الذائع. وعندما يدخل الرئيس أحمد الشرع الإليزيه في باريس ويجتمع به دونالد ترامب في الرياض، وربما يلقي كلمة سورية في الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل، فهذا مما يدفع إلى التخفّف من تلك الحمولات الباهظة، والتي تُثقل على نفوس الذين لم يتصوّروا أن يجلس في قصر الشعب رئيس كنيته السابقة أبو محمد الجولاني، في بلد الحداثة والتجديد في الآداب والفنون والأفكار، ويدفع من قبل ومن بعد إلى التحرّر، كلّيا كما أعتقد، من ذلك الجنوح إلى التأسّي والتأسّف، والذهاب إلى ما يعضُد تفاؤلاً ممكنا (أو مطلوباً ربما؟)، تبشّر به اتفاقياتٌ لم يسبق أن شهدت مثلها سورية، من حيث ملياراتها السبعة، خصوصاً أن بالغ أهميتها أنها في الكهرباء والطاقة، وطاقة السوريين على العمل والبناء مشجّعة دائماً، والنور في أفيائهم واعد دائماً.

العربي الجديد

———————————–

المرأة السورية… معركة مستمرة منذ قرن/ منير شحّود

03 يونيو 2025

كان الاختلاف حول دور المرأة في المجتمع المديني السوري قد ظهر في نهاية عشرينيات القرن الماضي بين الوطنيين والرجعيين، واحتدم في فترة الانتداب الفرنسي، ولم يقبل المحافظون الحرية النسبية التي حصلت عليها النساء، وتظاهروا مستنكرين مظاهر التحرّر في أكثر من مناسبة.

واستطاعت القوى الدينية المحافظة إحباط محاولات تغيير قوانين الأحوال الشخصية في تلك الفترة، ووصل الأمر إلى التحريض على الزعيم الوطني (العلماني) عبد الرحمن الشهبندر، ومن ثم اغتياله على يد أحد المتطرفين عام 1940، بتحريض من بعض رجالات الكتلة الوطنية.

ومع ذلك، حصلت المرأة السورية بعد الاستقلال على حقها في الانتخاب لأول مرة في فترة الانقلاب العسكري الثاني بزعامة سامي الحناوي (1949)، ثم على حق الترشُّح 1953 أواخر عهد الشيشكلي. وهنا من الضروري الإشارة إلى الدور الريادي لأكرم الحوراني حول المساواة والعدالة وإنصاف المرأة في تلك الفترة، فهو القائل، في معرض حديثه عن تعديل قانون الانتخاب: “إنّ المرأة (العربية!) أسلمُ حسّاً وأنزه نفساً وأكثر إنسانية وأشدّ حصانةً من الرجل، وبالرغم من ذلك فهي مضطهدة، كأنها شبه عار” (مذكرات الحوراني، ج 2، ص 1036).

وبالرغم من الحديث عن التقدمية والعصرنة، لم تحدث تحولات اجتماعية عميقة تتعلق بوضع المرأة التعليمي خلال ربع قرن بعد الاستقلال. على سبيل المثال، زادت نسبة المنتسبات إلى المدارس الابتدائية فقط من 29% عام 1946 إلى 34% عام 1969، بينما زادت نسبة المنتسبات إلى المدارس المتوسطة والثانوية من 23% إلى 24% لا غير في الفترة ذاتها، لا بل إنّ نسبة الجامعيات تراجعت من 21% إلى 19% بين عامَي 1952 و1970. فحتى البعث، وإن كان مقتنعاً بضرورة تفعيل دور المرأة في المجتمع، إلّا أنه لم يجرؤ على التدخل في نسيج التقاليد المحافظة والعوائق الدينية. ومع كل الجهود التي بذلها الاتحاد العام للمرأة السورية (تأسّس عام 1967) في محو أمية النساء وتدريبهنّ المهني، ضرباً من تحسين شروط الحياة التقليدية، لم يحدث أيّ تقدم يذكر على صعيد الأحوال المدنية والمساواة القانونية للمرأة مع الرجل (كمال ديب، تاريخ سورية المعاصر، ص 235 – 238).

وفي بداية عهد الأسد الأب، كان ثمة فارق تنموي كبير يجب على المرأة الريفية أن تتجاوزه للاقتراب من حياة المرأة في المدينة، بسبب سوء نوعية الخدمات في الريف أو غيابها، كالكهرباء والاتصالات والصحة، وقد ساعدت القفزةُ التنموية الكبيرة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي في تقليص فجوته. وعندما بدأت الهجرة من الريف باتجاه ضواحي المدن الرئيسة، وقعت المرأة الريفية في بعض الأوساط الدينية في شباك الإسلاميين، بسبب الفقر وضيق العيش، وصار بالإمكان التضييق عليها باسم الدين، ولم يكن ذلك ممكناً في الريف، حيث على المرأة أن تذهب إلى الحقول وتشارك في مختلف الأعمال الزراعية على الأقل، بينما استفادت الريفية في أوساط الأقليات الدينية على نحو خاص من مساحة الحرية التي تُتيحها التقاليد غير الصارمة المتعلقة بالحركة والعمل، وتعزّزت هذه الحرية من خلال انتماء بعض النساء إلى أيديولوجية السلطة التي تشجع على الانفتاح والتحرر بالطريقة التي تخدم توجهاتها. عندئذٍ، حدث شرخ اجتماعي حتى بين النساء من الأصول الريفية ذاتها عند استقرارهنّ في الضواحي، ولو أن العمل المشترك لبعضهن في الوظائف والمؤسسات الحكومية حدَّ من هذا الشرخ.

كما سعى نظام الأسد الأب إلى إحداث توازن بين نساء الريف ونساء المدينة، ونظراً إلى الغياب شبه التام للطبقة المتوسّطة في الريف، كان يجب إنتاج نموذج جديد للمرأة الريفية من الصفر ليصل بها إلى أعلى شرائح الطبقة الوسطى، شريطة أن ترتدي لباس أيديولوجية السلطة بلا مواربة، وهنا يمكن أن تحضر شخصية المترجمة والمستشارة بثينة شعبان مثالاً صارخاً.

وفي المدينة، وضمن لعبة توزيع الأدوار وشق الصفوف، التي برع بها نظام الأسد الأب، كان يجب إبراز (واستيعاب) دورين للمرأة؛ المرأة المتحرّرة من جهة، كشخصية السيدة نجاح العطار، والمحافظة، ممثلة بشخصية الداعية منيرة القبيسية، من جهة ثانية. خدم هذان النموذجان النسائيان هيمنة السلطة في المجتمع، مباشرة بالنسبة للحالة الأولى وعلى نحوٍ غير مباشرٍ بالنسبة للثانية، إذ اضطلعت جمعية القُبيسيات بدور استثنائي في إنتاج الثقافة الذكورية تحت يافطة الدين، فخدمت احتياجات السلطة المستبدة والمجتمع المحافظ في آنٍ معاً.

لاحقاً، أعادت الثورة والحرب خلط الأوراق، وكانت وجهتها العامة في التضييق على دور المرأة، لأن الحرب هي امتداد للثقافة الذكورية بصورة ما، وبقي على المرأة أن تجد في الثغرات الاجتماعية التي تركها المتقاتلون وراءهم منفذاً للقيام بأدوار (وأعباء) اجتماعية جديدة.

يتوقّف الدور المنتج الذي يمكن أن تؤدّيه المرأة السورية في الوقت الحالي على الحدّ من اللون الأيديولوجي الواحد (والمتطرف) الذي تشجع عليه بعضُ أطرافِ السلطة الحالية أو بعض مؤيديها بوصفه نمطَ حياة، ما يضيِّق من مساحة الحرية في الاختيار ويهدّد الدور النسوي خارج البيت، وهو الدور الضروري للمساهمة في عملية التنمية التي يُفترض أن تنطلق بعد البدء برفع العقوبات الدولية التي أنهكت الشعب السوري منذ حوالى خمسة عقود. وإذا أضفنا إلى ذلك التسريحات الأخيرة من الوظائف المدنية، التي تمثل الكوادر النسائية جزءاً مهمّاً منها، فإن الكفاءة الاجتماعية النسوية ستتأثر بشدة، وسينعكس ذلك على المجتمع ككل، ولا تكفي بالطبع بعض التعيينات الجزئية لنساء في مراكز محدّدة للإيهام بوجود مشاركة نسائية ذات شأن.

العربي الجديد

—————————-

البحث عن حسن فتحي/ يعرب العيسى

03 يونيو 2025

لو اخترنا تقسيم الناس بحسب ذائقتهم المعمارية (وكأن الناس لا تكفيهم انقساماتهم) لوزعناهم على نوعين رئيسيين: الزهويين والفتحيين.

والزهويون هم المعجبون “الكثر” بزها حديد المعمارية العراقية الراحلة، والتي تحوّلت أيقونةً عالمية في مجالها بسبب تصاميمها الإبداعية الخارجة عن المألوف، ومبانيها التي تناطح السماء في مدن العصر، من سيدني إلى أوهايو، ودبي ومدريد والرياض وكوبنهاغن، على شكل عباءاتٍ وأمواج بحر وخصور نساء شرقيات.

أما الفتحيون (وأنا منهم) فهم المعجبون بالمعماري المصري الكبير حسن فتحي، الأكاديمي الملقب “مهندس الفقراء”، والذي عاد إلى طرق البناء التقليدية في النوبة بجنوب مصر، ودرس موادها وتقنياتها وتصاميمها، فهم فلسفتها وكيمياءها، ألّف حولها الكتب، وأضاف إليها ما تحتاجه الحياة اليوم، وصمم عشرات القرى والمجمّعات السكنية الصديقة للبيئة، والمتفهّمة للفقراء.

الفارق بين زها حديد وحسن فتحي، أن المبنى الذي تصممه حديد سيكون مفخرة للمكان الذي يحتويه، وتحفة تصلح للاستخدام سطحَ مكتب في أنظمة تشغيل الكومبيوتر، لكنه سيكلّف عشرات ملايين الدولارات لبنائه، وملايين أخرى لاستثماره وتشغيل مصاعده وإنارته ومكيفاته. بينما يكلف المبنى (البيت) الذي يصممه فتحي ألف دولار أو أقل قليلاً، ويمكن أن يبنيه رجل يلف رأسه بكوفية، ويحمل معولاً، ولا يحتاج قبعة صفراء ولا تنويعة آليات كاتربلر.

في سورية اليوم، يمتلئ الفضاء العام بوعود وأحلام عن مشاريع زهوية. زهوية مرّتين، مرّة لأنها من زمرة المعجبين بأبراج زها المتمايلة، ومرّة لأنها تنطلق في الفضاء تحت تأثير زهوة النصر.

والصورة الذهنية عن المستقبل تدور حول أشياء من قبيل برج ترامب، أبراج تجارة، وادي سيلكون، الجميرة، لوسيل. مشاريع بمليارات الدولارات، ثقة مطلقة بأن هناك من يصطفّون في طابور لدفع هذه المليارات التي ستكلفها تلك المشاريع، فيما لو قبلنا بهم.  والتصوّر لا يشمل البناء فقط، بل يتم التفكير بكل شيء وفق هذا المنطق الزهوي: شبكات مترو، صناعة سيارات، روبوتات، مصارف، موانئ، حقول، أفلام، وزراء.. 

ولكن مهلاً، يا أخوتي، نحن سوريون. وسورية ليست دمشق، نحن إذاً تحت القاع بقليل، نحتاج لبديل عن مخيمات إدلب، ولإعادة الزراعة إلى ريف حمص الشرقي، وإعادة الناس وأشجار المشمش إلى غوطة دمشق الشرقية، ونحتاج لإعمار تل أغر وجسر الشغور ودبسي عفنان والدرخبية أكثر مما نحتاج لإكمال ماروتا سيتي، نحتاج إصلاح جسر الرستن أكثر مما نحتاج لاستبدال مبنى محافظة دمشق، نحتاج لسد كضيم في عمق البادية أكثر مما نحتاج لتعبئة المياه المعدنية.

نحتاج حسن فتحي في العمارة والصناعة والزراعة والتعليم والتمويل والصحافة والأمن والشيبس، نحتاج من يرسم لنا مخطّطاً، نستطيع تنفيذه بأنفسنا، وحسب إمكاناتنا، وبالطريقة التي نعرفها، نشمّر عن ساعدينا، نرفع السروال عن أقدامنا، نجمع طيناً من أرضنا، ندوسه ليختلط جيداً بالتبن، نقطعه إلى مكعبات لِبِن، نتركه ليجف في الشمس (في الشمس طبعاً، فمن أين لفقراء مثلنا أن يجففوا الطوب بالفرن؟) ثم نبني بها جداراً.

بأدنى درجات الواقعية، نحتاج في كل شيء لمخططات يستطيع تنفيذها رجلٌ أسمر يحتمل الوقوف في الشمس، لأن لدينا الكثير من الشمس، والكثير من الرجال السمر، والقليل القليل من الترف.

العربي الجديد

————————————

رؤساء أندية رياضية في عهد الأسد… قادة مليشيات وتجّار مخدرات

مازن الهندي

03 يونيو 2025

لعبت الرياضة في سورية دوراً كبيراً في حياة الناس والمجتمع منذ انقلاب حافظ الأسد عام 1970. فبعد عام تأسّست منظمة الاتحاد الرياضي العام، واحدة من المنظّمات الشعبية الرديفة لحزب البعث، من أجل الاهتمام بالقطاع الرياضي والإشراف عليه، وسيلة لاحتواء “الشباب” وغرس الأفكار والقيم الخاصة بالحزب، ممن يمكن أن يكون قد تسرب من نقابات مهنية ومنظمات شعبية أخرى كاتحاد شبيبة الثورة واتحاد الطلبة.

أصدر الرئيس السوري، أحمد الخطيب، في 18 فبراير/ شباط 1971 مرسوماً يقضي بإنشاء منظمّة الاتحاد الرياضي العام، قبل أربعة أيام من انتخاب حافظ الأسد رئيساً للبلاد في أعقاب الانقلاب الذي قام به في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970.

وبحسب المرسوم، تمثل هذه المنظّمة جماهير الرياضيين في الهيئات الشعبية والحكومية وفي النوادي، وتتولى صلاحية التخطيط للسياسة الرياضية والإشراف على تنفيذها، على أن تعمل من أجل تحقيق أهدافٍ عديدة، من أبرزها: “تنمية الوعي الرياضي والمشاركة الفعلية مع وزارات الدولة ومؤسّساتها في تربية أجيال الشبيبة تربية قومية اشتراكية بهدف زيادة الإنتاج ومضاعفته، والدفاع عن الوطن وعن الثورة، والنضال لحشد طاقة الشباب العربي في معركة التحرير وبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد”.

عصر الهواية وتجربة الحمصي

أكثر من عقدين، عاشت الرياضة السورية عصر الهواية، وكان لفظ كلمة (الاحتراف)، الداخلي والخارجي، يعد بمثابة جريمة لا تغتفر، إذ مُنع الرياضيون (وتحديداً لاعبي كرة القدم) من الاحتراف الخارجي، في حين أنهم كانوا يمارسون اللعبة باعتبارها نوعاً من الهواية، بالتزامن مع أعمال أخرى لتأمين لقمة العيش. وخلال هذه العقود، لم يبرز مفهوم دخول رأس المال والسلطة إلى الأندية، لأن العمل كان فيها تطوعياً، ولأن الأندية كانت تتلقى بعض المساعدات المالية (المدرجة ضمن ميزانية حزب البعث وفروعه). لكن ذلك لم يمنع من وجود بعض الاستثناءات القليلة التي كان يشار إليها بصفة (الداعمين أو المحبّين)، سواء من رجالات الدولة ومسؤوليها، أو من خلال تجارها.

وشكلت حالة رجل الأعمال الدمشقي، محمد مأمون الحمصي، حالة فريدة من نوعها، في فترة التسعينيات حين استفاد نادي الوحدة من دعمه المادي من أجل تأمين الدعم اللوجستي لفرق النادي في مختلف الألعاب، وخصوصاً كرة القدم وكرة السلة، وقد استثمر وجوده عضواً في البرلمان السوري (نائب مستقل منذ 1990) من أجل تعزيز شعبيته بين جماهير العاصمة ليؤمن إعادة انتخابه في الدورات التالية، كذلك كانت له كلمة مسموعة ومؤثرة في تعيين أعضاء محسوبين عليه في النادي الدمشقي. وخلال فترة وجوده وتقديمه الدعم، عرف نادي الوحدة نهضة كبيرة على مستوى الجماهيرية، ونجح في كسر احتكار مدينة حلب للقب دوري كرة السلة نحو ربع قرن، كذلك حقق فريق كرة القدم أول ألقابه على الإطلاق من خلال الفوز بكأس الجمهورية لأول مرّة عام 1992.

وفي اللاذقية كان هناك بعض التجارب الداعمة من فواز الأسد المافيوي وابن أخي حافظ الأسد، وكذلك شركة جود في دعم ناديي تشرين وحطين.

إقرار قانون الاحتراف

إزاء الضغوط المتزايدة والانفتاح الإعلامي والرياضي في البلاد بحلول عام 2000، كان لا بد من إحداث تغيير جذري في المنظومة الرياضية، استجابة لرغبة الجماهير في مواكبة التطور الذي طرأ على الألعاب الجماهيرية (بشكل أساسي) في المنطقة المجاورة وفي العالم. وقد استجابت لذلك القيادة السياسية والرياضية، رغبة في الإبقاء على هذا “المتنفّس الشعبي” كما كان يطلق عليه اصطلاحاً، وذلك في وسيلة لإلهاء الناس عن الكثير من المشكلات الاجتماعية الأخرى.

وبالفعل، أُقرَّ قانون الاحتراف الداخلي والخارجي في سورية، ووُضعَت أنظمة وقوانين (خاصة وفريدة من نوعها) بما يتماشى مع سياسة المنظمة الأم (الاتحاد الرياضي العام) وبما يضمن استمرارية هيمنتها على الأندية وقراراتها.

ورغم أن قانون الاحتراف الجديد شجع بطريقة أو بأخرى على دخول رأس المال إلى الأندية، ولكنه قيّد كثيراً ذلك الأمر من خلال حصر الموافقة على قرار تشكيل إدارات الأندية بيد منظمة الاتحاد الرياضي العام، التي كانت تشترط أن يحظى أعضاء حزب البعث بنسبة (50+1) من عضوية مجلس الإدارة في كل الأندية، بما يضمن “حل هذه الإدارات” عند الحاجة، من خلال تقديم هؤلاء الأعضاء لاستقالاتهم (بإيعاز حزبي) ومن دون الحاجة لأي تدخّل (من الجهات العليا) بشكل علني.

تجارب متباينة

عرف العقد الأول من الألفية الجديدة بروز أسماء معينة على مستوى بعض المحافظات والأندية السورية، ورغم أن بعضها كان معروفاً ولم يكن بحاجة للاستثمار (الشعبي) في الأندية لتدعيم مكانته في الدولة، أو الحصول على مكاسب معينة (كالترشح لعضوية مجلس الشعب)، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن عدداً من رجال الأعمال قد استفاد من دخوله القطاع الرياضي، وإبراز دعمه لعدد من الأندية من أجل تعزيز حظوظه ومكاسبه أو (البرستيج) المجتمعي، ومن بين هؤلاء، رجلا الأعمال الدمشقيان خالد حبوباتي وصفوان نظام الدين، وفهر كالو ومعه مرتضى الدندشي ورياض حبال في حمص، وبسام ديري وهاني عزوز ومجموعة ثقة في حلب، ويعقوب قصاب باشي والدكتور غزوان المرعي في حماة، إضافة إلى استمرار ظهور شركة جود في اللاذقية.

وقد تباينت هذه التجارب والنجاحات التي تحققت في عهد كل هؤلاء، والتي راوحت ما بين الوصول إلى نهائي دوري أبطال آسيا (نادي الكرامة 2006) والتتويج بكأس الاتحاد الآسيوي (الاتحاد الحلبي 2010)، إضافة إلى إنجازات أخرى في كرة السلة، مثل فوز نادي الوحدة بلقب أبطال آسيا (2003) وتنظيم نادي الجلاء للبطولة الآسيوية 2009. لكن الرابح الأكبر كان الرياضة السورية عموماً، مع وصول العديد من اللاعبين المحترفين الأجانب إلى الملاعب والصالات السورية التي كانت تمتلئ عن آخرها بالحضور الجماهيري، وهو ما كان يتناسب أيضاً مع الأهداف التي وضعتها القيادة السياسية والرياضية من إقرار قانون الاحتراف.

أمراء الحرب وتبييض الأموال

بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011 انحسر النشاط الرياضي لعدة سنوات، وتحول إلى ما يشبه “الحصّة الدرسية” بعد أن دخلت الأندية غرفة الإنعاش الاقتصادية، إذ عزف الداعمون السابقون عن تقديم أموالهم، فيما هرب آخرون إلى خارج البلاد. وهنا كان لزاماً على الدولة أن توجِد نظاماً جديداً يساعد على استمرار النشاط الرياضي ويمنع توقفه، من خلال العودة إلى تقديم المساعدات (في الحدود الدنيا) لضمان مشاركة الأندية في المنافسات المحلية وبعض البطولات الخارجية، كذلك غضّت الطرف قليلاً عن وصول بعض الأسماء المقرّبة من السلطة إلى مناصب سيادية في الأندية، رغم عدم توفر المعايير الأساسية المنصوص عليها.

وبينما كان من بعض هؤلاء أمراء حرب (حسب التسمية الجديدة لرجال أعمال ظهروا فجأة على الساحة) كانوا يتطلّعون إلى تبييض بعض من أموالهم واكتساب بعض الشرعية (الجماهيرية)، ومن ثم استثمارها في الوصول إلى قبة مجلس الشعب، فإن آخرين كانوا من الداعمين والمعروفين بعشقهم القديم لأنديتهم.

ويمكن الوقوف في هذه الفترة عند أسماء وتجارب من قبيل: غياث الدباس وخالد زبيدي (نادي الوحدة) وائل عقيل (نادي الشرطة) مفيد مزيك والقاطرجي (نادي الاتحاد) سامر فوز (ناديا تشرين وحطين) مدلول العزيز (نادي الفتوة) عمر العموري (نادي الكرامة) إياد السباعي (نادي الوثبة) يوسف السلامة (نادي الوثبة) الشيخ فضل النايف وفادي الحلبي (النواعير والطليعة)، وغيرهم.

بعد سقوط نظام الأسد

على الرغم من أن الفترة التي تلت سقوط نظام الأسد لم تكن طويلة، إلا أن القيادة الجديدة للبلاد لم تجد بداً من الاهتمام بمؤسسات القطاع الرياضي منعاً من انهيارها، ولما في ذلك من أهمية بعدم الانجرار إلى مستنقع التجميد (الدولي) للمشاركات الخارجية، وهي المشاركات التي استثمرت في الماضي للترويج للنظام السابق وتلميع صورته.

وأمام نقص الكوادر وعدم إمكانية تطبيق ما يجري في الكثير من مؤسسات الدولة على قطاع الرياضة، فقد كان لا بد من المحافظة على بعض الوجوه (رؤوس الأموال) الداعمة التي كانت موجودة في عهد النظام البائد، الأمر الذي سمح بعودة غياث الدباس إلى (نادي الوحدة)، محمد كعدان (أهلي حلب) نجيب الفرّا (نادي الوثبة)، مع عودة أسماء أخرى سبق لها أن حضرت في فترة ما قبل 2011.

وبانتظار انتخاب مجالس إدارات اتحادات الألعاب التي حُلَّت، وفي مقدمتها اتحادا كرة القدم وكرة السلة، فإن إطلاق المنافسات الرياضية (المحلية) من جديد قد يتطلب تدخّلاً ودعماً حكومياً، لأن معظم الأندية قد تشكلت إداراتها من رياضيين (قدامى) لا يملكون المال الكافي لدعم أنديتهم ودفع رواتب لاعبيهم، في ظل ضعف الاستثمار (قديماً وحالياً).

ولا تملك الأندية السورية مصادر دخل حقيقية، كما هو حال الأندية في دول أخرى، أو في البلدان المجاورة، إذ لا تملك هذه الأندية ملاعبها الخاصة، فكل الملاعب ملك للدولة، ومعظمها بلا مقرّات حقيقية، وإنما يشغل غرفاً صغيرة، وبالتالي لا متاجر لبيع قمصان النادي ومنتجاته، فضلاً عن عدم وجود أي رعاية للقمصان وعدم وجود أية عوائد للبثّ التلفزيوني، ليبقى مصدر الدخل الوحيد من بيع تذاكر المباريات التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

إدارات هاوية وأندية محترفة

كان كثيرون من خبراء الرياضة السورية يُجمعون على أن المشكلة الحقيقية ليست في الذين تناوبوا على إدارة شؤون هذا الملف عبر السنوات (بالرغم من فساد كثيرين منهم)، ولكن يتعلق الأمر بالمنظومة الرياضية عموماً والقوانين التي لا تساعد على تطوير هذا القطاع الذي يعتبر بالنسبة إلى بلدان عديدة أحد مصادر الدخل القومي فيها.

ومن بين الفجوات الكبيرة المتعلقة بالعمل الرياضي، تولي أشخاص هواة من أصحاب الأموال الذين لا يملكون أدنى مقومات فن الإدارة وشهاداتها، مناصب سيادية في الأندية السورية التي بات أهم مفاصلها (اللاعبون والمدربون) أشخاصاً محترفين.

ومن هذا المنطلق شهدنا عبر ربع قرن من تطبيق قانون الاحتراف أمثلة كثيرة على إقالات لمدرّبين وفسخ عقود للاعبين بسبب أهواء شخصية أو تحت ضغط فئة من الجماهير عبر السوشال ميديا، من دون أن تستند هذه القرارات إلى أية معايير أو تقييمات فنية حقيقية، مع الإشارة إلى أن “تناحر” بعض رؤساء الأندية لتحقيق “برستيج ما” قد أدّى إلى هلاك بعض الأندية في وقت لاحق عند وصول هذا الداعم أو ذاك إلى ما كان يصبو إليه أو إلى حالة الملل، لتتحول هذه الأندية بين ليلة وضحاها من قبلة لأهم نجوم اللعبة المحليين إلى أندية لا تقدر على سد رمق العيش وتنفيذ روزنامتها الرياضية.

وبالرغم من حالة اللاوعي لدى كثيرين من رؤساء الأندية أو الداعمين المتسلطين على إدارات هذه الأندية وقراراتها، إلا أن خبراء الرياضة في سورية يرون أن لا مفر من الوصول إلى قرار بخصخصة الأندية والابتعاد عن الدعم الحكومي أو أيٍّ من أشكال الهيمنة (كما كان يحصل في عهد النظام السابق ومنذ تأسيس منظمّة الاتحاد الرياضي العام)، لتكون هذه الأندية ملكاً لشركات أو أشخاصٍ يتولّون مسؤولية الرفع من شأنها تحت رقابة الجماهير المحبة وحدها.

العربي الجديد

———————–

ميكروفون” الدعاة/ شعبان عبود

03 يونيو 2025

تزايدت أخيراً في دمشق ظاهرة النشاط الدعوي الراجل على الأقدام، أو باستخدام السيارات وتقنيات مكبرات الصوت. نشاط دعوي يقوم به، في أغلب الأحيان، شبان ريفيون متدينون من خارج مدينة دمشق.

لم يكن هذا المشهد معزولاً، لم يقتصر على حالة أو حالتين، بل صار يتكرّر كثيراً، وفي أحياء مختلفة من المدينة، حيث يجوب الدعاة الشوارع، يظنون أنهم بهذا يعيدون الناس إلى الله والإسلام والطريق المستقيم.

هذه الظاهرة التي لم تعتد عليها دمشق وأهل دمشق، أتت في سياق سياسي جديد تمثّلَ بسقوط نظام الأسد والبعث، ووصول إدارة ذات توجهات إسلامية إلى الحكم. هذا التغيير السياسي منح فرصة لتيارات دعوية كانت مهمشة، لتظهر فجأة في المجال العام، من دون ضوابط أو حساسية اجتماعية كافية.

ولكن علينا أن نتذكّر أنه وفي مدينة كدمشق، ذات التركيبة الدينية المتنوعة، يُمكن لمثل هذه الممارسات أن تتحوّل من فعل ديني إلى استفزاز اجتماعي، خاصة بعد أن شهدت بعض الأحياء المسيحية، مثل باب توما وغيره منذ نحو شهرين، توترات اجتماعية واضحة إثر عبور هؤلاء الدعاة فيها، حيث شعر بعض السكان بأن الهتاف الدعوي إعلان رمزي لإعادة “أسلمة” الفضاء العام.

ليس من الصعب نقد هذه الظاهرة من داخل المرجعية الإسلامية ذاتها، فالدعوة، كما أرساها النبي محمّد، لم تكن يوماً صاخبة. كانت سرية في بداياتها، ثم علنية، لكنها قائمة على الحوار والموعظة الحسنة، لا على مكبرات الصوت.

الرسول الكريم نفسه لم يجبر أحداً، وكان يجالس المختلفين، ويصغي، ويُقنع. أما اليوم، فإن هذه الدعوة بهذه الطريقة تُفقد الرسالة جوهرها الإيماني، وتحوّل الدين إلى ضجيج بالنسبة للآخرين من غير المسلمين، وربما لبعض المسلمين الذين يشعرون بثقة في دينهم، ولا يعتقدون أنهم بحاجة لمن يأتي من “الغرباء” ليذكرهم به.

كما أن أحداً لم ينبّه أصحاب هذه “المبادرات” إلى أنهم يقومون بالدعوة بهذه الطريقة في أحياء مسيحية في مدينة دمشق، وهذا يعني أن أهالي هذه الأحياء قد مرّ عليهم عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد وأبو ذر الغفاري وأبو عبيدة ابن الجراح، وابن تيمية ومحيي الدين بن عربي، وبقوا على دينهم. وبالتالي، ما هي الميزة التي يمتلكها هؤلاء الشبان، وتجعلهم يفعلون ما لم يفعله كل أولئك الصحابة والأئمة والفقهاء؟ ومن أين يأتون بالثقة التي تجعلهم يعتقدون أنهم مقنعون أكثر من رجال صدر الإسلام؟

قال جلال الدين الرومي مرّة: “أخفِض صوتك: فالزهر يُنبته المطر، لا الرعد”. وحسب هذا المعنى، فالدعوة، وخاصة الدينية، يجب أن تكون كالمطر، تتطلب رقّة، تواضعاً، وانسياباً. لكن ما يجري اليوم، فهو أقرب إلى الرعد الذي يخيف، لكنه لا يُنبتُ شيئاً.

المفارقة أن هؤلاء الدعاة يعتقدون أنهم يملكون الحق المطلق، بينما لا يدركون أنهم يمارسون تعدّياً على حرّيات الآخرين الدينية والشخصية وقناعاتهم الفكرية والسياسية.

ربما على وزارتي الأوقاف والداخلية والهيئات الدينية الأخرى المعنية، أن تنتبه جيداً لمثل هذه النشاطات، وربما حان الوقت للتفكير في أساليب دعوية بديلة مثل: لقاءات صغيرة في المساجد، حوارات في المقاهي، تواصل رقمي هادئ.

دمشق تستحق اليوم أكثر من الضجيج والصخب. تحتاج إلى الإيمان بها وبما تمثله من قيم تعايش. تستحق من يؤكد أنها بيت للجميع بغضّ النظر عن طرقهم في الوصول إلى الله وشكل عباداتهم. مثلما كانت دائماً.

العربي الجديد

————————–

الاحتلال الطائفي الإيراني في سوريا/ بشير البكر

الإثنين 2025/06/02

راجت معلومات غير رسمية عن قرار السلطة الحالية في دمشق، إلغاء الجنسية السورية لما يقارب 700 ألف شخص من المواطنين في العراق وإيران ولبنان وأفغانستان وباكستان، الذين حصلوا عليها خلال الثورة السورية. وذكرت أوساط إعلامية أن هؤلاء الأشخاص حصلوا على الجنسية، عبر إجراءات استثنائية، في المدّة التي أعقبت بداية الحراك الشعبي، ضد نظام بشار الأسد، مؤكدة أن هذا القرار سيصبح نافذًا خلال وقت قريب، حيث سيتم اعتبار هذه الجنسيات لاغية حُكمًا.

أثارت أوساط سورية معارضة، دينية وسياسية، موضوع التجنيس الطائفي في مرحلة قبل سقوط النظام، وهناك من تحدث عن آلاف المقاتلين من عناصر المليشيات، التي قاتلت إلى جانب النظام، وعلى رأسهم الإيرانيون. وأشارت تقارير إعلامية ومصادر غير رسمية إلى أن النظام منح الجنسية كجزء من سياسات تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية في بعض المناطق الاستراتيجية، خصوصًا تلك القريبة من دمشق أو على طول ممرات النفوذ الإيراني، غالبًا مناطق قرب المراقد الشيعية مثل السيدة زينب، ومناطق أخرى تُعدّ مهمة ضمن الخطط الإيرانية.

من الواضح أن ملف التخريب الإيراني في سوريا لم يتم فتحه بعد. وهو على العموم ثقيل وحافل، ويمكن كتابة مئات الكتب عن العمليات التي قامت بها أطراف رسمية ودينية إيرانية من أجل تغيير تركيبة المجتمع السوري، وكان الهدف منها هو التحكم والسيطرة على سوريا سياسياً من خلال قنوات طائفية، أنفقت المليارات من أجل إنشائها ونشرها في الحواضر والأرياف السنية، وقد استغلت في الأعوام الأخيرة الوضع الاقتصادي السيئ من أجل شراء الولاءات ونشر الدعوات الطائفية، وعدم تدخل السلطات الرسمية من أجل حماية المجتمع السوري من تدخلات إيران.

أبرز العمليات التخريبية التي لا تقل خطورة عن التجنيس هي عملية نشر التشيّع، التي قامت بها إيران على نحو منهجي مدروس لبناء هوية طائفية في سوريا تناسب مصالحها. واستهدفت بذلك الوسط السني، بوصفه بيئة ملائمة ومثالية عددياً، وأكثر قابلية لتقبل البروباغندا الإيرانية، التي قامت على بدعة أن السوريين كانوا يتبعون التشيع قبل الدولة العثمانية، وأقنعت عدداً من القبائل أن أصولها تعود إلى آل البيت، وبنت لذلك مراكز ثقافية وحسينيات تقوم بنشر التشيّع، وأخذت تستقطب العديد من الرموز المؤثرين، وتغريهم برحلات إلى إيران، وتزويدهم بإمكانات مالية ضخمة. ومن هؤلاء شخصيات تحتل مراكز متقدمة في الترتيب الديني الرسمي، مثل مفتي الجمهورية السابق الشيخ أحمد حسون، الذي كان أحد الأذرع الضاربة للنظام ضد الثورة، وله تصريحات يؤيد فيها استعمال النظام للعنف ضد السوريين، الذين ثاروا على سوء الأوضاع، فاعتبر مباشرةً الحراك الشعبي “مؤامرة تستهدف أمن سوريا تقف وراءها جماعات إرهابية”، مشددًا على أن “الإيراني والروسي لم يأتيا مستعمريْنِ، بل مساعديْن معاونيْن”.

وحاول حسون إيجاد تخريجة للمسألة من خلال تقديم نفسه على أنه قادر على جمع المذاهب، ورفض فكرة الصراع السني الشيعي، معتبرًا إياه صراعاً سياسياً، وعلى هذا تم اتهامه بالتغاضي عن نشر التشيّع في البلاد، وتأمين التغطية الدينية له. ومن اللافت أن هذه التُّهمة لاحقته منذ العام 2006 حين نشر العديد من المواقع أخباراً عن تسهيله لنشر التشيع في البلاد.

وتفيد دراسات أن التشيع شهد انفجاراً كبيراً في عهد بشار، ولا يمكن مقارنته بما كان عليه الأمر خلال حكم والده، الذي تعامل مع المسألة بحذر كبير. وفي العام 2001، استؤنف بناء الحوزات بوتيرة غير مسبوقة، ومن دون موافقة إدارية من وزارة الأوقاف، أو التعليم العالي، أو حتى أمنية من أحد أجهزة المخابرات الكثيرة، ليتجاوز عددها 12 حوزة في السيدة زينب وحدها، إلى جانب ثلاث كليات للتعليم الشيعي، كما يوثقها الباحث والكاتب عبد الرحمن الحاج في كتابه “البعث الشيعي” بالأسماء.

دمشق كانت المختبر الرئيس للتشيع، وتحول بعض أحيائها القديمة، قبل سقوط النظام، إلى فضاءات خالصة للشيعة اللبنانيين والعراقيين وحتى الباكستانيين والأفغان، بعشرات الآلاف، يتجولون في شوارعها تحت بند الحج إلى المقامات الشيعية والسياحة الدينية. وانتشرت الطقوس الشيعية في هذه المناطق، ومنها اللطميات ومواكب العزاء ورمي قبر الخليفة معاوية بن أبي سفيان بالأحذية والقاذورات. وترافق ذلك مع حركة شراء للمنازل والعقارات في دمشق القديمة، وهناك أحياء شيعية خالصة كما كان عليه الأمر في السيدة زينب التي باتت توصف بالمستوطنة الإيرانية، كونها تحتضن عدداً من هيئات نشر التشيع مثل “علي الأصغر لشباب كربلاء” و”هيئة المختار الثقفي” و”هيئة شباب البتول الطاهرة” و”هيئة شباب جعفر الطيار” و”هيئة خيام الإمام الحسين” و”هيئة شباب أهل البيت”.

(*) دعا الكاتب بشير البكر لحضور حفلة توقيع كتابه “بلاد لا تشبه الأحلام” في دمشق التي تشبه المعجزات. وذلك في “مقهى الروضة”، الإثنين الثاني من حزيران بين السادسة والثامنة مساء. والحفلة تنظمه “دار نينوى” السورية ومديرها أيمن الغزالي، بالتعاون مع “دار نوفل” اللبنانية التي أصدرت الكتاب.

المدن

———————————–

في سوريا… إصفع القاضي ثم اعتذر!/ مرام أحمد

03.06.2025

يَذكر حسكل في شهادته أن الاعتداء الجسدي عليه تواصل بشكل مبرّح داخل أروقة القسم وعلى الأدراج، حيث تعرّض للضرب بالأيدي والعصي البلاستيكية، ما أسفر عن إصابات في الرأس وكدمات متفرقة في أنحاء جسده. وقد احتُجز لاحقاً في غرفة انفرادية.

“أنت قليل أدب”.

بهذه العبارة توجه عبيدة الطحان، رئيس قسم الأمن العام في حي الصالحين، الى قاضي التحقيق أحمد حسكل على الملأ قبل أن يصفعه. حادثة امتدت تردداتها لأيام عدة، إذ لم ينته الأمر بالصفعة، التي ردّها حسكل للطحان.

هاج الجمع وماج، وضُرب حسكل وأهين واقتيد إلى سيارة الدوريّة بينما يهتف الجمع “شبيح…شبيح”. في بيان نشر ضمن مجموعة “نادي قضاة سوريا”، وتداوله لاحقاً عدد من القانونيين والصحافيين والناشطين، أوضح القاضي أحمد حسكل أن  سجالاً حاداً دار بينه وبين المقدم الطحّان، الذي رفض تنفيذ توجيه قضائي يقضي بنقل جثة في إحدى القضايا التي يحقق فيها إلى الطبابة الشرعيّة وفتح الضبط هناك، ليتحوّل السجال إلى اعتداء جسدي وشتائم. وقد تعرّض حسكل للاعتداء على رغم إبراز هويته وصفته الرسمية، في حين يُفترض أن يُعامل فيه القاضي كممثل للسلطة العليا في الدولة.

صُفع القاضي حسكل لأنه “قليل أدب” بحسب ضابط الأمن العام.

هكذا تدار الأمور ربما في سوريا اليوم. إذ شهدنا تسجيلات موثّقة لعناصر من الأمن العام يصفعون ويهينون معتقلين، ويحلقون شعر “ملطشي البنات”وشواربهم، في مشاهد تُجسّد صعود نمط سلطوي هجين تذوب فيه الحدود بين الدولة والميليشيات المسلّحة.

ما حصل لم يكن مجرد تجاوز فردي، بل كان استعراضاً فجّاً للسلطة الأمنية، تُرافقه سطوة “المجاهد” ـ كما وصفه مُحبّو عبيدة الطحان ـ في مشهد يضع هذه المرجعيات فوق سلطة القضاء والإجراءات القانونية، ويكشف عن توازن مختلّ تُقاد فيه الدولة بمنطق العقيدة والرصيد الثوري.

الضرب والتهديد في سبيل الصمت

يَذكر حسكل في شهادته أن الاعتداء الجسدي عليه تواصل بشكل مبرّح داخل أروقة القسم وعلى الأدراج، حيث تعرّض للضرب بالأيدي والعصي البلاستيكية، ما أسفر عن إصابات في الرأس وكدمات متفرقة في أنحاء جسده. وقد احتُجز لاحقاً في غرفة انفرادية.

وفي صباح اليوم التالي، اعتُدي عليه مجدداً من رئيس القسم نفسه، الذي لم يكتفِ بالضرب بل هدّده صراحةً بالقتل في حال عاد لممارسة مهامه، أو في حال تقدم بأي شكوى، أو حتى إذا تطرّق رفاقه القضاة الى الموضوع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كونه ينفذ خطة “لتصفية قضاة النظام السابق” على حد تعبيره.

وأشار حسكل إلى أن المحامي العام في حلب وقاضي التحقيق الأول حضرا لاحقاً إلى القسم، إلا أنه تعرّض لتعنيف جديد أثناء إخراجه لمقابلتهما، في محاولة لمنعه من الإدلاء بأي تفصيل عما حصل. وأضاف أنه توجّه بعد 24 ساعة من الاحتجاز، إلى القصر العدلي، حيث تفاجأ رئيس العدلية بوضعه، وأبلغ وزير العدل بالواقعة.

وصف الحادثة على لسان حسكل لا يكشف فقط عن سلطة مسلح ذي منصب رسميّ قرر صفع قاض من دون أن يحاسب، بل أيضاً عن تفكيك علني لرمزية القضاء السوري ذاته. قسم بكامله متواطئ وشاهد على ما تعرض له حسكل، الذي تحول من “قليل تهذيب” إلى هدف للتصفية كونه من “قضاة النظام السابق”.

القضية تحولت من اعتداء من رئيس قسم شرطة على قاض، إلى رئيس قسم شرطة يمارس “العدالة الانتقالية” بكفّه.

اعتصام واعتصام مضاد

تحوّلت الحادثة إلى قضية رأي عام داخل المؤسسة القضائيّة، فصباح الاثنين 26 أيار/ مايو، أُعلن تعليق العمل في قصر العدل بحلب، وشارك القضاة والمحامون في اعتصام رمزي داخل المبنى، احتجاجاً على “إهانة القضاء” وللمطالبة بمحاسبة الجاني واحترام سيادة القانون.

طالب قانونيّون باستقلالية القضاء وتطبيق القانون على “كل معتدٍ مهما كانت رتبته”، غير أن قوات الأمن العام تدخلت وأمرت بفض الاعتصام، وأبلغت المشاركين من قضاة ومحامين بضرورة إنهاء الاعتصام والعودة إلى أعمالهم، كما مُنع معظم الصحافيين من تغطية الاعتصام.

في اليوم ذاته، أصدرت وزارة العدل السورية بياناً أكدت فيه توقيف المقدم عبيدة الطحان وفتح تحقيق قضائي في حادثة الاعتداء، مشددة على أن “هيبة القضاء فوق الجميع”. كما نفى البيان صلة القاضي أحمد حسكل بمحاكم الإرهاب الملغاة، في رد مباشر على ما تم تداوله عبر وسائل التواصل. غير أن لغة البيان بدت أقرب إلى محاولة امتصاص الغضب المتصاعد ضمن الأوساط القضائية والرأي العام، بخاصة في ظل تداول أنباء عن تدخل وساطات أمنية ومحاولات لإغلاق الملف ضمن تسوية داخلية تُعيد إنتاج ثقافة الإفلات من المحاسبة.

في المقابل، أصدرت عشيرة الطحّان بياناً أعربت فيه عن استنكارها لتوقيف عبيدة الطحان، واصفة إياه بـ”الثائر الحر”، ومعتبرة أن ما حصل هو نتيجة استهداف من قاضٍ مرتبط بـ”النظام البائد”. وطالبت بالإفراج الفوري عنه وردّ اعتباره، في موقف يضيف بُعداً عشائرياً إلى القضية، بخاصة وأن العشيرة المذكورة من العشائر الكبيرة والفاعلة في مختلف المحافظات السوريّة، منها حلب .

بتبنّيهم خطاب “الثائر الحرّ”، لم يعد أنصار “أبو مجاهد” وعشيرته يدافعون عن شخصه فحسب، بل يعلنون عبر استعراض مقصود لتبدّل ميزان القوى، أن القانون يُعلّق حين يكون رصيد المعتدي النضالي كافياً.

الاعتراف ثم “القصاص أو التعويض”

لم تمضِ 48 ساعة حتى تناقلت الصفحات مقاطع مصوّرة من واقعة الإفراج عن المقدم الطحان وعودته إلى قسمه محمولاً على الأكتاف، عقب ما قيل إنه “صلح” تم التوصل إليه داخل دار التوقيف، من دون صدور أي توضيح رسمي من الجهات المعنية. خلّف الخبر حالة من الإحباط العميق في الشارع السوري، وأشعل موجة غضب جديدة على منصات التواصل الاجتماعي، بخاصة مع ظهور مقاطع فيديو للمقدم الطحان، أحدها يعترف فيه بضرب القاضي وأنه لا يذكر عدد الضربات الذي وجهها له، كما أنه لجأ الى “الشرع”، إذ سأل القاضي رئيس القسم عن “الحكم الشرعي” لمثل هذه الحالة، فأجابه رئيس القسم “القصاص” أو”التعويض”.

وفي مقطع فيديو آخر، صرّح بأن المؤسسة القضائية “ملك للشعب”، وأن من قدّم مليون شهيد لن يقبل أن يظلّ “الفاسدون” في مناصبهم. ولاحقاً، اختار القاضي التنازل عن حقه، ما يعكس انتقالاً مريباً من سلطة القانون إلى سلطة يطغى عليها منطق غلبة الأقوى و”تبويس الشوارب”، والتي تبدو في ظاهرها رسمية، لكنها خاضعة فعلياً لمنظومة موازية ذات طابع ديني–فصائلي .

وتزامن الإفراج عن الطحان مع خروج مجموعة من الداعمين له في وقفة أمام قسم شرطة الصالحين، متهمين القاضي بـ”التطاول على الضابط الأمني”، العبارة التي تثير القشعريرة حين تقال في سوريا. كما اعتبر بعض المشاركين أن توقيف الطحان بحد ذاته إهانة، لكونه “أخاً مجاهداً” و أنه كان “أحد الثوّار خلال سنين الثورة”، مشيرين إلى أن سلوكه تجاه القاضي جاء كرد فعل على “لهجة متعالية” تحدث بها حسكل مع العناصر.

تحركت بوجه القاضي/الضحية قوى عدة متحالفة في تقويض فكرة العدالة، سطوة “المجاهد” المفوّض بالتأديب، والمؤسسة الشرطية/الأمنية، والحشود الغاضبة التي تصب غضبها في قالب “التشبيح” الجاهز، وذراع العشيرة التي أصدرت بياناً تعرب فيه عن “قلقها”، وهنا السؤال: من يمكن أن يقف بوجه قوى السلاح والعقيدة والعشيرة والثورة ليطالب بـ”حقه”؟

تداعيات الحادثة

وسط هذا الانقسام، أصدر مجلس فرع نقابة المحامين المؤقت قراراً بتجميد عضوية 64 محامياً وإحالتهم إلى التحقيق بتهم تتعلق بمخالفات مهنية و”الولاء للنظام السابق”، وهو ما أثار تساؤلات واسعة حول توقيت القرار وشرعيته، بخاصة أنه جاء بعد ساعات من اعتصام القضاة والمحامين احتجاجاً على الاعتداء على القاضي أحمد حسكل، ما اعتُبر محاولة لصرف الأنظار عن الانتهاك الرئيسي المتعلق بحرية القضاء واستقلاله.

كما شكّل فرع نقابة المحامين بدمشق لجنة مؤلفة من سبعة محامين للتحقيق في شكاوى تتعلق بمخالفات ارتُكبت خلال فترة الثورة، تشمل الاعتقال والتعذيب والانتهاك بحق المحامين والمواطنين. وذلك درءاً لأي تجاوزات وحمايةً لهيبة المهنة ومقتضيات العدالة الانتقالية. لاحقاً، اعتذر أحد أعضاء اللجنة خشية أن تتحوّل مشاركته – بحكم تجربته الشخصيّة في الاعتقال والتعذيب في عهد النظام البائد- من عدالة انتقاليّة إلى عدالة “انتقاميّة”.

بينما صدر قرار عن فرع نقابة المحامين بريف دمشق، نص على إحالة جميع المحامين الذين أدوا خدمتهم العسكريّة أو الأمنية ضمن أجهزة النظام السابق إلى لجنة تحقيق، وذلك بهدف مراجعة قانونيّة استمرار عضويتهم في النقابة، مع فرض استيفاء مبلغ وقدره 10 في المئة من قيمة بدل الخدمة الإلزامية لكل محامي سبق أن دفع البدل، مع منحهم مهلة مدتها شهران لتسوية أوضاعهم.

فرض “جزية” على من اختاروا النجاة، ومعاملتهم كممولين مباشرين للنظام مع تجاهل السياقات المعقّدة التي دفعتهم لذلك، يُفرغ العدالة من مضمونها الحقيقي، ويستبدلها بمنطق الجباية والترضية، في محاولات متخبطة لامتصاص الغضب الشعبي وإجراءات شكليّة لا تداوي الانقسام، بل تعمّقه.

تعيد هذه الحادثة التساؤلات حول مدى استقلال السلطة القضائية في سوريا المضمون بالإعلان الدستوري، في ظل نفوذ أمني يتجاوز القانون ويقوّض مبدأ الفصل بين السلطات. فعلى رغم بيانات الإدانة الرسمية، فإن إطلاق سراح المعتدي، وتحوّل القضية إلى شبه اتهام للقاضي نفسه، يكشفان هشاشة المؤسسات أمام النفوذ الأمني.

حتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم يظهر القاضي أحمد حسكل علناً. في المقابل، تشير مصادر محلية إلى أن المقدم عبيدة الطحّان عاد إلى مكتبه واستأنف عمله بشكل طبيعي. وفي خطوة تبدو أقرب إلى الاعتراف بعجز الدولة عن حماية أهم رموز سلطتها، طالب رئيس النيابة العامة بدمشق، محمد خربوطلي، بضمان الحماية الكاملة للقضاة أثناء أداء مهامهم، كخطوة أولى لاستعادة “الثقة” بالمنظومة العدلية.

درج

———————————

الصحافة في سوريا ما بعد الأسد: حرّية وفوضى وقيود متجدّدة/ مناهل السهوي

02.06.2025

هذا البلد الممنوع عن الصحافة سوى تلك التي تُحابي حكم آل الأسد، شهد انقلاباً هائلاً بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وتدفّقاً غير مسبوق للصحافة الغربية والعربية، وتسارعت عجلة الأخبار مدعومة بآلاف التقارير المكتوبة والمصوّرة والمقالات والمقابلات.

“أحياناً يُفرض وجود مرافق من الأمن العامّ، بحجّة “أسباب أمنية”، ونتيجة لذلك يمتنع الناس عن الحديث معنا بحرّية، ويُمنع أحياناً الحديث مع بعض الأشخاص”، تقول صحافية فرنسية تغطّي الشأن السوري لـ”درج” عن طبيعة التعقيدات التي تواجهها خلال عملها. الصحافية فضّلت عدم الكشف عن اسمها، وربطت الأمر بقلقها من احتمال عرقلة دخولها أو تغطيتها إن تحدّثت باسمها الصريح علناً.

الأمر نفسه أكّده الصحافي السوري سامر (اسم مستعار) عن شعوره بالارتباك جرّاء المتابعة اللصيقة، التي تمارسها الأجهزة الأمنية التابعة للإدارة السورية: “أحياناً يجلسون بجوارنا في المطعم، ويراقبوننا بصمت. لا يريدون تكرار إرث الأسد علناً، لكنهم يواصلون مراقبتك، ما يجعلك تشعر بعدم الارتياح”.

ليس بلا دلالة اختيار عدد من الصحافيين والصحافيات الذين قابلناهم نشر إجاباتهم بأسماء مستعارة، فعدم الرغبة في التحدّث علناً، مؤشّر على تصاعد الحذر والارتياب، ودليل على تخبّط أهل المهنة في تعاملهم مع حدث معقّد كالحدث السوري.

قيود بيروقراطية تُعيق عمل الصحافة

شهدت الصحافة السورية تحوّلاً كبيراً منذ سقوط الأسد. البلد كان معزولاً تقريباً عن العالم بفعل ديكتاتورية حزب “البعث” وحكم آل الأسد، التي أطبقت على المساحات العامّة، وتحديداً الصحافة، على نحو دفع بالسوريين في مطلع ثورتهم في عام  ٢٠١١ إلى تغطية احتجاجاتهم ضدّ قمع النظام وقتله لهم، بهواتفهم ووسائلهم الذاتية، بعد فرض حظر على الإعلام.

هذا البلد الممنوع عن الصحافة سوى تلك التي تُحابي حكم آل الأسد، شهد انقلاباً هائلاً بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وتدفّقاً غير مسبوق للصحافة الغربية والعربية، وتسارعت عجلة الأخبار مدعومة بآلاف التقارير المكتوبة والمصوّرة والمقالات والمقابلات.

نظام الأسد كان من أكثر الأنظمة القمعية التي حاربت الصحافة وتحكّمت بالإعلام، في حين أظهرت الحكومة الجديدة مرونة أكبر، مؤكّدة مراراً دعم حرّية الصحافة والإعلام، وتجلّى هذا بمساحات نقاش محلّية ونقد لا يزال في غالبه عبر صفحات السوشيال ميديا، علماً أن الإعلام الرسمي لم يبدأ بالعمل سوى مؤخراً،  مع ذلك، لا تزال هناك عوائق على الأرض تواجه الصحافيين.

يواجه سامر، وهو صحافي يعمل مع مؤسّسة إعلامية عالمية، صعوبات مرتبطة بالتصريح الدوري المطلوب من وزارة الإعلام، وهو تصريح مدّته أسبوعان فقط، لا يشمل زيارة كلّ المناطق السورية، ويتطلّب إجراءات بيروقراطية مرهقة، كما أنه يقتصر على الأماكن العامّة، ما يؤدي إلى إهدار وقت الصحافيين وجهدهم.

تقول راما (اسم مستعار) وهي صحافية مستقلّة: “لكي أحصل على التصريح عليّ أن أُخبرهم بالتفصيل إلى أين سأذهب، ولماذا. بعض المواضيع، خصوصاً تلك المرتبطة بوزارات أو جهات حكومية، لا تفضّل السلطات تغطيتها، بخاصة مع الصحافيين المستقلين. كثيراً ما يُرفض طلب التصريح، أو يُفرض علينا الذهاب إلى مكان محدّد بدلاً من المكان الذي نريده، كما يصرّون على معرفة كلّ ما فعلته أحياناً، وحتى طلب إرسال اللقاءات”.

عند الحاجة لأي تصريح من مؤسّسة حكومية، يُحال الصحافي إلى مكتبها الإعلامي، الذي ينسّق المقابلات والمواعيد بعد طلب تفاصيل دقيقة للغاية.

يروي سامر: “طلبت مقابلة مع مدير مديرية المياه في ريف دمشق، فجاء الرد: “أخبرنا أولاً بالمواضيع التي تنوي طرحها، وسنوجّه له الأسئلة، ثم نعود إليك بالإجابات، وإذا لم نعد، فلن تتمّ المقابلة أصلاً”، ويشرح “هذا يدفعنا كصحافيين إلى الاعتماد على علاقاتنا الشخصيّة، أو حتى تسلّق الأسطح مجازاً، للحصول على المعلومة”.

ومن القيود الأخرى، ضرورة الحصول على تصريح خاصّ لكلّ محافظة. فعلى سبيل المثال، عندما أراد سامر العمل في حمص أو السويداء لمتابعة عمليات القتل الطائفي التي حصلت هناك مؤخراً، طُلب منه مراجعة المكاتب الإعلامية هناك، وتعرّض لسيل من الأسئلة: لماذا؟ مع من ستعمل؟ كم يوماً ستبقى؟ ما الهدف؟ يقول سامر: “هذا ليس مجرّد تدقيق، بل إغراق في التفاصيل لإرباكنا”.

يعتقد بعض الصحافيين أن هذه السياسة مقصودة لتعطيل عملهم، بينما يرى آخرون أن الحكومة لا تزال تفتقر إلى الأدوات الكافية للتعامل مع الصحافة.

تضييقات في تغطية أحداث الساحل

تبدو هذه الإجراءات البيروقراطية – برأي سامر وراما – طريقة غير مباشرة للتضييق، لكنّها تتحوّل إلى تضييق مباشر في أحيان كثيرة، إذ يقول سامر: “هناك مستويان: أولاً، بعض الوزارات السيادية لا تُتيح المقابلات أصلاً. ثانياً، بعد مجازر الساحل، ورغم فتح الطرقات لاحقاً، لم يُمنح أي تصريح للعمل في محافظات كطرطوس أو اللاذقية أو حتى في بلدات صغيرة كجبل بانياس”، ويضيف: “كان الأمن يتعقّبنا، لا يقولون لا تعملوا، لكنّهم يعطون إشارات مبطّنة مثل: لا تذهبوا إلى الشارع الفلاني، الوضع غير مستقرّ”.

ويتابع: “قالوا لنا: لا تذهبوا إلى تلك المنطقة لأن الفلول (أتباع الأسد المخلوع) موجودون هناك. كان يمرّ أحدهم كلّ نصف ساعة ليسألنا: ماذا تفعلون هنا؟، ما يخلق بيئة من التوتّر الدائم وعدم الأمان، وفي كثير من الحالات، طلبوا منا تجنّب أحياء أو شوارع معيّنة”.

ومع التعاون مع وسائل إعلام دولية كـ”نيويورك تايمز” أو “الغارديان”، تصرّ الحكومة السورية على وجود مرافق أمني دائم. يقول سامر: “يجلسون بجوارنا في المطعم، يراقبوننا بصمت. لا يريدون تكرار إرث الأسد علناً، لكنّهم يواصلون مراقبتك، ما يجعلك دائماً على حافّة القلق”.

هذه المضايقات لا تطال الصحافيين السوريين فقط، بل الصحافة الغربية أيضاً. تقول ماريا (اسم مستعار لصحافية فرنسية تعمل داخل سوريا): “كانت القيود المفروضة من وزارة الإعلام واضحة، خصوصاً خلال أعمال العنف في الساحل. فمنذ كانون الثاني/ يناير، ترفض وزارة الخارجية منح اعتماد للصحافيين الراغبين في السفر إلى الساحل من دون تقديم مبرّرات، ونتيجة لذلك، مُنع السفر رسمياً، رغم أن بعض الصحافيين تمكّنوا من التغطية. وزارة الخارجية أبلغتنا أن السفر إلى مدينة من دون اعتماد رسمي، قد يؤدّي لاحقاً إلى رفض تأشيرة دخول جديدة، وهو ما حدث فعلاً مع كثيرين بعد موجة العنف”.

وتضيف ماريا: “رابط طلب التأشيرات عبر الموقع الإلكتروني توقّف عن العمل بالتزامن مع أحداث الساحل، ما حال دون تغطية الكثير من الصحافيين”.

الحصول على مقابلات في بعض الوزارات صعب أيضاً، وغالباً ما يُواجه الصحافيون بمواعيد مؤجّلة من دون رفض صريح.

وتتابع ماريا: “يبدو أن السلطات، عبر وزارة الإعلام، تطّلع على الموادّ التي ننشرها، وتبني تعاملها لاحقاً على أساس مضمونها، لكن لم يمنعني أحد من النشر”.

صحافيون يتردّدون في إعلان طوائفهم

رغم تصريحات مسؤولي الحكومة مراراً بأنهم يحاربون الطائفية، تؤكّد راما أنه طُرح عليها مراراً سؤال: “من أين أنتِ؟”، وهو ما ترى فيه محاولة لمعرفة طائفتها أكثر من كونه سؤالاً عن مسقط رأسها.

تقول: “هذا السؤال لم يكن يُطرح سابقاً بهذه الصيغة المباشرة. أشعر اليوم أن الهدف ليس التعارف، بل معرفة طائفتي. أحياناً أضطرّ لإخفاء بعض التفاصيل أو تغيير منطقتي الأصلية، لأنني أعرف أن هذا قد يؤثّر على مدى تعاون الشخص معي”.

التشهير: سلاح ضدّ الصحافيات

بات شائعاً مؤخراً حملات التشهير ضدّ الصحافيات والناشطات، التي يقودها في كثير من الأحيان إعلاميون مقرّبون من السلطة الجديدة.

تقول راما: “لاحظت ظهور ما يشبه حرب فيسبوك، أو حرب على وسائل التواصل الاجتماعي، لم يكن هذا ظاهراً في مناطق النظام سابقاً، ربما لأن التعبير عن الرأي لم يكن مسموحاً أصلاً. الآن، صار الخوف ليس من الدولة فقط، بل من حملات التشهير هذه”.

وتتابع: “أنا من الأشخاص الذين صاروا يخشون التعبير عن آرائهم السياسية، أو حتى الإنسانية. أخشى التشهير أكثر من أي شيء، لأنه لا يأتي من باب النقد المهني، بل من باب السمعة، أو الشرف”.

الصحافيون الأجانب… امتيازات لا ينالها السوريون

أجمعت راما وماريا على أن الصحافة الأجنبية تحظى بمعاملة أفضل نسبياً. تقول ماريا: “لم أشعر يوماً بأنني في خطر كصحافية أجنبية في سوريا، بل العكس. أشعر أن وجودي يمنحني حماية وامتيازات لا يحظى بها الصحافيون السوريون. للأسف، سُجّلت عدّة حالات اعتداء على صحافيين سوريين”.

في المقابل، يشعر الصحافيون السوريون بأنهم عرضة للمضايقات فقط لأنهم سوريون. تروي راما حادثة جرت معها في حمص: “كنت أرافق صحافيين إيطاليين كمترجمة، حاولنا دخول أحياء علوية مغلقة أمنياً عبر السير في الأحياء السنّية لتجنّب الحواجز، أوقفنا مسؤول محلّي وبدأ بمساءلتنا بعدائية لأنه ظنّ أننا سوريون. اضطررت للتظاهر بأني إيطالية سورية لا أتحدّث العربية، باستخدام جواز زميلتي، حين صدّقوني، تغيّرت معاملتهم كلياً. علّمتني التجربة أن الهوّية قد تنقذ أو تودي بصاحبها، وما زلت أشعر بعدم الأمان في المناطق المتوتّرة”.

 – كاتبة وصحفية سورية

درج

———————————-

مقاتلون أجانب في سوريا: لسنا موظفين في شركة تغيّرت إدارتها!/ فراس دالاتي

03.06.2025

“جئتُ إلى الشام مهاجراً في سبيل الله عام 2012، عابرًا الجبال والحدود عبر تركيا إلى الشام. تركتُ ورائي أمي وأبي وإخوتي ولغتي ووطني. لم يبقَ لي من هذه الدنيا إلا بندقيتي وإخوتي في الخنادق. سلكنا دروب التغيير [مع هيئة تحرير الشام] حتى أصبحنا ما نحن عليه اليوم تحت راية الشيخ أبو محمد. كان الحزب الإسلامي التركستاني موطني”.

منذ أن دخلت قوات إدارة العمليات العسكرية دمشق فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر وأمسكت بمفاتيح “قصر الشعب” عند ظهيرته، تشاركت الأطراف الإقليمية والدولية موقفاً موحداً على رغم الاختلافات المتباينة على حصة كل منها من كعكة سوريا الجديدة: نبذ المقاتلين الأجانب، وكلٌّ حسب أسبابه.

اختلفت المواقف كون أولئك “المهاجرين” لم يأتوا للوقوف عند “حدود سايكس بيكو المصطنعة” التي تحكم دول جوار سوريا، فيما دول “محور الاعتدال الخليجي” ترى في أولئك المقاتلين تقويضاً لمشروع التغيير الذي يقوده محمد بن سلمان منذ عقد، أما الولايات المتحدة، فموقفها يفسر بارتباط كثير من هؤلاء المقاتلين بتنظيم القاعدة، عدوّها الأول منذ مطلع الألفية.

لكن أميركا ترامب تقلبت بموقفها من المسألة مع تقلُّب موقف زعيمها وإدارته من حكام سوريا الجدد، إذ بدأ الأمر بمطالبة نبذهم كلياً، ثم تحول إلى عدم تسليمهم “مناصب عليا” في الدولة بعد ورود أنباء عن تنصيب تركي وأردني قادةً للحرس الجمهوري وفرقة دمشق التي حلَّت بديلاً عن فرقة ماهر الأسد الرابعة سيئة السمعة، ثم عادت وطالبت بطردهم جميعاً كشرط لتخفيف العقوبات، لينتهي الحال بما كشفته وكالة رويترز عن إمكانية دمجهم في الجيش السوري الجديد شريطة فعل ذلك بـ “شفافية ومسؤولية”، أيّاً كان يعني ذلك!

انحصر ما كشفت عنه رويترز بمقاتلي الحزب الإسلامي التركستاني الذي أعلن حلَّ نفسه ضمن وحدة في الجيش السوري الجديد، وعلى رغم أنهم الكتلة الأكبر و”القوة الضاربة” التي ربما تتحول إلى “فرقة مهام خاصة”، إلا أنَّهم ليسوا الوحيدين الذين باتوا يقاتلون تحت علم البلاد وسيرددون نشيدها الوطني الجديد الذي لم يُكتب بعد.

من هم المقاتلون الأجانب؟

يقول مصدر من وزارة الدفاع السورية لـ “درج”، إنه إلى جانب المقاتلين الأويغور (التركستان)، وهم الفئة الأكبر، يأتي الشيشان، ومن ثم المقاتلون العرب الآتون في معظمهم من دول الخليج والأردن ومصر وتونس والمغرب، يليهم الأوروبيون وجلّهم من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. إلا أنَّ أعداد الأخيرين ضئيلة جداً، إذ عاد عدد كبير منهم إلى بلدانهم، وفقًا للمصدر. كما يوجد مقاتلون أفراد من جنسيات مختلفة من آسيا الوسطى.

ويشير المصدر نفسه إلى أن أبرز الجماعات التي توصلت وزارة الدفاع إلى تفاهمات أولية معها لحل نفسها والانضمام إلى الجيش الجديد، إلى جانب الحزب الإسلامي التركستاني، هم فصيل أنصار التوحيد (حوالي 200 مقاتل)، وفصيل أجناد القوقاز (حوالي 250 مقاتلاً)، وفصيل أجناد الشام (حوالي 300 مقاتل شيشاني).

لكن كثيراً ما سمعنا عن المقاتلين الأجانب في صفوف الدولة/الهيئة وقليلاً ما سمعنا منهم، خصوصاً في ما يتعلق بسؤال مصيرهم الذي أضحى شأناً عالمياً بعدما شرَع بعضهم بافتتاح الأفران ومطاعم السوشي والبحث عن الحياة بعيداً عن “الجهاد”.

وبينما قال المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس بارّاك إن المقاتلين الأجانب المنضمين حديثاً الى الجيش “موالون جداً” للإدارة الجديدة، أباحت أصواتٌ أخرى منهم لصحيفة واشنطن بوست بمواقف مغايرة ضد “رفيق سلاحها السابق” الأسبوع الفائت، إذ نقلت عن أحد المقاتلين الأوروبيين قوله إن “الجولاني يهاجمنا من الأرض، وأميركا من السماء”، مستخدماً الاسم الحركي لأحمد الشرع الذي تبناه بين 2013 و2024 عندما نال البيعة.

هل “لكل إنسان وطنان، وطنه الأم وسوريا”؟

نتلّمس ملامح الخيبة وضياع الهوية لدى بعض المقاتلين في ظل غياب الحديث عن منحهم الجنسية السورية مع عضوية الجيش. إذ يحكي إسماعيل بعربيةٍ بليغة، وهو مقاتل أويغوري من تركستان الشرقية، ويخدم حالياً في مدينة اللاذقية في حديث لـ”درج”: “جئتُ إلى الشام مهاجراً في سبيل الله عام 2012، عابرًا الجبال والحدود عبر تركيا إلى الشام. تركتُ ورائي أمي وأبي وإخوتي ولغتي ووطني. لم يبقَ لي من هذه الدنيا إلا بندقيتي وإخوتي في الخنادق. سلكنا دروب التغيير [مع هيئة تحرير الشام] حتى أصبحنا ما نحن عليه اليوم تحت راية الشيخ أبو محمد. كان الحزب الإسلامي التركستاني موطني”.

يتحدث إسماعيل عن رحلته قائلاً: “لم نكن مجرد ضيوف في بلاد الشام، بل كنا درعها وسيفها. سالت دمائي في معارك حلب، واهتزت الأرض تحت قدميّ في إدلب، ودفنت رفاقي بيدي في سهل الغاب. وقفت إلى جانب رجال الشام حين خاف أهلها، وتحملت الجوع والحصار معهم. رأيت طفلي ذا الأربع سنوات يكبر في ترابها”.

وعندما سألناه عن رأيه في الضغوط الدولية الحالية على الشرع لإبعادهم، قال: “بعد كل هذه المعاناة، وبعدما تغيّرت السياسات وتغيرت الأعلام، أشعر أن ظهري مكشوف. كأننا نُسينا. كأن المهاجر الذي ضحى بكل شيء أصبح عبئًا. نُهمّش ونُراقَب ويُطلب منا الصمت. نُطرد بصمت من جبهات القتال، وتُجرى المفاوضات بدوننا”.

يضيف: “نسمع اليوم همسات عن تسوية قد تُدمجنا في فرقة جديدة من الجيش الجديد… وكأننا موظفون جُدد في شركة لا نعرفها. أين حقوقنا؟ أين ولاء الدولة لمن دافع عنها في أحلك أيامها؟ هل هذا جزاء الصدق؟”.

يقول مقاتلٌ طاجاكيّ آخر التقاه “درج” على باب أحد الأفرع الأمنية الشهيرة في دمشق رفض الإفصاح عن اسمه: “لا أطلب الكثير. لا أريد منزلاً ولا راتباً. أطلب الاعتراف فقط. جنسية تضمن لابني أن يذهب إلى المدرسة منن دون أن يُسأل إن كان أجنبياً. وإن مرضتُ، فلن أموت على باب المستشفى لأني (أجنبي)، أريد أن أُحسب من أهل الشام، فلم يعد لي وطن سواها”.

