لقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا تحديث 05 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
————————–
شرق أوسط جديد قيد التشكّل/ حسان الأسود
2025.06.04
اختزلت كلمات السفير الأميركي توم برّاك، المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سوريا قبل أيامٍ عدّة، جزءًا كبيرًا من معالم المشهد الدولي الجديد والمتحرّك.
وضعت تلك السطور تصوّرًا عامًا ليس فقط لما تفكّر به الإدارة الأميركية الجديدة، بل لما يبدو أنّه ملامح النظام العالمي الجديد المتخلّق من رحم الصراعات، قديمها وحاضرها وجديدها الذي ما زال في طور التحضير. تطرّق السفير إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تمّت عملية إعادة تقسيم العالم بين الدول المنتصرة فيها. إثر تلك الحرب انهارت ثلاث إمبراطوريات كبرى، النمساوية المجرية، الروسية، والعثمانية، وتشكّلت دول جديدة. كان حلمُ العرب أن يعترف الحلفاء لهم بدولة مستقلة، وهذا كان جوهر محادثات حسين – مكماهون، والتي أثمرت عن دخول العرب الحرب إلى جانبهم في مواجهة الإمبراطورية العثمانية. لكنّ الذي حصل أنّه، وحسب قول السفير توم برّاك، “قبل قرن من الزمان، فرض الغرب خرائط، وانتدابات، وحدودًا مرسومة، وحكمًا أجنبيًا. قسّم سايكس وبيكو سوريا والمنطقة الأوسع لتحقيق مكاسب إمبريالية، لا لتحقيق السلام. كلف هذا الخطأ أجيالًا. ولن نكرره.” فكيف سيكون مصير المنطقة الآن؟
يعالج السفير ذاتُه الأمر من وجهة نظر الإدارة الأميركية، فيقول: “لقد ولّى عصر التدخل الغربي. المستقبل للحلول الإقليمية وللشراكات، وللدبلوماسية القائمة على الاحترام. وكما أكد الرئيس ترامب في خطابه في 13 مايو/أيار بالرياض: (ولّت أيام التدخل الغربي التي كان يسافر فيها المتدخلون إلى الشرق الأوسط لإلقاء محاضرات عن كيفية العيش، وكيفية إدارة شؤونكم الخاصة)”. هكذا عبّر برّاك عن شكل التنافس الجديد، فسيكون للإقليم، الذي هو هنا الشرق الأوسط، كلمة في تحديد مصيره، وستكون الشراكة لا السيطرة بالقوّة الغاشمة هي الوسيلة، وسكون احترام الخصوصية في صميم هذه الشراكة. بعبارة واضحة إننا، نحن الأميركيين، لن نحاضر عليكم في المستقبل بحقوق الإنسان ولا بالديمقراطية أو غيرها. هذا اعتراف صريح بانعدام تأثير هذه الأدوات ما دامت مجرد وسائل لابتزاز الأنظمة. إنّه قرار مباشر بالذهاب إلى تلك الأنظمة والحكومات للاتفاق معها على حصصٍ واضحة ونِسَبٍ محددة وآلياتٍ فعالة للاستفادة المشتركة، وليس للنهب المنظّم والسيطرة بأدوات التدخل العسكري المباشر كما حصل خلال القرن الماضي.
كانت السياسة الأميركية قبل تسلّم إدارة ترامب متأرجحة وغير واضحة فيما يخصّ المنطقة العربية والشرق الأوسط عمومًا، فقرار إدارة أوباما التركيز على الصين، وتحديد الاستراتيجية الأميركية بالابتعاد نحو المحيط الهادئ لاحتواء العملاق القادم من الشرق، تغيّرت مع تسلّم ترامب ولايته الثانية. حاول خلال فترة رئاسته الأولى تفكيك بعض بنى الدولة العميقة التي ترسم الاستراتيجيات الكبرى، وانقطعت محاولته بفوز بايدن. الآن، وبعد أن تغيّر هو ذاته وأصبح أكثر نضجًا وقوّة، عاد ليتابع توجيه الاستراتيجية الجديدة. فيما يخصّ سوريا، كانت السياسة الأميركية تركّز على احتواء إيران، وكان الحذر من التورط في صراعٍ معقدٍ بينها وبين إسرائيل باديًا. بينما تركز واشنطن حاليًا على الملف النووي الإيراني وعلى مكافحة الإرهاب. ورغم أنها لن تتخلى عن حماية إسرائيل، لكنها لن تنظر للمنطقة بعيون الأخيرة، بل بعيون المصالح الأميركية المقدّمة على كل شيء الآن. من هنا خلت جولة ترامب من زيارة تل أبيب، فهذه التي تعوّدت أن تأخذ، ليس لها بند في جدول أعمال الرئيس القادم بطريقة تفكير مختلفة. ومن هنا هذه الحماسة في رفع العقوبات وتلك المرونة في إعطاء التسهيلات للإدارة السورية الجديدة. يرى كثيرون أنّ هذا جاء ثمرة ضغوط عربية متواصلة، وهم محقون في ذلك، لكنّ اللوحة الكبيرة تشير إلى تغيّر عالمي في مطارح التنافس وفي أدواته، كما تشير أيضًا إلى انزياحات في أولويات الحلفاء وتغيير في مصفوفات المصالح.
يُكمل السفير دورة التغيير، فيعود لأسباب الخراب الأولى، فهو بالأصل ابن هذه المنطقة، وإليها تنتمي عائلته. ليست الأعوام المئة التي تفصلنا عن حلم العرب بدولة تجمعهم بالفترة الزمنية الكبيرة، ففي عمر الشعوب هي شيء بسيط، والذاكرة لا تزال رطبة بالمرارة والمآسي التي سببتها تلك الخرائط المرسومة بفوّهات المدافع وعلى أشلاء أهل المنطقة وعلى حساب أحلامهم وحقوقهم. “ولدت مأساة سوريا في رحم الانقسام. يجب أن تأتي ولادتها الجديدة من خلال الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها. يبدأ ذلك بالحقيقة والمساءلة، والعمل مع المنطقة، لا حولها.” هكذا يحدد أساسيات جديدة للعمل المشترك، وإن صحّ وسارت الأمور وفق هذا النهج، فإنّ نقاط الارتكاز الثلاثة التي حددها تحتاج إلى تعريف بسيط لندرك أين سنضع أقامنا وأين ستكون رؤوسنا.
إن كانت الإجابات عمياء، فإنّ الأسئلة مُبصرة، فما هي الكرامة التي ستؤسس لمستقبل المنطقة وشعوبها، وهل ستشمل الفلسطينيين أيضًا إضافة لأشقائهم السوريين واللبنانيين، وهل سيفرض ترامب على إسرائيل القبول بمبدأ الدولة الفلسطينية فرضًا، وهل سيتم الانتقال إلى موجبات الدولة الحديثة التي لا تعيش مع الميليشيات، وهل ستكون الكرامة في البطون الشبعى فقط أم ستصل إلى العقول النيّرة، وهل
سيكون للمواطنين حقّ الاعتقاد والكلام كما سيكون لهم حق الأكل والشرب؟ مئات الأسئلة التي يمكن طرحها حول هذا الركن، الكرامة. أما الوحدة فهي السيف الذي قطع مشاريع التقسيم الإسرائيلية، وبنى جدارًا قويًا في وجه النزعات الانفصالية، لكنّ ذلك يحتاج لتحصين داخلي أيضًا، وهذه مهمة الدول وقياداتها ونخبها، بل هي مهمة كل فرد فيها. من لبنان إلى سوريا فالعراق وفلسطين والأردن ومصر… كلها دول بحاجة لإعادة ضبط إعداداتها، فالحداثة لا تكون فقط في الأجهزة العسكرية والأمنية، بل أيضًا في جوهر العلاقة بين المواطنين، وبينهم وبين دولتهم. التعاقدية التي قامت عليها الدولة في أوروبا لم تنتقل مع هياكل الدول إلينا، بل بقينا على إرث الرعية والراعي. هذا بالذات ما يجب تغييره حتى نحصّن الركن الثاني، أي الوحدة. أما الشعب الذي سيتم الاستثمار به، فهو الحصان الفتيّ الذي راهن عليه السفير، أو الذي يدعو الأنظمة الشريكة للمراهنة عليه. ويضع لذلك منطلقًا بسيطًا، لكنّه عميق وفعّال إلى أبعد الحدود، فالحقيقة هي ضالّة الناس، ولأجلها قامت الثورات، وبالمساءلة تُختتم حقبة غياب الحقيقة، وتبدأ حقبة جديدة، فيها يكون الإنسان هو الجوهر والغاية.
يختم السفير توم بالقول، “نحن نقف إلى جانب تركيا والخليج وأوروبا، هذه المرة ليس بالجنود والمحاضرات، أو الحدود الوهمية، بل جنبًا إلى جنب مع الشعب السوري نفسه. مع سقوط نظام الأسد أصبح الباب مفتوحًا للسلام، ومن خلال رفع العقوبات فإننا نمكن الشعب السوري من فتح هذا الباب أخيرا واكتشاف الطريق إلى الرخاء والأمن المتجددين.”، فهل يعيد التاريخ سيرة الرئيس وودرو ويلسون الذي كان ضدّ الإمبريالية التي قسّمت سوريا الكبرى وقضت على حلم العرب بدولة موحدة قوية في المشرق، وهل يكون ترامب هو المخلّص باعتباره الرجل الذي سيقفل حقبة ويبدأ أخرى، وهل استوت الظروف لهذا كلّه؟ لا أحد يعرف، وترامب لا يعمل وكيلًا لأحلامنا ومتعهدًا لرعاية مصالحنا، ونحن من يتوجب علينا القيام بمهامنا لنسير مع هذا العالم المتغير ولنصنع شرقنا الأوسط الجديد.
تلفزيون سوريا
————————–
بين اعتراف الخارج وشرعية الداخل: اختبار أحمد الشرع في زمن التخفيف المشروط/ وائل السواح
الاحتواء المشروط: هل تشتري واشنطن رئيساً لسوريا بثمن مؤجل؟
2025-06-02
كان الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان يردد قولا مأثورا مفاده أنْ “ليس هناك وليمة من دون ثمن.” يعود أصل هذا القول إلى حقبة ذهبية في التاريخ الأمريكي، حين انتشرت بدعة “الغداء المجاني” في الحانات، لكن الخدعة كانت واضحة: من يقبل بالمجاني يرغَم على شراء الشراب. فكانت العبرة: المظهر المجانيّ سراب، والحساب الآجل حتمي.
ولعل في هذا القول ما ينطبق على سوريا والكيمياء الجديدة الناشئة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الانتقالي في سوريا أحمد الشرع. ففي تحوّلٍ لافت عن سياسةٍ أميركيةٍ استمرت على مدى عقد ونيف من الزمان في عزل النظام السوري، أطلق الرئيس دونالد ترمب نهجا جديدا تجاه دمشق يقوم على “الاحتواء المشروط” بدلا من العزل التام أو تغيير النظام. تجسّد هذا التحول في اللقاء العلني مع الرئيس أحمد الشرع وإصدار “الترخيص العام رقم 25،” وتعليق مؤقت لعقوبات قانون قيصر. سوى أن هذا التحول يثير سؤالا كبيرا: هل ستعزز رعاية الولايات المتحدة للشرع موقعه، أم تجعل منه رهينة لرضا الخارج وتضعف شرعيته الداخلية؟
ما الذي دفع واشنطن إلى تغيير بوصلتها في سوريا؟
ثمة جواب بسيط وهو أن دونالد ترمب، كما اعتاد العالم، رئيس يصعب التنبؤ بسلوكه، ولا أحد يستطيع الجزم بنيّاته الحقيقية. غير أن ثمة تفسيرا آخر أكثر عمقا وتعقيدا، يرى أن التحوّل في السياسة الأميركية تجاه سوريا يرتكز على ثلاث دعائم استراتيجية واضحة.
أولًا، تسعى واشنطن إلى كبح النفوذ الإيراني في سوريا دون الانجرار إلى حرب جديدة، وذلك من خلال دعم بديل أكثر اعتدالا في دمشق يمكنه موازنة المعادلة الإقليمية.
ثانيا، يوفر تخفيف العقوبات المشروط لواشنطن فرصة للعودة إلى الساحة السورية دون تدخل عسكري أو كلفة مادية باهظة، ما يمنحها نفوذا بأقل الأثمان.
أما ثالثا، فهو التماهي مع تقاطع المصالح الخليجية والإسرائيلية، حيث يدرك ترمب أن إسرائيل وعددا من دول الخليج ينظرون إلى أحمد الشرع بوصفه شريكا أكثر واقعية وبراغماتية من بشار الأسد، خاصة بعد إشاراته المتكررة إلى انفتاح مدروس على مسار التطبيع.
تخفيف العقوبات… فرصة أم قيد؟
بداية، لا بدّ من الانتباه بدقة إلى بعض التفاصيل المهمة، فالشيطان، كما يعلم بعضنا يكمن في التفاصيل. لذلك، من المهم أن نذكّر أنفسنا بأن الترخيص العام رقم 25 ليس رفعا كاملا للعقوبات، كما يحاول البعض تسويقه في دمشق وواشنطن، بل تعليقا مؤقتا، مشروطا بمراقبة دقيقة للامتثال والتقدم في ملفات سياسية وإنسانية محددة. وبينما يعطي هذا الطابع المشروط للرئيس الشرع نافذة للتحرك، فإنه يسلّط في الوقت عينه عليه الضوء ويضعه تحت المجهر في الأشهر الستة القادمة، ويقيده بمعايير أميركية صارمة.
وببعض التفصيل، الترخيص العام رقم 25 – من الناحية القانونية – هو مجرد تعليق لبعض القيود التي فُرضت بموجب أوامر تنفيذية رئاسية، وهو بالتأكيد لا يشمل العقوبات التي سنّها الكونغرس الأميركي، مثل قانون قيصر أو تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب. وبالتالي، فإن صلاحية هذا الترخيص محدودة زمنيا وسياسيا، ويمكن إلغاؤه بسهولة إذا اعتبرت واشنطن أن الحكومة السورية الجديدة، برئاسة الشرع، لم تلتزم بما هو متوقع منها.
ثم لنمضِ خطوة أخرى: لا يجب أن نفهم هذه الشروط باعتبارها آلية ضغط فقط، بل أيضا كوسيلة اختبار مستمرة لقدرة الشرع على السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها، وتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وضبط الملفات الأمنية والإنسانية، وخصوصا تلك المتعلقة بالمساعدات والمساءلة وحماية المجتمعات السورية. وبكلمات أخرى، يمكن للتخفيف الانتقائي للعقوبات أن يمنح الرئيس هامشا معينا من المرونة، ولكنه يحمّله في المقابل مسؤولية كبيرة أمام الرأي العام المحلي والدولي، وقد يصل الأمر إلى حد استخدام هذا الهامش كأداة للتأثير عليه وإضعافه داخليا إذا ما تعثّر أو تأخر.
وربما لا يمكن فهم الطابع المشروط لهذا الانفتاح الأميركي دون التوقف عند ما عبّر عنه نائب الرئيس جي دي فانس في كلمته الأخيرة، حين لم يكتف بانتقاد مغامرات بناء الديمقراطية في منطقتنا عموما، بل ألمح صراحة إلى أن الديمقراطية قد لا تكون أصلا مناسبة لها. وهو طرح لا يعبّر فقط عن تشاؤم سياسي، بل يُنذر بتأسيس خطاب إقصائي، يرى في شعوب المنطقة جماعات غير مؤهلة للحكم الذاتي، وكأن الحرية ترف لا يستحقه الجميع. هذا التوجه، إن لم يُقاوم، قد يحوّل “الاحتواء المشروط” إلى إدارة استعمارية ناعمة تتوارى خلف لغة الواقعية.