مغامرة إعادة النظر في الأيديولوجيا

زار “درج” بعض نقاط التفتيش العسكرية على جبل قاسيون، المُطل على دمشق، والمُقابل للقصر الرئاسي. وهي منطقة تولَّت مسؤولية حمايتها فرقة الحرس الجمهوري منذ عام 1973. فهناك تمترس عددٌ من المقاتلين الأجانب منذ الأيام الأولى لسقوط الأسد؛ كانت هناك نقطتا تفتيش على الطريق الرئيسي، يحرس كلاً منهما حوالي ستة مقاتلين. تحدث إلى أربعة منهم، ثلاثة من الأويغور وواحد من الطاجيكيين. أكدوا جميعاً أن “هذه نقاط تفتيش تابعة للجيش السوري”، لكن لم يُفصّل أيٌّ منهم أكثر من ذلك.

يطمئن الباحث عباس شريفة، الخبير في شؤون الجماعات الجهادية، قرّاء رويترز ومن نقل عنها، من تطرّف المقاتلين الذين تم ضمهم إلى الجيش، لكونهم “أظهروا ولاءهم للقيادة السورية” وتمت “فلترتهم أيديولوجياً”، ويضطلع بهذا الدور، بحسب مصادر “درج”، المستشار الإعلامي للرئاسة حسن الدغيم، الذي شغل لسنوات منصب مسؤول إدارة التوجيه المعنوي في الجيش الوطني التابع لتركيا، الذي يعقد منذ أسابيع جلسات “تدجين” أيديولوجيّة مع مقاتلين لطالما عدّوه “مرتدّاً”.

– كاتب وصحفي سوري

درج

———————————

انقراض «فلورا الشامية» يهدد الثروة الحيوانية في سوريا

سلالة نقية دفعت ثمن العقوبات وسياسات جائرة

 دمشق: سعاد جرَوس

3 يونيو 2025 م

حذر خبراء زراعة في سوريا من انقراض وشيك لـ«البقرة الشامية» بشكلها النقي «فلورا»، كواحدة من السلالات النادرة في العالم، وناشدوا الجهات المعنية بحماية الحيوان محليا وعربيا ودوليا إنقاذ «البقرة الشامية»، والسلالات الحيوانية النقية في سوريا التي تضررت جراء الحرب والعقوبات الاقتصادية المزمنة.

المربي نور الدين حبوش الذي يملك مزرعة في الغوطة الشرقية على أطراف العاصمة، كان يملك قطيعاً كبيراً من الأبقار قبل الحرب، وقد تقلص إلى أقل من الربع بسبب «الجراد السوري الذي إذا حلّ بأرض حولها صحراء»، ملمحاً إلى ممارسات جيش النظام السابق في التدمير والسرقة. وقال إنه لولا إصراره وعائلته على البقاء في الغوطة خلال الحرب لما بقي للمزرعة أثر، لافتاً إلى أن الموطن الأصلي للبقرة الشامية هو الغوطة، فهي تتغذى على الأعشاب الخضراء النظيفة، ولا تأكل أعشاباً داستها الأرجل، كما تأنف الأعشاب الضارة، ما يجعل لحومها وحليبها آمنين وصحيين جداً.

ولفت حبوش إلى أن أهالي الغوطة كانوا يتناولون حليب البقر الشامي «البلدي» نيئاً دون غلي، ويعدون منه وجبة «المغطوط»، وهي إغراق رغيف خبز التنور بطبقة دسم الحليب النيء ورشها بالسكر.

ولكن، هذه «المجموعة من الحيوانات الزراعية هي اليوم على حافة الانقراض» بحسب الباحث بسام عيسى، الاختصاصي في التحسين الوراثي للأبقار في كلية الزراعة بجامعة دمشق. وقال: «أهم الأسباب عدم الاهتمام، وأبرزه عدم إخضاع هذه الأبقار لبرامج تطوير وراثي لتكون منافسة للعروق الأجنبية، لا، بل أخضعت في العقود الماضية لبرامج تهدف للتخلص من مورثاتها وإحلال المورثات الأجنبية مكانها».

وأشار عيسى إلى أن مبرر عدم الاهتمام كان عدم الجدوى الاقتصادية استناداً إلى إنتاجها الكمي من الحليب من دون الانتباه إلى مزاياها الأخرى التي تتفوق فيها على الأبقار المستوردة. ويضاف إلى ذلك معاناة الأبقار الشامية من نقص التغذية الكمية والنوعية بسبب العقوبات المفروضة على سوريا، حيث أثر غلاء الأعلاف وعدم تحسين سعر منتجاتها من الحليب مقارنة بحليب الهولشتاين لغناها بالدسم والبروتين وزادا عزوف المربين عن تربيتها، كما أسهمت النزاعات العسكرية في سوريا بخفض أعدادها من خلال ذبحها أو سرقتها وتهريبها إلى خارج سوريا.

وتشكل الأبقار نسبة 30 في المائة من الإنتاج الزراعي في سوريا. وكانت تعد عام 2010 حوالي مليون و111 ألف رأس تنتج ما يتجاوز 2.8 مليون طن من الحليب، تراجعت إلى 855 ألف رأس عام 2022، بحسب الأرقام الرسمية.

ولفت عيسى إلى أن «الموارد الوراثية المحلية سواء حيوانية أو نباتية هي ثروات أحيائية واقتصادية وثقافية، وتنوعها صمام أمان أمام التغيرات المناخية التي يتوقع أن تكون أشد في المستقبل».

محمد الحموي المهتم بشؤون البيئة والأنواع الحيوانية مثل «الفلورا» والصناعات الجلدية، وهو متطوع لإنقاذ سلالة «البقرة الشامية»، تحدث بأسف عن إهمال السوريين للبقر الشامي والبلدي، بينما إسرائيل تقوم بسرقتها عبر الجولان، والعمل على تحسينها، كما يتأسف الحموي لفقد البيئة السورية الشديدة التنوع العديد من السلالات الحيوانية كالحمار والدب وغيرهما، محذراً من انقراض يهدد أنواعا أخرى كالخنزير وبعض أنواع الضباع والذئاب. كما نبه إلى تركيز البحوث الزراعية في سوريا على تحسين الحليب واللحوم، وعدم الاهتمام بالجلود والصوف كمنتج اقتصادي هام.

الشرق الأوسط

———————————-

ما بين سوريا وجنوب أفريقيا/ د. عبد الله الردادي

 2 يونيو 2025 م

أيام مبهجة تعيشها سوريا هذه الفترة؛ فعقب إعلان كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رفع معظم العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، انتهت أكثر من ثلاثة عشر عاماً من العزلة المالية والسياسية التي فُرضت على خلفية الحرب المدمّرة. وشُكّلت حكومة انتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع. وهو ما عُد في الأوساط الدولية مؤشراً على انطلاق صفحة جديدة لسوريا، تُبنى فيها معالم الدولة على أسس مختلفة. هذه الخطوة التاريخية فتحت الأبواب أمام عودة سوريا إلى الساحة الاقتصادية العالمية، في وقت تعاني فيه البلاد من تحديات هائلة؛ من انكماش اقتصادي تجاوز 70 في المائة منذ عام 2011، وبنية تحتية مدمرة، ومؤسسات حكومية متهالكة. لكن التاريخ علّمنا أن الفرص الجديدة تولد من بين الأنقاض، وأن لحظات التحوّل الكبرى تُبنى على إرادة التجاوز لا على إرث المعاناة. والسؤال اليوم ليس فقط ما إذا كانت سوريا ستتعافى، بل كيف ستنهض؟ وبأي طموح ستبني مستقبلها الاقتصادي؟

إن التاريخ مليء بالتجارب الإيجابية لدول ظن البعض أنها لن تقوم لها قائمة، ولعل تجربة جنوب أفريقيا تمنح بارقة أمل وإطاراً واقعياً للتفاؤل؛ ففي ثمانينات القرن الماضي، كانت البلاد ترزح تحت نظام الفصل العنصري. وكانت العقوبات الاقتصادية والسياسية التي فرضها المجتمع الدولي شديدة الوطأة؛ فانهارت الاستثمارات، وتدهور النمو، وارتفعت البطالة، ودخلت البلاد في عزلة شبه تامة، لكن مع نهاية النظام العنصري في أوائل التسعينات، بدأت جنوب أفريقيا تتغير؛ فرُفعت العقوبات الدولية، وعادت رؤوس الأموال، ودخلت البلاد مرحلة من الازدهار الاقتصادي والسياسي.

خلال العقدين التاليين، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي لجنوب أفريقيا مرتين، وعادت بورصتها لتكون من بين الأقوى في الأسواق الناشئة، وارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مستويات غير مسبوقة، وزاد معدل النمو السنوي على 3 في المائة لأكثر من عقد ونصف، وغدت مكسباً لكل تجمّع اقتصادي دولي؛ فأصبحت البلاد إحدى دول «مجموعة العشرين»، ومجموعة «بريكس»، وشريكة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. صحيح أن عديد التحديات ظلت قائمة، إلا أن التجربة أكدت أن العزلة ليست نهاية الطريق، بل قد تكون بدايته إذا أُحسن الاستفادة من لحظة التحول.

وما يحدث عادة عند رفع العقوبات الدولية، أن تنفتح الآفاق الواسعة للنمو والازدهار، وتنشط القطاعات الحيوية مثل الطاقة، والنقل، والبنية التحتية، والاتصالات، والزراعة، والصناعات التحويلية، ويعود تدفق الاستثمارات الأجنبية، وتُستأنف العمليات المصرفية والتجارية، مما يعزز من استقرار العملة، وتحسن المؤشرات الاقتصادية. كما تستعيد الدولة أصولها المجمدة، وتتمكن من الوصول إلى التمويل الدولي؛ ما يدعم المشاريع الكبرى، ويُعيد تشغيل المرافق الحيوية، وتنعكس هذه التحولات إيجابياً على حياة المواطنين من خلال توفر السلع والخدمات وفرص العمل، وتترافق مع عودة العلاقات الدبلوماسية.

وسوريا اليوم أمام لحظة شبيهة بالتجربة الجنوب أفريقية، بل ربما أكثر ثراءً بالفرص إذا ما أُحسن استثمارها؛ فالدول الصديقة، لا سيما من الإقليم، لم تتأخر في التعبير عن دعمها؛ فالسعودية سعت بقيادة ولي عهدها إلى رفع العقوبات عنها، مستثمرة حسن العلاقة والشراكة مع الولايات المتحدة خلال زيارة الرئيس دونالد ترمب للرياض، ليزور بعدها بأقل من شهر وزير الخارجية السعودي سوريا مع وفد اقتصادي رفيع المستوى لتعزيز العلاقة الاقتصادية، وهي وقطر بادرتا إلى تقديم دعم مالي مباشر لموظفي القطاع العام، وسدّدتا المستحقات السورية لدى البنك الدولي، بما يفتح المجال أمام عودة دمشق إلى مؤسسات التمويل العالمية. والكويت عبّرت عن رغبة واضحة في الاستثمار في إعادة الإعمار، ليزور بعدها الرئيس السوري الكويت بدعوة من أميرها. وتركيا بدأت تحشد شركاتها للمشاركة في المشاريع التنموية داخل سوريا، خصوصاً في مجالات الطاقة والنقل والبنية التحتية.

وجانَبَ الدعم الخارجي لسوريا، روحٌ جديدة متفائلة في الداخل السوري؛ فالجيل الشاب الذي عاش في قلب المعاناة، يتطلع اليوم إلى مستقبل مختلف، مبني على الشراكة، والعمل، والانفتاح على العالم، وإذا ما تم ربط هذه التطلعات بخطط واضحة للإصلاح، وتوفير بيئة قانونية وتشريعية جاذبة للاستثمار، فإن سوريا لا تستعيد فقط ما فقدته، بل تبني اقتصاداً أكثر تنوعاً وقدرة على الصمود.

إن ما تحتاجه سوريا الآن هو أن تثبت للعالم أن اللحظة السياسية الجديدة ليست عابرة، بل هي بداية لمسار من التعافي، يقوده السوريون أنفسهم، بمساندة شركائهم الإقليميين والدوليين. والعالم، وقد بدأ يفتح أبوابه من جديد أمام دمشق، لا ينتظر منها الكمال، بل ينتظر منها أن تمضي قدماً، بشجاعة، في طريق البناء. والتاريخ لا يعيد نفسه حرفياً، لكن دروسه حاضرة بوضوح؛ فكما نجحت جنوب أفريقيا في التحول من دولة منبوذة إلى شريك عالمي، يمكن لسوريا أن تنجح في بناء قصة تعافٍ مشرفة، تنطلق من جراح الماضي نحو اقتصاد مزدهر، ومجتمع متماسك، ودولة تستعيد مكانتها بثقة وتوازن. والمستقبل المشرق لا يأتي محض الصدفة، بل هو خيارٌ يُصنع، وسوريا اليوم أقرب إليه من أي وقت مضى.

الشرق الأوسط

——————————–

ماذا تعني عودة التداول في بورصة دمشق لاقتصاد سوريا؟/ شام السبسبي

2/6/2025

دمشق- استأنفت سوق دمشق للأوراق المالية تداولاتها اليوم الاثنين بعد توقف دام نحو 6 أشهر، وسط حضور رسمي رفيع المستوى ومشاركة واسعة من شخصيات اقتصادية ومستثمرين وتجار.

وأكد وزير المالية السوري محمد يسر برنية في كلمة ألقاها في الفعالية أن هذه الخطوة رسالة واضحة بأن عجلة الاقتصاد السوري بدأت بالدوران مجددا، مشيرا إلى أن الحكومة تسير وفق رؤية اقتصادية شاملة ترتكز على مبادئ العدالة والإنصاف وتعزيز دور القطاع الخاص وجذب الاستثمارات، إلى جانب مكافحة الفقر وتوفير فرص العمل.

وأوضح برنية أن السوق تتجه نحو التحول إلى شركة خاصة خلال الفترة المقبلة، لتكون منصة فاعلة في تطوير الاقتصاد، بالتوازي مع مواكبة التحول الرقمي في الأسواق المالية، وتهيئة بيئة استثمارية أكثر مرونة تقوم بتمكين القطاع الخاص بدلا من منافسته، وذلك عبر سياسات محفزة ومشاريع استثمارية واعدة.

محطة تاريخية

من جانبه، قال المدير التنفيذي لسوق دمشق للأوراق المالية باسل أسعد إن السوق باتت مهيأة للعودة إلى أداء دورها الطبيعي، في ظل توقعات بتوسع أكبر في حجم الاستثمارات ضمن “سوريا الجديدة”.

وأشار أسعد إلى أن الإدارة رغم محدودية الموارد نجحت في تنفيذ المهام الموكلة إليها بشفافية وحماية حقوق المستثمرين، مؤكدا استعداد السوق لمواكبة التغيرات الاقتصادية والتقنية المرتقبة.

وبشأن الشركات المدرجة في السوق، قال أسعد في تصريح للجزيرة نت إن عددها حتى الآن 27 شركة، وعادت منها 14 شركة للتداول، أما الشركات المتبقية فلم تلب متطلبات بسيطة بتقارير الحوكمة أو الإفصاح عن بياناتها المالية، مشيرا إلى أن تلك الشركات ستتدارك ذلك خلال وقت قصير وتعود للتداول.

وأضاف أن الشركات المدرجة للتداول تعمل في مختلف القطاعات، من القطاع المالي (مصارف وشركات تأمين)، والصناعي، والخدمي كشركات الاتصالات.

وعن حجم التداول في العام الماضي 2024 منذ بداية العام وحتى تاريخ 5 ديسمبر/كانون الأول (آخر أيام التداول)، قال أسعد إنه بلغ نحو 198 مليون سهم، أي ما يعادل تريليون ليرة سورية (90.9 مليار دولار).

وأشار أسعد إلى أن السوق عادت للعمل وفق نظام تداول يمتد على 3 أيام في الأسبوع مؤقتا يتم عبر شركات الوساطة المعتمدة، والبالغ عددها 6 شركات.

واعتبر أنه في ظل العودة إلى التداول بعد توقف استمر 6 أشهر تم الأخذ في الحسبان الحاجة إلى تخفيف وتيرة التداول مؤقتا، مما يمنح المستثمرين الوقت الكافي لاستيعاب التغيرات وفهم تأثيرها على أسعار الأسهم، وذلك بهدف ضمان استقرار السوق، على أن يعود العمل بالنظام المعتاد (5 أيام تداول في الأسبوع) بعد تهيئة الظروف المناسبة.

وتقرر تعليق الصفقات خارج المقصورة لمدة شهر، في إطار سعي الإدارة لضمان أعلى درجات الشفافية والرقابة، ولا سيما أن تتبع هذا النوع من العمليات يكون أكثر صعوبة، وفق أسعد الذي أكد أن هذا الإجراء مؤقت، وقد يعاد النظر فيه خلال فترة قريبة تبعا لظروف السوق.

آلية التداول

وأوضح أسعد أن آلية التداول في البورصة تشمل عمليات داخل المقصورة عبر الشاشات، إضافة إلى وجود ما تعرف بـ”الصفقات الضخمة أو التداولات خارج المقصورة”، والتي غالبا ما تبرم باتفاق مباشر بين البائع والمشتري خارج القنوات المعتادة، مع تسويات مالية موازية.

وأوضح أن عودة الشركات المساهمة إلى التداول ارتبطت بمدى التزامها بالمعايير المطلوبة، مثل الإفصاح عن البيانات المالية النهائية للعام الماضي، وتحديث تقارير الحوكمة، والإفصاح عن قوائم كبار المساهمين، وهو ما التزمت به أغلبية الشركات، في حين تعمل بعض الجهات على استكمال المتطلبات خلال فترة قصيرة.

وفيما يتعلق بالإجراءات المتخذة لعدم السماح للمجرمين باستغلال بورصة دمشق، أشار أسعد إلى أن أجهزة الدولة قامت بالكثير من الإجراءات الفنية والقانونية الدقيقة قبل إعادة التداول، وشملت التحقق من امتثال المساهمين لحقوق الملكية، مما يضمن نزاهة العمليات ويؤمّن مناخا قانونيا مناسبا، ومن أن المالكين هم من المستثمرين الذين لا غبار على سلوكهم.

وأوضح أسعد أن السوق اليوم تجد نفسها أمام واقع اقتصادي يتجه إلى مزيد من الانفتاح، مدفوعا برغبة قوية من المستثمرين المحليين والخارجيين بالمساهمة في عملية إعادة البناء والتنمية في سوريا.

وأشار إلى أن الشركات المساهمة العامة توفر بيئة مثالية للاستثمار الآمن، نظرا لما تقدمه من ضوابط حوكمة وشفافية وإدارة تشاركية، مؤكدا أن السوق مستعدة لاستقبال أي شركة تستوفي شروط الإدراج وترغب في دخول هذا المسار.

أدوار اقتصادية مهمة

من جهته، اعتبر الخبير الاقتصادي والمصرفي السوري نبال نجمة أن إعادة افتتاح سوق دمشق للأوراق المالية خطوة مهمة تندرج ضمن عملية الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي تشهده سوريا مؤخرا.

وقال نجمة في تعليق للجزيرة نت إن عملية الإصلاح الاقتصادي هذه حققت تقدما ملحوظا من خلال الاستعانة بكفاءات مالية واقتصادية لإدارة الوزارات المعنية والمواقع الاقتصادية الحساسة في سوريا، ومن خلال الجهد سياسي الذي أدى إلى رفع العقوبات عنها لتتعامل مع العالم بشكل نظامي وطبيعي وضمن قنوات مالية معترف بها.

وأوضح أن لإعادة التداول في هذا التوقيت دلالات اقتصادية عديدة، معتبرا أنها خطوة تعزز الثقة بالاقتصاد السوري.

وبشأن الأدوار الاقتصادية التي يمكن لسوق دمشق للأوراق المالية أن تلعبها في المرحلة المقبلة، يرى الخبير أنها تتمثل بـ3 مستويات أساسية:

    تأمين قنوات تمويلية للشركات المدرجة في السوق المالية: فعمليات الطرح العام تؤدي إلى رفد خزينة هذه الشركات بالأموال اللازمة لنموها التجاري.

    المستوى الاستثماري: فالتداول والاستثمار في السوق المالية قد يتيحان فرصا استثمارية جديدة للمتعاملين الاقتصاديين، ويؤدي هذا إلى إمكانية الاستثمار في أصول جديدة.

    قرارات استثمارية شجاعة: الشركات المدرجة في السوق المالية عليها أن تستوفي الكثير من الشروط وأن تستجيب لمتطلبات الحوكمة المتعارف عليها عالميا، وذلك يسمح للمتعامل الاقتصادي باتخاذ قرارات استثمارية شجاعة، ويؤدي إلى تعزيز الشفافية وتحفيز الاستثمار وخلق السيولة في السوق المالية، وبالتالي في الاقتصاد السوري ككل.

ويشير الخبير إلى أنه لا بد لهذه الخطوة أن تترافق مع مجموعة من الخطوات الأخرى التي من شأنها أن تسهم في زيادة الإنتاج وتخفيض البطالة وتحقيق الاستقرار النقدي في سوريا، لأن ذلك هو ما ينعكس بصورة فعلية على المستوى المعيشي للسوريين، ويؤدي على المدى البعيد إلى تحقيق الاستقرار السياسي والوطني.

ويأتي افتتاح سوق دمشق للأوراق المالية ضمن إطار جهود الحكومة لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وتعزيز ثقة المستثمرين في البيئة الاقتصادية بعد سنوات من الدمار الذي ألحقته الحرب وسياسات النظام البائد بالبنى التحتية والقطاعات الاقتصادية والمالية.

يذكر أن سوق دمشق للأوراق المالية انطلقت لأول مرة في عام 2009، لكن أداءها تأثر بشكل كبير خلال السنوات الماضية نتيجة الأوضاع السياسية والاقتصادية، إلى جانب العقوبات الغربية والتوقفات المتكررة للتداول لأسباب تنظيمية وتقنية.

المصدر : الجزيرة

———————————–

عن المثقف (العضوي) والمؤدلج في حوارات السوريين/ حسن النيفي

2025.06.03

لا يتردّد كثير من السوريين بالاستنجاد بالنخب المثقفة حيال الجائحة التي تجتاح البلاد السورية في فترة ما بعد سقوط الأسد، وأعني بالجائحة ( خطاب الكراهية ) الذي بات ينضح به الفضاء الإعلامي وتعزّزه وسائل التواصل الاجتماعي التي بات يصعب ضبطها أو السيطرة عليها، قد لا يبدو هذا الاستنجاد غريباً إذ طالما نظرت الشعوب إلى مثقفيها وناشطيها في المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية على أنهم أصحاب دور فاعل ومؤثِّر ليس في توجيه الرأي العام فحسب، بل في التأثير على أصحاب القرار أيضاً.

يأتي هذا الاستنجاد في لحظة تبدو فيها جميع الإجراءات التي تقوم بها السلطة في هذه المهمّة ليست كافية، وخاصة أن اللجنة القضائية التي تشكّلت بهدف تقصّي ما جرى في مدن وبلدات الساحل السوري في السادس من آذار الماضي، لم تقدّم أي نتيجة للرأي العام حتى الآن، ربما لضرورات تستدعيها طبيعة عملها، وما من خيار سوى انتظار انتهاء مدّة عملها التي أصبحت – بعد تمديدها – ثلاثة أشهر، أمّا اللجنتان اللتان تشكلتا، الأولى بخصوص ( السلم الأهلي) والثانية بخصوص ( العدالة الانتقالية)، فمن المبكّر توقُّع مُنتَجٍ قريب لعملهما نظراً للوقت الذي تستدعيه طبيعة المُهمّة الموكلة إليهما.

ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أن مجمل الحراك الشعبي المناهض لخطاب الكراهية والمتمثل بالوفود التي تقوم بزيارات ولقاءات متبادلة بين بؤر التوتّر لم تستطع أن تُحدثَ حالةً أقرب إلى ( الهدنة) بين أمواج متلاطمة من الضخّ المتدفّق لخطاب الكراهية، إذ إن الحراك المشار إليه محكوم بقدراته المحدودة، إذ يمكن – في أفضل الأحوال – أن يكون مُكمِّلاً لمبادرات حكومية، وليس مُؤسّساً لمسار جديد في السلم الأهلي، أو بديلاً عن مبادرات وقوانين الدولة.

ولهذا كلّه، لا يبدو التطلّع إلى دور النخب الثقافية باعتباره دوراً كمالياً، بل باعتباره حاجة ضرورية ، بل واجباً أخلاقياً، ولعل هذا ما جعل الكثيرين يشعرون بافتقاد ( المثقف العضوي) لكونه – برأي البعض – صِمام الأمان، أو الخيار الوحيد المُتبقي لمواجهة حالة التطاحن النفسي والاجتماعي الذي يتغذّى من التراشق الطائفي والعرقي في الحالة السورية الراهنة.

واقع الحال يؤكّد أن ثمّة استجابة شديدة الوضوح من جانب شرائح سورية ثقافية وسياسية واسعة بهدف تبادل الرأي والحديث والحوار والنقاش واقتراح الحلول والمبادرات حيال ما يمكن تسميته بـ ( الحرائق الطائفية) التي ما إنْ تخمد إحداها حتى تشتعل الأخرى، سواء من خلال لقاءات مباشرة بين جماعات وأفراد سوريين، أو من خلال ندوات ومحاضرات تقوم بتنظيمها والتحضير لها بعض مراكز الأبحاث أو المنظمات التي تُعنى بمسائل السلم الأهلي والتنمية المجتمعية، سواء عبر المجال الافتراضي أو الحضور الفيزيائي. ولكن لعل المتابع لمجمل تلك الفعاليات سيصطدم بجملة من المسائل، جديرة بالتوقّف عندها، نظراً لما تثيره من تساؤلات قديمة جديدة، عن ماهية دور ( المثقف ) الذي يحتاج إليه السوريون في الوقت الراهن.

المثقف العضوي أم المؤدلج؟

1 – ثمة نزوع لدى كثير من النخب السورية حين تلتقي وتتحاور حول مسألة ما، نحو الاستغراق في الاستعراض المعرفي النظري المجرّد، وربما كانت تلك النزعة دليل غنى وامتلاك مقدّمات نظرية كافية لملامسة موضوع الحوار، ولكن الاكتفاء بها وتغييب الواقع بما ينطوي عليه من أحداث، وكذلك تجاهل السياق الاجتماعي وخصوصية الحالة السورية يُحوّل الحوار إلى ضرب من الاستعراض الثقافي لا أكثر، إن مقاربة ( خطاب الكراهية ) في كتب علم النفس وعلم الاجتماع والمراجع الفلسفية تبدو مسألة هامة وضرورية بغية تأصيل المفاهيم والوقوف على دقّة المصطلحات والسياقات التي أنتجتها، ولكن نجاعة المقدمات النظرية والتماسك المنهجي مشروط بقدرته على مقاربة الوقائع المادية على الأرض، وليس في تغييبها أو تجاهلها، ذلك أن (خطاب الكراهية) – كأحد التجلّيات المباشرة لتفشّي الطائفية – ليس ( عشبة برّية) نبتت في البراري بفعل الرياح والمطر دونما زارعٍ أو راعٍ لها، وإنما انبثقت وتنامت بفعل أحداث على الأرض، كان فيها ضحايا وجناة، ومعتدون ومُعتدى عليهم، وتجاوز أي معضلة من هذا النوع لا بدّ لها من مقاربات موضوعية لا تستبعد مكاشفات جدّية لحقيقة ما حدث، فالحرص على تجاوز أي مشكلة إنما يوجب معرفة أسبابها، حتى يُصار إلى تحاشيها وعدم تكرارها، وليس الوقوف عند مظاهرها وصبّ اللعنات عليها وحسب، ولكن يكفي أن يختم أصحاب هذا المنحى من التفكير أحاديثهم بالتأكيد على أن ( الدين ) هو أصل المشكلة، بل المشكلات طرّاً، لتدرك أن الحشد المعرفي والمعلوماتي جاء ليؤكّد يقيناً سابقاً بأدوات معرفية غير مفارقة لهذا اليقين.

2 – حين تُطرح الأفكار والتصوّرات وقد تَزوّدَ صاحبُها بسرديات انتقائية مناسبة يراها داعمة لفكرته أو رأيه، ولكن ما إن تعرّضت إحدى تلك السرديات للخلخلة أو التشظّي نتيجة لعدم دقّتها، أو ما إن جوبهت سرديته بسردية مضادة أو مناقضة، فسرعان ما يدع جانباً كل مقولاته الفكرية أو الثقافية ليعود – بوعي منه أو بلا وعي – إلى معاقله الطائفية للتسلّح بـ ( مظلومية – مظلوميات) ولو كانت من أحقاب تاريخية قديمة، وليتحوّل الحوار إلى تراشق لفظي يعزّز المشكلة ويسهم في تعميقها بدلاً من استشراف حلول لها، وبهذا تصبح ( النخب) جزءاً من المشكلة وليست حاملاً للحلول، وبهذا – أيضاً – يظهر أن المثقف ( العضوي ) الذي انتظرناه ما هو إلّا مثقف ( مؤدلج) لا يتيح له مُتَخيَّلُه الإيديولوجي تجاوزَ يقينياته السابقة.

وفي مثل تلك الحوارات من الطبيعي جدّاً أن يصبح النظر في المشكلة الطائفية وتداعياتها الراهنة في سوريا مقروناً بالعودة، وربما الاحتراب من جديد، حول الصراع بين بني أمية وبني العباس، أو بين يزيد وقتلة الحسين، وربما أحداث كثيرة أخرى عبر التاريخ.

وأخيراً لعل ممّا هو لافت للانتباه أن يكون المدعوون للتحدث في معظم الفعاليات التي تقام بهذا الخصوص، من لون فكري أو ثقافي واحد أو متشابه، وقلّما نجد أصحاب مشارب سياسية وثقافية مختلفة، الأمر الذي يجعل من فعاليّة كهذه وسيلةً للترويج لتيار أو لأصحاب رأي محدّد، في حين أننا أحوج ما نكون إلى حوار المختلفين.

تلفزيون سوريا

————————————

محددات المصالحة التاريخية بين العلمانيين والإسلاميين في سوريا الجديدة/ عبدالله تركماني

2025.06.03

تثير إشكالية المصالحة جملة تساؤلات: هل ثمة ضرورة لعلاقة ما بين الدين والدولة؟ وإذا كان الجواب بنعم كيف تكون؟ وما هي تجلياتها ومحدداتها وحدودها وإيجابياتها وسلبياتها؟ وأية سلطة ستنشأ في حالة هيمنة الإسلاميين وبالتالي أية دولة؟ وما مدى قدرتهم ورغبتهم في احترام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان؟ وما الذي يريده العلمانيون على صعيد ماهية الدولة والمواطنة السورية وطبيعة الحكم؟

إنّ التحدي الكبير الذي يواجه أنصار السلفية الجهادية السورية يتجسد في موقفهم من المساواة بين المواطنين، بغض النظر عن أي معطى آخر: ديني، أو طائفي، أو قومي. بما تقتضيه هذه المساواة من أن تكون مرجعيتهم الإسلامية حاضنة حضارية تتسع لجميع صنوف الاختلاف السياسي والديني داخل الوطنية السورية الجامعة. ولعلَّ التحديات والأسئلة كثيرة، وكلها تتعلق بمفهوم مدنية الدولة، وديمقراطية الحكم، والموقف من مفهوم المواطنة، ومنظومة الحقوق والحريات للجميع من دون تمييز.

وفي المقابل فإنّ التحدي الأبرز أمام العلمانيين السوريين فهو الاعتراف بأنّ الحالة الإسلامية السورية هي جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي، فلا يمكن تجاهل وجودها أو التلويح بخطرها من قبل بعضهم. على أنّ خطأ التعاطي مع الإسلاميين كتيارات دينية وأيديولوجية جامدة من دون النظر إليهم كحركات اجتماعية وقوى سياسية تؤثر وتتأثر بما يدور حولها، يحرمنا من إمكانية البحث عن فرص التوافق من أجل بناء سورية الجديدة، باعتبارها دولة حق وقانون.

ومن أجل تعظيم فرص المصالحة التاريخية يجدر بالحالة الإسلامية السورية مغادرة الالتباس في موقفها من: الحقوق المتساوية للمواطنين، والتعددية، والتداول السلمي على السلطة، والدولة الدينية، وممارسة العنف ضد الرأي الآخر. ويدور الأمر حول ما إذا كان بالإمكان طرح مفهوم للمواطنة يقوم على أساس المصالحة بين مجتمع مؤمن ودولة لا دينية. فهل يمكن بناء نوع من ” العلمانية “، على أساس ” حيادية الدولة ” عن الأيديولوجيات والأديان، ولكن بغطاء عقلي نقدي يتيح مناخ النقد وحرية المعتقد والتفكير والرأي الحر للجميع؟ وفي هذا السياق لا بدَّ أن نعترف بأنّ سورية تضم تعدداً دينياً ومذهبياً وقومياً يشكل صورة حضارية مشرقة للتنوّع والتفاعل والعيش المشترك، والعلاقة بين الوطن ومكوّناته يمكن أن تكون علاقة توافق وتكامل، حين تكون الحدود واضحة بين المساحة المشتركة والمساحات الخاصة، ويمكن أن تكون علاقة صراع، حين تريد المكوّنات توسيع مساحتها الخاصة على حساب المساحة المشتركة أو حين تريد قيادة المرحلة الانتقالية توسيع المساحة المشتركة على حساب الخصوصيات الثقافية للمكوّنات.

وفي المقابل، فإنّ على العلمانيين عدم التشجيع على الاستقطاب الأيديولوجي وتقسيم المجتمع على أساسه، وإنما الاشتغال بأدوات الفعل السياسي (بلورة برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية). انطلاقاً من أنّ الدولة ذات وظيفة سياسية بحتة، ورهاناتها متعلقة بمصالح الشعب السوري، وعلاقتها مع أطياف المجتمع علاقة تعاقدية.

من مقتضياتها أن تكون على مسافة واحدة من المكوّنات السورية في إطار مفهوم ” المواطنة “، ومن مقتضيات ذلك أن تقف حيادية تجاه الأديان والأيديولوجيات.

إنّ إعادة بناء دولة الحق والقانون لا تستقيم في ظل قيادات تعيش حالة تنافس غير منضبط يمكن أن ينقلب في أي وقت إلى فوضى، مثلما هي حال بعض العلمانيين والإسلاميين، مما يتطلب الإقرار المتبادل بحق كل منهما في تقديم قراءة مختلفة حول قضايا ومسائل ومشكلات، لأنّ وجوده ضروري لتشكيل فضاء الحرية المفتوح، ولبناء دولة الحق والقانون.

وفي هذا السياق، ثمة احتمالان ينضجان في واقعنا الراهن: احتمال أن نذهب إلى مصالحة تاريخية بين أطراف السياسة والمجتمع، خاصة بين العلمانيين والإسلاميين، تتيح انتقالاً آمناً نحو دولة الوطنية الحديثة، نقبله جميعاً لأنه من اختيارنا.

واحتمال نقيض يعني تحققه ذهابنا إلى حال مفتوح على الاقتتال والفوضى. هذان الاحتمالان هما بديلان تاريخيان للواقع السوري الحالي، يمثل أولهما فرصة وثانيهما كارثة. ولكي يرجح احتمال الفرصة فلنعمل من أجل توحيد جهود كل المواطنات والمواطنين، من أجل بناء مجتمع الحرية والكرامة ودولة الحق والقانون.

تلفزيون سوريا

—————————–

 بين يمين الطائفة ويسار الإسلام الجهادي/ أحمد الشمام

2025.06.03

عند حدوث تحول جذري في الدولة لابد وأن يهتز المجتمع، ويختلط الأمر على العامة في البحث عن منارات تهتدي بها؛ سعيا لمعرفة التطورات التي تعتري هذا التحول والمخرجات الناجمة عنه، ويختلف ذاك البحث تبعا لمقدار القلق أو الخوف الذي يساور المجتمع أو أي جزء منه، وقد لعب النظام على عقدة الخوف ليصار إلى نكوص العلاقات الاجتماعية المسكونة برغبة الخلاص، والانتقال من ثقافة استقرار الدولة وأمنها إلى شعور الجماعات المتكورة على نفسها بدافع غريزي، وارتداد الأفراد إلى جماعاتهم مادون الدولة -قبيلة طائفة- لضمان الحماية.

الآن وبعد أشهر من سقوط النظام نجد أنفسنا أمام مجتمع سوري متمايز أفقيا بين تطلعات وآمال البقاء على قيد الحياة، وآمال بناء الدولة التي تخدم شعبها، وآمال نخب اقتصادية في العودة لقطاع الإنتاج وتأمين دوران عجلته، وآمال مجموعة من “النخب” في شكل الدولة. يتدرج طيف التمايز في عدة مستويات أفقية تخترق البنى التقليدية للمجتمع السوري، وتوحي بتنافس طبقي سينضج ولو بعد حين. قبالة ذلك نجد تخلخلا في مستوى العلاقات بين النخب يطرح انشطار عموديا في المجتمع السوري؛ بما يربك حركة المجتمع وتدافع طبقاته المبشر بحياة اجتماعية وسياسية صحية.

لو تفكرنا في نمط وبنية المؤثرات التي تقلق المجتمع السوري بعد سقوط النظام وبدء مرحلة إعادة البناء رغم ثقل الأنقاض التي لم ترفع بعد؛ سنجد أنه يمكن تحديد محوري تأثير بعد سقوط النظام؛ الأول شركاء الأسد في المصالح والجرائم من كل البيئات الاجتماعية، مع التذكير بأن قسما من بناة هذا المحور هم القوميون العرب، وأتباع تيار الممانعة من مثقفي يسارنا التقليدي الذين بدؤوا في التشبيك مع نظرائهم في المحور التالي، أما الثاني فيمثله شطر كبير من معارضي الأسد من المثقفين وهم ليسوا سواء؛ وينحت التشظي والتناحر الأيديولوجي فيما بينهم؛ ولعلهم يشكلون المحور الأخطر، حيث انكمش المحور الأول بسقوط الأسد باحثا عن محاولة الهروب أو تدوير نفسه في الدولة الجديدة – باستثناء فقهاء التشبيك السابق ذكرهم، وتكمن خطورته في اعتماده نفس الذهنية القديمة بعيدا عن حركة المجتمعات وثرائها.

تتمثل عقدة اليسار الماركسي والقومي عموما بمعضلة نضاله ضد الإسلام السياسي التي بقيت معركة مفتوحة حتى الآن، وشكلت لديه جرحا نرجسيا وربما جرح هوية؛ إذ لم يتفكر معظم أتباعه بأن الموقف من الإسلام صار هويتهم التي يُعرِّفون بها أنفسهم؛ وهي هوية ثقافية وسياسية يُخلصون لها؛ ولعل مقولة الهوية تفيد في تشكيل تصور أوضح عن اعتبارها تميزا خاصا بهم وفقا لرؤيتهم لأنفسهم من جهة، ومن جهة أخرى كونها تتطلب أو تنبني على تعصب هوياتي غير موضوعي يقدس الذات على الآخر – باعتبار الهوية مرتبطة بالذاتي الموروث أو المتخيل وأبعد ماتكون عن الموضوعية-، يتعصب لها ويخوض حربا عقدية في معركة ثنائيات متخيلة في ساحة الفعل الاجتماعي والسياسي المفتوحة على مجالات عدة؛ رغم احتياجها الشرطي للهدوء والتريث في السياق المرحلي، بدلا من التوتر المفخخ بروح المحارب الشرس أو المحرض، خصوصا وأنا أمام تكشف اصطفافات جديدة ماقبل وطنية في كثير من البيئات الاجتماعية، وتحشيد طائفي تعفُّ عنه سلطة دمشق وأبدت رفضها الصريح له، وتحشيد أيديولوجي لدرجة أصبح تأييد السلطة فيما تصيب تطبيلا بعيون أولئك بالرغم من الحفاظ على مسافة النقد تجاهها، ولنجد أنفسنا ضحايا حمى تأطير وتأطير مقابل يضيع علينا فرصة نقد عقلاني لسلوكهم ذاك. ومع الأخذ بعين الاعتبار لوجود عامة تؤمن بالقائد أي قائد؛ تعظمه وتبجله وتتبعه برؤية قطيعية؛ وجد المرء نفسه ضمن هذا الزحام والتوتر ضحية سيرة جلد لمن يؤيدها خصوصا أبناء الأكثرية تحت اعتبار أنها سلطتهم كجماعة والمعبرة عنهم، وصار على أي مؤيد أن يبحث عمن هو خارج هذا المنبت – الأكثرية- ليدعم بها موقفه، ولئن كان الأسد ابن طائفة فليست كل الطائفة أسدية ومعبَّرا عنها بالأسد ونهجه، مثلما أنه يجب ألا يفوتنا أنه إن كانت السلطة بدمشق تنتمي للأكثرية فذاك لايعني حكما أن كل العرب السنة معبَّرا عنهم عبر تلك السلطة، وتتناسى أغلبية هؤلاء أن السلطة بعد المرحلة الانتقالية فيما لو انتهجت نهجا يحيد عن كونها معبرة عن الدولة التي حلموا بها؛ ستولد معارضة يكون متنها الأكثرية نفسها حكما وبصورة غير تحشيدية، لأنها ستكون حينها تعبيرا سياسيا مدنيا متعاليا على سرديات المظلومية والتنابذ الطائفي؛ وهو مايعني سلب السلطة حينذاك أي تنميط يمكن أن تطلقه فيما لو فكرت بإقصاء معارضتها خارج الأطر الدولتية القانونية العادلة، أما وقد رفضن مثقفون كثر من الأكثرية إضافة إلى مثقفي يسارنا العتيد ومثقفي العلمانية الأقلوية وصم الطائفة بجرم السلطة المنتمية لها بالمنشأ وهو رفض محق، فلماذا يستسهل هؤلاء تنميط الآخر وحبسه بانتمائه الاجتماعي، القومي، وحتى الديني من قبل المثقفين أنفسهم وإلباسهم ثوب السلطة وبلاءها.

لقد فشل اليسار في استيعاب الثورة وتبنيها إضافة لتخشبه في رؤية أقرب إلى الستالينية في تقديس الفرد، والسكوت عن الدكتاتورية، وقرأَنَة ماركس وفقا لقول أحد المفكرين، مقارنة باليسار الأوربي الذي تجاوز الولاء للقادة والحفاظ على وجوده ورصيده بنسبة ما، ما يظهر خواء يسارنا وحاجة البلاد لطرح وطني يتقدم على تلك النخب، هنا سيكون التعويل على الشباب مالم تعد العجلة إلى الوراء بإفساد مفاهيم الطبقية والصراع الطبقي، والاصطفاف خلف ثنائيات عملت وتعمل على تشظية المجتمع. مقابل ذلك ووفقا للثنائيات المفترضة هناك توجه إسلامي مثلته جبهة النصرة وحركة تحرير الشام على الأرض الآن، مع تراجع واضح للإخوان المسلمين فيما اصطلح عليه بالإسلام السياسي؛ وتقدم الإسلام الجهادي وتجاوزه ذهنية التنظيم إلى الدولة، وتحقيقه نظريا لقفزة في رؤيته للدولة والحكم عجزت عنه رؤى اليسار، إضافة لحضور وازن وإن لم يكن مؤطرا ومنتظما في أحزاب وتيارات؛ كما أن هناك إسلام مرن الهوية يمثله التدين الشعبي ويكاد يضم غالبية المسلمين السوريين، وهو الرصيد بين السنة لتشكيل تيارات وطنية؛ بعيدا عن حروب الثنائيات التي لم يعد يلوكها ويعيد سردياتها سوى اليسار الذي دفع باليمين الإسلامي التقليدي أن يمارسها كذلك، الذي إن أبقى على خطابه سيؤدي إلى فشل ذريع في احتمال تشكل تيارات سياسية؛ مبنية على مشتركات وطنية عامة بعيدا عن الدين ومحاربته أو محاولة إزاحة حضوره في المجال العام، خصوصا وأن حضوره الحالي والقادم سيكون في جزء منه بعدا طبيعيا نتيجة لإزاحته من قبل نظام الأسد.

ولعل التشنج من مفردة الأموية التي مثلت رمزيا حضارة بدأت في أورقة بني أمية؛ وشعرة معاوية التي لم يقطعها بينه وبين مخالفيه، ومثلت الشكل النهائي لحضارة وصلت حدود أوروبا؛ و بنت هويتها بتنوع وشراكة المسيحية الأموية للمسلمين وصارت إرثا تاريخيا حضاريا من بلاد الشام التي قطنها جميع الفرقاء الآن، ومثلما يعتز أي سوري بتاريخ بلاد الشام؛ سيعتز بها ويعتبرها مثالا يحتذي به، لكن الفعل الحشدي الذي انبرى للتنطع لأي صفة أو مقولة رمزية؛ قام بمماهاتها مع السنة وخصوصا عامة السنة القابلين للتحشيد واستهلاك أي مقولة حضارية بتحويلها لسلعة أو ترنيمة كأغنية في السوق؛ بالتساوق مع تشويهها من قبل فصائل غير منضبطة وأخرى نفعية أو ثأرية بسبب العسكرة ومعاناتها واختلاطاتها، فذهبت لارتكاب جرائم مفصلية أهمها قبل التنفيذ ذاك الجهد النظري والتعميمي على الآخر؛ وإلباسه لبوس الخيانة من دون إنكار منا على وجود حالات تعتبر بكل مقاييس الدول خيانة وطنية كبرى، من هنا علينا أمام الخضة التي تشهدها الساحة السورية؛ التحلي بالعقل قبالة سوق الأخبار والشائعات، وحمى التحريض، والبحث عن المشترك الوطني بعيدا عن التنابذ الأيديولوجي الذي مزق مجتمعاتنا، وأغرقها في ضجيج تبادل اتهامات التطبيل والتخوين، والتعاون ليس في رفع أنقاض المدن المدمرة بل تنقية العقول والنفوس من كثير من أنقاض الأفكار والتنميطات المسبقة.

—————————

وسائل التواصل تقسم السوريين بـ”خطاب الكراهية”/  أمير حقوق

“خطابات مقيتة ومجيّشة، تحضّ على الكراهية والحقد والعنف، تشعل الفتنة، تبث الخلافات بين الشعب السوري، تعوق السلم الأهلي”، أبرز التوصيفات التي تُطلق على خطابات ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وفق خبراء اجتماعيين وإعلاميين.

وتسهم وسائل التواصل الاجتماعي بنشر خطاب الكراهية، الذي يلعب دورًا محوريًا بالأحداث الأمنية التي تشهدها سوريا حاليًا، نظرًا إلى اعتماد الجمهور السوري على تلك الوسائل لغياب قنوات الإعلام الرسمية.

منحى طائفي

أثار انتشار تسجيل صوتي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أسابيع احتقانًا بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، إثر احتوائه إساءة للنبي محمد، نُسب لأحد شيوخ الطائفة الدرزية، وهو ما نفته وزارة الداخلية السورية والشيخ نفسه لاحقًا.

وتفاقمت ردود فعل المستخدمين بحصول احتكاك بين الطلاب داخل السكن الجامعي في مدينة حمص، مساء 27 من نيسان الماضي، عقب انتشار التسجيل الصوتي.

وسبّب خطاب الكراهية عبر تعليقات ومنشورات بعض رواد برامج التواصل الاجتماعي تجييش مستخدمي وسائل التواصل، متخذًا منحى طائفيًا، حرّض على بث العنف والحقد والفتنة، إذ أدى إلى اندلاع شرارة الأحداث في مدينة جرمانا، وامتدت إلى بلدتي صحنايا وأشرفية صحنايا، ومحافظة السويداء.

أخطر التهديدات التي تواجه السلم

نتيجة تدفق خطابات التأجيج والتحريض، تنشأ خلافات حادة وشديدة بين السوريين، تولد أزمات أو أحداثًا لا تناسب حساسية المرحلة الحالية في سوريا.

الأستاذة في كلية الإعلام بجامعة “دمشق”، والخبيرة الإعلامية غادة يوسف، قالت لعنب بلدي، إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت عاملًا رئيسًا في انتشار خطاب الكراهية، خاصة في ظل غياب الأنظمة القانونية والمواثيق المهنية التي تحد من ذلك.

وبحسب الخبيرة يوسف، يُعتبر خطاب الكراهية من أخطر التهديدات التي تواجه السلم والأمن المجتمعي في سوريا خلال العقد الماضي، ويُعد من أكثر العوامل إثارة للقلق والتعقيد على مستوى العالم، نظرًا إلى تداخله مع مفهوم حرية الرأي والتعبير، ومن أبرز الاتجاهات المثيرة للقلق في هذا السياق، هو الزيادة الملحوظة في خطاب الكراهية على منصات التواصل الاجتماعي، خصوصًا خلال الأزمات أو الأوضاع المتوترة سياسيًا أو اجتماعيًا حاليًا.

ويجد مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، نظرًا إلى طبيعة بعض المنصات مثل “فيسبوك” و”إكس”، أنفسهم محاطين بفقاعة من الأخبار الزائفة والرسائل التحريضية التي تعزز الآراء والأحكام المسبقة، كما تلعب الشبكة العنكبوتية أيضًا دورًا حيويًا في تشكيل الرأي العام، حيث تُعتبر بيئة خصبة للتحريض على خطاب الكراهية.

وأوضحت يوسف أنه يمكن أن تتحول هذه المعلومات إلى أداة تُستخدم إما عن عمد أو دون قصد، في تحريض الجمهور أو تضليله أو التأثير عليه، ما ينتج عنه غالبًا عواقب خطيرة ذات تأثير استقطابي.

وتتيح وسائل التواصل الاجتماعي للأفراد الذين يحرضون على الكراهية الوصول بسرعة وسهولة إلى جمهور واسع، نظرًا إلى أنها أقل تنظيمًا ولا تخضع للقيود المفروضة على وسائل الإعلام التقليدية، ما يجعلها مفتوحة أمام من يرغب في استغلالها دون الكشف عن هويته.

تقلب القيم الاجتماعية

ترى الخبيرة غادة يوسف أن من الضروري اتخاذ موقف حيادي تجاه خطاب الكراهية، فعلى الرغم من أن القوانين التي تحظر هذا النوع من الخطاب قد تؤثر سلبًا على الطابع الديمقراطي للمجتمعات، فإنها لا تضر بأي من قيم الديمقراطية، فحظر خطاب الكراهية لا يمنع المواطنين من التفكير بأفكار سلبية، بل يهدف فقط إلى حماية الآخرين من الأذى الناتج عن التعبير عن تلك الأفكار.

كما يكتسب التثقيف حول حقوق الإنسان واحترام التنوع أهمية كبيرة في تعزيز التسامح داخل المجتمعات، لكنه لا يكفي وحده، فمن الضروري أيضًا مكافحة خطاب الكراهية وتقليل المخاطر الأخرى.

وتقوم منظمات المجتمع المدني بتشكيل شبكات لمكافحة خطاب الكراهية على الإنترنت، وتعزيز الدعم لإصدار تشريعات قانونية لمكافحة التمييز الرقمي، بالإضافة إلى تبادل المعلومات وأفضل الممارسات.

ونوهت يوسف إلى أنه يجب على القائمين على مراقبة المجتمع عدم السماح للفكر الارتجالي بفرض إرادته أمام قوة الحجة العلمية المستندة إلى أسس منهجية سليمة، ويأتي ذلك في إطار الحفاظ على القيم وحماية المجتمعات من آفة خطاب الكراهية والتعصب، حيث يصعب إيجاد فرضيات مطلقة وقابلة للتحقيق، نظرًا إلى تقلب القيم الاجتماعية ومؤشراتها.

أخطر أشكال العنف

يُعدّ خطاب الكراهية، خصوصًا حين يتغذى على الطائفية، من أخطر أشكال العنف الرمزي في علم النفس الاجتماعي، بحسب ما قالته الباحثة الاجتماعية والنفسية، الدكتورة هبة كمال العرنوس، لعنب بلدي.

وبحسب العرنوس، تشير الدراسات التي تناولت تأثير “التحيز الجماعي” إلى أن هذا النوع من الخطاب يعزز الانقسام النفسي بين الأفراد، الذي يؤدي إلى ما يُعرف بـ“شيطنة الآخر”، وهي حالة يتوقف فيها الناس عن رؤية المختلف كإنسان.

ووعي المجتمعات بخطورة هذا الخطاب يتزايد، وهناك مؤشرات واضحة على دور منصات التواصل الواعي والإعلام البديل في مواجهة هذه الموجات، من خلال حملات مضادة تروّج لقيم التعددية والانتماء الإنساني المشترك.

العدوى العاطفية

أما عن التجييش نحو حادثة أو واقعة، فوسائل التواصل تُسرع عملية التحيز الجمعي من خلال ما يعرف بـ”العدوى العاطفية”، حيث تنتشر مشاعر الغضب والخوف بشكل متسلسل في المجموعات، ويُعاد إنتاجها بمحتوى تعبوي قد يفتقر للموضوعية، لكن في المقابل، نفس هذه الوسائل يمكن أن تُستخدم لإحداث تهدئة سريعة إن تم توجيه الخطاب فيها بحكمة ومصداقية، وفقًا للدكتورة هبة العرنوس.

وأشارت إلى ما يُعرف بـ”سياسة القطيع” (عقلية القطيع)، إذ تم رصدها في علم النفس الاجتماعي منذ دراسات غوستاف لوبون (سيكولوجيا الجماهير)، وهو الميل إلى تكرار سلوك الجماعة دون تفكير نقدي، وفي عصر وسائل التواصل، تصبح هذه الظاهرة أكثر خطورة بسبب خوارزميات تعزز المحتوى الرائج دون التحقق من صحته.

لكن الإيجابي في هذا السياق، برأيها، هو أن هذه الظاهرة ليست قدرًا حتميًا، بل تتراجع حين يُعزّز التفكير النقدي وتولد “المناعة الإعلامية” لدى الأفراد التوعية للناس بكيفية التحقق من المعلومة التي أصبحت ضرورة مجتمعية.

بناء خطاب مسؤول

ترى الدكتورة هبة العرنوس أنه تقع على عاتق الخطاب الرقمي اليوم مسؤولية أخلاقية ومجتمعية كبرى، تنطوي تحتها العديد من الأولويات هي:

بناء خطاب مسؤول، يوازن بين حرية التعبير واحترام الآخر.

نشر التحقق والتمحيص، بدل النقل العاطفي المبالغ فيه.

التركيز على المساحات المشتركة بين المكونات الاجتماعية، بدل تعزيز الفروقات والانقسامات.

أن يُدار الحوار بلغة علمية، قائمة على الوقائع لا الانطباعات.

عنب بلدي

——————————

====================

العدالة الانتقالية تحديث 03 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

العدالة الانتقالية في سوريا

————————-

إبراهيم اليوسف ومدرسة المدفعية مجدداً/ حسام جزماتي

2025.06.02

قبل حوالي عشرة أيام بثت قناة «سوريا بودكاست» على يوتيوب حديثاً أجرته مع عزيزة جلود

، زوجة النقيب الذي قاد العملية الشهيرة في مدرسة المدفعية بحلب، صيف العام 1979.

ورغم ما مر بالبلاد من ويلات عقب ذلك، وما تجدد بصورة أكبر خلال سنوات الثورة؛ تحتفظ هذه العملية بموقع تأسيسي لا ينازعها عليه حدث آخر، وبأثر راضٍّ في الأوساط العلوية يتجدد طازجاً بمجرد ذكر اسم إبراهيم اليوسف. الرجل الذي يثير استقطاباً حاداً بين من يرى أنه تجسيد كامل لوصف «المجرم»، وبين من يعتقد، على الضفة الأخرى، أنه «بطل» تنبه مبكراً إلى مجموعة حقائق أكدتها سنوات الثورة؛ كالتمييز الطائفي في الجيش كنموذج مركز عن الحياة العامة، واستحالة مقارعة نظام الأسد إلا بالوسائل العسكرية التي تعد طريقاً للفداء إن كانت ضعيفة كما كانت حال اليوسف ورفاقه الذين قضوا شهداء في نظر أنصارهم، أو يكون العمل الجهادي سبيلاً للنصر كما حصل مع «الثورة الثانية» كما يحلو للبعض أن يسمّوا ما جرى في سوريا منذ العام 2011، محتفظين للتمرد الذي أطلقه تنظيم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين»، في نهاية عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات، بوصف الثورة الأولى.

والحقيقة أن بين الحراكين وشائج وتناقضات. فقد انطلق الأول على يد مجموعة صغيرة، مسلحة، طائفية، نشأت في رحم «الإخوان المسلمين» من دون رضى الأم التي انزلقت إلى الصراع، الذي حفز جماهير على الانتفاض في حماة وحلب وأقل من ذلك في محافظات أخرى، وشجّع نقابات وأحزاباً سياسية قومية ويسارية على رفع الصوت والمطالبة بإسقاط النظام. في حين أن الثورة، بالمعنى المتفق عليه الآن، بدأت بالعكس؛ حراكاً سلمياً اضطر إلى التسلح، ومطالب سياسية اتجهت نحو الجذرية، وطابعاً ظاهراً من المدنية متعددة الطوائف انحسر إلى تكثيف سنّي لم يهدّئه انتصار الثورة بل أطلقه من قمقمه وصول جماعة إسلامية إلى الحكم.

والحال أن أحد العناصر التي يتفق عليها الجهاديون هي كراهية «الإخوان المسلمين»، سواء أخرجوا أصلاً من عباءتهم أم لا. وهو ما تتفق عليه «الطليعة المقاتلة»، ولا سيما في أيامها الأخيرة، مع «هيئة تحرير الشام» التي لم تؤثر عنها علاقة طيبة مع «الإخوان» لا خلال سنوات الثورة ولا بعدها. ولطالما كان السبب هو لوم الأخيرين على «سياسيتهم»، في «التحالف الوطني لتحرير سوريا» في آذار 1982 وفي «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» منذ تشرين الثاني 2012 حتى إعلان حل نفسه.

في البودكاست المشار إليه، وقبله في كتاب كانت أصدرته بعنوان «إبراهيم اليوسف وصفحات من تاريخ الطليعة المقاتلة في سوريا»، تتبنى جلود رواية الثورتين المتكاملتين بعد مدة انقطاع طويلة. وترى أن سنوات سجنها الإحدى عشرة لم تذهب سدى الآن، وأن «حق» زوجها سيعود، خاصة وأن قوات السلطة الحالية قبضت، بالصدفة، على مساعد الأمن الذي أطلق عليه الرصاصة الأخيرة. وإن كانت تختتم ذلك مستغربة من إطلاق سراحه بعدها.

تدافع أم ياسر عما فعله زوجها بأنه ردة فعل، ليست عادلة بالضرورة، على ما شعر به من تمييز وصل إلى حد الانتقاص من مكانته كضابط، لكنه «سنّي» في نهاية الأمر. بل إنها امتلكت أسبابها الخاصة لكراهية النظام والمشاركة في العمل ضده بسبب ما عانته، وشاهدته، في فروع المخابرات التي دخلتها بداية لمجرد أنها زوجة مطلوب لم تكن تعلم، في حقيقة الأمر، شيئاً عن الانتماء السري لرجلها، ولم تلتقط منه، في صباح ذلك اليوم الذي نفّذ فيه عمليته، أي إشارة إلى ما سيحدث ويقلب حياتهما.

وفي مواجهة منح جلود صوتها، ومنح الجميع أصواتهم بطبيعة الحال، يبرز موقفان؛ يدعو الأول منهما إلى طيّ السجادة والجثة بداخلها بدعوى أن فتح ملف المجازر يؤجج الأحقاد ويهدد السلم الأهلي في مرحلة «حرجة» لا تنتهي. ويمارس الثاني، عملياً ومن دون إعلان، احتكار الرواية لصالح جهة. كما سبق للنظام أن فعل بصدد هذه المجزرة منذ حدوثها وحتى أصدرت قناته الرسمية، «الإخبارية السورية»، قبل سنوات، فيلماً وثائقياً عنها بعنوان «بصمات الدم الأولى» التقى ببعض الشهود الأحياء من الذين استهدفتهم. وكلا الموقفين خاطئ.

فمن جهة أولى لم يُفد تجاهل المجازر في منع تكراراها وتولدها من بعضها بل العكس، طالما هي حية في نفوس الناجين منها وأهل ضحاياها وبيئتهم. بل إن وضعها على الطاولة والتفرس فيها هو الكفيل بتخفيف الاحتقانات الناجمة عنها. أما رفض سماع رواية أحد الطرفين كلياً فانحياز عار مهما تستر بعدم السماح للمرتكبين، أو من يمثلهم، بممارسة التشويش على رواية الضحية. ففي النهاية ينتمي المجرم الكامل والضحية التامة إلى عالم ليس من هذه الأرض التي تحوي تدافعاً مستمراً من الأفعال وردّاتها. ويفيد فهم هذا التراكم وتحليل السياق في تقليل التكرار.

هل ستؤدي قصة عزيزة جلود إلى معرفة أكبر بدوافع زوجها؟ نعم. وهل ستخفف من غلواء من يعدّونه شيطاناً بشرياً خالصاً؟ ستفعل على الأغلب. لكن ذلك لازم بقدر ما هي هامة مشاهدة اللقاء الذي أجرته «الإخبارية السورية» ضمن الوثائقي نفسه مع أحمد ميهوب علي، الكهل وقتئذ، الضرير منذ أكثر من ثلاثين عاماً بعدما فقد بصره نتيجة لإصابته بشظايا في ذلك اليوم. بل إن اللحظة القصوى ربما تكون حين يلتقي الشاهدان؛ مؤيد العملية وضحية المجزرة.

هذا هو سبيل التعافي المجتمعي وشق طرق السلام الصعبة. وهو أحد المقومات الرمزية للعدالة الانتقالية طالما أن العدالة الفعلية يفترض أن تبقى بيد قضاء عادل وبارد يحاسب على الأفعال. تاركاً ما سوى ذلك من مشاعر الحقد أو التقديس أو التعاطف أو الغضب بعيداً عن قوس المحكمة التي تأخذ بالقسط.

تلفزيون سوريا

——————————-

 ملاحظات قانونية حول بعض “المراسيم”/ محمد صبرا

2025.06.02

تخطو سوريا اليوم خطوات كبيرة باتجاه إعادة التموضع في نسيج العلاقات الدولية والإقليمية، وتكاد تكون هذه الخطوات قفزات تاريخية بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهناك من جهة إرادة دولية وإقليمية صادقة وجادة في توفير كل أسباب النجاح للسلطة الانتقالية، وفي الجانب الآخر تبدي هذه السلطة المرونة الكافية لفهم تعقيدات العلاقات الدولية، وتتكيف معها ضمن مصفوفة من التوازنات التي تسير فيها بنجاح ملحوظ حتى اللحظة، ونتمنى أن تبدأ السلطة الانتقالية بالالتفات إلى بناء الدولة كمفهوم وكمؤسسات خاضعة للقانون من أعلى قمة السلطة إلى أدناها.

فالسلطة السياسية في عالمنا المعاصر، تقوم على ركيزتين: الأولى قناعة الناس بشرعيتها، أي اعترافهم بحقها في إصدار الأوامر والنواهي، والثانية امتلاكها وسائل الإكراه لتنفيذ هذه الأوامر عند الضرورة، وهاتين الركيزتين تقومان على مبدأ أساس وهو سيادة القانون، وبذلك تكون السلطة الخاضعة للقانون سلطة شرعية بقدر احترامها له وبقدر صدور أوامرها طبقاً له، وهذا ما يمنح المواطنين الشعور بأنهم ملزمون بالخضوع لأوامر السلطة ونواهيها لأن هذه الأوامر لا تصدر عن عبث، وإنما تستند إلى قانون منشور يعرفونه وسبق أن اطلعوا عليه، فطاعة القانون تنبع من الاعتقاد بأنه عادل وضروري لتحقيق الخير العام، وتفترض أيضاً أن من يخرقه سيتعرض للعقاب، مما يمنح الآخرين شعوراً بالأمان والثقة في النظام. وفي هذا الصدد يمكن لنا أن نسوق بعض الملاحظات التي نتمنى من السلطة بكافة مستوياتها أن تنظر لها بجدية. وهذه الملاحظات يمكن اختزالها بضرورة انسجام قرارات السلطة بكافة مستوياتها مع القوانين النافذة، وعلى رأسها الإعلان الدستوري. وهنا نذكر أن السيد رئيس الجمهورية أصدر عدداً من المراسيم، ورغم أهمية المواضيع التي صدرت فيها هذه المراسيم، إلا أن هناك شوائب قانونية شابت هذه المراسيم، سواء من ناحية الصياغة الشكلية أو من ناحية المواضيع التي تضمنتها، أو من ناحية السلطات والصلاحيات، وذلك وفق التفصيل الآتي:

عدم جواز صدور مراسيم من رئيس الجمهورية

نص الإعلان الدستوري المؤقت النافذ في سوريا حالياً على صلاحيات مقيدة للسيد رئيس الجمهورية، وجاءت هذه الصلاحيات على سبيل الحصر والتعداد، ونظمتها المواد من 31 إلى 41، ونصت المادة 36 من الإعلان الدستوري على أنواع القرارات التي تصدر عن رئيس الجمهورية على سبيل الحصر، حيث قالت: “يصدر رئيس الجمهورية اللوائح التنفيذية والتنظيمية ولوائح الضبط والأوامر والقرارات الرئاسية، وفقاً للقوانين”. وهذه المادة المقيدة من حيث الصياغة لا ترد فيها سلطة رئيس الدولة بإصدار مراسيم، وهذا أحد أوجه القصور المعيب في صياغة الإعلان الدستوري الذي لم يراعِ الكثير من القضايا والصلاحيات التي كان من المفترض أن ترد في نص الدستور. والقواعد الفقهية في القانون الدستوري تجمع على أن أي سلطة دستورية لا تستطيع أن تصدر قرارات أو تقوم بأعمال لا يسمح لها الدستور بها، أو لا ينص الدستور عليها صراحة، إذ إن تفسير النصوص الدستورية يبقى تفسيراً مقيداً ولا يجوز القياس عليها. وفي معرض القصور في النص على صلاحيات رئيس الجمهورية في الإعلان الدستوري، نذكر أيضاً أن المادة 38 التي أعطت الحق لرئيس الجمهورية بتعيين رؤساء البعثات الدبلوماسية لدى الدول الأجنبية وإقالتهم، أغفلت ذكر حق رئيس الدولة بتعيين كبار الموظفين المدنيين والعسكريين. وهذا الأمر لا يجوز افتراضه، بل لا بد من النص عليه صراحة في النص الدستوري أياً كان (إعلاناً دستورياً أو دستوراً دائماً). وخطورة هذا النقص أنها تسمح بالكثير من اللغط وربما الكثير من العثرات القانونية في المستقبل، لأن الإعلان الدستوري نفسه، والذي كان يُفترض أن يقوم على مبادئ النظام السياسي الرئاسي، أخطأ خطأ جسيماً في المادة 31 منه عندما قال: “يمارس رئيس الجمهورية والوزراء السلطة التنفيذية، ضمن الحدود المنصوص عليها في هذا الإعلان الدستوري”، وهذا الخطأ الجسيم يعني ازدواجية السلطة التنفيذية، لأن واو المعية الواردة في النص، والتي تجمع رئيس الجمهورية مع الوزراء، تعني أن ممارسة السلطة التنفيذية تكون من حق الجهتين، الأمر الذي يترك الكثير من الإرباك على مستوى الإدارة والقانون وتضارب القرارات، وهذا يتناقض مع أسس صياغة الدساتير الرئاسية مثل الدستور التركي أو الأميركي على سبيل المثال، والتي تحصر السلطة التنفيذية برئيس الجمهورية.

واستناداً إلى ما سبق، فإن الإعلان الدستوري الذي حجب عن رئيس الجمهورية سلطة إصدار مراسيم، واجب الاتباع، وبالتالي، فإنه قد يكون من المفيد تعديل الصيغ التي تصدر بها القرارات عن رئيس الجمهورية، وتعديلها إلى صيغة “قرار رئاسي”.

المرسوم رقم 18 لعام 2025، والقاضي بتغيير هيكلية الهيئة العامة للتخطيط والتعاون الدولي

مع التأكيد على الملاحظة السابقة المتضمنة عدم جواز صدور مراسيم عن رئيس الجمهورية، فإن المرسوم الذي نتحدث عنه، وهو رقم 18، خالف أيضاً نصوص الإعلان الدستوري، وذلك للأسباب التالية:

هيئة التخطيط والتعاون الدولي تم إحداثها بموجب القانون رقم 1 لعام 2011، وبالتالي فإن أي تغيير بهيكليتها يجب أن يكون عبر قانون تشريعي. وباعتبار أن الإعلان الدستوري حجب عن رئيس الجمهورية سلطة التشريع، فإن المرسوم رقم 18 لا يتفق البتة مع أحكام الإعلان الدستوري. وهنا نلاحظ أيضاً القصور في صياغة الإعلان الدستوري، والذي كان من الواجب عليه أن يضع مادة مؤقتة تقول: “يتولى رئيس الجمهورية سلطة التشريع إلى حين تشكيل مجلس الشعب، على أن تُعرض التشريعات الصادرة عن رئيس الجمهورية في هذه الفترة على المجلس خلال خمسة عشر يوماً من انعقاده، للنظر فيها ومناقشتها وإقرارها أو تعديلها أو إلغائها، فإذا لم تُعرض على المجلس زال ما لها من قوة قانونية بأثر رجعي من دون الحاجة لإصدار قرار في ذلك”. وضرورة مثل هذه المادة أن البلاد تعيش في فراغ تشريعي كامل، يخلّ بسير السلطات العامة، ويعطّل أعمال الإدارة.

إن إحداث إدارة التعاون الدولي، وإناطتها بوزارة الخارجية، وإن كانت صحيحة من حيث المضمون، إلا أن تشكيلها يجب أن يكون بقانون، لأنه يتعلق بهيكلة الوزارات الأخرى، حيث نص المرسوم 18 على أن مكاتب التعاون الدولي في الوزارات والمحافظات تتبع إدارياً وفنياً لوزارة الخارجية، وهذا يعني خلق جهات إدارية ضمن وزارة تتبع لوزير آخر، ما يعني حجب صلاحيات وسلطات الوزراء عن توجيه أو إصدار تعليمات أو قرارات تتعلق بهذه المكاتب المحدثة في وزاراتهم. وهذا يسمح لوزارة الخارجية بالتدخل الشامل في عمل كل الوزارات، وهو أمر غير جائز قانونياً، وكان من الممكن، لو تم تنظيم الأمر بقانون، أن يتم النص على إحداث مديرية التعاون الدولي في وزارة الخارجية، وندب ممثلين وموظفين منها إلى الوزارات الأخرى، للتنسيق فيما يتعلق بقضايا التعاون الدولي.

ورد في المادة الأولى من المرسوم 18 أن تعديل المهام والهيكلية لهيئة التخطيط الدولي سيتم تحديده بالتعليمات التنفيذية لهذا المرسوم، وهنا أيضاً نجد نوعاً من الإفصاح أن المرسوم هو عمل تشريعي، وهو محجوب عن رئيس الجمهورية بموجب الإعلان الدستوري النافذ. وهذا ينطبق أيضاً على المادة الرابعة منه، والتي قالت بالحرف: “يكلف المعنيون بتنفيذ أحكام هذا المرسوم واتخاذ ما يلزم من إجراءات إدارية وتشريعية لإعادة الهيكلة وفق ما ورد أعلاه”، وأيضاً هنا نجد تكليف جهة إدارية بإصدار إجراءات تشريعية، وهذا غير ممكن في ظل الإعلان الدستوري النافذ حالياً، وكان من الأفضل أن تتم صياغة كل هذه المقترحات على شكل مشاريع قوانين يقترحها رئيس الجمهورية على مجلس الشعب حين تشكيله، وذلك استناداً إلى المادة 39 فقرة 1 من الإعلان الدستوري.

المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 2025 القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين

هذا المرسوم يتعارض مع الإعلان الدستوري، فضلاً عن تعارضه مع القوانين السورية ومع المبادئ القانونية الراسخة. فإحداث هيئة وطنية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، يحتاج إلى قانون صادر عن مجلس الشعب أو إلى مرسوم تشريعي، وبما أن رئيس الجمهورية لا يستطيع إصدار مثل هذا المرسوم، فإنه لا بد من إعادة النظر في هذا الأمر ومحاولة توفيق ما أمكن مع القواعد القانونية. وإضافة إلى هذه الملاحظات، يمكن النعي على المرسوم 19 بالمثالب التالية:

لم يبيّن المرسوم 19 مرجعية الهيئة الإدارية، وهل ترتبط برئيس الجمهورية أم بإحدى الوزارات، وهل يتمتع رئيس الهيئة بسلطات وصلاحيات الوزير أم لا. وهذه القضايا على غاية من الأهمية، لأنها تتعلق بضبط المالية العامة وتحديد عاقد النفقة، وأيضاً تحديد الموازنة المالية لهذه الهيئة، وهل ستكون ضمن موازنة رئاسة الجمهورية أم لها بند خاص من بنود موازنة الدولة، أم ستأخذ موازنتها من إحدى الوزارات.

كذلك، هناك سقف مالي محدد لعاقد النفقة بحسب درجته الوظيفية، وبالتالي كان من الواجب بيان الصفة الوظيفية والتبعية الإدارية لرئيس الهيئة، لتحديد السقف المالي الذي يستطيع الأمر بصرفه من دون العودة إلى مرجع أعلى في السلطة.

كذلك فإن الولاية الممنوحة للهيئة الجديدة غير واضحة، سواء من ناحية الولاية المالية أو الولاية القانونية، وجاءت صيغة المرسوم عامة ومبهمة، حيث اكتفت بتحديد صلاحياتها بأنها مكلفة بالبحث والكشف عن مصير المفقودين، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلاتهم، وهذا يتداخل فعلياً مع عمل بعض الوزارات، مثل وزارة العدل، إذ إن البحث عن المفقودين يجب أن يكون من قبل النيابة العامة، لأن هناك عدداً هائلاً من القواعد القانونية ذات الأولوية القصوى التي تتعلق بإعلان أن فلاناً من الناس مفقود أو البتّ بمصيره. وهذه القواعد القانونية تتعلق بأحكام الوفاة وما يترتب عليها من إرث وحقوق للزوجة إن كان متزوجاً، فضلاً عن قضايا الملكية وتعقيداتها، وحتى قضايا الجنسية وإثبات النسب وغيرها من التعقيدات القانونية التي تنشأ عن حالات اعتبار الشخص مفقوداً. لذلك، وبسبب خطورة مثل هذه القضايا، كان من الأفضل أن يتم تنظيمها بقانون شامل مفصّل يُراعى فيه كل هذه التعقيدات القانونية، ويسمح بنشوء تعاون كامل بين النيابة العامة والطب الشرعي ومديرية الأحوال المدنية وغيرها من المؤسسات ذات الصلة بهذه التعقيدات الشائكة.

إن تكليف رئيس الهيئة بوضع النظام الداخلي لعملها وتشكيل فريق العمل، يعتبر أيضاً مخالفاً للإعلان الدستوري وللقانون، فالنظام الداخلي للهيئة يجب أن يصدر من الجهة صاحبة الحق في إنشاء مثل هذه الهيئة، وليس من قبل رئيسها، لأنه لا يجوز تفويض الشخص بوضع ضوابط مركزه القانوني. كذلك، فإن النظام الداخلي سيتطرق لا محالة إلى القضايا المالية التي ستحكم عمل الهيئة، وهذه من اختصاص الجهة التشريعية، لأنها تصرفات تمس المالية العامة، ويجب أن تخضع لرقابة الجهة التشريعية ولإشرافها.

كذلك، فإن تكليف رئيس الهيئة بتشكيل فريق العمل، يعتبر أمراً يتناقض مع القانون الأساسي للعاملين في الدولة، فالعاملون في الهيئة لاحقاً يجب أن يتمتعوا بمركز قانوني يستمدونه من القانون وليس من قرار رئيسهم. كذلك فإن تعيين الموظفين العموميين يخضع لآليات قانونية دقيقة تضمن مبدأ المساواة أمام الوظيفة العامة، وتحمي حقوق الموظفين المالية والمعنوية، وتضع آليات محددة لترقيتهم ولدرجتهم الوظيفية. وهذه الأمور جميعها يجب أن تخضع لتنظيم تشريعي، وليس لقرار إداري يصدر عن رئيس الهيئة.

المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 2025 القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية

للأسف، أيضاً هذا المرسوم تنطبق عليه كل الملاحظات السالفة الذكر، ونزيد عليها أن تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية يجب أن يكون بنص تشريعي حصراً، لأن هذه الهيئة تتمتع بولاية قضائية وقانونية كبيرة وواسعة جداً، ولا يمكن للسلطة التنفيذية أن تمنح مثل هذه الولاية أو أن تفوّض بها. كذلك، من غير الجائز أن يُكلّف رئيس الهيئة بوضع نظامها الداخلي، لأن ذلك عمل تشريعي يجب أن يصدر من الجهة صاحبة الحق الأصيل بإحداث هذه الهيئة. إضافة إلى ذلك، فإن تعيين فريق العمل من قبل رئيس الهيئة هو أيضاً تجاوز لكل القوانين، ولا سيما قوانين السلطة القضائية والقانون الأساسي للعاملين في الدولة. وأيضاً، وهو الأخطر، أن هذه الهيئة سيتداخل عملها إلى حد كبير مع عمل النيابة العامة ومع عمل القضاء، ولذلك يجب إحداثها بقانون وليس بقرار. كذلك، فإن مرجعيتها القانونية غائبة عن مرسوم تشكيلها، ومن غير المعروف لمن ستتبع هذه الهيئة، لرئيس الجمهورية أم لوزارة العدل أم لجهة أخرى، والقول بأنها ستتبع رئيس الجمهورية لأنه هو الذي أصدر مرسوم تشكيلها، وأن ذلك مفترض من دون حاجة للنص عليه، هو قول غير صحيح، لأنه على مستوى القانون الدستوري والإداري لا يمكن افتراض تبعية قانونية بمجرد تحديد جهة التشكيل. هذه الملاحظات، بالإضافة إلى الملاحظات المتعلقة بموضوع المساس بحقوق المالية العامة، والتي سبق أن ذُكرت سالفاً.

المرسوم التشريعي رقم 44 تاريخ 29/5/2025 والمتضمن آلية شغل الوظائف القيادية في الدولة ضمن مستوى الإدارة الوسطى:

إن هذا المرسوم يتجاوز اللائحة التنظيمية أو اللوائح التنفيذية التي نصت عليها المادة 36 من الإعلان الدستوري، وهي اللوائح التي يمكن لرئيس الجمهورية إصدارها، ويتضمن المرسوم المنوّه عنه سالفاً تعديلاً جوهرياً للقانون الأساسي للعاملين في الدولة، ما يجعله نصاً تشريعياً. ومن المبادئ المتفق عليها أن النظام الرئاسي لا يسمح لرئيس الدولة بإصدار تشريعات أو قوانين، لأن هذا يخل بمبدأ الفصل الجامد بين السلطات.

وقد يقول البعض إن المرسوم التشريعي رقم 43 لعام 1971 ما يزال نافذاً طبقاً لما نص عليه الإعلان الدستوري نفسه في المادة 51، إلا أن الرد على هذا الرأي يكمن في جوهر التغيير الذي حمله الإعلان الدستوري، والانتقال من النظام البرلماني، حيث تنقسم السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، إلى نظام رئاسي يفترض فيه الفصل الجامد بين السلطات، ما يغير من طبيعة عمل السلطة التنفيذية وصلاحياتها انسجاماً مع النص الدستوري الحالي، والذي هو الإعلان الدستوري. والمرسوم 43 لعام 1971 لم يُنشئ سلطة أو صلاحية مستحدثة لرئيس الجمهورية، بل جاء تطبيقاً للفقرة 3 من المادة 54 من الدستور المؤقت الصادر بتاريخ — والتي نصّت صراحة على ما يلي في معرض تحديدها لصلاحيات رئيس الجمهورية: “إصدار باقي المراسيم والقرارات والأوامر طبقاً للتشريعات النافذة”. كذلك ورد في الدستور السوري لعام 1973 مادة صريحة تعطي الحق لرئيس الجمهورية بإصدار المراسيم، وهي المادة 99، والتي قالت: “يصدر رئيس الجمهورية المراسيم والقرارات والأوامر وفقاً للتشريعات النافذة”، وكذلك ورد في دستور عام 2012 في المادة 101 نص صريح يقول: “يصدر رئيس الجمهورية المراسيم والقرارات والأوامر وفقاً للقانون”.

إذاً، من هذه المواد جميعاً، وطبقاً لقواعد تفسير النص الدستوري، فإن المرسوم التشريعي رقم 43 لعام 1971 لا يصلح أن يكون متكأً لإصدار مراسيم في الوقت الحالي، لأن هذا المرسوم هو إطار تنظيمي يحدد آلية صدور المراسيم من قبل رئيس الجمهورية ويستند إلى نص واضح في الدستور الذي صدر في ظله، وكذلك بقي نافذاً لأن كل الدساتير التي صدرت بعد ذلك حافظت على حق رئيس الجمهورية في إصدار المراسيم، بينما نجد أن الإعلان الدستوري لا يسمح بهذا الأمر. وكذلك فإن الاستناد إلى العرف الدستوري قد لا يسعفنا في هذا الظرف، لأن من شروط قيام العرف الاضطراد والمشروعية والعمومية في ظل عدم وجود نص، بينما نجد أن النصوص الدستورية منذ عام 1971 وحتى 2024 قد نصّت صراحة على حق رئيس الجمهورية في إصدار مراسيم.

ختاماً، فإن احترام الإعلان الدستوري وتطبيقه من قبل السيد رئيس الجمهورية الذي أصدره، ليس ترفاً أو مجرد مطلب شكلي، بل هو ضرورة أساسية لطمأنة الجمهور بأن السلطة السياسية تحترم القانون النافذ وتتصرف تحت سقفه. وهذا أمر حيوي جداً ليشعر المواطنون بالأمن، وأن سيادة القانون تشملهم وتشمل السلطة في آنٍ معاً. وإذا كان هناك ثغرات في الإعلان الدستوري تعيق سلاسة العمل الحكومي، فهذا يتطلب معالجة من نوع آخر، وليس خرق الإعلان بسلسلة من القرارات والمراسيم. ولا سيما أن الكثير من وزارات الدولة باتت تستنّ بهذه السُنّة، حيث أصدر بعض الوزراء قرارات تعطل نصوصاً قانونية، بل إن جهات إدارية باتت تفرض رسوماً وتعريفات جمركية من دون أي سند قانوني أو وجه حق، وهذا يشير إلى عمق المأزق الذي نعيشه في الوقت الحالي، والذي يتطلب أن تخضع فيه السلطة لقانون واضح ومعلن، لا أن تُتخذ القرارات وفقاً لما تراه مناسباً من دون الالتفات إلى مبدأ الشرعية وسيادة القانون.

تلفزيون سوريا

————————

==========================

عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 03 حزيران 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة

لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي

عن أشتباكات صحنايا وجرمانا

—————————-

قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية/ فضل عبد الغني

3 يونيو 2025

شكَّل سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 نقطة تحوُّل جيوسياسية محورية في الشرق الأوسط، حيث أنهى هذا التحول المفاجئ، الذي لم تتوقعه القوى الإقليمية والدولية، عقودًا من الحكم الأوتوقراطي والثبات السياسي النسبي الذي اتسم به النظام السوري منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970.

وفَّر هذا التحول غير المتوقع لإسرائيل فرصة غير مسبوقة لإعادة رسم المشهد الإقليمي بما يتماشى مع رؤيتها الأمنية والسياسية. فقد تبنّت إسرائيل موقفًا عدائيًا واضحًا، متجاهلةً محاولات أحمد الشرع للانفتاح و”الاعتدال السياسي”، حيث وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس حكومة الشرع بأنَّها “تهديد وجودي”، مركِّزين على خلفيته الجهادية، ورافضين الاعتراف بتخليه عن أيديولوجيته السابقة. بل ذهبت إسرائيل إلى حدّ اعتبار حكومته متوافقة أيديولوجيًا مع حركة حماس، في مسعى واضح لتبرير خطط توسعية معدة مسبقًا.

وفي أخطر تصعيد عسكري/سياسي، فجر يوم الجمعة الموافق 2 أيار/مايو 2025، شنَّت طائرات حربية تابعة لقوات الاحتلال الإسرائيلي غارة جوية استهدفت موقعًا قريبًا من القصر الرئاسي في دمشق. وعقب الهجوم، صدر بيان مشترك عن نتنياهو وكاتس، اعتبرا فيه الغارة رسالة مباشرة إلى النظام السوري، مؤكدَين رفضهما القاطع لما وصفاه بـ “تهديد الطائفة الدرزية أو إرسال قوات إلى الجنوب”.

احتلال إسرائيلي دائم لأراضٍ سورية

اتجهت أنظار إسرائيل، مباشرة بعد انهيار نظام الأسد، إلى السيطرة على المنطقة العازلة التي تراقبها الأمم المتحدة. ففي 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، سارعت القوات الإسرائيلية إلى احتلال أجزاء واسعة من المنطقة المنزوعة السلاح، التي تمتد بطول يقارب 75 كيلومترًا، ويتراوح عرضها بين 10 كيلومترات في الوسط و200 متر في أقصى الجنوب. وعلى مدار خمسة عقود، شكلت هذه المنطقة حاجزًا أمنيًا محوريًا تحت إشراف قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF)، مما أسهم في الحفاظ على درجة من الاستقرار الحدودي، رغم غياب معاهدة سلام رسمية بين الطرفين.

وفي خطوة مدروسة تعكس تحوّلًا استراتيجيًا، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّ اتفاقية فك الاشتباك لم تعد سارية، معتبرًا أنَّ الترتيبات السابقة فقدت صلاحيتها في ضوء الواقع الجديد. رافق الاحتلال الإسرائيلي عمليات تضييق كبير على مهام قوة الأمم المتحدة، حيث انخفض عدد دورياتها اليومية من 55 – 60 مهمة إلى 3 – 5 فقط. كما كشفت تقارير ميدانية عن قيام القوات الإسرائيلية بإنشاء منشآت عسكرية جديدة ووضع رموز سيادية داخل المنطقة العازلة، في انتهاك مباشر للصلاحيات الممنوحة للبعثة الأممية.

فإلى جانب السيطرة على المنطقة العازلة، عمدت إسرائيل إلى توسيع رقعة نفوذها الإقليمي لتشمل:

    كامل مرتفعات الجولان، التي تبلغ مساحتها نحو 1200 كيلومتر مربع، حيث عززت إسرائيل وجودها فيها رغم احتلالها المستمر منذ عام 1967.

    مناطق إضافية تتجاوز مساحتها 500 كيلومتر مربع في جنوب غرب سوريا، مما يشكل توغلًا غير مسبوق داخل العمق السوري.

كما كشفت التحركات الإسرائيلية على الأرض عن نية واضحة لترسيخ الوجود العسكري طويل الأمد في المناطق السورية المحتلة حديثًا. فقد أظهرت صور الأقمار الصناعية قيام إسرائيل بإنشاء عدة قواعد عسكرية جديدة، وأكّدت تقارير إذاعة الجيش الإسرائيلي أنَّ تسع قواعد أُقيمت منذ كانون الأول/ديسمبر 2024، توزعت على النحو التالي:

    قاعدتان في جبل الشيخ، تعزز الهيمنة الإسرائيلية على أعلى النقاط الجغرافية في المنطقة.

    سبع قواعد عسكرية داخل المنطقة العازلة، ما يعكس توجهًا نحو تثبيت الاحتلال بشكل دائم.

ويُلاحظ أنَّ هذه القواعد لا تقتصر على البنية العسكرية، بل تتضمن أيضًا منشآت سكنية وكنيسًا يهوديًا، في مؤشر على وجود خطة منهجية تهدف إلى فرض واقع ديموغرافي وسياسي جديد في المناطق المحتلة. كما تجري أعمال بناء طرق في تلك المناطق، ما يُفسَّر كجزء من جهود دعم العمليات العسكرية وتعزيز السيطرة طويلة الأمد.

تنسيق مع بعض مشايخ الطائفة الدرزية

في أعقاب سقوط نظام الأسد، كثَّفت إسرائيل مساعيها للتواصل مع بعض الشخصيات البارزة في الطائفة الدرزية داخل سوريا، متبنية خطابًا يُظهِرها كمدافع عن الأقليات في مواجهة ما وصفته بالتهديدات المحتملة من الحكومة السورية الجديدة ذات التوجه الإسلامي. وفي هذا السياق، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعليمات مباشرة للجيش الإسرائيلي بضرورة توفير الحماية للتجمعات السكانية الدرزية، مترافقة مع تحذيرات واضحة بأنَّ إسرائيل ستقوم باستهداف القوات السورية في حال اقترابها من قرى محددة، كبلدة جرمانا.

تباين المواقف داخل المجتمع الدرزي

اعتمد الدروز السوريون تاريخيًا مقاربات سياسية متفاوتة، تأقلمت مع تحولات ميزان القوى، وقد تجلى هذا النمط في تباين المواقف تجاه التدخل الإسرائيلي بعد سقوط الأسد. تراوحت المواقف بين انخراط محدود وتعاون حذر من جهة، ورفض قاطع من جهة أخرى:

    الانخراط الحذر: رحبت بعض الفئات داخل المجتمع الدرزي بالحماية الإسرائيلية، التي أُطلق عليها محليًا وصف “القبة الحديدية الدرزية”. وقد أبدت بعض القيادات الدرزية استعدادًا لتنسيق أمني محدود مع إسرائيل، وأُنشئت تشكيلات عسكرية محلية سعت إلى الحصول على ضمانات أمنية من الجانب الإسرائيلي.

    الرفض الشعبي والسياسي: في المقابل، عبّرت شرائح واسعة من الدروز عن رفضها القاطع لأي تدخل إسرائيلي. شهدت محافظة السويداء مظاهرات رفعت لافتات تؤكد على وحدة الأراضي السورية ورفض الوصاية الأجنبية. وفي آذار/مارس 2025، خرجت احتجاجات واسعة في بلدة جرمانا استنكارًا لتصريحات نتنياهو بشأن “حماية” الدروز، وردد المحتجون شعارات مثل: “نحن سوريون ولا نحتاج حماية أجنبية” و”وحدة سوريا خط أحمر”، مؤكدين تمسكهم بالسيادة الوطنية ورفضهم أي تدخل خارجي.

تداعيات التدخل الإسرائيلي على السيادة السورية والاستقرار الإقليمي

يشكل الاحتلال الإسرائيلي خرقًا واضحًا للمبادئ الجوهرية في القانون الدولي، وعلى رأسها مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، وأُعيد تأكيده في قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967. ومن خلال تجاهلها لاتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، التي نظمت الوضع في المنطقة العازلة طيلة خمسة عقود، فإنَّ إسرائيل تُقوِّض الأطر القانونية التي تحكم العلاقات الدولية، وتفتح المجال أمام سابقة خطيرة.

ويؤكد إنشاء قواعد عسكرية وبنية تحتية دائمة في الأراضي السورية المحتلة عزم إسرائيل على ترسيخ احتلال طويل الأمد. ومن شأن هذا التوسع أن يُخضع أجزاء واسعة من جنوب سوريا للهيمنة الأمنية الإسرائيلية، في تكرارٍ لنموذج الاحتلال الذي مارسته في جنوب لبنان بين عامي 1982 و2000.

كما أدت هذه الحملة العسكرية إلى إضعاف كبير في القدرات الدفاعية السورية. وتشير التقارير إلى أنَّ ما بين 70 % إلى 80 % من الأصول العسكرية الاستراتيجية لسوريا قد دُمّرت، بما يشمل أنظمة الدفاع الجوي والقدرات الصاروخية والبنية التحتية العسكرية التقليدية. وهو ما ينعكس سلبًا على قدرة الحكومة السورية في الدفاع عن أراضيها أو بسط سيادتها، خصوصًا في المناطق التي تشهد نزاعات مع فصائل مدعومة من أطراف خارجية.

ويشكّل التنسيق الإسرائيلي مع الطائفة الدرزية وقوات سوريا الديمقراطية، في أعقاب سقوط نظام الأسد، تحديًا مباشرًا لسلطة الدولة السورية. فمن خلال تقديم نفسها كجهة حامية للدروز، وإنشاء قنوات اتصال وتنسيق أمني مباشر معهم، تسعى إسرائيل إلى إعادة رسم التوازنات الداخلية في سوريا بما يتجاوز حدود المواجهة العسكرية التقليدية. ويُتيح هذا التنسيق لإسرائيل بناء هياكل سلطة موازية تُضعف المركزية الحكومية، وتُهدد وحدة الدولة الوطنية.

تأثير الاحتلال الإسرائيلي على الحياة اليومية

تُظهر شهادات سكان القرى السورية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي آثارًا مدمرة على نمط حياتهم اليومي. ففي بلدات مثل جملة وعابدين، أفاد الأهالي بأنَّ دوريات إسرائيلية قامت بإحراق مركبات عسكرية، وتنفيذ عمليات تفتيش، مع فرض مطالبات بنزع السلاح وتسجيل أسماء القيادات المحلية. كما أبلغ السكان عن حالات مصادرة مواشٍ، واحتجاز مدنيين، وفرض قيود صارمة على النشاط الزراعي، خاصة في المناطق القريبة من مواقع قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، مما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني في المنطقة.

وقد أسفرت العمليات العسكرية الإسرائيلية، والاستحواذ القسري على الأراضي، عن موجة نزوح جديدة طالت آلاف السوريين من المناطق المتأثرة، ليلتحقوا بملايين النازحين داخليًا نتيجة الصراع الممتد منذ عام 2011. ويُشكّل هذا التهجير المستمر عبئًا إضافيًا على الموارد الإنسانية والخدمات العامة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، مما يزيد من تعقيدات جهود الإغاثة وإعادة التوطين.

مسؤولية الحكومة السورية: تشاركية سياسية كضرورة وطنية وحراك دبلوماسي وقانوني موسع

تتحمّل الحكومة السورية الجديدة مسؤولية وطنية عاجلة لتعزيز التشاركية السياسية مع الطائفة الدرزية، من خلال تبني رؤية متكاملة تضمن تمثيلهم الفاعل في مختلف مستويات صنع القرار، ابتداءً من المجالس المحلية ووصولًا إلى المناصب العليا في الدولة. كما يتطلب الأمر منحهم دورًا ملموسًا في مسارات العدالة الانتقالية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، مع الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية والدينية وحمايتها.

ويجب تخصيص موارد تنموية كافية للمناطق ذات الأغلبية الدرزية، والتي عانت من التهميش والإهمال لسنوات طويلة، إلى جانب إشراك أبناء الطائفة في صياغة ميثاق وطني جديد يكفل حقوق جميع المكونات السورية على أساس المساواة والمواطنة. من شأن هذا النهج التشاركي أن يعزز من شرعية الحكومة الانتقالية داخليًا، ويقطع الطريق أمام محاولات إسرائيل استمالة بعض الفئات الدرزية وتوظيفها كأداة لتمزيق النسيج الوطني السوري. كما يُسهم في إفشال سياسة “فرّق تسد” التي تسعى إسرائيل إلى ترسيخها كأداة استراتيجية لإضعاف الدولة السورية وتقويض سيادتها.

حراك دبلوماسي واسع

تواجه الحكومة السورية الانتقالية ضرورة حتمية للتصدي للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عبر تبني حراك دبلوماسي نشط ومتعدد المستويات. ويتطلب ذلك المبادرة الفورية بطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي عقب الهجوم الإسرائيلي على القصر الرئاسي، مدعومة بملف قانوني متكامل يوثق سلسلة الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة السورية ومبادئ القانون الدولي. بالتوازي، يجب على سوريا طلب عقد اجتماع عاجل لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري لاستصدار موقف عربي موحد يدين العدوان ويدعم الحقوق السورية المشروعة.

كما أنَّ التحرك الدبلوماسي النشط تجاه الاتحاد الأوروبي، وتحديدًا الدول ذات المواقف المستقلة نسبيًا، يشكل أولوية لاستصدار إدانة أوروبية للعدوان الإسرائيلي تتخطى بيانات القلق المعتادة. ويجب أن يترافق هذا مع حملة إعلامية منظمة تستند إلى التوثيق الدقيق للانتهاكات الإسرائيلية، وتفعيل التحالفات مع القوى الدولية المناهضة للاحتلال، واللجوء إلى المنظمات الأممية المتخصصة كمحكمة العدل الدولية، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، بهدف تعزيز الشرعية السورية وكشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي أمام الرأي العام العالمي، وحشد الدعم الدولي لحماية السيادة السورية ووحدة أراضيها.

الترا سوريا

————————–

ما يريده نتنياهو من الدولة السورية الجديدة/ ياسر أبو هلالة

03 يونيو 2025

أولاً، التركيع والتطبيع والتوقيع من دون إعادة أيّ من حقوق الشعب السوري في أرض هضبة الجولان (وإعادة مليون نازح)، ولا في جبل الشيخ ومزارع شبعا وشواطئ طبرية الشرقية. يعني التخلّي عما يعرف بـ”وديعة رابين”. يُسوَّق ذلك في إطار اتفاق “وقف الاعتداء”، وهو اختراع نتنياهوي لا سابقة له في تاريخ البشرية، يعني شرعنة الاعتداء الدائم احتلالاً وتهجيراً، مقابل وقف الاعتداء المؤقّت، واعتبار الدفاع عن القانون الدولي اعتداءً، والتوقيع على ذلك. ثانياً، في حال رفض التركيع، تتواصل “الحرب الأبدية” ضدّ سورية وتحويل الدولة وجيشها وأمنها فصيلاً “إرهابياً”، مثل حزب الله وحركة حماس، تضربه إسرائيل متى شاءت، في مطاردة ساخنة، والغرض ضرب الاستقرار في سورية، بمنع قيام الدولة، وتقسيمها وفق منطق “تحالف الأقلّيات”، فيصل الجيش الإسرائيلي إلى كلّ كائن أقلّوي يشعر بالخوف من الدولة، ما يعني ضرب الاستقرار والاستثمار.

بحسب السفير الأميركي روبرت فورد، في محاضرته التي أُلقيت ونشرت عبر قناة مجلس بالتيمور للشؤون الخارجية على “يوتيوب”، وهاجمها كثيرون من دون أن يستمعوا إليها، إسرائيل هي الطرف الوحيد الذي لا يريد الاستقرار في سورية. على الرغم من الرسائل الإيجابية من خلال ضبط النفس واستقبال يهود سوريين والسماح لهم بترميم معابدهم. ووجّه نقداً لاذعاً لإسرائيل التي لم تقصف خلال الثورة السورية، مع قصف نظام الأسد مناطق معارضة بالكيماوي والبراميل، أي قواعد جوية ولا معسكرات طوال حكم الأسد، وفعلوا هذا بعد سقوطه. ويقول بوضوح إن إسرائيل تريد سورية “ضعيفةً مقسّمةً”. في المقابل، يتحدّث عن الأتراك أنهم أصدقاء كبار لسورية، وإنهم القادرون على مواجهة إسرائيل. ويتحدّث عن مخاوفه بشأن صراع تركي إسرائيلي، باعتبار أن إسرائيل قوة عسكرية طاغية، وتركيا قوة عسكرية صاعدة، وعضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو). … تحتاج الدولة السورية، بعيداً من المزايدات والمناقصات، إلى حماية من العدوان الإسرائيلي القديم والجديد. حتى لو أريد لها أن تكون دولةً منزوعة السلاح مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية. حسناً، تقام قواعد عسكرية تركية في سورية، وهي بلد عضو في “ناتو”، لحمايتها من الاعتداءات، وفوق ذلك تبقى قاعدة أميركية لحمايتها من إسرائيل، وإيران أيضاً، أو السماح لها مثل كلّ دول العالم ببناء جيش قوي.

لا يفهم نتنياهو قصّة العدو الإيراني المشترك، ومن يتابع الإعلام الإسرائيلي، ويستمع إلى المسؤولين الأميركيون الموالين لإسرائيل (مسؤول مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض مثلاً)، يدرك أنهم يرون في الرئيس أحمد الشرع تجميعاً ليحيى السنوار وصدّام حسين. أقنع السنوار نتنياهو أنه يريد حكم غزّة، ففاجأه بهجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وصدّام أوهم الغرب أنه يحارب إيران، وفي الحقيقة كانت عدوّه إسرائيل. وللتذكير، في أوج الحرب العراقية الإيرانية ضرب الطيران الإسرائيلي مفاعل تمّوز النووي (1981)، وكان صدّام الرئيس العربي الوحيد الذي حاول الموساد اغتياله. وللتذكير، الحاكم العربي الوحيد الذي قصف الطيران الإسرائيلي قصره هو أحمد الشرع، رغم كلّ رسائل التطمين.

وفي سياق رسائل التطمين، منح الرئيس السوري أحمد الشرع مقابلةً لجوناثان باس، من “المجلة اليهودية” (Jewish Journal)، وهي صحيفة تصدر في لوس أنجليس، وتُعدّ من أبرز المنصّات الإعلامية المعنية بشؤون الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة والعالم، ولم يحصل الصحافي على ما يريده من التزام بالتطبيع والسلام، وخلط أعداء الشرع بين تحليله الصحافي وأمنياته وما قاله الشرع. في المقابلة أكد باس نصّاً: “ورغم أنه لم يقترح تطبيعاً فورياً، إلا أن الشرع لمّح إلى انفتاح على محادثات مستقبلية تستند إلى القانون الدولي والسيادة”. يعني “لمّح” تحوّلت شراكةً أمنيةً مع إسرائيل لمواجهة إيران (حسب جماعة المحور)؟ وفوق ذلك، اعتبر أن موضوع الدروز “غير قابل للتفاوض”. يقول باس: “أبدى رغبته في العودة إلى روح اتفاق فكّ الاشتباك لعام 1974، ليس فقط خطّاً لوقف إطلاق النار، بل أساساً لضبط النفس المتبادل وحماية المدنيين، خصوصاً مجتمعات الدروز في جنوب سورية وهضبة الجولان”. ويقتبس باس من الشرع: “دروز سورية ليسوا بيادق. إنهم مواطنون، راسخون تاريخياً، أوفياء، ويستحقّون كلّ حماية بموجب القانون”. أمنهم غير قابل للتفاوض. قال: “أريد أن أكون واضحاً، عصر القصف المتبادل الذي لا ينتهي يجب أن ينتهي. لا تزدهر أمّة وسماؤها مليئة بالخوف. الحقيقة أننا نملك أعداء مشتركين، ويمكننا أن نلعب دوراً رئيساً في الأمن الإقليمي”. لقد سبق أن لعب صدّام حسين على ورقة الأعداء المشتركين إلى آخر يوم قبل الحرب الأميركية، وحارب إيران ثماني سنوات. وفي الحقيقة كان هو وإيران “الأعداء المشتركين” وليس العكس.

لا تحتاج سورية اليوم إلى من يورّطها في مواجهة خشنة مدمّرة مع نتنياهو، ولا إلى تطبيع مدمّر ناعم، بقدر ما تحتاج وقفةً صادقةً من حلفائها لوقف العدوان عليها، وصولاً إلى إعادة حقوقها التاريخية. كيف يمكن المواءمة بين رفع العقوبات وجلب الاستثمارات في ظلّ الاعتداءات؟ وكيف يمكن الحفاظ على شرعية الدولة الثورية التي قدّمت مليون شهيد في سبيل الكرامة، في ظلّ فرض التركيع والتطبيع والتنازل عن حقوق الشعب السوري؟… يحاول “الأعداء المشتركون” دفع العهد الجديد في سورية باتجاه إسرائيل لنزع شرعيته وإظهاره خائناً وعميلاً صهيونياً، وهم أنفسهم من يقبلون سكوت حزب الله، وهو حركة مقاومة وليس دولةً، على الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة عليه ولا يردّ بطلقة، يشنّون الحملات على العهد الجديد في سورية عندما لا يردّ على الاعتداءات الصهيونية. العداء للصهيونية مسألة مبدئية أخلاقية، وليست دعايةً سياسيةً للترويج أو التشويه. فمن يقف ضدّ الصهيونية عندما تعتدي على كنيسة القيامة، يقف ضدّها عندما تعتدي على المسجد الأقصى، ومن يقف ضدّ الصهيونية عندما تعتدي على حزب الله، يقف ضدّها عندما تعتدي على “حماس” أو الدولة السورية أو اليمنية.

تظلّ الورقة الأقوى بيد الدولة السورية موقف شعبها، مشهد هجوم الأبطال السوريين العزّل على الدورية الإسرائيلية في القنيطرة، وإنزال العلم الإسرائيلي ودوسه وحرقه عبّر عن شجاعة وذكاء ووعي. فلم تتمكّن الدورية من الاشتباك مع العزّل، ولو كان فيهم مسلّح لكرّرت مجزرة الكويا، التي استشهد فيها ستة شبان تصدّوا بسلاح خفيف للدورية الغازية. ‏مقابل هذه المقاومة الشعبية، توسوس أصوات نشاز تزعم الانتساب للثورة بنظرية نتنياهو في التطبيع. من المفيد للدولة السورية الاستثمار في الورقة الشعبية، وهي تحتاج تأطيراً وتنسيقاً، للجان لنازحي الجولان، ولجان للاجئين الفلسطينيين، وللتضامن مع غزّة… لا أنسى يوماً التقيت فيه اللواء إلياس رزق في مشروع بحثي عام 2009، وكان عضواً في الوفد السوري المفاوض، عندما سألته عن عدد نازحي الجولان، فقال: مليون. سألته لماذا لا يخرجون مظاهرات تطالب بالعودة. لم يُجب. اليوم مفترض أن يخرجوا.

ليس الحديث عن مركزية القضية الفلسطينية تكراراً لما كان يردّده الرئيس أحمد الشرع في إدلب، ولا قادة هيئة تحرير الشام، بقدر ما هو توثيق لموقف الدولة السورية منذ تأسيسها. فكلّ العهود في سورية تبنّت المواقف العربية في مركزية القضية الفلسطينية، ‏وإضافة إلى الأعداء يحاول بعض الحلفاء بحسن نيّة إلقاء العبء على الدولة السورية، وتتنوع نصائحهم إلى درجة التناقض، فثّمة من ينصح بتجنب التفاوض المباشر مع العدو، وإسناد ذلك إلى الحلفاء، مقابل من ينصح بالتفاوض المباشر بشكل سرّي أو علني. والأسوأ من ذلك كلّه من ينصح بالتوقيع والتركيع ونسف شرعية دولة الثورة، ثورة الكرامة أمام المستبدّ والمحتلّ.

العربي الجديد

—————————-

الشرع وإسرائيل… أرضيّة هشّة/ حسام أبو حامد

03 يونيو 2025

شكّل لقاء أحمد الشرع – دونالد ترامب في الرياض، منتصف الشهر الماضي (مايو/ أيار)، نقطة تحوّل غير مسبوقة في مسار العلاقات السورية الأميركية، والغربية عموماً، خصوصاً مع قنوات تواصل غير مباشرة مع إسرائيل (مستمرّة). لم يكن الحدث خرقاً للمحظور السياسي التقليدي في سورية فقط، بل لحظة مفصلية تكشف طبيعة المرحلة المقبلة، مرحلة إعادة صياغة التوازنات، محلّياً وإقليمياً. إلا أن ما يجب الانتباه إليه ليس الحدث في ذاته، بل تداعياته على الداخل السوري، الذي تغيّر في تركيبته وأولوياته.

بالانفتاح على الغرب، والقبول الضمني بتفاوض مع إسرائيل، يقدّم النظام السوري الجديد نفسه براغماتياً قادراً على كسر الجمود السياسي، مقابل مكاسب اقتصادية وخروج من العزلة، إلا أن مخاطره الداخلية عميقة. صحيحٌ أن الشعارات القومية لم تعد أولويةً لدى قطاع واسع من السوريين، لكن ذلك لا يعني أن الذاكرة الجمعية قد غفرت للاحتلال الذي يحتل أراضي سورية ولا يزال يقصف العمق السوري. هناك فرق بين تراجع الحماسة والقبول العلني بالتطبيع. هذه المسافة، إن لم تُدر بحكمة، قد تولّد انفجارات مفاجئة. لا يمكن تفسير الصمت قبولاً شعبياً، بل ناتج تراكمي لعوامل عدّة، بعد أن أنهكت سنوات الحرب الذاكرة السياسية، وغيّرت الوعي الجمعي، فالأجيال الجديدة أقلّ انغماساً في القضايا الكبرى، وأكثر حساسية لمسائل المعيشة المباشرة، ما ينتج مناخاً يقبل (أو يتسامح مع) تحوّلات جذرية في السياسة الخارجية، ما دامت تُفضي إلى تحسّن اليومي المُعاش. لكن هذا الصمت ظرفي، هشّ، لا يمكن البناء عليه مؤشّراً استراتيجياً، وأيّ خطوة علنية نحو التطبيع، إن لم تُغطّ داخلياً برؤية وطنية شاملة، قد تواجه ردّات فعل واسعة، حتى لو تأخّرت.

تستفيد التيّارات المتطرّفة، في مقدّمها سرايا أنصار السنة (أعلنت تشكّلها في فبراير/ شباط الماضي، وتتغذّى ممّا تسميه “انتقاماً طائفياً” ضدّ بقايا الحاضنة الاجتماعية للنظام السابق)، وإنْ لم تزل محدودة التأثير عسكرياً، من هذه اللحظات الرمادية لتوسيع قاعدتها، انطلاقاً من “هوامش العدالة المؤجّلة”، وتُقدّم نفسها أداةً انتقاميةً ضدّ ما تراه تنازلاً شرعياً وطنياً وطائفياً، في آنٍ معاً. فالانتقال السياسي ما بعد الأسد لم يرافقه انتقالٌ عادلٌ في البنية الحقوقية، وليس هناك بعد أيّ محاكمات بحقّ أبرز رموز النظام السابق، ولا مشروعَ مقنعاً للعدالة الانتقالية أو المصالحة الوطنية. يفتح هذا الفشل الباب أمام مشاعر متصاعدة من الإحباط، خصوصاً من الضحايا أو عائلاتهم. “القاعدة” و”داعش” يعيدان ترتيب أوراقهما في مناطق سورية، ويجاهران بتكفير الشرع، ورغم التحوّلات السياسية والعسكرية في هيئة تحرير الشام، لا تزال في بقاياها تيّارات متشدّدة، قد ترى في خطوات الشرع نحو الغرب وإسرائيل انحرافاً خطيراً عن المبادئ العَقَدية الثورية. لا يعني صمت هذه التيّارات، حتى اللحظة، موافقةً، بل قد يكون انتظاراً لفرصة الطعن أو الانقضاض. والرئيس الشرع، وإن نجح في احتوائها بمزيج من الشرعية الدينية والتماسك الأمني، يعلم جيّداً أن أيّ شرخ داخلي في هذا الكيان سيفتح باباً لانفراط عقد السلطة، فنجاح مشروع الشرع في الانفتاح السياسي مرهونٌ ببقاء الهيكل العسكري والأمني متماسكاً، شرطاً أساسياً لمنع الانشقاقات أو الانهيارات الداخلية. ولا بدّ من صيغة قانونية وتوافقية للمصالحة، تطمئن الطوائف، وتنصف الضحايا السوريين جميعهم، وتكسر دائرة الانتقام. ومن المهم تقديم أيّ علاقة مع إسرائيل جزءاً من تفاهماتٍ استراتيجيةٍ تضمن المصالح الوطنية، لا تسويةً على حساب الكرامة أو المبادئ.

سورية الجديدة في مفترق طرق صعب، الانفتاح على إسرائيل إن ضمن دعماً دولياً وشرعيةً خارجيةً، إلا أنه لا يضمن وحده الشرعية الأخلاقية والشعبية، التي تُبنى على إصلاح داخلي حقيقي، وعدالة انتقالية شجاعة، ومشروع وطني يتجاوز الطوائف والانقسامات. ونجاح الشرع مرهونٌ بقدرته على صناعة توازن صعب؛ محاورة الخارج بلا تنازل عن الثوابت، وضبط الداخل بلا قمع، وصوغ عقد وطني لا يخاف من مواجهة الماضي ولا التفاوض على المستقبل، فالسلام بلا مكاسب وطنية هدنة مؤقّتة، غير مضمونة بحكم طبيعة المشروع الإسرائيلي نفسه، والانفتاح بلا تماسك داخلي خطر مؤجَّل.

العربي الجديد

———————————–

واشنطن خارج التعقيدات السورية/ مازن بلال

26/05/2025

ما طرحه السفير الأمريكي في تركيا، توم باراك، عن سوريا يشكل الحلقة المفرغة الجديدة في سياسة واشنطن تجاه المنطقة، فبعد تعيينه مبعوثاً أمريكياً إلى سوريا ولقائه رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع في تركيا؛ ظهرت تصريحاته لتكشف أن المقاربات التي قدمها تحمل “أحلاماً” لا تصورات سياسية، وعلى الرغم من أن تقسيم المنطقة يشكل وتراً حساساً للسوريين من “سايكس-بيكو”، لكن السفير الأمريكي شطب الحقبة السياسية ونتائج الحروب وحتى نفوذ تركيا الحالي في المنطقة.

التصريحات التي ساقها تلامس اليوم السياسات التركية، فمسألة “سايكس-بيكو” هي ترميز لمرحلة الضعف التركي، ولانحسار الدور العثماني في المشرق، والعودة إليها اليوم يعبر تعبيراً واضحاً عن توجه لإعادة ذلك الدور وبآليات جديدة، فتعقيدات المنطقة لم تبدأ بالصراع الفرنسي-البريطاني على المنطقة إنما بتحول الميزان الدولي منذ الثورة الصناعية الذي جعل الدولة العثمانية تتحول تحولاً بطيئاً نحو الانكفاء.

عملياً فإن الانفتاح الأمريكي على دمشق تم بوساطة الرياض، لكنه يتأسس في أنقرة بوصفها دولة محورية في النظام الإقليمي، والمسألة السورية بكامل أوراقها أصبحت وبإرادة أمريكية ضمن مهام الخارجية التركية، وهذا الأمر كان واضحاً في زيارة الرئيس الشرع تركيا ولقائه “باراك” بدلاً من أن يبدأ المبعوث الأمريكي مهمته بزيارة دمشق، فنحن أمام عاملين أساسيين:

الأول أن تركيا لا تملك فقط “سماحاً” أمريكياً بالتحرك في سوريا؛ بل أصبحت “البوابة الإقليمية” للمسألة السورية، وهو أمر كان متوقعاً ولكنه اليوم يُؤسس من جديد بجهد دبلوماسي ترعاه واشنطن.

من الصعب فهم الدور التركي الحالي من دون مسألة “التهدئة” السورية-“الإسرائيلية”، فمهام أنقرة لا تتعلق بترتيب البيت السوري بالداخل؛ بل بالمساعدة في بناء “دولة محايدة” أيضاً، وبصرف النظر عن نجاحها أو فشلها في هذا الموضوع، لكن العلاقات الأمنية والعسكرية كافة تؤشر على أن أنقرة تعمل لإيجاد “منظومة” تعاون ثلاثية مع سوريا و”إسرائيل” لاستيعاب ثمانية عقود من الصراع.

العامل الثاني يرتبط بالسوريين الأكراد، فالمشروع السياسي السوري المطروح المرتبط بالفيدرالية لم يفقد موقعه، لكنه أصبح في مساحة دور أنقرة المركزي لا دمشق، وأي حلول لشمال سوريا الشرقي باتت مرتبطة بعلاقة تركيا مع التشكيلات الكردية التركية.

سيختلف وضع السوريين الأكراد عن الحالة السياسية في إقليم كردستان العراق، فمن الصعب إيجاد معادلة سياسية شبيهة لما حدث في العراق في ظل الدور التركي الحالي، أو حتى في مساحة العمل الكردي في سوريا نتيجة حساسية أنقرة تجاه التشكيلات الموجودة في الجزيرة السورية، وهي أوجدت حزاماً أمنياً ضيقاً عند حدودها مع سوريا؛ يشكل مشروعاً للحد من أي حالة لا تتوافق مع دورها الإقليمي.

المبعوث الأمريكي إلى سوريا وفي منصة “إكس” كشف بطريقة غير مباشرة عن اهتمام أمريكي هامشي لأبعد الحدود بالشأن السوري، فتركيا، لا العرب الذين سعوا إلى رفع العقوبات عن سوريا، هي من ستتولى ترتيب الأمن الإقليمي من البوابة السورية، وهي أيضاً ستتحرك بنفوذها لتحريك مسارات السلام والتطبيع مع “إسرائيل”.

————————-

هل توقّف السوريون عن حبّ فلسطين؟/ عبير داغر اسبر

03 يونيو 2025

لا يمكن النظر إلى ما يجري في غزة اليوم بلا انكسار مزدوج: انكسار في تلقّي الصور والأخبار، وآخر في الاستجابة لها. نعلم تماماً أن لا أحد فينا يتفرّج ببرود، لكنّ كثيرين لا يعرفون كيف يحبّون فلسطين كما اعتادوا أن يفعلوا. ولعل السوريين تحديداً، بعد سقوط النظام، يجدون أنفسهم في أكثر لحظاتهم التباساً تجاه ذلك الحبّ القديم غير المبروء منه، فتربكهم العلاقة، لا نكراناً ولا نسياناً، بل إنهاكاً وإحباطاً ناتجَين عن طول وتجدّد المعاناة، وحتماً كثافة الألم.

ثمّة ما يشبه “اقتصاداً عاطفياً” جديداً نشأ لدى السوريين بعد عقد ونصف العقد من القتل والتشريد، على نحوٍ يُذكّر بالتسمية التي أطلقتاها الباحثتان سارة أحمد في “السياسات الثقافية للعاطفة”، وجوديث بتلر حول إدارة الألم في “الحياة الهشة: قوى الحداد والعنف”. فالسوريُّ، الآن، لا يوزّع تضامنه كيفما اتفق، صار يُرتّب ألمه، يؤجّل وجعاً ليواجه آخر، ويختار مَن يستحق دموعه، ومَن لا يملك ترف الحزن عليه.

من مرويات الحرب على غزّة، اختار الطبيب محمد مصطفى عدم استهلاك “الحصّة الشحيحة” التي يملكها من مخدّر الألم على الأطفال الذين سيموتون لا محالة، واستخدمه فقط مع من يملكون فرصة للنجاة. هذا الاختيار القاتل، هذا المنطق “البراغماتي” كما وصفه، يبدو للوهلة الأولى لا أخلاقياً، لكنّه قد يشرح كيف ينظر بعضهم اليوم إلى فلسطين. ليس كرهاً، بل مجرد تشخيص مأساوي: لـ”قضية خاسرة”، و”لا أمل فيها”، مقابل بارقة احتمال ضئيل بالنجاة من كارثة سورية لم تنتهِ بعد.

هناك حقائق لا تحتاج إثباتاً، وهذه واحدة منها: لفلسطين موقع مركزي في التكوين العاطفي والسياسي للسوريين، لم تكن القضية مجرّد “قضية”، بل أحد مرتكزات الوعي الجمعي للسوريين. اهتزّ هذا الموقع خلال السنوات الماضية نتيجة الزلزال السوري الداخلي: جيل كامل خرج من المنافي والسجون والمخيّمات وهو يسأل، بتعب لا بعتب: أين كان العالم حين كنّا نحن نُباد؟

والسؤال خطير بحدّ ذاته، كونه تحوّل أخيراً معياراً للعدالة. سأله السوريون بتعسّف وتعصّب وقسوة لبعضهم بعضاً: “أين كنتم منذ 14 عاماً؟”، ويسأله السوريون الآن لكلّ أهل الأرض، وللفلسطينيين أيضاً. السؤال خطير بحدّ ذاته، إذ لا تجوز المقارنة بين الضحايا كما لو أنهم وُضعوا بمفاضلة في ميزان أخلاقي.

لكنّ العبث الذي نعيشه اليوم أوجد منطقاً هشّاً بالتأكيد، لكنّه منطق المتألّم الذي لم يعد يملك جسداً فتيّاً قادراً على تلقّي حطام الجسد الآخر.

السوريُّ كالفلسطينيّ، وجدَ نفسَه بلا دولة، بلا سقف رمزي، وبلا سند عالمي. كلاهُما اختُبر بأعلى درجات الألم، وكلاهما عَلِق على هامش الأولويات الدولية. ما يتغيّر اليوم ليس الحبّ النهائي والقطعي لفلسطين، بل قدرة السوري المنهك على الاستمرار في استيعابها في وجدانه، دون أن يتهاوى.

من الظلم أن يُتّهم السوريون اليوم بالجفاء. إنهم ليسوا أقلّ وفاءً، لكنهم أكثر إنهاكاً. الحبّ لم يمت، قد يظهر فجأة في صورة طفل غزّي يشبه ذاك الذي دُفن في حماة، وفي دمعة عصيّة حين تُذكر “العودة” ومفاتيح البيوت. قد يبدو اليوم أن الحبّ السوري لفلسطين خافت، ربما متردّد، وهذا التردّد لا يعبّر عن نهاية القصّة، بل عن لحظة عجزٍ كبرى، لحظة يتعايش فيها السوري مع فكرة أن العدل مفهوم تائه في هذا الكون الدنيء، وأن مأساته الخاصة أضاعت اتجاهاته بحيث ضلّت بوصلته الأخلاقية، ومع هذا ظلّ يتلمّس طريقه رغم الغبار، موقناً أن استمرار السؤال: “هل لا زلنا نحبّ فلسطين؟”، هو دليلٌ أننا لم نخرج منها، ولا خرجت منّا.

العربي الجديد

————————–

 نحو مقاربة سورية وطنية للسلام من دون تطبيع في زمن الضغوط/ ماهر حسن شاويش

2025.06.03

في ظل ما نشهده من تحوّلات إقليمية متسارعة، تتزايد الضغوط المباشرة وغير المباشرة على الملف السوري، وخصوصًا فيما يتعلق بموضوع المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي.

خلال الأسابيع الماضية، لاحظتُ – كغيري من المتابعين – تصاعد الحديث الإعلامي عن سيناريوهات “السلام” بين سوريا وإسرائيل، بشكل يوحي أن المسألة باتت أقرب إلى الطرح السياسي منها إلى التحليل النظري أو التهويل الإعلامي.

وسط هذا المشهد، تبرز الحاجة إلى مقاربة سورية واضحة وناضجة، لا تنطلق من ردّ فعل، ولا تتورّط في انفعال، بل تُعبّر عن رؤية وطنية مسؤولة تدرك توازنات المرحلة الانتقالية، وتضع في أولوياتها الثوابت الوطنية، وفي مقدّمتها استعادة الجولان المحتل ورفض التطبيع بجميع أشكاله.

واقع جديد.. وأسئلة كبرى

لا يمكن إنكار أن المزاج الشعبي السوري، رغم تمسكه برفض التطبيع، يميل اليوم إلى الاستقرار والبناء، بعد أكثر من عقد من الدمار والتشريد. كذلك، هناك جنوح رسمي نحو تفكيك بعض الألغام الأمنية على الجبهات، وهو أمر مفهوم ضمن سياق الحاجة إلى إعادة التوازن الميداني والسياسي، وتخفيف حدّة الصراع.

لكن، هل يعني هذا القبول بأي “تهدئة” تحت عنوان السلام؟ وهل يمكن لمثل هذه الخطوات أن تتم في ظل غياب الشرعية السياسية والدستورية الكاملة لسوريا الجديدة؟ والأهم: كيف يمكن لسوريا أن تتفادى الوقوع في فخ “التطبيع مقابل الاستقرار”؟

مقاربة مسؤولة لا تُفرّط ولا تُغامر

أدعو من هذا المنبر إلى بلورة مقاربة سورية متماسكة للسلام العادل من دون تطبيع، تقوم على أربعة مرتكزات رئيسية:

    الحقوق غير القابلة للتفاوض:

    الجولان المحتل ليس ورقة تفاوض أو صفقة مرحلية، بل جوهر قضية وطنية يجب أن يُعاد إلى السيادة السورية بالكامل، وفق قرارات الشرعية الدولية.

    الشرعية الكاملة شرط لأي اتفاق نهائي:

    لا يمكن الحديث عن سلام دائم في ظل غياب منظومة حكم شرعية تمثّل السوريين جميعًا، وتملك تفويضًا شعبيًا واضحًا لاتخاذ قرارات مصيرية.

    فصل التفاهمات الأمنية عن المسار السياسي:

    أي إجراءات تهدئة أو منع تمدد إسرائيلي في الجنوب يجب أن تُعالج ضمن صيغة “هدنة 1974” أو ما يماثلها، بعيدًا عن مسار تطبيعي أو اعتراف سياسي.

    رفض التطبيع كمبدأ دستوري وثقافي:

    يجب أن يُصاغ هذا الموقف بشكل واضح في الدستور الجديد، وأن تدعمه سياسة إعلامية وثقافية تربّي الأجيال القادمة على الوعي بتاريخ الصراع وسياقاته العادلة.

ولا يمكن إغفال أن في سوريا ما يقارب نصف مليون لاجئ فلسطيني، يشكّلون جزءًا من النسيج الوطني والاجتماعي السوري، ومن واجب أي مقاربة سلام أن تحفظ حقوقهم، وتضمن عدم التفريط بقضيتهم في أي اتفاق مستقبلي، خاصةً أن ملف اللاجئين هو أحد أركان الصراع العربي الإسرائيلي.

تجارب السلام… دروس لا ينبغي تجاهلها

رغم مرور عقود على توقيع اتفاقيات سلام بين بعض الدول العربية وإسرائيل، إلا أن التجارب تشير إلى أن التطبيع لم يُحقّق سلامًا حقيقيًا أو استقرارًا استراتيجيًا. فمعاهدة “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل مثّلت نموذجًا للتسوية السياسية، لكنها لم تثمر عن تطبيع شعبي حقيقي، وبقيت العلاقات محصورة في الإطار الرسمي والمخابراتي. أما في حالة الأردن، فلم تمنع معاهدة “وادي عربة” استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، ولم تُخفف من التهديدات الوجودية التي تواجه فلسطين.

هذه التجارب تُثبت أن أي سلام لا يُبنى على عدالة القضية واستعادة الحقوق، يُنتج هشاشة سياسية، ومجتمعات متوجّسة، واتفاقات بلا روح. وسوريا، بتاريخها وموقعها، لا يمكن أن تنخرط في مسار مشابه من دون أن تفقد كثيراً من وزنها الاستراتيجي ومكانتها في وجدان شعوب المنطقة.

الرأي العام السوري ليس قابلًا للاختزال

المزاج الشعبي السوري، حتى في أحلك الظروف، لم يُظهر أي استعداد للقبول بالتطبيع مع الاحتلال، بل ظلّ رافضًا ومتمسكًا بثوابته تجاه فلسطين والجولان. وهذا الموقف لم يقتصر على الشرائح القومية أو الإسلامية، بل يمتدّ إلى تيارات مدنية وليبرالية تُدرك أن أي تطبيع غير مشروط يشكّل تفريطًا بالسيادة وخيانة للتاريخ.

كما أن فصائل وقوى وطنية سورية – داخلية وخارجية – لن تقبل باتفاق لا يُعيد الحقوق بوضوح، ولا يُعبّر عن الإرادة السورية الجماعية. لذلك، فإن أي انزلاق نحو التطبيع قد يؤدي إلى صدع سياسي واجتماعي يصعب ترميمه، ويقوّض مسار بناء الشرعية الوطنية.

لماذا نحتاج هذه المقاربة الآن؟

لأننا ببساطة أمام لحظة دقيقة من تاريخ سوريا. لحظة تتطلب موقفًا يُحافظ على كرامة الدولة وهيبتها، من دون أن يغفل عن حاجات الناس الحقيقية.

المقاربة المقترحة ليست “ضد السلام”، لكنها ضد السلام المغشوش الذي يتحوّل إلى غطاء لهيمنة جديدة.

إنها دعوة لسلام ناضج، يُعيد الحقوق، ولا يبيعها، ويضع سوريا في موقع المسؤول لا المساير، والندّ لا التابع.

مقترح عملي

أدعو إلى صياغة ورقة سياسية وطنية جامعة بعنوان:

“من أجل مقاربة سورية جديدة للسلام العادل دون تطبيع”

تُعرض هذه الورقة على الفعاليات الوطنية، والقوى السياسية والمجالس الانتقالية، وتتضمن:

    تثبيت حق سوريا في استعادة الجولان.

    تحديد شروط وضوابط التفاهمات الأمنية المؤقتة.

    رفض التطبيع كقضية دستورية وثقافية.

    تأكيد أن أي اتفاق سلام لا يمكن عقده قبل اكتمال المرحلة الانتقالية.

خاتمة: فهم طبيعة المشروع الصهيوني

ورغم أهمية أي مقاربة مسؤولة، تبقى الخطوة الأولى نحو موقف وطني متماسك، هي فهم طبيعة المشروع الصهيوني نفسه: مشروع لم يُخلق ليصنع سلامًا، بل ليكون قاعدة متقدّمة للهيمنة الغربية في قلب المنطقة.

لهذا، لا ينبغي التعويل على أي “تفاوض” بوصفه بوابة تلقائية للسلام، بل يجب النظر إليه كمحطة اختبار للسيادة، وكمساحة لصياغة موقف وطني حقيقي، لا مجرد ترتيبات أمنية تحت الضغط.

#السوريون اليوم مرهقون… من الحرب، من الشعارات، من الخيبات.

وأي خطاب سياسي لا يُراعي هذا التعب، سيُفهم على أنه مجرد #مزايدات.

لكن حين تُطرح مسألة #مفاوضات مباشرة مع #إسرائيل، لا بد أن نكون واضحين:

هل نحن أمام تفاوض سيادي يُعيد الأرض والكرامة؟ أم أمام ترتيبات أمنية مؤقتة لا تُنهي الاحتلال بل تُعيد تدويره؟

الاحتلال لا يُسوّى أمنيًا.

والجولان لا يعود بتفاهمات تقنية.

وأي اتفاق لا يُعيد الحقوق ولا يُنهي القهر… ليس سلامًا.

قد يُقال إن مثل هذا الاتفاق “يسحب البساط من تحت أقدام الانفصاليين”…

لكن الانفصالية لا تُهزم باتفاق حدود، بل تُهزم بعقد وطني يُعيد الثقة للناس، لا بالقوة، بل بالكرامة.

ومن يريد بناء سوريا جديدة بعد انتصار ثورة عظيمة، فليبدأ من الناس، ويقطع مع كل إرث النظام الساقط، بما في ذلك منطقه في تحديد العدو والصديق.

فألف باء السياسة الوطنية، أن نُحدّد معسكر الأعداء والأصدقاء بدقة.

وإسرائيل كانت وما تزال عدوًا استراتيجيًا، لا طرفًا تفاوضيًا محايدًا.

تلفزيون سوريا

———————————–

هل يهدد موفق طريف في إسرائيل زعامة آل جنبلاط في لبنان؟/ سوسن مهنا

يتحول التنافس بين الرجلين من خلاف في الرؤية إلى صراع على من يترجم الهوية الدرزية في زمن التحولات

الثلاثاء 3 يونيو 2025

في زمن تتشظى فيه المرجعيات، ويتنازع فيه الدين والسياسة على الصوت والمكان، يتحول التنافس بين وليد جنبلاط والشيخ موفق طريف من خلاف في الرؤية إلى صراع على من يترجم الهوية الدرزية في زمن الاصطفافات الكبرى. وهو ليس خلافاً على الطقوس أو المبادئ، بل على من يملك مفاتيح التمثيل: الزعيم الذي يحمل إرث المختارة، أم الشيخ الذي يحمل توقيع المؤسسة الدينية في زمن التطبيع؟

أثارت صورة جمعت بين رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون، والزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل موفق طريف، في أروقة الفاتيكان نهار الـ18 من مايو (أيار) الماضي، أي يوم تنصيب البابا لاوون الـ14، موجة جدل حاد في لبنان والمنطقة، تجاوزت الإطار البروتوكولي إلى عمق التمثيل والشرعية، ولكن انتشارها كان أشد وقعاً داخل الطائفة الدرزية، محدثاً زلزالاً سياسياً في صفوفها، وعلق الإعلام الإسرائيلي على اللقاء بالقول، “صورة لا نراها كل يوم”.

التقطت صورة مصافحة “ودية” بين الرجلين، ولكنها في المفهوم السياسي العام في لبنان ليست مجرد مصافحة عابرة، فحين يظهر رئيس دولة لا تزال نظرياً في حال حرب مع إسرائيل، وهو يبتسم أمام شخصية دينية من تلك الدولة، يصبح الصمت الرسمي “مشبوهاً”، والنفي اللاحق أكثر ضجيجاً من “الاعتراف”.

وتكاثرت الأسئلة، ومنها: هل كان اللقاء عفوياً؟ أم مدروساً؟ وهل الشيخ طريف مجرد زائر ديني، أم حامل مشروع “اختراق” ناعم للطائفة الدرزية في لبنان وسوريا تحت عباءة الحوار الروحي والانفتاح الدولي؟

الضجة لم تندلع لأن الصورة انتشرت، بل لأن ما ترمز إليه بات واضحاً، هناك من يريد إعادة رسم خريطة الزعامة الدرزية في الشرق الأوسط، من بوابة الفاتيكان، لا من بوابة المختارة أو السويداء، علماً أن الدعوة التي وجهت للشيخ طريف، جاءت بصفته ممثلاً عن الطائفة الدرزية في العالم.

عون ينفي معرفته بطريف

على أثر البلبلة التي أحدثتها الصورة في الأوساط اللبنانية، وبخاصة الدرزية، صدر بيان عن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية في لبنان، أشار إلى أنه “خلال توجه عون إلى مقعده في القداس الحبري الأول للبابا لاوون الـ14، تقدم منه أحد رجال الدين الدروز المشاركين في القداس وصافحه، علماً أن رئيس الجمهورية لا يعرفه ولم يسبق أن التقاه”.

وتابع البيان، “تبين في ما بعد أنه الشيخ موفق طريف، ممثل الدروز في إسرائيل، وقد تعمدت هيئة البث الإسرائيلية توزيع الصورة مع تعليق يجافي الحقيقة”. وأشار مكتب الإعلام إلى أن “مثل هذه الممارسات المشبوهة تتخصص بها وسائل الإعلام الإسرائيلية في لقاءات دولية مماثلة، وهي لا تلغي حقيقة الموقف اللبناني الرسمي عموماً، وموقف الرئيس عون خصوصاً، ومن ثم لا حاجة إلى الترويج لمثل هذه الأكاذيب وخدمة العدو الإسرائيلي، لذا اقتضى التوضيح”.

لكن البيان أشعل موجة نقاش آخر، وأكثر حدة، وتساءل كثير من المتابعين: كيف يمكن لرئيس الجمهورية ألا يعرف الشيخ طريف، وهو شخصية معروفة ويظهر كثيراً في الإعلام العربي والأجنبي؟ ووفقاً لمصادر من المجلس الديني الأعلى كانت رافقت الشيخ طريف إلى روما، في تصريحات لـ”اندبندنت عربية” فإنه “جرى حديث ودي بين الرجلين (small talk)، وأن الرئيس تعرف إلى سماحته فوراً”، وتابعت المصادر أن المجلس الديني لم يصدر بياناً توضيحياً للقاء “منعاً لإحراج رئيس الجمهورية اللبناني”.

وكانت “اندبندنت عربية” حصلت على معلومات أفادت أن البيان الرئاسي جاء بعد ضغط من قبل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان الوزير السابق وليد جنبلاط على قصر بعبدا، وصولاً إلى التهديد بالانسحاب من الحكومة من خلال الوزراء المنتمين إليه، لكن مصادر الحزب التقدمي الاشتراكي استهجنت المعلومات، متسائلة “كيف يمكن للحزب أن يرشد القصر إلى طريقة عمله؟”، في حين أكدت مصادر من بعبدا لـ”اندبندنت عربية” إلى أن “كل ما أشيع حول البيان، وما أثير في وسائل التواصل عار عن الصحة جملة وتفصيلاً، وأن لا حديث ودياً جرى بين الرجلين في الفاتيكان”.

يرى كثير من المتابعين أن إنكار رئيس الجمهورية اللبنانية معرفته بالشيخ موفق طريف، على رغم الصور التي أظهرت مصافحته له في الفاتيكان، ليس تفصيلاً بروتوكولياً أو سهواً شخصياً، بل يحمل دلالات سياسية دقيقة للغاية، ويمكن تفسيره من زوايا عدة. فالرئيس عون، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية في مرحلة انتقالية دقيقة، يدرك أن أي اعتراف رسمي بشيخ الطائفة الدرزية في إسرائيل قد يفهم على أنه شرعنة لدور طريف خارج فلسطين، وإقرار ضمني بشرعية تمثيله طائفة لبنانية أو إقليمية، وهو ما يمس مباشرة بموقع الزعامة الدرزية في لبنان، خصوصاً زعامة المختارة. والاعتراف بطريف قد يفسر كـ”مجاملة” لإسرائيل على حساب الزعامة التاريخية للدروز اللبنانيين، لذلك جاء الإنكار كرسالة طمأنة بأنه “لا مرجعية درزية للبنان خارج حدوده”.

أضف إلى ذلك أن أي تواصل رسمي أو حتى شبه رسمي مع شخصية دينية مقيمة في إسرائيل (حتى لو كانت درزية) يستثمر مباشرة في سياق “التطبيع”، ولأن طريف زار دولاً عربية، وتحدث باسم “الدروز في الشرق الأوسط”، فإن الاعتراف به يمثل لغماً سياسياً داخلياً، وبخاصة أمام جمهور الحزب. من هنا قد يكون إنكار الرئيس معرفته بالشيخ طريف جاءت لأسباب سياسية تتعلق بميزان الطائفة الدرزية، والتحالفات الداخلية، وتوازنات الصراع العربي – الإسرائيلي، لا لأنه فعلاً لا يعرفه، فالصورة كانت واضحة، لكن المصلحة السياسية فرضت النفي العلني.

صراع تمثيلي وليس دينياً

لكن “الصورة” فتحت ملفاً “مسكوتاً عنه” في العلاقات داخل الطائفة الدرزية، حيث تلتقي السياسة بالدين، وتتصارع المرجعيات على من يمثل الدروز في الداخل والخارج. يمثل وليد جنبلاط الزعامة السياسية التاريخية للدروز في لبنان، وورث الزعامة كما هو معروف عن والده كمال جنبلاط، وينظر إليه كمرجعية سياسية للغالبية الساحقة من دروز لبنان، وصاحب نفوذ إقليمي ودولي في التفاوض باسم الطائفة.

في المقابل ورث الشيخ موفق طريف الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية في إسرائيل، عن جده الشيخ أمين طريف ضمن تقليد عائلي. وعلى عكس جنبلاط، فإن طريف لا ينتمي إلى مسار سياسي، بل يمثل القيادة الدينية الرسمية للطائفة في إسرائيل. من هنا فإن التنافس لا يدور حول الدين أو الفقه الديني، بل يتمحور حول من هو المرجع الحقيقي والشرعي للدروز كأقلية إقليمية موزعة بين دول الصراع (لبنان، سوريا، فلسطين/ إسرائيل). وفي حين يرى جنبلاط نفسه ممثلاً شرعياً لتاريخ طويل من النضال السياسي، وهو إن صح التعبير “يستأثر بالقرار الدرزي” في المنتديات الدولية والعربية، لكنه حذر جداً من محاولات إسرائيل استخدام طريف كـ”وجه مقبول” للحديث باسم الطائفة.

في الأعوام الأخيرة برز توتر غير معلن بين جنبلاط وطريف، على رغم ما كان بين الطرفين من تقدير واحترام في فترات سابقة. فجنبلاط نفسه سبق وأشاد بالدور التاريخي لعائلة طريف، وعلى رأسها الشيخ “أبو يوسف” أمين طريف، الذي ساند دروز لبنان في مراحل عصيبة، وأشار إلى أن هذا الدعم استمر من خلال خليفته الشيخ موفق. غير أن موقف جنبلاط لم يدم، إذ ما لبث أن تراجع عنه، مطلقاً مواقف حادة ضد دروز إسرائيل، ومتهماً الصهيونية بأنها تستخدم الدروز لقمع الفلسطينيين، وتريد التمدد إلى جبل العرب (الدروز) في سوريا، وحذر من حرب أهلية يسعى إليها “بعض ضعفاء النفوس”.

وقال جنبلاط إن “الصهيونية تستخدم الدروز جنوداً وضباطاً لقمع الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، واليوم يريدون الانقضاض على جبل العرب في سوريا”. مضيفاً “يريدون جر بعض ضعفاء النفوس، أهل سوريا يعلمون ماذا يفعلون، وسأذهب إلى دمشق لتأكيد مرجعية الشام بالنسبة إلى الدروز”، كذلك أكد أن الشيخ موفق طريف “لا يمثلنا، وهو مدعوم من إسرائيل”، مشيراً إلى أن “هناك استجراراً للبعض، وإذا ما نجح فسيؤدي إلى حروب أهلية لا ندري كيف ستنتهي”.