سياسة قديمة: العصا والجزرة
تُجسد مواقف الدول الغربية تجاه النظام السوري الجديد حالة مركبة ودقيقة تجمع بين الإغراء والانضباط، أو ما يمكن تسميته بـ “الدبلوماسية المقيّدة بالشروط.” ففي حين تبدي قوى أوروبية كفرنسا والمملكة المتحدة استعدادا أوليا لإعادة النظر في العلاقات الاقتصادية مع سوريا، بما في ذلك اتفاقيات التجارة والتعاون، يمكن أن نرى أن ذلك لا يأتي مجانا، بل هو مرتبط صراحة بتحقيق تقدّم واضح في ملفات جوهرية، مثل تسهيل وصول المساعدات الإنسانية ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان.
هذا النهج لا يُعد قطيعة مع السياسة السابقة، بل هو امتداد لمنطق “الضغط عبر الانخراط،” وهي استراتيجية تعتمدها بعض الحكومات الغربية عندما تكون مصالحها متشابكة، ولكنها تتردّد في منح الشرعية الكاملة. فالانخراط هنا ليس تعبيرا عن ثقة سياسية، بل أداة ضغط مرنة، تقيس بها العواصم الغربية مدى التزام الرئيس الشرع والحكومة السورية الجديدة بتعهداتهما على الأرض.
ويكشف هذا الموقف عن حذر غربي عميق من الرهان غير المشروط على المرحلة الانتقالية السورية. فالدعم السياسي أو الاقتصادي – وإن تمّ التبشير به – لا يزال مشروطا بضمانات موثوقة تتيح للعواصم الغربية تبرير انخراطها أمام الرأي العام المحلي، وطمأنة الحلفاء بأن انفتاحها على دمشق لا يعني تجاهلا لمبادئ العدالة والشفافية.
وتبرز ههنا إشكالية جوهرية: فهل تسهم هذه الرعاية المشروطة في تقوية الشرع من خلال منحه شرعية مؤسساتية وفرصة لإعادة بناء سوريا بدعم دولي؟ أم أنها تقيّده وتضعه في موقف المتلقي المشروط دائما، بما يفقده الزخم الوطني والاستقلالية في اتخاذ القرار؟ في كلتا الحالتين، فإن الترخيص رقم 25 يشكّل مرحلة انتقالية دقيقة، يخضع فيها المسار السوري برمّته لاختبار مزدوج: اختبار الالتزام المحلي، واختبار القبول الدولي.
هل الرعاية الأميركية للشرع دعم أم عبء؟
تبدو الرعاية التي يحظى بها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع من الولايات المتحدة للوهلة الأولى دفعة قوية تعزز موقعه وتمنحه شرعية دولية ناشئة. فلقاؤه العلني مع ترمب، والتدرج الملحوظ في الاعتراف الغربي به، يضعانه في موقع رئيس يحظى بقبول دولي، ولو جزئي، بوصفه بديلا واقعيا عن الأسد. كما أن التعليق الجزئي للعقوبات يشكّل رافعة اقتصادية مؤقتة، تمكّنه من تحريك عجلة الخدمات الأساسية وفتح الباب أمام عودة رؤوس الأموال السورية المهاجرة، ما يمنح حكومته نافذة للتنفّس غالبا ما كانت الحكومات السابقة تفتقدها. في الداخل، تلقى هذه الرعاية صدى إيجابًا في أوساط مدنية لطالما عارضت النظام السابق، حيث تُقرأ بوصفها إشارة إلى نضج سياسي وقدرة تفاوضية متزنة لدى الشرع.
لكن هذه الرعاية، في المقابل، ليست دون أثمان. فقد استغلت القوى الجهادية، ومنها فصائل وأفراد كانوا – ولا يزالون ربما – جزءا من هيئة تحرير الشام، هذا الانفتاح على واشنطن لتصويره كخروج عن مبادئ الثورة، في محاولة لتقويض شرعيته أمام الحاضنة الشعبية الثورية. يضاف إلى ذلك أن الدعم الأميركي، بطابعه المشروط، يجعل مصير الشرع السياسي مرتبطا بأمزجة الخارج وتقلبات مراكز القرار فيه، ما يحد من قدرته على المناورة المستقلة. وفوق كل ذلك، يظل غياب التفويض الشعبي نقطة ضعف بنيوية: فالشرع – ولا يمكن أبدا أن ننسى ذلك – لم يأتِ عبر صناديق الاقتراع، ولا يمكن لأي دعم خارجي أن يملأ هذا الفراغ أو يضفي عليه شرعية داخلية كاملة.
وفي ظل هذه المعادلة الدقيقة، يجد الشرع نفسه أمام توازن هش بين الداخل والخارج. فهو مطالب بإرضاء شروط واشنطن دون أن يبدو تابعا لها، وبالحفاظ على حدّ أدنى من التأييد الشعبي في بيئة منقسمة ومتوترة، وبالتجاوب مع متطلبات أطراف إقليمية نافذة، كتركيا وإسرائيل ودول الخليج وروسيا. إنها معادلة دقيقة تجعل من الرعاية الأميركية درعا مؤقتا يحميه من السقوط، لكنها قد تتحول إلى قيد ثقيل إذا لم تُترجم إلى إنجازات ملموسة تبرر هذا الاحتضان الخارجي وتحوّله إلى دعم داخلي مستدام.
ولا شك في أن الرئيس أحمد الشرع وحكومته سيبذلان كل ما في وسعهما للاستفادة من الهامش الأميركي والدولي المتاح نتيجة رفع العقوبات أو التخفيف منها. وستتخذ هذه المساعي أكثر من مسار. أولها فتح السوق السورية أمام الشركات الأميركية والتركية والخليجية، وثانيها العمل على توفير حدّ أدنى من الاستقرار الأمني والسياسي والحدّ من العنف، وثالثها القيام ببعض الخطوات الشكلية التي ترسم مظهرا أكثر انفتاحا وأقل تشددا. وقد يعمد الشرع إلى تقليص اعتماده على المقاتلين الأجانب، من خلال تجنيس نسبة كبيرة منهم، لا يُعدّون أجانب، وتفادي منحهم مناصب عسكرية رفيعة في الجيش الجديد.
لكن هذا الطريق لن يكون مفروشا بالورود، فثمة عقبات جدية بانتظار الفريق الحاكم في دمشق. أبرزها اعتراض فصائل متشددة وشرائح من الجمهور على سياسة الانفتاح التي ينتهجها الشرع، فضلا عن أن الحوار مع قوات سوريا الديمقراطية لا يزال في بدايته، وينتظر الطرفين جولةٌ طويلة من التجاذب والمساومات قبل أن تتضح معالم العلاقة المستقبلية. ويضاف إلى ذلك حالة الانفلات الأمني والسياسي التي تعم البلاد، حيث لا تزال الجغرافيا السورية موزعة بين قوى وفصائل يتحكم كل منها بمنطقته على نحو أقرب إلى سلطة الأمر الواقع منه إلى الانضباط المركزي. ولا ننسَ الحادثة التي ما زالت ماثلة في الأذهان، حين أقدم أحد مسؤولي الأمن في حلب على الاعتداء بالضرب المبرّح على قاضٍ، ثم أُُجبِر القاضي على “الصفح” عنه، ليُفرج عن المعتدي ويعود ربما إلى هوايته في ضرب خلق الله وتعذيبهم.
وإلى جانب هذه التحديات، تبرز مسألة قد تكون الأكثر حساسية على الإطلاق: إن دخول الاستثمارات الحقيقية إلى سوريا مشروط بوجود بنية قانونية ضامنة، وهو ما لا يتوفر حاليا. فرأس المال، بطبيعته الحذرة، لا يخاطر في بيئة تفتقر إلى حماية قانونية واضحة، ناهيك عن سمعة البلاد كبيئة طاردة للاستثمار بفعل الفساد والمحاصصة والسمسرة والخوة. والتجربة الماضية ليست بعيدة، حين استحوذت أسماء الأسد، زوجة الرئيس المخلوع، على شبكتي الخليوي الرئيسيتين في البلاد.
وتغيير هذا الواقع ليس بالأمر اليسير. فغياب حكومة منتخبة ومجلس تشريعي فاعل يعني أن أي قوانين جديدة ستصدر بمراسيم رئاسية، وهي مراسيم تفتقر إلى الشرعية الديمقراطية، ما يجعل المستثمرين، سواء كانوا سوريين أم أجانب، مترددين في التعامل معها أو الوثوق بها. وفي ظل هذا المشهد المعقّد، لن يكون الانفتاح الاقتصادي مجديا ما لم يواكبه إصلاح قانوني عميق يمكن الركون إليه ووضع أمني مستقر يبدّد الشكوك، ويحوّل الهامش الدولي المؤقت إلى فرصة حقيقية للتعافي والاستقرار.
باختصار، قد تبدو اللحظة الراهنة فرصة نادرة لسوريا للخروج من عزلتها الطويلة، والانخراط مجددا في المشهدين الإقليمي والدولي، مدفوعة بانفتاح أميركي مشروط وتقاطعات مصالح متبدّلة. غير أن ما يُمنح على دفعات، وتحت المجهر، وبلغة مشبعة بالحذر والوصاية، لا يمكن أن يُبنى عليه مشروع سيادة أو ديمقراطية. فبين خطاب الواقعية الباردة الذي يلمّح إلى “عدم صلاحية” شعوب المنطقة للحكم الذاتي، وبين هشاشة الداخل السوري الذي يتلمس طريقه وسط خرائط نفوذ متنازعة، يبرز سؤال جوهري: هل يكفي أن يراهن الرئيس أحمد الشرع على دعم الخارج أو على مناخ دولي متقلب، أم عليه أن يتأكد من أنه يستطيع فعلا تحويل هذه اللحظة من اختبار مشروط إلى لحظة تأسيس وطنية؟ هل سيكتفي بلعب دور “المقبول دوليا” ضمن معادلات مرسومة سلفًا، أم سيغامر بخوض معركة الشرعية الشعبية من الداخل؟ وحدها الإجابة عن هذا السؤال، لا الترخيص رقم 25، هي التي ستحدد إن كانت المرحلة المقبلة بداية انعتاق حقيقي أم مجرد إدارة جديدة للهشاشة القديمة.
+963
———————————-
سورية ليست مجرّد عقار/ علي العائد
04 يونيو 2025
إعادة الإعمار، والتطوير العقاري، والتحوّل الحضري، مصطلحات عابرة للسياسة، والاقتصاد، والتنمية البشرية، بمندرجاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومتداخلة في ما بينها أحياناً، لكنها جميعها تندرج تحت الاصطلاح الأشمل “التنمية البشرية”؛ فإذا كان اصطلاح إعادة الإعمار يستخدم في الفترات التالية للكوارث، ومنها الحروب، يبقى مصطلح التطوير العقاري وتجديد الأبنية، لأسباب اقتصادية وتجارية، يخصّ أصحابها، وينعكس ذلك على الاقتصاد الوطني، بينما يشمل التحوّل الحضري كل ما سبق، سواء تلا ذلك حرباً ما، أو كان لمواجهة كوارث محتملة، كالزلازل، بإعادة بناء الأبنية القديمة تحسّباً من حدوث زلزال عالي الشدة لا تقاومه الأبنية المفتقدة للعناصر الهندسية المطلوبة في مثل هذه الحالة.
كانت سورية، حتى ما قبل عام الثورة (2011)، في حاجة لإعادة إعمار، وتطوير عقاري، وتحتاج الآن إلى التحول الحضري العاجل، فالنظام الأسدي هدم البلاد بقوة تفوق أي شدّة للزلازل على مقياس ريختر.
مدرسيّاً، نبني المصنع أولاً، أم نبني الطريق إليه؟ من شدّة تزاحم الأولويات في سورية، تبدو الإجابة عن هذا السؤال مستحيلة، فالبلاد في حاجة لكل شيء، وكل عرض سيجد له طلباً، من الطعام والشراب، إلى الألبسة، إلى الخدمات الطبية والدواء، وقبل كل شيء أهم بندين، الأمن والتعليم.
من وجهة نظر غير بعيدة عن الحقيقة، وبشيء من الإيمان بنظرية المؤامرة، كان لا بد من التدمير لتصبح تكلفة إعادة الإعمار مجال تسابق بين عشرات الدول، ومئات الشركات. وما يقال هنا يشبه ما يقال عن تجار السلاح الذين يشعلون حرباً لتصبح بضاعتهم مطلوبة بشدة… كان التدمير الممنهج الذي مارسه النظام الأسدي، في النتيجة، بالوكالة عن شركات التطوير العقاري، وعن الشركات المنتجة لكل ما يتعلق بالكهرباء، من أجهزة وكابلات، وأبراج، ومحولات، وعن المموّلين الذين يربحون في كل الأحوال، فهم يقرضونك المال لكي تشتري منتجاتهم، من إسمنت وحديد للبناء، إلى مفروشات، وإكسسوارات،… إلخ. حتى إن النظام الأسدي في حساباته المستندة إلى القضاء على الثورة كان يِعِد الدول الداعمة وشركاتها بمنحها عقود إعادة الإعمار مكافأة لها على مواقفها الداعمة له خلال 15 عاماً من الحرب المدمّرة، ولا سيما روسيا، وإيران، والصين.
الآن، وقد اقترب موعد رفع العقوبات المفروضة على سورية، والشركات استعدّت بملفاتها للحصاد، يبدو تطوير مرفأي طرطوس واللاذقية وإعادة تشغيلهما، أو بناء برج ترامب، أو إنشاء مشروع مترو في دمشق، مجرّد لقمة صغيرة في أفواه شركات كبيرة، خصوصاً بالقياس إلى حجم البنية التحتية المتهالكة في سورية، جرّاء الحرب، وجرّاء حكم المافيا الأسدية طوال 55 عاماً، إذ مانعت المافيا الأسدية قيام أي مشروع عصري في سورية إلا بالمشاركة مع النظام وأزلامه، ممن اشترطوا على المستثمرين أخذ حصة في أي استثمار من دون أي مقابل (!)…، فعطّلوا إنشاء مترو دمشق منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كما ساهموا في إحجام المستثمرين السوريين وغير السوريين عن الدخول في دورة الاقتصاد السوري الذي كان دائماً أحوج ما يكون لكل أنواع الاستثمار.
وإذا كتن هذا حال النظام المخلوع، فإن حال النظام الحالي لم تُعرف بعد، وإن كانت النيات تشير إلى نظافة الكف، لكن هذه وحدها لا تكفي لبناء بلد حاله حال سورية. الخشية هنا من أن تُمنح المناقصات استنسابيّاً، أو بشبهة تفتقد إلى الشفافية، وبالانحياز لشركاتٍ من دول معينة بناء على اعتبارات يغلب فيها السياسي المعيار الاقتصادي.
سورية التي في حاجة إلى كل شيء، وبشكل عاجل وإسعافي، في حاجة أيضاً إلى الأبراج التجارية، مع مراعاة الخشية على المدن القديمة، وخصوصاً دمشق، باختيار مناطق بعيدة نسبيّاً عن أسوار دمشق القديمة، ففي المدينة القديمة، ومحيطها القريب، أينما حفرت ستجد طبقة من مدن أقدم مما يظهر لنا اليوم من المدينة… الأبراج مشاريع تجارية عصرية ومهمة، بدءاً من كونها قاطرة تنمية تمتصّ عشرات آلاف فرص العمل من قطاعات مختلفة في مرحلة التأسيس والبناء. ثم إنها تحرض خدمات تابعة تستفيد منها قطاعات كثيرة في كل مراحل البناء والتشغيل. ولاحقاً، عند بدء التشغيل، وبالنظر إلى التوقّعات من حجم هذه الأبراج وارتفاعها، ونوعية الخدمات التي تقدّمها، ستوفر آلاف فرص العمل بشكل مباشر، أو غير مباشر، هذا عدا عن المكاتب التجارية لشركات إقليمية وعالمية ستستغل شهرة هذه الأبراج للترويج لعملها في سورية، وفي الإقليم، لتعزيز مكانتها التجارية، وعقد سلسلة صفقات تُولد سلاسل من صفقات تساهم في تشبيك الاقتصاد السوري مع اقتصاد الدول المحيطة، ومع الاقتصاد العالمي، بالضرورة.