تقول مصادر متابعة للشأن الدرزي، إن تحول جنبلاط هذا لا يفهم إلا في سياقين: محلي وإقليمي. فمن جهة، بدأ نجم الشيخ طريف يسطع خارج حدود إسرائيل، بعدما بات يستقبل بصفته ممثلاً للدروز في دوائر القرار العالمية، من البيت الأبيض إلى الكرملين فالإليزيه، ومن جهة أخرى نجح طريف، خلال الحرب السورية، في لعب دور محوري لحماية دروز جبل الشيخ ودعم دروز السويداء، في حين مني جنبلاط بانتكاسة حادة إثر فشله في حماية دروز إدلب، وتحديداً في منطقة قلب لوزة، التي شهدت مجازر مروعة عام 2015، على رغم استجابتهم لندائه بمناصرة الثورة السورية ضد النظام آنذاك.

وأخيراً لبس الشيخ طريف “العباءة المقلمة”، وهي عباءة المرجعيات الدينية الدرزية، وشرح لنا أحد مشايخ الدروز رمزيتها بالقول، إنها “ازدواجية النور والظلمة، والقسوة والرحمة، والظاهر والباطن، وإن الموحدين يأخذون الطريق الثالث أو طريق الوسط”، ووفقاً لمصادر متابعة فإن العباءة صنعت في لبنان.

هذا التفاوت في النتائج، بين نجاح طريف في نسج شبكة علاقات دولية، وإخفاق جنبلاط في إنقاذ مناصريه، لم يكن بلا أثر، بخاصة بعد الأحداث التي عصفت بسوريا، والمجازر التي لحقت بالدروز في جرمانا وأشرفية صحنايا. ومما أثار قلق جنبلاط، الذي يعتبر نفسه المرجعية التاريخية والسياسية الأولى للدروز، أن تأثير الشيخ طريف بدأ يتسلل إلى الداخل اللبناني، حتى ضمن أوساط يفترض أنها محسوبة على جنبلاط نفسه، فقد بدأ بعض رجال الدين الدروز وشباب مناصرون له في ترديد أناشيد تمجد عائلة طريف، وتثني على دورها الديني والسياسي.

طريف: “أنا لست زعيماً”

في هذا المشهد، يبدو أن التنافس الدرزي – الدرزي لم يعد محصوراً داخل حدود لبنان، بل اتخذ أبعاداً إقليمية ودينية عابرة للحدود، ويهدد طريف من خلاله موقع الزعامة التاريخي الذي احتكره آل جنبلاط عقوداً.

“اندبندنت عربية” سألت الشيخ موفق طريف عن رأيه في ما يشاع عن منافسة على الزعامة الدرزية بينه وبين جنبلاط، فأجاب “أنا لست زعيماً، ولا أطلب أن أكون زعيماً، لي الشرف أن أكون خادماً لأبناء طائفتي الكريمة”. علماً أن طريف كان قد دعا في بيان بوقت سابق من هذا الشهر، إلى وقف التدخل في “القرارات الإستراتيجية” للطائفة الدرزية في سوريا، مشدداً على ضرورة تمسكهم بالهوية السورية. وقال إنه كان على تواصل دائم مع مشايخ الدروز داخل سوريا، في ظل ما شهدته الطائفة الدرزية من تحديات خلال الفترة الماضية، مضيفاً أن ذلك كان “للاطمئنان على أحوالهم وتقديم المساعدة لهم قدر المستطاع، وفقاً لرؤيتهم وقراراتهم الداخلية التي لا نتدخل فيها ولا نؤثر فيها، آملين أن تتجه الأمور نحو الحلول المرجوة”.

وأكد طريف تمسكه بمساندة الدروز داخل سوريا من منطلق “حفظ الإخوان”، لكنه شدد على عدم تدخله في “القرارات الإستراتيجية الداخلية” لأنها “من شأن الطائفة في سوريا”. ودعا الدروز السوريين إلى “الحفاظ على الهوية وأخذ المكانة المستحقة في الوطن السوري الموحد”، مشدداً على أنهم “سوريون بامتياز، متمسكون بكل فخر بانتمائهم السوري العربي التاريخي”.

مراحل التباين

التباين بين الشيخ طريف ووليد جنبلاط لم يكن دائماً واضحاً أو علنياً، لكنه بدأ يتبلور تدريجاً مع تحول دور طريف من مرجعية دينية محلية داخل إسرائيل إلى شخصية تؤدي دوراً إقليمياً باسم الطائفة الدرزية. وكثيراً ما جمعت الرجلين علاقة “ود واحترام متبادل”، وكان ينظر إلى طريف في لبنان كمرجعية دينية درزية داخل الأراضي المحتلة، من دون أن يتجاوز حدوده نحو التمثيل السياسي.

في هذه المرحلة كانت العلاقة مع جنبلاط قائمة على التوازن التقليدي: السياسة في يد الزعامات اللبنانية، والدين في يد المشايخ الروحيين كل ضمن حدوده الجغرافية. بدأ التحول عندما بدأ طريف يزور دولاً أوروبية، ويلتقي مسؤولين دوليين، ويتحدث عن الدروز “كأقلية إقليمية”، وليس فقط كمكون داخل إسرائيل. هنا بدأ التباين مع جنبلاط يظهر بصمت، إذ رأى في هذا التوسع محاولة لخلق “مرجعية بديلة” قد تزيح زعامة المختارة من تمثيل الدروز إقليمياً. وبعد الحرب السورية (2011)، وخلال معارك جبل العرب في سوريا، حاول طريف أن يؤدي دوراً في حماية دروز سوريا عبر التنسيق مع النظام أو مع إسرائيل، بينما كان جنبلاط يدعم المعارضة، قبل أن يتحول لاحقاً إلى الحياد.

وبعد انفتاح بعض الدول العربية على إسرائيل وتوقيع “اتفاقات أبراهام”، بدأ طريف يتردد على الإمارات كممثل للدروز في المنطقة، وليس فقط في فلسطين. وكان لاستقبال الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان له في ديسمبر (كانون الأول) 2024، وقع كبير، وهو ما اعتبر “تجاوزاً خطراً” لزعامة جنبلاط، ومحاولة إسرائيلية لصناعة “دروز معتدلين” تابعين لمحورها، وهذا يفسر سر التوتر الصامت بين الرجلين. من هنا قيل إن بيان قصر بعبدا الذي أنكر معرفة الرئيس عون بطريف، لم يكن موجهاً لطريف وحسب، بل كان استجابة مباشرة لغضب جنبلاط من هذا الاختراق.

جنبلاط والشرع

تزامنت تلك الزيارة مع تعرض دروز جرمانا لضغط أمني ومجازر محدودة النطاق، مما فتح الباب أمام انقسام درزي – درزي حاد في قراءة الموقف، بين من رأى في الزيارة خطوة واقعية لحماية الدروز، ومن اعتبرها “انتكاسة” لكرامة الطائفة التي دفعت أثماناً باهظة للحفاظ على حضورها وقرارها الحر.

وهنا تجلت أبرز لحظات التباين العلني والخطر بين جنبلاط والشيخ موفق طريف. ففي حين كانت جرمانا، وهي بلدة درزية قرب دمشق، تتعرض لضغوط أمنية وقصف من جماعات موالية للنظام، وسط صمت رسمي وخذلان من قبل مؤسسات الدولة السورية، وتزامناً كان هناك تصعيد إسرائيلي في الجنوب السوري، وضغوط على الدروز في السويداء، وانكفاء واضح لقوى المعارضة، زار جنبلاط دمشق وقابل الرئيس أحمد الشرع في لحظة حرجة، وأظهر تحولاً كاملاً في موقفه من النظام، وبرر زيارته بأنها محاولة لحماية ما تبقى من الدروز في سوريا، وتأمين خطوط اتصال مع الدولة السورية لتجنيب الطائفة مذبحة محتملة، لكنه لم يصدر أي موقف مباشر يدين ما يحصل في جرمانا، مما اعتبره بعض المراقبين تجاهلاً متعمداً أو تسوية على حساب “الدم الدرزي”.

على المقلب الآخر، لم يكن طريف على وئام يوماً مع النظام السوري، وأصدر بياناً عالي النبرة يطالب بـ”حماية دولية للدروز” ويندد بتواطؤ النظام، وحذر من التداعيات الخطرة التي قد تنجم عن استمرار العنف وتأثيرها في أمن وسلامة أبناء الطائفة الدرزية في سوريا، وأكد أهمية تضافر الجهود الإقليمية والدولية لضمان حماية حقوق الأقليات في سوريا، وفي مقدمها الطائفة الدرزية التي عانت طويلاً تداعيات الصراع الدائر في البلاد.

قسم هذا الحدث الدروز إلى معسكرين: معسكر الواقعية الجنبلاطية الذي رأى أن الشرع هو من يمسك بالدولة، والزيارة ضرورة، ومعسكر السيادة “الروحية الطريفية”، الذي قال “لا تسوية على الدم ولا شرعية لنظام يقتل أبناء الطائفة”. تلك الزيارة مثلت لحظة اختبار بين دروز السلطة ودروز الكرامة، بين من يسعى إلى ضمان البقاء ولو على حساب المبادئ، ومن يرفع الصوت ولو من دون أدوات قوة.

في زمن تتشظى فيه المرجعيات، ويتنازع فيه الدين والسياسة على الصوت والمكان، يتحول التنافس بين وليد جنبلاط والشيخ موفق طريف من خلاف في الرؤية إلى صراع على من يترجم الهوية الدرزية في زمن الاصطفافات الكبرى. وهو ليس خلافاً على الطقوس أو المبادئ، بل على من يملك مفاتيح التمثيل: الزعيم الذي يحمل إرث المختارة، أم الشيخ الذي يحمل توقيع المؤسسة الدينية في زمن التطبيع؟ وبينهما تبقى الطائفة الدرزية رهينة سؤال أعمق: هل يمكن للأقليات أن تبقى خارج لعبة المحاور، أم أن البقاء نفسه بات رهينة الاصطفاف؟ في هذا التنافس، لا يحسم النصر بالخطابات ولا بالمصافحات، بل بمن يحفظ الكرامة ويحمي الوجود، من دون أن يبيع الهوية.

—————————

==========================

واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا  تحديث 03 حزيران 2025

متابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي

دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع

————————-

قسد بين واقعية السياسة وتهمة الاعتداء على السيادة!/ سميرة المسالمة

الثلاثاء 2025/06/03

لا شك أن الحكومة السورية الحالية تسعى بجدية إلى استعادة سلطتها على كامل البلاد، بعيدًا عن أي صدام عسكري، لتجنيب السوريين مآسٍ جديدة تزيد من عمق ذاكرة العنف في تاريخهم الحديث. وتأتي في هذا السياق المباحثات المستمرة مع وفود من مكونات اجتماعية مختلفة، كالدروز والساحل والكُرد، حيث تتقدّم عبارات السلم الأهلي والمصالحة على نُذر التوتر، والتي لا تزال تشكل مشهدًا عامًا يعيق الوصول إلى البيئة الآمنة المرجوة، لتحقيق النمو والاستقرار لكل السوريين، بما في ذلك المناطق الخارجة جزئيًا أو كليًا عن السيطرة الحكومية حتى الآن.

وفي سياق التفاوض بين حكومة الرئيس أحمد الشرع و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، تبرز تحديات جوهرية، تتصل من جهة بمفهوم السيادة الوطنية غير القابلة للتفاوض أو التجزئة، ومن جهة أخرى بمفهوم الحقوق الجماعية للمكونات السورية، ومنها المكوّن الكردي، الذي يرى في “اللامركزية الموسعة” ركيزةً أساسية لأي تفاهم سياسي أو أمني.

في المقابل، تعلن الحكومة أن وحدة البلاد هدف لا يمكن التنازل عنه، مؤكدة أن التعامل مع سوريا والسوريين لا يمكن أن يتم على أساس التمايز المناطقي أو التمييز في الحقوق، أو القبول بأن يكون التمرد على قرارات الدولة وسيلة لتحقيق مكاسب خاصة. ولهذا، فإن العودة إلى حوار وطني شامل حول شكل الدولة وتوزيع الصلاحيات الإدارية، قد يشكّل مدخلًا واقعيًا لأي تفاهم، من دون أن يُفضي إلى خصومة سياسية مع أي مكوّن، أو إلى خلاف عقيم يُبقي التفاوض في دائرة المراوحة، والدخول في متاهة مقسوم لا تأكل وصحيح لا تقسم.

وفي هذا السياق، فإن الحديث عن تمسّك الحكومة بمركزيّتها الصارمة لم يعد دقيقًا، في ظل ما نراه من مرونة تفاوضية مع أهالي جرمانا، والسويداء، والساحل، و”قسد”. هذه المرونة لا تمس مصالح الأطراف، ولا تُضعف شرعية الدولة، بل تُسهّل التقارب في إطار احترام السيادة السورية الكاملة، ورفض تحويل سوريا إلى “مناطق نفوذ” أو “استثناءات مناطقية” تقوم على أسس قومية أو طائفية.

ولذا، فإن البحث عن حلول إدارية تمنح كل المحافظات السورية، وعلى قدم المساواة، القدرة على تحقيق تنمية اقتصادية وبناء مجتمعي، وتمكّنها من المشاركة الفاعلة في الحكم، ضمن مشروع دستوري مستقبلي جامع، وهو الكفيل بتحويل مشروع الحوار إلى واقع مستدام، لا يحتاج لضمانات خارجية، بل يقوم على الإرادة الوطنية.

من حق المكونات السورية أن تكون شريكة في إدارة مناطقها، بل من حق جميع السوريين أن يعيشوا في ظل لامركزية إدارية رشيدة، لا تتعارض مع سلطة الدولة، ولا تُهدد سيادتها، ولا تمنع إشرافها الكامل على الأمن والحدود والثروات، وهي مسؤوليات مناطة بجيش موحد يعمل تحت قيادة مركزية وطنية.

ولا شك أن تطبيق الإدارة المحلية الرشيدة من شأنه أن يُخفّف العبء عن الدولة، ويُفعل دور المجالس المحلية المنتخبة، ويُطلق الطاقات المجتمعية نحو خدمة نفسها بنفسها. وفي هذا الإطار، لا يمكن إنكار أن للمكونات الاجتماعية في شمال شرق سوريا -من عرب وكُرد وسريان وآشوريين- حقوقًا ثقافية وسياسية واقتصادية مشروعة، مثلها مثل بقية المكونات على كامل التراب السوري. ومن حقها أن تُطالب بإدارة محلية فعالة، وتمثيل سياسي حقيقي، وضمانات لحماية هويتها الثقافية، وعدالة ترفع عنها التهميش التاريخي.

مهمّة الأطراف المتفاوضة هي الحفاظ على مساحة الحوار من أجل إنتاج آليات عمل تتجاوز الماضي الأليم، بما في ذلك التهميش الذي عاناه السوريون عمومًا، والكُرد خصوصًا. واستمرار هذه الجلسات التفاوضية يُعدّ إشارة إيجابية على الرغبة المشتركة في بناء عقد اجتماعي جديد، يعترف بتنوع سوريا، ويؤسس لإدارة هذا التنوع ضمن دولة موحدة عادلة، وسيادة لا تتجزأ، فعدالة الدول تأتي من توسيع مشاركتها، وليس من تقسيم سيادتها، ومن بين ذلك وحدة جيشها ومركزية قراره وتحديد مساره.

المدن

———————–

اللامركزية السياسية في سورية… مطلب يثير الهواجس والتحفظات/ محمد أمين

02 يونيو 2025

لم تغب الدعوات المطالبة باعتماد مبدأ اللامركزية السياسية في سورية منذ إسقاط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهو ما تعتبره الإدارة السورية الجديدة خطوة نحو التأسيس لتقسيم البلاد إلى “كانتونات” هشة، على أسس عرقية وطائفية، وتدفع باتجاه الاحتراب الأهلي في بلاد خرجت منهكة على مختلف المستويات، من سلطة استبدادية راكمت الكثير من المظالم. وجدد قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي، في حوار تلفزيوني يوم الجمعة الماضي، مطالبته باعتماد اللامركزية السياسية في سورية، مشيراً إلى أن الأكراد “منفتحون” على الحوار مع دمشق ضمن هذا الإطار، متجنباً استخدام مصطلح الفيدرالية لأن الحديث عنه “يُقابل بحساسية من دمشق”، التي ترى في ذلك تهديداً لوحدة البلاد، رغم أن “المطلب الكردي لا يهدف إلى الانفصال”، وفق عبدي. وجاءت تصريحات عبدي، التي نشرت الجمعة، قبل يوم من توجه وفد الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية، وهي ذراع مدنية لـ”قسد”، إلى دمشق لبدء مفاوضات مع الحكومة لحسم مصير الشمال الشرقي من سورية.

وكانت قوى سياسية كردية أقرت أواخر إبريل/نيسان الماضي وثيقة دعت إلى “سورية لا مركزية” وإلى نظام حكم برلماني “يتبنّى التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة وفصل السلطات، كما يعتمد مجالس المناطق في إطار النظام اللامركزي”. ولم تتأخر الرئاسة السورية في الرد على هذه المطالب، مؤكدة في بيان يومها رفضها القاطع لأي محاولات “لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة بمسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية من دون توافق وطني شامل”. وأضافت: لا يمكن لقيادة قسد أن تستأثر بالقرار في منطقة شمال شرقي سورية، إذ تتعايش مكوّنات أصيلة كالعرب والأكراد والمسيحيين وغيرهم. وأكدت أن رفضها “مصادرة قرار أي مكوّن واحتكار تمثيله أمر مرفوض”، مشيرة إلى أنه “لا استقرار ولا مستقبل من دون شراكة حقيقية وتمثيل عادل لجميع الأطراف”.

طرح اللامركزية السياسية في سورية

تبدو اللامركزية السياسية في سورية صعبة التحقيق في الشمال الشرقي، فالعرب يشكلون غالبية سكانه، وجلّهم مع مركزية السلطة في الوقت الحالي، ويرفضون الدعوات لاعتماد مبدأ اللامركزية. وتخلو المناطق التي تسيطر عليها قوات “قسد” من محافظتي الرقة ودير الزور من أي حضور سكاني كردي، ما يعني عملياً أن هذه المناطق غير معنية بأي طرح سياسي كردي حول اللامركزية السياسية في سورية أو غيرها من نظم السلطة. ولا يوجد ارتباط جغرافي بين الأكراد السوريين المنتشرين في القامشلي وريفها وفي مناطق بريف حلب مثل عين العرب (كوباني)، وعفرين، فضلاً عن حضور في مدينتي حلب ودمشق.

في السياق، قال فيصل يوسف، وهو المتحدث باسم “المجلس الوطني الكردي”، المظلة السياسية الأوسع في المشهد الكردي في سورية، في حديث مع “العربي الجديد”، إن “المجلس يرى أن الشكل الأمثل للدولة السورية المستقبلية هو الدولة الديمقراطية التعددية اللامركزية، القائمة على الاعتراف الدستوري بحقوق كافة المكونات القومية والدينية، وضمان حقوق الشعب الكردي كشعب أصيل في البلاد”. بيد أنه أكد أن “هذا الموقف قابل للنقاش”، مشيراً إلى أن المجلس “يؤمن بالحوار”. وأضاف يوسف: غير أن المبدأ الأساسي الذي لا يمكن التخلي عنه، هو رفض العودة إلى مركزية السلطة. وتابع: اللامركزية السياسية في سورية هي الضامن الحقيقي لوحدتها واستقرارها، إذ تتيح توزيع السلطة والموارد بعدالة بين مختلف المناطق، وتمكين المكونات المحلية من إدارة شؤونها ضمن إطار وطني. ورأى أن اللامركزية السياسية في سورية “تحدّ من الاستبداد، وتمنع تكرار تجربة الحكم الأمني والمركزي الذي أضر بكل السوريين”، لافتاً إلى أنه بالنسبة للأكراد، فإن اللامركزية تعني أيضاً إطاراً دستورياً يمكن من خلاله صون هويتهم القومية، ولغتهم، وحقوقهم السياسية والاجتماعية ضمن سورية موحدة.

بدوره، قال القيادي الكردي شلال كدو، في حديث مع “العربي الجديد”، إن الأكراد في سورية “اتفقوا على أن سورية يجب أن تكون لامركزية برلمانية ديمقراطية”، مضيفاً: سنطالب بذلك في المفاوضات مع دمشق. وتابع: “النظام اللامركزي هو الأنسب لسورية، كونها متعددة الثقافات والإثنيات والطوائف، والنظام الديكتاتوري المخلوع دمر جسور الثقة بين المكونات، ومن ثم فإن اللامركزية هي الحل في هذه المرحلة. اللامركزية قابلة للنقاش ولكن ليست قابلة للتنازل”.

وحول مبررات الجانب الكردي للإصرار على اللامركزية السياسية في سورية، أشار الباحث السياسي المقرب من الإدارة الذاتية إبراهيم مسلم، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن “التهميش” هو الدافع الرئيسي لهذا المطلب. وتابع: الأنظمة التي تعاقبت على السلطة في سورية، همّشت الأكراد في البلاد. وأي كردي يكون في موقع القرار لا يعمل على ضمان مصلحة الأكراد. ولم يرَ مسلم مانعاً لمشاركة الأقليات في إدارة مناطقهم من النواحي كافة، مضيفاً: اللامركزية السياسية في سورية تعني مشاركة كل مكونات المجتمع السوري في إدارة شؤون حياتهم.

ولا تقتصر المطالبة بإقرار اللامركزية السياسية في سورية على المكون الكردي، بل ظهرت أصوات لها تأثير سياسي في الطائفتين العلوية والدرزية تدعو إلى اعتماد هذا المبدأ. وكرر حكمت الهجري أبرز المرجعيات الدينية في السويداء عديد المرات المطالبة باللامركزية في هذه المحافظة ذات الغالبية الدرزية من السكان، التي تعيش اليوم تبايناً سياسياً بين مختلف تياراتها حول العلاقة مع الحكومة المركزية في دمشق.

رأى الباحث السياسي مؤيد غزلان، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “اللامركزية في مراحل التنشئة السياسية تعتبر مجازفة سياسية ومجتمعية في الوقت ذاته”، مضيفاً: التركيبة الديمغرافية في شمال شرق سورية ليست نهائية، حيث سيكون هناك إعادة تموضع في حال تم الاتفاق بين الحكومة و”قسد”. وتابع: التمثيل السياسي في شمال شرق سورية غير عادل وأحادي ولا يشمل كل المكونات، خصوصاً العرب. هناك تذمر كبير من العرب، تحديداً في محافظة الحسكة بسبب عدم تمثيلهم سياسياً، علماً أن اللامركزية تقتضي توزيعاً سياسياً وديمغرافياً عادلاً.

الفارق بين اللامركزية والانفصال

وبرأي غزلان فإن طرح اللامركزية السياسية في سورية في الوقت الراهن “يُقرأ على أن هدفه هو الانفصال”، مضيفاً: هذا الطرح لا يخدم الأهداف السياسية للشعب السوري في هذه المرحلة. وأعرب عن اعتقاده أن “غالبية الشعب تريد مركزية السلطة في دمشق وغير موافقة على الإدارات اللامركزية، لأن قوة الحكم في مرحلة التنشئة والمأسسة السياسية تتطلب مركزية القيادة”. لكنه أكد أنه ربما في مرحلة يمكن طرح مسألة اللامركزية بعد الوصول إلى مرحلة نضوج سياسي مجتمعي. لا يمكن تغيير الخريطة السياسية الداخلية من دون استتباب للمجتمع السياسي الذي يحاول الخروج من تركة النظام المخلوع.

ورأى غزلان أن المرحلة التي تمرّ بها البلاد “تتطلب التعاضد مع السلطة المركزية، وليس التأسيس للانفصال تحت ذريعة الفيدرالية أو غيرها من الطروح”، مضيفاً أن هناك ريبة في أن الفيدرالية من عموم الشعب السوري الذي يعتبرها مقدمة لتقسيم البلاد. واعتبر أنه يتعين على الجميع احترام رأي الأغلبية من السوريين والتي ترفض اللامركزية وتطالب بمناصرة الحكومة السورية لتحقيق المزيد من النجاحات السياسية والاقتصادية.

في السياق، أوضح الخبير القانوني محمد صبرا، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الفرق بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية “كبير”، لأنّ الأمر متعلق بتحديد طبيعة الدولة وشكل النظام الدستوري فيها، بين أن تكون بسيطة كالدولة المركزية أو مركّبة كتلك التي تعتمد نظام اللامركزية. وتابع: اللامركزية السياسية تعتمد على مبدأ توزيع الوظيفة السياسية، وتوزيع الوظائف الثلاث الرئيسية (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، بين الحكومة الاتحادية في العاصمة وبين الوحدات السياسية في الولايات التي تحتفظ بدستورها الخاص وتشريعاتها وبرلمانها وحكومتها، وتكون مشرفة على كل مجالات الحياة، باستثناء إقامة علاقات مع الدول وإبرام اتفاقيات، لأنها لا تمتلك الشخصية القانونية وفق القانون الدولي، أو أن يكون لديها جيش خاص بها.

النموذج العراقي

وبيّن صبرا أن اللامركزية الإدارية “تعتمد مبدأ توزيع الوظيفة الإدارية المتمثلة في الخدمات والتعليم والصحة والزراعة… بين الحكومة المركزية والهيئات الإدارية في المحافظات”، مضيفاً: في النشأة التاريخية، سياق تأسيس الدولة الفيدرالية يأتي من الخاص إلى العام، أي أن تتفق عدة مناطق على خلق دولة ذات شخصية معنوية في القانون الدولي، تعبر عن مصالح الوحدات الإدارية في هذه المناطق. كما أوضح أنه “لم يسبق لدولة مركزية أن تمت تجزئتها إلى دولة فيدرالية باستثناء التجربة العراقية، التي ما تزال تتأرجح ما بين النجاح والفشل”. واعتبر صبرا أن لا مشكلة في شكل النظام السياسي سواء كان مركزياً أو لا مركزياً، مضيفاً: لكن المشكلة في الدوافع وراء تبنّي هذا النظام أو ذاك. وعندما يكون الدافع حماية مصالح الشعب على أساس جغرافي، فهو مختلف عندما يكون على أساس تمايز ديني أو عرقي. في هذه الحالة دخلنا في منظومة تناقض فكرة النظام الفيدرالي بحد ذاته.

وأوضح صبرا أن فكرة النظام الفيدرالي تقوم على مبدأ التنمية السياسية لأقاليم معينة. وبرأيه، فإن الوضع الإداري الذي كان سائداً في سورية “ليس سيئاً إذا تم تطوير قوانين الإدارة المحلية التي كانت مجحفة بحق السلطات المحلية”، مضيفاً: سورية مقسمة إدارياً إلى محافظات، وقانون الإدارة المحلية سواء القانون النافذ حالياً، وهو القرار 107 أو القانون الذي سبقه، يعطي كل محافظة استقلالاً إدارياً في العديد من المجالات، وكان مجلس المحافظة منتخباً وهو بمثابة برلمان مصغر يختار مجلساً تنفيذياً، ويصدر مجموعة من اللوائح تتعلق بالرسوم والضرائب وتنظيم أوجه الحياة.

وأشار إلى أن الإشكالية التي كانت موجودة تتمثل في تعيين المحافظ من قبل الإدارة المركزية “ما يسمح له بالتغوّل الإداري على حساب مجلس المحافظة”. وأوضح أن هناك “تطوراً هائلاً في قوانين الإدارة المحلية في الدول الأوروبية، ويتم تطبيق مبدأ الديمقراطية التشاركية، بما يمنح للمواطنين القدرة على إدارة شؤون حياتهم بعيداً عن هيمنة المركز”. لكنه أوضح أنه “للأسف لا يتم الحديث عن مبدأ الديمقراطية التشاركية في النقاش السياسي السوري، الذي ينحصر في اللامركزية السياسية والإدارية والذي يأخذ طابع نزاع ديني أو عرقي. أعتقد أن أساس هذا النقاش معيب، لأنه سيقود إلى نتائج معيبة في المستقبل، لذا يجب العودة إلى نقاش الديمقراطية التي تقوم على إشراك المواطنين في إدارة شؤونهم.

——————————-

نحو عقد اجتماعي جديد: اللامركزية مدخلٌ لوحدة سوريا وتنميتها وعدالتها/ فيصل يوسف

منذ الاستقلال، عاشت سوريا تحت نظم حكم اتسمت بالمركزية الصارمة، إلا أن هذه المركزية بلغت ذروتها بعد استيلاء حزب البعث على السلطة، وتحديدا في ظل نظام الأسد الأب والابن، حيث تكرّست سلطة مطلقة في يد المركز، وتحوّلت الدولة إلى بنية أمنية مغلقة، سيطر فيها الحزب الحاكم على مؤسسات الدولة والمجتمع، وأُقصيت المكونات القومية والسياسية، وضُيّقت الحريات، وتمّ إضعاف الحياة السياسية والنقابية لصالح هيمنة السلطة المركزية.

لقد أدى هذا النظام المتصلب إلى نتائج كارثية، فالمركزية الشديدة لم تكن فقط أداةً لضبط الدولة، بل كانت وسيلةً لتهميش المناطق، وتكريس التفاوت التنموي، ومنع مشاركة المجتمعات المحلية في إدارة شؤونها، ما فاقم الشعور بالظلم والاغتراب لدى قطاعات واسعة من الشعب السوري. وعندما انفجرت الثورة عام 2011، لم يكن ذلك ضد نظام سياسي فقط، بل ضد نموذج حكم كرّس الاستبداد لعقود. وقد دفع الشعب السوري ـ بمختلف مكوناته ـ ضريبة باهظة في الأرواح والدمار، وما زالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم.

أحد أبرز الدروس المستخلصة من التجربة السورية، أن النظام المركزي المتسلط ليس ضمانة للوحدة، بل هو سبب في الانفجار والانقسام، وعلى النقيض، فإن تبني نظام لامركزي ديمقراطي، يوزع السلطات والصلاحيات بين المركز والمناطق، هو السبيل الواقعي لبناء دولة وطنية قوية تتسع لجميع أبنائها. وفي خِضَمِّ الحوارات الوطنية والدولية حول مستقبل سوريا، تبرز أصوات ما تزال ترفض أي طرح للامركزية، وتُصوِّرها كتهديد لوحدة البلاد، وهذا خطأ فادح، فالدول المستقرة التي نجحت في إدارة تنوعها القومي والديني والثقافي، اعتمدت صيغا متعددة من اللامركزية، مكنت مواطنيها من المشاركة في القرار، وحققت توازنا تنمويا بين المركز والأطراف. هذه النماذج لم تؤدِّ إلى الانفصال، بل عززت التماسك الوطني. في المقابل، فإن الإصرار على إعادة إنتاج المركزية القديمة في سوريا، تحت مبررات السيادة والوحدة، لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج جذور الأزمة. من هنا، فإن المطالبة باللامركزية ليست بدعة، ولا مؤامرة خارجية، بل هي استحقاق وطني تمليه معاناة السوريين وتجربتهم القاسية. ونحن، من موقعنا كمكون أصيل من النسيج الوطني السوري، وكشعب كردي عانى طويلاً من نتائج المركزية الصارمة والتهميش والإقصاء، ومورست بحقه سياسات تمييزية استهدفت وجوده القومي، نؤكد أن من حقنا الطبيعي والمشروع أن نطرح رؤيتنا حول شكل وهوية الدولة السورية المستقبلية، تماما كما هو حق لجميع المكونات الوطنية الأخرى. إننا لا نطالب بامتيازات، بل نطالب بالاعتراف المتبادل، وبأن تُبنى الدولة الجديدة كونها متعددة القوميات والأديان، على قاعدة المواطنة المتساوية والعدالة التوزيعية، لا على إعادة إنتاج مركزية تسلطية أثبتت فشلها.

إن النظام اللامركزي الموسع، الذي ننادي به، يقوم على منح صلاحيات حقيقية، إدارية ومالية وتشريعية، للمجالس المحلية المنتخبة، وإعادة النظر في التقسيمات الإدارية التي وُضعت سابقا لخدمة الضبط الأمني لا لخدمة التنمية، كذلك، فإن هذا النموذج يجب أن يُقرّ بحقوق المكونات القومية والثقافية، وفي مقدمتها حق الشعب الكردي، باعتباره ثاني مكون من حيث عدد السكان، ويكفل تمثيله العادل ومشاركته الفعلية في إدارة شؤون البلاد. أما محاولات تصوير اللامركزية على أنها مشروع للتقسيم، فهي تتجاهل حقائق الواقع، فالتجربة العراقية ـ رغم خصوصياتها ـ أثبتت أن الفيدرالية التي أُقرّت هناك لم تكن تفكيكاً للدولة، بل استجابة لمظلومية تاريخية، وتعبيرا عن نضال طويل من أجل الشراكة. وفي سوريا، فإن الاعتراف بالقضية الكردية بوصفها قضية وطنية، لا يمكن تأجيلها أو اختزالها، هو جزء أساسي من مشروع المصالحة الوطنية وإعادة بناء الدولة.

هذه المصالحة لا تخص الكرد وحدهم، بل تشمل جميع السوريين الذين عانوا التهميش في حلب، ودير الزور، ودرعا، والسويداء، وحمص، وكل مناطق الوطن. إنها تتطلب عقدا اجتماعيا جديدا يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويضمن المشاركة الفعلية في القرار، ويكرّس حقوق المواطنة المتساوية.

ولا يمكن تحقيق الاستقرار دون خطوات ملموسة، منها:

1 ـ إنشاء هيئات مستقلة للحقيقة والإنصاف، توثق الانتهاكات وتضع أسس العدالة الانتقالية.

2 ـ تأسيس صناديق تنموية للمناطق المحرومة لمعالجة التفاوتات الاقتصادية.

3 ـ انتخاب مجالس محلية بصلاحيات واسعة تشريعيا وتنفيذيا.

4 ـ وضع نظام ضريبي عادل يضمن التوزيع المنصف للثروات الوطنية.

5 ـ إدراج ضمانات دستورية تحول دون عودة الاستبداد بأي صيغة كانت.

إن بناء سوريا الجديدة يتطلب ثقافة سياسية جديدة، تقوم على التعددية والعدالة والشراكة، وتقطع مع منطق الإقصاء والغلبة. الدولة التي نطمح إليها هي دولة لكل أبنائها، بمختلف انتماءاتهم، وتُبنى على أساس المشاركة لا الهيمنة. فاللامركزية الموسعة، عندما تُصاغ بوصفها أداةً للوحدة الوطنية والتنمية المتوازنة، تصبح مدخلا ضروريا لبناء سوريا ديمقراطية مستقرة، تحترم تنوعها وتستوعب آمال شعبها، الذي دفع أثمانا باهظة من أجل الحرية والكرامة والعدالة.

المنسق العام لحركة الإصلاح الكردي – سوريا

القدس العربي

———————————

تفاصيل تفاهمات الحكومة السورية و”قسد” في اجتماع دمشق/ حسام رستم

01 يونيو 2025

أعلن العميد زياد العايش عضو اللجنة المختصة المكلفة من الحكومة السورية بإتمام الاتفاق مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، عن التوصل إلى تفاهمات تنفيذية خلال اجتماع رسمي عُقد اليوم الأحد في دمشق. ونقلت الوكالة السورية للأنباء (سانا) عن العايش قوله إن الاجتماع الذي جمع اللجنة مع وفد من “قسد” تناول عدداً من الملفات الحيوية، أبرزها تشكيل لجانٍ فرعية تخصّصية لمتابعة تنفيذ اتفاق العاشر من مارس/آذار الفائت، المُوقَّع بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قسد” الجنرال مظلوم عبدي.

وأضاف أن الطرفين توافقا على معالجة القضايا العالقة في ملف الامتحانات والمراكز الامتحانية، بما يضمن حقوق الطلبة وسلامة العملية التربوية، إلى جانب بحث آليات تسهيل عودة المهجّرين إلى مناطقهم، وإزالة المعوقات التي تحول دون ذلك. كما اتفق الجانبان على إعادة تفعيل اتفاق حيَّي الأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب، بما يسهم في تعزيز الاستقرار والسلم الأهلي. وأكد العايش أن الجانبين جدّدا التزامهما بالحوار البنّاء والتعاون المستمر في سبيل الحفاظ على وحدة سورية وسيادتها، وتحقيق تطلعات السوريين في الأمن والاستقرار، مضيفاً أن الطرفين اتفقا على عقد لقاء قريب لمتابعة تنفيذ ما جرى التفاهم عليه.

ونصّ الاتفاق الموقع بين الشرع وعبدي في آذار/ مارس الفائت على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية كافّة في شمال شرق سورية ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، بما لا يتجاوز نهاية العام الحالي، كما نصّ على “رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بثّ الفتنة بين مكونات المجتمع السوري كافة”، و”ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وجميع مؤسسات الدولة، بناءً على الكفاءة، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية”.

وشُكلت بالفعل لجان متخصّصة للتفاوض في كل الملفات لتمهيد الطريق أمام استعادة الدولة السورية السيطرة على الشمال الشرقي الذي تسيطر عليه “قسد”، ووضع حد لمحاولات حثيثة لفرض واقع يفتح الباب أمام مشروعات لتقسيم البلاد.

وتسيطر قوات “قسد”، المدعومة من التحالف الدولي، على الجزء الأكبر من محافظتَي الرقة والحسكة وعلى أجزاء واسعة من ريف حلب الشمالي الشرقي وكامل ريف دير الزور شمال نهر الفرات. وتتحكم بهذه المناطق الغنية بالثروات، في إطار سعيها للضغط على الحكومة السورية لفرض اللامركزية في البلاد، وهو ما ترفضه دمشق تماماً، وترى أنه خطوة في اتجاه تشظّي البلاد على أسس عرقية وطائفية.

—————————

أيديولوجيات في الحسكة تتراشق المناهج الدراسية/ شفان إبراهيم

03 يونيو 2025

تعمّق الانقسام التعليمي في محافظة الحسكة، وأصبح يُشكل تهديداً مباشراً لمستقبل عشرات الآلاف من الطلاب؛ بعد أن استغلت الإدارة الذاتية سقوط النظام السوري، وفرضت سيطرتها على المدارس التي كانت سابقاً خاضعة لسيطرة النظام السابق من حيث الإدارة والتمويل والقرار التعليمي والسياسي، وكانت تقع ضمن نطاق سيطرتها التعليمية، وبالتالي نشأت أزمة تربوية جديدة.

وجد الطلاب وأولياء أمورهم أنفسهم أمام الاختيار ما بين مناهج وشهادات وامتحانات غير معترف بها، ومشكوك في بنيتها المعرفية، وأدلجتها، ومنهاج حكومي سوري بات من الصعب الوصول إليه، والاضطرار لتحمّل مخاطر وتكلف مصاريف كبيرة للوصول إلى امتحانات الشهادتين في عموم المحافظات السورية.

ووفقاً لمصدر من مديرية التربية والتعليم في الحسكة، “رفضت وزارة التربية والتعليم السورية أي شراكة إشرافية مع الإدارة، وعدم وجود أي منافذ لتسجيل الطلاب في الحسكة، ليواجه الطلاب وأهاليهم واقعاً قاسياً يُهدد مستقبلهم العلمي، ويزيد من حدة الانقسام الأسري والهويّاتي في مجتمع متنوّع عرقياً ودينياً”، المصدر أضاف: “حالياً، الطلاب في الحسكة منقسمون على واقعهم التربوي والتعليمي، فمنهم من ينتمي لمدارس تتبع الإدارة الذاتية بمناهج لن تفتح له أبواب الجامعات، ولا تعترف وزارة التربية السورية بها، ومنهم من تحمل كل شيء من فقر واقع التعليم وبؤسه لدى النظام طمعاً في الاعتراف بالشهادة وإتمام التعليم والتحصيل العلمي، ولكن بالنهاية مُنع وحُرم من التقدم للامتحانات في بلدته ومدينته”.

“ما بين قرار سياسي هنا ورفض هناك، أخشى أن يضيع عامٌ كامل من عمري، مع ما يقارب 30 ألف طالب في الحسكة مهددّين بخسارة عامهم الدراسي، وربما مستقبلهم بالكامل. بعضهم فكّر بالهجرة، وآخرون يحلمون بأن يأتي “قرار من فوق” ينصفهم” وفقاً للطالبة كاترين.

المشهد التعليمي قبل سقوط النظام

طبقت جهتان مختلفتان منهاجين مختلفين للمراحل التعليمية: الابتدائية والإعدادية والثانوية. وتوزعت البنية الإدارية والجغرافية للتعليم في الحسكة على قسمين متداخلين:

1. المدارس في الأحياء والقرى الكردية والعربية الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية، وتطبق مناهج أصدرتها الإدارة الذاتية، وقد طبعت بثلاث لغات: الكردية والعربية والسريانية. يدرس أبناء كل قومية لغتهم الأم في سنوات الدراسة الثلاث الأولى، وبدءاً من الصف الرابع، تُدخَل لغة محلية أخرى إلى جانب اللغات الأجنبية، لكن ذلك لم يطبق على الطلاب السريان، مع أعداد قليلة نسبياً للطلبة من المكون العربي الملتحقين بمناهج الإدارة الذاتية، بالإضافة إلى “وجود إشارات لنظريات زعيم حزب العمّال الكردستاني عبد الله أوجلان وأقواله، ما عدّه كثيرون أدلجة سياسية مباشرة”. قالت مصادر عديدة في الإدارة الذاتية إنه جرى تخفيفها خلال السنتين الفائتتين.

2- القرى العربية الخاضعة لسلطة دمشق والواقعة جنوب المدينة، والمربعات الأمنية في الحسكة والقامشلي ومدرسة أخرى في حي الوحدة المتنازع عليه بين الطرفين، كانت تطب~ق مناهج النظام السوري السابق، ولا وجود لغير اللغة العربية مع التشديد على تدريس مواد التربية القومية، الوطنية، المغذية سيطرةَ حزب البعث على مفاصل الدولة، ودروس التاريخ التي لا تحتوي على أيّة إشارات ولو بسيطة إلى المكوّنات السورية الثقافية التاريخية.

وسيطرت الإدارة الذاتية على 115 مدرسة في القامشلي وريفها كانت تابعة لوزارة التربية والتعليم السورية، في حين كان النظام يسيطر على 125مدرسة، ولم تتمكّن الإدارة الذاتية من فرض مناهجها على عشر مدارس كنسية، وأغلقت 30 مدرسة خاصة، اضطرت لنقل مقارها إلى المربعات الأمنية. والمفارقة هي أن الأغلبية العظمى من أبناء موظفي الإدارة الذاتية وقياداتها مسجلة في مدارس الحكومة السورية لمختلف المراحل التعليمية. وتقول الإدارة الذاتية إن لديها 2300 كادر إداري وتعليمي، ولدى الحكومة السورية 2800، ويتراوح متوسط رواتب العاملين الشهرية في هيئة تربية وتعليم الإدارة الذاتية ما بين 85 -100 دولار، ومتوسط رواتب مدرسي الحكومة السورية ما بين 20 و30 دولاراً شهرياً في أحسن الأحوال. ووفقاً للمرشدة الاجتماعية ميادة عليكو فإن “الاختلاف في المناهج والمدارس واللغة والكادر والأيديولوجيا الحزبية خلق تمايزاً اجتماعياً. فـالطلاب الفقراء المسحوقون الذين لا يتمكنون من التسجيل في المدارس الخاصة مضطرون إلى التسجيل في مدارس الإدارة الذاتية أو ترك الدارسة، بينما الأغنياء يلتحقون بالمدارس والمعاهد الخاصة الأكثر أماناً للطلاب ومستقبلهم، وأبناء الطوائف المسيحية يلتحقون بمدارس الكنيسة، ما خلق فجوة بين الطلاب من مختلف المكونات”. وتقدر إحصائيات خاصة للإدارة الذاتية عدد الطلاب المسجلين في مدارسها في القامشلي بـ15 ألفاً و900، ويتراوح عدد طلاب الشعبة الصفية الواحدة بين 20 و30 حدّاً أقصى، ووفقاً لإحصائيات مقدّمة من مديرية التربية بالحسكة، فإن لديها 32 ألف طالب بمعدل وسطي بين 70 و80 طالباً في الصف الواحد، وثمّة فئة ثالثة تتلقّى خدمات تعليم رسمية، بطريقة غير رسمية، عبر الدورات الخصوصية في المنازل أو المعاهد الخاصة، وهم ممن لا يمكن إحصاؤهم بدقة نتيجة غياب البيانات الرسمية، إلى جانب المسجلين رسمياً لدى مدارس الطرفين.

لكن المشكلة الأساسية في صعوبة الإحصاء الدقيق لعدد المتسرّبين والمسجلين. وبمتابعة الوضع الميداني، تُلاحَظ كثافة كبيرة جداً لعدد الأطفال والشباب المراهقين في عمر الدراسة وهم يعملون في المنطقة الصناعية وغيرها من الأماكن. ولدى السؤال عن وضعهم التعليمي، قالت ستة مصادر: “نحن مسجلون في مدارس الدولة، كُنا نلتزم بالدوام فقط أيام الامتحانات، وأحياناً أيام المذاكرات، وكنا ننجح بغض النظر عن فحوى ومحتوى الورقة الامتحانية، وقسم منا مُسجل لدى الإدارة الذاتية أيضاً، وأحياناً نحصل على دورات خصوصية في المنزل أو متابعة من الأهالي”. توجه معد التحقيق إلى المجمع التربوي في القامشلي الذي أشار مصدر ضمنه إلى “اتفاق شفهي غير مكتوب بين الجميع، مديرية التربية بالحسكة، مدراء المدارس، المجمع التربوي، يجرى استقبالهم من دون دوام وفق مبلغ متفق عليه، وبالنهاية، يُرفَّعون للعام الذي يلي من دون تلقّي أيّ معلومات أو دروس”، مضيفاً: “لذلك لا تُمكن معرفة العدد الحقيقي للمتسربين تعليمياً”.

منع امتحانات الشهادتين

مع سقوط النظام السوري، وضعت الإدارة الذاتية يدها على ما تبقّى من المدارس، وأغلقتها ومنعت الصفوف الانتقالية من تقديم الامتحانات، ورغم إعادة فتح بعضها في بداية الفصل الثاني، أُعيد إغلاقها، ليستمر مسلسل فتح المداس وإغلاقها حوالي الشهر، حتى سُمح للصفوف الانتقالية بالدوم في المدارس. ومع غياب أيّ اتفاق على السماح لهم بتقديم الامتحانات، وبل جرت مصادرة أغلب الاختام الخاصة بالإدارات في أغلب المدارس. وبالرغم من النجاح النسبي لمسار تطبيق اتفاق الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي (10 مارس/ آذار) من خلال تطبيق اتفاقات خاصة بخصوص وقف إطلاق النار في “سد تشرين”، وانسحاب “قسد” من حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، إلا أن هذا الأمر لم ينطبق على التعليم.

تواصلنا مع المكتب الإعلامي لوزير التربية ومنسقّي التغطية الإعلامية لأعمال الحكومة ومكتب تنسيق وزارة الإعلام، ووسطاء ضمن وزارة التربية السورية، لكن من دون الحصول على أيّ إجابات. ووفقاً لمصدرين داخل مديرية التربية في الحسكة أكّدا أن وزارة التربية مصرة ولن تتنازل عن “الإشراف على الامتحانات لطلاب الشهادتين، بما فيها موضوع حماية الامتحانات التي تحتاج إلى إجراءات نزيهة تحقق تكافؤ الفرص للجميع، وضمان عدم تدخل أيَّ جهة في العمل الامتحاني، ولا يزال الحوار مستمرّاً للتوصل إلى صيغة تضمن احتواء الموضوع وتغليب مصلحة الطالب، لكن لا نتائج واضحة بعد”، ووفقاً للمصدرين، “الطلاب والمدرسون والمناهج والامتحانات تابعون لوزارة التربية السورية، ولم يكن لهم أيَّ علاقة بمدارس الإدارة الذاتية أبداً، وخلال السنوات السابقة، في عهد النظام البائد، جرت الامتحانات بشكل طبيعي، وكان لطلاب محافظة الحسكة مراكز وتحصيل علمي متقدم على مستوى سورية، بأي حق تطلب الإدارة الذاتية الإشراف على الامتحانات ومراقبتها وتصحيح الأوراق الامتحانية، وربط مدارسها وجامعاتها بمدارس وجامعات الدولة، وفقاً لمبدأ استغلال الظرف، علماً أن عملية الدمج تحتاج لنقاشات طويلة وإجراءات وتدخلات في المنهاج، يُمكن البدء بها فوراً، ولا تحتاج سوى إلى تفاهمات وضمانات ثقة، لكن ليس على حساب مستقبل ومصلحة الطالب والامتحانات، وبالرغم من تكرار اللقاءات بين وفد هيئة التربية للإدارة الذاتية مع وزارة التربية السورية برعاية منظمات دولية، لكن لا نتائج واضحة. وحالياً ووفق تنسيق بيننا مع الوزارة، جرى تمديد تسجيل طلاب الشهادة وبمقدورهم اختيار أيَّ محافظة للتسجيل فيها، في حال لم تُجرى الامتحانات في الحسكة”، واختتم المصدران حديثهما: “خلال أيام قليلة قادمة، إن لم يُتوصَّل إلى حل، فإن مستقبلاً أسود ينتظر المنطقة، ويكون الطالب قد تعرض للحيف والظلم وفقد أبسط حقوقه، وفي ما يخص طلاب المرحلة الانتقالية، يُمكن إيجاد دورات فاقد تعليمي بإشراف وزارة التربية والمنظمات الدولية، وهو أمر يحتاج لبعض التنسيق، لكن ليس بمستوى صعوبة وضع امتحانات الشهادتين”.

حاولنا التواصل مع أكثر من مصدر قيادي في هيئة التربية والتعليم للإدارة الذاتية من دون جواب. في حين أكدت مصادر خاصة أن منظمة يونسكو سعت إلى إجراء تقارب بين الطرفين وتنظيم آليات لإجراء الامتحانات، لكن الشروط المسبقة منعت التوصل إلى تسوية، واتفق الطرفان على استمرار اللقاءات، ثم لم يُسمح بعد بتسجيل الطلاب في الحسكة.

تواصلنا مع عدة مدرّسين لدى الإدارة الذاتية والحكومة السورية بشأن قرار حرمان الطلاب من الامتحانات وتداعيات القرار. حيث قالت المدرسة شاهيناز محمد، مدرسة لدى الحكومة السورية من أهالي القامشلي، إن “حرمان الطلاب من الامتحانات قرار غير تربوي بالدرجة الأولى، خاصة أنه صادر من جهات تدعي التربية والتعليم، لماذا يُزج بالتعليم والطلاب في الصراعات السياسية، يبدو أن من يضع يده على أيّ مؤسسة تتحول إلى ملكية خاصة به”، وتضيف: “لو توفرت الإرادة السياسية السليمة والنية الصافية، لكانت الأمور سهلة، خصوصاً امتحانات الشهادة الإعدادية التي تحولت إلى مرحلة انتقالية، ويمكن تدوين الأسئلة في الحسكة سرّاً، وتقديم الطلاب للامتحانات، وأن يقوم طاقم التربية في الحسكة بالإشراف على الامتحانات والتصحيح وإصدار النتائج التي تتشابه مع أي صف انتقالي آخر، لكن الإدارة الذاتية ترفض حتّى هذا الحل، في حين أن المشكلة الأساسية هي في امتحانات المرحلة الثانوية التي تعتبر مصيرية للانتقال إلى التعليم العالي”.

وقال مُدرّس تابع للإدارة الذاتية: “حتى لو اتفقت دمشق والإدارة الذاتية على إرسال أسئلة الامتحانات من دمشق توزيع الأدوار للمراقبة والتصحيح وإصدار النتائج، فإن الأهالي لن يقبلوا، القضية تعود لغياب الاعتراف الرسمي بجامعات ومدارس الإدارة الذاتية، ذهنية الأهالي والطلاب لا تتقبّل التحاقهم بمدارسنا، ولا تتدخّل الإدارة الذاتية في الامتحانات خوفاً على مصير مستقبلهم”، مضيفاً: “الأفضل تحسين وضع الجامعات التابعة للإدارة الذاتية، والاعتراف بها، ما سيوفر على الطلاب والأهالي الكثير من المصاريف، إضافة إلى الحد من الكثير من المشاكل والنزاعات والخلافات بين الأطراف”، في حين تعود شهناز للحديث قائلة: “كل ما يُشاع من الإدارة الذاتية حديث فارغ، الهدف هو السيطرة على العقول، واستغلال الأعداد الكبيرة للطلاب في مشاريعهم السياسية، وزرع الأدلجة في عقولهم، ولو بقوا جاهلين فلا مشكلة لديهم” مختتمة حديثها: “لا يوجد لنا وصول أو نفاذ أو تواصل بوصفنا موجّهين ومدرسين مع دمشق، ولا أحد يملك أي جواب أو حل، القضية هي سياسية بحتة والجميع يسعى للحصول على مواقعه والطالب يدفع الضريبة”، وهو ما أكّده المُدرس لدى الإدارة الذاتية: “نسأل، لا نحصل على جواب، لا يُمكننا حلّ أيّ شيء، ليس في يدنا أيّ قرار أو إمكانية التدخل باعتبارنا قيمة مضافة إيجابية”.

ماذا قال الطلاب والأهالي؟

في غرفته الخاصة بالدراسة، يضع أراز يوسف جدول عمله وبرنامجه الدراسي اليومي ويتحدث والقلق والخوف باديان بوضوح على وجهه: “ما مصيرنا؟ لا أعلم، كُنت استعد منذ سنتين عبر الدورات الخصوصية، حرمت نفسي من كل شيء في سبيل الحصول على معدل ممتاز لأكون متفوّقاً في التحصيل العلمي، يخولني تسجيل كلية الطب البشري، لكن هذا القرار شكل صاعقة بالنسبة ليّ، أغلب الأوقات أفكر في المكان الذي سأقدم فيه الامتحانات أكثر من الدراسة، أشعر بشيء غريب لا يُمكن وصفه، كل الحكومات في العالم يجب أن تكون في خدمة التعليم والطلاب، وليس أن تكون ضدهم”، يُضيف: “السفر وتقديم الامتحانات خارج المحافظة صعب ومكلف جداً”. وأراز كغيره من الطلاب، تنحصر اهتماماته حالياً بالتعليم والشهادة الجامعية، لكنه يقول: “أحزن كثيراً حين لا أجد لغتي الأم، الكردية، موجودة في المناهج، أو غياب الحديث عن الهويّة والتاريخ الكردي، أتمنّى من الحكومة الجديدة أخذ هذه القضايا بعين الاعتبار ضمن مناهجها”، مختتماً: “قراري واضح ولن أتراجع عنه، لو غاب التوفيق من الله عني، سأسافر وأهاجر من هذه البلاد ولن أندم عليها، فقرار الإدارة الذاتية بمثابة المقصلة بالنسبة لنا”.

ويقول ملاذ الخضر، من أهالي جل آغا في ريف المالكية: “ابنتي تُفكّر طوال اليوم بمصيرها وأين ستقدّم الامتحانات أكثر مما تدرس، مضطر لإرسالها مع والدتها إلى حلب للتقديم، فأنا مشغولٌ بمتابعة أمور أرضي الزراعية ومن الصعب السفر، يبدو أن لا خيار أمامنا سوى هذا الخيار، سأبقى أقول إن الإدارة الذاتية هي المسؤولة الأولى والأساسية عن كل ما حصل لنا، أمرهم عجيب، الطالب والتعليم خط أحمر، حتى أعضاء مناصري الإدارة الذاتية ناقمون عليها بسبب هذا القرار”، ووفقاً لفاطمة عزم الموظّفة لدى الإدارة الذاتية: “سيتقدّم ولدي لامتحانات الشهادة الإعدادية وابنتي للثانوية العامة الفرع الأدبي، مناهج الإدارة غير معترف بها، وأنا محتارة جداً من أين سنؤمن ثمن مصاريف الامتحانات، التي نحتاج لما يزيد عن ألف دولار، علماً أن راتبي مع زوجي لا يصل إلى 250 دولاراً شهرياً، أيام صعبة وسوداء تنتظرنا، عدا الآثار النفسية والسلوكية وتغيير جو الامتحان على أبنائنا”.

آثار نفسية واجتماعية

عادة ما يعاني طلاب الشهادات من توتّرات وخوف من رهبة الامتحانات، لكن للمحرومين من تقديم الامتحان في مناطقهم مخاوف أخرى لم تكن موجودة سابقاً. … قالت المرشدة النفسية، لافا هسام، من مدينة ديرك المالكية: ” توصف الحالة النفسية للطلاب المحرومين من تقديم امتحانات الشهادتين بأنها حالة من التوتر الحاد، والإحباط، والقلق الوجودي. هؤلاء الطلاب يمرّون بما يُعرف في علم النفس بالـ”صدمة التعليمية”، حيث يُجبر الطالب على مواجهة واقع يتناقض مع جهوده الطويلة وتطلعاته المستقبلية، ما يولد شعوراً بالعجز وفقدان السيطرة. في كثير من الحالات، نلاحظ أعراضاً نفسية مثل اضطرابات النوم، انخفاض في الدافعية، ومؤشرات على بداية اكتئاب أو قلق مزمن”، ووفقاً لها، فإن التأثيرات ستكون “بعيدة المدى وقد تكون عميقة، فالشعور باللاجدوى يمكن أن يؤدي إلى عزوف بعض الطلاب عن متابعة تحصيلهم العلمي. وحرمانهم من فرصة الاعتراف الرسمي بجهودهم التعليمية قد يؤدي إلى اهتزاز ثقتهم بالمنظومات التعليمية والسياسية، فيُضعف الانتماء المجتمعي ويزيد من احتمالية الانخراط في سلوكيات سلبية أو البحث عن بدائل غير رسمية للتعليم، بعضها قد يكون محفوفاً بالمخاطر، كانخراط الطلاب في سلوكيات عنيفة أو مؤذية وتسبّب أضراراً على المدى البعيد”. وتلفت لافا إلى خطورة الوضع على الإناث أكثر من الذكور، وتؤكّد وجود “تفاوتات ملحوظة في الاستجابة النفسية حسب الجنس والخلفية الاجتماعية. الإناث غالباً ما يُظهرن أعراضاً داخلية مثل القلق والاكتئاب بشكل أكبر، نظراً إلى الضغوط الاجتماعية المضاعفة، بما في ذلك نظرة المجتمع إلى “فشل” الفتاة في الدراسة. أما الذكور، فقد يعبرون عن الضغط النفسي بشكل خارجي، من خلال الغضب أو اللامبالاة أو الانسحاب من الأُطر التعليمية”.

جوانب مخفية

وأرجعت عدّة مصادر متقاطعة أسباب رفض الإدارة الذاتية إجراء الامتحانات لطلاب الشهادتين إلى أن “الإدارة الذاتية تطالب بالاعتراف بجميع الشهادات الصادرة عن مدارسها وجامعاتها، وبما يلزم ذلك من إتمام الدراسات العليا والتوظيف والعمل على تلك الشهادات، واعتبارها شهادات سورية أصيلة، بالإضافة للاعتراف بالمناهج التعليمية والدخول في حوارات للدمج والعمل المشترك، وثالث الأسباب أن أبناء قيادات كامل المنظومة الأمنية والعسكرية والسياسية والإدارية منقسمون بين تربية وجامعات الإدارة الذاتية ومثيلاتها لدى النظام السوري سابقاً وحالياً، وهو ما أحدث فجوات تعليمية ووظيفية ومستقبلية بين الطرفين ضمن الفريق الواحد، أحدهم فقد المستقبل مع مناهج الإدارة والآخر حصل على ما يُريد عبر مناهج وشهادات النظام السوري. وهو ما دفع لخيار إما تتساوى فرصهم في التعليم أو يتساوون في الوضع القانوني والتربوي”.

وإذاً..

في ظل تزايد عدد الطلاب المحرومين من التقدّّم للامتحانات، وغياب أي بوادر للتنسيق بين الإدارة الذاتية والنظام السوري، يبقى جيلٌ كاملٌ معلقاً بين الهويّة والاعتراف. ومع كل عام دراسي جديد، تتعمّق الفجوة وتزداد المخاوف من أن يتحول الانقسام التعليمي إلى قطيعة دائمة بين مكونات المجتمع في الحسكة. فهل من أفق لحل يحفظ حق الطالب في التعليم، بعيداً عن التجاذبات السياسية؟

العربي الجديد

———————————–

 غياب التفاهم بين قسد والحكومة يجبر آلاف الطلاب على السفر لتقديم الامتحانات/ حسن القصاب

20

أعلنت وزارة التربية والتعليم في الحكومة الانتقاليّة السورية مواعيد بدء امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية للعام الدراسي الحالي 2025، بعد أن تم تأجيلها بسبب فترات الانقطاع والتشتت التي أعقبت سقوط النظام البائد.

وتبدأ امتحانات الشهادة الإعدادية في الرابع عشر من حزيران الحالي وتنتهي في الثاني من تموز، في حين تبدأ امتحانات الشهادة الثانوية (البكالوريا) بفرعيها العلميّ والأدبيّ في الخامس من تموز وتنتهي في السابع والعشرين من الشهر ذاته.

وكما هو معمول به سيتقدم الطلاب في كل محافظة وفقا للمراكز الامتحانية الموجودة في مدنهم وبلداتهم وقراهم من دون حاجتهم لقطع مسافات شاسعة وتحمل مشقات السفر.

إلا أن منطقة الجزيرة السورية الواقعة تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ستعيش واقعا امتحانياً مختلفاً عن باقي سوريا، فبعد أن كان من المخطط افتتاح مراكز امتحانية ضمن هذه المنطقة الجغرافية وفق ما نشرت المعرفات الرسمية للإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، إلا إن هذا لم يكتب له النجاح لاستحالة وصول الطرفين (قسد والحكومة السورية) لتوافق بهذا الخصوص. مما أدخل الطلاب وأهاليهم في دوامة جديدة، تضطرهم إلى سفر أبنائهم خارج مناطق سيطرة قسد حتى يتسنى لهم تقديم الامتحانات وتحملهم أيضاً ما يترتب على ذلك من عناء ونفقات.

وكنتيجة لما سبق سيتم افتتاح المراكز الامتحانية الخاصة بأبناء محافظة الرقة في بلدة معدان (70 كم شرقي مدينة الرقة) ومجموعة من القرى المجاورة لها (السويدة – الجابر – الخميسية – العجم – مغلة صغيرة – مغلة كبيرة – العطشانة – الدعمة – الحمدانية – البوحمد) التي تُدار سياسياً وعسكريّاً من قبل الحكومة الانتقاليّة السورية.

عدد المتقدمين زاد الضعف عن العام الماضي

وفي حديث خاص لموقع تلفزيون سوريا أفاد مدير تربية الرقة الأستاذ محمد العجاوي أن عدد الطلبة المتقدمين لامتحان الشهادة الثانوية (البكالوريا) بفرعيها العلمي و الأدبي قد بلغ 14240 (ذكور + إناث) ، في حين سيتقدم 11398 طالب وطالبة لامتحان الشهادة الإعدادية (التاسع).

وأضاف العجاوي أن عدد المتقدمين لامتحان البكالوريا قد زاد بمعدل الضعف عن العام السابق (2024) إذ بلغ عدد المتقدمين آنذاك قرابة 7 آلاف، و ذلك بسبب إلغاء امتحان السبر الذي كان بمنزلة شرط القبول للتقدم لامتحانات الشهادتين (الإعدادية والثانوية).

كما أنه و بسبب قلة عدد المدارس وزيادة أعداد الطلبة المتقدمين،  سيتقدم طلاب الشهادة الثانوية بفرعيها (علمي – أدبي) سوياً ضمن نفس المركز الامتحاني وذلك لعدم وجود مراكز امتحانية كافية.

نقص في المقاعد

وعن توفر الإمكانات لإنجاح العملية الامتحانية؛ أشار العجاوي إلى وجود أزمة نقص بالمقاعد الدراسية تبلغ 6 آلاف مقعد مشيراً لتأمين 3000 مقعد من مديرية تربية دير الزور يتم نقلها حالياً للمراكز الامتحانيّة بالتعاون مع العديد من الفعاليّات والتجمعات المدنيّة في معدان في ظل عدم كفاية الجهود الأهليّة لإنجاز هذه المهمة، في حين تكفلت اليونسيف عن طريق إحدى المنظمات العاملة في المنطقة بتأمين 2000 مقعد. أما العدد المتبقي والمقدر بألف مقعد سيكون هناك محاولات لتأمينها عبر ورشة تصليح بإشراف مديرية تربية الرقة إلا هذه العملية تحتاج أيضاً لتوفير دعم مناسب لها لضمان تأمين المقاعد قبل بدء العملية الامتحانية المقررة بعد أسبوعين. فضلاً عن وجود احتياجات أخرى كتوفير سيارات لنقل الأسئلة من دائرة الامتحانات للمراكز الامتحانية الموزعة على 37 مدرسة، وقرطاسية ومراوح وستائر واقية من أشعة الشمس للمراكز الامتحانية.

وعن إمكانية توفير التيار الكهربائي للمراكز الامتحانية خلال فترة تقديم الطلاب، أوضح المهندس مدير كهرباء الرقة عبد المحسن الصالح، في حديث لموقع تلفزيون سوريا أنه سيتم تغيير خطة تقنين الكهرباء المتبعة حالياً في معدان وقراها بحيث يتم تزويد المراكز الامتحانية بالكهرباء اللازمة لضمان سير العمليّة التعليميّة بأتم وجه.

مبادرات لإنجاح العملية الامتحانية

من جانبه، المدير التنفيذي لجمعية نبراس الأستاذ موسى الكدرو أشار في تصريح صحفي لموقع تلفزيون سوريا أن الجمعية بادرت لتقديم بعض الخدمات التي شملت مياه شرب نظيفة للمراكز الامتحانية ونقل العديد من المقاعد مؤكداً على ضرورة تضافر الجهود الأهليّة والحكومية لإنجاح العملية التعليمية مضيفاً أن الوضع الامتحاني خلال هذا العام هو وضع استثنائي جداً لاسيما وأن الدعم المقدم للعملية الامتحانية يعتبر قليلا إذا ما قورن بالأعوام الماضية.

إلا أن التحدي الأكبر من وجهة نظر الأهالي والمعلمين يكمن في تكاليف نقل الطلاب والطالبات من أماكن سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) إلى المراكز الامتحانية الواقعة في أماكن سيطرة الحكومة الانتقالية، الذين تقدر نسبتهم بـ 90% من عموم الطلاب المتقدمين، لاسيما وأن بعضهم سيتوجب عليه قطع مسافة تتجاوز 100 كم للوصول إلى المركز الامتحاني في ظروف الحرارة العالية، عدا عن الكلفة المالية التي تصل حتى 150 ألف ليرة سورية في اليوم الواحد والذي يعتبر مبلغاً باهظاً يثقل كاهل الأهالي في ظل غياب أي توضيح أو دور لوزارة التربية والتعليم في هذه القضية، إضافة إلى مخاوف من حصول حوادث سير بسبب التزاحم أو حدوث حالات إغماء للطلاب بسبب الحر الشديد أو وقوع اشتباكات عسكرية بين الطرفين تؤدي لقطع الطريق وحرمان الطلاب من التقدم للامتحانات.

أحد أولياء الأمور والذي رفض ذكر اسمه لدواعٍ أمنية قال في حديث خاص لموقع تلفزيون سوريا: “كنا نتأمل أن تطوى هذه الصفحة من المشقة إلى غير عودة، إلا أن الأطراف السياسية لم تنجح في تحييد العملية الامتحانية عن الصراع، وهذا ما سيدفع ثمنه أبناؤنا” مضيفاً أن غياب وجود مراكز استضافة للطلاب هذا العام سيزيد من معاناة الطلاب وأهاليهم.

وكانت المراكز الامتحانية سابقاً تؤمن المبيت والإطعام وبعض الخدمات التعليمية للطلاب بالإضافة لبدل مالي للطلاب خلال فترة الامتحانات.

————————–

واشنطن خارج التعقيدات السورية/ مازن بلال

26/05/2025

ما طرحه السفير الأمريكي في تركيا، توم باراك، عن سوريا يشكل الحلقة المفرغة الجديدة في سياسة واشنطن تجاه المنطقة، فبعد تعيينه مبعوثاً أمريكياً إلى سوريا ولقائه رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع في تركيا؛ ظهرت تصريحاته لتكشف أن المقاربات التي قدمها تحمل “أحلاماً” لا تصورات سياسية، وعلى الرغم من أن تقسيم المنطقة يشكل وتراً حساساً للسوريين من “سايكس-بيكو”، لكن السفير الأمريكي شطب الحقبة السياسية ونتائج الحروب وحتى نفوذ تركيا الحالي في المنطقة.

التصريحات التي ساقها تلامس اليوم السياسات التركية، فمسألة “سايكس-بيكو” هي ترميز لمرحلة الضعف التركي، ولانحسار الدور العثماني في المشرق، والعودة إليها اليوم يعبر تعبيراً واضحاً عن توجه لإعادة ذلك الدور وبآليات جديدة، فتعقيدات المنطقة لم تبدأ بالصراع الفرنسي-البريطاني على المنطقة إنما بتحول الميزان الدولي منذ الثورة الصناعية الذي جعل الدولة العثمانية تتحول تحولاً بطيئاً نحو الانكفاء.

عملياً فإن الانفتاح الأمريكي على دمشق تم بوساطة الرياض، لكنه يتأسس في أنقرة بوصفها دولة محورية في النظام الإقليمي، والمسألة السورية بكامل أوراقها أصبحت وبإرادة أمريكية ضمن مهام الخارجية التركية، وهذا الأمر كان واضحاً في زيارة الرئيس الشرع تركيا ولقائه “باراك” بدلاً من أن يبدأ المبعوث الأمريكي مهمته بزيارة دمشق، فنحن أمام عاملين أساسيين:

الأول أن تركيا لا تملك فقط “سماحاً” أمريكياً بالتحرك في سوريا؛ بل أصبحت “البوابة الإقليمية” للمسألة السورية، وهو أمر كان متوقعاً ولكنه اليوم يُؤسس من جديد بجهد دبلوماسي ترعاه واشنطن.

من الصعب فهم الدور التركي الحالي من دون مسألة “التهدئة” السورية-“الإسرائيلية”، فمهام أنقرة لا تتعلق بترتيب البيت السوري بالداخل؛ بل بالمساعدة في بناء “دولة محايدة” أيضاً، وبصرف النظر عن نجاحها أو فشلها في هذا الموضوع، لكن العلاقات الأمنية والعسكرية كافة تؤشر على أن أنقرة تعمل لإيجاد “منظومة” تعاون ثلاثية مع سوريا و”إسرائيل” لاستيعاب ثمانية عقود من الصراع.

العامل الثاني يرتبط بالسوريين الأكراد، فالمشروع السياسي السوري المطروح المرتبط بالفيدرالية لم يفقد موقعه، لكنه أصبح في مساحة دور أنقرة المركزي لا دمشق، وأي حلول لشمال سوريا الشرقي باتت مرتبطة بعلاقة تركيا مع التشكيلات الكردية التركية.

سيختلف وضع السوريين الأكراد عن الحالة السياسية في إقليم كردستان العراق، فمن الصعب إيجاد معادلة سياسية شبيهة لما حدث في العراق في ظل الدور التركي الحالي، أو حتى في مساحة العمل الكردي في سوريا نتيجة حساسية أنقرة تجاه التشكيلات الموجودة في الجزيرة السورية، وهي أوجدت حزاماً أمنياً ضيقاً عند حدودها مع سوريا؛ يشكل مشروعاً للحد من أي حالة لا تتوافق مع دورها الإقليمي.

المبعوث الأمريكي إلى سوريا وفي منصة “إكس” كشف بطريقة غير مباشرة عن اهتمام أمريكي هامشي لأبعد الحدود بالشأن السوري، فتركيا، لا العرب الذين سعوا إلى رفع العقوبات عن سوريا، هي من ستتولى ترتيب الأمن الإقليمي من البوابة السورية، وهي أيضاً ستتحرك بنفوذها لتحريك مسارات السلام والتطبيع مع “إسرائيل”.

——————————–

واشنطن تبدأ تقليص وجودها العسكري في سورية

03 يونيو 2025

قال المبعوث الأميركي إلى سورية، توم باراك، إن الولايات المتحدة بدأت تقليص وجودها العسكري في سورية، وتهدف إلى إغلاق كل قواعدها في هذا البلد باستثناء واحدة. وأوضح المبعوث في مقابلة مع محطة “إن تي في” التلفزيونية التركية، مساء الاثنين، أن “هناك تقليصاً في حضورنا العسكري في عملية العزم الصلب”، مضيفاً “انتقلنا من ثماني قواعد إلى خمس فثلاث. وسنبقي على الأرجح على قاعدة واحدة”. لكن المبعوث الأميركي اعترف أن سورية لا تزال تواجه تحديات أمنية كبيرة تحت قيادة الرئيس أحمد الشرع.

وفي إبريل/ نيسان، أعلن البنتاغون عزمه خفض عدد الجنود الأميركيين المنتشرين في سورية إلى أقل من ألف جندي تقريباً في الأشهر المقبلة.

ودخلت القوات الأميركية إلى سورية في عام 2015 بموجب تفويضات استخدام القوة العسكرية لعامَي 2001 و2002، التي أُصدرت حينها لمحاربة تنظيم القاعدة في أفغانستان، وغزو العراق لإطاحةِ نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وقد رأى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أنه بإمكانه استخدام تلك التفويضات لمحاربة “داعش” أيضاً، مع توسّع نشاط التنظيم وسيطرته في عام 2014 على مناطق واسعة في العراق وسورية، وتبنيه هجمات عسكرية في أوروبا عام 2015، إذ شنّت الولايات المتحدة وحلفاؤها آلاف الضربات الجوية على مواقع للتنظيم في سورية، ودعمت عمليات قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ضده.

وفي عام 2018، قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال ولايته الأولى سحب القوات الأميركية من سورية، وقد أمر بالفعل بسحب الجزء الأكبر من الوجود العسكري الأميركي بسورية مبقياً على نحو 400 جندي فحسب، لكنْ بناءً على نصائح حلفاء في المنطقة، وقادة ميدانيين ووزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون)، زاد العدد لاحقاً، حتّى وصل في صيف عام 2024، وفق بيانات معهد بحوث الكونغرس، إلى نحو 900 جندي، بتمويل مقداره 156 مليون دولار، قبل أن يكشف البنتاغون عن أن الوجود العسكري الأميركي بسورية بلغ ألفَي جندي أميركي بالفعل نهاية العام الماضي، نتيجة التوترات التي سادت المنطقة بعد عملية طوفان الأقصى في غزة.

(فرانس برس، العربي الجديد)

——————————

سورية: تبادل أسرى بين دمشق و”قسد” في حلب على هامش تفاهمات جديدة

محمد كركص

02 يونيو 2025

جرت عملية تبادل أسرى، اليوم الاثنين، بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في حي العوارض بمدينة حلب شمالي سورية، وذلك ضمن تفاهمات مبرمة بين الطرفين. وأكدت مصادر مطّلعة لـ”العربي الجديد”، أن عدد الأسرى الذين سلّمتهم حكومة دمشق لـ”قسد” بلغ 160 أسيراً، في حين سلّمت الأخيرة للحكومة السورية 280 أسيراً. ولفتت المصادر إلى أن هذه العملية كانت مؤجّلة سابقاً، لكنها أُنجزت اليوم على هامش التفاهمات التي خرج بها اجتماع دمشق يوم أمس، والذي جمع وفدي النظام السوري والإدارة الذاتية.

ويقدَّر عدد الموقوفين بين الطرفين بنحو 466 شخصاً، غالبيتهم من عناصر “قسد” وكوادر الإدارة الذاتية، إلى جانب 176 عنصراً من فصائل تابعة لوزارة الدفاع في حكومة دمشق ومدنيين. وكانت أول عملية تبادل بين الطرفين قد جرت في الثالث من إبريل/نيسان الماضي، حين أفرجت “قسد” عن 97 شخصاً، بينهم مدنيون ويافعون، بينما أطلقت حكومة دمشق سراح 164 شخصاً من عناصر “قسد” وكوادر الإدارة الذاتية.

وتأتي هذه التطورات في ظل تفاهم جديد توصّل إليه الطرفان مطلع إبريل/نيسان الماضي، يتعلق بحيّي الشيخ مقصود والأشرفية ذات الغالبية الكردية في مدينة حلب، وينصّ على تعزيز السلم الأهلي والتعايش، وتنظيم الوضع الأمني والإداري في الحيَّين.

ويشمل الاتفاق أيضاً بنوداً تتعلق بإعادة دمج الحيَّين إدارياً بمدينة حلب، وضمان حماية السكان عبر قوات الأمن الداخلي، التابعة لوزارة الداخلية، مع انسحاب قوات “قسد” إلى شرق الفرات، وإنشاء مراكز أمنية، وضمان حرية التنقّل، وعدم ملاحقة الأشخاص المطلوبين سابقاً، ما لم يكونوا متورّطين في جرائم قتل. كما ينص الاتفاق على تبادل جميع الأسرى، وتبييض السجون من الجانبين في محافظة حلب، ضمن خطوات تهدف لإنهاء الملفات العالقة بين الطرفين.

—————————–

مؤشرات على لقاءات مباشرة بين تركيا و«قسد» برعاية أميركية/ سعيد عبد الرازق

بعد تصريحات عبدي… وتحركات حزب كردي في إطار مبادرة أوجلان

3 يونيو 2025 م

تجمَّعت مؤشرات على احتمال عقد لقاءات مباشرة بين مسؤولين أتراك وممثلين لـ«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)». وقالت الرئيسة المشارِكة لحزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب»، الممثل للأكراد في البرلمان التركي، تولاي حاتم أوغوللاري: «نعتقد أن زيارات مسؤولين من تركيا لشمال وشرق سوريا، وزيارات مسؤولي الإدارات القادمة من هناك إلى أنقرة، ستُسهم بشكل كبير في تقدم عملية السلام الداخلي في تركيا بخطوات أكثر فاعلية».

وأضافت أوغوللاري، التي شاركت في مؤتمر للأحزاب والجماعات الكردية في القامشلي، في 26 أبريل (نيسان) الماضي: «هذا (التبادل للزيارات) ليس فقط من أجل سلام الأتراك والأكراد أو السلام الداخلي في تركيا؛ فبالخطوات التي ستتخذها، ستُقدِّم تركيا مساهمةً كبيرةً في سلام المنطقة».

وتابعت أوغوللاري، التي كانت تتحدث أمام اجتماع المجموعة البرلمانية لحزبها في البرلمان التركي، الثلاثاء، حول العملية اللاحقة على قرار حزب «العمال الكردستاني» حل نفسه استجابةً لنداء زعيمه السجين عبد الله أوجلان: «نكرِّر دعوتنا مرة أخرى، فلنبنِ السلام معاً، فلنبنِ السلام الداخلي ونعززه معاً، وفي الوقت نفسه نرسي السلام الإقليمي معاً، ونبني تركيا ديمقراطية معاً».

ولعب حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» الدور الأساسي في الاتصالات بين أوجلان والحكومة والأحزاب التركية، وكذلك الأحزاب الكردية في شمال العراق وفي سوريا؛ لتنفيذ نداء أوجلان بحل حزب «العمال الكردستاني»، والجماعات المرتبطة به وإلقاء أسلحتها.

محادثات مباشرة

في الوقت ذاته، كشفت تسريبات صحافية، الثلاثاء، عن محادثات مباشرة بين تركيا و«قسد»، التي تقودها «وحدات حماية الشعب الكردية»، بتسهيل من الولايات المتحدة، تضمَّنت مناقشة الانسحاب الأميركي من سوريا، وملف تسليم السجون والمعسكرات التي تضم مقاتلي «داعش» وعائلاتهم إلى الحكومة السورية، وكيفية دمج «قسد» في الجيش السوري الجديد.

وبحسب التسريبات، فإن المباحثات شارك فيها مسؤولون من المستوى المتوسط من تركيا و«قسد».

وفي مقابلة تلفزيونية، الجمعة، كشف قائد «قسد»، مظلوم عبدي، عن وجود اتصال مباشر بين «قسد» وتركيا، قائلاً إنه لا يعارض لقاء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

وذكر أن عملية دمج قوات «قسد» في المؤسسة العسكرية السورية، تنفيذاً للاتفاق مع حكومة دمشق، قد تستغرق سنوات، وأن «الاتفاق يجب أن يكون في إطار سياسي شامل يقرُّ باللامركزية السياسية وحقوق مكونات شمال وشرق سوريا».

ونقل موقع «المونيتور» الأميركي، السبت، عن مصادر لم يحددها بالاسم، أن المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى سوريا وسفيرها في أنقرة، توم برّاك، أجرى اتصالاً هاتفياً مع عبدي، خلال وجوده في دمشق، الخميس، حيث قام برفع العلم الأميركي على مقر إقامة سفير الولايات المتحدة المغلق منذ أكثر من 13 عاماً، وأكد له أن الولايات المتحدة ستواصل دعمه في الحرب ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، وشجعه على مواصلة محادثات خفض التصعيد بين «قسد» وتركيا، التي تتوسط فيها أميركا، كما أكد ضرورة تنفيذ اتفاق الدمج المُوقَّع مع دمشق.

لكن مصادر بوزارة الخارجية التركية نفت وجود أي خطط أو استعداد لعقد لقاءات بين مسؤوليها وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، الذي تحدَّث عن وجود قنوات للاتصال المباشر مع أنقرة، لافتة إلى أن ما جاء من «مزاعم» في تقرير لموقع «المونيتور» الإخباري الأميركي، حول هذا الموضوع «غير صحيح». وكان الموقع قد ذكر أن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أو رئيس المخابرات إبراهيم كالين، سيلتقي عبدي.

وكان الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، قد اتهم «قسد» في تصريحات، الخميس، باستخدام «تكتيكات للمماطلة» رغم الاتفاق مع الحكومة السورية الجديدة على اندماجها في الجيش السوري.

وجدَّد إردوغان موقف تركيا الداعي إلى الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها، مشدِّداً على ضرورة تنفيذ الاتفاق بين «قسد»، ودمشق في الإطار الزمني المتفق عليه والمخطط له.

رعاية أميركية

يذكر أنه عُقدت لقاءات بين مسؤولين أتراك وممثلين لـ«قسد» برعاية أميركية، مارس (آذار) الماضي، أسفرت عن وقف لإطلاق النار في محاور «سد تشرين» في شرق حلب.

وتعدّ تركيا «قسد» التي تقودها «وحدات حماية الشعب الكردية»، المدعومة أميركياً، أنها «تنظيم إرهابي» يُشكِّل امتداداً لحزب «العمال الكردستاني» في سوريا، وتطالب بوقف الدعم الأميركي لها، وحلها، واندماجها في الجيش السوري، وخروج عناصرها الأجانب من سوريا.

ورغم مرور نحو 3 أشهر على الاتفاق المُوقَّع بين الرئيس السوري، أحمد الشرع، وعبدي، في دمشق خلال مارس الماضي، بشأن حل «قسد» نفسها، والاندماج في الجيش السوري، وتسليم المناطق التي تسيطر عليها في شمال شرقي سوريا، فإنه لا يبدو أن «قسد» تتخذ خطوات لتنفيذ الاتفاق، ولا تزال تتحدث عن الحكم الذاتي في شمال شرقي سوريا.

وتضغط تركيا من أجل تنفيذ الاتفاق بين «قسد» ودمشق، وحل «وحدات حماية الشعب الكردية»، ووقف الدعم الأميركي لها في إطار التحالف ضد تنظيم «داعش»، عبر دعم حكومة دمشق في مهمة مكافحة التنظيم وحراسة السجون والمعسكرات التي تؤوي عناصره وعائلاتهم، وتشكيل تحالف إقليمي يتولى هذه المهمة بعد انسحاب القوات الأميركية، وحل قوات «قسد».

وفي هذا الإطار، كشفت مصادر بوزارة الدفاع التركية، الخميس، عن إنشاء مركز عمليات مشترك بين تركيا وسوريا والأردن، في دمشق؛ لبدء العمل الإقليمي ضد «داعش».

———————————

مبعوث ترمب إلى سوريا: سياسة واشنطن تجاه دمشق ستتغير بعد فشل النهج القديم/ إيلي يوسف

البنتاغون: سنبقى جاهزين لمواصلة ملاحقة فلول «داعش»

3 يونيو 2025 م

قال المبعوث الأميركي الجديد إلى سوريا إن الولايات المتحدة ستقلص وجودها العسكري في سوريا إلى قاعدة واحدة بدلاً من ثمانٍ، وإن سياسة واشنطن تجاه دمشق ستتغير؛ «لأن ما انتهجته لم ينجح» على مدى القرن الماضي.

وينشر الجيش الأميركي نحو ألفي جندي في سوريا، معظمهم في الشمال الشرقي. وأدلى توماس براك، الذي عينه الرئيس دونالد ترمب مبعوثاً خاصاً، الشهر الماضي، بعد فترة وجيزة من رفع العقوبات الأميركية على سوريا بشكل غير متوقع، بهذه التصريحات في مقابلة مع قناة «إن تي في» التركية، مساء الاثنين.

في ردها على أسئلة «الشرق الأوسط» حول انسحاب القوات الأميركية من سوريا، الذي أعلن عنه على لسان توماس برّاك، أحالت المتحدثة باسم البنتاغون، باتريسيا كروزبيرغر، الأسئلة المتعلقة بهذه المسألة إلى إعلان توحيد القوات في أبريل (نيسان) الماضي، الذي جاء في بيان المتحدث باسم البنتاغون، شون بارنيل، أن «الولايات المتحدة ستدمج قواتها في سوريا ضمن قوة المهام المشتركة، عملية (العزم الصلب)، في مواقع مختارة في البلاد، مما يُقلص الوجود الأميركي في سوريا إلى أقل من 1000 جندي».

وقال بارنيل آنذاك: «مع حدوث هذا التوحيد، وتماشياً مع التزام الرئيس ترمب بالسلام من خلال القوة، ستظل القيادة المركزية الأميركية مستعدة لمواصلة الضربات ضد فلول (داعش) في سوريا».

ومع ذلك لم يشر البنتاغون إلى مستقبل القواعد العسكرية التي ستتسلمها قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وما إذا كانت ستبقى تحت سيطرة تلك القوات أم أنها ستسلمها لاحقاً إلى الجيش السوري، في ظل العملية السياسية الجارية بين الأكراد والحكومة السورية، وعن موقف تركيا ومستقبل علاقتها مع الإدارة الذاتية القائمة في شمال شرقي سوريا.

وانسحب المئات من القوات الأميركية من سوريا، وفقاً لمسؤولين أميركيين أوضحوا أن ما يقدر بنحو 500 جندي قد تم سحبهم في الأسابيع الأخيرة، وتم إغلاق العديد من القواعد الأميركية أو تسليمها إلى قوات سوريا الديمقراطية.

وأفادت محطة «فوكس نيوز»، الاثنين، بإغلاق قاعدة «القرية الخضراء»، بينما جرى تسليم قاعدة «الفرات» إلى قوات سوريا الديمقراطية، في حين جرى إغلاق قاعدة ثالثة. كما تم نشر عدد من القوات في أماكن أخرى، وأن القواعد تم إغلاقها أو تسليمها خلال الشهر الماضي.

وكان السفير الأميركي في تركيا، توماس برّاك، مبعوث الرئيس ترمب إلى سوريا، قد أعلن عن العديد من المواقف، خلال الساعات الماضية، من بينها السحب التدريجي للقوات الأميركية من كل القواعد في سوريا، وموافقة واشنطن على ضم المقاتلين الأجانب إلى صفوف الجيش السوري.

تقليص لأسباب عسكرية

وقال برّاك، في مقابلة مع قناة «إن تي في» التركية، في وقت متأخر من يوم الاثنين: «إن تقليص مشاركتنا في عملية (العزم الصلب) يحدث على أساس عسكري»، وأضاف: «لقد انتقلنا من ثماني قواعد إلى خمس قواعد ثم إلى ثلاث قواعد. وسننتقل في النهاية إلى قاعدة واحدة». لكنه اعترف بأن سوريا لا تزال تواجه تحديات أمنية كبيرة تحت قيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع.

وتحتفظ واشنطن بقوات في سوريا منذ سنوات، بوصفها جزءاً من الجهود الدولية لمحاربة تنظيم «داعش» الذي استولى على مساحات شاسعة من الأراضي في سوريا والعراق المجاور قبل أكثر من عقد؛ لكنه مُني بهزائم في البلدَيْن لاحقاً.

وحافظت الولايات المتحدة على شراكة مع قوات سوريا الديمقراطية، لعدة سنوات، معتبرةً إياها حاسمة في الحرب ضد «داعش». وعلى الرغم من تحفظات إدارة ترمب بشأن التعامل مع الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، فقد رفعت العقوبات المفروضة على سوريا، ممهدة الطريق أمام الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية لدخول السوق السورية والمساعدة في بدء مسار التعافي.

وقدمت واشنطن للحكومة السورية قائمة شروط في وقت سابق من هذا العام، تشمل طرد المقاتلين الأجانب من البلاد، بالإضافة إلى إبعادهم من المواقع العسكرية أو الحكومية الرسمية، ومنع إيران ووكلائها من إعادة ترسيخ موطئ قدم لهم، وغيرها. غير أن واشنطن أعلنت، الاثنين، بشكل مفاجئ عن موافقتها على خطة وضعتها دمشق لدمج المقاتلين الأجانب في الجيش، في تغيير كلي لموقفها السابق.

هذا وأفادت قناة «تلفزيون سوريا»، اليوم الثلاثاء، بأن الرئيس أحمد الشرع سيزور الولايات المتحدة في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل. ونقلت القناة عن مصادر لم تسمِّها القول إن زيارة الشرع المرتقبة للولايات المتحدة في سبتمبر تتضمن إلقاء كلمة في الأمم المتحدة، مشيرةً إلى أنها ستكون الأولى لرئيس سوري منذ 60 عاماً.

———————————

حكومة الشرع هدف “داعش” الجديد في سوريا/ صبحي فرنجية

“المجلة” تنشر شهادات ومقابلات لعناصر خرجوا من سجون “قسد”

آخر تحديث 03 يونيو 2025

مضى أكثر من ست سنوات على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب هزيمة تنظيم “داعش” بنسبة 100 في المئة” على حد قوله يوم 22 مارس/آذار 2019، إلا أن قوات التحالف الدولي ما زالت موجودة في سوريا حتى يومنا هذا، تحارب خلايا التنظيم، إضافة إلى جهود إقليمية وسورية كبيرة في الوقت الراهن لمواجهة خطر التنظيم الذي اعتقد العالم أنه انتهى في مارس 2019.

خلايا تنظيم “داعش” خلال السنوات التي تلت الإعلان الأميركي أعادت بناء نفسها، وإمكانياتها، وطورت وسائل تواصل بينها وبين قادة وعناصر التنظيم الموجودين في سجون “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، السجون التي تحتوي على قنبلة موقوتة، قد تصل نيرانها أبعد من الجغرافيا السورية.

اطلعت “المجلة” على 18 محضرا لمقابلات مع عناصر من “داعش” أمضوا سنوات طوال في سجون “قسد”. وقد أجريت هذه المقابلات لأغراض بحثية، حيث تكشف هذه المقابلات الكثير من التفاصيل حول ظروف السجون وكيف أثرت على عقلية التنظيم من خلال تقوية رغبته في الاستمرار، كما كشفت المقابلات عن استفادة قادة وعناصر “داعش” في السجون من الوقت لإجراء محاكمات فكرية لظروف نشأة التنظيم وأفوله، إضافة إلى قيامهم باستغلال فساد حراس وقضاة تابعين لـ”قسد” في السجون، ليتمكنوا من استعادة تواصلهم مع العالم الخارجي وخلايا التنظيم وقادته في البادية السورية ومناطق “قسد”، هذا التواصل كان له دور كبير في تنسيق الهجوم الشرس الذي شنّه التنظيم على سجن الصناعة في الحسكة عام 2022 الذي يحتوي على آلاف المقاتلين والقادة الذين حاربوا بين صفوف “داعش”.

وتكشف المقابلات والمعلومات التي حصلت “المجلة” على نصوصها عن إجماع شبه كامل لدى خلايا تنظيم “داعش” على أن الدولة السورية الجديدة هي هدف التنظيم القادم وأن “قتالها واجب”، وسط نقاشات معمّقة تمت بين عناصر وقادة التنظيم في سجون “قسد” من جهة، وبينهم وبين الخلايا خارج السجون من جهة أخرى، وذلك من أجل وضع خطط إضعاف الدولة السورية الجديدة، وتشتيت قدراتها، وشيطنتها لخلق فرص تجنيد عناصر جدد، خصوصا أولئك الغاضبين من توجهات الدولة السورية نحو الانفتاح مع الدول العربية والغربية، فضلا عن وضع خطط لمحاولة اختراق صفوف الحكومة السورية.

غرف مكتظة وظروف قاسية تزيد التطرف

كثرت السجون في منطقة شرق الفرات السورية منذ بدء المعركة الشرسة التي شنها التحالف الدولي بالتعاون مع “قسد” ضد “داعش” في سوريا عام 2016، وذلك عندما قال المتحدث باسم التحالف الدولي ستيف وارين في شهر أبريل/نيسان من العام نفسه خلال تصريحات صحافية إن المرحلة الثانية من الحملة الدولية ضد تنظيم “داعش” قد بدأت بالفعل. وأضاف: “المرحلة الثانية من الحرب على (داعش)، ستمكّن شركاءنا من تفكيك العدو، وتشتيت قواته وعزل مراكز جذبه وتحرير الأراضي التي يسيطر عليها”.

بعض السجون اكتظت بالمساجين فتم افتتاح سجون أخرى لتخفيف الضغط، وبحسب إحصائيات غير رسمية فإن “قسد” اليوم تُدير نحو 26 سجنا فيها 12 ألف سجين، الآلاف منهم تم اعتقالهم أثناء المعارك ضد تنظيم “داعش” وهم من جنسيات سورية، وعربية، وأجنبية.

وبحسب العناصر الذين تمت مقابلتهم، فإن الأوضاع كارثية في السجون كسجن الصناعة وسط الحكسة وسجن الرقة وسجن الكم الصيني في مدينة الشدادي، وأعداد السجناء في الغرفة الواحدة أكبر من سعتها، إضافة إلى نقص في إمكانيات النظافة والطعام، وحالات تعذيب في السجون جعلت الحديث الأبرز بين السجناء عن كيفية الانتقام من السلطات التي تُدير السجون فور خروجهم من السجن. كما أتاحت حالة الاكتظاظ هذه الفرصة أمام السجناء لإعادة ترتيب أفكارهم الخاصة بمستقبل التنظيم، خصوصا في ظل غياب أي برنامج داخل السجون لمحاربة الفكر المتشدد لهؤلاء العناصر، وإعادة تأهيلهم تمهيدا لخروجهم إلى العالم من جديد.

سالم (اسم مستعار)، 35 عاما، تم اعتقاله في عام 2018، يقول إن مرحلة التحقيق معه كانت في حقل التنك النفطي، ثم تم نقله إلى سجن الصور، لينتهي به المطاف في سجن الصناعة عام 2019، وبحسب سالم فإن “المهجع” الذي كان فيه مع نحو 140 سجينا لا يتسع لأكثر من 50 شخصا. ويتابع: “أثناء التحقيق كانوا يمارسون علينا كل أشكال التعذيب الجسدي والنفسي، والصعق الكهربائي، والسجن الانفرادي عبارة عن قبر داخل قبر”. سالم فقد من وزنه الكثير، فقد دخل السجن بوزن 105 كيلوغرامات، ليصل بعد سنوات إلى نحو 60 كيلوغراما، على حد تعبيره.

لؤي (اسم مستعار)، 28 عاما، تم اعتقاله عام 2018، هو الآخر انتهى به المطاف في سجن الصناعة لاحقا، يصف السلطات المحلية في شرق الفرات بأنها “ملحدة”، وعدّ الوضع في السجن بأنه كارثي، وأن كثيرا من السجناء الذين تم إيداعهم في الغرف المنفردة كادوا يصابون بالجنون، حتى إن بعضهم كان يواجه صعوبة في النوم لأيام طويلة. كما يقول رافع (اسم مستعار)، 41 عاما، والذي تم وضعه في السجن نفسه، إن التحقيق كان يجري باللغة الكردية بوجود مترجم، وإن “أي كلمة تخرج من السجين عن سياق التحقيق كانت نتيجتها الضرب المبرح بالعصا الغليظة”.

أما أحمد (اسم مستعار)، 38 عاما، فاعتقل عام 2020، ليُصار إلى وضعه في سجن الكم الصيني، فيقول بلغة وصفية إن “لحظة دخولك السجن هذا تقطع علاقتك تماما مع العالم النظيف والظروف الإنسانية، النظافة كلمة غريبة جدا هناك، يمكن أن تُمضي شهورا طويلة قبل أن تصل إلى صنبور المياه للاستحمام، والتهوية هناك كلمة غائبة عن قاموس السجن، فالهواء يحمل معه روائح أجساد الناس المتسخة ممزوجة بروائح القذارة الموجودة في السجن”.

في سجن الرقة، لم يكن الوضع أفضل من سجني الصناعة والكم الصيني، فبحسب أبو محمد (اسم مستعار)، 27 عاما، فإن الغرفة التي كان يوجد فيها بسجن الرقة كانت تحتوي على 40 سجينا، وأن غالبيتهم كانت اتهامات اعتقالهم هي “نشر الفكر المتطرف عبر الإنترنت، التجنيد لصالح التنظيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي”. أبو محمد يقول إن أحد المساجين في الغرفة نفسها وجد ميتا في أحد الأيام، نتيجة نقص العلاج والرعاية الطبية هناك، وذلك بعد معاناة امتدت لأيام مع آلام حادة في الصدر. يضيف أبو محمد أن بعض المساجين الذين عانوا من “الجرب” كانوا “يحكّون” أجسادهم بشدة نتيجة الألم “ما سبّب نزيفا في جلود البعض، دون وجود علاج كافٍ، إضافة إلى الانتشار السريع للأمراض الجلدية بين المساجين بسبب الاكتظاظ والتصاق السجناء ببعضهم في الغرفة الواحدة”.

جميع من تمت مقابلتهم تحدّثوا عن الأوضاع السيئة للسجون، حتى إن بعضهم تحدّث عما سموه “انتهاكات للقيم الإنسانية في التعامل”، وأن “التعذيب، والعزل، والإهانة، والمعاملة السيئة كانت الحديث الأبرز بين السجناء” الذين كانوا في الوقت نفسه يخططون للانتقام- في اللحظة المناسبة- من كل شخص عرفوه ضمن السجن، و”كان طرفا في تعذيبهم وإهانتهم”، كما كان السجناء يبذلون جهدهم  لنقل معلومات عن أوضاع السجون إلى عناصر التنظيم خارج السجن عبر طرق تواصل تتم من خلال استغلال وجود قادة وعناصر مسؤولين عن حماية السجن تقاضوا المال مقابل إدخال هواتف ورسائل إلى المساجين.

تجدر الإشارة إلى أن تنظيم “داعش” استخدم عبر سنوات سيطرته على المناطق في سوريا والعراق على العنف العلني بحجة “الترهيب”، فهو الذي نفّذ إعدامات ميدانية جماعية في دير الزور والرقة، إضافة إلى قطع الرؤوس أمام الناس في الساحات العامة، ونشر فيديوهات مُعدّة بشكل احترافي يعرض فيها التنظيم طرق إعداماته من قطع الرؤوس، والذبح، وتفجير المعتقلين، والحرق، والإغراق، إضافة إلى فيديوهات تُظهر أطفالا يقومون بتنفيذ عمليات الإعدام. مشاهد كثيرة يصعب إحصاؤها، صدمت العالم، وقادت إلى تشكيل تحالف دولي وتحالفات سورية لمواجهة التنظيم من قبل جميع القوى المسلحة في سوريا.

فساد يُتيح الفرص للتنسيق والتواصل

لم يكن دخول السجن بالنسبة لكثير من عناصر “داعش” نهاية الحكاية، بل كانت مرحلة مؤقتة على حد تصوّرهم، فهم وبعد فترة وجيزة استغلّوا وجود حراس وسجانين وقادة من “قسد” توّاقين للحصول على المال، فقام عناصر التنظيم بتحويل هؤلاء إلى نقطة ارتكاز لهم لتحقيق عدة مكاسب منها حسن المعاملة في السجن والحصول على طعام جيد وأماكن جيدة والاستحمام الدوري، ومن المكاسب أيضا الوصول إلى خارج السجون عبر رشوة بعض القضاة، أو الحصول على هواتف للتواصل مع خلايا “داعش” الموجودة خارج السجن سواء في منطقة سيطرة “قسد” أو في البادية السورية جنوب دير الزور، عملية التنسيق مع هؤلاء الحراس والسجّانين كانت تتم من خلال عناصر التنظيم داخل السجن وخارجه.

وبحسب ما قاله المساجين الذين تمت مقابلتهم، يتم إدخال هواتف محمولة مزوّدة بخطوط جاهزة “عن طريق الحراس المتعاونين مع التنظيم والذين تتم رشوتهم من قبل عناصر التنظيم في الخارج”، وأحيانا تصل تكلفة تهريب الهاتف المحمول مع الخط للسجين إلى 3 آلاف دولار أميركي، يُضاف إليها دفعات دورية على سبيل شحن بطارية الجهاز أو شحن الخط كلما انتهت الباقة الخاصة به. الدفع مقابل هذه الخدمات كان يتم عبر خلايا التنظيم النشطة في الخارج من خلال طريقة تواصل خاصة بين الأطراف الثلاثة.

الهواتف يتم تهريبها إلى القياديين في التنظيم في المهاجع، وهؤلاء يكونون صلة الوصل بين الخلايا التابعة للتنظيم خارج السجن، وبقية العناصر الموجودين داخله والذين ما زالوا يوالون التنظيم وينتسبون إليه، وبحسب كثير ممن تمت مقابلتهم فإن عملية التواصل كانت موجودة بين قادة التنظيم داخل وخارج السجن فيما يخص تنسيق عمليات “داعش” خارج السجن، وعمليات تهريب الأجهزة ورشوة حراس السجن، أو عمليات تهريب عائلات عناصر التنظيم من مخيم الهول، إضافة إلى عمليات الرشوة الخاصة ببعض القضاة لإخراج قادة وعناصر للتنظيم من السجن من خلال تخفيف التهم الموجهة إليهم، أو من أجل استصدار قرارات إفراج مزورة حيث يتولى حراس متعاونون مع الخلايا- مقابل المال- مهمة إخراج العناصر من داخل السجن. وبحسب بعضهم فإن هناك عمليات تنسيق تتم حول قرارات اغتيال أشخاص خانوا التنظيم أو يعملون لصالح “قسد” داخل السجن أو خارجه، إضافة إلى ذلك يتم استخدام هذه الهواتف لأغراض التواصل بين المساجين وخلايا التنظيم المتبقية في مخيم الهول.

عمليات التواصل هذه أبقت التنظيم على الحد الأدنى من التنسيق، سواء لعمليات التهريب أو الهجمات أو  إيصال معلومات عن الاستراتيجيات التي يتخذها التنظيم خارج السجن، وقد تكون الهجمات التي نفذها تنظيم “داعش” لكسر حصون سجن الصناعة هي إحدى ثمار هذا التنسيق بين الخلايا الموجودة داخل السجن وخارجه، حيث كانت الهجمات منظمة بين الخلايا، فحدثت تحركات متزامنة داخل السجن وخارجه في آن واحد.

سجن الصناعة كثمرة تواصل

مساء يوم 20 يناير/كانون الثاني عام 2022، شن تنظيم “داعش” هجمة شرسة على سجن الصناعة الواقع في حيّ غويران بالحسكة، والذي يحتوي على نحو 5 آلاف مقاتل من تنظيم “داعش” من جنسيات مختلفة عربية وأجنبية. الهجوم بدأ بين الساعة السادسة والسابعة مساء عبر إرسال التنظيم لعربتين مفخختين الأولى توجهت نحو الباب الرئيس للسجن، والثانية على خط متوازٍ يبعد عن البوابة قرابة 200 متر، وبعد انفجار العربتين فورا، شنت مجموعات “انغماسية” هجمات لدخول السجن أدت إلى انهيار سريع لكل البنية الأمنية التي وضعتها “قسد”، ودخل عناصر التنظيم إلى السجن لكسر الجدر الموصلة إلى المهاجع. في هذه الأثناء كان عناصر التنظيم داخل السجن يشنون حملات هجوم على حرس السجن، ويقتلون كل من كانت أسماؤهم على قائمة الاغتيال والذين كانوا جزءا من منظومة التحقيق أو التعذيب، فضلا عن أن الهجمات الداخلية لم تستثنِ أي أحد من العاملين في السجن. حتى صباح 21 يناير/كانون الثاني 2022، كان تنظيم “داعش” قد سيطر على السجن كاملا تقريبا وقتل كل العاملين في السجن والحرس، وبدأت عملية تهريب السجناء بعد السيطرة على مستودع أسلحة كان في السجن. ويقول سالم إن “بعض المساجين الذين عرفوا جلاديهم أثناء أحداث سجن الصناعة انتقموا منهم وقتلوهم وقطعوا رؤوسهم”.

قوات التحالف و”قسد” استطاعت السيطرة على السجن مرة أخرى بعد سبعة أيام من العمليات العسكرية هناك، والتي أدت إلى اعتقال نحو 3500 مقاتل من التنظيم الذين كانوا داخل السجن، دون معرفة كثير من المعلومات عن مصير نحو أكثر من ألف سجين سواء كانوا قُتلوا أم فرّوا. هذا الهجوم المنسق والمنظّم أثبت أن التنظيم ما زالت لديه القدرة على التنسيق وتنفيذ عمليات نوعية. فاتخذ التحالف و”قسد” إجراءات مشددة داخل السجن، ووضعوا كاميرات مراقبة، وبحسب كثير من المساجين فقد تم تقليل كميات الطعام على المساجين. الإجراءات الأمنية لم تكن توازي قدرة التنظيم على التأقلم، فحتى بعد تشديد القبضة الأمنية على المساجين بعد هجمات سجن الصناعة فإن عناصر التنظيم استطاعوا مجددا إدخال الهواتف المحمولة واستئناف التواصل مع الخلايا الخارجية، ومع بعض الخلايا في المخيمات التي تديرها “قسد” مثل مخيم الهول.

ويشير مزاج بعض العناصر الذين تمت مقابلتهم إلى وجود دفعة عاطفية إيجابية قوية بعد هجمات سجن الصناعة، كما أن “أحداث سجن الصناعة كانت نقطة تحول بالنسبة لمقاتلي التنظيم الموجودين في السجن، فقد أثبتت أن السجن لا يعني النهاية”، كما أن الهجمات التي نفذتها خلايا التنظيم في سوريا فتحت الباب للمساجين من أجل إجراء مراجعات دقيقة ومفصلة لمراحل نشأة التنظيم، وقوته، وأفول سيطرته على المناطق في سوريا والعراق، هذه المراجعات التي سمحت ظروف السجن بها- حيث إن الغرف مكتظة بالمساجين- وصلت إلى مراحل رسم استراتيجيات لمستقبل التنظيم وطرق إعادة إحيائه بالاستفادة من أخطاء الماضي.

مراجعات فكرية ورسم معالم  استراتيجية جديدة

ساعات طويلة يُمضيها العناصر مع القادة الموجودين بينهم، يتحدثون خلالها عن الدين والدولة وتنظيمهم الذي سيطر على مساحات واسعة دون أن يتمكن من الحفاظ عليها لفترة طويلة، يدرسون استراتيجيتهم القديمة بإيجابياتها وأخطائها، بمن كان معهم ومن خانهم، و”الاختلافات بين القادة التي أدت إلى إضعاف قوة التنظيم وانهيار قدرته الجغرافية”. هذه المراجعات لم تكن تتم داخل السجن وتنتهي فحسب، بل كانت مخرجاتها تسير عبر الهواتف والرسائل إلى الخلايا خارج السجن، ليُصار إلى تمحيصها ومحاكمتها، وتتحول في نهاية المطاف إلى نقطة ارتكاز تعتمد عليها الخلايا في عملياتها أو سكونها.

يقول لؤي إن المساجين في سجن الصناعة “يتبادلون الأفكار، يخططون للمستقبل، يؤكدون بينهم أن الحرب لم تنتهِ وأن دولة الخلافة ستعود”، ويشير إلى أن بعض النقاشات تتم حول الظروف الممكنة التي ستساعد التنظيم لإعادة قوته، كفائدة الفوضى، وآليات التجنيد بالاعتماد على استراتيجيات جديدة، وطرق استغلال الثغرات الأمنية والخلافات بين القوى الموجودة في سوريا.

كما يقول أبو محمد، إنه في سجن الرقة كانت النقاشات أحيانا حادّة، حيث أسمع أصواتهم وهم يتهمون بعضهم البعض بالضلال أو الخطأ أو الخروج عن المنهج، ومن بين النقاشات التي سمعها أبو محمد أن مجموعة من العناصر كانوا يطالبون بتغيير جذري للتكتيك القديم الذي استخدمه التنظيم، واعتماد تكتيكات جديدة مثل التحول قليلا إلى المرونة والتكيف مع الظروف المتغيرة، لكن دون أن يكون هناك تغيير في الثوابت القائمة على إقامة دولة الخلافة من جديد.

ويمكن تلخيص طبيعة تلك النقاشات ومخرجاتها- بحسب ما ذكره الأشخاص الذين تمت مقابلتهم- في النقاط التالية:

حدثت نقاشات حول الأخطاء التي ارتكبها قادة التنظيم باعتقادهم أن القوة والقتل والترهيب تكفي للسيطرة على الأرض، وبحسب النقاشات فإن ذلك لم يكن صحيحا واستدلوا باستنتاجهم بمساعدة المدنيين لأي قوة حاربت التنظيم، مما يعني أنهم لم يستطيعوا كسب الناس، كما أن من الأخطاء المتصلة بالقوة والترهيب هي الخطاب المتشدد جدا، والذي لم يفهمه الناس، ما أدى إلى عزل التنظيم لنفسه عن القاعدة الشعبية.

من خلاصات النقاشات التحول من فكر الدولة- مؤقتا- إلى فكر الخلايا السرية، وذلك من خلال إعادة الهيكلة التنظيمية للتنظيم، واعتماد مبدأ اللامركزية للخلايا، حيث يتم إرسال الاستراتيجية والأهداف للخلايا من قبل القيادات، ويُترك أمر التنفيذ لقادة الخلايا. وبذلك يصعب على القوى متابعة الخلايا واستهدافها بشكل كامل.

ضرورة التركيز في الوقت الحالي على ما يطلقون عليه اسم “الدفاع الجهادي”، بمعنى القيام بالعمليات الخاطفة والصغيرة، وعدم الدخول في معارك كبرى تؤدى إلى خسائر فادحة تُضعف خلايا التنظيم أكثر، وبحسب النقاشات التي تمت بينهم فإن هذه الاستراتيجية في الوقت الراهن تخدم التنظيم من عدة نواحٍ: خسائر أقل، خلق فوضى وثغرات أمنية تساعد الخلايا على التحرك أكثر، والحصول على فرصة أكبر لتجنيد مقاتلين جدد في التنظيم.

أهمية تشكيل شبكات سريّة تتمحور أعمالها على توفير الدعم المالي واللوجستي للخلايا، دون أن يكون لدى هذه الشبكات علم بأي تفاصيل عن طبيعة العمليات أو مكان الخلايا، بحيث يكونون بمعزل عن التنظيم وعملياته لكنهم يخدمون مصالحه المالية في الوقت ذاته.

بعض النقاشات أيضا تمحورت حول كيفية تشتيت الجهود الدولية، وذلك من خلال التواصل مع قادة التنظيم وقادة المجموعات المسلحة التي تشبه توجه التنظيم خارج إطار الجغرافيا السورية، والتنسيق معهم لتنفيذ عمليات في تلك المناطق تستهدف المصالح الدولية، لتخفيف الضغط على التنظيم في سوريا.

درست النقاشات أيضا ضرورة استخدام الإعلام كوسيلة من أجل نشر أفكار جديدة عن التنظيم-تكون أقل تشددا في المرحلة الأولى- تمهيدا لتجنيد الشباب، ويرون أن الإعلام يمكن أن يكون حجر أساس في “تكوين قاعدة صلبة من الأنصار المؤمنين بالمنهج، ويكونون رأس حربة في المستقبل لتنفيذ العمليات أو استقطاب الشباب”.

كل هذه النقاشات ونتائجها ترى طريقها إلى خارج السجن، ولعلّ أحوال التنظيم اليوم واستراتيجياته الجديدة يمكن رؤيتها من نافذة هذه النقاشات، فالتنظيم بعد سقوط النظام السوري لم يقم بعمليات واسعة، بل ما زال معتمدا على مبدأ الخلايا والهجمات السريعة والصغيرة في منطقة “قسد” ومناطق الدولة السورية، بالإضافة إلى استغلال حالة التأرجح الأمني في سوريا لنقل خلاياه والعناصر من مناطق متفرقة نحو مناطق “قسد”، والبادية السورية، وحمص، ومناطق تُحسب جغرافيا على محافظات الساحل السوري.

وبحسب المعلومات فإن تنظيم “داعش” يعمل اليوم على التجنيد، واستغلال غضب بعض الفصائل من الدولة السورية الجديدة وتوجهاتها من خلال تكثيف التواصل مع الغاضبين وتهيئة الأرضية المناسبة لتجنيدهم أو التنسيق معهم في شنّ عمليات ضد مؤسسات الدولة السورية وموظفيها، كما أن التنظيم من المرجح أن يقوم باستغلال الغاضبين وتحويلهم إلى “جواسيس” داخل أجهزة الحكومة، فضلا عن قيامه بتشجيع عناصره للانضمام إلى الأمن العام والجيش عن طريق أبواب الانتساب التي فتحتها الدولة السورية.

الحكومة السورية هدف التنظيم

جميع العناصر تمت مقابلتهم بعد سقوط النظام- خلال شهر فبراير/شباط الماضي- من بينهم 10 عناصر خرجوا في وقت سابق من السجون. الجميع قالوا إن “الدولة السورية بقيادة أحمد الشرع” هي دولة “علمانية” وأن قتالها “أمر حتمي”، ويقول سالم إن “الجولاني وجماعته منذ أن خرجوا عن عباءة الدين نحو حبّ السلطة قبل سنوات تحولوا إلى مشركين، وعناصر الجولاني هم مرتدون وعملاء”، ويضيف أن التنظيم يرى الشرع “عبارة عن عميل للغرب تم وضعه في دمشق”.

لؤي يقول أيضا إن عناصر التنظيم داخل السجن وخارجه يُجمعون على أن الدولة السورية الجديدة هي هدف للتنظيم، ويرون أن الشرع ودولته “يتعاونون مع الفصائل العلمانية والدول العربية والغربية وتركيا”، أما رافع فيرى أن قادة الدولة السورية الجديدة “يُظهرون موالاتهم للطواغيت ويناصرونهم على المسلمين، وهذا كفر صريح”.

وبحسب الذين تمت مقابلتهم، فإن كثيرا من النقاشات التي تمت في السجن ومع خلايا التنظيم في الخارج كانت حول آليات إضعاف الدولة السورية الجديدة وشيطنتها وقادتها، بحيث يمكن استغلال حالة الضعف وتعزيزها من أجل خلق فرص ملائمة لاستهداف الدولة السورية ورموزها، وفي خارج السجن تدرس الخلايا إمكانية إعادة التموضع بين المدنيين في مناطق لم يكن فيها التنظيم سابقا وذلك للتحضر من أجل شن هجمات خاطفة وسريعة ضد الدولة، إضافة إلى محاولة تجنيد عناصر جدد أو نشر الرعب من الدولة في نفوس بعض الفصائل الأجنبية التي كانت موجودة في مناطق “هيئة تحرير الشام” سابقا من خلال إقناعهم بأن الدولة السورية ستستهدفهم قريبا وتنهي وجودهم في سوريا، ما يجعلهم يبحثون عن حليف لضمان سلامتهم.

“داعش”… خطر تتحضر له الدولة السورية

لأول مرة منذ سقوط النظام، تبنى “داعش” يوم الخميس الماضي 29 مايو/أيار، هجوما ضد الحكومة السورية عبر معرفاته، وبحسب ما نشر التنظيم فقد “انفجرت عبوة ناسفة زرعها جنود (دولة الخلافة) مسبقا على آلية لميليشيا جيش سوريا الحرّة بمنطقة تلول الصفا”. وأضاف البيان أن “الهجوم أدى لمقتل عنصر وإصابة 3 آخرين”.

الهجوم الذي شنّه “داعش” جاء بعد أيام من عمليتين نفذتهما الحكومة السورية في حلب وريف دمشق ضد خلايا “داعش”، أسفرت عن اعتقال عدد من عناصر التنظيم ومقتل آخرين، فضلا عن مصادرة أسلحة وعبوات ناسفة كان التنظيم ينوي استخدامها في هجماته ضد الحكومة السورية والسوريين.

يقول محافظ دير الزور غسان السيد في حديثه مع “المجلة” إن خطر الميليشيات الإيرانية وخطر تنظيم “داعش” من أبرز المخاطر التي تواجهها المحافظة، مؤكدا أن خطر “داعش” قائم في محافظة دير الزور والبادية، وهو خطر حقيقي، موضحا أن هناك عمليات تهريب تتم من مناطق “قسد” نحو محافظة دير الزور، والبادية، وأن لدى الدولة السورية معلومات حول نشاط التنظيم وتعمل على مواجهته بكل السبل الممكنة.

كما تحدّثت “المجلة” مع عدد من قادة الأمن العام في الحكومة السورية حول خطر “داعش” القادم، والجهود المبذولة لمواجهة هذا الخطر، الجميع أكدوا أن جهودا كبيرة يتم بذلها لمراقبة نشاط “داعش” وخلاياه وسبل تجفيف قدراتهم العسكرية والرقمية، إضافة إلى أن الدولة السورية أرسلت الكثير من التعزيزات إلى مناطق وجود الخلايا كبادية دير الزور وتدمر ومنطقة الحماد وغيرها من المناطق المفتوحة على الصحراء السورية. هذه التعزيزات تضمنت أيضا إرسال عناصر على الحدود السورية العراقية لمنع التهريب الذي يمكن أن تقوم به خلايا “داعش”.

لا شك أن الدولة السورية وحدها لن تكون قادرة على مواجهة خطر “داعش” بسرعة، خصوصا في ظل وجود توترات وعدم استقرار أمني بين الحكومة وبعض القوى العسكرية سواء في جنوب البلاد أو في شرقها. يُضاف إلى ذلك خطر جدّي آخر يتمثل في بقايا النظام السابق، وبعض العناصر السابقين ضمن الميليشيات الإيرانية والذين ما زالوا على تواصل مع الميليشيات التابعة لإيران سواء في لبنان أو العراق. عدم قدرة الحكومة على وضع كامل إمكانياتها لمواجهة التنظيم في الوقت الحالي يفتح الأبواب أمام فرص تعاون إقليمي ودولي مع الحكومة السورية وتنسيق مشترك من أجل دعم الجهود السورية والدولية للقضاء على “داعش” ، وهو أمر لن ترفضه دمشق التي أبدت استعدادا له من خلال الاعتماد على معلومات من قبل الجانب الأميركي في شهر يناير/كانون الثاني من العام الجاري، حيث نشرت صحيفة “واشنطن بوست” في الشهر نفسه تقريرا ذكرت فيه أن المخابرات الأميركية زوّدت دمشق بمعلومات عن مخطط لتنظيم “داعش” من أجل استهداف مزار السيدة زينب بريف دمشق.

ويمكن قراءة تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، من دمشق يوم 29 مايو الماضي، في سياق التحالف المشترك الممكن بين واشنطن ودمشق لمحاربة تنظيم “داعش”، حيث قال باراك إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعتزم إعلان سوريا دولة غير راعية للإرهاب قريبا، موضحا أن الإدارة الأميركية تهدف إلى تمكين الحكومة في دمشق، وأن الجيش الأميركي أنجز ببراعة 99 في المئة من مهمته ضد تنظيم “داعش” في سوريا.

المجلة

——————————-

====================

لقاء الشرع ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا تحديث 03 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

ملف رفع العقوبات عن سوريا

————————-

هل يكفي رفع العقوبات الاقتصادية للنهوض بسوريا الجديدة؟/ باسل المحمد

2025.06.01

بعد سنوات طويلة من الحصار الاقتصادي والعقوبات الغربية، أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل متزامن رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، في خطوة وُصفت بأنها “تاريخية” وتستجيب للتحولات السياسية التي تشهدها سوريا بعد سقوط النظام السابق.

وبينما رحّب السوريون بهذه الخطوة باعتبارها بوابة لانفراج اقتصادي طال انتظاره، وبداية حقيقية لإعمار سوريا بعد أكثر من عقد من الحرب والدمار، برزت في الأوساط السياسية والاقتصادية تساؤلات حول قدرة هذه الخطوة وحدها على دفع عجلة النهوض. إذ تُظهر المؤشرات الأولية أن رفع العقوبات ـ على أهميته ـ لن يكون كافيًا ما لم تُعالَج التحديات العميقة التي تُثقل كاهل سوريا الجديدة، وفي مقدّمتها الفساد البنيوي، وتآكل مؤسسات الدولة، وغياب الأمن المستدام، وتراكم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي خلّفتها حرب استمرت أربعة عشر عامًا.

في هذا التقرير نستعرض أبرز هذه التحديات، ونناقش لماذا لا يمكن لرفع العقوبات وحده أن يكون كافيًا للنهوض بسوريا الجديدة، ما لم يترافق مع إصلاحات حقيقية على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

الانفتاح السياسي شرط للنهوض

رغم أن رفع العقوبات الاقتصادية الغربية عن سوريا يشكّل خطوة إيجابية نحو تخفيف الأعباء المعيشية وفتح الطريق أمام الاستثمارات والمساعدات الدولية، إلا أن النهوض الفعلي بسوريا الجديدة يتطلب ما هو أبعد من الاقتصاد، إذ كشفت تجارب العديد من الدول التي شهدت ظروف مماثلة للحالة السورية أن غياب التشاركية السياسية الحقيقية سيشكل عائقاً أمام أي عملية إعادة إعمار شاملة أو بناء مؤسساتي مستقر.

وفي هذا السياق يرى مراقبون أن العقوبات وعلى الرغم مما تسببت به من أعباء على المواطنين لم تكن هي العامل العائق الوحيد أمام التنمية والبناء، بل إن انسداد الأفق السياسي واحتكار القرار وتهميش طيف واسع من السوريين عن المساهمة في صياغة مستقبل بلادهم هو ما كبّل البلاد لعقود، وأدى إلى ما وصلت إليه من دمار.

في هذا السياق يوضح الباحث السياسي نادر الخليل أنه لا يمكن أن يُنظر إلى رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا الجديدة كحل سحري أو كافٍ للنهوض بالبلاد بمفرده، فهو يضيف خطوة مهمة وضرورية، لكنه جزء من منظومة أوسع يجب أن تتكامل فيها أبعاد الإصلاح السياسي وإعادة بناء المؤسسات، واستعادة وفرض سلطة القانون.

ويتجلى هذا الإصلاح السياسي بحسب حديث الخليل لموقع تلفزيون سوريا في فتح المجال العام لكل القوى والتيارات والمكونات دون تهميش، وإعادة انتاج عقد اجتماعي جديد قائم على المواطنة المتساوية.

وتأكيد على أهمية هذا المحور، وضعته الإدارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي ضمن الشروط التي طالبت دمشق بتنفيذها مقابل رفع العقوبات، إذ أكد الطرفان أن رفع العقوبات مشروط بخطوات إصلاحية واضحة، أبرزها تحقيق مشاركة سياسية حقيقية، وإطلاق عملية انتقال سياسي تتسم بالشفافية، وتضمن مشاركة السوريين بكل طوائفهم ومكوناتهم.

وبعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفعه للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا خلال زيارته السعودية، اعتمد الاتحاد الأوروبي رسميا في 28 أيار الماضي رفع العقوبات عن سوريا، وجاء ذلك على لسان منسقة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، التي أكدت أن هذا القرار “هو ببساطة الشيء الصحيح الذي ينبغي للاتحاد الأوروبي القيام به في هذا الوقت التاريخي لدعم تعافي سوريا بشكل حقيقي وانتقال سياسي يلبي تطلعات جميع السوريين”.

الأمن أساس الاستثمار في سوريا

يشكل غياب الاستقرار الأمني العائق الأكبر أمام أي نهوض اقتصادي فعلي، فالبيئة الاستثمارية ـبحسب خبراء الاقتصادـ لا تقاس فقط بمرونة القوانين وحجم الإعفاءات، بل بمدى شعور المستثمر بالأمان والثقة بأن أمواله ومشاريعه لن تكون عرضة للمخاطر الأمنية، أو ابتزاز الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون.

وفي تقريره لعام 2024 حول مناخ الاستثمار في الدول الخارجة من النزاع، يؤكد البنك الدولي أن “تحقيق الاستقرار الأمني يُعد الشرط الأول لجذب الاستثمارات في الدول الخارجة من نزاع، متقدماً على السياسات الضريبية أو التسهيلات الإدارية”.

من جانبه نوه المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن في إحاطة لمجلس الأمن “أنه لا يمكن الحديث عن تعافي اقتصادي في سوريا دون معالجة التحديات الأمنية، وعلى رأسها انتشار السلاح وتعدد مراكز السيطرة”.

من جهته يرى الناشط الحقوق زيد العظم أن رفع العقوبات وضع سوريا على السكة الصحيحة، لكن التحدي الحقيقي اليوم أمام الحكومة السورية هو في خلق بيئة آمنة وجاذبة للاستثمار، فلا يمكن لأي مشروع اقتصادي أن ينهض في ظل الفوضى الأمنية، وانتشار المظاهر المسلحة.

ويضيف العظم في حديثه لموقع تلفزيون سوريا “على الدولة الجديدة أن تعي أن الاستقرار لا يتحقق بالخطاب السياسي، بل بإجراءات عملية تبدأ بتوحيد القرار الأمني، وبناء أجهزة شرطية وأمنية قوية واحترافية، لأن هذه المؤسسات هي الوحيدة القادرة على طمأنة المستثمرين وتشجيع رؤوس الأموال على ضخ المليارات في مشاريع إعادة الإعمار والتنمية”.

وفي إطار سعيها لضبط الأمن والاستقرار أعلنت وزارة الداخلية في 24 أيار الماضي عن إعادة هيكلة تنظيمية شاملة تهدف لتأمين سوريا على المستوى الداخلي والحدودي، واستحداث إدارات جديدة لضبط الأمن.

وفي سياق متصل كشف المتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا عن نية الوزارة إصدار قوانين بالتنسيق مع وزارة الدفاع، بهدف التصدي لظاهرة انتشار السلاح العشوائي داخل البلاد، مضيفاً أن الوزارة تنفذ يومياً حملات في مختلف المحافظات لإلقاء القبض على المطلوبين الذين ما زالوا يشكلون تهديداً للأمن العام.

مكافحة الفساد وبناء مؤسسات وطنية

ساهمت سنوات الحرب السورية، والعقوبات الاقتصادية التي طالت كل قطاعات الدولة، بتآكل المؤسسات الحكومة، وانتشار الفساد والمحسوبيات على مستويات عالية جداً، طالت رأس النظام وحتى أصغر موظف في الدولة، لتتبوّء سوريا المرتبة الثالثة عالميا في الفساد بحسب مؤشر مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية لعام 2024.

وتكشف العديد من التجارب السابقة لعمليات إعادة الإعمار بعد الحرب في مختلف بقاع العالم بأن الشفافية والتمثيل الجامع في اتخاذ القرارات الحكومية هو الحل الأفضل للفساد والركود الاقتصادي وغيرهما من الأمراض التي تصيب البلاد خلال مرحلة التعافي.

وفي هذا السياق تشير مجلة فورين أفيرز في تقرير عن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا إلى أن عمليات إعادة الإعمار في لبنان والعراق مثلا شكلت فرصة ذهبية لقلة من السياسيين وتجار الحرب للثراء، بينما غرق عامة السكان في أزمات اقتصادية وخدمات متهالكة، وقد أدى الفساد المستشري، والتدخل الخارجي، وهيمنة جماعات لا تمثل الدولة، إلى فشل الحكومات في بناء اقتصادات مستدامة أو مؤسسات قادرة على ضبط المرحلة الانتقالية.

وتحذر أفيرز بتقريرها الصادر في 27 أيار أن هذا الواقع ترك فراغاً أمنياً واقتصادياً، تسابقت على ملئه قوى طائفية وغير رسمية، كما فشلت مشاريع البنية التحتية في أن تكون رافعةً للتنمية، بل تحولت إلى أدوات للربح الشخصي والنفوذ.

بدوره يؤكد الخبير الاقتصادي د. فراس شعبو أن رفع العقوبات شكّل فرصة مهمة لسوريا، لكنها لن تُترجم إلى تعافٍ حقيقي ما لم تُرافق بإصلاحات جذرية في بنية الدولة، فحسب قوله، تحتاج البلاد اليوم إلى “تنظيمات وتشريعات حديثة، وإعادة هيكلة اقتصادية سليمة، تعيد الثقة بمؤسسات الدولة، وتضمن أداءً شفافاً بعيداً عن الفساد والمحسوبيات”.

ويشير شعبو في حديثه لموقع تلفزيون سوريا إلى أن إعادة دمج بعض المؤسسات العامة، وخصخصة القطاعات غير المنتجة، وتمكين القطاع الخاص، كلها خطوات لا بد منها في ظل ضعف الموارد وتردي الخدمات، فالدولة، كما يوضح، “لا تستطيع القيام بكل شيء بمفردها، بسبب حجم الدمار الهائل، وانهيار البنى التحتية في الصحة والتعليم والخدمات”.

ويختتم شعبو بالقول: “إذا تمكّنا من معالجة التحديات الاقتصادية والأمنية، فقد نكون قد قطعنا 70% من طريق الحل، فالنهوض الاقتصادي يفتح الباب تلقائياً أمام حلول سياسية ومجتمعية أكثر استقراراً”.

وتشير التحركات الحكومية إلى توجه مختلف نحو فتح صفحة جديدة بخصوص إصلاح القوانين والأنظمة الخاصة بالاستثمار،  فقد أعلن وزير الاقتصاد والصناعة، الدكتور محمد الشعار، خلال قمة الإعلام العربي بدبي في 28 أيار، عن طرح فرص استثمارية واسعة وغير مسبوقة أمام المستثمرين المحليين والدوليين. ولفت إلى أن سوريا تسعى لتجاوز النموذج التقليدي لإعادة الإعمار، عبر إنشاء أربع مدن صناعية جديدة في مناطق غنية بالموارد الخام، وإصدار قانون جديد للاستثمار خلال أسابيع، بعد إلغاء القيود السابقة التي فرضها النظام البائد.

وكان وزير المالية محمد يسر برنية أكد في مقابلة مع تلفزيون سوريا أن الحكومة تعمل على خطة إصلاح شاملة تشمل تطوير الإدارة المالية العامة، وتعزيز استقلالية المصرف المركزي، والإصلاح الضريبي والجمركي، وبناء منظومة نزاهة مالية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، إلى جانب تطوير الخدمات الرقمية المالية والمصرفية.

تلفزيون سوريا

————————–

سورية بلا عقوبات غربية: التحدّيات المحلية التي تنتظر/ عمر عبد العزيز الحلاج

03 يونيو 2025

في لحظةٍ تبدو وكأنها نهاية فصلٍ طويل من الألم، أو بداية لحقبةٍ جديدة من الإمكانات، تقف سورية أمام مفترق طرق. لقد سقط النظام الذي طالما اختزل الوطن في نفسه، واحتكر الحقيقة، وجرّ البلاد إلى دهاليز الاستبداد والصمت. واليوم، مع رفع العقوبات الأميركية، وبينما يعلو خطاب النصر وتُرسم ملامح الدولة الجديدة، يُطرح السؤال الأصعب: كيف نمنع إعادة إنتاج المنطق نفسه الذي حوّل الدولة إلى قدرٍ متعالٍ، والمواطن إلى متلقٍ مطيع؟ كيف نؤسس لمصالحةٍ لا تُبنى على رواية واحدة، بل على اعترافٍ متبادل بين السوريين بوصفهم مواطنين متساوين، وعلى الإنصات لا على الإملاء؟

لطالما وظّفت مؤسسات السلطة في سورية سردية وطنية شمولية تُقدّم الدولة كائناً ماورائيا، يتجاوز الناس، يتكلم باسمهم، ويعرف عنهم أكثر مما يعرفون. هذه السردية نفسها، وإن تغيّرت وجوهها، تُهدّد اليوم بالعودة بثوبٍ جديد: سردية تُقدّم إسقاط النظام على أنه تحقيق لوعدٍ تاريخي أو مشيئةٍ قدَرية، لا محصلة نضالية بشرية متعددة الوجوه. هذا الخطر لا يكمن فقط في الخطاب، بل في التوجّه نحو بناء دولةٍ جديدة دون مساءلةٍ علنية، ودون نقاشٍ مفتوح، ومن دون مشاركةٍ حقيقية في بلورة معنى هذا التحول الجديد ومآلاته.

يجب ألّا يبقى بناء الدولة بعد الخلاص من نظام فاسد حبيس لحظة نصر تاريخي، بل هو مشروعٌ طويل لإعادة بناء العلاقة بين الناس بعضهم بعضاً، وبينهم وبين مؤسسات الحكم. هو مسار وليس مجرد إجراءات زمنية، مسار يتطلب مواجهة صادقة مع الألم، كل الألم، مع الانتهاكات كلها، مع الصمت الذي كمم الأفواه، ومع الأسئلة الصعبة التي لا تملك أجوبة جاهزة. بناء الدولة لا تكفيه مراجعة الماضي والمحاسبة على أخطائه، بل أيضاً الاعتراف، التوثيق، الاستماع، والاعتذار لإعادة صياغة سرديات وطنية جامعة تقودنا نحو مستقبل مشترك ولا تغلق النص على سرديات الماضي.

ورفع العقوبات الغربية ليس نصراً بحد ذاته، بل هو بوابة تفتح على المستقبل، لكن مسارات هذا المستقبل ومآلاته تتعلقان بما سيفعله السوريون بأنفسهم، وأي إرادة ستحركهم باتجاه المستقبل، وبالطبع فالدولة هي من سيرسم شكل العلاقة مع المجتمع، وإسهام هذا المجتمع بجميع مكوناته في النقاش الوطني، وفي عملية البناء، والتقاط فرصة رفع العقوبات، لإعادة بناء الاقتصاد، والمجتمع قبل الاقتصاد. وما هي الأرضية التي ستمشي عليها هذه العملية التشاركية الضرورية، بل الحتمية. ودون هذه التشاركية سيكون قرار رفع العقوبات دون تأثير، فلا معنى لرفع العقوبات الغربية، إذا تمسّك المجتمع السوري بسجل عقوبات ضد بعضه البعض.

لقد بيّنت التجربة السورية، خاصة في سنوات النزاع والانقسام، أن الهوية الوطنية لا تُفرض من فوق، بل تُبنى من تعددية الواقع المحلي. لا يوجد وطن دون اختلاف، ولا مصالحة دون اعتراف بالتنوع، لا بوصفه عقبة يجب تجاوزها، بل قيمة إيجابية يجب احتضانها. يفرض هذا على أي مشروع للمصالحة والوفاق الوطني أن يكون متعدّد المسارات، يدمج بين الآليات المركزية والمبادرات المحلية، ويمنح الأولوية لصوت من عاش التجربة من زواياها المختلفة لا فقط لمن يرويها عن بعد.

لكن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في تنوع الروايات، بل في استعداد الحكومة اليوم للانتقال من دورها السابق مالكا للحقيقة المطلقة، إلى راعٍ لمساحة الحوار حولها. على الدولة أن تكون بنية قابلة للنقد، منصة لاختلاف الآراء، لا أداة لإعادة إنتاج الشمولية باسم الشرعية أو التاريخ أو الاستقرار. لا بد من الواقعية والتواضع السياسي في وجه تعقيدات الواقع، ولا بد من رفض تحويل الدولة إلى بطلٍ روائي مغلق، بل جعلها ساحة مفتوحة للسرد والتفاوض المجتمعي والمساءلة.

سيكون على المجتمع العمل مع الحكومة لإنجاح التجربة، ولكن عليه أن يكون أيضاً بالمرصاد، كي لا تعود أدوات التسلط  لتغلق الحوار الوطني المطلوب، وهو الحوار الذي يجب أن يستمر لتطوير كل ما يتعلق ببناء الدولة من مسارات الإعمار والمصالحة والعدالة الانتقالية والإصلاح المؤسسي. بعضنا سيختار العمل على بناء الدولة من داخل هياكل الحكومة الجديدة وهذا جيد وضروري، وبعضنا سيعمل من خارجها ناصحًا وناقدًا لنضمن حرية تداول الأفكار وعدم احتكارها أو اختزالها ضمن مؤسسات الحكم الجديدة، وهو دور آليت على نفسي أن ألعبه فيما تبقى لي من أيام.

وفي هذا السياق، يكتسب الحوار الوطني المستمر والمفتوح أهمية قصوى لضمان استمرار الفعل التواصلي بين قوى المجتمع والاعتراف بوجود الآخرين وشرعية سردياتهم، إذ لا يمكن أن تُبنى شرعية النظام السياسي القادم فقط على حوار تأسس لحظة سقوط نظام مهما كان ذاك النظام جائراً، بل على تفعيل مستمر لمساحات الخطاب العام، فالدولة لا تكتسب أخلاقيتها من إعلان نفسها ممثلة للإرادة العامة، بل من التزامها بأن تكون فضاءً مفتوحاً للتفاعل بين المواطنين، تعترف بتعدّدهم، وتُصغي لاختلافاتهم، وتُصوّب مسارها عبر النقد العمومي والنقد الذاتي لسردية السلطة ومشروعيتها.

ما يحتاجه السوريون اليوم ليس فقط مؤسّسات عدالة فعالة، بل منابر حوار، ومساحات تواصل، وأدوات تتيح للمجتمع السوري أن يعيد بناء ذاته من القاعدة إلى الأعلى. الإعلام المحلي، والمبادرات المدنية، والمجالس المجتمعية، والشبكات الثقافية، كلها عناصر أساسية في صناعة المصالحة. فالعدالة والمصالحة ليست قانوناً ولا وثيقة ولا هيئة عليا، بل ثقافة تتجذر بالتدريج من خلال الاعتراف المتبادل، ومن خلال توسيع دائرة من له الحق في الكلام ومن يجرؤ على الكلام.

لا تروي الدولة العادلة الحكاية الأخيرة. إنها تفسح المجال لحكاياتٍ لم تُروَ بعد، وتقبل أن تكون مساحتها ساحة للاعتراف، لا منصة للإنكار. وإذا كان سقوط النظام البائد قد فتح الباب أمام التغيير، فإن مسؤولية الحاضر هي ألا يُغلق هذا الباب مجدّداً باسم أي سردية، مهما بدت مقنعة أو مخلِّصة. فشرعية الدولة القادمة لن تُبنى على إغلاق النقاش، بل على احتضانه. وبناء الدولة لا يتم بالختم لإعلان نهاية مرحلة، بل يتطلب نقاشًا شاملًا ومنفتحًا على الجميع، لا تكتبه مؤسّسات الدولة وحدها، بل يصوغه المجتمع بأكمله، بمبادراته، وحواراته، وأصواته المختلفة عبر حوار وطني مستمرّ في جميع المجالات. ولا يتعلّق هذا الحوار فقط بإغلاق صفحة الماضي، بل بكل الإشكالات القديمة والمستحدثة.

علينا أن نعي أن الظلم في الماضي لم يقتصر على جرائم أفراد في نظام بائد، وأن تحقيق العدالة لا يعني مجرّد محاسبة هؤلاء على أفعالهم، بل يعني تصوّراً جديداً لمنظومة الحكم يضمن عدم تكرار الماضي. مركزة السلطة واحتكار الموارد ومقدّرات الاقتصاد وتقييد التعبير والتمثيل السياسي وفّرت الغطاء والمبرّر للظلم في الماضي. والعدالة لا تتحقق بدون تفكير مستقبلي يضمن العدالة في توزيع الموارد الوطنية على طول الجغرافيا السورية، والعدالة البيئية، والعدالة بين الريف والمدينة، والعدالة في التمثيل السياسي والحقّ في الوجود في الحيز العام لكل أفراد المجتمع، رجالاً ونساءً شيباً وشباباً. فالعدالة ليست مساراً يكتفي بالنظر إلى الخلف، بل هي مشروع يستشرف المستقبل بوعي أكبر. لا ينفع أن نحاسب الماضي إذا كنا سنظلم أولادنا والأجيال القادمة.