في هذه المرحلة، تبدو الفرصة السورية مقترنةً بالرشد الاقتصادي، وبالشفافية، وبالتشريعات المناسبة للبلاد، وللمستثمر الوطني، أو الأجنبي، مغرية تماماً للمستثمرين، فحجم استيراد مواد البناء بالنسبة للمستثمر سيمكّنه من الحصول على أسعار تفضيلية مع استدامة شبكة التوريد إلى المورّد. كما أن انخفاض تكلفة اليد العاملة مقارنة مع الجوار، والإقليم، والعالم، ستعيد اليد العاملة المهاجرة إلى سورية، وقد تحتاج البلاد إلى استقدام كل أنواع اليد العاملة الماهرة من دول أخرى، نظراً إلى تنوّع مشاريع البناء التي تحتاجها البلاد، ولحجم (واستدامة) هذه العملية من البناء التي ستستغرق سنوات طويلة من العمل المتواصل. سيولّد هذا الإغراء للمستثمر سلسلة من الاستثمارات التابعة، فالآلات الثقيلة ستدشّن مراحل التأسيس، وستستهلك ملايين الأطنان من الطاقة، والأبنية ستستهلك مئات ملايين الأطنان من الحديد والإسمنت والخشب والمعادن والزجاج؛ وكم من مستفيد في سلسلة متوالية من العمليات بعضها إلى أجل، وبعضها مستمرٌّ إلى أجل طويل. بالطبع، المستفيد الأكبر والأول هو مستحدث المشروع، ومن ثم الدولة، وما بينهما سوريون كثيرون ممن عملوا، أو ساعدوا، أو استفادوا من هذه المشاريع بشكل مباشر، وغير مباشر، وممن ستنعكس عليهم أموال الضرائب لتحسين الخدمات البلدية، وتوفير جودة أعلى في التعليم، والصحة، وغيرها.
عصب تحويل كل تلك الآمال إلى واقع هو المال، ممثلاً في البنوك، والخاصة منها تحديداً. وتستعدّ هذه البنوك لطي صفحة طويلة من الصبر، إذ حولت شركات تحويل الأموال، وشركات الصرافة، إلى ما يشبه البنوك، بالالتفاف على العقوبات المفروضة على البنوك، كون تلك الشركات لا تحتاج نظام سويفت، فاشتغلت بـ”الأسود”، حسب التعبير الدارج، واستفادت وأفادت النظام الأسدي، خصوصاً أن تجارته واقتصاده أكثر سواداً بالاعتماد على تجارة الكبتاغون.
الاقتصاد السوري، ممثلاً في المصرف المركزي، سيشجع البنوك على القيام بدورها خدمة للمستثمرين القادمين، فور رفع العقوبات. كما أن الدول المانحة، والداعمة للنظام السوري الجديد، ستمنح، على الأغلب، سورية شروطاً ائتمانية متساهلة، خاصة إذا تلقى الاقتصاد السوري جرعة مالية كبيرة على شكل ودائع من دول خليجية، فمن شأن وديعة بحجم عشرة مليارات دولار، مثلاً، أن تشكل مصدر ثقة للمستثمرين، والمقرضين، والمورّدين، ما يُسهم في استدامة تدفق الأموال، واستدامة عمل مشاريع البنية التحتية، ومن ثم إعادة الإعمار.
قد تجد سورية كفرصة عقارية عملاقة تفسيرها الأكثر مباشرة في المثالين التاليين: لبنان منذ بدايات الحرب اللبنانية يفتقد إلى الكهرباء. والشائع أن اللبناني يدفع فاتورة “كهربة الدولة”، وفاتورة الاشتراك في المولدات الخاصة التي يملكها أقطاب الطوائف من السياسيين اللبنانيين. وخلال خمسين سنة، لم تستطع الدولة اللبنانية إزاحة عبء الفاتورتين عن المواطن اللبناني لأسباب تتعلق بنفوذ أصحاب تلك المولدات. المثال الثاني انتشار استعمال الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء في سورية، خلال السنوات الماضية، بتكلفة تصل إلى ألفي دولار للاستعمال المنزلي، وبأضعاف هذا المبلغ للاستعمال الصناعي. في المثالين، سنجد أن الفرصة كبيرة في الاستثمار في القطاعين في سورية ولبنان. ولو أن الدولة اللبنانية صاحبة قرارها لجرى حل مشكلة الكهرباء فيها منذ عقود. أما في سورية، فالمشكلة في طور الحل، لكن بعد أن دفع السوريون، بالمفرق، مبلغاً يقرب من خمسة مليارات دولار، كأفراد، لتأمين الكهرباء في منازلهم. هذا بافتراض أن نصف عدد البيوت السورية اعتمدت هذه الطريقة. بالطبع، قد يزيد المبلغ أو ينقص، لكنه، في كل الأحوال، يكفي لإنشاء ما لا يقل عن ست محطات عملاقة لتوليد الكهرباء، وحل مشكلة الكهرباء جذرياً.
وهنا أيضاً فرصة سانحة، لكن للدولة والأفراد معاً هذه المرّة، فأجهزة توليد الكهرباء للمنازل من الطاقة الشمسية شركات صغيرة جدّاً، ولكن مجموع هذه الشركات إن جرى ربطه بشبكة توزيع الكهرباء، وهذا متاحٌ باشتراطات تقنية، سيحول المنازل إلى محطات كهرباء، بحيث يبيع المواطن الكهرباء للدولة، فتزداد القدرة الكهربائية في محطات التوزيع، ليستفيد منها النصف الآخر من السوريين الأشد فقراً، بينما تكون الدولة قد حصلت على كهرباء رخيصة، من دون أن تستثمر أي أموال تُذكر في الحصول على طاقة إضافية.
من هنا، سورية تحت الشمس هذه المرّة، بسكانها، وعقاراتها الآدمية، وبشمسها التي قد تكون فرصةً اقتصادية لكل السوريين.
العربي الجديد،
—————————
دعم قوي لدمشق والباقي على الشرع/ رفيق خوري
دفعت “قوة الخوف” من فشل الإدارة السورية الجديدة واندلاع الفوضى والحرب الأهلية إلى الإسراع في رفع العقوبات
الأربعاء 4 يونيو 2025
لن يحدث تدفق استثمارات على بلد يحتاج إلى نحو 500 مليار دولار لكي يعود لما كان عليه قبل عام 2011 من دون نظام قضائي فاعل وضمانات قوية لحقوق الإنسان والحريات الاجتماعية وحرية تحويل الأموال.
في كتاب جيروم دريفون “من الجهاد إلى السياسة” شيء من اليقين بالنسبة إلى قدرة “هيئة تحرير الشام” الجهادية السلفية على التحول إلى حركة سياسية من دون التخلي عن البندقية. لكن الأسئلة المثارة هذه الأيام والتي قد يمر وقت طويل قبل الحصول على أجوبة موثوقة عنها، هي عن مسار التحول الذي مارسه “أبو محمد الجولاني”. هل بدأ في السجن الذي أدارته القوات الأميركية في بغداد أم في مرحلة ما بعد “جبهة النصرة” والقطع مع قيادة “القاعدة”؟، وهل كان للسفير الأميركي السابق روبرت فورد دور فعلي في التحول خلال لقاءاته مع “الجولاني” في إدلب أم أن ما أسهم في التحول البطيء مسلسل لقاءات وحوارات وترتيبات قام بها مع “أمير إدلب” وزير الخارجية التركي الحالي هاكان فيدان الذي كان رئيساً للاستخبارات، والبروفيسور إبراهيم قالين رئيس الاستخبارات الحالي الذي كان مستشاراً للرئيس رجب طيب أردوغان؟
مهما يكُن، فإن الرجل انتظر حتى الوصول إلى دمشق مع سقوط نظام بشار الأسد لاستعادة اسمه الفعلي أحمد الشرع. وما حدث ويحدث على الأرض خارج خطاب الشرع يطرح أسئلة عن حقيقة التحول لدى قادة وقواعد في فصائل جهادية سلفية انضمت إلى وزارة الدفاع وارتكب بعضها مجازر في حق الأقليات، ومارس بعضها الآخر التضييق على الحريات الاجتماعية في المطاعم والمقاهي والملاهي وثياب النساء.
وليس الدعم الأميركي والسعودي والقطري والإماراتي والتركي، بصرف النظر عن التصورات والتفاصيل، سوى رهان على فرصة مفتوحة ومواجهة خطر يلوح في الأفق. فما يلتقي عليه الأميركيون والعرب والأتراك والأوروبيون هو الاعتماد على ما يريد ويستطيع الرئيس الشرع تقديمه، وموجزه في ثلاثة أمور. أولها إبقاء إيران خارج سوريا وأي نفوذ فيها، وإغلاق الممر السوري لتهريب الأسلحة الإيرانية إلى “حزب الله” في لبنان، إذ ما لا تقصفه إسرائيل من الصواريخ تتولى أجهزة الأمن السورية ضبطه ومصادرته. وثانيها الحفاظ على الأمن وتحقيق العدالة الانتقالية وضرورة الانفتاح على تنوع المجتمع السوري والبحث عن أصحاب المؤهلات بدلاً من أصحاب الولاءات من دون خبرة ولا كفايات. وثالثها الانتقال من “اقتصاد الشلة” في ثياب “اقتصاد اشتراكي” مزيف إلى الاقتصاد الليبرالي والانفتاح على العرب والغرب بعد عقود من تقليد موسكو وطهران والوقوع في كابوس حصار اقتصادي وعقوبات، مما جعل 90 في المئة من السوريين عند خط الفقر وتحته.
أما الذي تريده إدارة الرئيس دونالد ترمب، فإنه ترتيب علاقات بين سوريا وإسرائيل. وأما الذي يدفع إلى الإسراع في رفع العقوبات وبدء الدعم، فإنه “قوة الخوف” من فشل الإدارة السورية الجديدة واندلاع “الفوضى والحرب الأهلية” خلال أسابيع، كما قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أمام الكونغرس دفاعاً عن رفع العقوبات. لكن الباقي على الإدارة السورية الجديدة. فلا تدفق استثمارات على بلد يحتاج إلى نحو 500 مليار دولار لكي يعود لما كان عليه قبل عام 2011 من دون نظام قضائي فاعل وضمانات قوية لحقوق الإنسان والحريات الاجتماعية وحرية تحويل الأموال. ولا رهانات على تنمية اقتصادية من دون قوانين توضح نوع النظام، هل هو ليبرالي أم نيوليبرالي؟ وما هي ضمانات التشاركية والخصخصة ومدى التخلي عن القطاع العام لمصلحة القطاع الخاص السوري والعربي والدولي؟
مفهوم أنه لدى الإدارة السورية الجديدة خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية محددة من نوع تجربة الحكومة في إدلب. لكن هذه الإدارة محكومة بالذهاب إلى خيارات أخرى لم تكُن تؤمن بها ولا خبرة لديها في تسييرها. ولا مهرب من الانفتاح على مواهب من خارج إطار النظرية الخطرة التي عنوانها “من يحرر يقرر”، ذلك أن القرارات المعلنة تحت ضغط الخارج والرأي العام السوري لا تزال مجرد عناوين من دون فاعلية لأية لجنة أو هيئة، من العدالة الانتقالية إلى البحث عن المفقودين والكشف عن المقابر الجماعية، ومن التحقيق في مجازر الساحل إلى الوقف الفعلي للفصائل التي تتصرف على مزاجها كأن السلاح هو القانون، وكأن كل من ليس من الأكثرية هو “كافر” يجب قتله. والأساس هو إعادة الاعتبار إلى الرجال والنساء والشبان والشابات الذين بدأوا الثورة السلمية الجامعة في الشارع، بالتالي إعادة الاعتبار للثوار وشعار”الشعب السوري واحد”، وسط المفاخرة بالثورة والتركيز على الفصل الأخير فيها. فالثورة هي التي دفع السوريون ثمنها اعتقالاً وقتلاً ودماراً ونزوح نصف الشعب عن مدنه وبلداته وقراه وبيوته، والثوار ليسوا فقط الذين نفذوا الضربة الأخيرة لإسقاط نظام انهار على مراحل من دون أن يدافع عنه جيش من مئات الألوف لا يزيد راتب العسكري فيه على 10 دولارات شهرياً.
وليس أهم من الثورة سوى بناء الدولة، فالثورة الدائمة التي كان يصر عليها تروتسكي تعرقل قيام الدولة وتفتح طريق الصراعات والحرب الدائمة. وأخطر وضع في أي بلد فازت ثورته هو أن يصبح في حال هجينة، لا هو نظام، ولا هو دولة، ولا هو بقي ثورة.
حتى ستالين كان يحذر من “دوار النجاح”.
—————————–
دمشق ورشة عمل للمستثمرين العرب والأجانب/ مصطفى عبد السلام
03 يونيو 2025
تحوّلت العاصمة السورية دمشق هذه الأيام إلى ورشة عمل كبيرة للمستثمرين العرب والأجانب، الباحثين عن فرص استثمارية جاذبة ورابحة في كل الأنشطة والقطاعات الاقتصادية والخدمية. وتحوّلت الوزارات السورية إلى قاعة اجتماعات كبيرة للوزراء وكبار المسؤولين الاقتصاديين العرب والأجانب الذين تدفقوا إلى دمشق لإبرام اتفاق، أو توقيع مذكرة تفاهم أو عقد شراكة، أو وضع اللمسات الأخيرة لصفقة تجارية، أو استثمارية، أو زراعية أو مشروع متخصّص في مجالات الطاقة والاتصالات والنقل وغيرها.
وزادت وتيرة تلك الزيارات في ظلّ تحركات عربية مكثفة نحو الانفتاح على فرص الاستثمار في سورية، عقب إعلان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تخفيف العقوبات المفروضة على الاقتصاد السوري، ويبدو أن هذا الزخم دفع وزير المالية السوري محمد يسر برنية إلى الخروج قائلاً إن “عجلة الاقتصاد السوري بدأت بالتحرك، وأن سورية ستكون الأقل ضريبياً بين دول المنطقة”.
وخلال أقل من أسبوع جرى الإعلان في دمشق عن مشروعات جديدة تقدر كلفتها الاستثمارية بمليارات الدولارات، فيوم الخميس الماضي جرى توقيع اتفاق قطري تركي أميركي مع سورية لتطوير مشاريع طاقة بقيمة 7 مليارات دولار ضمن مبادرة “إحياء الطاقة في سورية”، وبهدف مضاعفة إنتاج الكهرباء عبر إنشاء محطات تعمل بتقنية الدورة المركبة، وإطلاق مشاريع للطاقة الشمسية. وتضمنت الاتفاقية تطوير أربع محطات توليد كهرباء بتقنية التوربينات الغازية من نوع “الدورة المركبة” (CCGT) موزعة في دير الزور، ومحردة، وزيزون بريف حماة، وتريفاوي بريف حمص، باستخدام تقنيات أميركية وأوروبية متقدمة.
وجاء اتفاق الطاقة الضخم بعد يوم واحد فقط من إعلان الحكومة السورية توقيع اتفاقيات مع أربع شركات تهدف إلى توسيع شبكة الكهرباء، بإضافة نحو 5 آلاف ميغاواط إلى الإنتاج، ما قد يؤدي إلى مضاعفة الإمدادات في الدولة التي تعاني من أزمة كهرباء حادة وانهيار في الشبكة منذ أكثر من عقد.