في المقابل، لا يمكن أن يتوقع السوريون أن يؤدوا ذلك كله في غضون أيام قليلة. ولن توفر المعطيات الخارجية، كرفع العقوبات، سوى حافز لهم للعمل معاً لإعادة الإعمار وتحقيق الوفاق الوطني. وسيكون عليهم أن ينظروا إلى الأمام لا إلى الخلف. لندع مسارات العدالة الانتقالية تأخذ مجراها فيما يخص الماضي، ولكن المستقبل ينتظر السوريين في ساحات أكبر وأوسع وأكثر خطورة من الشرذمة التي خلفتها لنا عقود من الاستبداد وسنوات من الحرب. لم تنته التضحيات لحظة سقوط النظام. سيكون علينا أن نضحّي كل منا من موقعه ومن دوره. وسيكون على كلٍّ منا أن يقبل أن سورية الجديدة لن تتطابق مع سرديته بالمطلق، ولكنها ستوفر للجميع مساحة للتعبير عن سردياتهم وهذه ربما تكون التضحية الأكبر المطلوبة اليوم.

العربي الجديد

————————————-

 سوريا تواجه تحديات لاستثمار 7 مليارات دولار في الكهرباء

الثلاثاء 2025/06/03

تواجه سوريا تحديات جمّة تحول دون الاستفادة من استثمارات ضخمة وقعتها في قطاع الكهرباء، بقيمة 7 مليارات دولار، أبرزها التلف الواسع الذي تعانيه شبكة النقل الكهربائية، والسرقات التي تتعرض لها البنية التحتية الحيوية، في ظل ضعف أمني واقتصادي حاد.

وقد تعهدت قطر، من خلال تحالف دولي تقوده شركة “يو سي سي القابضة”، بمساعدة سوريا في إعادة البناء، عبر إنشاء أربع محطات كهرباء غازية ذات دورة مركبة، ومحطة طاقة شمسية، لكن هذه الخطط الطموحة “لن تعني الكثير، ما لم تتمكن دمشق من منع العصابات المسلحة من نهب كابلات الكهرباء بسرعة أكبر من قدرة الحكومة التي تعاني من نقص السيولة على إصلاحها”، بحسب تقرير لوكالة “رويترز”.

ويمثل المشروع القطري أكبر استثمار أجنبي يعلن عنه في سوريا منذ أن رفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الشهر الماضي، العقوبات المفروضة على دمشق، مما أعاد فتح أبواب الاستثمار ولو بشكل محدود.

شبكة شبه منهارة وسرقات منظمة

وبحسب تصريحات وزير الطاقة محمد البشير، لـ”رويترز”، فإن شبكة الكهرباء السورية كانت قبل عام 2011 تغطي 99% من سكان البلاد، لكنها اليوم تنتج أقل من خُمس إنتاجها السابق، والأخطر أن “معظم هذا الإنتاج يُسرق”، سواء عبر سرقة الكابلات والمكونات أو حتى من خلال سرقة الكهرباء نفسها.

وتُقدّر وزارة الطاقة تكلفة إعادة تأهيل الشبكة بنحو 5.5 مليار دولار، وهي أموال لا تملكها الدولة، مما يفرض الاعتماد على استثمارات خاصة أو مانحين دوليين. وقال البشير إن “المشاريع التي تقودها قطر، ستستغرق ثلاث سنوات لتصبح جاهزة للتشغيل الكامل، وخلال تلك الفترة، ربما نتمكن من استكمال إعادة تأهيل الشبكة”.

لكن الواقع على الأرض أكثر تعقيداً، وفقاً لرئيس المؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء خالد أبو دي الذي قال إن “فرقنا تعمل في مكان والنهب في مكان آخر”، وأشار إلى أن أكثر من 80 كيلومتراً من الكابلات في جنوب سوريا نُهبت منذ سقوط النظام السابق، بينما أحبطت السرقات في الشرق، محاولات استعادة خط نقل رئيسي طوله 280 كيلومتراً.

تحديات أمنية

وتشكل حماية خطوط الكهرباء في سوريا، تحدياً أمنياً معقداً في ظل انتشار الميليشيات المحلية والمجموعات المسلحة التي تسيطر على أجزاء واسعة من البلاد، لا سيما أن العديد من خطوط النقل تمر عبر مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة، أو تقع على خطوط تماس بين قوات مختلفة، مما يجعل تأمينها مهمة شبه مستحيلة.

وقال أبو دي إن تأمين خطوط بطول مئات الكيلومترات، يتطلب موارد بشرية ولوجستية لا تملكها الدولة حالياً، مشيراً إلى أن “نشر حراس أو قوات أمنية على كامل مسار الخطوط مستحيل عملياً”، كما أن العديد من اللصوص الذين يستهدفون الأبراج والكابلات، “يعملون تحت حماية جماعات مسلحة محلية”، مما يُصعّب تدخل فرق الصيانة أو الشرطة.

من جهته، أوضح أحمد الأخرس، المسؤول عن الترميم في الجنوب، أن “الفرق الفنية غالباً ما تراقب عمليات نهب أثناء تنفيذ أعمال الصيانة، لكنها لا تتدخل بسبب خطر السلاح”، مضيفاً أن “اللصوص لا يسرقون تحت جنح الظلام، بل في وضح النهار أحياناً”.

وبسبب هذا الواقع، تحولت بعض المستودعات الحكومية إلى أهداف مباشرة، حيث أُفرغت العديد منها من المعدات الاحتياطية الضرورية، ما عطّل عمليات الإصلاح حتى في المناطق الآمنة نسبياً.

بيئة غير آمنة للمستثمرين

وقال الخبير في قطاع الطاقة غياث بلال، إن سوريا لا تزال في مراحلها الأولى من التعافي بعد الحرب، وتُعد “وجهة عالية المخاطر للمستثمرين”، لافتاً إلى غياب المقومات الأساسية مثل العملة المستقرة، والقطاع المصرفي، والأمن. وأشار إلى أن انعدام السيطرة الحكومية على مناطق واسعة يعوق بشكل مباشر محاولات إصلاح الشبكة أو جذب استثمارات جادة.

على الرغم من ذلك، تعول الحكومة على القطاع الخاص لقيادة عملية الإصلاح. ووفقاً للبشير، يمكن للشركات الاستثمارية الدخول في شراكات مع الدولة بصيغة المتعهدين، وبيع الكهرباء مباشرة للمستهلكين لاسترداد استثماراتهم.

وأكد المتحدث باسم وزارة الطاقة أحمد سليمان، أن شركات صينية وأميركية وقطرية وتركية، أبدت اهتماماً بدخول السوق السورية منذ رفع العقوبات، حيث تقضي الخطط الحكومية بأن تقوم هذه الشركات باستئجار محطات التحويل وخطوط النقل ذات الجهد العالي، على أن تسترد تكاليفها عبر رسوم الكهرباء.

كهرباء مدعومة وفقر مدقع

لكن إحدى العقبات الرئيسية التي يواجهها المستثمرون، هي أن الكهرباء في سوريا كانت مدعومة بشدة لعقود، إذ يدفع المستهلكون نسبة ضئيلة من تكلفتها الفعلية، لذلك تتجه الحكومة الى رفع الدعم تدريجياً عن قطاع الكهرباء، نظراً لأن أكثر من 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر.

من جانب آخر، أبدى بعض المستثمرين تفاؤلاً حذراً، حيث يخطط رجل الأعمال السوري ضياء قدور، المقيم في تركيا، لاستثمار 25 مليون دولار في شبكة الكهرباء شمال سوريا، عبر شركته المرخصة في تركيا، لتزويد 150 ألف منزل في ريف حلب بالكهرباء المستوردة من تركيا. وقال لوكالة “رويترز”: “بإمكاننا تقديم أسعار أقل بكثير من الأسعار التي يدفعها السكان حالياً مقابل المولدات الخاصة”.

فيما عبّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عن تفاؤله بالاستثمار في هذا القطاع، قائلاً: “أفضل ما لدينا هو أننا موجودون على الأرض منذ خمس سنوات”.

معاناة يومية وواقع مأزوم

ومع تراجع ساعات التغذية الكهربائية إلى أقل من 4 ساعات يومياً في معظم المناطق، باتت الحياة اليومية للسوريين تدور حول جدول الكهرباء، فالكثيرون يضطرون للاستيقاظ في ساعات الفجر لتشغيل الغسالات أو تسخين الماء، ثم العودة للنوم، أما تخزين الطعام، فأصبح ترفاً لا تسمح به قدرة التبريد المحدودة، ما يدفع الناس لشراء كميات يومية فقط من الخضار أو اللحوم.

ويُعد هذا الملف من أبرز التحديات التي تواجه حكومة الرئيس أحمد الشرع في محاولاته لإعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد، في ظل استمرار الفوضى الأمنية وانهيار البنية التحتية.

—————————–

الاختراق السوري أبرز إنجازات ترمب/ طوني فرنسيس

من غزة إلى أوكرانيا مروراً بإيران تتعثر مبادرات الرئيس الأميركي وتصطدم بالوقائع الصعبة

الاثنين 2 يونيو 2025

قد يصح القول إن استعادة العلاقات الأميركية- السورية شكلت الإنجاز الأهم الأكثر حيوية لمستقبل أوضاع المشرق بما في ذلك مستقبل لبنان والعراق الذي يستعد للانتخابات التشريعية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فسوريا التي كانت رأس جسر المشروع التوسعي الإيراني عبر العراق وامتداداً إلى لبنان وفلسطين والأردن باتت في الموقع الاستراتيجي النقيض ويسهل ذلك عليها في المستقبل القريب القيام بدور إيجابي مؤثر تجاه لبنان والعراق والجيران الآخرين، وهي ستكون للمرة الأولى في صلب الجهود العربية التي لم تتوقف من أجل حل نهائي للقضية الفلسطينية على قاعدة حل الدولتين الذي ينهي مغامرات بنيامين نتنياهو و”حماس” والمرشد الإيراني، ويوفر على ترمب وعوداً في غير مكانها الصحيح.

لم ينجح دونالد ترمب، حتى الآن، في مساعيه المعلنة لحل أي من الأزمات الدولية التي أعلن عن تصديه لوضع حد لها، فيما الوقت يهدر والضحايا يتساقطون بدءاً من غزة وصولاً إلى أوكرانيا. فقط في سوريا أحدث الرئيس الأميركي خرقاً عندما اعترف بالسلطات الجديدة وقرر رفع العقوبات المفروضة على هذه البلاد منذ أيام حكم آل الأسد.

فشل الرئيس الأميركي حتى الآن في وقف الحرب الروسية – الأوكرانية على رغم أن إنهاءها كان في مقدمة شعارات حملته الرئاسية، واستمر التصعيد على الجبهات وتمسكت روسيا بشروطها، فيما كانت أوروبا تلتف حول أوكرانيا داعمة لها في معركتها المصيرية.

وعندما ضغط ترمب من أجل مفاوضات بين البلدين في تركيا، راهن على اتفاق سريع يتوج بلقاء يجمعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فلم يحصل الاتفاق واستعيض عن اللقاء باتصال هاتفي أعقبته اتهامات من ترمب لبوتين وصلت إلى حد وصفه بـ”المجنون”، لكن الكرملين خفف من حدة التوتر الأميركي، مقترحاً أسباباً تبريرية لرئيس البيت الأبيض الذي “يواجه صعوبات مع حلفائه الأوروبيين”، على قول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

وينسجم تفسير موسكو هذا مع رؤيتها لسلوك ترمب ودوره ويخدم مطالبها الرئيسة التي تتمسك بها، فهي تمالئ الرئيس الأميركي ما دام يصطدم في رؤيته للعالم مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي، وتواصل في الوقت نفسه تمسكها بشروطها المعروفة للتسوية التي تتضمن اعتراف أوكرانيا والعالم بضمها القرم والمقاطعات الأوكرانية الشرقية، وتغيير وجهة النظام في كييف الذي تتهم قادته بـ”النازية الجديدة”.

سيحمل الوفد الروسي هذه المطالب إلى جولة مفاوضات مقررة هذا الأسبوع في تركيا وستقوم أنقرة بواجبها في استضافة الغريمين من دون أمل كبير في تسجيل اختراق، بينما تتصاعد لهجة الأوروبيين عن السماح لأوكرانيا باستعمال أسلحتهم ضد روسيا في أرضها وترد أوساط روسية بالتهديد بقصف برلين.

لن يكون كل ذلك مريحاً لترمب “صانع السلام” كما يود أن يسمي نفسه، بينما يواجه في أمكنة أخرى صعوبات مماثلة ومزيداً من الأطراف غير المطواعة. في غزة لم يتخطَّ الرئيس الأميركي الخط الذي رسمته إدارة سلفه بايدن، وهو إذ يكرر الحديث عن الاقتراب من صفقة لا تتحقق بين حركة “حماس” وإسرائيل، يوفر في مشاريعه الغريبة عن تهجير سكان القطاع إلى دول أخرى وإقامة “ريفييرا” فلسطينية على أرض غزة، أرضاً خصبة لاستمرار إسرائيل في حربها وقتلها وتجويعها اليومي للسكان الفلسطينيين ومبرراً أكثر من كافٍ لـ”حماس” ومثيلاتها لمواصلة القتال وحصد التصفيق في طهران.

لم يتم التوصل إلى اتفاق في غزة على رغم جهود ستيف ويتكوف وعلى رغم خط التفاوض الأميركي المباشر مع “حماس”، ومشروع الهدنة الأخير الذي يتضمن تبادلاً للأسرى عالق بين شروط طرفي القتال، فيما ترمب يعد بأخبار جيدة طوال الوقت.

في الأثناء سحب الرئيس الأميركي قواته من معركة تأديب الحوثيين، ودخل في التوقيت نفسه تقريباً في مفاوضات مع إيران أعلن أنه يهدف من خلالها إلى إنهاء البرنامج النووي الإيراني كلياً، لكن طهران تكرر إثر كل جولة من جولات تلك المفاوضات تمسكها بتخصيب اليورانيوم ويبدي مرشدها شكوكه في المفاوض الأميركي ويصب غضبه على إسرائيل، مهدداً للمرة المليون بإزالتها من الوجود. 

ومع ذلك لم يتراجع ترمب عن تفاؤله بقرب التوصل إلى اتفاق نووي جديد لا يكرر اتفاق أوباما، لكن لا بشائر فعلية سوى التصريحات المتفائلة يليها سيل الشكوك العارم. وفي المفاوضات النووية، كما في مفاوضات أوكرانيا وغزة، لا يكف ترمب عن إطلاق التعابير المفخمة عن صفقات “رائعة”.

“يجرب قوته” يقول معلق في صحيفة “يديعوت” الإسرائيلية. “كعادته يبحث عن إنجاز سريع، لامع ومبهر، عن صفقة القرن”، وعلى هذا النحو امتلأت الصحف والمحطات الإعلامية العالمية خلال مايو (أيار) الماضي بتصريحات من نوع إنهاء الحرب في غزة خلال أيام واقتراب سريع لاتفاق مع إيران وإنجاز لاتفاق ينهي حرب أوكرانيا “في غضون أسبوعين”، وهذان هما “أطول أسبوعين في التاريخ” كما لاحظ، بسخرية، مراسل “سي أن أن”.

وضمن جردة الحساب هذه، يحتل مصير الأوضاع في لبنان الذي تشرف على تثبيت وقف النار فيه بين “حزب الله” وإسرائيل، لجنة عسكرية بقيادة أميركية، مرتبة متقدمة في اهتمامات الإدارة “الترمبية”. وتعرف الإدارة أن هذا البلد لن يعود لحياته الطبيعية من دون كف يد التدخلات الإسرائيلية ونزع السلاح غير الشرعي من يد أنصار إيران وفصائل فلسطينية أخرى، وعلى رغم التغيير في الحكم، الحاصل في أعقاب حرب مدمرة، تتعثر خطوات إرساء سلطة الدولة من دون أن يبدي الرئيس الأميركي ضغطاً أو تحركاً كالذي يمارسه في مسائل حامية أخرى، وربما يعود ذلك للربط المحكم الذي تقيمه إسرائيل وأميركا بين “حزب الله” وإيران، مما يسمح بالاعتقاد بأن موضوع تحرير الدولة في لبنان من سطوة الميليشيات قد يكون جزءاً من مفاوضات الحل النهائي مع إيران.

في كل هذا المشهد المرتبك كان الاختراق البارز هو ذلك الذي سجله ترمب في المسألة السورية، مما يتيح اجتهادات متنوعة، فبطلب من السعودية وبمشاركة تركية، التقى ترمب الرئيس السوري أحمد الشرع وقرر رفع العقوبات عن سوريا. وفتحت تلك الخطوة الباب عريضاً أمام خروج البلاد من حال الحرب والحصار وعودتها للساحتين العربية والدولية، وكرست السلطات السورية الجديدة مسؤولة عن وحدة البلاد ومستقبلها، على أنقاض النظام البائد وحليفه الإيراني.

قد يصح القول إن استعادة العلاقات الأميركية- السورية شكلت الإنجاز الأهم الأكثر حيوية لمستقبل أوضاع المشرق بما في ذلك مستقبل لبنان والعراق الذي يستعد للانتخابات التشريعية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فسوريا التي كانت رأس جسر المشروع التوسعي الإيراني عبر العراق وامتداداً إلى لبنان وفلسطين والأردن، باتت في الموقع الاستراتيجي النقيض ويسهل ذلك عليها في المستقبل القريب القيام بدور إيجابي مؤثر تجاه لبنان والعراق والجيران الآخرين، وهي ستكون للمرة الأولى في صلب الجهود العربية التي لم تتوقف من أجل حل نهائي للقضية الفلسطينية على قاعدة حل الدولتين الذي ينهي مغامرات بنيامين نتنياهو و”حماس” والمرشد الإيراني، ويوفر على ترمب وعوداً في غير مكانها الصحيح.

والاختراق الأميركي في سوريا يلتقي جهوداً عربية حثيثة لإعادة الحياة لبنية عربية دولية تعيد ترتيب الحقائق ضمن أولوياتها الحقيقية وتوفر الأساس لبحث أميركي- عربي- دولي في شروط سلام دائم في المنطقة تحميه دولها الوطنية. وفي السياق قد يكون المؤتمر الدولي الذي تعمل عليه الرياض بالتعاون مع فرنسا من أجل تكريس حل الدولتين، هو الفرصة الجدية لجعل الزخم الذي يميز نهج ترمب مفيداً ومنتجاً لحلول تخدم سلاماً مستداماً وتضع حداً لمشاريع الاستغلال السياسي في شرق عانى ويعاني الكوارث منذ عقود.

——————————-

 واشنطن بوست: المقاتلون الأجانب التحدي الأكبر أمام الشرع بعد إسقاط الأسد

2025.06.01

سلط تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست الضوء على تحدٍ جديد يواجه الرئيس السوري، أحمد الشرع، يتمثل في وجود آلاف المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في الإطاحة بنظام بشار الأسد، والذين باتوا اليوم يشكّلون تهديداً محتملاً لاستقرار السلطة الجديدة في دمشق.

وبحسب التقرير، فإن عدداً من هؤلاء المقاتلين، المنحدرين من دول في أوروبا وآسيا الوسطى، ما يزالون ناشطين في سوريا، ويتمركز معظمهم في محافظة إدلب، وقد تم دمج بعضهم في مواقع أمنية حساسة داخل وزارة الدفاع.

ويواجه الشرع ضغوطاً من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لطرد هؤلاء المقاتلين كشرط لتخفيف العقوبات عن سوريا، في حين تحذّر أطراف دولية من خطر تحوّل بعض هؤلاء إلى مصدر لـ “الاضطراب الطائفي أو العنف المتجدد”.

ويستعرض التقرير شهادات لمقاتلين أجانب يعارضون النهج الجديد للسلطة السورية، ويتهمون الشرع بالتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا ضد “جماعات جهادية متشددة”، كما يبيّن محاولات الحكومة الانتقالية لاحتواء هؤلاء الأفراد عبر دمجهم في الجيش وإخضاعهم لرقابة مشددة.

وفي حين تشدد بعض العواصم الغربية على ضرورة إخراج من يُصنفون كـ “إرهابيين أجانب”، تشير الصحيفة إلى تعقيدات قانونية ولوجستية تحول دون ترحيلهم، لا سيما في ظل رفض دولهم الأصلية استقبالهم مجدداً.

يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بملف رفع العقوبات عن سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.

وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:

عندما دخل المتمردون السوريون دمشق منتصرين أواخر العام الماضي، كان زعيمهم المعارض أحمد الشرع يعتمد جزئياً على آلاف المقاتلين الأجانب للمساعدة في الإطاحة بدكتاتورية بشار الأسد.

وبعد ستة أشهر، أصبح الشرع رئيساً، واستمرار وجود هؤلاء المتشددين الإسلاميين أنفسهم – الذين جاؤوا من أماكن بعيدة مثل أوروبا وآسيا الوسطى للانضمام إلى الثورة – يمكن أن يشكل الآن تحدياً عميقاً لبقائه السياسي.

عيّن الشرع بعضاً منهم في مناصب عليا في وزارة الدفاع، وأشار إلى أن العديد من المقاتلين العاديين قد يحصلون على الجنسية السورية، لكن إدارة ترمب طالبت بطرد كل هؤلاء المقاتلين الأجانب كشرط لتخفيف العقوبات الأميركية التي أصابت الاقتصاد السوري بالشلل، فبعد وقت قصير من لقاء الرئيس دونالد ترمب بالشرع في السعودية هذا الشهر، غردت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارولين ليفيت قائلة إن ترمب حث الزعيم السوري الجديد على “إخبار جميع الإرهابيين الأجانب بالمغادرة”.

وعلاوة على ذلك، في حين يبدو أن الشرع عازم على إبقاء مجموعة من الحلفاء الأجانب حوله، فإن بعض هؤلاء المسلحين السنة المتشددين يخلقون بالفعل مشكلات له، ووفقاً لجماعات مراقبة، فإن بعض المقاتلين الذين شاركوا في هجوم قبل شهرين عبر البلدات الساحلية السورية، وأسفر عن مقتل المئات من أفراد الأقلية العلوية، كانوا من المسلحين الأجانب، وتهدد هذه التوترات الطائفية بزعزعة استقرار المرحلة الانتقالية الهشة في عهد الشرع.

وأكثر هؤلاء المقاتلين تشدداً يوجهون غضبهم بالفعل إلى الشرع، غاضبين من أن رفيقهم السابق في السلاح – الذي كان يُعرف منذ فترة طويلة بالاسم الحركي “أبو محمد الجولاني” – لم يفرض الشريعة الإسلامية بعد، ويُزعم أنه تعاون مع القوات الأميركية والتركية لاستهداف الفصائل المتطرفة، وقال أحد المتشددين الأوروبيين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لأنه تلقى أوامر بعدم التحدث، في مقابلة بمدينة إدلب شمالي سوريا: “الجولاني يهاجمنا من الأرض، وأميركا من السماء”.

صنع الحياة في سوريا

تدفّق عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق المجاور خلال العقدين الماضيين، وانضم كثير منهم إلى القتال ضد الأسد خلال الحرب الأهلية المستمرة منذ نحو 14 عاماً، انضم العديد من المقاتلين الأجانب إلى جماعات متطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية، في حين التحق آخرون بفصائل أقل تطرفاً، ويقدّر الباحثون أن هناك نحو 5000 منهم ما زالوا في سوريا، وقد تم دمج كثير منهم في المجتمعات المحلية، لا سيما في الركن الشمالي الغربي من البلاد، وتزوجوا من سوريات ولديهم أطفال نشأوا هناك.

قاتل الشرع نفسه كعضو في تنظيم القاعدة في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وأسس لاحقاً جبهة النصرة في سوريا، وعندما أعيدت تسمية الجماعة إلى “هيئة تحرير الشام” في عام 2017، قطعت علاقاتها مع تنظيم القاعدة وقمعت الفصائل الإسلامية الأخرى، وعززت سلطتها كقوة متمردة مهيمنة.

وفي حين يكافح الرئيس الجديد لتحقيق توازن دقيق، ورد أن الحكومة أمرت الأجانب بالبقاء في الظل وعدم التحدث، وفقاً لما ذكره محللون سياسيون ومقاتلون.

وفي ثلاث زيارات سابقة إلى سوريا منذ سقوط الأسد في كانون الأول/ديسمبر، التقى مراسلو صحيفة واشنطن بوست بمقاتلين أجانب في عدة مناطق من البلاد. ففي كانون الأول/ديسمبر، كانوا متمركزين على طول الطريق المؤدي إلى مدينة حماة وسط البلاد، وقام المقاتلون الأتراك بتأمين طريق على قمة تل إلى ضريح زين العابدين، حيث اندلعت أعنف المعارك، وتجول المسلحون العراقيون في المدينة كسائحين، وفي آذار/مارس، كان أحد المقاتلين من آسيا الوسطى يقود نقطة تفتيش تسد الطريق المؤدي إلى جبل قاسيون الشهير في دمشق، ثم، في أوائل أيار/مايو، اختفوا إلى حد كبير – على الأقل من نقاط التفتيش والشوارع في وسط وجنوب سوريا.

وقال جيروم دريفون، كبير المحللين في الجهاد والصراع الحديث في مجموعة الأزمات الدولية: “حاولت الحكومة عزلهم”، وأضاف: “لكن هناك مشكلة حقيقية في تنفيذ الطلب الأميركي. يقولون إن جميع الإرهابيين خرجوا، لكن هذا يثير السؤال: من هم الإرهابيون في هذه الحالة؟”. ولم تصنف الأمم المتحدة سوى عشرات من المقاتلين كإرهابيين، وفي كثير من الحالات لا تملك الحكومات المحلية سوى معلومات محدودة عن أنشطة رعاياها في سوريا، وعندما يقولون ‘اخرجوا’، فإلى أين؟” سأل دريفون. “بلدانهم لا تريدهم”.

حياة يومية في إدلب

اليوم، فإن غالبية المقاتلين الأجانب تحت راية “هيئة تحرير الشام”، أو الجماعة الإسلامية التي يرأسها الشرع، أو “الحزب الإسلامي التركستاني” المتحالف بشكل فضفاض، يعيش معظمهم في محافظة إدلب، المنطقة التي حكمتها “تحرير الشام” كدولة رديفة خلال السنوات الأخيرة من حكم الأسد.

وفي أحد الأيام الأخيرة في إدلب، كان الرجال يتجولون في الشوارع المزدحمة على دراجات نارية لشراء الخبز والبقالة، ويتوجهون في مجموعات إلى المساجد عند سماع الأذان، بدا أن العديد منهم من آسيا الوسطى، وارتدى بعضهم ملابس رسمية، وبعضهم الآخر ملابس مدنية، وأصر أولئك الذين قبلوا إجراء مقابلات على درجة من عدم الكشف عن هويتهم، بسبب الأوامر بتجنب وسائل الإعلام.

وقال مقاتل فرنسي يُدعى مصطفى، إنه سافر من باريس للانضمام إلى القتال ضد قوات الأسد عام 2013، أولاً مع فصيل صغير يتكون في الغالب من المصريين والفرنسيين، ولاحقاً مع جبهة النصرة، النسخة السابقة من “تحرير الشام” التي كانت آنذاك مرتبطة بتنظيم القاعدة.

وفي محل حلاقة واجهته زجاجية في وسط إدلب، قال الحلاق محمد كردي (35 عاماً): “دائماً أبدأ مواعيدي بالسؤال عن مكان الزبون”، مضيفاً: “كان هناك أشخاص من بيلاروسيا والشيشان وأوزبكستان وأماكن أخرى”، وأوضح: “في بعض الأحيان، كنت أسأل عن الزبائن الذين توقفوا عن المجيء، ثم نكتشف أنهم قُتلوا”.

ويقول خبراء يراقبون الجماعات الإسلامية إن المقاتلين أصبحوا عموماً أقل تطرفاً مع مرور الوقت، رغم أنهم لا يزالون محافظين بشدة، وقالت أروى عجوب، طالبة الدكتوراه في جامعة مالمو: “الغالبية العظمى من الذين بقوا تحت قيادة تحرير الشام حتى تقدموا إلى دمشق، تم استيعابهم واحتواؤهم بطريقة أو بأخرى”.

لم يرغب أي من المقاتلين الذين أجريت معهم المقابلات في مغادرة سوريا، مشيرين إلى احتمال اعتقالهم أو حتى إعدامهم في بلدانهم الأصلية، وقال المقاتل الفرنسي مصطفى: “أنا مطلوب في معظم الدول الأوروبية”، وأضاف آخر: “ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه”.

ضغط من المتشددين

في حين عبّر معظم الذين أُجريت معهم المقابلات عن دعمهم لتطبيق الشريعة الإسلامية تدريجياً، إلا أن مجموعة صغيرة من المتشددين بدأت تفقد صبرها، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، انتقد رجال السلطات الجديدة واصفين إياها بأنها غير إسلامية، لعدم تطبيقها الشريعة، ولعقدها لقاءات مع قادة غربيين يعارضونهم أيديولوجياً.

وقال رجل الدين الكويتي علي أبو الحسن، وهو مسؤول ديني سابق في جبهة النصرة، على قناته على تلغرام هذا الشهر: “أصبح المهاجرون عبئاً على الجولاني بعد أن كانوا قوته”، مضيفاً: “سيتخلص منهم بمجرد أن يؤمن بديلاً”.

ويزيد من سخط المتشددين اعتقادهم بأن الشرع تعاون مع الولايات المتحدة وتركيا في استهداف خلايا تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة عبر ضربات جوية، في حين يسعى لتعزيز سيطرة “تحرير الشام”، أولاً في إدلب ثم في دمشق. وقال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في كانون الأول/ديسمبر: “لقد ساعدونا كثيراً”، وأضاف: “على مر السنين تعاونوا معنا في توفير المعلومات الاستخباراتية”. وفي الشهر التالي، ذكرت واشنطن بوست أن الحكومة السورية الجديدة استخدمت معلومات استخباراتية أميركية للمساعدة في إحباط مؤامرة لتنظيم الدولة الإسلامية لمهاجمة ضريح ديني شيعي قرب دمشق.

وقال برودريك ماكدونالد، زميل مشارك في برنامج أبحاث XCEPT في كينغز كوليدج لندن: “نرى منشورات تقول إن الصبر بدأ ينفد. بعضهم يتحدث عن استعداده لمحاربة طاغية جديد”، وأضاف: “إنهم ينظرون إلى الوضع ويسألون: هل هذا ما قاتلنا من أجله طوال 14 عاماً؟”.

وفي مسجد في إدلب، وصف مقاتل أوروبي من فصيل “حراس الدين” المنحل الشرع بأنه عدو بقدر ما هو عدو للولايات المتحدة، وقال: “إنهم يعطون إحداثياتنا للأميركيين لقصفنا”.

الشريعة لتحقيق التوازن

حالياً، تشعر الحكومة بالقلق من أن يُنظر إليها على أنها تستهدف المقاتلين الذين بقوا موالين لها أو تثير غضب المتشددين المحبطين، وقال دريفون: “إنها لا تريد أن تخونهم، لأنها لا تعرف في النهاية ما الذي سيفعلونه”، وأضاف: “قد يختفون، قد ينضمون إلى جماعات أخرى، قد يبدأون بالعنف الطائفي، وقد تسوء الأمور”.

وبدلاً من ذلك، تحاول السلطات وضع مبادئ توجيهية واضحة للسلوك المتوقع من الأجانب: تجنب التحريض على العنف الطائفي أو السياسي، والامتناع عن الدعوة إلى شن هجمات على دول أخرى، كما تسعى حكومة الشرع إلى دمج معظم المقاتلين الأجانب في الجيش الجديد للبلاد، وقال دريفون: “الفكرة هي وضعهم في هيكل عسكري، ومن الأسهل السيطرة عليهم بهذه الطريقة”، لكنه أشار إلى أن التقدم كان بطيئاً.

وقد عيّن الشرع بالفعل ستة أجانب في مناصب عليا في وزارة الدفاع – وهي خطوة قال خبراء إنها تهدف إلى عزله ضد الانقلابات المحتملة من خلال وضع المناصب الأمنية، بما في ذلك قيادة الحرس الرئاسي، في أيدي موالين أجانب لا يملكون قاعدة سلطة مستقلة، لكن هذه التعيينات أثارت جدلاً كبيراً، سواء بين السوريين أو في العواصم الغربية.

وفي رسالة إلى الإدارة الأميركية قبل أسابيع من زيارة ترمب إلى السعودية، قالت حكومة الشرع إنها أوقفت منح الرتب العسكرية العليا للمواطنين الأجانب، لكنها لم توضح ما إذا كانت الترقيات السابقة قد أُلغيت، حسبما ذكرت وكالة رويترز.

وأشاد المبعوث الأميركي الخاص المعيّن حديثاً إلى سوريا، توماس باراك، بحكومة الشرع في بيان صدر في 24 أيار/مايو، لاتخاذها “خطوات ذات مغزى” بشأن قضية المقاتلين الأجانب، من دون تقديم مزيد من التفاصيل.

وقال ماكدونالد عن الشرع: “لقد مشى على هذا الخط لفترة طويلة لتحقيق توازن بين دوائره الانتخابية”، وأضاف: “هذا هو الاختبار الكبير الآن”.

المصدر: The Washington Post

تلفزيون سوريا

————————————–

واشنطن خارج التعقيدات السورية/ مازن بلال

26/05/2025

ما طرحه السفير الأمريكي في تركيا، توم باراك، عن سوريا يشكل الحلقة المفرغة الجديدة في سياسة واشنطن تجاه المنطقة، فبعد تعيينه مبعوثاً أمريكياً إلى سوريا ولقائه رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع في تركيا؛ ظهرت تصريحاته لتكشف أن المقاربات التي قدمها تحمل “أحلاماً” لا تصورات سياسية، وعلى الرغم من أن تقسيم المنطقة يشكل وتراً حساساً للسوريين من “سايكس-بيكو”، لكن السفير الأمريكي شطب الحقبة السياسية ونتائج الحروب وحتى نفوذ تركيا الحالي في المنطقة.

التصريحات التي ساقها تلامس اليوم السياسات التركية، فمسألة “سايكس-بيكو” هي ترميز لمرحلة الضعف التركي، ولانحسار الدور العثماني في المشرق، والعودة إليها اليوم يعبر تعبيراً واضحاً عن توجه لإعادة ذلك الدور وبآليات جديدة، فتعقيدات المنطقة لم تبدأ بالصراع الفرنسي-البريطاني على المنطقة إنما بتحول الميزان الدولي منذ الثورة الصناعية الذي جعل الدولة العثمانية تتحول تحولاً بطيئاً نحو الانكفاء.

عملياً فإن الانفتاح الأمريكي على دمشق تم بوساطة الرياض، لكنه يتأسس في أنقرة بوصفها دولة محورية في النظام الإقليمي، والمسألة السورية بكامل أوراقها أصبحت وبإرادة أمريكية ضمن مهام الخارجية التركية، وهذا الأمر كان واضحاً في زيارة الرئيس الشرع تركيا ولقائه “باراك” بدلاً من أن يبدأ المبعوث الأمريكي مهمته بزيارة دمشق، فنحن أمام عاملين أساسيين:

الأول أن تركيا لا تملك فقط “سماحاً” أمريكياً بالتحرك في سوريا؛ بل أصبحت “البوابة الإقليمية” للمسألة السورية، وهو أمر كان متوقعاً ولكنه اليوم يُؤسس من جديد بجهد دبلوماسي ترعاه واشنطن.

من الصعب فهم الدور التركي الحالي من دون مسألة “التهدئة” السورية-“الإسرائيلية”، فمهام أنقرة لا تتعلق بترتيب البيت السوري بالداخل؛ بل بالمساعدة في بناء “دولة محايدة” أيضاً، وبصرف النظر عن نجاحها أو فشلها في هذا الموضوع، لكن العلاقات الأمنية والعسكرية كافة تؤشر على أن أنقرة تعمل لإيجاد “منظومة” تعاون ثلاثية مع سوريا و”إسرائيل” لاستيعاب ثمانية عقود من الصراع.

العامل الثاني يرتبط بالسوريين الأكراد، فالمشروع السياسي السوري المطروح المرتبط بالفيدرالية لم يفقد موقعه، لكنه أصبح في مساحة دور أنقرة المركزي لا دمشق، وأي حلول لشمال سوريا الشرقي باتت مرتبطة بعلاقة تركيا مع التشكيلات الكردية التركية.

سيختلف وضع السوريين الأكراد عن الحالة السياسية في إقليم كردستان العراق، فمن الصعب إيجاد معادلة سياسية شبيهة لما حدث في العراق في ظل الدور التركي الحالي، أو حتى في مساحة العمل الكردي في سوريا نتيجة حساسية أنقرة تجاه التشكيلات الموجودة في الجزيرة السورية، وهي أوجدت حزاماً أمنياً ضيقاً عند حدودها مع سوريا؛ يشكل مشروعاً للحد من أي حالة لا تتوافق مع دورها الإقليمي.

المبعوث الأمريكي إلى سوريا وفي منصة “إكس” كشف بطريقة غير مباشرة عن اهتمام أمريكي هامشي لأبعد الحدود بالشأن السوري، فتركيا، لا العرب الذين سعوا إلى رفع العقوبات عن سوريا، هي من ستتولى ترتيب الأمن الإقليمي من البوابة السورية، وهي أيضاً ستتحرك بنفوذها لتحريك مسارات السلام والتطبيع مع “إسرائيل”.

—————————-

ترمب… «تحولات جذرية» تجاه سوريا وقضايا الشرق الأوسط/ إيلي يوسف

مصادر أكدت أن الدور السعودي كبير… وواشنطن اختارت «التحقق أولاً»

31 مايو 2025 م

يُجمع الكثير من المراقبين والمسؤولين السابقين والحاليين في الولايات المتحدة، على أن قرار إدارة الرئيس دونالد ترمب رفع العقوبات عن سوريا يُعدّ تغييراً جذرياً في السياسة الأميركية تجاه هذا البلد، الذي لطالما صنفته أميركا «دولة مُعادية». ولكن، يذكر مسؤولون في إدارة ترمب أنهم انخرطوا في اتصالات هادئة منذ أشهر «لتمهيد طريق» تخفيف العقوبات لمساعدة سوريا على التعافي من سنوات الحرب المدمرة وإعادة الإعمار. بيد أن لقاء ترمب بالرئيس السوري أحمد الشرع خلال زيارته للسعودية، كان استثنائياً؛ نظراً لتصنيف الشرع إرهابياً سابقاً، وفق ماثيو ليفيت، كبير الباحثين في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، الذي أبلغ «الشرق الأوسط» أن تعامل المسؤولين الأميركيين مع مثل هذه الشخصيات «ليس بالأمر الجديد»، والمسألة الحقيقية ليست «من كان جهادياً مرة سيبقى جهادياً إلى الأبد»، بل ما إذا كان لدى واشنطن أي أسس للثقة بهذه الشخصية مستقبلاً.

خطوات واشنطن المفاجئة إزاء دمشق تجسّد أسلوب الرئيس الأميركي دونالد ترمب في إحداث تغيير لم يكن ليحصل مع إدارات أميركية سابقة، ما تجاوز ما كان يُرجح أن يكون عملية صنع سياسات طويلة ومملة.

من جهة ثانية، شهد الأسبوع الماضي تطورات، عدَّها البعض إشارات إلى أن العلاقات الأميركية – السورية تتجه لفتح صفحة جديدة. وهذا ما تطرق إليه وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، بعد قرار رفع العقوبات عن سوريا، بقوله: «تُمثّل إجراءات اليوم الخطوة الأولى في تحقيق رؤية الرئيس لعلاقة جديدة بين سوريا والولايات المتحدة».

وفي ظل نظرة أميركية أكثر شمولاً تجاه المنطقة، عُدّ موقف توم برّاك، السفير الأميركي لدى تركيا – الذي عيّنه ترمب مبعوثاً خاصاً لسوريا – بعدما التقى الرئيس الشرع، وكذلك اللقاء «الأمني» الأول «المباشر» بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، تطوّرين مهمين يعكسان التزاماً بشروط الإدارة الأميركية في إنجاح مسار العلاقات الجديدة بين واشنطن ودمشق، وانعكاسه على التوازن الداخلي في سوريا.

واقعياً، منذ سقوط نظام الأسد، ساور القلق كثرة من السوريين ومتابعي الشأن السوري من أن واشنطن قد لا ترفع عقوباتها أبداً. إذ فرضت عقوبات على سوريا لأول مرة عام 1979، عندما صنّفت نظامها «دولة راعية للإرهاب»؛ ما أدى إلى حظر مبيعات الأسلحة وقيود أخرى على الصادرات إلى البلاد.

ومنذ بداية الألفية الثانية، فرض الكونغرس عقوبات إضافية، تصاعدت بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 2011. كما صُنّفت جماعات مسلحة في سوريا، بعضها ممثل الآن في الحكومة الانتقالية الجديدة، على أنها «إرهابية»، ما يبقيها عملياً خاضعة للعقوبات. وأدت هذه الإجراءات مجتمعة إلى عزل سوريا إلى حد كبير عن التجارة والاستثمار الدوليين، وشكلت عائقاً رئيساً أمام تعافيها الاقتصادي.

خطأ «سايكس – بيكو»

من جهته، كتب السفير برّاك على منصة «إكس» قائلاً: «إنه قبل قرن من الزمان، فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدوداً وحكماً أجنبياً». وأردف إن «اتفاقية سايكس – بيكو قسّمت سوريا والمنطقة الأوسع، لتحقيق مصالح إمبريالية، لا من أجل السلام». وتابع أن مأساة سوريا وُلدت من الانقسام، ويجب أن «تُبعث» مجدداً عبر الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها.

برّاك استطرد أنه «مع سقوط نظام الأسد، أصبح الباب مفتوحاً للسلام، ومن خلال رفع العقوبات، سُيمَكّن الشعب السوري من فتح ذلك الباب أخيراً، واكتشاف طريق نحو الازدهار والأمن من جديد». وأكد أن «المستقبل ينتمي إلى الحلول الإقليمية، إلى الشراكات، وإلى دبلوماسية تقوم على الاحترام… ونحن نقف إلى جانب تركيا ودول الخليج وأوروبا، ليس هذه المرة عبر الجنود والمحاضرات أو الحدود الوهمية، بل جنباً إلى جنب مع الشعب السوري نفسه».

في المقابل، رأى ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأسبق لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترمب الأولى، تصريحات برّاك «غريبة بعض الشيء، فبينما وُجّه انتقادات كثيرة لاتفاقية سايكس – بيكو، فإن الاتفاقية، وإن شابها بعض العيوب، كانت تهدف إلى تنظيم الفوضى التي خلّفتها الإمبراطورية العثمانية التي حكمت جزءاً كبيراً من المنطقة لأكثر من نصف ألفية».

وأضاف في حوار مع «الشرق الأوسط» أن «أي حلٍّ كان سيُفضي إلى فوضى عارمة، وفي غضون ذلك أسست تلك الاتفاقية الأردن ولبنان والعراق. وبالنسبة لدارس التاريخ، قد يُفهم تصريح برّاك خطأ على أنه دعوة إلى عودة (سوريا الكبرى)». ومع ذلك، يقول شينكر، إن العنصر الآخر في تصريحه «أقل غرابة»؛ إذ يدعو إلى تقليص التدخل الغربي في المنطقة وتبني حلول محلية أكثر، وهذا موقفٌ يدعمه ترمب في ولايته الثانية.

وهنا لا بد من ذكر أنه عندما التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ترمب في واشنطن في أبريل (نيسان)، طلب منه ألا يرفع العقوبات عن سوريا، قائلاً إنه يخشى أن يؤدي ذلك إلى تكرار أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. لكن ترمب أقرّ في ختام جولته في الشرق الأوسط، بأنه «لم يسأل» إسرائيل عن تخفيف العقوبات عن سوريا، وتابع: «اعتقدت أن هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله».

هل تراجع الضغط على الشرع؟

شينكر يرى أنه بعد تعليق العقوبات، تناقص الضغط المباشر على الشرع لتلبية طلبات واشنطن، وعلى الرغم من الاتفاقية الموقعة مع «قوات سوريا الديمقراطية»، سيصعب على الشرع إقناع الأكراد السوريين بالاندماج ونزع السلاح إذا واصلت حكومته تعيين رجال الميليشيات السابقين، خاصة أن واشنطن تصنّف بعضهم إرهابيين ومتورّطين في حروب ضد الأكراد للسيطرة على مناطقهم.

وهكذا، بفضل الدور الذي لعبه هؤلاء في إزاحة الأسد، سيصعب على الشرع تهميشهم، وفي المقابل إذا ظل هؤلاء يحتلون مناصب رئيسة في الحكومة والجيش سيقوض ذلك ثقة السوريين والمجتمع الدولي.

وبالنسبة للعلاقة مع إسرائيل، لفت شينكر إلى أن الشرع «قال إن لا مشكلة لديه معها ولا يريد قتالها». وأضاف: «أعتقد أن الاجتماعات بينهما مهمة لبدء بناء بعض الثقة، وتجنّب سوء الفهم في المستقبل، وهو يدرك أن وجود علاقات أكثر طبيعية مع إسرائيل وحدود هادئة سيساعد سوريا على تطوير اقتصادها، ويبدو أن هذه هي أولويته… لكن تكفير أبو محمد المقدسي للشرع لن يساعد على ذلك».

الباحث ماثيو ليفيت، من جانبه، يرى أن بقاء المقاتلين الموضوعين أميركياً على قوائم الإرهاب، والذين يشكلون جزءاً من الجيش السوري الجديد، «مصدر قلق بالغ دفع إدارة ترمب إلى طلب إقالتهم من مناصبهم». مع ذلك، يرى ليفيت أن حكومة الشرع «اتخذت خطواتٍ بناءة مفاجئة»، مثل وقف نقل الأسلحة إلى (حزب الله)، وطرد القوات الإيرانية، واتخاذ إجراءات ضد داعش بناءً على معلومات استخباراتية أميركية.

وتابع ليفيت، أنه «مع رفع العقوبات سيُمكّن هذا من استئناف النشاط الاقتصادي الكامل في سوريا مع الحفاظ على النفوذ الأميركي على الشرع لضمان وفائه بالتزاماته». و«للحفاظ على نفوذها على دمشق، تمتلك واشنطن أداتين رئيستين: إعادة تفعيل العقوبات الاقتصادية، والحفاظ على وجود عسكري أميركي محدود على الأرض». ويختم: «باختصار، يبدو أن واشنطن اختارت نهج التحقق بدلاً من الثقة مع التحقق».

خطوات بناءة للرئيس السوري

على صعيد آخر، قال بسام بربندي، الدبلوماسي السوري السابق في واشنطن، لـ«الشرق الأوسط» إن تعيين السفير توم برّاك «يدل من ناحية على أهمية تركيا، وأيضاً على أهمية الشراكات مع دول الخليج لإيجاد الاستقرار في سوريا». وأضاف: «برّاك لا ينتمي إلى المنظومة السياسية الأميركية التقليدية، وتعكس آراؤه ابتعاداً عن طريقة تفكيرها. وبالتالي، فإن قربه من ترمب سيساعد على حل المشاكل بشكل مباشر».

مؤشرات على «لا مركزية» إدارية

وحول علاقة الحكومة الجديدة مع الأكراد والموحّدين الدروز والعلويين وباقي المكوّنات السورية، يرى بربندي أنها «ستُحل ضمن الإطار السوري، وثمة مؤشرات على نيل كلٍّ من هذه المكوّنات (حكماً إدارياً لا مركزياً)، وهو ما قد يحصل في كل سوريا. ولكن لن يكون هناك انفصال ولا فصائل خارج سيطرة دمشق ولا إدارة سياسية تخالف أو تناوئ الحكومة».

ثم يوضح: «مناورة الأكراد محدودة بسبب قرب الانسحاب الأميركي، الذي يترافق مع ضغوط مستمرة لإيجاد معادلة جديدة تعكس الاستقرار والتنوع السوري في الحكم، وضمان عدم اندلاع اقتتال داخلي». أما عن الاجتماعات السورية – الإسرائيلية، فيقول بربندي إنها ليست جديدة؛ إذ عقدت اجتماعات سابقة في دبي وفي أذربيجان، منها كان بحضور تركي ومنها كان مباشراً. وبالتالي، ومع أن الاجتماع الأخير كان طابعه «أمنياً»، فهو يمهد لشيء أكبر لتوقيع اتفاقية سلام كما يريد الرئيس ترمب.

دور كبير للسعودية

وفي سياق موازٍ، أبلغ الدكتور مرهف إبراهيم، رئيس رابطة العلويين في الولايات المتحدة، «الشرق الأوسط» بأنه على الرغم من أهمية الاختيار الموفق للسفير برّاك مبعوثاً خاصاً لسوريا، وفهمه المنطقة وطبيعتها بشكل جيد، «لا بد من الإشارة إلى الدور الكبير الذي لعبته المملكة العربية السعودية، خاصة في مسألة رفع العقوبات عن سوريا». وأردف إبراهيم أنه «في ظل علاقة برّاك الخاصة بالرئيس ترمب نأمل أن يستمر ويتعمق هذا الدور بحيث تكون كما كانت دائماً إلى جانب السوريين بجميع أطيافهم لتجاوز هذه المرحلة الانتقالية الصعبة نحو صيغة حكم رشيد توافقية مع جميع المكوّنات في سوريا».

وعن تصريحات بّراك بشأن رؤيته لخريطة المشرق العربي، اعتبرها إبراهيم أنها «تشجّع على توقّع دفع واشنطن باتجاه بناء نظام سياسي تعدّدي ديمقراطي لا مركزي يحترم حقوق السوريين، والتعلم من تجارب الماضي أن بناء أنظمة سلطوية مركزية قمعية سيؤدي إلى انفجار وحروب أهلية، كما حصل مع النظام البائد». وأضاف: «نتفق بشكل كامل مع رؤية السفير برّاك، بأن التكاتف والشراكة القائمة على الاحترام يجب أن تكون حجر أساس، ليس فقط بين دول المنطقة وسوريا، بل وبين المكونات السورية أيضاً، وأنه لا مكان للتطرف وعمليات التهجير والتطهير العرقي، ولا يمكن أن يفلت مرتكبو هذه الجرائم من العقاب أو أن يكون لهم أي دور في سوريا الجديدة».

هذا، ورأى إبراهيم أن لدى واشنطن والرياض «القدرة على التأثير بشكل إيجابي وكبير في المرحلة الانتقالية، لصياغة نظام سياسي يحترم جميع المكوّنات، ويبتعد عن فكرة القمع والإخضاع بالقوة العسكرية لأي فئة أو مكوّن، والتأكيد على أن رفع العقوبات والعمل مع الحكومة الحالية ليس ضوءاً أخضر، بل فرصة نادرة للعمل مع الولايات المتحدة والشركاء الإقليميين لبناء نظام مستقر يحترم حقوق الجميع ويراعي مخاوفهم المشروعة».

رفع العقوبات ليس كافياً لإنقاذ سوريا من «حافة الهاوية»

أعلنت فرنسا، الأربعاء، أن الاتحاد الأوروبي سيرفع المزيد من العقوبات عن سوريا لإعادة إطلاق اقتصادها، بعدما شاهد بالفعل التقدم على صعيد الانتقال الديمقراطي. لكن تقريراً في مجلة «فورين أفيرز» يقول إن حاجات سوريا ملحة، وقد لا يكون رفع العقوبات الأميركية والأوروبية كافياً لبدء رحلة التعافي وإنقاذها من «حافة الهاوية». إذ يعيش أكثر من 90 في المائة من السوريين تحت خط الفقر، ويحتاج 70 في المائة منهم إلى مساعدات إنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية. وفي ظل المعدل الحالي للنمو، سيستغرق الاقتصاد السوري حتى عام 2080 على الأقل، للوصول إلى الناتج المحلي الإجمالي الذي كان عليه قبل بدء الحرب الأهلية في عام 2011. ومع أن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع وعد بحماية الأقليات في سوريا، فإن تفاقم الظروف الاقتصادية المزرية بسبب العنف والتوترات الطائفية التي اندلعت، لم يقنع تلك الأقليات. وأدى التدخل الخارجي، بضمنه إسرائيل، التي شنت أكثر من 700 غارة على سوريا واستولت على أراضٍ سورية، إلى تعميق اللااستقرار. من جهة ثانية، يرى التقرير أن قرار ترمب المفاجئ بشأن العقوبات هو القرار الصائب، وقد يساعد سوريا على مواجهة تحدياتها الحالية بعدما فتح سقوط نظام الأسد الباب أمام مستقبل أفضل للسوريين وللمنطقة. مع ذلك، يرى التقرير أن رفع العقوبات ليس كافياً لإبعاد سوريا عن حافة الهاوية، وستحتاج الولايات المتحدة وباقي شركاء سوريا الآن إلى إزالة العقبات المتبقية أمام الاستقرار والتعافي الاقتصادي، عبر رفع نهائي للعقوبات وبسرعة، بدلاً من ترك الضغوط الداخلية والتنافسات الإقليمية تتسبب في انهيار البلاد. كذلك، يرى أن العقوبات ليست العقبة الوحيدة التي تُهدد بزعزعة استقرار سوريا؛ إذ برزت منافسةٌ لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية في هذا البلد المُنهك، وإسرائيل من أبرز اللاعبين السلبيين. ومع تصاعد دور تركيا في سوريا، يُعدّ الصدام الإسرائيلي التركي فيها احتمالاً مُقلقاً، لكن من المُرجّح أن واشنطن دفعت إسرائيل بالفعل إلى التراجع عبر التواصل مع السلطات السورية المؤقتة ودول الخليج وتركيا نفسها. وأيضاً يمكن لاستمرار الدبلوماسية الأميركية المساعدة في منع تحوّل سوريا مرة أخرى ساحة للتنافسات الإقليمية. وختاماً، يؤكد التقرير على ضرورة الحكم الرشيد؛ لأن سوريا محاطة بنماذج تحذيرية عن سوء الإدارة بعد الصراع، إذ ترسخ الفساد في العراق إبان عملية إعادة الإعمار التي أعقبت الغزو الأميركي عام 2003، وفي لبنان بعد نهاية الحرب الأهلية (1975 – 1990). وتراكمت ثروات حفنة من السياسيين ورجال الأعمال على حساب الخدمات الأساسية والتنمية الاقتصادية لشرائح أوسع من السكان. وأدى فشل الحكومات الانتقالية في تطوير اقتصادات متكاملة إلى تنامي الصراع الطائفي، وترك فراغات تملأها جهات فاعلة غير حكومية.

———————–

العسكريتاريا السورية والتحول الاقتصادي/ عمر قدور

الثلاثاء 2025/06/03

ارتفعت مؤشرات التفاؤل الخاصة بالاقتصاد السوري مؤخراً، فتعليق العقوبات سمح بالحديث عن دخول مساعدات ورؤوس أموال ضخمة لتحريك عجلته. الأوساط المقرَّبة من الحكومة تنشر مؤشرات متفائلة، والمناخ العام متلهّف لاستقبال هذه الأخبار، حتى من دون البحث في تفاصيل الصفقات التي أُعلن عنها في الأسابيع الأخيرة مع جهات خارجية.

الخلاص من الحضيض الاقتصادي الذي وصل إليه البلد هو بمثابة مطلب للغالبية الساحقة، بصرف النظر عن تباين التوجهات السياسية. والإقرار بأن التحوّل الاقتصادي لا بد آتٍ منتشر بين الغالبية، بصرف النظر عن عدم الاتفاق على قضايا الخصخصة، وتحديداً في قطاعات خدمية حيوية مثل الكهرباء. الأمر شبيه بأولوية إسعاف المريض الذي يحتاج أجهزة إنعاش، وبعد إنقاذه يمكن البحث في سجله الصحي العام.

الهاجس الملحّ الذي ينافس الهاجس الاقتصادي هو المتعلق بالأمن. وكان العديد من مسؤولي السلطة قد ربط تحسّن الجانب الأمني برفع العقوبات وتحسّن الأوضاع الاقتصادية. لكن هذا الربط، الصحيح مبدئياً، يحتمل وجوهاً عديدة من التأويل، بل وجوهاً متناقضة. ولعل التفسير الأقرب هو في الشكوى من شحّ الأموال، ما يمنع بناء أجهزة أمنية متطورة، وهو التفسير الذي يمنح الجيش وقوات الأمن أولوية من حيث التمويل، تضاهي ما تبدو أنها أولوية للاستقرار.

الربط التلقائي السابق جرّبته سوريا، من خلال إعطاء أولوية للإنفاق العسكري بذريعة التصدي لإسرائيل، ومن خلال إعطاء أولوية (غير معلنة دائماً) لأجهزة الأمن من أجل تحقيق الأمن السياسي للسلطة. في الشق الاقتصادي للعسكرة، الحديث هنا عن تضخم قُدِّر في بعض السنوات بأنه تجاوز 400 ألف عنصر، هم قوام أجهزة الجيش والشرطة والمخابرات، مع كل تبعات هذا الرقم على الاقتصاد الحكومي، وبما له من دلالات اقتصادية واجتماعية أوسع، فضلاً عن دلالته على نوعية السلطة.

بدءاً من عام 2012، يجوز القول أن اقتصاد العسكرة بات هو الأكثر شيوعاً وسيطرة في عموم الأراضي السورية. فالمناطق التي كان يسيطر عليها الأسد فرغت تدريجياً من النشاط الاقتصادي المعتاد، والتحق الشباب إما بالقوات النظامية أو بقوات الشبيحة، أو بالميليشيات الإيرانية. أما مناطق سيطرة المعارضة فقد عانى معظمها من حصار كلي أو جزئي يمنع النشاط الاقتصادي المعتاد، لتكون الكتلة المالية الأكبر بحوزة الفصائل التي تحصل على تمويل ورعاية خارجيين. هذا الوضع أدّى بالكثير من الشباب إلى التطوع لقاء راتب بوصفه الخيار المتاح، وشبه الوحيد في العديد من الأحيان.

في الحصيلة، كان البلد بأكمله يعتمد على مساعدات خارجية مقترنة بالعسكرة، وإلى جوارها أنشطة ربحية غير مشروعة، منها ما هو مرتبط بالسيطرة على المعابر الداخلية، ومنها ما يتعلق بنشاطات جرمية عابرة للحدود. باستثناء قوات الأسد وشبيحته، بقيت الفصائل الأخرى تحت مظلة وزارة الدفاع، وتم تطويع دفعات جديدة من المنتسبين إلى الجيش والشرطة، ولا تُعرف بعدُ نوايا السلطة الخاصة بالشأنين العسكري والأمني، لجهة السقف المستهدف من عدد المنتسبين.

السيناريو الأفضل للحالة السورية يتعيّن بتحوّل الكتلة الكبيرة من المنخرطين في العسكرة إلى أنشطة إنتاجية حقيقية، فهذه النقلة (على المدى المتوسط والبعيد) هي التي ستفكك الدور الحاسم للعسكر في الشؤون الداخلية. مدنية الدولة، في الحالة السورية، لا تأتي فقط بتحييد الجيش والمخابرات عن السلطة. المدخل إليها اقتصادي، إذا فُتحت أمام الأعداد الضخمة من الشباب أبواب العيش الطبيعي، متضمناً الحصول على دخل يُغني عن التطوّع في الجيش والمخابرات.

الخيار الاقتصادي للسلطة مرتبط أيضاً بنواياها، فالتحوّل إلى اقتصاد السوق الحر بالمعنى الليبرالي الكلاسيكي سيتضمن مع الوقت ابتعاداً عن العسكرة، لأن الشرائح الأوسع المدفوعة بالهمّ المعيشي ستبحث عن فرص العمل في اقتصاد ناهض بعد الحرب. كان هذا التحول مما لا يريده العهد البائد بنسختَي الأب والابن، إدراكاً منهما لكون إفلات الاقتصاد سيؤدي إلى تقويض العسكرة كجوهر للسلطة الحاكمة. الخصخصة الجزئية التي قام بها الابن، وقوانين الاستثمار، كانت غطاء لسيطرته مع مجموعة من المحاسيب على الاقتصاد، وليست إطلاقاً على سبيل تحريره من قبضة السلطة.

طبيعة الاستثمار في العسكرة والأمن، وطبيعة التحول الاقتصادي المقبل، هما مؤشّران متكاملان على توجه السلطة. فالاستثمار المفرط في العسكرة يؤشّر، كما في كل التجارب المماثلة، للتحوّل إلى اقتصاد ممسكوك رغم أنه لا يعتمد على القطاع العام، وقد يكون مزيجاً من رأسمالية الدولة ورأسمالية متحالفة مع السلطة، لا منفصلة عنها وحُرّة تالياً على صعيد التنافس الاقتصادي وعلى الصعيد السياسي.

نظرياً، تتمثّل المعضلة السورية في الحاجة إلى الاستثمار في المجال الأمني، من أجل ضبط السلم الأهلي، وفي تغليب الحاجة الراهنة على دور التحول الاقتصادي (البطيء) في تعزيز السلم والأمان المجتمعيين. وإغراء العسكرة يبقى وارداً، بحيث يستمر وجودها كعائق أمام الليبرالية السياسية، ما يقتضي ترجيحها على التحول السياسي الديموقراطي.

ما يبدو تناقضاً، بين استحقاق مستعجل وآخر أقل إلحاحاً، يجد حلّه في النظر إلى بعض الجوانب الأمنية من زاوية تعبيرها عن أوضاع اقتصادية متردية، في حين يعبّر بعض آخر منها عن غياب الحياة السياسية منذ عقود. إشراك المجتمع في ملف السلم الأهلي من شأنه توفير أعباء الاستثمار في العسكرة والأمن، ومن شأنه توجيه رسالة مغايرة تنفي الرغبة في احتكار السلطة. والأمر، هنا كما في ملفات أخرى، لا يقتضي إنجازات سريعة أو سحرية غير ممكنة بطبيعة الحال، بل القيام بخطوات متكاملة توحي بالثقة. وأن يُنفق جزء من المبالغ على الدور الاجتماعي للدولة، بدل إنفاقه على العسكر والمخابرات، فهذا على سبيل المثال يصنع أمناً اجتماعياً مستداماً، في حين يتحول الإنفاق الأمني غالباً إلى هاجسٍ سلطوي يجعل الكلفة تتضخم مع الوقت.

الحضيض الذي وصلت إلى سوريا يجعل السلطة الحالية تحظى بميزة استثنائية، لجهة اكتساب شعبية على أرضية أي تحسن اقتصادي، حتى ذلك الذي لا بد منه. ولجهة تغليب اللهفة إلى التحسن الاقتصادي على الأسئلة المتعلقة بفحواه ومساراته المستقبلية، أي لجهة عدم وجود رقابة ولو رمزية على الأداء، بل انعدام التفكير بأهمية وضرورة وجود الرقابة. في الواقع، لا يُعرف سوى شذرات عمّا يحدث الآن، ولا معلومات عن المستقبل الذي يُعَدّ حالياً، والخشية من دورة عسكرة جديدة تبقى ماثلة طالما وجِدت أسبابها الاقتصادية والسياسية.

المدن

——————————

المقاتلون الأجانب في سوريا… العقدة والحل/ سلطان الكنج

هل تنجح الإدارة الجديدة في تجاوز امتحان ترمب؟

2 يونيو 2025 م

ترافق إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفع العقوبات عن سوريا بخمسة شروط أو مطالب، منها «مغادرة جميع المقاتلين الأجانب» من الأراضي السورية. ويشكّل هذا المطلب تحدياً كبيراً بالنسبة للإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع لما لهؤلاء المقاتلين من «دَين» في عهدة «هيئة تحرير الشام» على مدى السنوات الماضية وحتى سقوط نظام بشار الأسد.

فمنذ أن أُعلن عن تشكيل «الجيش الحر» في بدايات الثورة السورية، بدأت مرحلة جديدة من تدفق المقاتلين الأجانب من دول عربية وأجنبية. وكانت الحدود التركية ممراً مزدوجاً للسوريين الفارين من جحيم الحرب وجعلوا لنفسهم فيها موطناً أو رحلوا منها إلى الدول الأوروبية، ولمئات المقاتلين من غير السوريين المتوجهين إلى جبهات القتال داخل سوريا والتحقوا بدايةً بالتشكيلات المسلحة غير «المؤدلجة» في تلك المرحلة.

«حواضن الثورة»

بين عامي 2012 و2014، حين اشتد القصف بالبراميل المتفجرة وأنواع الأسلحة كافة على الأحياء الخارجة عن سيطرة النظام السابق، حظي المقاتلون الأجانب بسمعة جيدة فيما سُمي «حواضن الثورة»، لا سيما في الشمال السوري، لا لكونهم شاركوا بقوة وفاعلية في القتال ضد قوات الأسد فحسب، وإنما أيضاً لما عُرف عنهم من شدة في القتال. كذلك في مرحلة ما، شكَّلوا مجموعات «الانغماسيين» و«الانتحاريين» ونفَّذوا عمليات «نوعية» واقتحامات فاكتسبوا تعاطفاً شعبياً واسعاً وأُطلق عليهم اسم «المهاجرين».

وبعد سقوط النظام السوري السابق في 8 ديسمبر (كانون الأول)، كانت تنظيمات المقاتلين الأجانب، مثل «الحزب الإسلامي التركستاني» و«أجناد الشام» (شيشان) وأجناد القوقاز جزءاً أساسياً من «غرفة إدارة العمليات العسكرية» بقيادة «هيئة تحرير الشام». وفي أول تصريح حول قضية المقاتلين الأجانب في البلاد، قال الرئيس السوري أحمد الشرع إن هؤلاء الذين ساهموا في إطاحة نظام الأسد «يستحقون المكافأة». وأوضح الشرع، في لقاء مع صحافيين منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، أن جرائم النظام السابق دفعت إلى الاعتماد على المقاتلين الأجانب، وهم يستحقون المكافأة على مساندتهم الشعب السوري، ملمّحاً إلى إمكانية منحهم الجنسية السورية؛ وهو ما أثار نقاشات واسعة في حينه.

ولم يمضِ وقت كثير قبل أن تعلن الإدارة السورية الجديدة تعيين مجموعة من هؤلاء المقاتلين في مناصب عسكرية رفيعة ورتب تتراوح بين عميد وعقيد في الجيش السوري الجديد، وأبرزهم عبد الرحمن حسين الخطيب، وهو أردني تمت ترقيته إلى رتبة عميد، وعلاء محمد عبد الباقي، وهو مصري، وعبد العزيز داوود خدابردي التركستاني من الإيغور، ومولان ترسون عبد الصمد (طاجيكي)، وعمر محمد جفتشي مختار (تركي)، وعبد البشاري خطاب (ألباني)، وزنور البصر عبد الحميد عبد الله الداغستاني، قائد «جيش المهاجرين والأنصار».

العقدة والحل

اليوم، في حين القرار بشأن مصيرهم على المحك، يشكّل هؤلاء الأجانب أحد أوجه العقدة والحل في مستقبل سوريا. وفي السياق، قال لـ«الشرق الأوسط» قيادي سابق في «هيئة تحرير الشام»، فضَّل عدم ذكر اسمه، إن «إدارة الشرع لن تمانع من الاستجابة لشرط الإدارة الأميركية»، مؤكداً أن «الإخوة المهاجرين» أنفسهم لا يتمسكون بالمناصب «إن كانت تعيق مصلحة البلاد».

وبالفعل، بعد أقل من يوم على لقاء ترمب – الشرع في العاصمة السعودية، بدأت وكالات محلية سورية تبث أخباراً حول مداهمة الأمن العام مقار تابعة للمقاتلين الأجانب في ريف إدلب. وفي حين لم يتسن لـ«الشرق الأوسط» تأكيد هذه المداهمات بعد، فإن الإجراء سواء كان حقيقياً وبدأ بالفعل أو أنه مجرد فقاعة إعلامية، فإنه يرسل إشارة واضحة إلى النوايا.

ويقول كريم محمد، وهو قيادي في الجيش السوري (الحالي) وكان قائد كتيبة في «هيئة تحرير الشام» تضم مقاتلين أجانب، يقيم حالياً في دمشق، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «لا مصلحة للحكومة بأي خطوة سلبية تجاههم» لكونهم يتمتعون بشعبية قوية داخل صفوف الجيش والأمن الجديد وحاضنة الثورة. ويضيف محمد: «بدأت منذ فترة بعض الدول تطرح مسألة المقاتلين الأجانب بصفتها ورقةَ ضغطٍ على الحكومة الجديدة. هؤلاء المقاتلون، الذين نسميهم نحن بصفتنا ثواراً (المهاجرين)، كان لهم دور حاسم منذ بداية الثورة، وبرزت خبراتهم العسكرية في المعارك»، مؤكداً أن الحكومة «تبذل جهوداً واضحة لإبعاد المهاجرين عن الصراعات الداخلية وإعادتهم إلى مواقعهم في إدلب، مع وعود بدمجهم بالمجتمع، وربما حتى منحهم الجنسية السورية مستقبلاً».

«لا مطالب بطرد الأجانب»

الباحث في الجماعات المتطرفة حسام جزماتي يرى أن هناك سوء فهم كبيراً لهذه المسألة؛ إذ إن المطالب الأميركية والغربية لا تتضمن طرد المقاتلين الأجانب «بقدر ما تشترط أمرين، ألا يحتل هؤلاء مناصب بارزة في الدولة الوليدة، ولا سيما في الجيش والأمن والحكومة، وألا يتخذ أي منهم من الأراضي السورية منصة لانطلاق عمليات عسكرية في الخارج أو الإعداد لها أو التدريب عليها».

وأضاف جزماتي لـ«الشرق الأوسط»: «عندما كانت (هيئة تحرير الشام) تسيطر على إدلب، ومنذ سنوات، التزمت بعدم السماح لأي فصيل باتخاذ الأراضي السورية منصة للتهديد، وقد ضبطت إيقاع الجهاديين بشكل لا يطمحون معه للعمل عبر الحدود».

وتابع: «ما يرفضه حلفاء (المهاجرين) وإخوانهم هو طردهم من البلاد التي قاتلوا للدفاع عن أهلها في وجه نظام متوحش، أو تسليمهم إلى دولهم، حيث تنتظرهم السجون وربما الإعدام. وعموماً، لا أظن أن قيادات ومقاتلي (هيئة تحرير الشام) وسواها من الفصائل، والحاضنة الإسلامية أو الثورية المحبة لنموذج المهاجر، مصرّة على أن يتصدر هؤلاء بناء الدولة. ولا أعتقد أن ذلك في ذهن (المهاجرين) أنفسهم».

ويؤكد ذلك أبو حفص التركستاني، وهو يرأس حالياً كتيبة في الجيش السوري (ضمن تشكيلات وزارة الدفاع) غالبية عناصرها من التركستان وتوجد بين ريف إدلب وريف اللاذقية، وكان قيادياً في «الحزب الإسلامي التركستاني». ويقول التركستاني لـ«الشرق الأوسط»: «لم نأتِ إلى سوريا لقتل السوريين، ولم نأتِ هنا لكسب مادي أو مناصب، فقط قدِمنا لنصرتهم، لنشاركهم همومهم وننصرهم بقدر ما نستطيع والحمد لله تحقق النصر ولنا شرف مشاركة إخوتنا به». وأضاف التركستاني أن هناك هجوماً إعلامياً ممنهجاً عليهم حالياً يتهمهم بأنهم وراء أي تجاوز يحدث، وأنهم «وراء الهجمات على قرى الساحل أو السويداء وهذه مجرد افتراءات».

وأوضح: «نحن لم نتدخل يوماً في شؤونهم (السوريين)، كنا نعيش طوال هذه السنين معهم ولم نتدخل في أساليب حياتهم. نحن نعرف أن لكل شعب اختلافات في العادات، وإن كنا لا نتفق في كثير من الأمور، لكن لم نتدخل في المجتمع السوري. وإن حدثت بعض التجاوزات في السنين الماضية في إدلب، فهي أحداث لم تتكرر، والسوريون يعرفون ذلك جيداً».

ويرى جزماتي أنه يمكن لـ«المهاجرين» أن «يبقوا في سوريا بصيغ قانونية رسمية واضحة يتفق عليها، وبصفة مدنية فقط من دون أن يتصدروا الواجهة بدولة ليسوا مشغولين بحكمها أصلاً، وأن يتعهدوا بعدم استخدام أراضيها لتنفيذ مخططات جهادية خاصة بهم في بلدانهم الأصلية أو في أنحاء العالم، لما قد يسببه ذلك من ضرر بالغ. وإلا، فيمكنهم المغادرة إلى الوجهة التي يختارون».

معضلة التعيينات

قال أحد المقاتلين الأجانب (من جنسية عربية) ويكنى بـ«أبي محمد» لـ«الشرق الأوسط»: «نحن لن نقف ضده (الشرع) كما فعلنا طوال السنوات الماضية. لم نتدخل في قتال الفصائل وكنا على مسافة من الجميع ونراعي مصالح سوريا التي لم ولن تتضارب مع مصالحنا يوماً. كنا نقدِم على الموت من أجل حياة السوريين، ونعرف كيف نعيش الآن تحت ظل دولة نقدّرها ونحترمها».

ولكن المعضلة – بحسب جزماتي – تكمن في صعوبة «التراجع عن التعيينات وقرارات ترفيع العسكريين التي أعلنتها القيادة العامة، بعد ثلاثة أسابيع فقط من سقوط نظام بشار الأسد، وبينهم ثلاثة عمداء وثلاثة عقداء».

وحسب التسريبات التي اطلع عليها جزماتي، فقد تعهد المسؤولون بإيقاف تعيين غير السوريين منذ الآن، وتبقى مسألة الذين جرى تعيينهم بالفعل عالقة وتحتاج إلى حل لا يحرج وضعهم ورتبهم وربما مناصبهم.

وعن احتمالات استغلال الجماعات المتطرفة مسألة التضييق على عناصرها وإبعاد المقاتلين الأجانب منهم، قال الباحث: «لا أرى أن تنظيم (القاعدة) في وارد إحياء نشاطه في سوريا بعدما حلّ فرعه فيها، أي حراس الدين. أما (داعش)، التي لا نعرف مخططاته السورية بالضبط، فربما يستقطب معترضين على سياسة الحكومة الحالية، سواء كانوا من السوريين أو من غيرهم. وربما تحاول ذلك مجموعات أو تنظيمات جديدة ترى في سلوك السلطة الحالية ابتعاداً عن تطبيق الشريعة كما يريدون».

ولا تقف كل مجموعات المقاتلين الأجانب عند نقطة واحدة على طيف التطرف. فهناك تمايز آيديولوجي بينها بدأ لحظة توافدهم إلى سوريا وطريقة هذا التوافد، سواء بالتجنيد المسبق أو الاندفاع الذاتي. فأحياناً كان يتم إرسال مقاتل إلى بلده ليجنّد شباناً راغبين في المجيء إلى سوريا بعد التواصل معهم عبر الإنترنت، فيتم تنظيم انتقالهم بطريقة مدروسة منذ لحظة انضمامهم وحتى عبورهم الحدود وانضمامهم إلى تنظيم محدد. وأحياناً أخرى كان البعض يصل منفرداً بالاعتماد على المهربين ورحلات سياحية عبر تركيا وغالباً كانوا يتكبدون تكاليف السفر من جيوبهم.

ومع الوقت، وخصوصاً أواسط 2013، تشعبت الفصائل وكثرت وبدأت تظهر عملية الفرز والتمايز بينها؛ لكن بقيت وجهة غالبية المقاتلين الأجانب الجماعات الجهادية، لا سيما «جبهة النصرة»، في حين التحقت قلة من الأجانب بجماعات «معتدلة» مثل «لواء التوحيد» في حلب.

خلافات وانشقاق وتشكيلات

مع تعمق الخلافات المتعلقة بالأفكار أو التنافس على النفوذ، انتقل أغلب «المهاجرين» إلى جماعات انقسمت على بعضها في فترات معينة، مثل «جبهة النصرة» التي كانت تابعة لتنظيم الدولة (داعش) وانشقت عنه بعد رفض قائدها حينذاك أحمد الشرع مبايعة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وإعلانه في المقابل بيعته وتنظيمه لزعيم «القاعدة» السابق أيمن الظواهري.

في تلك الفترة انشق المزيد من المقاتلين الأجانب وقيادات من «النصرة» للالتحاق بتنظيم «داعش»، عادّين أن «بيعة الظواهري» غير مقبولة ليدخل الفصيلان في جولات اقتتال أفضت بجزء منها إلى تشكيل جماعات مستقلة عنهما، أبرزها «جند الأقصى» الذي أسسه الجهادي العراقي المولد الفلسطيني الأصل أبو عبد العزيز القطري، وتشكيلات أخرى اعتمدت التمحور حول جنسيتها الأصلية مثل الإيغور والأوزبك والشيشان.

لكن مع تمدد «داعش» جغرافياً أواسط 2014 في محافظات غرب وشمال غربي العراق وصولاً إلى محافظات دير الزور والرقة وجزء من محافظة الحسكة وريفي حلب وإدلب، بدأت حالة من العداء بين التنظيم وجماعات أخرى تشكلت من مقاتلين أجانب أيضاً وحكم عليها التنظيم بـ«الردة». وهذه معظمها بقيت على علاقة جيدة بـ«جبهة النصرة»، مفضلة «الحياد» في كثير من المعارك على الانحياز إلى طرف دون آخر في «قتال الإخوة».

ومن تلك الفصائل التي بقيت على حالها حتى سقوط نظام الأسد، «الحزب الإسلامي التركستاني»، و«أجناد الشام» و«أجناد القوقاز» و«أنصار التوحيد»، وبقايا فصيل «جند الأقصى» الذي كان أغلب قادته من السوريين وانفرط عقده في 2017. وذهب قسم منه باتجاه «داعش» وآخر بقي في مناطق إدلب باسم «أنصار التوحيد» وكان أحد التشكيلات المتحالفة مع «هيئة تحرير الشام» في إدارة العمليات العسكرية التي سيطرت على دمشق.

«سورنة» المعركة

في الأعوام بين 2014 و2018، كانت «هيئة تحرير الشام» بدأت تكبح منهجياً من سلطة المقاتلين الأجانب وتنحيهم عن تصدر القيادة والظهور في الإعلام كما كان الوضع سابقاً، واعتقلت الكثيرين منهم كما فعلت مع «حراس الدين». كذلك طردت من صفوفها الكثير ممن رفضوا الانصياع للتغيرات التي أحدثها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) وقتها. فقد بدأ هؤلاء المقاتلون الأجانب يشكّلون عائقاً في وجه مشروع «هيئة تحرير الشام» داخلياً وخارجياً. فمن جهة راح يتنامى لدى السوريين شعور بأن «الهيئة» تفضل عناصرها وقادتها من الأجانب على السوريين، وخارجياً صار هؤلاء يظهرون في الإعلام وينشطون في المساجد، ويتركز خطابهم على أدبيات جهادية كتلك التي تقول بها «القاعدة»، بل ووجدت «هيئة تحرير الشام» أنهم يعرقلون علاقتها مع تركيا؛ إذ حرّموا التعامل مع الجيش التركي؛ كونه ينتمي إلى حلف شمال الأطلسي، «ناتو».

وعليه، عمل الشرع على «تشذّيب المتشددين داخل الهيئة من السوريين والأجانب على السواء»، وغيّر الخطاب من «جهاد عابر للحدود» إلى محلي سوري، فبدأت تظهر في خطاباته عبارات تدل على المحلية وأن سوريا لها الأولوية كعبارة «ثورة أهل الشام» التي كثيراً ما كان يرددها.

في تلك المرحلة اصطف معه كثير من المقاتلين الأجانب وتبنّوا رؤية الشرع «الوطنية»، عادّين أن سوريا للسوريين وأنهم «أنصار» في هذا، وعمل هو بالتوازي على «سورنة المعركة والمقاتلين» من خلال دمجهم في السياسة الجديدة القائمة على الابتعاد عما هو خارج الحدود.

فهل ينجح اليوم وقد صار أحمد الشرع رئيساً للبلاد في إجراء المزيد من التشذيب والدمج بما يحقق شروط الخارج ومصالح الداخل؟

الشرق الأوسط

————————–

رفع العقوبات عن سوريا والتمهيد لنظام إقليمي جديد/ هشام جعفر

3/6/2025

شكّل إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المفاجئ في الرياض يوم 13 مايو/ أيار الماضي، عن نيّته رفع العقوبات المفروضة على سوريا، إحدى أكثر اللحظات لفتًا للانتباه خلال زيارته للخليج.

وفي اليوم التالي، التقى الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، وصافحه، وذلك على الرغم من أن الأخير كان قد حارب القوات الأميركية في العراق.

أوضح ترامب أن قراره جاء استجابة لطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. دعمت قطر هذا التوجّه بشدة، بحكم أنها ساندت “الحكم الجديد” من اليوم الأول، وترى في نفسها شريكًا اقتصاديًا واستثماريًا قويًا له.

تسببت هذه الخطوة في صدمة لدى إسرائيل، التي توصف بأنها الحليف الأقرب تقليديًا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والتي تدفع باتجاه تقسيم سوريا إلى “دويلات مذهبية وإثنية متناحرة”. بيدَ أن ترامب اختار الانحياز إلى رؤية الدول الثلاث التي تؤمن بأن إعادة إعمار سوريا ضرورة لاستقرار الشرق الأوسط، وأنها ستفتح آفاقًا واسعة للتجارة والاستثمار.

حث ترامب الرئيس السوري على الانضمام إلى الاتفاقيات الأبراهامية التي ترسي علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وتطهير سوريا من “الإرهابيين الأجانب”، وترحيل “المقاتلين الفلسطينيين”. ولم يتطرق إلى حماية الأقليات أو بناء المؤسسات الديمقراطية السورية. من جانبه، أعلن الشرع قبوله اتفاقية فك الارتباط لعام 1974 التي أقامت منطقة عازلة بين إسرائيل وسوريا، ودعا الشركات الأميركية إلى الاستثمار في النفط والغاز السوريين.

مجمل هذا المشهد قد يطلق ديناميات إقليمية جديدة لن تقتصر فحسب على “إعادة تأهيل سوريا كدولة موحدة ومستقرة، ضمن توازنات ترعاها قوى إقليمية وازنة” – كما ذكر محمد سرميني في مقاله “اللحظة التي غيرت ترامب تجاه سوريا” على الجزيرة نت.

غير أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن هذه الاتجاهات قد لا تأخذ في الغالب مسارًا متبلورًا يسير في اتجاه محدد؛ إذ ربما تأخذ مسارًا حلزونيًا متعرجًا بحكم كثرة الفاعلين، وتداخل العوامل، وتعقيد الدوافع والأهداف والمصالح، وهو ما أطلق عليه التحليل الشبكي في مقابل التحليل النظمي. ما يحسن التأكيد عليه -إذن- هو أننا لسنا على الأقل حتى الآن بصدد نظام إقليمي في المنطقة برزت اتجاهاتُه الأساسية وفاعلوه الرئيسيون، وتبلورت خصائصه وسماته.

توجهات ثمانية رئيسية

وعلى الرغم من ذلك، يمكن رصد بعض هذه التوجهات استنادًا إلى الحالة السورية التي تظل مفتوحة على احتمالات متعددة. واكتفي في هذا المقال بالرصد دون تقييم المعضلات التي تواجه هذه الديناميات الثماني، والذي أرجو أن أصرف فيه جهدًا آخر.

أولًا: الاقتصاد كقوة استقرار إقليمية

وفقًا لهذه الرؤية، يُنظر إلى التدابير الاقتصادية، وعلى رأسها تخفيف العقوبات والاستثمار والمساعدات وجهود إعادة الإعمار، من قبل مختلف الأطراف الفاعلة (قادة الخليج والإدارة الأميركية) باعتبارها أدوات قادرة على تعزيز الاستقرار في المناطق الخارجة من الصراعات، مثل سوريا، وربما تساهم في التخفيف من حدة الأزمات في غزة واليمن، فضلًا عن خدمة المصالح الإستراتيجية الأوسع للولايات المتحدة ودول الخليج.

وفق هذه الرؤية، يُعد التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار ضروريين لتحقيق الاستقرار في سوريا بعد سنوات الحرب الأهلية. وتُشكل العقوبات عائقًا رئيسيًا أمام جهود إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية والتعافي الاقتصادي، إذ إنها تضر بالدرجة الأولى بالمدنيين السوريين.

ومن المتوقع أن يمهد رفع العقوبات الطريق أمام تدفق المساعدات والاستثمارات والخبرات الإقليمية والدولية لدعم “الحكومة الجديدة” في جهودها لإعادة بناء البلاد ومنع عدم الاستقرار السياسي. ويُعتبر وجود اقتصاد قوي أمرًا حيويًا لنجاح “الحكومة السورية الجديدة” في تحقيق الاستقرار.

وبحسب التقديرات، سيظل الاقتصاد السوري في حالة تدهور مستمر ما لم يتم تخفيف العقوبات، الأمر الذي سيزيد من الاعتماد على روسيا والصين وإيران. كما أن ازدهار سوريا سيساهم في الحد من تدفقات اللاجئين.

تتبنى السعودية وقطر بالشراكة مع تركيا بشكل خاص فكرة تخفيف العقوبات، لا سيما تلك المفروضة على البنية التحتية والقطاعات العامة، انطلاقًا من اعتقاد بأن ذلك سيعزز مكانة القيادة الجديدة، ويواجه النفوذ الإيراني، ويحول دون تحول سوريا إلى “دولة فاشلة”.

ويُنظر إلى تخفيف العقوبات باعتباره خطوة أولى حاسمة نحو تحقيق الاستقرار في القطاعات الأساسية، وتهيئة المناخ للاستثمار الدولي. ويمكن لجهود التعافي المبكرة، المدعومة بتخفيف العقوبات، أن تتيح عودة آمنة للنازحين السوريين، وتساهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي على نطاق أوسع.

ترى هذه الدول أن الاستقرار الجيوسياسي يكتسب أهمية بالغة لرفاهية اقتصاداتها، التي قد تتضرر من جراء حالة عدم اليقين الاقتصادي أو التصعيد مع إيران. وهناك تفاؤل بأن تحقيق السلام في الشرق الأوسط من شأنه أن يدعم الأجندات الاقتصادية لدول الخليج الساعية لتنويع اقتصادها وبناء اقتصاد ما بعد النفط.

ثانيًا: التحالفات السائلة الفضفاضة

تشير الحالة السورية إلى تقارب محدد في المصالح بين الفواعل الإقليمية فيما يتعلق باستقرار سوريا وإعادة إعمارها، وخاصة في جهودهم للتأثير على السياسة الأميركية بشأن العقوبات، وأدوارهم في الاستثمار بعد الصراع. ومع ذلك، فإن هذا لا يمثل بالضرورة إجماعًا إقليميًا أوسع بشأن مجمل القضايا والأزمات في الإقليم، كما يتضح من ديناميكيات التوازن المحتملة، والتنافسات القائمة.

تظل أولوية الدول لمصالحها القُطرية، ولم يحدث حتى الآن حوار جاد بين “الفواعل الرئيسية” في الإقليم حول ملامح نظام إقليمي جديد. ومصالحها في سوريا متعددة الأوجه، ورغم تقاربها حول نقاط محددة، فإنها لا تعكس بالضرورة إجماعًا إقليميًا شاملًا. بل إنها مدفوعة إلى حد كبير بتقارب مصالح محددة بين هذه الدول فيما يتعلق بمستقبل سوريا واستقرارها، لا سيما بعد تغيير الحكومة فيها.

ثالثًا: التطبيع المرتبط بإنهاء الاحتلال

لم تعد أولوية ترامب هي ضم مزيد من الدول العربية الكبرى إلى اتفاقيات أبراهام، وقد تراجعت محاولاته لإقناع بقية دول الخليج للانضمام لتلك الاتفاقيات التي أقرت اعترافًا متبادلًا وعلاقات اقتصادية بين بعض الدول العربية الموقعة عليها وإسرائيل.

وفي مقابل ذلك، فقد أكدت الدول غير الموقعة بوضوح موقفًا من هذه القضية يتماشى مع الخطة العربية التي تحدد إستراتيجيات إعادة إعمار غزة وتنميتها، وتدعم قيام دولة فلسطينية ذات سيادة على أساس خطوط الرابع من يونيو/ حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وتشترط التطبيع مع إسرائيل فقط بعد أن يوقع القادة الإسرائيليون والفلسطينيون اتفاقية سلام تحل جميع قضايا الوضع النهائي، وتنهي الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وترسخ السيادة الفلسطينية على غزة والضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية).

تأمين اتفاق نووي مع إيران يمثل حاليًا أولوية أكثر أهمية بالنسبة لترامب، وهو كذلك شديد الأهمية للمملكة العربية السعودية ولبقية دول الخليج. فالمملكة، التي عارضت الاتفاق النووي الإيراني في عام 2015، تشجع الولايات المتحدة الآن على المضي قدمًا في المفاوضات لمنع الحرب.

وفي حين توصف اتفاقيات التطبيع بأنها لا تزال “حية وبصحة جيدة” على الرغم من العدوان الإسرائيلي”، إلا أن المستقبل القريب للتطبيع واسع النطاق، خاصة مع لاعبين رئيسيين في المنطقة، يبدو أنه يتأثر بالسياق الإقليمي الحالي، بما في ذلك الإبادة الجماعية في غزة وإعطاء الأولوية لقضايا أخرى مثل الاتفاق النووي الإيراني.

إن نهج ترامب القائم على المعاملات وتركيزه على الصفقات الاقتصادية خلال الزيارة قد أدى أيضًا إلى تهميش القضية الفلسطينية مقارنة بالجهود الدبلوماسية التي بذلتها الإدارات السابقة.

رابعًا: مراعاة المصالح الأميركية

تشارك الدول الراعية لسوريا بفاعلية في ضمان الاستقرار والسلام الإقليميين، وهو ما يوصف بأنه ضروري لتحقيق الرخاء الاقتصادي وتحويل المنطقة إلى مركز للفرص -كما اشار ترامب في زيارته الأخيرة للخليج.

تسعى هذه الدول لإخراج المقاتلين الأجانب وتطالب بإخراج إيران من سوريا، ولبنان بتقليل نفوذ حزب الله على السياسة اللبنانية، وهو ما يتماشى مع الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة. وتفضل الحل الدبلوماسي فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني لتجنب الصراع العسكري وحماية بنيتها التحتية الاقتصادية. وهذا يتماشى مع تفضيل إدارة ترامب للتوصل إلى اتفاق تفاوضي.

تُعتبر هذه الدول وسيطًا محتملًا في الصراعات الإقليمية وحتى العالمية، حيث استضافت السعودية محادثات بشأن أوكرانيا وعرضت التوسط في المفاوضات النووية الإيرانية الأميركية المستقبلية. وتستضيف قطر المفاوضات بين حماس وإسرائيل، كما تلعب هذه الدول جميعًا دورًا في عدم عودة تنظيم الدولة، وهو ما يتماشى أيضًا مع أهداف مكافحة الإرهاب الأميركية.

تصبّ مساعي هذه الدول في المصالح الأميركية من خلال تعزيز الرخاء الاقتصادي، والدعوة إلى جهود الاستقرار الإقليمي وتسهيلها (خاصة في سوريا)، والسعي إلى حلول دبلوماسية مع منافسين مثل إيران، واستضافة أصول عسكرية أميركية حيوية، والانخراط في مناقشات حول إعادة الإعمار بعد الصراع (كما هو الحال في غزة)، وغالبًا ما تتماشى الأولويات الإستراتيجية فيها مع الأهداف الأميركية المتصورة في المنطقة.

ويظهر من مواقف الدول مثل السعودية وتركيا وقطر بشأن سوريا، وتفضيل دول الخليج للدبلوماسية مع إيران وشروط التطبيع مع إسرائيل، أن تأثيرها متزايد على السياسة الأميركية نفسها.

خامسًا: شرق أوسط بلا جماعات مسلحة

شهد عام 2024، وما مضى من هذا العام، استخدام إستراتيجيات متنوعة لمواجهة “الجماعات المسلحة غير الحكومية” في الشرق الأوسط. واجهت بعض الجماعات، مثل “محور المقاومة”، إجراءات تهدف إلى إضعاف قدراتها -خاصة العسكرية. في المقابل، كانت هناك حالات دمج حكومي محتمل لبعض الجماعات المسلحة، كما هو الحال في سوريا بعد الأسد، وجهود لدمج جماعات أخرى في هياكل الدولة -كما يجري مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وجهود للمصالحة مع الدولة عن طريق حل جناحها العسكري مع قبول لاندماجها في العملية السياسية كحزب شرعي -كما يجري مع حزب العمال الكردستاني   (PKK)  في تركيا.

“محور المقاومة” الذي يضم جماعات مثل حزب الله والحوثيين وجماعات المقاومة الفلسطينية شهد “انتكاسات كبيرة” في عام 2024 أدت إلى “إضعاف موقفهم العام”. أما حماس، فمن المرجح أن تخرج من الصراع الدائر منذ أواخر 2023 حتى الآن “بقدرات عسكرية ضعيفة إلى حد كبير”؛ بسبب “العدوان العسكري الإسرائيلي”.

كان أحد أهداف الضربات الأميركية تجاه الحوثيين الانتقال من الضربات المستهدفة إلى حملة أوسع وأكثر عدوانية؛ تهدف إلى تعطيل قدراتهم بشكل نشط، بما في ذلك استهداف قيادتهم السياسية إلى جانب الأصول العسكرية، وهذا يشير إلى وجود محاولة لإضعاف الحوثيين إلى ما هو أبعد من مجرد احتوائهم.

وافقت الولايات المتحدة على تمويل القوات المسلحة اللبنانية لتعزيز قدرتها على مواجهة التهديدات من حزب الله. ورغم أن تعزيز القوات المسلحة اللبنانية لا يشكل مواجهة مباشرة مع حزب الله، فإنه يمثل وسيلة غير مباشرة لإدارة نفوذ “جهة فاعلة غير حكومية قوية” داخل لبنان من خلال تعزيز قدرة الدولة.

في سوريا، يسلط الوضع الضوء على مشهد معقد، حيث لعب “المسلحون الموالون للحكومة” دورًا في إسقاط نظام الأسد، وبات مطلوبًا أن يحلوا أنفسهم ليتم دمجهم في مؤسستي الأمن والدفاع في سوريا الجديدة.

علاوة على ذلك، كان الهدف من الاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة في مارس/ آذار 2025 هو دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها الأكراد في الجيش السوري الجديد. هذه الخطوة، وإن كانت تهدف إلى استقرار سوريا، ومنع إعادة ترسيخ النفوذ الإيراني، فإنها تُشير أيضًا إلى شكل من أشكال التكامل بين الدولة مع جماعة مسلحة، ومع ذلك، ظلت تفاصيل هذا التكامل ومدى الحكم الذاتي الكردي موضع تفاوض.

وفي 27 فبراير/ شباط 2025، أعلن عبدالله أوجلان – زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) المسجون – دعوته لحل الحزب. وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه الدعوة، بأنها “فرصة لاتخاذ خطوة تاريخية نحو هدم جدار الإرهاب”. وفي 3 مارس/ آذار، أعلن الحزب عن وقف إطلاق النار استجابة لدعوة زعيمه، وأتبع ذلك في 12 مايو/ أيار الماضي عن حل نفسه.

هذه التطورات، التي يمكن أن نضم إليها التعامل مع الجماعات المسلحة الشيعية في العراق، تعكس تطلع الولايات المتحدة وشركائها في الاتحاد الأوروبي والمنطقة نحو شرق أوسط بلا جماعات مسلحة، أو على أقل تقدير يختفي فيه أكثرها.

يبدو أن الولايات المتحدة وشركاءها يهدفون على الأرجح إلى شرق أوسط، يتقلص فيه نفوذ بعض “الجماعات المسلحة غير الحكومية” وأفعالها المزعزعة للاستقرار بشكل كبير.

الهدف الإستراتيجي من ذلك هو تهيئة الشرق الأوسط ليكون معبرًا وممرًا لخطوط التجارة العالمية، بما يتطلبه ذلك من تطبيع العلاقات السياسية بين دوله المختلفة.

سادسًا: إسرائيل/ نتنياهو: وصفة عدم استقرار

إسرائيل متورطة في حرب على “سبع جبهات” -على حد قول قادتها- ولا تريد للمنطقة أن تهدأ أبدًا. يتجلى ذلك في تورط إسرائيل المباشر في الإبادة الجماعية في غزة، واعتداءات المستوطنين في الضفة، وعدوانها العسكري المستمر في سوريا، وموقفها الرافض لإقامة الدولة الفلسطينية، والرغبة في حل عسكري للبرنامج النووي الإيراني، وتداعيات التهجير للفلسطينيين على الاستقرار في مصر والأردن.. باعتبارها عوامل مهمة تؤثر على الديناميكيات الإقليمية المعقدة وغير المستقرة في كثير من الأحيان.

تتجلى أهمية الوضع الحالي لمشروع ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC) في جوانب متعددة. ويكشف عن عدة جوانب مهمة حول المنطقة والتجارة العالمية. لم يُصوَّر مشروع (IMEC) كطريق تجاري فحسب، بل كوسيلة لتعزيز الاستقرار الإقليمي وتطبيع العلاقات السياسية، لا سيما من خلال ربط الهند بأوروبا وأميركا عبر الخليج العربي والأردن وإسرائيل.

ويُعد وضعه الحالي، المتأثر بشكل كبير بالحرب على غزة والصراعات الإقليمية المرتبطة بها، مؤشرًا واضحًا على “حالة عدم الاستقرار العميقة” التي لا تزال تعوق مشاريع التكامل الطموحة هذه. في ظل حقيقة أن بناء البنية التحتية اللازمة، وخاصة بين إسرائيل والأردن، يُعتبر الآن أمرًا “غير محتمل”، هل يمكن لسوريا الجديدة أن تكون إحدى محطات هذا الممر؟

بات واضحًا التأثير الضار للصراعات المنخرطة فيها إسرائيل على التعاون الإقليمي الأوسع. يرتبط مستقبل طرق التجارة المقترحة وممرات الطاقة في الشرق الأوسط ارتباطًا وثيقًا بمستقبل حكومة نتنياهو وتحالفه اليميني المتطرف.

يُشكل عدم الاستقرار الذي تُسببه حكومة اليمين المتطرف في الكيان الصهيوني حاليًا تهديدًا كبيرًا لتحقيق هذه المشاريع وأمنها. لذلك، من المرجح أن تتطلب الجهود المبذولة لإنشاء هذه الطرق التجارية والحفاظ عليها معالجة وضع “المتطرفين” على جميع الجبهات. ويمكن للديناميكيات المحيطة بهذه الطرق، بدورها، أن تُشكل المسار المستقبلي للاستقرار الإقليمي -هكذا يتصور البعض.

هذا الهدف الإستراتيجي لـ”الرأسمالية الأميركية”، يعني أيضًا بعدين متكاملين: مواجهة ممر الحزام والطريق الذي تدعمه الصين، والتفرغ لمواجهة الصين بالانسحاب من الشرق الأوسط المستقر.

سابعًا: إعادة ضبط نفوذ إيران التي لم تعد عدوًا

دول الخليج الرئيسية (السعودية، الإمارات، قطر) وتركيا تتبنى مقاربات مختلفة للتعامل مع إيران، ولكنّ هناك اتجاهًا مشتركًا نحو تفضيل الحلول الدبلوماسية والتفاوضية على المواجهة العسكرية، وتقليص النفوذ الإيراني في المنطقة -كما يظهر في سوريا ولبنان.

تتأثر هذه المقاربات بشكل كبير بالرغبة في حماية المصالح الاقتصادية الحيوية (مثل البنية التحتية النفطية)، والحاجة إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي الذي يُنظر إليه على أنه أساس للرخاء والتنمية. وقد دفعت هذا المصالح إلى التعامل المباشر مع إيران، حتى لو كان ذلك يعني تجاوز الحلفاء التقليديين مثل الولايات المتحدة في إدارة بعض ديناميكيات الأمن الإقليمي.

ثامنًا: تراجع قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية

تركز الرواية السائدة في الإقليم على الدولة التي توفر التقدم الاقتصادي والاجتماعي تحت قيادة قوية. من الواضح أن الديمقراطية السياسية غائبة عن مجمل مناقشة التحول في دول المنطقة، وما تبقى هو حديث عن الحريات الشخصية فقط.

يقتصر الاهتمام بحقوق الإنسان في المقام الأول على الاعتراف بـ”الأزمة الإنسانية في غزة”، والتي أخشى أن تجعل من القضية الفلسطينية مجرد قضية إنسانية لشعب بلا حقوق.

إن مناهج السياسة الخارجية لترامب، هي مناهج “معاملاتية” وتعطي الأولوية للصفقات الاقتصادية والاستقرار، وتتجاهل تمامًا قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.

إن تركيز الجمهور العربي على ضرورة تحسين الظروف المعيشية اليومية لا يعني أنهم غير مهتمين بتحسين الحكم أو أنهم يرفضون الديمقراطية. لا يعتقد العرب -كما أشار الباروميتر العربي في استطلاعاته- أن الديمقراطية سيئة بطبيعتها، وبدلًا من ذلك، فقد تبنوا نهجًا قائمًا على النتائج تجاه الديمقراطية، نهجًا لا يوفر الشرعية وحكم القانون فحسب؛ بل أيضًا الظروف الاجتماعية والاقتصادية المزدهرة.

في الختام؛ كيف سيبدو الشرق الأوسط إذا تفاعلت هذه الاتجاهات الثمانية وغيرها مع بعضها البعض؟ وكيف ستبدو ملامحه إذا انبعثت المعضلات داخل كل اتجاه وبين الاتجاهات جميعًا؟ -أسئلة تستحق المتابعة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

صحفي وباحث

الجزيرة

——————————-

سوريا تعود للساحة الدولية/ عبد اللطيف البصري

3/6/2025

يمثل رفع العقوبات الأميركية عن الرئيس أحمد الشرع، ووزير الداخلية أنس خطاب، إضافةً إلى البنك المركزي السوري، والبنك التجاري، وميناءي طرطوس واللاذقية، نقطة تحول محورية في مسار العلاقات السورية الدولية. هذه الخطوة تعكس تغيراً جوهرياً في السياسة الأميركية تجاه سوريا، وتشير بوضوح إلى رغبة واشنطن والغرب في إعادة تأهيل دمشق ودمجها من جديد في المحيط الإقليمي والدولي. هذا التحول ينبع من إدراك متزايد للدور المحوري الذي تلعبه سوريا كعامل استقرار في منطقة الشرق الأوسط المضطربة.

البعد السياسي للقرار الأميركي

يعكس قرار رفع العقوبات اعترافاً أميركياً ضمنياً بفشل استمرار سياسة العزل والضغط، التي كانت تنتهجها واشنطن تجاه حكومة دمشق الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، بعد القضاء على النظام البائد. من هنا، بدأت الإدارة الأميركية تدرك أن الواقع السياسي يفرض التعامل مع الحكومة السورية كأمر واقع لا مفر منه.

هذا التحول في الموقف الأميركي يأتي أيضاً في سياق إعادة ترتيب الأولويات الإستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة، حيث باتت مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار الإقليمي على رأس هذه الأولويات، وهو ما يتطلب تعاوناً مع سوريا.

كما يشير رفع العقوبات عن شخصيات سياسية بارزة، مثل الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب، إلى رغبة أميركية في فتح قنوات اتصال مباشرة مع صناع القرار في دمشق، وهو ما يمهد الطريق لعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في المستقبل القريب.

الأبعاد الاقتصادية لرفع العقوبات

يمثل رفع العقوبات عن البنك المركزي السوري والبنك التجاري وميناءي طرطوس واللاذقية انفراجة اقتصادية كبيرة لسوريا، التي عانت لسنوات من آثار العقوبات المدمرة على اقتصادها. هذه الخطوة ستسمح بعودة التحويلات المالية الدولية، وتسهيل التجارة الخارجية، ما سيساهم في تخفيف الضغط على الليرة السورية، وتحسين قدرة الدولة على استيراد السلع الأساسية.

كما أن رفع العقوبات عن الموانئ السورية سيعيد تنشيط حركة التجارة البحرية، ويفتح الباب أمام استثمارات جديدة في البنية التحتية للموانئ، ما سيعزز دور سوريا كمعبر تجاري إقليمي مهم يربط بين أوروبا وآسيا.

هذه التطورات الاقتصادية ستنعكس إيجاباً على حياة المواطن السوري العادي، من خلال تحسن فرص العمل وانخفاض أسعار السلع الأساسية وتحسن الخدمات العامة، وهو ما سيساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي الذي يشكل ركيزة أساسية للاستقرار السياسي.

البعد الإنساني لرفع العقوبات

لطالما كان للعقوبات الاقتصادية تأثير سلبي مباشر على الوضع الإنساني في سوريا؛ حيث عانى المواطنون العاديون من نقص في الأدوية والمستلزمات الطبية والغذائية.

رفع العقوبات سيسمح بتدفق أكبر للمساعدات الإنسانية، وتسهيل عمل المنظمات الدولية في تقديم الخدمات الأساسية للسكان. كما سيساهم تحسن الوضع الاقتصادي في تهيئة الظروف المناسبة لعودة اللاجئين السوريين من دول الجوار وأوروبا، وهو ما سيخفف من أزمة اللجوء التي أرهقت المجتمع الدولي لسنوات، ويعيد بناء النسيج الاجتماعي السوري.

رفع العقوبات يعكس أيضاً اعترافاً دولياً بأن العقوبات الاقتصادية غالباً ما تؤثر سلباً على المدنيين أكثر من تأثيرها على الحكومات، وأن تحقيق الأهداف السياسية لا ينبغي أن يكون على حساب المعاناة الإنسانية.البعد الإقليمي والدولي

يأتي رفع العقوبات الأميركية في سياق تحولات إقليمية كبرى، حيث شهدت عودة للعلاقات بين سوريا والدول العربية، بدءاً من إعادة فتح السفارات وصولاً إلى عودة سوريا لمقعدها في جامعة الدول العربية.

هذا التحول الأميركي سيشجع المزيد من الدول العربية والأوروبية على تطبيع علاقاتها مع دمشق، ما سيعزز من دور سوريا الإقليمي ويساهم في تحقيق التوازن الإستراتيجي في المنطقة، خاصة في ظل التنافس الدولي المحتدم بين القوى الكبرى.

كما أن عودة سوريا للمشهد الدولي ستساهم في تعزيز جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة، من خلال التنسيق الأمني والاستخباراتي مع مختلف الدول المعنية، وهو ما سينعكس إيجاباً على الأمن الإقليمي والدولي.

التوقعات المستقبلية

من المتوقع أن يشهد المستقبل القريب المزيد من الخطوات الإيجابية في مسار إعادة تأهيل سوريا ودمجها في المجتمع الدولي، بما في ذلك رفع المزيد من العقوبات، وعودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع مختلف دول العالم. كما ستشهد سوريا على الأرجح تدفقاً متزايداً للاستثمارات الأجنبية، خاصة في مجالات إعادة الإعمار والبنية التحتية والطاقة، ما سيساهم في تسريع عملية التعافي الاقتصادي، وخلق فرص عمل جديدة للشباب السوري.

وعلى الصعيد السياسي، قد تشهد سوريا تطورات إيجابية في مسار المصالحة الوطنية وإعادة دمج مختلف مكونات المجتمع السوري، بما يضمن استقراراً سياسياً طويل الأمد، يشكل أساساً متيناً لنهضة شاملة.

يمثل رفع العقوبات الأميركية عن سوريا نقطة تحول تاريخية في مسار الأزمة السورية، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من العلاقات بين دمشق والمجتمع الدولي. هذا التحول يعكس إدراكاً متزايداً للدور المحوري الذي تلعبه سوريا في استقرار المنطقة، ويؤكد على فشل سياسات العزل والضغط في تحقيق أهدافها.

إن عودة سوريا للمشهد الإقليمي والدولي ستساهم -بلا شك- في تعزيز الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وستفتح آفاقاً جديدة للتعاون الاقتصادي والسياسي والأمني بين مختلف دول المنطقة. كما ستمثل فرصة حقيقية للشعب السوري لتجاوز سنوات المعاناة، والبدء في بناء مستقبل أفضل يليق بتاريخ وحضارة هذا البلد العريق.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

مدون، ماجستير دراسات القدس وفلسطين (علاقات دولي

الجزيرة

——————————–

====================

الشرع و المقاتلين الأجانب و داعش

تحديث 03 حزيران 2025

—————————-

داعش والأجانب والشرع… لمن الغلبة في مثلّث غير متساوي الأضلاع؟/ جعفر مشهدية

الثلاثاء 3 يونيو 2025

ظهرت خلال الأيام الأخيرة، ملامح الاشتباك بين تنظيم داعش وعناصر الإدارة الجديدة في مناطق سورية عدة. ترافق ذلك مع تسريبات مختلفة تتحدث عن تواجد لخلايا التنظيم في عدد من المحافظات السورية، ما يجعل أمر الانفجار بين الطرفين قريباً، خصوصاً مع الحديث عن طلب أمريكي بتولّي الدولة السورية ملفّ السجناء الداعشيين في شمال شرق البلاد.

هذا الملف يُضاف إلى ملف المقاتلين الأجانب الذي جرى الحديث عن دمجهم في الجيش، خصوصاً بعد الكلام عن حلّ الحزب التركستاني الذي يضم نخبة الجهاديين الأجانب، ودمج عناصره ضمن الفرقة 84 في وزارة الدفاع، الأمر الذي يخالف واحداً من أهم الشروط الأمريكية للاعتراف بالشرع وحكومته.

وهذا كله يجعل موقف الإدارة الجديدة صعباً في كيفية التعامل مع هذين الملفَّين شديدَي التعقيد، ويجعل البلاد أمام خطر اقتتال بين الجهاديين، ما يؤثر على السلطة والشعب والإقليم، ويضعها أمام سؤالين محوريَين بعد انتهاء فورة رفع العقوبات عن سوريا أو تجميدها؛ الأوّل، هل يستطيع الرئيس السوري أحمد الشرع تجاوز هذين الملفَّين والعبور بالبلاد نحو خط الأمان في ظل استمرار النزاع الداخلي؟ والثاني، هل تستطيع الإدارة الجديدة حلّ هذه العقبات بجهودها الذاتية أم هي بحاجة إلى دعم دولي عسكري وأمني؟

خلافات ورؤى مختلفة

ليكون أيّ حديث عن الخلاف بين داعش وإدارة الشرع، أو سبب إصرار الغرب على إبعاد المقاتلين الأجانب، مفهومَين، لا بد لنا أوّلاً من فهم الرؤى المختلفة للأطراف الثلاثة حول “الجهاد” والحكم الإسلامي، فحتى لو كانوا جميعاً أبناء المدرسة الجهادية، إلا أن هناك خلافاً عميقاً في التفاصيل.

لنبدأ مع داعش، اليي يصرّ على التقسيم التقليدي للعالم بين كفّار ومسلمين، ووفق هذا يُقسّم البلاد إلى دار كفر و”جهاد” ودار إسلام. ولأنّ “الأرض لله يهبها من يشاء من عباده”، كانت الحدود بين الدول غير ملزمة لهم، ولأنّ الحكم لله، كانت كل الأعراف والقوانين الدولية مرفوضةً، والاحتكام إلى أي فكرة سواء بالشكل أو المضمون، بمثابة “احتكام للطواغيت وخروج عن دين الله”.

من جانب آخر، القاعدة التي ينتمي أغلب المقاتلين الأجانب إلى منهجها، لا تشذّ كثيراً عن أدبيات داعش، لكنها تدرك على العكس من التنظيم استحالة إقامة دولة إسلامية حقيقية بموازين اليوم، لأنها ستكون محط استهداف داخلي وخارجي، وستؤول الأمور إلى حمام دم يُنَفّر الناس من “الجهاد” الإسلامي، لذلك فضّلت خوض حرب استنزاف مع الغرب وتابعيه في المنطقة، عادّةً أنّ تكلفة الحرب صارت عاليةً على جيوش الغرب، وأنّ انكفاءه عن المنطقة سيحدث لأنّ شعوب الغرب لم تعد قادرةً على تحمّل تكاليف الحرب البشرية والاقتصادية. من هنا، اعتمدت القيام بعمليات متقطعة تستهدف من خلالها مصالح القوى الغربية في المنطقة، وتضرب هيبة الغرب في قلوب المسلمين، فتزداد أعداد المتحمسين لـ”الجهاد”، ويعجز الغرب عن ترسيخ نفوذه.

أما الحالة الثالثة التي جاء بها الشرع، فمن المهم أن ندرك خلال دراستها، أنه -أي الشرع- من جيل جديد من المجاهدين، ولديه رؤية مختلفة لـ”الجهاد” والدولة الإسلامية لم يتبلور معظمها للمراقبين، ولكن هناك ملامح عامة عنها. بدايةً، أعطى الحالة السورية خصوصيةً في “الجهاد”، وفصله في سوريا عن بُعده العالمي، ويمكن تتبّع ذلك من خلال تسميات الجماعات التي أسسها في سوريا، مثل: “جبهة نصرة أهل الشام”، و”جبهة فتح الشام”، وأخيراً “هيئة تحرير الشام”. وهذا اعتراف -وإن كان غير مباشر- بحدود سايكس بيكو، واعتراف بالمجتمع الدولي وأعرافه، ويظهر هذا جليّاً بالتقرّب من الغرب اليوم، كما أنّ العلاقة مع الغرب لم تبدأ اليوم، وهذا دليل على براغماتية الرجل والحلقة المقربة منه، ويتعزز هذا الاتجاه من خلال العلاقات المميزة مع دول الإقليم، على عكس ما كان عليه الأمر لدى الجهاديين الأوائل من اعتبار قتال الحكام العرب أكثر أهميةً، وسمّوه “جهاد العدوّ القريب”.

كل هذا يجعل إدارة الشرع مذهباً جديداً بين مذاهب الجهاديين يسعى إلى إقامة دولة إسلامية بشكل مقبول من العالم الغربي لتزول مفاعيل إسقاط الخلافة العثمانية عام 1924.

مشكلات بنيوية وحاجة إلى الخارج

يرى الناشط الحقوقي المتخصص في ملف الجماعات والحركات الإسلامية حسين شبلي، خلال حديثه إلى رصيف22، أنّ “داعش يمتلك أسباباً أيديولوجيةً لعداء الشرع، فهو يراه مرتدّاً عن الحق وكافراً؛ لأنه استخدم “الجهاد” ليصل إلى الحكم ثم انقلب على المجاهدين وتعامل مع الغرب الكافر، ولا شك لدى الجميع في أنّ الشرع ليس بمقدوره، بما يملك من قوات وخبرات، التعامل مع خطر داعش على مستوى سوريا عموماً، ولا سيّما مع سهولة تغلغل عناصره ضمن قواته نفسها، أو استقطاب عناصر من قواته ممن يشاركون داعش الاعتقاد بأن الشرع انحرف عن الطريق الذي بايعوه عليه”.

ويضيف: “لا بدّ من جهد استخباراتي دولي وإقليمي لمساعدة الشرع، غير أن هذا التعاون نفسه هو مشكلة للشرع أيضاً، فكلما ازداد تعاونه مع القوى الإقليمية والدولية، قدم لداعش أعداداً جديدةً من المتعاطفين، فالمشكلة ستبقى طالما لم تُحلّ الأسباب، بدءاً من اعتماد الشرع على عناصر جهادية لبناء الجيش والأمن وفق طابع إسلامي محدد، سواء بإدماج فصائل ذات خلفيات جهادية، أو باستقطاب العناصر الجديدة تحديداً للأمن العام وفق معايير تساهم في أدلجتهم تبعاً لتيار معيّن. هنا تنعدم الاحترافية والحيادية اللتان من المفترض أن تتمتع بهما المؤسسات الأمنية والعسكرية، ما سيخلق مشكلات داخليةً للشرع مع بقية المكونات، ومشكلات أمنيةً مع الإسلام الجهادي الراديكالي”.

يتابع شبلي: “ليس بإمكان الإدارة السورية التعويل على نجاحها في إدارة السجون التي تضمّ عناصر داعش، وهي تعتمد في كوادرها الأمنية والعسكرية على عناصر من خلفيات جهادية دون أن تضع ضمن احتمالاتها تعاطف بعضهم مع السجناء ومساعدتهم على الهروب، ما سيخلق أزمةً أمنيةً للإدارة ويضعف ثقة الغرب بإمكانياتها على محاربة الإرهاب، أو قد يتمكن عناصر التنظيم من إحداث عصيان داخل السجن، الأمر الذي سيضع الإدارة في موقف حرج مع بيئتها الحاضنة لو اضطرت إلى التعامل بعنف مع حدث كهذا. ولهذا: تكمن مشكلة الإدارة في صراعها مع داعش في اعتماد كليهما على العقل السلفي الجهادي نفسه الذي يميل إلى الراديكالية، وكل خطوة يخطوها الشرع اليوم نحو الدولة الحديثة التشاركية ستفقده رصيده رويداً رويداً لصالح من هم أكثر راديكاليةً. هنا تكمن أسباب نجاح الشرع في مقاومة داعش، عبر خلق بيئة عابرة للطوائف وحاضنة لمشروعه، والخروج بشكل حقيقي من الظلام إلى النور”.

في ما يتعلق بملف المقاتلين الأجانب، يشير شبلي، إلى أنّ “الأجانب بمعظمهم ذوو جذور قاعدية، وإن لم يُخشَ منهم على حكم الشرع لعدم امتلاكهم نموذجاً معيّناً للدولة الإسلامية، فيمكن أن يقنعهم تغليظ الأحكام الإسلامية وزيادة تدخّل الإسلام في حياة السوريين كبداية، ولكن يُخشى من أن يستخدم هؤلاء سوريا كقاعدة جهادية ينطلقون منها لضرب المصالح الغربية في المنطقة، وتقديم الدعم للحركات الجهادية في دول الجوار، فهم لا يطمحون إلى فتح القدس كما فتحوا دمشق، وكل خطاب مشابه هو للاستهلاك لا أكثر، لكن خطرهم هو أسلوب الحرب غير المباشرة الذي يفضلونه، من خلال القيام بالعمليات الأمنية، ولن يكون سهلاً إغفال خطر كهذا، فالأمر لا يتعلق بعددهم ولا بكفاءتهم القتالية، بل بكفاءة عملهم كخلايا خلف الكواليس وبشكل سرّي. ونعلم أنّ كشف خليّة من بضعة أفراد أمر صعب استخباراتياً، فكيف لو تحدّثنا عن آلاف المقاتلين، أي مئات الخلايا”.

و”بغضّ النظر عن أسلوب تعامل الشرع مع ملف المقاتلين، سواء اختار إقصاءهم والصدام معهم، أو احتواءهم وتجنيسهم”، برأي شبلي أنّ “على الإدارة السورية أن تختار بين أمرين من الصعب الجمع بينهما؛ الأول هو إصرارها على أسلوبها في تشكيل الجيش والأمن وفق صبغة أيديولوجية معينة، والثاني هو اعتمادها الكبير على المحيط الإقليمي والدولي لتثبيت حكمها، فلا سبيل إلى ضبط أي شكل إسلامي راديكالي سواء اخترنا الصدام معه أو احتواءه ببنية عسكرية وأمنية من الخلفية نفسها، فيكون كل عنصر لديك، لك وعليك في الوقت نفسه، فكلما نجحت في الحصول على رضا المجتمع الدولي وحصلت على قبوله بحكمك، تخاطر بانفجار بنيتك العميقة، خصوصاً أنّ الشرع بعد المرحلة الانتقالية لا شك سيكون أمام اختبارات ديمقراطية إن خاضها وعزز الحريات، عزز في المقابل إحساس الجماعات الإسلامية بخروجه عن جماعتهم، أما لو تمسّك باحتكار الحكم وبناء الدولة والمؤسسات بموجب الغالب والمغلوب، واستمر في إقصاء المخالفين، فمعنى هذا أنه سيضطر إلى ضبط الاختلاف السوري بالقوّة، وهذا سيبقي حكمه مرهوناً بالرضا الخارجي”.

لذلك، الحلّ الأسلم لسوريا بحسب شبلي، هو في “إعادة ضبط الأمور من جديد، وكأنّ الساعة الآن عادت إلى 6.18 وقت سقوط النظام، والقيام بإعادة هيكلة كل شيء بالشراكة مع كل السوريين لبناء جيش وطني لا فصائلي جهادي، وتفعيل العمل السياسي، وتحديداً التيارات العلمانية، لتوازن النفوذ الإسلاموي، لأنّ التوازن وعدم اختصار سوريا المتنوعة بتيار واحد، هما أكثر صحةً، ويمنعان طرفاً واحداً من الاستبداد وإلغاء الآخرين، وإلا سيكون كل حلّ يُتبع مع المقاتلين الأجانب وداعش مجرد حلّ مرحلي”.

لعنة الجغرافيا ونعيمها

وعن مستقبل السيناريو السوري، يعتقد شبلي، أنه “لا يمكن لسوريا أن تكون ليبيا أو أفغانستان، فمع كامل الاحترام للبلدين، إلا أنهما أقل أهميةً من الناحية الجيو-سياسية، ويمكن وصف جغرافيا سوريا باللعنة لها ولمحيطها، فأيّ حدث في سوريا هو حدث عالمي، كل إمبراطورية ودين يحتاجان إلى دمشق لنيل العالمية، ولا سبيل إلى احتواء حرب أهلية باردة كما في ليبيا، ففي سوريا قوات عسكرية تتبع لأربع دول، بالإضافة إلى الفصائل السورية، ولا سبيل إلى تركها لنظام يسبب إشكالاً لمحيطه كما حصل في أفغانستان، فكل دولة مهمة في العالم لديها حدود بطريقة أو بأخرى مع سوريا ومشكلاتها وطوائفها، كالصين وروسيا وأوروبا، فضلاً عن الدول الاقليمية، لذلك تحتاج سوريا إلى حلّ يشبهها ويخصّها. حتى الحديث عن طائف سوري غير ممكن، فاللحظة السورية فريدة، ولهذا رأينا أمريكا ترفع العقوبات بشكل غير معتاد منها سابقاً، ما يعني أنّ الجميع يدرك خطر انهيار سوريا”.

داعش لم يُشهر سلاحه بعد

يقول الباحث في الجماعات الجهادية حسام جزماتي، لرصيف22: “داعش منذ سقوط النظام وحتى هذه اللحظة لم يوجّه سلاحه ضد الإدارة الجديدة، وعملياته محصورة في مناطق محددة، وذلك نتيجة حسابات توازن القوى مع الإدارة برغم تكفيرها علناً، والإدارة بدورها تلاحق خلايا التنظيم وتشتبك معها ضمن عملها الروتيني، وعلينا الانتظار لرؤية التطورات المستقبلية، خاصةً إذا استلمت الإدارة الجديدة سجون داعش في شمال شرق البلاد”.

برأيه، “العلاقة بين تنظيم داعش والشرع طويلة، فهو جاء إلى سوريا ليؤسس فرعاً للتنظيم، ثم انشقّ عنه وأشهر الولاء للقاعدة، وأصبح في موقف المواجهة مع التنظيم الذي عدّه خائناً للبيعة والعهد”.

أما موضوع المقاتلين الأجانب، فيوضح جزماتي، أنّ “الشروط الأمريكية ترفض تواجد الأجانب ضمن مناصب قيادية وليس كمجنّدين، وبرغم قناعتي بعدم تعيينهم مستقبلياً كمجنّدين حتى ضمن الجيش السوري، لكن المقاتلين الأجانب غير طامعين في حصة ضمن إدارة الدولة السورية، فهم لديهم قضاياهم الخاصة، وتأثيرهم أقلّ بكثير مما هو متداول إعلامياً، وليسوا في وارد الخروج عن الشرع حالياً، وإذا وقع اقتتال مع الإدارة الجديدة فسيكون بين الإدارة ومن يرفض منهجها من جميع المتشددين، أجانب كانوا أو سوريين، خصوصاً أولئك الذين يتذمّرون من هذا المنهج ويرون أنه اختلف بعد الوصول إلى السلطة، وهم لا يقاتلون هذه السلطة حالياً، لكنهم يتصرفون كما يحلو لهم. وفي النهاية، في حال لم تنجح تجربة الإدارة الجديدة ونواياها الحسنة، فنحن ربما سنكون أمام نموذج قريب من النموذج الليبي”.

في نهاية الأمر، لا يوجد حلّ أمام السوريين إذا ما أرادوا التخلص من ثقل عقود حكم البعث والبدء ببناء دولة حقيقية واعدة سوى الاعتماد على أنفسهم والتكاتف في ما بينهم، حينها يمكن حلّ أي ملف مهما بلغ من التعقيد، فالتنوع السوري الذي ينظر إليه البعض حالياً كنقمة ومنطلق للشقاق والتطرف، يمكن أن يكون أيضاً بداية الحلّ ومرتكزه عبر مشاركة الجميع في حماية البلاد وإدارتها وإعادة إعمارها، وإن كان ذلك تحت كونترول جهة سياسية واحدة لا تستأثر بالحكم، وكل ما هو عكس ذلك يضع سوريا والمنطقة أمام خطر عقود سوداء قادمة.

رصيف 22

—————————————-

حكومة الشرع هدف “داعش” الجديد في سوريا/ صبحي فرنجية

“المجلة” تنشر شهادات ومقابلات لعناصر خرجوا من سجون “قسد”

آخر تحديث 03 يونيو 2025

مضى أكثر من ست سنوات على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب هزيمة تنظيم “داعش” بنسبة 100 في المئة” على حد قوله يوم 22 مارس/آذار 2019، إلا أن قوات التحالف الدولي ما زالت موجودة في سوريا حتى يومنا هذا، تحارب خلايا التنظيم، إضافة إلى جهود إقليمية وسورية كبيرة في الوقت الراهن لمواجهة خطر التنظيم الذي اعتقد العالم أنه انتهى في مارس 2019.

خلايا تنظيم “داعش” خلال السنوات التي تلت الإعلان الأميركي أعادت بناء نفسها، وإمكانياتها، وطورت وسائل تواصل بينها وبين قادة وعناصر التنظيم الموجودين في سجون “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، السجون التي تحتوي على قنبلة موقوتة، قد تصل نيرانها أبعد من الجغرافيا السورية.

اطلعت “المجلة” على 18 محضرا لمقابلات مع عناصر من “داعش” أمضوا سنوات طوال في سجون “قسد”. وقد أجريت هذه المقابلات لأغراض بحثية، حيث تكشف هذه المقابلات الكثير من التفاصيل حول ظروف السجون وكيف أثرت على عقلية التنظيم من خلال تقوية رغبته في الاستمرار، كما كشفت المقابلات عن استفادة قادة وعناصر “داعش” في السجون من الوقت لإجراء محاكمات فكرية لظروف نشأة التنظيم وأفوله، إضافة إلى قيامهم باستغلال فساد حراس وقضاة تابعين لـ”قسد” في السجون، ليتمكنوا من استعادة تواصلهم مع العالم الخارجي وخلايا التنظيم وقادته في البادية السورية ومناطق “قسد”، هذا التواصل كان له دور كبير في تنسيق الهجوم الشرس الذي شنّه التنظيم على سجن الصناعة في الحسكة عام 2022 الذي يحتوي على آلاف المقاتلين والقادة الذين حاربوا بين صفوف “داعش”.

وتكشف المقابلات والمعلومات التي حصلت “المجلة” على نصوصها عن إجماع شبه كامل لدى خلايا تنظيم “داعش” على أن الدولة السورية الجديدة هي هدف التنظيم القادم وأن “قتالها واجب”، وسط نقاشات معمّقة تمت بين عناصر وقادة التنظيم في سجون “قسد” من جهة، وبينهم وبين الخلايا خارج السجون من جهة أخرى، وذلك من أجل وضع خطط إضعاف الدولة السورية الجديدة، وتشتيت قدراتها، وشيطنتها لخلق فرص تجنيد عناصر جدد، خصوصا أولئك الغاضبين من توجهات الدولة السورية نحو الانفتاح مع الدول العربية والغربية، فضلا عن وضع خطط لمحاولة اختراق صفوف الحكومة السورية.

غرف مكتظة وظروف قاسية تزيد التطرف

كثرت السجون في منطقة شرق الفرات السورية منذ بدء المعركة الشرسة التي شنها التحالف الدولي بالتعاون مع “قسد” ضد “داعش” في سوريا عام 2016، وذلك عندما قال المتحدث باسم التحالف الدولي ستيف وارين في شهر أبريل/نيسان من العام نفسه خلال تصريحات صحافية إن المرحلة الثانية من الحملة الدولية ضد تنظيم “داعش” قد بدأت بالفعل. وأضاف: “المرحلة الثانية من الحرب على (داعش)، ستمكّن شركاءنا من تفكيك العدو، وتشتيت قواته وعزل مراكز جذبه وتحرير الأراضي التي يسيطر عليها”.

بعض السجون اكتظت بالمساجين فتم افتتاح سجون أخرى لتخفيف الضغط، وبحسب إحصائيات غير رسمية فإن “قسد” اليوم تُدير نحو 26 سجنا فيها 12 ألف سجين، الآلاف منهم تم اعتقالهم أثناء المعارك ضد تنظيم “داعش” وهم من جنسيات سورية، وعربية، وأجنبية.

وبحسب العناصر الذين تمت مقابلتهم، فإن الأوضاع كارثية في السجون كسجن الصناعة وسط الحكسة وسجن الرقة وسجن الكم الصيني في مدينة الشدادي، وأعداد السجناء في الغرفة الواحدة أكبر من سعتها، إضافة إلى نقص في إمكانيات النظافة والطعام، وحالات تعذيب في السجون جعلت الحديث الأبرز بين السجناء عن كيفية الانتقام من السلطات التي تُدير السجون فور خروجهم من السجن. كما أتاحت حالة الاكتظاظ هذه الفرصة أمام السجناء لإعادة ترتيب أفكارهم الخاصة بمستقبل التنظيم، خصوصا في ظل غياب أي برنامج داخل السجون لمحاربة الفكر المتشدد لهؤلاء العناصر، وإعادة تأهيلهم تمهيدا لخروجهم إلى العالم من جديد.

سالم (اسم مستعار)، 35 عاما، تم اعتقاله في عام 2018، يقول إن مرحلة التحقيق معه كانت في حقل التنك النفطي، ثم تم نقله إلى سجن الصور، لينتهي به المطاف في سجن الصناعة عام 2019، وبحسب سالم فإن “المهجع” الذي كان فيه مع نحو 140 سجينا لا يتسع لأكثر من 50 شخصا. ويتابع: “أثناء التحقيق كانوا يمارسون علينا كل أشكال التعذيب الجسدي والنفسي، والصعق الكهربائي، والسجن الانفرادي عبارة عن قبر داخل قبر”. سالم فقد من وزنه الكثير، فقد دخل السجن بوزن 105 كيلوغرامات، ليصل بعد سنوات إلى نحو 60 كيلوغراما، على حد تعبيره.

لؤي (اسم مستعار)، 28 عاما، تم اعتقاله عام 2018، هو الآخر انتهى به المطاف في سجن الصناعة لاحقا، يصف السلطات المحلية في شرق الفرات بأنها “ملحدة”، وعدّ الوضع في السجن بأنه كارثي، وأن كثيرا من السجناء الذين تم إيداعهم في الغرف المنفردة كادوا يصابون بالجنون، حتى إن بعضهم كان يواجه صعوبة في النوم لأيام طويلة. كما يقول رافع (اسم مستعار)، 41 عاما، والذي تم وضعه في السجن نفسه، إن التحقيق كان يجري باللغة الكردية بوجود مترجم، وإن “أي كلمة تخرج من السجين عن سياق التحقيق كانت نتيجتها الضرب المبرح بالعصا الغليظة”.

أما أحمد (اسم مستعار)، 38 عاما، فاعتقل عام 2020، ليُصار إلى وضعه في سجن الكم الصيني، فيقول بلغة وصفية إن “لحظة دخولك السجن هذا تقطع علاقتك تماما مع العالم النظيف والظروف الإنسانية، النظافة كلمة غريبة جدا هناك، يمكن أن تُمضي شهورا طويلة قبل أن تصل إلى صنبور المياه للاستحمام، والتهوية هناك كلمة غائبة عن قاموس السجن، فالهواء يحمل معه روائح أجساد الناس المتسخة ممزوجة بروائح القذارة الموجودة في السجن”.

في سجن الرقة، لم يكن الوضع أفضل من سجني الصناعة والكم الصيني، فبحسب أبو محمد (اسم مستعار)، 27 عاما، فإن الغرفة التي كان يوجد فيها بسجن الرقة كانت تحتوي على 40 سجينا، وأن غالبيتهم كانت اتهامات اعتقالهم هي “نشر الفكر المتطرف عبر الإنترنت، التجنيد لصالح التنظيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي”. أبو محمد يقول إن أحد المساجين في الغرفة نفسها وجد ميتا في أحد الأيام، نتيجة نقص العلاج والرعاية الطبية هناك، وذلك بعد معاناة امتدت لأيام مع آلام حادة في الصدر. يضيف أبو محمد أن بعض المساجين الذين عانوا من “الجرب” كانوا “يحكّون” أجسادهم بشدة نتيجة الألم “ما سبّب نزيفا في جلود البعض، دون وجود علاج كافٍ، إضافة إلى الانتشار السريع للأمراض الجلدية بين المساجين بسبب الاكتظاظ والتصاق السجناء ببعضهم في الغرفة الواحدة”.

جميع من تمت مقابلتهم تحدّثوا عن الأوضاع السيئة للسجون، حتى إن بعضهم تحدّث عما سموه “انتهاكات للقيم الإنسانية في التعامل”، وأن “التعذيب، والعزل، والإهانة، والمعاملة السيئة كانت الحديث الأبرز بين السجناء” الذين كانوا في الوقت نفسه يخططون للانتقام- في اللحظة المناسبة- من كل شخص عرفوه ضمن السجن، و”كان طرفا في تعذيبهم وإهانتهم”، كما كان السجناء يبذلون جهدهم  لنقل معلومات عن أوضاع السجون إلى عناصر التنظيم خارج السجن عبر طرق تواصل تتم من خلال استغلال وجود قادة وعناصر مسؤولين عن حماية السجن تقاضوا المال مقابل إدخال هواتف ورسائل إلى المساجين.

تجدر الإشارة إلى أن تنظيم “داعش” استخدم عبر سنوات سيطرته على المناطق في سوريا والعراق على العنف العلني بحجة “الترهيب”، فهو الذي نفّذ إعدامات ميدانية جماعية في دير الزور والرقة، إضافة إلى قطع الرؤوس أمام الناس في الساحات العامة، ونشر فيديوهات مُعدّة بشكل احترافي يعرض فيها التنظيم طرق إعداماته من قطع الرؤوس، والذبح، وتفجير المعتقلين، والحرق، والإغراق، إضافة إلى فيديوهات تُظهر أطفالا يقومون بتنفيذ عمليات الإعدام. مشاهد كثيرة يصعب إحصاؤها، صدمت العالم، وقادت إلى تشكيل تحالف دولي وتحالفات سورية لمواجهة التنظيم من قبل جميع القوى المسلحة في سوريا.

فساد يُتيح الفرص للتنسيق والتواصل

لم يكن دخول السجن بالنسبة لكثير من عناصر “داعش” نهاية الحكاية، بل كانت مرحلة مؤقتة على حد تصوّرهم، فهم وبعد فترة وجيزة استغلّوا وجود حراس وسجانين وقادة من “قسد” توّاقين للحصول على المال، فقام عناصر التنظيم بتحويل هؤلاء إلى نقطة ارتكاز لهم لتحقيق عدة مكاسب منها حسن المعاملة في السجن والحصول على طعام جيد وأماكن جيدة والاستحمام الدوري، ومن المكاسب أيضا الوصول إلى خارج السجون عبر رشوة بعض القضاة، أو الحصول على هواتف للتواصل مع خلايا “داعش” الموجودة خارج السجن سواء في منطقة سيطرة “قسد” أو في البادية السورية جنوب دير الزور، عملية التنسيق مع هؤلاء الحراس والسجّانين كانت تتم من خلال عناصر التنظيم داخل السجن وخارجه.

وبحسب ما قاله المساجين الذين تمت مقابلتهم، يتم إدخال هواتف محمولة مزوّدة بخطوط جاهزة “عن طريق الحراس المتعاونين مع التنظيم والذين تتم رشوتهم من قبل عناصر التنظيم في الخارج”، وأحيانا تصل تكلفة تهريب الهاتف المحمول مع الخط للسجين إلى 3 آلاف دولار أميركي، يُضاف إليها دفعات دورية على سبيل شحن بطارية الجهاز أو شحن الخط كلما انتهت الباقة الخاصة به. الدفع مقابل هذه الخدمات كان يتم عبر خلايا التنظيم النشطة في الخارج من خلال طريقة تواصل خاصة بين الأطراف الثلاثة.

الهواتف يتم تهريبها إلى القياديين في التنظيم في المهاجع، وهؤلاء يكونون صلة الوصل بين الخلايا التابعة للتنظيم خارج السجن، وبقية العناصر الموجودين داخله والذين ما زالوا يوالون التنظيم وينتسبون إليه، وبحسب كثير ممن تمت مقابلتهم فإن عملية التواصل كانت موجودة بين قادة التنظيم داخل وخارج السجن فيما يخص تنسيق عمليات “داعش” خارج السجن، وعمليات تهريب الأجهزة ورشوة حراس السجن، أو عمليات تهريب عائلات عناصر التنظيم من مخيم الهول، إضافة إلى عمليات الرشوة الخاصة ببعض القضاة لإخراج قادة وعناصر للتنظيم من السجن من خلال تخفيف التهم الموجهة إليهم، أو من أجل استصدار قرارات إفراج مزورة حيث يتولى حراس متعاونون مع الخلايا- مقابل المال- مهمة إخراج العناصر من داخل السجن. وبحسب بعضهم فإن هناك عمليات تنسيق تتم حول قرارات اغتيال أشخاص خانوا التنظيم أو يعملون لصالح “قسد” داخل السجن أو خارجه، إضافة إلى ذلك يتم استخدام هذه الهواتف لأغراض التواصل بين المساجين وخلايا التنظيم المتبقية في مخيم الهول.

عمليات التواصل هذه أبقت التنظيم على الحد الأدنى من التنسيق، سواء لعمليات التهريب أو الهجمات أو  إيصال معلومات عن الاستراتيجيات التي يتخذها التنظيم خارج السجن، وقد تكون الهجمات التي نفذها تنظيم “داعش” لكسر حصون سجن الصناعة هي إحدى ثمار هذا التنسيق بين الخلايا الموجودة داخل السجن وخارجه، حيث كانت الهجمات منظمة بين الخلايا، فحدثت تحركات متزامنة داخل السجن وخارجه في آن واحد.

سجن الصناعة كثمرة تواصل

مساء يوم 20 يناير/كانون الثاني عام 2022، شن تنظيم “داعش” هجمة شرسة على سجن الصناعة الواقع في حيّ غويران بالحسكة، والذي يحتوي على نحو 5 آلاف مقاتل من تنظيم “داعش” من جنسيات مختلفة عربية وأجنبية. الهجوم بدأ بين الساعة السادسة والسابعة مساء عبر إرسال التنظيم لعربتين مفخختين الأولى توجهت نحو الباب الرئيس للسجن، والثانية على خط متوازٍ يبعد عن البوابة قرابة 200 متر، وبعد انفجار العربتين فورا، شنت مجموعات “انغماسية” هجمات لدخول السجن أدت إلى انهيار سريع لكل البنية الأمنية التي وضعتها “قسد”، ودخل عناصر التنظيم إلى السجن لكسر الجدر الموصلة إلى المهاجع. في هذه الأثناء كان عناصر التنظيم داخل السجن يشنون حملات هجوم على حرس السجن، ويقتلون كل من كانت أسماؤهم على قائمة الاغتيال والذين كانوا جزءا من منظومة التحقيق أو التعذيب، فضلا عن أن الهجمات الداخلية لم تستثنِ أي أحد من العاملين في السجن. حتى صباح 21 يناير/كانون الثاني 2022، كان تنظيم “داعش” قد سيطر على السجن كاملا تقريبا وقتل كل العاملين في السجن والحرس، وبدأت عملية تهريب السجناء بعد السيطرة على مستودع أسلحة كان في السجن. ويقول سالم إن “بعض المساجين الذين عرفوا جلاديهم أثناء أحداث سجن الصناعة انتقموا منهم وقتلوهم وقطعوا رؤوسهم”.

قوات التحالف و”قسد” استطاعت السيطرة على السجن مرة أخرى بعد سبعة أيام من العمليات العسكرية هناك، والتي أدت إلى اعتقال نحو 3500 مقاتل من التنظيم الذين كانوا داخل السجن، دون معرفة كثير من المعلومات عن مصير نحو أكثر من ألف سجين سواء كانوا قُتلوا أم فرّوا. هذا الهجوم المنسق والمنظّم أثبت أن التنظيم ما زالت لديه القدرة على التنسيق وتنفيذ عمليات نوعية. فاتخذ التحالف و”قسد” إجراءات مشددة داخل السجن، ووضعوا كاميرات مراقبة، وبحسب كثير من المساجين فقد تم تقليل كميات الطعام على المساجين. الإجراءات الأمنية لم تكن توازي قدرة التنظيم على التأقلم، فحتى بعد تشديد القبضة الأمنية على المساجين بعد هجمات سجن الصناعة فإن عناصر التنظيم استطاعوا مجددا إدخال الهواتف المحمولة واستئناف التواصل مع الخلايا الخارجية، ومع بعض الخلايا في المخيمات التي تديرها “قسد” مثل مخيم الهول.