وبداية هذا الأسبوع استضافت دمشق اجتماعات مكثفة مع البنك الدولي للاتفاق على تمويل مشروعات لإصلاح خطوط نقل الكهرباء بين سورية والأردن وتركيا. وأبدت مؤسّسات تمويل دولية بارزة رغبتها بالتعاون مع الحكومة في قطاع النقل، في مقدّمتها البنك الدولي، الذي يدرس إمكانية تمويل مشاريع طرق وسكك حديدية.
ويوم السبت، زار وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، دمشق على رأس وفد اقتصادي رفيع المستوى، في إطار دعم المملكة لاستقرار سورية وإنعاش الحياة الاقتصادي، وتنمية الاستثمارات الخارجية. صاحب الزيارة حديث عن ضخ مستثمرين خليجيين استثمارات ضخمة في سورية خلال الفترة المقبلة، بل إن هناك من تحدث عن أن حجم الاستثمارات السعودية المحتملة في إعادة إعمار سورية قد يصل إلى 200 مليار دولار. وهناك استثمارات أخرى مرشحة من قطر والكويت والإمارات، وقبلها أعلنت وزارتا المالية في السعودية وقطر، سداد متأخرات سورية لدى مجموعة البنك الدولي، التي تبلغ نحو 15 مليون دولار.
صاحب تدفق الاستثمارات الأجنبية على سورية تطورات اقتصادية داخلية، فقد انتهت الحكومة من وضع قانون جديد للاستثمار من المقرّر إصداره قريباً ويتضمن تسهيلات عديدة للمستثمرين، واستأنفت الخطوط الجوية السورية أمس رحلاتها إلى تركيا بعد انقطاع 14 عاماً، وأعيد افتتاح بورصة دمشق، بعد توقف دام نحو ستة أشهر، في خطوة وصفتها الحكومة بأنها رسالة حول بدء تحرك الاقتصاد الوطني، وسط تأكيدات رسمية على التوجه نحو دعم القطاع الخاص، وتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، وأعادت سورية افتتاح المعابر الحدودية لتنشيط التجارة وجذب استثمارات لقطاع التجارة الداخلية، وأحدثها معبر العريضة الحدودي مع لبنان.
وأمس، زار وفد سوري رفيع الدوحة برئاسة وزير الخارجية أسعد الشيباني، وضم وزراء المالية والاقتصاد والاتصالات لبحث سبل التعاون المشترك وفتح آفاق الاستثمار. وخرج علينا وزير السياحة السوري قائلاً: “نتوقع استثمارات سياحية بمليارات الدولارات بعد رفع العقوبات”، كما أبدى العديد من المستثمرين الأجانب رغبتهم بالدخول في مشاريع حيوية تشمل خدمات النقل الداخلي، والتاكسي الكهربائي المعتمد على الطاقة الشمسية، مؤكدًا أن هذه المشاريع سريعة التنفيذ وذات جدوى محلية عالية. وأبلغ مستثمرون أجانب الحكومة رغبتهم في إعادة تشغيل خطوط إنتاج الأدوية بالتعاون مع شركات عالمية، خاصّة وأن بوادر انتعاش في قطاع الصناعات الدوائية السوري تلوح بعد سنوات من التراجع، نتيجة العقوبات وقطع الصّلة مع الشركات والموردين الأجانب.
وزار وفد من رجال الأعمال الكويتيين دمشق قبل أيام، وبحث مع الرئيس السوري أحمد الشرع، فرص الاستثمار المتاحة خاصّة في مجالات البنية التحتية والاتصالات، وأجرت الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي مشاورات مع اتحاد الغرف الخليجية لإقامة منتدى اقتصادي مشترك مع سورية.
العربي الجديد،
————————–
فورين بوليسي: رفع العقوبات عن سوريا معقّد ومليء بالعراقيل
ربى خدام الجامع
2025.06.03
أوردت مجلة فورين بوليسي أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب برفع العقوبات عن سوريا مثّل تحوّلاً جذرياً في السياسة الأميركية تجاه هذا البلد، لكنه لا يعني بالضرورة نهاية تأثير تلك العقوبات.
واعتبرت المجلة أن الإعفاءات التي أُعلنت حتى الآن، رغم كونها الأوسع في تاريخ العقوبات الأميركية، لا تزال محدودة في أثرها العملي، ولا تكفي وحدها لإعادة دمج سوريا في الاقتصاد العالمي أو لإنهاء العزلة التي تعيشها.
وأضافت المجلة أن سوريا ما تزال تخضع لمجموعة متشابكة من العقوبات القانونية والسياسية التي فُرضت على مدى عقود، وأن تنفيذ رفع العقوبات بشكل فعلي يتطلب قرارات متوازية من وزارات الخارجية والخزانة والتجارة، إضافة إلى موافقة الكونغرس الأميركي.
كما حذّرت فورين بوليسي من أن بقاء هذه العقوبات أو مفاعيلها، حتى بعد إعلان الإعفاء، قد يثني المستثمرين والجهات الفاعلة الدولية عن التعامل مع سوريا.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بملف العقوبات المفروضة عاى سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية المجلة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
رحب الجميع بخبر رفع العقوبات عن سوريا بموجب قرار أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إذ عند سقوط نظام بشار الأسد الديكتاتوري في كانون الأول الماضي، كانت البلد من البلدان التي فرضت عليها أقسى العقوبات في العالم، كما أن الوضع الاقتصادي الخانق الذي فرضته عليها واشنطن حرمها من فرص التعافي من الحرب المدمرة. ولئن اتخذ ترامب خطوات مهمة لتخفيف العقوبات الأميركية، فإن عملية رفع العقوبات بشكل كامل هي ومفاعيلها ليس بالأمر الهين، إذ أمام إدارة ترامب درب شاق في حال قررت أن تحقق ما وعد به هذا الرجل.
يعد ترامب أول رئيس أميركي يتخذ هذه الخطوة الجسورة المتمثلة برفع العقوبات، وذلك لأن الإدارات الأميركية السابقة رفعت العقوبات عن الدول المنبوذة بالتدريج، وقد أتى ذلك دوماً مقابل إجراءات مضنية جرى التفاوض عليها وأقدمت عليها الجهات الخاضعة للعقوبات، فتخفيف العقوبات عن إيران في زمن إدارة أوباما أتى عندما وقعت إيران الاتفاق النووي وقد أضحى هذا التخفيف غاية في التعقيد لدرجة تحوله إلى موضوع لكتاب كامل وهو “فن العقوبات” للمؤلف ريتشارد نيفيو. وبالمقابل، فإن التعهد الوحيد الذي قطعه ترامب في الرياض يوحي بأنه على استعداد لإنهاء العقوبات المفروضة على سوريا بصورة عملية ومن دون أي تحفظات.
ثم إن سرعة تحرك إدارته في تخفيف العقوبات يشير إلى أنه يعني ما يقول، فقد صدر أمر بإعفاء شامل من العقوبات في 23 أيار، وهذا ما سهل أمر تنفيذ الصفقات التي كانت محظورة في السابق مع سوريا، ومن بينها تلك التي أبرمها مستثمرون أجانب، كما أن الرخصة العامة الموسعة التي أصدرتها وزارة الخزانة الأميركية والإعفاء من قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية ألغيا بشكل فعلي قسماً كبيراً من الحصار شبه الكامل الذي فرضته واشنطن على سوريا في السابق.
غير أن سوريا ما تزال تخضع لسلسلة متداخلة من نظم العقوبات الأميركية، بعضها فرض عليها منذ عام 1979، وتشمل تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب، وتصنيف هيئة تحرير الشام ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، ثم قانون قيصر وقانون محاسبة سوريا اللذين فرضا مزيداً من العقوبات على هذا البلد.
ولإبطال مفعول هذين القانونين وغيرهما من العقوبات بشكل كامل، لابد لوزارة الخارجية ووزارة الخزانة ووزارة التجارة وللكونغرس تنفيذ إجراءات إضافية، بل يجب على الإدارة نفسها أن تمضي أبعد من ذلك إذا كانت تريد رفع العقوبات وتخفيفها لتحسين الأوضاع على الأرض في سوريا.
اعتراضات مشروعة
هذا وستعترض الرئيس الأميركي عقبات سياسية على طول الطريق لاشك، فمن يقفون ضد تخفيف العقوبات بشكل فوري لديهم مخاوفهم المشروعة بشأن تقديم الكثير لقادة سوريا الجدد وبسرعة كبيرة، وذلك لأن ارتباط قادة سوريا في بداياتهم بتنظيم القاعدة، حتى بعد تبرؤ هيئة تحرير الشام من تلك الجماعة قبل عقد من الزمان، ومحاربتها لها منذ ذلك الحين، هو ما يجعل السياسيين الأميركيين يتريثون ولهم الحق في ذلك.
كما أن ستة أشهر تعتبر فترة قصيرة جداً بالنسبة للحكومة السورية الجديدة حتى تثبت انحيازها للقيم والمصالح الأميركية، على الرغم من أن نبرة الشرع بقيت مشجعة حتى الآن، فقد تعهد بتشكيل نموذج للحكم يراعي التنوع في سوريا، إلى جانب تعهده بإقامة علاقات سلمية مع دول الجوار، ومن بينها إسرائيل.
ولكن ثمة أمور أخرى تستوجب الحيطة، لأن الشرع استأثر بقدر كبير من السلطات ما جعل بعض السوريين يخشون من تحول النظام الجديد في بلدهم نحو الاستبداد، كما وقعت اشتباكات دموية في مطلع شهر آذار رافقتها مجازر نفذت بحق مدنيين ونفذتها فصائل موالية للحكومة، وعلى الرغم من أن هذه الفصائل تصرفت خارج نطاق الأوامر الصادرة عن الدولة، فإن ذلك يمثل تحديات تنتظر البلد مستقبلاً.
يبدو بأن السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام لديه تحفظات بشأن موقف ترامب، ويعود أحد أسباب ذلك إلى أنه استشعر معارضة إسرائيل لذلك، كما يقال بإن كثيراً من مستشاري ترامب نفسه يعارضون مسألة تخفيف العقوبات التي مُنحت للرئيس السوري نظراً لماضيه المرتبط بتنظيم القاعدة، وقد أعرب بعضهم عن تشكيكه وبكل صراحة بحكام سوريا الجدد.
ولعل ترامب قد يستشعر الضغط من داخل حزبه وإدارته، وهذا ما يمكن أن يدفعه للتراجع وفرض شروط قبل رفع مزيد من العقوبات، وهذه الشروط قد تأتي على غرار المطالب الخمسة التي قدمها للرئيس السوري خلال لقائهما في 14 أيار، فلقد اتُهم رؤساء أميركيون سابقون، بينهم ترامب نفسه بتغيير الأهداف الأساسية لرفع العقوبات في بلاد أخرى. ثم إن وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، ترك الباب مفتوحاً أمام هذا الاحتمال عندما قال بإنه يتوقع لتخفيف العقوبات أن يُستتبع بإجراءات فورية تنفذها الحكومة السورية على صعيد أولوياتها السياسية، على الرغم من أنه لم يتطرق صراحة للحديث عن مسألة فرض شروط على عملية تخفيف العقوبات بحد ذاتها.
سيناريوهات محتملة
ولكن، ثمة أدلة كثيرة تشير إلى قدرة العقوبات في حال رفعها على تمهيد السبيل أمام سوريا لتحقيق مستقبل أكثر أماناً وازدهاراً إلى جانب الحد من فرص انجراف البلد من جديد نحو حالة الفوضى وانعدام الاستقرار. فقد حرمت العقوبات سوريا من إعادة الإعمار وحدت من قدرة السلطات على تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان الذين يعيش 90% منهم في فقر، ناهيك عن ازدياد أزمة الجوع سوءاً، وتتلخص تلك الأساسيات بدفع رواتب موظفي وموظفات القطاع العام وتأمين الوقود والكهرباء، لأن فشل السلطات في تحقيق ذلك لن يفيد سوى المخربين في الداخل والخارج، كما أن سيعجل بانجراف البلد نحو حالة الفوضى.
من المنطقي اتخاذ احتياطات ضد حالة انعدام الاستقرار، وخاصة مع إمكانية التراجع عن عملية تخفيف العقوبات، إذ يمكن إعادة فرض العقوبات في حال عدم التزام قادة سوريا الجدد بالتزاماتهم تجاه شعبهم وتجاه المجتمع الدولي، وعلى أية حال، فإن أهمية معظم العقوبات الأميركية وعلاقتها بكل ذلك لهي موضع مساءلة وتشكيك نظراً لأن تلك العقوبات فرضت كرد فعل على الجرائم التي ارتكبها الأسد والذي لم يعد في السلطة اليوم.
الإعفاءات لوحدها لن تحل المشكلة
مع كل الزخم الذي حظي به قرار إنهاء العقوبات الأميركية عن سوريا، يبرز السؤال: هل بوسع ترامب فرض تخفيف كبير للعقوبات؟
هنالك دول أخرى لا سلطة للولايات المتحدة عليها، فرضت على سوريا عقوبات، ففي الوقت الذي رفع الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة معظم القيود التي فرضاها على سوريا، ما يزال مجلس الأمن يحتفظ بعقوباته التي فرضها على هيئة تحرير الشام، والتي يفترض من كل الدول الأعضاء، ومن بينهم الولايات المتحدة، الالتزام بها. وبعض الدول مثل كندا يتعين عليها قبل كل ذلك أن تعدل قوانينها المعنية بالعقوبات، وبانتظار اتخاذ مزيد من الإجراءات، ستبقى العقوبات تؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد السوري حتى بعد رفع العقوبات الأميركية.
كما أن إعفاءات إدارة ترامب التي تعتبر الأوسع في تاريخ الولايات المتحدة لا تشمل كل شيء، إذ ما تزال القيود المفروضة على الصادرات تمنع تصدير سائر السلع والبضائع تقريباً من الولايات المتحدة إلى سوريا، ويشمل ذلك السلع والبضائع القادمة من دول أخرى، لكنها تشتمل على نسبة 10% فقط من مواد أميركية المنشأ. ثم إن تلك الإعفاءات لم تقدم أي شيء لتخفف من العقوبات الجنائية المشددة المترتبة على تصنيف هيئة تحرير الشام ضمن التنظيمات الإرهابية الأجنبية، وهذا بحد ذاته يعتبر لعنة على المستثمرين وعلى المنظمات غير الحكومية.
أي أن الإعفاءات لوحدها لن تحل المشكلة، إذ تكشف لنا الدروس المستفادة من أفغانستان بعد سيطرة طالبان عليها بأن المشاريع التجارية تخشى من الاستثمار في بلد يخضع لعقوبات شديدة، حتى وإن كانت الرخص تبيح مزاولة تلك الأنشطة عملياً. وفي أغلب الأحيان ترفض المصارف تحويل الأموال إلى بلد يخضع لعقوبات ثقيلة، بصرف عن النظر عن أي ترخيص، وفي أغلب الحالات، فإن تلك الجهات لا تعرف بوجود تلك الرخص.
ولهذا لابد من اتخاذ إجراءات إضافية حتى يتمكن الرئيس من رفع العقوبات عن سوريا بشكل كامل، وإلى أن تُتخذ تلك الخطوات الإضافية، ستبقى القيود الاقتصادية الأميركية تحوم فوق سوريا مثل غمامة سوداء، بصرف النظر عن الإعفاءات والرخص الممنوحة.
وهنالك مشكلة أعقد وهي أنه في حال رفع العقوبات، فإن مفاعيلها ستستمر في أغلب الأحيان، إذ إن القطاع الخاص لن يحبذ إقامة مشاريع تجارية في أماكن يعتبرها خطيرة، خاصة مع وجود احتمال فرض العقوبات من جديد. وهنا يمكن تشجيع التجارة مع سوريا، مع تقديم توجيهات واضحة وتطمينات صريحة حول مسألة السماح بممارسة تلك الأنشطة، إلى جانب تقديم المساعدات التنموية وغيرها من الدعم الذي تقدمه الحكومة الأميركية، بيد أن هذه الخطوات تحتاج إلى إجراءات مدروسة وتمويل من واشنطن، وفي حال تقصير الولايات المتحدة في اتخاذ تلك الخطوات، فإن الأثر الرهيب للعقوبات السابقة قد يستمر لفترة طويلة حتى بعد تغيير القوانين.
ترامب ودوره الكبير في رفع العقوبات
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن حظوظ ترامب في تحقيق ما وعد به مواتية، لأن غيره من الرؤساء عانوا من عقبات سياسية عندما حاولوا رفع العقوبات، فقد تعرض الرئيس الأسبق باراك أوباما لمعارضة شديدة عندما أعلن عن قراره الذي يقضي بتخفيف العقوبات عن كوبا، ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن المسألة تتصل بالانتخابات، إذ توجد كتلة ناخبين قوية من الأميركيين الكوبيين في ولاية فلوريدا التي كانت ولاية متأرجحة آنذاك.
أما بالنسبة للحالة السورية، فإن ترامب مضى قدماً، غير هياب من الممانعة التي لقيها في إدارته وحزبه، ومن حسن حظه أن أبرز الأعضاء الديمقراطيين في الكونغرس انحازوا بالأصل لخطته، إذ بصرف النظر عن الهمهمات المعارضة التي أطلقها غراهام، فقد انضوى الجمهوريون في الكونغرس خلف الرئيس، وهذا ما نلمسه في التصريحات الأخيرة لزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، جون ثون.
عادة ما تحتاج العمليات البيروقراطية لزمن طويل، غير أن الرئيس تحرك بسرعة ليعطي سوريا مهلة فورية، ثم إنه يتمتع بسلطات واسعة تخوله تقديم المزيد، إذ بوسع وزير خارجيته أن يخرج سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب وذلك عبر تأكيده للكونغرس بأن سوريا خضعت لعملية تغيير أساسي في القيادة والسياسة، أو أنها لم تعد تدعم أي عمل إرهابي دولي مع تقديمها لتطمينات بأنها لن تشجع تلك الأعمال مستقبلاً. كما بوسع هذا الوزير إخراج هيئة تحرير الشام من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية بناء على تقييمه للظروف التي تؤكد تغير هذا التصنيف. ويمكن لوزارة التجارة الأميركية أن تقدم استثناءات وإعفاءات ترخص السماح بتدفق مزيد من البضائع من الولايات المتحدة واستيرادها في سوريا.
كما قد تزيد شهوة القطاع الخاص للمخاطرة في سوريا، بما أن هذا الأمر يعتبر نقطة خلافية كبرى، إذ في دول أخرى، شككت المشاريع التجارية بتطمينات واشنطن الفاترة وترددت في الاستثمار هناك، أما في سوريا، فإن إعلان ترامب هو وأعضاء حكومته وبملء حناجرهم عن التزامهم برفع العقوبات عن سوريا، قد يزيد من ثقة المستثمرين في هذا البلد، ناهيك عن الحماسة التي تبديها دول المنطقة تجاه الاستثمار في سوريا.
بيد أن تخفيف العقوبات ليس عصا سحرية بوسعها أن تنهي كل الويلات التي حلت بسوريا، إذ حتى لو تلاشت المخاوف بشأن العقوبات، ما تزال مشكلات أخرى كثيرة تنتاب هذا البلد الذي دمرته الحرب وسوء الإدارة على المستوى الاقتصادي، فالقضاء على مواطن الخلل والفساد التي أصابت أجهزة الدولة السورية منذ أمد بعيد يحتاج لسنوات، والمصرف المركزي السوري وغيره من المصارف السورية أمامهم مهمة صعبة تتمثل بتعزيز الشفافية والمصداقية والحد من قلق المصارف الأجنبية بشأن احتمال غسل الأموال أو تمويل إلإرهاب، فيما تحاول حكومة الشرع الهشة أن تسيطر على جهاز الأمن وأن تمنع البلد من الانجراف نحو العنف أو ظهور تمرد فيه من جديد.
غير أن التعهد الذي قطعه ترامب خلق فرصاً جديدة، إذ خلال ساعات من إعلانه عن رفع العقوبات، بدأ السوريون يتنعمون بأسعار أرخص للوقود كما قوى ذلك عملتهم، وأخذت الدول العربية الخليجية تناقش مع دمشق مشاريع استثمارية تخص البنية التحتية والاتصالات في سوريا، كما تعهدت شركة استثمارية إماراتية بإقامة استثمارات بقيمة 800 مليون دولار وذلك لتطوير ميناء طرطوس، ونظمت شركة قانونية مهمة في واشنطن ندوة لبحث الفرص الاستثمارية في سوريا.
أي أن الأمل زاد كثيراً بمجرد أن دخلت تلك الإعفاءات حيز التنفيذ، وتضاعف ذلك الأمل كثيراً بوجود مزيد من التعهدات الملموسة، مثل الاتفاقية التي ضمت أربع شركات، إحداها أميركية، وتنص على مساعدة سوريا في توسيع شبكة الكهرباء بالبلد.
قد تحمل الشهور المقبلة فيضاً من الاستثمارات الإقليمية والدولية، كما قد تجدد علاقات سوريا مع بقية أنحاء العالم، وبذلك لن تبق سوريا دولة منبوذة بعد اليوم. أما بالنسبة للشعب السوري الذي عانى كثيراً، فإن هذا التطور مهم للغاية، وفي هذه الأثناء، يتعين على ترامب أن يسعى بجد لتحقيق ما وعد به، ولكن عليه أن يستغل كل نفوذ له في واشنطن حتى يتم له ذلك.
المصدر: The Foreign Policy
ملفزيون سوريا
—————————–
بعد رفع العقوبات.. سوق صناعة الدواء في سوريا يترقب انتعاشاً حقيقياً؟/ نور جوخدار
2025.06.04
لم يكن قطاع الأدوية في سوريا بمعزل عن الأزمات التي عاشها السوريون على مدار 14 عاماً بين نقص الأصناف الأساسية لا سيما الخاصة بالأمراض المزمنة وارتفاع الأسعار، وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
وتعاني “أم فراس” (52 عاما)، مصابة بمرض السرطان، من عدم قدرتها على تغطية تكاليف العلاج بسبب ارتفاع أسعار الصور الشعاعية والتحاليل المخبرية.
وتقول المرأة الخمسينية، “اضطر لطلب العون من أصحاب الخير والجمعيات الخيرية لتأمين تكاليف العلاج.
بدوره، يقول خير الله خير، صيدلاني في جرمانا، إن أسعار الأدوية ما تزال مرتفعة مقارنة بدخل المواطن، مضيفا أن “الدواء متوفر لكن المشكلة في ثمنه”.
وأشار الصيدلاني، في حديثه لموقع “تلفزيون سوريا”، إلى أن أدوية مرض السرطان تعتبر باهظة الثمن حتى وإن توفرت بعد رفع العقوبات.
رفع العقوبات.. آمال وتوقعات
يواجه قطاع صناعة الدواء بسبب العقوبات الدولية على سوريا تحديات كبيرة ابتداءً من صعوبة استيراد المواد الأولية، وعرقلة عمليات تحويل الأموال، بالإضافة لصعوبة تأمين قطع الغيار والصيانة اللازمة لمصانع الأدوية.
كما عانت هذه الصناعة من شبه انقطاع إنتاج العديد من الأصناف، بسبب العقوبات، فضلاً عن الارتفاع الكبير في أسعار أدوية الأمراض المزمنة، بما فيها التي توصف لأمراض القلب والسكري والسرطان والأدوية المناعية.
وبعد رفع العقوبات يترقب سوق الدواء انفراجا طال انتظاره يعيد الأدوية المفقودة إلى رفوف الصيدليات، وإعادة ضبط الأسعار التي أثقلت كاهل السوريين لسنوات.
ومن المتوقع أن يسهم رفع العقوبات في إدخال خطوط إنتاج حديثة وتجهيزات بتقنيات متطورة، وتوفير الأدوية التي كانت ممنوعة أو باهظة الثمن خلال السنوات الماضية.
ووفقاً للأمين العام للمجلس العلمي للصناعات الدوائية، التابع للحكومة، نبيل القصير، فإن أبرز التحديات تمثل في حظر استيراد الأجهزة المخبرية الأوروبية والأميركية المتطورة مما تضطر المصانع المحلية لاستيرادها من بلدان وسيطة مثل الأردن أو ماليزيا بتكاليف مضاعفة ويستغرق وصولها وقتا أطول.
وأشار القصير، في حديثه لموقع “تلفزيون سوريا”، إلى صعوبة كبير كانت تواجه سوق الدواء تتمثل بالقيود المفروضة على تحويل الأموال واللجوء إلى طرق التفافية تؤدي ضياع مبالغ كبيرة نتيجة إغلاق مكاتب التحويل والوسطاء.
الأسعار وتجربة إدلب
تعمل وزارة الصحة بالتعاون مع المجلس العلمي على وضع خطة لضمان تسعير عادل ومدروس لكل المستحضرات الدوائية في جميع المحافظات، بالإضافة إلى توحيد الأسعار مع محافظة إدلب، بحسب القصير.
وأشار الأمين العام للمجلس العلمي إلى أن تخفيض الأسعار يحتاج لوقت ريثما يحصل استقرار في سعر الصرف وتحرير الأموال المجمدة لدى البنوك لصالح المعامل الدوائية، موضحا أن المصانع باتت تتمتع بحرية أكبر في استيراد المواد الأولية ذات الجودة العالية.
قطاع عام محدود مقابل 98 مصنعاً خاصاً
يمتلك القطاع الحكومي العام في سوريا مصنعين لإنتاج الأدوية “تاميكو” و”الديماس”، في حين هناك 98 مصنعا خاصا.
مطلع العام الحالي، أعلنت شركة “تاميكو” بأنها تشغل حالياً 6 خطوط إنتاج تشمل الأقراص والكبسول والأشرِبة بأنواعها وأملاح تعويض الشوارد والمعقمات، بحسب وكالة الأنباء الرسمية “سانا”.
وبلغت الطاقة الإنتاجية لـ “تاميكو” 60 صنفاً دوائياً هذا العام بزيادة أكثر من 80 بالمئة مقارنة بالعام الماضية (35 صنفاً فقط)، وبقيمة إجمالية وصلت إلى 102 مليار ليرة سورية (أي ما يعادل 100 ألف دولار أميركي).
في غضون ذلك، يعتزم المجلس العلمي للصناعات الدوائية وضع خطة تطويرية بعد رفع معظم العقوبات الدولية، في أيار/مايو الماضي، تشمل تجديد شهادات الجودة الأوروبية للمصانع، والتعاون مع جهات مانحة جديدة لرفع سوية المعامل ورفع سوية المنتج المحلي.
ومن المتوقع أن تساهم الخطة في تسهيل عمليات التسويق وتحسين أداء المعامل الوطنية.
الأسعار لن تنخفض سريعاً
على الرغم من أن قطاع الأدوية لم يكن مشمولا بالعقوبات بشكل مباشر، وظل معفى منها حتى خلال سنوات الحرب، إلا أن صعوبات الاستيراد والقيود المفروضة على البنوك وارتفاع التكاليف استمرت في الحد من توفر الأدوية في الأسواق.
ويقول يونس الكريم، خبير اقتصادي، إن رفع العقوبات سيعمل على توفير الأدوية بشكل غير مباشر، مما سيُسهل عملية الدفع للمستوردين سواء للقطاع الحكومي أو القطاع الخاص أو منظمات المجتمع المدني أو الأفراد.
ويضيف الكريم، في حديثه لموقع “تلفزيون سوريا”، أن عملية الدفع عبر البنوك ستصبح أكثر مرونة لأن هناك موجة عالمية لتخفيض أسعار الأدوية، وبالتالي ستشجع هذه الخطوة العديد من المنظمات الدولية والعربية على توجيه الدعم للمجتمع السوري الذي يعاني عدد كبير منه من أمراض مزمنة كثيرة نتيجة 14 عاماً من الحرب.
ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن رفع العقوبات قد يفتح الباب أمام تدفق المعدات الطبية التي كان يُخشى من استخدامها المزدوج أو بيعها في السوق السوداء، مما قد يسهم في تحسين الوضع الصحي السوري بشكل عام.
ويستبعد الخبير انخفاض أسعار الأدوية بشكل فوري لعدة أسباب:
أولاً، لم يتم تفعيل نظام التحويلات المصرفية “سويفت” في سوريا، الأمر يتطلب وقتاً وبنية تحتية مصرفية.
ثانياً، استمرار اضطراب سعر صرف الدولار وتراجع القوة الشرائية لدى المواطن.
ثالثا، غياب تشريعات طبية واضحة، الأمر الذي ينعكس على الصناعة الدوائية وقطاع الاستشفاء، حتى إن وضع المستشفيات “السيئ” لم يرمم بعد، على حد وصفه.
بالإضافة إلى عدم تدفق المساعدات الدولية والعربية بالقدر الكافي حتى الآن.
تفعيل نظام سويفت.. وضبط الأسعار
علاوة على ذلك، فإن إعادة ربط سوريا بنظام “سويفت” (SWIFT)، وهو نظام مصرفي عالمي يربط البنوك والمؤسسات المالية، من شأنه أن يسهل بشكل كبير حركة تدفق الأموال وإتمام الصفقات التجارية، الأمر الذي يشكل عاملا حاسما في تهيئة بيئة استثمارية أكثر استقراراً لقطاع الأدوية والقطاعات الإنتاجية الأخرى.
ويرى الخبير الاقتصادي يونس الكريم على ضرورة سن تشريعات واضحة للصناعة الدوائية أو الاستشفائية، وتسهيل عملية الاستيراد من خلال وزارة المالية والبنك المركزي، دعم الصناعة الدوائية المحلية لتحسين الجودة والانتقال لصناعة دوائية لأمراض الحيوية مثل السرطان.
ويلفت إلى ضرورة إنشاء غرف تنسيق بين المنتجين المحليين والقطاع المدني ووزارة الصحة لضبط السوق ومتابعة الأصناف الدوائية الناقصة لتحقيق التكامل من دون أن يكون هناك تنافس قد يؤدي إلى طرد واستبعاد المنتج المحلي من جهة أو ارتفاع أسعار الأدوية من جهة أخرى
تلفزيون سوريا
—————————————-
رفع العقوبات يُربك الإقليم المرتعش/ محمد الشماع
من الرياض إلى دمشق: كيف غيّر إعلان ترامب ملامح النفوذ في الشرق الأوسط؟
2025-05-19
لم يكن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الرياض عن رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا مجرد قرار إداري بحت، بل يمثل حركة سياسية ذات مدلولات إقليمية ودولية واضحة. فاختيار السعودية كمسرح للإعلان يعكس إعادة رسم الدور القيادي لها في المنطقة العربية وإعادة ضبط الاصطفافات السياسية التي تشكل المشهد الإقليمي منذ سنوات.
السعودية واستعادة الدور القيادي
لم يكن اختيار الرياض للإعلان عن رفع العقوبات الأميركية صدفة، بل هو جزء من استراتيجية سعودية متكاملة لإعادة تثبيت موقعها كقوة إقليمية مؤثرة، هذا التحرك يأتي بعد سنوات من التنافس على الهيمنة الإقليمية، خصوصاً مع تركيا وإيران، حيث يبدو أن المملكة تعمل على إعادة ترتيب التحالفات بما يتناسب مع مصالحها المستقبلية.
رفع العقوبات الأميركية عن سوريا من الرياض يمكن اعتباره بمثابة إعلان غير مباشر عن إعادة احتضان سوريا عربياً بعد مرحلة من التقارب السوري التركي الذي فرضته الضرورات السياسية والجغرافية. هنا يتضح أن السعودية تسعى إلى تعزيز مكانتها كقوة إقليمية مركزية قادرة على احتواء المتغيرات وجذب سوريا إلى فضائها السياسي عبر دعم اقتصادي وسياسي متعدد الأوجه
إضعاف الدور الأوروبي
يأتي القرار الأميركي أيضاً في سياق تقليص النفوذ الأوروبي، وخاصة الفرنسي، الذي حاول جاهداً أن يستقطب السلطة السورية ضمن مساعي باريس لإعادة صياغة دورها في المنطقة. فمنذ سنوات، لعبت فرنسا دوراً واضحاً في استقطاب دمشق من خلال قنوات ديبلوماسية غير مباشرة. ومع تراجع الوزن الأوروبي في الشرق الأوسط، يبدو أن واشنطن قررت استعادة المبادرة ورسم مسار جديد لسوريا، بعيداً عن محاولات التأثير الأوروبية.
ويعكس هذا التحول إعادة التوازن داخل المحور الغربي، حيث تسعى واشنطن إلى احتواء المتغيرات الإقليمية عبر تحركات سياسية مباشرة، بدلاً من ترك المساحة للاعبين الأوروبيين الذين، وإن كانوا يسعون إلى الحفاظ على نفوذهم، لم يقدموا حلولاً ملموسة للمأزق السوري.
لقاء كرس النفوذ الأميركي
المقابلة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس السوري الجديد أحمد الشرع نقطة مفصلية في هذا التحول السياسي. هذا اللقاء، بغض النظر عن تفاصيله، يشكل تتويجاً لدور أميركي جديد في سوريا، حيث سيتم العمل على صياغة تفاهمات تضمن وجوداً أميركياً أكثر وضوحاً في الملف السوري.
وبعد 100 عام على تأسيس الدولة السورية الحديثة، ربما يكون هذا اللقاء علامة على دخول سوريا إلى دائرة النفوذ الأميركي، خصوصاً مع التغيرات الإقليمية التي تفرض خيارات جديدة على دمشق، بغض النظر عن شكل الاتفاقات التي أبرمت خلال اللقاء، مرجحٌ أن يعتمد هذا الاجتماع إشارة رسمية على تغير التموضع السوري في الخارطة السياسية والجغرافية للمنطقة.
نحو حل سياسي شامل
بين التحولات السياسية والإقليمية، تظل مصلحة الشعب السوري هي الاعتبار الأساسي في أي تحول يجري على الساحة الدولية. فرفع العقوبات، رغم كونه قراراً مرتبطاً بتوازنات سياسية، يشكل فرصة لتحسين الأوضاع الاقتصادية وإعادة تحريك عجلة التنمية، بما يتيح للسوريين فرصة للخروج من حالة الجمود التي فرضتها سنوات الحرب والعقوبات.
لكن هذه الفرصة لن تكون ذات جدوى إلا إذا تم استثمارها في إطار حل سياسي شامل يحقق الأمن والاستقرار والمواطنة لكافة السوريين. أي انخراط دولي في الملف السوري يجب أن يكون محكوما بضمانات تحفظ مصالح الشعب السوري، لا أن يتحول إلى مجرد تحرك سياسي يخدم أجندات القوى الكبرى في الختام.
إعلان ترامب رفع العقوبات الأميركية عن سوريا لم يكن مجرد قرار اقتصادي، بل هو جزء من إعادة ترتيب الأوراق الإقليمية، حيث يبرز الدور السعودي القيادي، ويتراجع النفوذ الأوروبي، وتتجه سوريا نحو مرحلة جديدة من العلاقات الدولية. اللقاء المنتظر بين ترامب والشرع سيكون لحظة مفصلية تؤسس لتحول استراتيجي في المشهد السوري، وربما يكون بداية لمسار سياسي جديد يعتمد فيه الدور الأميركي كفاعل أساسي في الملف السوري.
تحقيق الأمن والاستقرار والمواطنة لكافة السوريين هو الهدف الأسمى الذي يجب أن توجه إليه هذه التحولات، لضمان مستقبل أكثر استقرارا وازدهارا لسوريا والمنطقة.
———————–
الثمن السوري لرفع العقوبات الأميركية-الأوروبية/ مالك الحافظ
رفع العقوبات عن سوريا: نافذة انفتاح أم تكريس للفراغ السياسي؟
2025-06-01
منذ إعلان واشنطن وبروكسل عن تخفيف أو رفع العقوبات المفروضة على سوريا بسبب نظام الأسد، توالدت قراءات متضاربة حول ما يعنيه ذلك فعلاً في ميزان السياسة بالنسبة لـ “سوريا الجديدة”. بدا المشهد وكأنه انتقال من العزلة إلى الانفتاح، من الحصار إلى الإقرار بالواقع، ولكن تحت هذا السطح المتفائل، تلوح أسئلة أكثر تعقيداً تتعلق بطبيعة السلطة، وشكل الدولة، وشروط استعادة السياسة، وشرعية الداخل قبل شرعية الخارج.
لم تُصمم العقوبات المفروضة سابقاً على نظام الأسد لتكون مشروعاً سياسياً بذاته، فهي كانت أداة ضغط مؤقتة في انتظار تحوّل سياسي لم يأتِ. مع الوقت، تحوّلت هذه العقوبات من ورقة تفاوض إلى بنية قائمة بحد ذاتها، واليوم حين يُعاد تكييفها فإننا نكون أمام لحظة “إعادة تعريف” وظيفة العقوبات.
هنا تحديداً، يبدأ الثمن السوري بالتشكّل، من خلال ما سيرافق رفع العقوبات من إعادة توزيع غير معلن للفاعلين، والمواقع، ودوائر الشرعية الجديدة.
القرارات الأمريكية والأوروبية المعلنة لم تكن جزءاً من تسوية واضحة، ولا نتيجة لتحوّل بنيوي في شكل السلطة الجديدة، وإنما جاءت كترتيب مؤقت لإبقاء الوضع تحت السيطرة في المرحلة الجديدة التي تمر على سوريا، وتفادي الانهيار الكامل في ظل واقع إقليمي متغير.
ما حصل لا يمكن اعتباره إعادة دمج للسلطة الانتقالية في النظام الدولي ولا تطبيع سياسي بالمعنى الكامل، وإنما تموضع جديد ضمن نطاق ما يمكن تسميته بـ”الاعتراف الأدنى”، وهو شكل من الاعتراف الإجرائي يتيح التواصل مع سلطة أمر واقع، دون تقديم اعتراف سياسي مكتمل أو تمثيل دبلوماسي ثابت.
تجارب سابقة قدّمت نماذج مشابهة، ففي السودان عقب الإطاحة بعمر البشير، نشأت سلطة انتقالية نالت قبولاً دولياً واسعاً، لكنها لم تلبث أن انهارت تحت وطأة هشاشتها الداخلية وانعدام القدرة على التحوّل من الشرعية الدولية إلى شرعية محلية تمثيلية. وفي لبنان، مثّل اتفاق الطائف نوعاً من الاعتراف الخارجي التوافقي، لكنه لم ينجح في تأسيس نظام سياسي مستقر، بل أنتج نموذجاً هشّاً من تقاسم النفوذ الطائفي، تحوّل مع الوقت إلى ما يشبه الجمود المزمن.
اقرأ أيضاً: استرداد بشار الأسد لمحاكمته.. العدالة كإمكانية سياسية ضد منطق الإفلات والتدوير
ما يمكن استخلاصه من هاتين الحالتين أن الاعتراف أو الدعم الخارجي، حين لا يُرفق بعملية داخلية واسعة وحقيقية ومتكاملة لإعادة بناء الشرعية على أسس وطنية، يصبح عبئاً أكثر مما هو مكسباً، فبدلاً من أن يُطلق مسار التحوّل السياسي، يُكرّس مؤقتاً بنيات السلطة القائمة، ويمنحها هامشاً من الحركة دون مساءلة، ودون مؤسسات تضمن الاستمرارية والتوازن.
لا تزال البنية التمثيلية غير مكتملة في سوريا، والحياة السياسية غائبة، والمؤسسات خاضعة لتركيبة فوقية غير تشاركية، لذا فإن الرهان على هذا المستوى المنخفض من الاعتراف لا يكفي لبناء دولة، بل إن تحوّله إلى بديل عن إصلاح الداخل قد يعمّق منطق “الإدارة المؤقتة” ويُفرّغ المرحلة الانتقالية من مضمونها التأسيسي.وفق ما تُشير إليه نظرية الوظيفية الجديدة، فإن الإدماج التدريجي للكيانات السياسية في النظام الدولي لا يحدث دفعة واحدة، إنما يمر عبر ما يُعرف بـ”الزحف الوظيفي”، أي توسيع الاعتراف عبر آليات فنية وإجرائية تؤسس لاحقاً لاعتراف سياسي ضمني. غير أن هذه الآلية تفترض وجود دولة قابلة للاندماج، أي تملك مؤسسات مستقرة وبنية شرعية مرنة، وفي الحالة السورية، يبدو أن الخارج يتصرف وفق منطق وظيفي، في حين لا تزال البنية الداخلية عاجزة عن مواكبة هذا النمط، ما يجعل من هذا الاعتراف المؤقت حملاً زائداً على بنية السلطة التي تدور في فلك الفراغ.
رفع العقوبات لا يساوي تلقائياً بداية التعافي، إذ يتطلب استثمار هذه اللحظة بنية مؤسساتية وطنية قادرة على تحويل الفرص إلى سياسات، وفي غياب البيئة القانونية والمؤسساتية المناسبة، تبقى كل نافذة خارجية مجرّد تهدئة ظرفية، لا تنتج نمواً حقيقياً ولا استقراراً سياسياً.
من أبرز التحديات المعلقة؛ يبرز ملف المقاتلين الأجانب، والذين لا يزال وجودهم يثير مخاوف محلية مجتمعية وإقليمية. تجاهل هذا الملف لا يعني اختفاءه، وإنما ترحيله إلى مرحلة أخرى قد تكون أكثر تكلفة، والسلطة الانتقالية إن أرادت فعلاً أن تنال ثقة المجتمعات المحلية والدول الإقليمية، فإنها تحتاج إلى توضيح موقفها من هذا الملف، ليس فقط بوصفه معضلة أمنية، وإنما كعقد أخلاقي يتعلق بطبيعة الحكم وشروط التمثيل.
الفرصة المتاحة التي قد تنتج من الانفتاح الدولي، تكمن في استثماره لبناء شرعية من الداخل، لا في الاكتفاء باجتذاب تمويلات مشروطة، ولكن لا شرعية بدون عقد جديد تشارك في صياغته القوى المدنية، والمكونات المحلية. هذا العقد يولد من تفاهم سوري–سوري يحدد شكل الدولة، ومهام السلطة، وحدود المركز، وآليات الانتقال السلمي للسلطة.
واحدة من أثمان رفع العقوبات دون تحول داخلي حقيقي، هي تكريس الفراغ السياسي داخل البلاد، فغياب الحياة الحزبية واستمرار المشهد السياسي في صورته الرمزية، يمنع تشكّل عقد اجتماعي متين ويحول دون إنتاج سلطة تمثيلية حقيقية، فالدولة بحاجة إلى بنية سياسية حيّة تُفرز نخباً جديدة، وتعكس التعدديات القائمة في المجتمع.
في المحصلة، لا يُقاس الثمن السوري لرفع العقوبات بحجم الأموال التي ستُضخ، وإنما بكيفية استثمار هذه اللحظة لإعادة بناء الدولة. الفرصة قائمة، لكنها هشّة، والرهان سيكون على إرادة الداخل في أن لا يُهدر مرة أخرى ما كان يمكن أن يكون بداية حقيقية لـ “سوريا الجديدة”.
+963
————————
200 مليار دولار استثمارات سعودية محتملة في إعادة إعمار سورية/ نور ملحم
31 مايو 2025
تشهد العلاقات التجارية بين السعودية وسورية مرحلة جديدة من الانفتاح، مع تزايد الحديث عن فرص استثمارية واعدة قد تعيد ترتيب المشهد الاقتصادي بين البلدين، وبينما تستعد الرياض لضخ استثمارات ضخمة في السوق السورية، تشير التقارير إلى أن دمشق تسعى لتعزيز التبادل التجاري والاستفادة من التكامل الاقتصادي الإقليمي، خاصة في ظل التقديرات التي تشير إلى الحاجة إلى 700 مليار دولار لإعادة الإعمار. وتأتي هذه التطورات بالتزامن مع زيارة رسمية يجريها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى دمشق اليوم، على رأس وفد اقتصادي رفيع المستوى، يضم كبار المسؤولين في القطاعات المالية والاستثمارية، بهدف بحث فرص التعاون الاقتصادي بين البلدين، ودعم جهود إعادة الإعمار في سورية.
السعودية تتصدر المشهد
كشف الخبير الاقتصادي أيمن جمعة عن تطورات جديدة في العلاقات الاقتصادية بين السعودية وسورية، مشيراً إلى أن دمشق كانت وجهة واعدة للاستثمارات السعودية قبل عام 2011، نظراً لموقعها الاستراتيجي، وتوافر الأيدي العاملة بأسعار تنافسية، فضلاً عن قربها من الأسواق العالمية. وأكد جمعة في حديث خاص لـ “العربي الجديد” أن السعودية تستعد لضخ استثمارات ضخمة في سورية قد تصل إلى 100 مليار دولار، وذلك ضمن رؤية ولي العهد محمد بن سلمان، التي تهدف إلى تعزيز التكامل الاقتصادي بين سورية والأردن، وربط المنطقة بالبحر الأبيض المتوسط عبر محور استراتيجي يسهم في تأمين خطوط ترانزيت تربط المملكة بالعالم.
وفيما يتعلق بمستقبل الاستثمارات الخليجية في سورية، أوضح أن السعودية تتصدر المشهد الاستثماري نظرًا للعلاقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي تجمعها بسورية، ما يمنحها الأفضلية في مشاريع إعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية التي تضررت خلال سنوات الحرب. وأضاف أن حجم الاستثمارات المحتمل في سورية قد يصل إلى 200 مليار دولار، مع استحواذ السعودية على الحصة الأكبر، كونها الدولة التي قادت جهود رفع العقوبات عن سورية، ما يعزز الروابط الاقتصادية بين البلدين، ويضع دمشق تحت مظلة الاستثمارات السعودية، وفق تعبيره. وأشار جمعة إلى أن هناك رغبة واضحة لدى قطاع الأعمال السوري في دخول السوق السعودية، والاستثمار بمختلف القطاعات الاقتصادية، مما يستدعي تكثيف زيارات الوفود التجارية، وعقد المنتديات الاقتصادية لضمان شراكة مستدامة بين الطرفين.
سورية توقع مذكرة تفاهم كبرى مع شركات دولية في مجال الطاقة بحضور الرئيس أحمد الشرع، دمشق، 29 مايو 2025 (العربي الجديد)
التبادل التجاري بين الرياض ودمشق
شهدت العلاقات التجارية بين السعودية وسورية تراجعًا ملحوظًا خلال السنوات الماضية، حيث انخفضت المبادلات التجارية مع المملكة والإمارات بنسبة 80% بين عامي 2010 و2020، وفقًا لبيانات رسمية. ففي عام 2010، بلغت قيمة التجارة بين سورية من جهة والسعودية من جهة أخرى نحو 1.724 مليار دولار، في حين لم تتجاوز 675 مليون دولار عام 2020. وبحسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية السورية والتي حصل عليها “العربي الجديد”، كانت السعودية من بين أهم 20 دولة استوردت منتجات سورية في عام 2019، حيث تجاوزت قيمة المستوردات السورية إلى 13 دولة عربية نحو 344.8 مليون يورو، مع تصدر السعودية للقائمة بواقع 74.5 مليون يورو، وهو ما يمثل زيادة قدرها 19 مليون يورو مقارنة بعام 2018، وذلك إثر إعادة تشغيل معبر نصيب الحدودي بين سورية والأردن، ما سهّل حركة السلع الزراعية والصناعية إلى الأسواق الخليجية.
وفي عام 2020، بلغت قيمة الصادرات السورية إلى السعودية نحو 140 مليار ليرة سورية، مقابل مستوردات بلغت 370 مليون ليرة سورية. ومع تحسن الظروف الاقتصادية في عام 2024، ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 320 مليون دولار، بفائض تجاري لصالح سورية بلغ 36 مليون دولار. وبلغت الصادرات السعودية إلى سورية 1.206 تريليون ليرة سورية، حيث تصدرت اللدائن ومصنوعاتها القائمة بنحو 865.006 مليار ليرة، تلتها منتجات البن والشاي والبهارات بـ 148.989 مليار ليرة، ثم الخزف بـ 75.535 مليار ليرة، والفواكه بـ 60.541 مليار ليرة، ثم المنتجات الكيماوية غير العضوية بـ 30.150 مليار ليرة.
أما الصادرات السورية إلى السعودية، فجاءت محضرات الفواكه والخضار في الصدارة بقيمة 415.108 مليار ليرة، تلتها الفواكه بـ 284.920 مليار ليرة، ثم الشحوم والزيوت الحيوانية أو النباتية بـ 241.200 مليار ليرة، والبن والشاي والبهارات بـ 197.784 مليار ليرة، فيما بلغت صادرات الألبان والبيض ومنتجات حيوانية للأكل نحو 76.038 مليار ليرة.
فرص وتحديات
وبحسب هيئة الاستثمار السورية، لا تزال السعودية تحتل مرتبة متقدمة في الاستثمارات العربية داخل سورية، وتشمل قطاعات متعددة مثل البناء، الصحة، الصناعات الكيميائية والطبية، الغذاء، الزراعة والنقل. وبلغ حجم الاستثمارات السعودية في سورية قبل عام 2011 نحو 2.8 مليار دولار، وكان من أبرز الشركات المستثمرة مجموعة بن لادن، المهيدب، والنويصر، إضافة إلى مشاريع مشتركة بين الحكومتين، أبرزها الشركة السعودية-السورية للاستثمار التي ركزت على الصناعات الغذائية، التحويلية، والمفروشات.
إلا أن هذه الاستثمارات واجهت تحديات كبيرة بعد 2011، مما أدى إلى تراجع النشاط الاستثماري بشكل ملحوظ، وتوقف العديد من المشاريع أو تباطؤ تنفيذها، في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد. ومع تحسن الأوضاع مؤخرًا، تشير التوقعات إلى إمكانية استئناف التدفق الاستثماري السعودي، خاصة في مشاريع إعادة الإعمار، في إطار رؤية اقتصادية جديدة قد تعيد ترتيب المشهد التجاري بين الرياض ودمشق.
بوابة إعادة الإعمار
بدوره، بدوره أكد الخبير الاقتصادي الدكتور إيهاب اسمندر أن السعودية يمكن أن تكون بوابة رئيسية لعودة الإدارة السورية الجديدة إلى المشهد العربي والدولي، مشددًا على أن المستثمرين السعوديين يمتلكون فرصًا واعدة في قطاع النفط والغاز السوري، الذي يعتبر أحد أكثر القطاعات تضررًا بفعل الحرب، حيث تعرض 90% من بنيته للتعطيل، مع انسحاب الشركات الأجنبية المشغلة له. وأشار اسمندر في حديث خاص لـ ” العربي الجديد” إلى أن حجم الدمار الواسع الذي شهدته سورية يجعل جميع القطاعات الاقتصادية، من الصناعة والزراعة والخدمات إلى النقل والسياحة، بحاجة ماسة إلى استثمارات ضخمة، معتبرًا أن التكلفة التقديرية لإعادة إعمار البلاد تصل إلى 700 مليار دولار، ما يفتح المجال أمام المستثمرين للدخول بقوة في مشاريع إعادة بناء الاقتصاد السوري.
وفي سياق العلاقات الاقتصادية بين البلدين، شدد اسمندر على أهمية تعزيز التبادل التجاري بين سورية والسعودية، معتبرًا أن توسيع حركة التجارة سيسهم في إعادة تنشيط الاقتصاد السوري، وخلق فرص استثمارية جديدة للشركات والمستثمرين الخليجيين. وأضاف أن زيادة الصادرات السورية إلى المملكة، لا سيما في القطاعات الزراعية والصناعية، ستساعد في تنويع مصادر الدخل وتحقيق انتعاش اقتصادي، مشيرًا إلى أن المملكة العربية السعودية تمثل بوابة رئيسية للأسواق الإقليمية، ما يجعلها شريكًا اقتصاديًا استراتيجيًا لسورية خلال المرحلة المقبلة.
وأوضح أن الأسواق الخارجة من الحروب غالبًا ما تمثل فرصة ذهبية للمستثمرين، حيث تكون المنافسة في مراحلها الأولى منخفضة، ما يمنح المستثمرين الأوائل إمكانية تحقيق مكاسب كبيرة، داعيًا رجال الأعمال إلى اغتنام الفرصة والمساهمة في إعادة إعمار سورية، حتى تستعيد مكانتها الاقتصادية في المنطقة والعالم.
العربي الجديد
————————
هل ما زالت إسرائيل تنظر إلى رفع العقوبات عن سوريا كتهديد؟/ محمود سمير الرنتيسي
2025.06.05
اعتبر كثيرون في دولة الاحتلال الإسرائيلي قرار الرئيس ترامب رفع جميع العقوبات الأميركية عن سوريا، خلال حديثه في منتدى الاستثمار السعودي–الأميركي في أثناء جولته الخليجية الأخيرة، اعترافًا صريحًا بالوضع الجديد في سوريا، حيث أرفق ذلك بتأكيده أن إدارته قد اتخذت الخطوات الأولى لتطبيع العلاقات مع دمشق. وتُعدّ هذه التطورات، بالنسبة لصنّاع القرار في دولة الاحتلال، أمرًا يضع تحديات خطيرة على إسرائيل على المدى القصير والطويل.
وذكرت بعض التقارير الإعلامية أن حتى بعض أعضاء إدارة ترامب تفاجت بإعلانه رفض العقوبات، إذ لم تصدر سابقًا مذكرات أو توجيهات للتحضير لرفع العقوبات عن سوريا. وسارع كبار المسؤولين في وزارتي الخارجية والخزانة إلى النظر في كيفية تنفيذ هذا القرار. وفي الواقع، فإن رفع العقوبات، تاريخيًا، يُعد عملية معقدة نادرًا ما تتم بشكل مباشر وسريع، نظرًا لما تتطلبه من تنسيق بين مؤسسات ووزارات، بل وأحيانًا بين دول، خاصة حين يتعلق الأمر بأنظمة اقتصادية ومصرفية. ولعل هذا ما فاجأ دولة الاحتلال الإسرائيلي، كما فاجأ عددًا من مسؤولي الإدارة الأمريكية الداعمين لإسرائيل، والذين لم يكونوا راضين عن هذا القرار.
مع أن مبررات دولة الاحتلال الإسرائيلي السابقة لتأييد العقوبات على سوريا قد سقطت تباعًا، والتي كانت تتمثل في تعزيز المحور الإيراني ونقل الأسلحة إلى حزب الله عبر الأراضي السورية، إلا أن إسرائيل استمرت في معارضة رفع العقوبات، حتى بعد سقوط النظام وعدم بقاء أي وجود إيراني في سوريا. ففي عام 2023، طالبت دولة الاحتلال واشنطن بعدم رفع العقوبات عن النظام من دون ضمانات بانسحاب إيران من سوريا، أما اليوم، فلم يعد هذا الشرط مطروحًا، ولم يعد هناك نقل أسلحة، ومع ذلك لم يتغير موقفها.
في البداية، تعتبر إسرائيل أن قرار ترامب رفع العقوبات الأميركية عن سوريا يمهّد الطريق نحو الاستقرار، ما يقطع عليها القدرة على العبث بملف الأقليات في سوريا، خاصة أنها روّجت سابقًا لفكرة أن الحكم الجديد في سوريا يهدد الأقليات، وعلى رأسهم الدروز، وقدمت نفسها كحامٍ لهم في المنطقة. إلا أن سلوك الحكومة السورية في التعامل مع الدروز كمكون وطني، أولًا، ثم الرضا الدولي والإقليمي عن هذا النهج، أغلق الباب أمام الرواية الإسرائيلية المشوهة والساعية للتدخل في الشأن الداخلي السوري.
الأمر الآخر الذي تخشاه إسرائيل هو إمكانية تعرضها في المستقبل لضغوط في ملفات متعددة، ومنها ملف الجولان المحتل، إذ تخشى أن تعود الضغوط الأميركية بشأن التخلي عن الهضبة التي ضمتها في عام 1981، والتي اعترف ترامب في ولايته الأولى بسيادة إسرائيل عليها. وقد بذلت إسرائيل جهودًا كبيرة منذ عام 2011 لدفع واشنطن نحو هذا الاعتراف.
وتحاول إسرائيل حاليًا رفع عدد سكان المستوطنات في الجولان، بعد أن فشلت طوال العقود الماضية، وتحديدًا منذ عام 1982، في تجاوز عدد 25 ألف مستوطن. وقد أُعدّت مؤخرًا مجموعة من الخطط الهادفة إلى ذلك، وشُكّلت لجنة برلمانية من عدة أحزاب لتطوير المنطقة، ووضعت خططًا لتحفيز 10 آلاف مستوطن سنويًا على الانتقال إلى الجولان، مع وعود بتوفير بنية تحتية وفرص عمل واسعة.
لكن كما شهد العالم بأسره، فإن أحداث 7 أكتوبر 2023 أحدثت تغييرًا جذريًا في مفهوم الأمن لدى المستوطنين الإسرائيليين، الذين أصبحوا أقل اطمئنانًا للخطط الحكومية، وأكثر خوفًا من الاستيطان في المناطق الحدودية. وحتى الآن، لم يعودوا إلى الحدود مع لبنان أو غزة. بل إن بعض الجهات الإسرائيلية باتت تعتبر الاستيطان مجرد حزام أمني متقدم لحماية مدن العمق، ما يعني التضحية بهذا المكون في أي صراع محتمل مستقبلي، وهو ما يُضعف الحافز لدى المستوطنين للانتقال إلى المناطق الحدودية، مهما كانت الإغراءات.
وفي السياق ذاته، فإن الشيطنة والهجمات الإعلامية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية ضد الحكومة السورية الجديدة، والتعبئة السلبية المستمرة منذ سقوط نظام بشار الأسد، لا تؤدي إلا إلى تخويف المستوطنين من الاستقرار في الجولان.
لكن، من جهة أخرى، توجد مجموعات متطرفة جدًا في دولة الاحتلال، يمثلها كل من بن غفير وسموتريتش، وهي على استعداد تام لحث أنصارها على الانتقال إلى هذه المناطق، انطلاقًا من منطلقات أيديولوجية عدوانية وتوسعية تتجاوز حدود الجولان.
ومع ذلك، حتى بعض الليبراليين والمؤيدين لاتفاقيات أبراهام في إسرائيل يرون أن رفع العقوبات عن سوريا، وإن حمل سيناريو تطبيع محتمل، إلا أن هذا التطبيع من وجهة نظرهم سيأتي بكلفة كبيرة، ليس أقلها النقاش حول سيادة إسرائيل على الجولان.
على أي حال، ينظر هؤلاء جميعًا إلى استقرار سوريا كتحدٍ وتهديد، كما ينظرون إلى فوضى سوريا أيضًا كتحدٍ وتهديد. وبما أن سوريا اليوم أقرب إلى الاستقرار، بسواعد أبنائها وبرؤية جديدة تسعى للخلاص من الظلم وتتطلع إلى آفاق الحرية والبناء والعدالة، فإن هذه العوامل مجتمعة تُعدّ تهديدًا في نظر إسرائيل، التي ترى الجولان أرضًا أبدية لها وتتطلع إلى ما هو أكثر من ذلك.
وربما قدّم بيان البيت الأبيض بعض الشروط المعلنة لتخفيف العقوبات، من بينها التوقيع على اتفاقية أبراهام للتطبيع مع إسرائيل، وترحيل عناصر من الحركات الفلسطينية المسلحة، في مقابل تأكيد الرئيس السوري على التزامه باتفاقية فك الاشتباك مع إسرائيل الموقعة عام 1974، مع مرونة سياسية تسمح بعملية تعافٍ اقتصادي.
وفي كل الأحوال، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية لم تقم يومًا على الترحيب بسوريا موحدة ومستقرة، بل كانت دائمًا قائمة على السعي لإبقائها مجزأة ومفككة، ولا توجد حتى اللحظة مؤشرات على تغيّر هذه العقلية الإسرائيلية تجاه سوريا.
تلفزيون سوريا
————————
تركيا وليس إسرائيل.. تحوّل استراتيجي في مقاربة واشنطن للملف السوري/ علي أسمر
2025.06.05
تشير المعطيات السياسية الأخيرة إلى أن الإدارة الأميركية الجديدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، بصدد إعادة رسم أولوياتها في الملف السوري، مع ميلٍ واضح نحو تعزيز دور تركيا كفاعل رئيسي في مستقبل سوريا الجديدة، على حساب الدور الإسرائيلي التقليدي، الذي ظل متقدماً لسنوات في هذا الملف من زاوية أمنية بحتة.
ويُعزز هذا التوجّه القرار الأميركي بتعيين السفير لدى أنقرة، توم باراك، مبعوثًا خاصًا إلى سوريا، في مؤشر واضح على اعتماد واشنطن على أنقرة في صياغة معادلة الاستقرار في سوريا ما بعد سقوط النظام السابق.
تحول محسوب في هندسة التوازنات
لم تعد سوريا، بعد سقوط النظام السابق وتشكيل الحكومة السورية الجديدة، ساحة صراع مفتوحة كما في السابق، بل بات الملف السوري اليوم في مرحلة جديدة تتطلب ترتيب أولويات واضحة وبناء شراكات فاعلة لإعادة بناء الدولة السورية.
في هذا السياق، ترى الإدارة الأميركية أن تركيا، بحكم موقعها الجغرافي وارتباطها الوثيق بالمجتمع السوري، وبقدرتها على التأثير داخل الأراضي السورية، هي الشريك الإقليمي الأكثر قدرة على لعب هذا الدور، في مقابل تراجع الدور الإسرائيلي الذي ظل لفترة طويلة يركّز على البُعد الأمني.
ومن هنا جاء اختيار واشنطن لأنقرة كشريك رئيسي في هذه المرحلة الدقيقة، وهو اختيار مدفوع بحسابات استراتيجية تتجاوز المصالح الآنية إلى رؤية بعيدة المدى لسوريا الجديدة.
من وجود طارئ إلى حضور استراتيجي
من المهم فهم التحوّل في المقاربة التركية نفسها تجاه الملف السوري. ففي بدايات التدخل التركي، كان الوجود العسكري في سوريا مدفوعًا بدوافع طارئة تتعلق بحماية الحدود، ومنع تمدد الميليشيات الانفصالية، ودرء تهديدات أمنية مباشرة.
لكن مع التطورات الأخيرة وسقوط النظام السابق، بات صانع القرار التركي ينظر إلى هذا الوجود بعين استراتيجية أوسع. هناك توجه تركي واضح اليوم لتحويل هذا الوجود العسكري إلى حضور طويل الأمد، يقوم على تأسيس قواعد عسكرية دائمة في مواقع مختارة، ليس لغرض الهيمنة، بل لضمان الاستقرار ومنع عودة الفوضى.
أنقرة تدرك أن استقرار سوريا لا يخدم فقط المصالح التركية، بل يُشكّل أيضًا عنصر توازن في وجه محاولات بعض الأطراف، وعلى رأسها إسرائيل، لإبقاء سوريا ساحة مفتوحة للتجاذبات الأمنية.
ضغط متزايد على “قسد”
وفي خطوة متكاملة مع هذا التوجّه، كشفت مصادر دبلوماسية مطّلعة أن واشنطن أبلغت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بما وُصف بأنه “مهلة أخيرة” للانضمام إلى “الجيش السوري الوطني”، في إطار مسار إعادة بناء مؤسسات الدولة.
تعكس هذه الخطوة رغبة أميركية واضحة في إنهاء حالة الانقسام العسكري، وإعادة توحيد البنية الأمنية والعسكرية لسوريا الجديدة، بما يحول دون استمرار الكيانات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة.
وتتماهى هذه الرؤية مع الموقف التركي، الذي طالما دعا إلى إنهاء مظاهر التفلت المسلح في شمالي وشرقي سوريا، ودمج القوى المحلية في الجيش الوطني السوري الموحّد.
تباين متزايد مع إسرائيل
في المقابل، بدأت ملامح تباين متزايد بين واشنطن وتل أبيب في مقاربة الملف السوري تظهر بشكل جليّ. فعلى الرغم من استمرار الدعم الأميركي العام لأمن إسرائيل، فإن المقاربة الأميركية الجديدة باتت تُعطي الأولوية لبناء شراكة استراتيجية مع تركيا في سوريا.
ويعود ذلك إلى إدراك الإدارة الأميركية أن إسرائيل، رغم تفوقها العسكري، لم تُقدّم حتى اليوم تصورًا متكاملاً لبناء سوريا الجديدة، واقتصرت تحركاتها على منع التموضع الإيراني، من دون الانخراط في مشروع سياسي فعّال يُسهم في استقرار البلاد.
أما تركيا، فقد أثبتت امتلاكها أدوات التأثير السياسي والمجتمعي القادرة على الدفع نحو حلّ مستدام، وهو ما جعلها تحظى بثقة واشنطن في هذه المرحلة المفصلية.
سوريا الجديدة: مشروع بناء دولة لا مناطق نفوذ
الملف السوري، وفق الرؤية الأميركية الحالية، لم يعد مجرّد ملف “إدارة مناطق نفوذ”، بل أصبح مشروع “بناء دولة”. ومن هنا جاء الضغط على “قسد” للالتحاق بمؤسسات الدولة، إلى جانب التشجيع الأميركي على تمكين الحكومة السورية الجديدة من بسط سلطتها على كامل الأراضي السورية.
وفي هذا السياق، يبرز الدور التركي كعامل دعم رئيسي لهذا المسار، سواء من خلال التنسيق مع المعارضة السورية لإعادة إدماجها في الدولة، أو من خلال ضبط الحدود وتأمين الاستقرار في المناطق الشمالية، إلى جانب إنشاء قواعد عسكرية تركية مدروسة تهدف إلى دعم جهود الاستقرار الإقليمي.
هذه القواعد لا تُوجَّه ضد طرف بعينه، لكنها تعبّر عن توجه تركي واضح لخلق بيئة آمنة، تمنع الانفلات الأمني، وتضع حدودًا لأي محاولات لإجهاض مسار إعادة بناء الدولة، بما في ذلك المحاولات الإسرائيلية لإبقاء سوريا مسرحًا للفوضى المستمرة.
مرحلة جديدة في المقاربة الدولية
يمكن القول إننا أمام مرحلة جديدة بالكامل في مقاربة المجتمع الدولي للملف السوري. وفي هذه المرحلة، برزت تركيا كلاعب رئيسي موثوق به من قِبل واشنطن، في حين بدأ الدور الإسرائيلي يفقد بريقه تدريجيًا.
وفي ظل “المهلة الأخيرة” التي وضعتها واشنطن لـ”قسد”، والتوجه التركي نحو تحويل وجوده إلى شراكة استراتيجية تسهم في استقرار سوريا، يبدو أن الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة في تحديد شكل سوريا القادمة.
——————————–
التحول السوري الهش يحمل ملامح شرق أوسط مستقر ولكن بدعم أمريكا والغرب
إبراهيم درويش
نشر موقع مركز المجلس الأطلسي في واشنطن تحليلاً لتشارلس ليستر، رئيس المبادرة السورية في معهد الشرق الأوسط، قال فيه إن التحول السوري الهش يحمل بصيص أمل نحو شرق أوسط أكثر استقراراً.
وأوضح ليستر أن سوريا، وعلى مدى ما يقرب من نصف قرن، كانت جرحاً مفتوحاً في قلب الشرق الأوسط، ومصدراً دائماً لعدم الاستقرار، تغذي الصراعات وتقمع شعبها بوحشية. وزادت الحرب الأهلية، التي استمرت قرابة أربعة عشر عاماً، من تداعيات عدم الاستقرار على الدول المجاورة والعالم بأسره. وقد جسدت المقولة الشهيرة: “ما يحدث في سوريا لا يبقى في سوريا” واقع الحال خلال العقد الماضي، في ظل أزمة بدت عصية على الحل.
إلا أن كل ذلك تغيّر في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، عندما فرّ بشار الأسد من قصره في دمشق متوجهاً على نحو مفاجئ إلى منفاه في روسيا. وفي هجوم مفاجئ وسريع، تمكن تحالف من جماعات المعارضة المسلحة من الإطاحة بالنظام، الذي انهار كبيت من ورق خلال عشرة أيام فقط. وهكذا، أُتيحت للمجتمع الدولي فرصة تاريخية واستراتيجية لإعادة تشكيل قلب الشرق الأوسط، ليغدو أكثر استقراراً وتكاملاً وبناءً.
وأشار ليستر إلى أن المرحلة الانتقالية في سوريا لا تزال هشة للغاية، وتواجه تحديات جسيمة، وتمثل في الوقت ذاته معضلة حقيقية للمجتمع الدولي. فمنذ اللحظة الأولى، قادت عملية التحول هيئة تحرير الشام، التي كانت في السابق فرعاً لتنظيم القاعدة، ونشأت من رحم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، ما أثار مخاوف حول التعامل مع السلطات الانتقالية.
لكن هيئة تحرير الشام اليوم تختلف تماماً عما كانت عليه قبل عقد من الزمن. فمنذ انفصالها عن تنظيم الدولة عام 2013، أعلنت فك ارتباطها الرسمي بالقاعدة في 2016، وسمحت بدخول آلاف من القوات التركية (العضو في حلف الناتو)، ووافقت على اتفاق وقف إطلاق نار رعته تركيا وروسيا. كما أنشأت “حكومة إنقاذ وطني” في شمال غرب سوريا، وقدمت خدمات أفضل مما هو متاح في بقية مناطق البلاد. وشنّت حملة ضد عناصر القاعدة وتنظيم الدولة، وبدأت اتصالات مع المجتمع الدولي، وإن كانت من خلف الأبواب المغلقة.
شهدت أيديولوجية الهيئة تحوّلاً جذرياً منذ انفصالها عن القاعدة، مبتعدةً عن خطاب “الجهاد العالمي” بل ومناهِضة له، ومتبنيةً شعار “الثورة الشعبية ضد نظام الأسد”. هذا التحول هو ما دفع معظم الدول إلى التواصل مع الحكومة الجديدة بقيادة الهيئة والرئيس أحمد الشرع، بناءً على قناعة بأن الانخراط والتفاعل أكثر فاعلية من العزل في توجيه نتائج مرحلة انتقالية هشة.
في هذا السياق، خفف الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وسويسرا العديد من العقوبات الاقتصادية، على أمل تحفيز إعادة الإعمار. أما إدارة بايدن المنتهية ولايتها، فقد أصدرت في كانون الثاني/يناير 2025 “ترخيصاً عاماً” مؤقتاً لمدة ستة أشهر، رفعت فيه بعض القيود، لكنه لم يُحدث تأثيراً ملموساً في تسهيل التعاملات مع المؤسسات الحاكمة في سوريا.
ومع ذلك، يبقى الوضع الاقتصادي كارثياً: يعيش 90% من السوريين تحت خط الفقر، ويعتمد 70% منهم على المساعدات، فيما فقدت الليرة السورية 99% من قيمتها، ودُمرت نصف البنية التحتية، وانخفضت إمدادات الوقود إلى شبه الصفر. وعليه، فإن تجاوز هذه الظروف شبه مستحيل من دون رفع العقوبات، حتى ولو جزئياً.
تستعد دول مثل السعودية وتركيا وقطر لتقديم دعم مالي واستثماري في مجالات النفط والكهرباء، لكنها عاجزة عن ذلك في ظل القيود الأمريكية. ويرى ليستر أن الاستفادة من اللحظة التاريخية التي شهدت سقوط الأسد، تتطلب التخلّي عن السياسات قصيرة الأمد، وتبنّي رؤية طويلة المدى تركز على الاستقرار السوري والإقليمي.
فبينما انحصرت السلطة الانتقالية في 8 كانون الأول/ديسمبر في يد هيئة تحرير الشام، تغير المشهد بعد ثلاثة أشهر، حيث عُقد حوار وطني ومؤتمر تأسيسي شُكلت على إثره لجان لصياغة إعلان دستوري، وأُعلنت حكومة انتقالية موسّعة. لم تضم الحكومة سوى أربعة وزراء من الهيئة من أصل 23، فيما كان أكثر من نصف الوزراء من ذوي التعليم العالي والخبرة المهنية في أوروبا والولايات المتحدة، في خطوة نحو حكومة تكنوقراطية حقيقية.
لكن رغم هذا التقدّم، لا تزال التوترات الاجتماعية والطائفية والسياسية قائمة، وقد ظهرت في تصاعد العنف خلال يومي 7 و8 آذار/مارس 2025، وإن لم يدم طويلاً. وشُكلت لجنة تحقيق حكومية لتحديد المسؤولين عن أعمال العنف. كما بقيت تحديات نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، والمقاتلين الأجانب، وتنظيم الدولة، والمقاومة المسلحة العلوية قائمة. ومع ذلك، يبقى هذا التحول الهش أفضل أمل لتحقيق استقرار تدريجي.
ويواجه الغرب خيارين: إما دعم العملية الانتقالية في سوريا بشروط واضحة على أمل تعزيز الاستقرار والتوسع في التمثيل، أو الانسحاب ومخاطرة بعودة الفوضى. لا يخلو أي من الخيارين من المخاطر، لكن الانخراط يقدم فرصة حقيقية لتجنّب الأسوأ.
يرى الكاتب أن إعلان الرئيس دونالد ترامب، خلال زيارته إلى السعودية في أيار/مايو 2025، عن رفع جميع العقوبات عن سوريا، يشير إلى عودة الاستراتيجيا إلى صدارة السياسة الأمريكية. وأكد وزير الخارجية ماركو روبيو أمام الكونغرس لاحقاً أن الفشل في رفع العقوبات سيعيد سوريا إلى دوامة الحرب الأهلية. ويكمن العامل الحاسم الآن في مدى سرعة إصدار الإعفاءات التنفيذية التي ترفع فعلياً القيود الاقتصادية.
وقد أعطى قرار الاتحاد الأوروبي في 20 أيار/مايو برفع كل العقوبات دفعة قوية لهذا المسار. وإذا عاد الدبلوماسيون الأمريكيون إلى دمشق، قد تبدأ سوريا فعلاً بالتعافي.
في الأثناء، واصلت القيادة المركزية الأمريكية دورها في تسهيل المفاوضات بين قوات سوريا الديمقراطية ودمشق، وضغطت لإبرام اتفاق في آذار/مارس. كما جرت منذ منتصف كانون الأول/ديسمبر 2024 لقاءات بين القيادة المركزية والرئيس الشرع، إضافة إلى تنسيق أمني مع وزارتي الداخلية والدفاع لمكافحة تنظيم الدولة.
ومنذ كانون الثاني/يناير 2025، أحبطت الحكومة الانتقالية ثماني محاولات لتنظيم الدولة، وتعاونت مع الضربات الأمريكية بالطائرات المسيّرة التي استهدفت قيادات للقاعدة في شمال غرب سوريا.
في ظل اتجاه الولايات المتحدة لتقليص وجودها العسكري في الشرق الأوسط، وانشغال الناتو بالمخاوف الأوروبية، تبدو فرصة تحقيق استقرار في إحدى أكثر ساحات الصراع اضطراباً في التاريخ الحديث أمراً بديهياً. وعلى الرغم من حجم المخاطر، فإن الأولوية يجب أن تكون لتشكيل حكومة مركزية مستقرة، مندمجة في محيطها الإقليمي، وقادرة على حل أزماتها بشكل جماعي.
هذا هو الخيار الوحيد الواقعي المطروح. وهو الطريق الذي بدأت تسلكه أوروبا ودول المنطقة، ويجب على الولايات المتحدة أن تلتحق به. فإذا ما التزمت إدارة ترامب بهذا المسار، فإن احتمالات استقرار سوريا سترتفع بشكل كبير.
——————————
بقرار من ترامب.. السماح بدخول السوريين إلى الولايات المتحدة
الخميس 2025/06/05
شطب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، سوريا من قائمة الدول المحظور السفر منها إلى الولايات المتحدة لمخاطر تتعلق بالأمن القومي الأميركي.
حظر 12 دولة
ونقلت شبكة “سي إن إن” عن مصدرين، تأكيدهما أن ترامب وقّع إعلان حظر سفر عدد من الدول إلى الولايات المتحدة، بسبب وجود “مخاطر أمنية”.
وقال بيان صادر عن البيت الأبيض، إن القرار يشمل حظر الدخول الكامل على مواطني، أفغانستان، بورما، تشاد، الكونغو، غينيا الاستوائية، إريتريا، هايتي، إيران، ليبيا، الصومال، السودان واليمن.
وأضاف البيان، أن القرار يتضمن حظر الدخول الجزئي لمواطني 7 دول أخرى هي، بوروندي، كوبا، لاوس، سيراليون، توغو، تركمانستان وفنزويلا، موضحاً أن القرار سيدخل حيز التطبيق في 9 حزيران/يونيو.
قيود شاملة
ولم تتضمن القائمة المُعلن عنها حظر دخول مواطني سوريا، وذلك عكس ما كانت عليه التوقعات في السابق، بحسب مذكرة داخلية اطلعت عليها “رويترز”، في آذار/مارس الماضي.
وبحسب الوثيقة، فإن إدارة ترامب كانت تدرس فرض قيود سفر شاملة على مواطني سوريا، إلى جانب عشرات الدول الأخرى.
وكان ترامب قد فرض حظر الدخول الشامل لمواطني سوريا إلى الولايات المتحدة، خلال ولايته السابقة، إلى جانب عدد من الدول المشمولة في القائمة الجديدة للبيت الأبيض.
وتُعد إجراءات ترامب الجديدة، جزءاً من حملته لمكافحة الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، والتي أطلقها خلال حملته الانتخابية، وكذلك خلال خطابه أثناء تسلّمه مقاليد البيت الأبيض رسمياً مطلع العام الحالي 2025.
كما يأتي إجراء ترامب الجديد في الجزء المتعلق بشطب سوريا من قائمة الدول المحظورة، ضمن النظرة المختلفة للرئيس الأميركي تجاه دمشق، والتي بدأها بقرار رفع العقوبات عن سوريا، ثم تعيين السفير توماس باراك، المقرب منه، كمبعوث خاص إلى سوريا.
———————————–
========================