ويشير مزاج بعض العناصر الذين تمت مقابلتهم إلى وجود دفعة عاطفية إيجابية قوية بعد هجمات سجن الصناعة، كما أن “أحداث سجن الصناعة كانت نقطة تحول بالنسبة لمقاتلي التنظيم الموجودين في السجن، فقد أثبتت أن السجن لا يعني النهاية”، كما أن الهجمات التي نفذتها خلايا التنظيم في سوريا فتحت الباب للمساجين من أجل إجراء مراجعات دقيقة ومفصلة لمراحل نشأة التنظيم، وقوته، وأفول سيطرته على المناطق في سوريا والعراق، هذه المراجعات التي سمحت ظروف السجن بها- حيث إن الغرف مكتظة بالمساجين- وصلت إلى مراحل رسم استراتيجيات لمستقبل التنظيم وطرق إعادة إحيائه بالاستفادة من أخطاء الماضي.

مراجعات فكرية ورسم معالم  استراتيجية جديدة

ساعات طويلة يُمضيها العناصر مع القادة الموجودين بينهم، يتحدثون خلالها عن الدين والدولة وتنظيمهم الذي سيطر على مساحات واسعة دون أن يتمكن من الحفاظ عليها لفترة طويلة، يدرسون استراتيجيتهم القديمة بإيجابياتها وأخطائها، بمن كان معهم ومن خانهم، و”الاختلافات بين القادة التي أدت إلى إضعاف قوة التنظيم وانهيار قدرته الجغرافية”. هذه المراجعات لم تكن تتم داخل السجن وتنتهي فحسب، بل كانت مخرجاتها تسير عبر الهواتف والرسائل إلى الخلايا خارج السجن، ليُصار إلى تمحيصها ومحاكمتها، وتتحول في نهاية المطاف إلى نقطة ارتكاز تعتمد عليها الخلايا في عملياتها أو سكونها.

يقول لؤي إن المساجين في سجن الصناعة “يتبادلون الأفكار، يخططون للمستقبل، يؤكدون بينهم أن الحرب لم تنتهِ وأن دولة الخلافة ستعود”، ويشير إلى أن بعض النقاشات تتم حول الظروف الممكنة التي ستساعد التنظيم لإعادة قوته، كفائدة الفوضى، وآليات التجنيد بالاعتماد على استراتيجيات جديدة، وطرق استغلال الثغرات الأمنية والخلافات بين القوى الموجودة في سوريا.

كما يقول أبو محمد، إنه في سجن الرقة كانت النقاشات أحيانا حادّة، حيث أسمع أصواتهم وهم يتهمون بعضهم البعض بالضلال أو الخطأ أو الخروج عن المنهج، ومن بين النقاشات التي سمعها أبو محمد أن مجموعة من العناصر كانوا يطالبون بتغيير جذري للتكتيك القديم الذي استخدمه التنظيم، واعتماد تكتيكات جديدة مثل التحول قليلا إلى المرونة والتكيف مع الظروف المتغيرة، لكن دون أن يكون هناك تغيير في الثوابت القائمة على إقامة دولة الخلافة من جديد.

ويمكن تلخيص طبيعة تلك النقاشات ومخرجاتها- بحسب ما ذكره الأشخاص الذين تمت مقابلتهم- في النقاط التالية:

حدثت نقاشات حول الأخطاء التي ارتكبها قادة التنظيم باعتقادهم أن القوة والقتل والترهيب تكفي للسيطرة على الأرض، وبحسب النقاشات فإن ذلك لم يكن صحيحا واستدلوا باستنتاجهم بمساعدة المدنيين لأي قوة حاربت التنظيم، مما يعني أنهم لم يستطيعوا كسب الناس، كما أن من الأخطاء المتصلة بالقوة والترهيب هي الخطاب المتشدد جدا، والذي لم يفهمه الناس، ما أدى إلى عزل التنظيم لنفسه عن القاعدة الشعبية.

من خلاصات النقاشات التحول من فكر الدولة- مؤقتا- إلى فكر الخلايا السرية، وذلك من خلال إعادة الهيكلة التنظيمية للتنظيم، واعتماد مبدأ اللامركزية للخلايا، حيث يتم إرسال الاستراتيجية والأهداف للخلايا من قبل القيادات، ويُترك أمر التنفيذ لقادة الخلايا. وبذلك يصعب على القوى متابعة الخلايا واستهدافها بشكل كامل.

ضرورة التركيز في الوقت الحالي على ما يطلقون عليه اسم “الدفاع الجهادي”، بمعنى القيام بالعمليات الخاطفة والصغيرة، وعدم الدخول في معارك كبرى تؤدى إلى خسائر فادحة تُضعف خلايا التنظيم أكثر، وبحسب النقاشات التي تمت بينهم فإن هذه الاستراتيجية في الوقت الراهن تخدم التنظيم من عدة نواحٍ: خسائر أقل، خلق فوضى وثغرات أمنية تساعد الخلايا على التحرك أكثر، والحصول على فرصة أكبر لتجنيد مقاتلين جدد في التنظيم.

أهمية تشكيل شبكات سريّة تتمحور أعمالها على توفير الدعم المالي واللوجستي للخلايا، دون أن يكون لدى هذه الشبكات علم بأي تفاصيل عن طبيعة العمليات أو مكان الخلايا، بحيث يكونون بمعزل عن التنظيم وعملياته لكنهم يخدمون مصالحه المالية في الوقت ذاته.

بعض النقاشات أيضا تمحورت حول كيفية تشتيت الجهود الدولية، وذلك من خلال التواصل مع قادة التنظيم وقادة المجموعات المسلحة التي تشبه توجه التنظيم خارج إطار الجغرافيا السورية، والتنسيق معهم لتنفيذ عمليات في تلك المناطق تستهدف المصالح الدولية، لتخفيف الضغط على التنظيم في سوريا.

درست النقاشات أيضا ضرورة استخدام الإعلام كوسيلة من أجل نشر أفكار جديدة عن التنظيم-تكون أقل تشددا في المرحلة الأولى- تمهيدا لتجنيد الشباب، ويرون أن الإعلام يمكن أن يكون حجر أساس في “تكوين قاعدة صلبة من الأنصار المؤمنين بالمنهج، ويكونون رأس حربة في المستقبل لتنفيذ العمليات أو استقطاب الشباب”.

كل هذه النقاشات ونتائجها ترى طريقها إلى خارج السجن، ولعلّ أحوال التنظيم اليوم واستراتيجياته الجديدة يمكن رؤيتها من نافذة هذه النقاشات، فالتنظيم بعد سقوط النظام السوري لم يقم بعمليات واسعة، بل ما زال معتمدا على مبدأ الخلايا والهجمات السريعة والصغيرة في منطقة “قسد” ومناطق الدولة السورية، بالإضافة إلى استغلال حالة التأرجح الأمني في سوريا لنقل خلاياه والعناصر من مناطق متفرقة نحو مناطق “قسد”، والبادية السورية، وحمص، ومناطق تُحسب جغرافيا على محافظات الساحل السوري.

وبحسب المعلومات فإن تنظيم “داعش” يعمل اليوم على التجنيد، واستغلال غضب بعض الفصائل من الدولة السورية الجديدة وتوجهاتها من خلال تكثيف التواصل مع الغاضبين وتهيئة الأرضية المناسبة لتجنيدهم أو التنسيق معهم في شنّ عمليات ضد مؤسسات الدولة السورية وموظفيها، كما أن التنظيم من المرجح أن يقوم باستغلال الغاضبين وتحويلهم إلى “جواسيس” داخل أجهزة الحكومة، فضلا عن قيامه بتشجيع عناصره للانضمام إلى الأمن العام والجيش عن طريق أبواب الانتساب التي فتحتها الدولة السورية.

الحكومة السورية هدف التنظيم

جميع العناصر تمت مقابلتهم بعد سقوط النظام- خلال شهر فبراير/شباط الماضي- من بينهم 10 عناصر خرجوا في وقت سابق من السجون. الجميع قالوا إن “الدولة السورية بقيادة أحمد الشرع” هي دولة “علمانية” وأن قتالها “أمر حتمي”، ويقول سالم إن “الجولاني وجماعته منذ أن خرجوا عن عباءة الدين نحو حبّ السلطة قبل سنوات تحولوا إلى مشركين، وعناصر الجولاني هم مرتدون وعملاء”، ويضيف أن التنظيم يرى الشرع “عبارة عن عميل للغرب تم وضعه في دمشق”.

لؤي يقول أيضا إن عناصر التنظيم داخل السجن وخارجه يُجمعون على أن الدولة السورية الجديدة هي هدف للتنظيم، ويرون أن الشرع ودولته “يتعاونون مع الفصائل العلمانية والدول العربية والغربية وتركيا”، أما رافع فيرى أن قادة الدولة السورية الجديدة “يُظهرون موالاتهم للطواغيت ويناصرونهم على المسلمين، وهذا كفر صريح”.

وبحسب الذين تمت مقابلتهم، فإن كثيرا من النقاشات التي تمت في السجن ومع خلايا التنظيم في الخارج كانت حول آليات إضعاف الدولة السورية الجديدة وشيطنتها وقادتها، بحيث يمكن استغلال حالة الضعف وتعزيزها من أجل خلق فرص ملائمة لاستهداف الدولة السورية ورموزها، وفي خارج السجن تدرس الخلايا إمكانية إعادة التموضع بين المدنيين في مناطق لم يكن فيها التنظيم سابقا وذلك للتحضر من أجل شن هجمات خاطفة وسريعة ضد الدولة، إضافة إلى محاولة تجنيد عناصر جدد أو نشر الرعب من الدولة في نفوس بعض الفصائل الأجنبية التي كانت موجودة في مناطق “هيئة تحرير الشام” سابقا من خلال إقناعهم بأن الدولة السورية ستستهدفهم قريبا وتنهي وجودهم في سوريا، ما يجعلهم يبحثون عن حليف لضمان سلامتهم.

“داعش”… خطر تتحضر له الدولة السورية

لأول مرة منذ سقوط النظام، تبنى “داعش” يوم الخميس الماضي 29 مايو/أيار، هجوما ضد الحكومة السورية عبر معرفاته، وبحسب ما نشر التنظيم فقد “انفجرت عبوة ناسفة زرعها جنود (دولة الخلافة) مسبقا على آلية لميليشيا جيش سوريا الحرّة بمنطقة تلول الصفا”. وأضاف البيان أن “الهجوم أدى لمقتل عنصر وإصابة 3 آخرين”.

الهجوم الذي شنّه “داعش” جاء بعد أيام من عمليتين نفذتهما الحكومة السورية في حلب وريف دمشق ضد خلايا “داعش”، أسفرت عن اعتقال عدد من عناصر التنظيم ومقتل آخرين، فضلا عن مصادرة أسلحة وعبوات ناسفة كان التنظيم ينوي استخدامها في هجماته ضد الحكومة السورية والسوريين.

يقول محافظ دير الزور غسان السيد في حديثه مع “المجلة” إن خطر الميليشيات الإيرانية وخطر تنظيم “داعش” من أبرز المخاطر التي تواجهها المحافظة، مؤكدا أن خطر “داعش” قائم في محافظة دير الزور والبادية، وهو خطر حقيقي، موضحا أن هناك عمليات تهريب تتم من مناطق “قسد” نحو محافظة دير الزور، والبادية، وأن لدى الدولة السورية معلومات حول نشاط التنظيم وتعمل على مواجهته بكل السبل الممكنة.

كما تحدّثت “المجلة” مع عدد من قادة الأمن العام في الحكومة السورية حول خطر “داعش” القادم، والجهود المبذولة لمواجهة هذا الخطر، الجميع أكدوا أن جهودا كبيرة يتم بذلها لمراقبة نشاط “داعش” وخلاياه وسبل تجفيف قدراتهم العسكرية والرقمية، إضافة إلى أن الدولة السورية أرسلت الكثير من التعزيزات إلى مناطق وجود الخلايا كبادية دير الزور وتدمر ومنطقة الحماد وغيرها من المناطق المفتوحة على الصحراء السورية. هذه التعزيزات تضمنت أيضا إرسال عناصر على الحدود السورية العراقية لمنع التهريب الذي يمكن أن تقوم به خلايا “داعش”.

لا شك أن الدولة السورية وحدها لن تكون قادرة على مواجهة خطر “داعش” بسرعة، خصوصا في ظل وجود توترات وعدم استقرار أمني بين الحكومة وبعض القوى العسكرية سواء في جنوب البلاد أو في شرقها. يُضاف إلى ذلك خطر جدّي آخر يتمثل في بقايا النظام السابق، وبعض العناصر السابقين ضمن الميليشيات الإيرانية والذين ما زالوا على تواصل مع الميليشيات التابعة لإيران سواء في لبنان أو العراق. عدم قدرة الحكومة على وضع كامل إمكانياتها لمواجهة التنظيم في الوقت الحالي يفتح الأبواب أمام فرص تعاون إقليمي ودولي مع الحكومة السورية وتنسيق مشترك من أجل دعم الجهود السورية والدولية للقضاء على “داعش” ، وهو أمر لن ترفضه دمشق التي أبدت استعدادا له من خلال الاعتماد على معلومات من قبل الجانب الأميركي في شهر يناير/كانون الثاني من العام الجاري، حيث نشرت صحيفة “واشنطن بوست” في الشهر نفسه تقريرا ذكرت فيه أن المخابرات الأميركية زوّدت دمشق بمعلومات عن مخطط لتنظيم “داعش” من أجل استهداف مزار السيدة زينب بريف دمشق.

ويمكن قراءة تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، من دمشق يوم 29 مايو الماضي، في سياق التحالف المشترك الممكن بين واشنطن ودمشق لمحاربة تنظيم “داعش”، حيث قال باراك إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعتزم إعلان سوريا دولة غير راعية للإرهاب قريبا، موضحا أن الإدارة الأميركية تهدف إلى تمكين الحكومة في دمشق، وأن الجيش الأميركي أنجز ببراعة 99 في المئة من مهمته ضد تنظيم “داعش” في سوريا.

المجلة

——————————-

من هم «سرايا أنصار السنة»؟

مجموعات «غاضبة» تظهر وتخبو في سوريا… أشباح افتراضية أم تنظيمات إرهابية تنمو في الظل؟/ سلطان الكنج

ترفض التقارب مع إسرائيل وتهدد دمشق وطرابلس اللبنانية

1 يونيو 2025 م

عدّ لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترمب في الرياض بتاريخ 14 مايو (أيار) الماضي، مشهداً سياسياً غير مألوف في السياق السوري، ومفاجئاً. وإذ عبّر كثيرون عن فرحتهم بهذا اللقاء، فإن وقع الصدمة كان عميقاً داخل أوساط التيار المتطرف الذي تأسس خطابه اعتبار الولايات المتحدة عدوه الأبرز، حسبما تصوّره أدبياته.

اللقاء الذي جمع الشرع بترمب، وهو في مخيال الأوساط المتطرفة رمز للمنظومة الدولية المعادية، أطلق موجة ردود فعل متباينة وصل بعضها إلى حد التكفير. لم تتخذ هذه الردود طابعاً مركزياً أو منظّماً، لكنها ظهرت بتواتر عبر تطبيق «تلغرام» – الذي يُعدّ (للمفارقة) المنصة المفضلة للمجموعات الإرهابية – وفي جلساتهم المغلقة، وأحياناً في حسابات تابعة لهم على منصة «إكس». تباينت تلك المواقف بين التوجّس، والتكفير، والغضب، والتململ من سياسة الانفتاح التي ينتهجها الشرع تجاه الغرب، خاصة تجاه إسرائيل، والتبرير الشرعي لضرورة المرحلة.

مع ذلك، لا يمكن القول إن هذه المواقف تمثّل تياراً له ثقل داخل الدولة السورية الجديدة، أو داخل القوى الأمنية والعسكرية التي تشكلت بعد سقوط النظام السابق، خصوصاً أن الكتلة الكبرى ضمن هذه القوى – أي «هيئة تحرير الشام» سابقاً – تُبدي انسجاماً واضحاً مع سياسات الشرع ومواقفه السياسية والعسكرية والأمنية. فهذه الكتلة، التي شكّلت البنية الأساسية للجيش والأجهزة الإدارية الجديدة، لا تظهر أي مؤشرات على رفض خط الرئيس، بل تعدّه المسار الأنسب لقيادة البلاد في هذه المرحلة، ومعها بقية القوى التي انضوت تحت سلطة الدولة بمختلف مجالاتها.

تتكون هذه القوى من فصائل متعدّدة، أغلبها كان ضمن غرفة العمليات العسكرية التي أسقطت النظام السوري في دمشق. هذه الفصائل باتت اليوم جزءاً من الجيش السوري الجديد، وتُجمع غالبيتها على تأييد الرئيس الشرع، وترى في خطواته تجاه الخارج – بما فيها إسرائيل – ضرورة لمرحلة ما بعد النظام.

لكن، في مقابل هذا التماهي داخل المؤسسات، بدأت تظهر أصوات رافضة لهذا التوجّه من خارج بنية الدولة. ويبدو أن «سرايا أنصار السنة» هي الجهة الوحيدة التي تعبّر بشكل معلن عن هذا الرفض. الجماعة، التي ما زال يحيط بها كثير من الغموض، وتعدّ أحدث التنظيمات التي ظهرت على الساحة بعد سقوط الأسد، بدأت نشاطها من خلال قنوات مغلقة في «تلغرام»، وتبنّت خطاباً شديداً في التكفير والتهديد، دون أن تظهر على الأرض أو تقدم هوية تنظيمية واضحة. وكان أحد البيانات الصادرة عنها وتم تداوله أخيراً، يعلن أن التنظيم سيصعّد ضرباته في جميع المحافظات السورية وفي طرابلس في لبنان التي أعلن سابقاً عن نشاطه فيها.

وصحيح أنه حتى الساعة لا يبدو أن للتنظيم أي ثقل عملياتي على الأرض، لكن في هذه الأوساط تكفي أحياناً قلة لإطلاق «ذئاب منفردة» وزعزعة الأمن.

وكانت «سرايا أنصار السنة» قد أعلنت عن نفسها للمرة الأولى في فبراير (شباط) الماضي، ببيان تأسيسي تبنّت فيه عملية في قرية أرزة بريف حماة، أوقعت أكثر من عشرة قتلى من المدنيين. وركّز البيان على مفاهيم «الانتقام الطائفي» و«مهاجمة النصيرية والروافض»، وأكد أن الجماعة «لا مركزية» وتتبنّى أسلوب «الذئاب المنفردة» دون مقرات أو قيادة واضحة.

وبينما رفضت وزارة الداخلية السورية الإدلاء بتفاصيل حول الجماعة، أكدت أنها تتابع نشاطها من كثب، ما يشير إلى أن الدولة تأخذ التهديد على محمل الجد، رغم غياب البنية التنظيمية الملموسة.

من هم «سرايا أنصار السنة»؟

علمت «الشرق الأوسط» من مصادر مطّلعة في شمال سوريا، أن «سرايا أنصار السنة» هي الجهة التي أعلنت مسؤوليتها عن عمليات اغتيال في ريفي حماة وحمص، واستهدفت مدنيين من الطائفة العلوية، مبررة ذلك بأنه «انتقام» ممن وصفتهم بـ«الشبيحة» الذين لم تُحاسبهم الدولة، متهمين إياها (الدولة) بعدم الإيفاء بوعود تحقيق العدالة الانتقالية التي باتت مثار سخرية بعض ممن يسمونها «العدالة الانتقائية».

غير أن الجماعة لا تزال، حتى الآن، تفتقر إلى أي وجود علني ملموس، ولا تتعدى بياناتها المكتوبة حدود القنوات المغلقة. وتشير المصادر الخاصة إلى أن الجماعة تعتمد بالكامل على بث بيانات تكفيرية بلغة حادة، دون ظهور مرئي لقادتها. ومن أبرز الأسماء التي ظهرت في سياق هذه الجماعة، «أبو عائشة الشامي» و«أبو الفتح الشامي»، وهما اسمان مستعاران، يرجَّح أن صاحبيهما كانا سابقاً في صفوف «حراس الدين»، المنشق عن «القاعدة». وتشير المعطيات إلى أن الشخصين المذكورين أعادا التموضع ضمن خلايا صغيرة تنشط بشكل سرّي في مناطق محدودة من ريفي حمص وحماة.

وفي بيان نُشر على قناة للجماعة على «تلغرام»، شنّ «أبو الفتح الشامي»، الذي يُقدَّم بوصفه المسؤول الشرعي، هجوماً عنيفاً ضد الشرع، متهماً إياه بالكفر والردة. وجاء في بيانه لغة شديدة تُعيد تأصيل العداء مع الحكومة السورية الجديدة بوصفها «عدواً عقائدياً»، وليست فقط خصماً سياسياً. ومع ذلك، فإن الجماعة تتجنب حتى الآن الصدام المسلح المباشر مع الحكومة، وتُركّز على فكرة الانتقام من «الحواضن الاجتماعية» للنظام السابق.

هذا الخطاب – الذي يتمثّل في العداء العقائدي دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع السلطة – يعكس امتداداً للانقسام القديم بين تيار «القاعدة التقليدي»، والتيار المحلي الذي قادته «تحرير الشام» بقيادة الشرع. هذا الانقسام، الذي كان قد خفّ وهجه لفترة، عاد للواجهة بقوة بعد لقاء الشرع وترمب، وأعاد فتح باب الجدل في أوساط المنظّرين.

وعلمت «الشرق الأوسط» أن من بين أبرز الأصوات المتطرفة التي عبّرت عن رفضها العلني لسياسات الرئيس السوري أحمد الشرع، كان خالد أبو قتادة الأنصاري، القيادي البارز في تنظيم «حراس الدين» سابقاً، الذي وجّه اتهامات للدولة السورية بـ«الخيانة» و«الانحراف عن النهج».

وفي السياق ذاته، برز موقف سامر العلي (أبو عبيدة)، الشرعي السابق في «جبهة النصرة»، الذي وصف زعيم الرئيس أحمد الشرع بأنه «مرق عن المنهج» واتهمه بالتخلي عن ثوابت المشروع الأساسي لصالح حسابات سياسية.

أما خارج سوريا، فقد عبّر عدد من المنظّرين عن مواقف مشابهة، أبرزهم أبو عبد الله الشامي، أحد الأصوات البارزة على الساحة العراقية، منتقداً ماعدّه تحوّلاً جذرياً على حساب العقيدة.

وقد ظهر هذا الجدل بوضوح بين منظرين بارزين؛ فـ«أبو محمد المقدسي» جدّد خطابه الرافض للشرع، وعدّ تقاربه مع واشنطن وإسرائيل خروجاً عن «الثوابت»، بينما رأى «أبو قتادة» أن هذه التحولات قد تكون ضرورية في مرحلة ما بعد إسقاط النظام، لحماية مكاسب الثورة. هذا التباين يعكس انقساماً بين رؤية ترى في «الشرع مرتداً»، وأخرى تعدّ خطواته واقعية ومُبررة وتجعل منه رجل المرحلة.

لا معارضة داخل الحكومة

في هذا السياق، يرى القيادي العسكري السابق، أدهم عبد الرحمن، أنه لا يوجد تيار متطرّف واضح وثقيل يعارض سياسات الحكومة. وقال في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «هي سياسة سلطة وليست سياسة فرد، ولو أن الشرع هو من رسم طريقها. الرفض الشعبي أو الإسلامي لمسألة السلام مع إسرائيل موجود، لكنه اليوم أقل حساسية، وربما مع الوقت سيتبلور في شكل تيارات متعددة، لا تيار واحد، ولن تكون دينية متشددة فحسب، بل قومية وحزبية أيضاً».

ويضيف: «الجماعات المتطرفة المهاجرة تحديداً، تسير الآن نحو الاندماج، وتركز على المعيشة والحياة الطبيعية، حتى لو لم تقتنع تماماً بالسلطة الجديدة. هذا ما لاحظته في أكثر من حالة».

وحول إمكانية استغلال تنظيمَي «القاعدة» و«داعش» لهذا الامتعاض، يقول عبد الرحمن إن «تنظيم الدولة» يسعى بالفعل لإعادة ترتيب صفوفه، ويملك القدرة على جذب شرائح مهمّشة عبر شعاراته المعتادة. ومع ذلك، فإن الحكومة الجديدة، التي خرجت من تجربة تنظيمية أصيلة، وتراكمت لديها خبرات أمنية وعسكرية كبيرة خلال سنوات الحرب، لا تبدو لقمة سائغة أمام هذه التحديات.

تباينات في «تحرير الشام»

يرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، أحمد سلطان، أن هناك تبايناً بين تيارات داخل «هيئة تحرير الشام»، التي تشكل العمود الفقري للدولة السورية الجديدة. بعض هذه التيارات لا يزال يميل إلى السياسة المتشددة التقليدية ويبدو غاضباً من سياسة أحمد الشرع، من دون أن يمتلك تصوراً واضحاً لمفهوم الدولة المرجوّ بعد سقوط النظام السابق. إلا أنه لا يزال يؤمن بوجهة النظر التقليدية التي تعدّ مجرد التواصل مع «الأعداء» معادلاً للردة.

في المقابل، هناك تيار آخر موازٍ يرى في الانفتاح السياسي «تكتيكاً وضرورة مرحلية». وأكد سلطان أن إدارة الشرع تراوح بين التيارين لاحتواء الغاضبين، بهدف الحفاظ على تماسكها، لا سيما في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها سوريا.

وقال الباحث لـ«الشرق الأوسط»: «التيار الرافض لا يبدو أنه الكتلة الكبرى. الكتلة الكبيرة هي التي تتماهى وتساند الشرع، وهي التيار الأقوى. إدارة الشرع حسمت أمرها بأنها لن تسير مع التيار المعارض أو المتوجس من الانفتاح، وقد يتم التفاهم معه تفادياً لأي خطر، خصوصاً أن الشرع يدرك أن القبول الدولي به قائم على كبح التيارات الأكثر تشدداً».

مخاوف من انشقاقات وتأهب للحسم

عدّ سلطان أنه في حال حدوث انشقاقات داخل «تحرير الشام»، التي تُعد العصب الأساسي في الدولة السورية، فإن ذلك سيكون مهدداً لتماسك إدارة الشرع، كما هو حالها الآن، وقد يؤدي إلى اقتتال داخلي يؤثر على الدولة كلها.

وبحسب الباحث تستعد الإدارة الآن لحسم ملفات مهمة، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرقي البلاد، وملف المقاتلين الأجانب، وضبط الحدود وتكريس سلطتها؛ لذلك لا بد من احتواء التيارات المتشددة. ويقول: «لدى الشرع وسائل عملية لتفادي مخاطر التيارات المتشددة داخل حكومته، مثل الاحتواء قدر الإمكان، عبر الدروس الشرعية واستخدام النص الديني الذي يقنع تلك الجماعات بضرورة الوحدة والتكاتف لتجاوز مخاطر المرحلة. لا سيما أن بعض الشرعيين المقربين من الشرع لهم ثقل وهيبة لدى التيارات المتشددة، ومن ثمّ يمكنهم إقناع هؤلاء في حال بدأت الخلافات تتعمق».

ويشير سلطان إلى أن من بين الوسائل أيضاً «الاستئصال» لبعض الأجسام أو المكونات التي لا يمكن إقناعها بالوسائل الشرعية، ويختتم بالقول: «في النهاية، لن يتهاون الشرع مع عقلية التيار المتشدد إذا قرر الذهاب باتجاه التشويش والتحريض، وسيلجأ إلى أدوات قد تصل إلى حد الاعتقال أو التصفية».

الاحتقان يهدد الحاضنة الشعبية

يقول محمد الإبراهيم، المعروف باسم «أبو يحيى الشامي»، وهو قائد عسكري سابق في أحد الفصائل الإسلامية ومطّلع على تقلبات الجماعات المتطرفة، إن المشهد السوري لا يزال معقداً، ولا يمكن التنبؤ بما قد يحدث. ويضيف: «سوريا اليوم فيها قوى كثيرة، وإذا أرادت الحكومة أن تستمر، فعليها ألا تخسر حاضنتها الكبرى من الثوار».

أبو يحيى الشامي شدد على أن «التكفير هو سلاح الغلاة والدواعش، وهو أمر مرفوض من قبلنا ومن قبل كثيرين داخل الحركة الإسلامية». ورأى أن مواجهة الأخطاء والاجتهادات الخاطئة لدى السلطة يجب أن تتم بوسائل علمية ومجتمعية متزنة، قائلاً: «لا يوجد شيء اسمه تشويش شرعي، فالشرع هو المعيار الذي يحكم على صحة أو بطلان الأفعال».

وأشار إلى وجود مخاوف من تأثر بعض الشباب المتحمسين أو الغلاة بخطاب الجماعات المتطرفة، مؤكداً أن «أهل الخبرة والوعي يعملون على احتواء هذه النزعات، لأنها لا تحل المشكلات بل تفاقمها».

وحذّر الإبراهيم من استغلال تنظيم «داعش» لحالة الاحتقان في بعض الأوساط السلفية، وقال إن التنظيم ينشط في البيئات التي يسودها الجهل والغلو، وقد يستفيد من المنشقين من التيارات المعارضة للإدارة الجديدة وهؤلاء الذين يعانون ضغط الحكومة على من عاشوا تجربة القتال ورفع الشعارات، ليصطدموا لاحقاً بواقع سياسي مختلف.

الشرق الأوسط»

———————————————

المقاتلون الأجانب في سوريا… العقدة والحل/ سلطان الكنج

هل تنجح الإدارة الجديدة في تجاوز امتحان ترمب؟

2 يونيو 2025 م

ترافق إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفع العقوبات عن سوريا بخمسة شروط أو مطالب، منها «مغادرة جميع المقاتلين الأجانب» من الأراضي السورية. ويشكّل هذا المطلب تحدياً كبيراً بالنسبة للإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع لما لهؤلاء المقاتلين من «دَين» في عهدة «هيئة تحرير الشام» على مدى السنوات الماضية وحتى سقوط نظام بشار الأسد.

فمنذ أن أُعلن عن تشكيل «الجيش الحر» في بدايات الثورة السورية، بدأت مرحلة جديدة من تدفق المقاتلين الأجانب من دول عربية وأجنبية. وكانت الحدود التركية ممراً مزدوجاً للسوريين الفارين من جحيم الحرب وجعلوا لنفسهم فيها موطناً أو رحلوا منها إلى الدول الأوروبية، ولمئات المقاتلين من غير السوريين المتوجهين إلى جبهات القتال داخل سوريا والتحقوا بدايةً بالتشكيلات المسلحة غير «المؤدلجة» في تلك المرحلة.

«حواضن الثورة»

بين عامي 2012 و2014، حين اشتد القصف بالبراميل المتفجرة وأنواع الأسلحة كافة على الأحياء الخارجة عن سيطرة النظام السابق، حظي المقاتلون الأجانب بسمعة جيدة فيما سُمي «حواضن الثورة»، لا سيما في الشمال السوري، لا لكونهم شاركوا بقوة وفاعلية في القتال ضد قوات الأسد فحسب، وإنما أيضاً لما عُرف عنهم من شدة في القتال. كذلك في مرحلة ما، شكَّلوا مجموعات «الانغماسيين» و«الانتحاريين» ونفَّذوا عمليات «نوعية» واقتحامات فاكتسبوا تعاطفاً شعبياً واسعاً وأُطلق عليهم اسم «المهاجرين».

وبعد سقوط النظام السوري السابق في 8 ديسمبر (كانون الأول)، كانت تنظيمات المقاتلين الأجانب، مثل «الحزب الإسلامي التركستاني» و«أجناد الشام» (شيشان) وأجناد القوقاز جزءاً أساسياً من «غرفة إدارة العمليات العسكرية» بقيادة «هيئة تحرير الشام». وفي أول تصريح حول قضية المقاتلين الأجانب في البلاد، قال الرئيس السوري أحمد الشرع إن هؤلاء الذين ساهموا في إطاحة نظام الأسد «يستحقون المكافأة». وأوضح الشرع، في لقاء مع صحافيين منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، أن جرائم النظام السابق دفعت إلى الاعتماد على المقاتلين الأجانب، وهم يستحقون المكافأة على مساندتهم الشعب السوري، ملمّحاً إلى إمكانية منحهم الجنسية السورية؛ وهو ما أثار نقاشات واسعة في حينه.

ولم يمضِ وقت كثير قبل أن تعلن الإدارة السورية الجديدة تعيين مجموعة من هؤلاء المقاتلين في مناصب عسكرية رفيعة ورتب تتراوح بين عميد وعقيد في الجيش السوري الجديد، وأبرزهم عبد الرحمن حسين الخطيب، وهو أردني تمت ترقيته إلى رتبة عميد، وعلاء محمد عبد الباقي، وهو مصري، وعبد العزيز داوود خدابردي التركستاني من الإيغور، ومولان ترسون عبد الصمد (طاجيكي)، وعمر محمد جفتشي مختار (تركي)، وعبد البشاري خطاب (ألباني)، وزنور البصر عبد الحميد عبد الله الداغستاني، قائد «جيش المهاجرين والأنصار».

العقدة والحل

اليوم، في حين القرار بشأن مصيرهم على المحك، يشكّل هؤلاء الأجانب أحد أوجه العقدة والحل في مستقبل سوريا. وفي السياق، قال لـ«الشرق الأوسط» قيادي سابق في «هيئة تحرير الشام»، فضَّل عدم ذكر اسمه، إن «إدارة الشرع لن تمانع من الاستجابة لشرط الإدارة الأميركية»، مؤكداً أن «الإخوة المهاجرين» أنفسهم لا يتمسكون بالمناصب «إن كانت تعيق مصلحة البلاد».

وبالفعل، بعد أقل من يوم على لقاء ترمب – الشرع في العاصمة السعودية، بدأت وكالات محلية سورية تبث أخباراً حول مداهمة الأمن العام مقار تابعة للمقاتلين الأجانب في ريف إدلب. وفي حين لم يتسن لـ«الشرق الأوسط» تأكيد هذه المداهمات بعد، فإن الإجراء سواء كان حقيقياً وبدأ بالفعل أو أنه مجرد فقاعة إعلامية، فإنه يرسل إشارة واضحة إلى النوايا.

ويقول كريم محمد، وهو قيادي في الجيش السوري (الحالي) وكان قائد كتيبة في «هيئة تحرير الشام» تضم مقاتلين أجانب، يقيم حالياً في دمشق، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «لا مصلحة للحكومة بأي خطوة سلبية تجاههم» لكونهم يتمتعون بشعبية قوية داخل صفوف الجيش والأمن الجديد وحاضنة الثورة. ويضيف محمد: «بدأت منذ فترة بعض الدول تطرح مسألة المقاتلين الأجانب بصفتها ورقةَ ضغطٍ على الحكومة الجديدة. هؤلاء المقاتلون، الذين نسميهم نحن بصفتنا ثواراً (المهاجرين)، كان لهم دور حاسم منذ بداية الثورة، وبرزت خبراتهم العسكرية في المعارك»، مؤكداً أن الحكومة «تبذل جهوداً واضحة لإبعاد المهاجرين عن الصراعات الداخلية وإعادتهم إلى مواقعهم في إدلب، مع وعود بدمجهم بالمجتمع، وربما حتى منحهم الجنسية السورية مستقبلاً».

«لا مطالب بطرد الأجانب»

الباحث في الجماعات المتطرفة حسام جزماتي يرى أن هناك سوء فهم كبيراً لهذه المسألة؛ إذ إن المطالب الأميركية والغربية لا تتضمن طرد المقاتلين الأجانب «بقدر ما تشترط أمرين، ألا يحتل هؤلاء مناصب بارزة في الدولة الوليدة، ولا سيما في الجيش والأمن والحكومة، وألا يتخذ أي منهم من الأراضي السورية منصة لانطلاق عمليات عسكرية في الخارج أو الإعداد لها أو التدريب عليها».

وأضاف جزماتي لـ«الشرق الأوسط»: «عندما كانت (هيئة تحرير الشام) تسيطر على إدلب، ومنذ سنوات، التزمت بعدم السماح لأي فصيل باتخاذ الأراضي السورية منصة للتهديد، وقد ضبطت إيقاع الجهاديين بشكل لا يطمحون معه للعمل عبر الحدود».

وتابع: «ما يرفضه حلفاء (المهاجرين) وإخوانهم هو طردهم من البلاد التي قاتلوا للدفاع عن أهلها في وجه نظام متوحش، أو تسليمهم إلى دولهم، حيث تنتظرهم السجون وربما الإعدام. وعموماً، لا أظن أن قيادات ومقاتلي (هيئة تحرير الشام) وسواها من الفصائل، والحاضنة الإسلامية أو الثورية المحبة لنموذج المهاجر، مصرّة على أن يتصدر هؤلاء بناء الدولة. ولا أعتقد أن ذلك في ذهن (المهاجرين) أنفسهم».

ويؤكد ذلك أبو حفص التركستاني، وهو يرأس حالياً كتيبة في الجيش السوري (ضمن تشكيلات وزارة الدفاع) غالبية عناصرها من التركستان وتوجد بين ريف إدلب وريف اللاذقية، وكان قيادياً في «الحزب الإسلامي التركستاني». ويقول التركستاني لـ«الشرق الأوسط»: «لم نأتِ إلى سوريا لقتل السوريين، ولم نأتِ هنا لكسب مادي أو مناصب، فقط قدِمنا لنصرتهم، لنشاركهم همومهم وننصرهم بقدر ما نستطيع والحمد لله تحقق النصر ولنا شرف مشاركة إخوتنا به». وأضاف التركستاني أن هناك هجوماً إعلامياً ممنهجاً عليهم حالياً يتهمهم بأنهم وراء أي تجاوز يحدث، وأنهم «وراء الهجمات على قرى الساحل أو السويداء وهذه مجرد افتراءات».

وأوضح: «نحن لم نتدخل يوماً في شؤونهم (السوريين)، كنا نعيش طوال هذه السنين معهم ولم نتدخل في أساليب حياتهم. نحن نعرف أن لكل شعب اختلافات في العادات، وإن كنا لا نتفق في كثير من الأمور، لكن لم نتدخل في المجتمع السوري. وإن حدثت بعض التجاوزات في السنين الماضية في إدلب، فهي أحداث لم تتكرر، والسوريون يعرفون ذلك جيداً».

ويرى جزماتي أنه يمكن لـ«المهاجرين» أن «يبقوا في سوريا بصيغ قانونية رسمية واضحة يتفق عليها، وبصفة مدنية فقط من دون أن يتصدروا الواجهة بدولة ليسوا مشغولين بحكمها أصلاً، وأن يتعهدوا بعدم استخدام أراضيها لتنفيذ مخططات جهادية خاصة بهم في بلدانهم الأصلية أو في أنحاء العالم، لما قد يسببه ذلك من ضرر بالغ. وإلا، فيمكنهم المغادرة إلى الوجهة التي يختارون».

معضلة التعيينات

قال أحد المقاتلين الأجانب (من جنسية عربية) ويكنى بـ«أبي محمد» لـ«الشرق الأوسط»: «نحن لن نقف ضده (الشرع) كما فعلنا طوال السنوات الماضية. لم نتدخل في قتال الفصائل وكنا على مسافة من الجميع ونراعي مصالح سوريا التي لم ولن تتضارب مع مصالحنا يوماً. كنا نقدِم على الموت من أجل حياة السوريين، ونعرف كيف نعيش الآن تحت ظل دولة نقدّرها ونحترمها».

ولكن المعضلة – بحسب جزماتي – تكمن في صعوبة «التراجع عن التعيينات وقرارات ترفيع العسكريين التي أعلنتها القيادة العامة، بعد ثلاثة أسابيع فقط من سقوط نظام بشار الأسد، وبينهم ثلاثة عمداء وثلاثة عقداء».

وحسب التسريبات التي اطلع عليها جزماتي، فقد تعهد المسؤولون بإيقاف تعيين غير السوريين منذ الآن، وتبقى مسألة الذين جرى تعيينهم بالفعل عالقة وتحتاج إلى حل لا يحرج وضعهم ورتبهم وربما مناصبهم.

وعن احتمالات استغلال الجماعات المتطرفة مسألة التضييق على عناصرها وإبعاد المقاتلين الأجانب منهم، قال الباحث: «لا أرى أن تنظيم (القاعدة) في وارد إحياء نشاطه في سوريا بعدما حلّ فرعه فيها، أي حراس الدين. أما (داعش)، التي لا نعرف مخططاته السورية بالضبط، فربما يستقطب معترضين على سياسة الحكومة الحالية، سواء كانوا من السوريين أو من غيرهم. وربما تحاول ذلك مجموعات أو تنظيمات جديدة ترى في سلوك السلطة الحالية ابتعاداً عن تطبيق الشريعة كما يريدون».

ولا تقف كل مجموعات المقاتلين الأجانب عند نقطة واحدة على طيف التطرف. فهناك تمايز آيديولوجي بينها بدأ لحظة توافدهم إلى سوريا وطريقة هذا التوافد، سواء بالتجنيد المسبق أو الاندفاع الذاتي. فأحياناً كان يتم إرسال مقاتل إلى بلده ليجنّد شباناً راغبين في المجيء إلى سوريا بعد التواصل معهم عبر الإنترنت، فيتم تنظيم انتقالهم بطريقة مدروسة منذ لحظة انضمامهم وحتى عبورهم الحدود وانضمامهم إلى تنظيم محدد. وأحياناً أخرى كان البعض يصل منفرداً بالاعتماد على المهربين ورحلات سياحية عبر تركيا وغالباً كانوا يتكبدون تكاليف السفر من جيوبهم.

ومع الوقت، وخصوصاً أواسط 2013، تشعبت الفصائل وكثرت وبدأت تظهر عملية الفرز والتمايز بينها؛ لكن بقيت وجهة غالبية المقاتلين الأجانب الجماعات الجهادية، لا سيما «جبهة النصرة»، في حين التحقت قلة من الأجانب بجماعات «معتدلة» مثل «لواء التوحيد» في حلب.

خلافات وانشقاق وتشكيلات

مع تعمق الخلافات المتعلقة بالأفكار أو التنافس على النفوذ، انتقل أغلب «المهاجرين» إلى جماعات انقسمت على بعضها في فترات معينة، مثل «جبهة النصرة» التي كانت تابعة لتنظيم الدولة (داعش) وانشقت عنه بعد رفض قائدها حينذاك أحمد الشرع مبايعة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وإعلانه في المقابل بيعته وتنظيمه لزعيم «القاعدة» السابق أيمن الظواهري.

في تلك الفترة انشق المزيد من المقاتلين الأجانب وقيادات من «النصرة» للالتحاق بتنظيم «داعش»، عادّين أن «بيعة الظواهري» غير مقبولة ليدخل الفصيلان في جولات اقتتال أفضت بجزء منها إلى تشكيل جماعات مستقلة عنهما، أبرزها «جند الأقصى» الذي أسسه الجهادي العراقي المولد الفلسطيني الأصل أبو عبد العزيز القطري، وتشكيلات أخرى اعتمدت التمحور حول جنسيتها الأصلية مثل الإيغور والأوزبك والشيشان.

لكن مع تمدد «داعش» جغرافياً أواسط 2014 في محافظات غرب وشمال غربي العراق وصولاً إلى محافظات دير الزور والرقة وجزء من محافظة الحسكة وريفي حلب وإدلب، بدأت حالة من العداء بين التنظيم وجماعات أخرى تشكلت من مقاتلين أجانب أيضاً وحكم عليها التنظيم بـ«الردة». وهذه معظمها بقيت على علاقة جيدة بـ«جبهة النصرة»، مفضلة «الحياد» في كثير من المعارك على الانحياز إلى طرف دون آخر في «قتال الإخوة».

ومن تلك الفصائل التي بقيت على حالها حتى سقوط نظام الأسد، «الحزب الإسلامي التركستاني»، و«أجناد الشام» و«أجناد القوقاز» و«أنصار التوحيد»، وبقايا فصيل «جند الأقصى» الذي كان أغلب قادته من السوريين وانفرط عقده في 2017. وذهب قسم منه باتجاه «داعش» وآخر بقي في مناطق إدلب باسم «أنصار التوحيد» وكان أحد التشكيلات المتحالفة مع «هيئة تحرير الشام» في إدارة العمليات العسكرية التي سيطرت على دمشق.

«سورنة» المعركة

في الأعوام بين 2014 و2018، كانت «هيئة تحرير الشام» بدأت تكبح منهجياً من سلطة المقاتلين الأجانب وتنحيهم عن تصدر القيادة والظهور في الإعلام كما كان الوضع سابقاً، واعتقلت الكثيرين منهم كما فعلت مع «حراس الدين». كذلك طردت من صفوفها الكثير ممن رفضوا الانصياع للتغيرات التي أحدثها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) وقتها. فقد بدأ هؤلاء المقاتلون الأجانب يشكّلون عائقاً في وجه مشروع «هيئة تحرير الشام» داخلياً وخارجياً. فمن جهة راح يتنامى لدى السوريين شعور بأن «الهيئة» تفضل عناصرها وقادتها من الأجانب على السوريين، وخارجياً صار هؤلاء يظهرون في الإعلام وينشطون في المساجد، ويتركز خطابهم على أدبيات جهادية كتلك التي تقول بها «القاعدة»، بل ووجدت «هيئة تحرير الشام» أنهم يعرقلون علاقتها مع تركيا؛ إذ حرّموا التعامل مع الجيش التركي؛ كونه ينتمي إلى حلف شمال الأطلسي، «ناتو».

وعليه، عمل الشرع على «تشذّيب المتشددين داخل الهيئة من السوريين والأجانب على السواء»، وغيّر الخطاب من «جهاد عابر للحدود» إلى محلي سوري، فبدأت تظهر في خطاباته عبارات تدل على المحلية وأن سوريا لها الأولوية كعبارة «ثورة أهل الشام» التي كثيراً ما كان يرددها.

في تلك المرحلة اصطف معه كثير من المقاتلين الأجانب وتبنّوا رؤية الشرع «الوطنية»، عادّين أن سوريا للسوريين وأنهم «أنصار» في هذا، وعمل هو بالتوازي على «سورنة المعركة والمقاتلين» من خلال دمجهم في السياسة الجديدة القائمة على الابتعاد عما هو خارج الحدود.

فهل ينجح اليوم وقد صار أحمد الشرع رئيساً للبلاد في إجراء المزيد من التشذيب والدمج بما يحقق شروط الخارج ومصالح الداخل؟

الشرق الأوسط

———————————

 واشنطن بوست: المقاتلون الأجانب التحدي الأكبر أمام الشرع بعد إسقاط الأسد

2025.06.01

سلط تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست الضوء على تحدٍ جديد يواجه الرئيس السوري، أحمد الشرع، يتمثل في وجود آلاف المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في الإطاحة بنظام بشار الأسد، والذين باتوا اليوم يشكّلون تهديداً محتملاً لاستقرار السلطة الجديدة في دمشق.

وبحسب التقرير، فإن عدداً من هؤلاء المقاتلين، المنحدرين من دول في أوروبا وآسيا الوسطى، ما يزالون ناشطين في سوريا، ويتمركز معظمهم في محافظة إدلب، وقد تم دمج بعضهم في مواقع أمنية حساسة داخل وزارة الدفاع.

ويواجه الشرع ضغوطاً من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لطرد هؤلاء المقاتلين كشرط لتخفيف العقوبات عن سوريا، في حين تحذّر أطراف دولية من خطر تحوّل بعض هؤلاء إلى مصدر لـ “الاضطراب الطائفي أو العنف المتجدد”.

ويستعرض التقرير شهادات لمقاتلين أجانب يعارضون النهج الجديد للسلطة السورية، ويتهمون الشرع بالتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا ضد “جماعات جهادية متشددة”، كما يبيّن محاولات الحكومة الانتقالية لاحتواء هؤلاء الأفراد عبر دمجهم في الجيش وإخضاعهم لرقابة مشددة.

وفي حين تشدد بعض العواصم الغربية على ضرورة إخراج من يُصنفون كـ “إرهابيين أجانب”، تشير الصحيفة إلى تعقيدات قانونية ولوجستية تحول دون ترحيلهم، لا سيما في ظل رفض دولهم الأصلية استقبالهم مجدداً.

يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بملف رفع العقوبات عن سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.

وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:

عندما دخل المتمردون السوريون دمشق منتصرين أواخر العام الماضي، كان زعيمهم المعارض أحمد الشرع يعتمد جزئياً على آلاف المقاتلين الأجانب للمساعدة في الإطاحة بدكتاتورية بشار الأسد.

وبعد ستة أشهر، أصبح الشرع رئيساً، واستمرار وجود هؤلاء المتشددين الإسلاميين أنفسهم – الذين جاؤوا من أماكن بعيدة مثل أوروبا وآسيا الوسطى للانضمام إلى الثورة – يمكن أن يشكل الآن تحدياً عميقاً لبقائه السياسي.

عيّن الشرع بعضاً منهم في مناصب عليا في وزارة الدفاع، وأشار إلى أن العديد من المقاتلين العاديين قد يحصلون على الجنسية السورية، لكن إدارة ترمب طالبت بطرد كل هؤلاء المقاتلين الأجانب كشرط لتخفيف العقوبات الأميركية التي أصابت الاقتصاد السوري بالشلل، فبعد وقت قصير من لقاء الرئيس دونالد ترمب بالشرع في السعودية هذا الشهر، غردت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارولين ليفيت قائلة إن ترمب حث الزعيم السوري الجديد على “إخبار جميع الإرهابيين الأجانب بالمغادرة”.

وعلاوة على ذلك، في حين يبدو أن الشرع عازم على إبقاء مجموعة من الحلفاء الأجانب حوله، فإن بعض هؤلاء المسلحين السنة المتشددين يخلقون بالفعل مشكلات له، ووفقاً لجماعات مراقبة، فإن بعض المقاتلين الذين شاركوا في هجوم قبل شهرين عبر البلدات الساحلية السورية، وأسفر عن مقتل المئات من أفراد الأقلية العلوية، كانوا من المسلحين الأجانب، وتهدد هذه التوترات الطائفية بزعزعة استقرار المرحلة الانتقالية الهشة في عهد الشرع.

وأكثر هؤلاء المقاتلين تشدداً يوجهون غضبهم بالفعل إلى الشرع، غاضبين من أن رفيقهم السابق في السلاح – الذي كان يُعرف منذ فترة طويلة بالاسم الحركي “أبو محمد الجولاني” – لم يفرض الشريعة الإسلامية بعد، ويُزعم أنه تعاون مع القوات الأميركية والتركية لاستهداف الفصائل المتطرفة، وقال أحد المتشددين الأوروبيين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لأنه تلقى أوامر بعدم التحدث، في مقابلة بمدينة إدلب شمالي سوريا: “الجولاني يهاجمنا من الأرض، وأميركا من السماء”.

صنع الحياة في سوريا

تدفّق عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق المجاور خلال العقدين الماضيين، وانضم كثير منهم إلى القتال ضد الأسد خلال الحرب الأهلية المستمرة منذ نحو 14 عاماً، انضم العديد من المقاتلين الأجانب إلى جماعات متطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية، في حين التحق آخرون بفصائل أقل تطرفاً، ويقدّر الباحثون أن هناك نحو 5000 منهم ما زالوا في سوريا، وقد تم دمج كثير منهم في المجتمعات المحلية، لا سيما في الركن الشمالي الغربي من البلاد، وتزوجوا من سوريات ولديهم أطفال نشأوا هناك.

قاتل الشرع نفسه كعضو في تنظيم القاعدة في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وأسس لاحقاً جبهة النصرة في سوريا، وعندما أعيدت تسمية الجماعة إلى “هيئة تحرير الشام” في عام 2017، قطعت علاقاتها مع تنظيم القاعدة وقمعت الفصائل الإسلامية الأخرى، وعززت سلطتها كقوة متمردة مهيمنة.

وفي حين يكافح الرئيس الجديد لتحقيق توازن دقيق، ورد أن الحكومة أمرت الأجانب بالبقاء في الظل وعدم التحدث، وفقاً لما ذكره محللون سياسيون ومقاتلون.

وفي ثلاث زيارات سابقة إلى سوريا منذ سقوط الأسد في كانون الأول/ديسمبر، التقى مراسلو صحيفة واشنطن بوست بمقاتلين أجانب في عدة مناطق من البلاد. ففي كانون الأول/ديسمبر، كانوا متمركزين على طول الطريق المؤدي إلى مدينة حماة وسط البلاد، وقام المقاتلون الأتراك بتأمين طريق على قمة تل إلى ضريح زين العابدين، حيث اندلعت أعنف المعارك، وتجول المسلحون العراقيون في المدينة كسائحين، وفي آذار/مارس، كان أحد المقاتلين من آسيا الوسطى يقود نقطة تفتيش تسد الطريق المؤدي إلى جبل قاسيون الشهير في دمشق، ثم، في أوائل أيار/مايو، اختفوا إلى حد كبير – على الأقل من نقاط التفتيش والشوارع في وسط وجنوب سوريا.

وقال جيروم دريفون، كبير المحللين في الجهاد والصراع الحديث في مجموعة الأزمات الدولية: “حاولت الحكومة عزلهم”، وأضاف: “لكن هناك مشكلة حقيقية في تنفيذ الطلب الأميركي. يقولون إن جميع الإرهابيين خرجوا، لكن هذا يثير السؤال: من هم الإرهابيون في هذه الحالة؟”. ولم تصنف الأمم المتحدة سوى عشرات من المقاتلين كإرهابيين، وفي كثير من الحالات لا تملك الحكومات المحلية سوى معلومات محدودة عن أنشطة رعاياها في سوريا، وعندما يقولون ‘اخرجوا’، فإلى أين؟” سأل دريفون. “بلدانهم لا تريدهم”.

حياة يومية في إدلب

اليوم، فإن غالبية المقاتلين الأجانب تحت راية “هيئة تحرير الشام”، أو الجماعة الإسلامية التي يرأسها الشرع، أو “الحزب الإسلامي التركستاني” المتحالف بشكل فضفاض، يعيش معظمهم في محافظة إدلب، المنطقة التي حكمتها “تحرير الشام” كدولة رديفة خلال السنوات الأخيرة من حكم الأسد.

وفي أحد الأيام الأخيرة في إدلب، كان الرجال يتجولون في الشوارع المزدحمة على دراجات نارية لشراء الخبز والبقالة، ويتوجهون في مجموعات إلى المساجد عند سماع الأذان، بدا أن العديد منهم من آسيا الوسطى، وارتدى بعضهم ملابس رسمية، وبعضهم الآخر ملابس مدنية، وأصر أولئك الذين قبلوا إجراء مقابلات على درجة من عدم الكشف عن هويتهم، بسبب الأوامر بتجنب وسائل الإعلام.

وقال مقاتل فرنسي يُدعى مصطفى، إنه سافر من باريس للانضمام إلى القتال ضد قوات الأسد عام 2013، أولاً مع فصيل صغير يتكون في الغالب من المصريين والفرنسيين، ولاحقاً مع جبهة النصرة، النسخة السابقة من “تحرير الشام” التي كانت آنذاك مرتبطة بتنظيم القاعدة.

وفي محل حلاقة واجهته زجاجية في وسط إدلب، قال الحلاق محمد كردي (35 عاماً): “دائماً أبدأ مواعيدي بالسؤال عن مكان الزبون”، مضيفاً: “كان هناك أشخاص من بيلاروسيا والشيشان وأوزبكستان وأماكن أخرى”، وأوضح: “في بعض الأحيان، كنت أسأل عن الزبائن الذين توقفوا عن المجيء، ثم نكتشف أنهم قُتلوا”.

ويقول خبراء يراقبون الجماعات الإسلامية إن المقاتلين أصبحوا عموماً أقل تطرفاً مع مرور الوقت، رغم أنهم لا يزالون محافظين بشدة، وقالت أروى عجوب، طالبة الدكتوراه في جامعة مالمو: “الغالبية العظمى من الذين بقوا تحت قيادة تحرير الشام حتى تقدموا إلى دمشق، تم استيعابهم واحتواؤهم بطريقة أو بأخرى”.

لم يرغب أي من المقاتلين الذين أجريت معهم المقابلات في مغادرة سوريا، مشيرين إلى احتمال اعتقالهم أو حتى إعدامهم في بلدانهم الأصلية، وقال المقاتل الفرنسي مصطفى: “أنا مطلوب في معظم الدول الأوروبية”، وأضاف آخر: “ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه”.

ضغط من المتشددين

في حين عبّر معظم الذين أُجريت معهم المقابلات عن دعمهم لتطبيق الشريعة الإسلامية تدريجياً، إلا أن مجموعة صغيرة من المتشددين بدأت تفقد صبرها، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، انتقد رجال السلطات الجديدة واصفين إياها بأنها غير إسلامية، لعدم تطبيقها الشريعة، ولعقدها لقاءات مع قادة غربيين يعارضونهم أيديولوجياً.

وقال رجل الدين الكويتي علي أبو الحسن، وهو مسؤول ديني سابق في جبهة النصرة، على قناته على تلغرام هذا الشهر: “أصبح المهاجرون عبئاً على الجولاني بعد أن كانوا قوته”، مضيفاً: “سيتخلص منهم بمجرد أن يؤمن بديلاً”.

ويزيد من سخط المتشددين اعتقادهم بأن الشرع تعاون مع الولايات المتحدة وتركيا في استهداف خلايا تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة عبر ضربات جوية، في حين يسعى لتعزيز سيطرة “تحرير الشام”، أولاً في إدلب ثم في دمشق. وقال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في كانون الأول/ديسمبر: “لقد ساعدونا كثيراً”، وأضاف: “على مر السنين تعاونوا معنا في توفير المعلومات الاستخباراتية”. وفي الشهر التالي، ذكرت واشنطن بوست أن الحكومة السورية الجديدة استخدمت معلومات استخباراتية أميركية للمساعدة في إحباط مؤامرة لتنظيم الدولة الإسلامية لمهاجمة ضريح ديني شيعي قرب دمشق.

وقال برودريك ماكدونالد، زميل مشارك في برنامج أبحاث XCEPT في كينغز كوليدج لندن: “نرى منشورات تقول إن الصبر بدأ ينفد. بعضهم يتحدث عن استعداده لمحاربة طاغية جديد”، وأضاف: “إنهم ينظرون إلى الوضع ويسألون: هل هذا ما قاتلنا من أجله طوال 14 عاماً؟”.

وفي مسجد في إدلب، وصف مقاتل أوروبي من فصيل “حراس الدين” المنحل الشرع بأنه عدو بقدر ما هو عدو للولايات المتحدة، وقال: “إنهم يعطون إحداثياتنا للأميركيين لقصفنا”.

الشريعة لتحقيق التوازن

حالياً، تشعر الحكومة بالقلق من أن يُنظر إليها على أنها تستهدف المقاتلين الذين بقوا موالين لها أو تثير غضب المتشددين المحبطين، وقال دريفون: “إنها لا تريد أن تخونهم، لأنها لا تعرف في النهاية ما الذي سيفعلونه”، وأضاف: “قد يختفون، قد ينضمون إلى جماعات أخرى، قد يبدأون بالعنف الطائفي، وقد تسوء الأمور”.

وبدلاً من ذلك، تحاول السلطات وضع مبادئ توجيهية واضحة للسلوك المتوقع من الأجانب: تجنب التحريض على العنف الطائفي أو السياسي، والامتناع عن الدعوة إلى شن هجمات على دول أخرى، كما تسعى حكومة الشرع إلى دمج معظم المقاتلين الأجانب في الجيش الجديد للبلاد، وقال دريفون: “الفكرة هي وضعهم في هيكل عسكري، ومن الأسهل السيطرة عليهم بهذه الطريقة”، لكنه أشار إلى أن التقدم كان بطيئاً.

وقد عيّن الشرع بالفعل ستة أجانب في مناصب عليا في وزارة الدفاع – وهي خطوة قال خبراء إنها تهدف إلى عزله ضد الانقلابات المحتملة من خلال وضع المناصب الأمنية، بما في ذلك قيادة الحرس الرئاسي، في أيدي موالين أجانب لا يملكون قاعدة سلطة مستقلة، لكن هذه التعيينات أثارت جدلاً كبيراً، سواء بين السوريين أو في العواصم الغربية.

وفي رسالة إلى الإدارة الأميركية قبل أسابيع من زيارة ترمب إلى السعودية، قالت حكومة الشرع إنها أوقفت منح الرتب العسكرية العليا للمواطنين الأجانب، لكنها لم توضح ما إذا كانت الترقيات السابقة قد أُلغيت، حسبما ذكرت وكالة رويترز.

وأشاد المبعوث الأميركي الخاص المعيّن حديثاً إلى سوريا، توماس باراك، بحكومة الشرع في بيان صدر في 24 أيار/مايو، لاتخاذها “خطوات ذات مغزى” بشأن قضية المقاتلين الأجانب، من دون تقديم مزيد من التفاصيل.

وقال ماكدونالد عن الشرع: “لقد مشى على هذا الخط لفترة طويلة لتحقيق توازن بين دوائره الانتخابية”، وأضاف: “هذا هو الاختبار الكبير الآن”.

المصدر: The Washington Post

تلفزيون سوريا

————————————–

مقاتلون أجانب في سوريا: لسنا موظفين في شركة تغيّرت إدارتها!/ فراس دالاتي

03.06.2025

“جئتُ إلى الشام مهاجراً في سبيل الله عام 2012، عابرًا الجبال والحدود عبر تركيا إلى الشام. تركتُ ورائي أمي وأبي وإخوتي ولغتي ووطني. لم يبقَ لي من هذه الدنيا إلا بندقيتي وإخوتي في الخنادق. سلكنا دروب التغيير [مع هيئة تحرير الشام] حتى أصبحنا ما نحن عليه اليوم تحت راية الشيخ أبو محمد. كان الحزب الإسلامي التركستاني موطني”.

منذ أن دخلت قوات إدارة العمليات العسكرية دمشق فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر وأمسكت بمفاتيح “قصر الشعب” عند ظهيرته، تشاركت الأطراف الإقليمية والدولية موقفاً موحداً على رغم الاختلافات المتباينة على حصة كل منها من كعكة سوريا الجديدة: نبذ المقاتلين الأجانب، وكلٌّ حسب أسبابه.

اختلفت المواقف كون أولئك “المهاجرين” لم يأتوا للوقوف عند “حدود سايكس بيكو المصطنعة” التي تحكم دول جوار سوريا، فيما دول “محور الاعتدال الخليجي” ترى في أولئك المقاتلين تقويضاً لمشروع التغيير الذي يقوده محمد بن سلمان منذ عقد، أما الولايات المتحدة، فموقفها يفسر بارتباط كثير من هؤلاء المقاتلين بتنظيم القاعدة، عدوّها الأول منذ مطلع الألفية.

لكن أميركا ترامب تقلبت بموقفها من المسألة مع تقلُّب موقف زعيمها وإدارته من حكام سوريا الجدد، إذ بدأ الأمر بمطالبة نبذهم كلياً، ثم تحول إلى عدم تسليمهم “مناصب عليا” في الدولة بعد ورود أنباء عن تنصيب تركي وأردني قادةً للحرس الجمهوري وفرقة دمشق التي حلَّت بديلاً عن فرقة ماهر الأسد الرابعة سيئة السمعة، ثم عادت وطالبت بطردهم جميعاً كشرط لتخفيف العقوبات، لينتهي الحال بما كشفته وكالة رويترز عن إمكانية دمجهم في الجيش السوري الجديد شريطة فعل ذلك بـ “شفافية ومسؤولية”، أيّاً كان يعني ذلك!

انحصر ما كشفت عنه رويترز بمقاتلي الحزب الإسلامي التركستاني الذي أعلن حلَّ نفسه ضمن وحدة في الجيش السوري الجديد، وعلى رغم أنهم الكتلة الأكبر و”القوة الضاربة” التي ربما تتحول إلى “فرقة مهام خاصة”، إلا أنَّهم ليسوا الوحيدين الذين باتوا يقاتلون تحت علم البلاد وسيرددون نشيدها الوطني الجديد الذي لم يُكتب بعد.

من هم المقاتلون الأجانب؟

يقول مصدر من وزارة الدفاع السورية لـ “درج”، إنه إلى جانب المقاتلين الأويغور (التركستان)، وهم الفئة الأكبر، يأتي الشيشان، ومن ثم المقاتلون العرب الآتون في معظمهم من دول الخليج والأردن ومصر وتونس والمغرب، يليهم الأوروبيون وجلّهم من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. إلا أنَّ أعداد الأخيرين ضئيلة جداً، إذ عاد عدد كبير منهم إلى بلدانهم، وفقًا للمصدر. كما يوجد مقاتلون أفراد من جنسيات مختلفة من آسيا الوسطى.

ويشير المصدر نفسه إلى أن أبرز الجماعات التي توصلت وزارة الدفاع إلى تفاهمات أولية معها لحل نفسها والانضمام إلى الجيش الجديد، إلى جانب الحزب الإسلامي التركستاني، هم فصيل أنصار التوحيد (حوالي 200 مقاتل)، وفصيل أجناد القوقاز (حوالي 250 مقاتلاً)، وفصيل أجناد الشام (حوالي 300 مقاتل شيشاني).

لكن كثيراً ما سمعنا عن المقاتلين الأجانب في صفوف الدولة/الهيئة وقليلاً ما سمعنا منهم، خصوصاً في ما يتعلق بسؤال مصيرهم الذي أضحى شأناً عالمياً بعدما شرَع بعضهم بافتتاح الأفران ومطاعم السوشي والبحث عن الحياة بعيداً عن “الجهاد”.

وبينما قال المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس بارّاك إن المقاتلين الأجانب المنضمين حديثاً الى الجيش “موالون جداً” للإدارة الجديدة، أباحت أصواتٌ أخرى منهم لصحيفة واشنطن بوست بمواقف مغايرة ضد “رفيق سلاحها السابق” الأسبوع الفائت، إذ نقلت عن أحد المقاتلين الأوروبيين قوله إن “الجولاني يهاجمنا من الأرض، وأميركا من السماء”، مستخدماً الاسم الحركي لأحمد الشرع الذي تبناه بين 2013 و2024 عندما نال البيعة.

هل “لكل إنسان وطنان، وطنه الأم وسوريا”؟

نتلّمس ملامح الخيبة وضياع الهوية لدى بعض المقاتلين في ظل غياب الحديث عن منحهم الجنسية السورية مع عضوية الجيش. إذ يحكي إسماعيل بعربيةٍ بليغة، وهو مقاتل أويغوري من تركستان الشرقية، ويخدم حالياً في مدينة اللاذقية في حديث لـ”درج”: “جئتُ إلى الشام مهاجراً في سبيل الله عام 2012، عابرًا الجبال والحدود عبر تركيا إلى الشام. تركتُ ورائي أمي وأبي وإخوتي ولغتي ووطني. لم يبقَ لي من هذه الدنيا إلا بندقيتي وإخوتي في الخنادق. سلكنا دروب التغيير [مع هيئة تحرير الشام] حتى أصبحنا ما نحن عليه اليوم تحت راية الشيخ أبو محمد. كان الحزب الإسلامي التركستاني موطني”.

يتحدث إسماعيل عن رحلته قائلاً: “لم نكن مجرد ضيوف في بلاد الشام، بل كنا درعها وسيفها. سالت دمائي في معارك حلب، واهتزت الأرض تحت قدميّ في إدلب، ودفنت رفاقي بيدي في سهل الغاب. وقفت إلى جانب رجال الشام حين خاف أهلها، وتحملت الجوع والحصار معهم. رأيت طفلي ذا الأربع سنوات يكبر في ترابها”.

وعندما سألناه عن رأيه في الضغوط الدولية الحالية على الشرع لإبعادهم، قال: “بعد كل هذه المعاناة، وبعدما تغيّرت السياسات وتغيرت الأعلام، أشعر أن ظهري مكشوف. كأننا نُسينا. كأن المهاجر الذي ضحى بكل شيء أصبح عبئًا. نُهمّش ونُراقَب ويُطلب منا الصمت. نُطرد بصمت من جبهات القتال، وتُجرى المفاوضات بدوننا”.

يضيف: “نسمع اليوم همسات عن تسوية قد تُدمجنا في فرقة جديدة من الجيش الجديد… وكأننا موظفون جُدد في شركة لا نعرفها. أين حقوقنا؟ أين ولاء الدولة لمن دافع عنها في أحلك أيامها؟ هل هذا جزاء الصدق؟”.

يقول مقاتلٌ طاجاكيّ آخر التقاه “درج” على باب أحد الأفرع الأمنية الشهيرة في دمشق رفض الإفصاح عن اسمه: “لا أطلب الكثير. لا أريد منزلاً ولا راتباً. أطلب الاعتراف فقط. جنسية تضمن لابني أن يذهب إلى المدرسة منن دون أن يُسأل إن كان أجنبياً. وإن مرضتُ، فلن أموت على باب المستشفى لأني (أجنبي)، أريد أن أُحسب من أهل الشام، فلم يعد لي وطن سواها”.

مغامرة إعادة النظر في الأيديولوجيا

زار “درج” بعض نقاط التفتيش العسكرية على جبل قاسيون، المُطل على دمشق، والمُقابل للقصر الرئاسي. وهي منطقة تولَّت مسؤولية حمايتها فرقة الحرس الجمهوري منذ عام 1973. فهناك تمترس عددٌ من المقاتلين الأجانب منذ الأيام الأولى لسقوط الأسد؛ كانت هناك نقطتا تفتيش على الطريق الرئيسي، يحرس كلاً منهما حوالي ستة مقاتلين. تحدث إلى أربعة منهم، ثلاثة من الأويغور وواحد من الطاجيكيين. أكدوا جميعاً أن “هذه نقاط تفتيش تابعة للجيش السوري”، لكن لم يُفصّل أيٌّ منهم أكثر من ذلك.

يطمئن الباحث عباس شريفة، الخبير في شؤون الجماعات الجهادية، قرّاء رويترز ومن نقل عنها، من تطرّف المقاتلين الذين تم ضمهم إلى الجيش، لكونهم “أظهروا ولاءهم للقيادة السورية” وتمت “فلترتهم أيديولوجياً”، ويضطلع بهذا الدور، بحسب مصادر “درج”، المستشار الإعلامي للرئاسة حسن الدغيم، الذي شغل لسنوات منصب مسؤول إدارة التوجيه المعنوي في الجيش الوطني التابع لتركيا، الذي يعقد منذ أسابيع جلسات “تدجين” أيديولوجيّة مع مقاتلين لطالما عدّوه “مرتدّاً”.

– كاتب وصحفي سوري

درج

———————————

=============================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى