سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

الرياض ـ أنقرة في سوريا الجديدة.. تنسيق لتثبيت الاستقرار أم مشروع شراكة إقليمية؟/ مالك الحافظ

 

2025.06.05

شكّل سقوط نظام بشار الأسد نهاية عام 2024، لحظة فاصلة في المشهد الجيوسياسي للمنطقة، أنهت مرحلة من الصراع والانقسامات الإقليمية، وفتحت الباب أمام سلسلة من التحولات، لم تكن لتتحقق لولا الانهيار المتزامن في بنية التحالف الثلاثي الذي كان يُمسك بخيوط المشهد، نظام الأسد، وحليفه الإيراني، والداعم الروسي المنكفئ في مشهدية الملف السوري خلال الفترة التي تلت سقوط الأسد.

خروج إيران الكامل من سوريا لم يُنهِ المخاوف منها؛ بل ربما أعاد صياغتها على شكل قلق من إمكانية العودة عبر أدوات ناعمة، أما تراجع موسكو، فخلق فراغاً في التوازنات الكبرى، استدعى تدخلات مركبة إقليمية ودولية لملئه، في مقدمتها التنسيق السعودي–التركي الجديد.

تنظر الرياض إلى لحظة ما بعد نظام الأسد بوصفها فرصة لإعادة تشكيل الهوية السياسية لسوريا، من خلال ضمان حضور عربي سيادي داخل البنية الانتقالية، ما يجعلها أكثر حساسية لأي محاولات اختراق خارجي، حتى وإن كانت تحت عناوين غير أمنية.

في المقابل، تتعامل أنقرة مع المشهد كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة تعريف دورها في المشرق العربي، بعد سنوات من التوتر، محاولةً الانتقال من لاعب ميداني إلى شريك سياسي في الهندسة الإقليمية، بما يرسّخ وزنها من دون استفزاز الجوار العربي.

الرياض وأنقرة.. رؤية مختلفة وأهداف مشتركة؟

مع دخول سوريا مرحلة السلطة الانتقالية، وجدت الرياض وأنقرة نفسيهما أمام فرصة نادرة لتثبيت توازنات جديدة في سوريا، تراعي كل من تثبيت الاستقرار ومنع الفوضى، وحماية المجال العربي من أي عودة إيرانية ناعمة، وضبط الإيقاع الإسرائيلي داخل الملف السوري، دون التصعيد.

وقد يعكس هذا التقارب شكلاً من أشكال التحكم في مخرجات الفراغ الجيوسياسي، وهي حالة تحدث عندما تسقط سلطة مركزية من دون وجود بنية بديلة واضحة، فتسعى القوى الإقليمية الكبرى إلى ملء هذا الفراغ بآليات “ضبط مُدار” وليس عبر الهيمنة المباشرة.

في حين تختلف دوافع الطرفين، فالسعودية تتحرك برؤية استراتيجية عربية تعتبر أن أمن سوريا الجديد جزء من أمن المشرق العربي، وتسعى إلى إعادة دمج سوريا ضمن الفضاء العربي على أسس سياسية جديدة، بدون أي هيمنة إقليمية غير عربية.

في حين تَعتَبر تركيا أنها قد نجحت في ضمان غياب مشروع أي كيان كردي مسلح على حدودها، وترى أن مرحلة ما بعد الأسد تتيح لها ضمان نفوذ سياسي–اقتصادي مشروع، وتوسيع دورها ضمن توازنات شرعية لا ترتكز على الفصائل بل على التفاهمات.

تشير دراسة حديثة أصدرها مركز كارنيغي، في شهر نيسان/أبريل الماضي إلى أن المملكة العربية السعودية باتت تنظر إلى سوريا بعد سقوط نظام الأسد بوصفها ساحة مركزية لحماية أمنها القومي. فمع تصاعد النفوذين التركي والإسرائيلي، وتبدّد الحضور الإيراني، وجدت الرياض نفسها أمام تحديات تتجاوز التوازنات الإقليمية التقليدية، ما دفعها إلى تعديل استراتيجيتها نحو سوريا بما يتجاوز الدعم الدبلوماسي أو المالي. وتحرص السعودية على منع تكرار سيناريوهات الهيمنة غير العربية، من خلال دعم قيادة سورية جديدة قادرة على توحيد البلاد ومأسسة السلطة، بما يعيد الاعتبار للهوية العربية السيادية لسوريا ويمنع تحويلها إلى ساحة تنازع إقليمي دائم.

في حين لا يمكن اختزال التنسيق السعودي–التركي في سوريا الجديدة على الملفات الأمنية أو السياسية فحسب، إنما يبدو أنه يمتد إلى سؤال الهوية السورية نفسها؛ ذلك السؤال الذي طالما ظلَّ رهينة لتجاذبات إيديولوجية وعسكرية وأمنية. في هذا السياق، لا تبدو مساعي البلدين محصورة في مجرد تثبيت توازنات إقليمية، إنما تتجه أيضاً إلى إعادة تشكيل سردية الدولة السورية الحديثة بوصفها كياناً مستقلاً، لا ذراعاً لتحالف إقليمي.

فالسعودية، من خلال دعمها لبنية سيادية جديدة، تسعى لإعادة إدماج سوريا ضمن الهوية العربية الجامعة، ولكن على أسس سياسية مدنية، تتجاوز منطق البعث القومي المؤدلج، وتقطع مع ماضٍ تم فيه اختزال “العروبة” في خطاب سلطوي إقصائي. في المقابل، تتعامل تركيا مع هذه المسألة بحذر، مدفوعة بهاجس الهوية الثقافية–الأمنية، وتعمل على الموازنة بين احتواء أي نزعة كردية مسلحة وضمان عدم إنتاج هوية سورية معادية لتركيا.

هذا الرهان على الهوية يمكن قراءته ضمن ما تسميه أدبيات ما بعد الصراع بـ”إعادة سرد الدولة”، أي أن الهوية الوطنية لا تُبنى فقط من خلال السيطرة على الجغرافيا، وإنما تبنى أيضاً من خلال إنتاج سردية جديدة تتجاوز الانقسامات الطائفية والقومية، وتُعيد تعريف معنى أن تكون سوريا ضمن المشهد الإقليمي من خلال الاستقلال السيادي التعددي.

العامل الاقتصادي.. محرك صامت خلف التنسيق السياسي؟

شهدت العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية التركية تطوراً استراتيجياً ملحوظاً منذ عام 2023، حيث برز البُعد الاقتصادي بوصفه أحد المحركات الأساسية لتعميق التفاهم بين البلدين في حقل المصالح المشتركة. وقد تجلّى هذا المسار بوضوح من خلال اجتماعات مجلس التنسيق السعودي التركي المشترك، الذي بات يشكّل منصة محورية لتعزيز الشراكة الثنائية على مختلف المستويات.

في هذا السياق، جاءت زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى العاصمة الرياض، ولقاؤه بنظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان منتصف شهر أيار/مايو الماضي، لتؤكد هذا التوجّه. وناقش الجانبان خلال الزيارة سبل توسيع التعاون بين البلدين في مجالات متعددة، إلى جانب تبادل وجهات النظر حيال تطورات الأوضاع في المنطقة، وفي مقدّمتها الملف السوري.

وشهدت المباحثات تأكيداً على أهمية تعزيز الانخراط الدولي مع الإدارة الجديدة في سوريا، في ضوء المستجدات السياسية التي تشهدها البلاد. كما عبّر الوزير فيدان عن تقدير بلاده للمواقف السعودية الداعمة لهذا الانخراط، مشدداً على أهمية التفاهم التركي السعودي في هذا السياق الإقليمي الحساس.

وتُستكمل هذه الدينامية عبر الخطوة المشتركة التي اتخذها الوزيران في إسطنبول، خلال زيارة وزير الخارجية السعودي لتركيا في تموز/يوليو 2024، حيث جرى توقيع بروتوكول معدل لمحضر إنشاء مجلس التنسيق السعودي التركي. ويهدف هذا البروتوكول إلى توسيع إطار التعاون الثنائي ودفع العلاقات نحو آفاق أكثر اتساعاً وشمولاً، بما يتناسب مع التحولات السياسية والاقتصادية التي تشهدها المنطقة.

يحتل البعد الاقتصادي حيّزاً محورياً في التقارب السعودي–التركي داخل الملف السوري، لا سيما في ظل التحولات الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد الإقليمي بعد الحرب، وعودة مشاريع الربط التجاري والطاقة إلى الواجهة. فالسعودية التي تقود رؤية طموحة للتحول الاقتصادي في إطار “رؤية 2030″، قد تسعى إلى توسيع ممرات التجارة عبر سوريا، بما يُسهم في فتح منفذ بري شمالي–غربي يصل الخليج بالبحر المتوسط.

أما تركيا، فترى في سوريا اليوم امتداداً لممر لوجستي يمكن من خلاله إحياء مشروع الربط البري–النفطي بين العراق وسوريا وتركيا، وهو ما قد يُشكّل بديلاً أكثر استقراراً عن مسارات الطاقة غير الآمنة في العراق أو الخليج.

هذا الجانب من التنسيق وإن لم يُعلن عنه بشكل رسمي، لكنه يمكن استقراؤه من خلال تصاعد اللقاءات الاقتصادية، ومحاولات الدفع بمشاريع إعادة الإعمار، كبوابة لإعادة إدماج سوريا في سلاسل الإنتاج والتجارة الإقليمية. كما يتقاطع هذا التوجه مع مفهوم “الجغرافيا الاقتصادية المدارة”، حيث لا تكون السيطرة على الأرض هدفاً عسكرياً بحتاً، وإنما كمنصة لإعادة ترتيب تدفقات الطاقة ورؤوس الأموال.

إن هذه الدينامية، في حال نضجت، قد تمثّل تحوّلاً جذرياً في استخدام الجغرافيا السورية، من ساحة للصراع، إلى عقدة اتصال اقتصادي إقليمي تعيد تموضعها في بنية الشرق الأوسط المتحول.

التقاطع الحاصل بين الرياض وأنقرة في الملف السوري يمكن أن يُقرأ كمؤشر على نضوج في سلوك الدولتين تجاه إدارة الفوضى الإقليمية، عبر تجاوز مرحلة المحاور الصلبة والدخول في شبكات توازن مرنة تسمح بتموضع متعدد المستويات داخل الملف السوري.

الجامع بين الطرفين هنا هو مبدأ “اللا غالب” و”اللا عودة” لأي مشروع إقليمي توسعي، وهذا يفسر مستوى الانفتاح غير المسبوق في آليات التنسيق بين الطرفين.

ويمثل هذا النمط من التعاون نموذجاً لما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ”التحالفات التكيفية”، وهي تلك التي لا تُبنى على وحدة الرؤية الاستراتيجية بل على مرونة أدوات التنفيذ والتقاء جزئي في الأهداف المرحلية.

كما يمكن تحليل سلوك الطرفين ضمن إطار نظرية الدور في العلاقات الدولية، حيث تعيد كل دولة صياغة “دورها الإقليمي المتوقع” بما يتناسب مع متغيرات البيئة الأمنية، ومستوى قبولها من الفواعل المختلفة.

وهنا تجدر الإشارة إلى تقرير تحليلي نشره موقع قناة “الجزيرة” مطلع كانون الثاني/يناير الماضي اعتبر أن العلاقات التركية–السعودية في الملف السوري دخلت مرحلة تنسيق متقدّمة بعد سقوط نظام الأسد، حيث بدأت الدولتان بالتحرك المشترك لملء الفراغ الإقليمي، مع اعتماد مقاربة غير صدامية تقوم على تقاسم الأدوار لا التنافس. وتُظهر المؤشرات أن الرياض وأنقرة تتعاونان في إعادة بناء البنية التحتية داخل سوريا، وتنفيذ مشاريع استراتيجية مثل الربط البري، وإعادة تشغيل خطوط النقل، في إطار رؤية أوسع لتثبيت الاستقرار، وموازنة النفوذ الإسرائيلي ومنع عودة المشاريع الإقليمية التوسعية. هذا التنسيق، وإن لم يُعلن عنه كتحالف رسمي، يعكس تحولاً في موازين القوى الإقليمية، تسعى فيه تركيا والسعودية إلى إعادة هندسة المشهد السوري وفق مصالحهما المشتركة.

إسرائيل بعد إيران.. كيف تنظر الرياض وأنقرة إلى التموضع الإسرائيلي الميداني في سوريا الجديدة؟

مع الانسحاب الكامل لإيران من سوريا عقب سقوط نظام الأسد، لم تنتهِ مصادر القلق الإقليمي، فقد دخلت إسرائيل إلى واجهة المعادلة بقوة أكبر، من خلال تكثيف غاراتها الجوية جنوب سوريا، وتوسيع تمركزها الميداني وتجاوزها مناطق اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، وهو ما بدا أنه محاولة واقعية لترسيخ منطقة عازلة على الحدود الشمالية لها، تُعيد إلى الأذهان تجربة جنوبي لبنان في الثمانينات.

هذه التحركات أعادت طرح سؤال أساسي لدى الفاعلين الإقليميين، لا سيما السعودية وتركيا؛ هل ما يجري هو مجرد فراغ تملؤه إسرائيل مرحليًا؟ أم مشروع جيوسياسي طويل الأمد؟

السعودية، المنخرطة بعمق في دعم مسار السلطة الانتقالية الجديدة، تنظر إلى هذا التموضع الإسرائيلي كمصدر تهديد بنيوي لفكرة السيادة السورية، حتى لو لم يكن التهديد عسكرياً مباشراً.

وتعتقد الرياض أن تثبيت أي شكل من أشكال النفوذ الإسرائيلي في الجنوب سيخلق سابقة تُغري فاعلين آخرين بتقليد النموذج ذاته، سواء على أسس عرقية أو طائفية أو أمنية، ما يُضعف بنية الدولة الانتقالية في مهدها.

لكن في الوقت نفسه، لا تتجه الرياض نحو المواجهة أو التصعيد، بل تعتمد على أدوات الضغط السياسي والدبلوماسي، وتسعى لإعادة بناء مؤسسة أمنية سورية جديدة قادرة على الإمساك بالجنوب بغطاء دولي، من دون أن تتحوّل سوريا إلى ساحة مواجهة مع إسرائيل في هذه المرحلة الحساسة.

وفي مطلع شهر نيسان/أبريل الماضي أعربت وزارة الخارجية السعودية عن إدانة المملكة واستنكارها الشديدين استمرار الغارات الإسرائيلية، التي تستهدف مناطق مختلفة في سوريا.

وجددت المملكة آنذاك رفضها القاطع لمحاولات سلطات الاحتلال الإسرائيلية تهديد أمن واستقرار سوريا والمنطقة من خلال انتهاكاتها للقوانين الدولية، كما شددت على ضرورة اضطلاع المجتمع الدولي وخاصةً الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بدورهم، والوقوف بشكل جاد وحازم أمام هذه الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في سوريا والمنطقة، وتفعيل آليات المحاسبة الدولية عليها.

هذه الرؤية يمكن فهمها ضمن إطار نظرية توازن القوى الإقليمي، حيث لا تسعى السعودية إلى تفوق عربي صِرف، بل إلى احتواء النفوذ غير العربي عبر أدوات ناعمة ومتعددة المستويات، بما يرسّخ السيادة دون تفجير التوازنات.

تركيا، على خلاف الصورة النمطية، لا تتبنى موقفاً عدائياً مباشراً تجاه التموضع الإسرائيلي، بل كانت جزءاً من مباحثات جرت في العاصمة الأذربيجانية باكو خلال آذار/مارس، لبحث آليات التنسيق الأمني في الجنوب السوري. ناقش الطرفان حدود التفاهم الممكن على عمليات المراقبة والتنسيق، مقابل عدم خلق “أمر واقع سياسي دائم”.

للمرة الثالثة، عقدت في مطلع أيار/مايو في باكو، محادثات بين تركيا وإسرائيل حول سوريا، بوساطة أذربيجان التي تتمتع بعلاقات جيدة مع تل أبيب.

وفي إطار تلك المباحثات، تقدمت إسرائيل بمطلبين رئيسيين، وفق ما أوردته تقارير؛ ألا تكون هناك قوة عسكرية تهدد أمنها بالقرب من الحدود، وألا تكون هناك أسلحة استراتيجية في سوريا تهددها أيضاً.

ومنذ كانون الأول/ديسمبر الماضي، وسقوط نظام الأسد، شنت إسرائيل عشرات الغارات مستهدفة قواعد عسكرية جوية وبحرية وبرية للجيش، كما توغلت قواتها إلى المنطقة العازلة وتوسعت في مرتفعات الجولان المحتلة وجبل الشيخ، ومناطق أخرى في الجنوب السوري.

وفي حين لا تعتبر أنقرة الوجود الإسرائيلي تهديداً استراتيجياً مباشراً لمصالحها، إلا أنها تتحفّظ بشدة على أي تموضع طويل الأمد يُضعف قدرة الدولة السورية الجديدة على فرض سيادتها.

يمكن قراءة هذا الموقف ضمن إطار نظرية الأمن المركب، حيث تدير أنقرة مخاوفها من خلال أدوات مزدوجة؛ الانخراط الجزئي، والرقابة السياسية، كما يتقاطع هذا التوجه مع مقاربة “البراغماتية الوقائية” التي تتبعها تركيا منذ 2022 في ملفات إقليمية عدّة، والتي تقوم على تقليل المخاطر بدلاً من مواجهتها المباشرة.

وفي أواخر أيار/مايو الفائت قال مصدر إسرائيلي رسمي لصحيفة “إسرائيل هيوم”، إن إسرائيل وتركيا توصلتا إلى تفاهمات بشأن تنسيق أنشطتهما العسكرية في سوريا بهدف منع الاحتكاك بين القوات من الجانبين.

وأكد المصدر الإسرائيلي أن تل أبيب تمسكت بموقفها بأن جنوبي سوريا سيبقى منزوع السلاح. وتتهم إسرائيل تركيا بالسعي لتعزيز وجودها العسكري في سوريا وإنشاء قواعد هناك، محذرة من عواقب هذه الخطوات.

وقال نتنياهو إنه قد يطلب وساطة أميركية إذا تفاقم النزاع مع تركيا في الأراضي السورية، في حين يواصل الطيران الإسرائيلي ضرباته ضد أهداف عسكرية في سوريا تأكيدا لرفض تل أبيب أي وجود مسلح في جنوبي البلاد.

ما يجمع الطرفين السعودي-التركي، رغم هذا التباين النسبي، هو إدراكهما أن الاستقرار في سوريا الجديدة لا يمكن أن يتحقق إذا فُرضت وقائع أمنية بقرار منفرد من أي طرف خارجي، وأن دورهما الإقليمي لا يكتمل إلا عبر دعم سيادة الدولة السورية الجديدة كمسار طويل الأمد.

يتقاطع هذا الموقف مع مفاهيم مثل “السيادة المُدارة” و”الترتيبات الأمنية العابرة للحدود”، حيث لا يعود معيار النفوذ محصوراً بالقوة، إنما بقدرة الدولة على بناء نموذج سيادي يقبل بالمداخل الإقليمية من دون أن يتحوّل إلى أداة لها.

التنسيق أم تقاسم النفوذ؟ الميدان كأداة دبلوماسية

أكثر ما يميز المشهد السوري بعد سقوط نظام الأسد هو أن الجغرافيا لم تعد تعبّر عن القوة العسكرية فقط، وإنما عن القدرة على إدارة الاستقرار. هنا يظهر سؤال مهم؛ هل تتجه الرياض وأنقرة نحو تقاسم أدوار مشروع لإعادة بناء سوريا، أم أن ما يجري هو تنسيق اضطراري لمنع الانفجار؟

المؤشرات تدل على التالي؛ وجود تفاهمات مشتركة داخل السلطة الانتقالية بدفع سعودي–تركي مشترك، وكذلك تعاون في ملفات إعادة الإعمار والبنى التحتية.

كل هذه العوامل تشير إلى بداية مشروع شراكة – ليس تحالفاً أيديولوجياً، وإنما تحالف توازنات دقيقة.

يمكن النظر إلى التجربة السعودية–التركية داخل سوريا كجزء من تطور أوسع يُسمّى في أدبيات العلاقات الدولية بـالنموذج الإقليمي غير القطبي، حيث لا توجد قوة مهيمنة واحدة، بل ترتيبات ناعمة بين عدة فاعلين، كل منهم يحتفظ بجزء من التأثير، من دون محاولة فرض الهيمنة على البقية. هذا ما يجعل المشهد السوري الجديد مختبراً لشكل النظام الإقليمي القادم.

لقد أصبح التقارب السعودي–التركي أداة إقليمية لإدارة ما بعد الحرب، وتجريب نموذج شراكة في دولة كانت ساحة لصراع عالمي وإقليمي طويل.

سوريا الجديدة تُبنى اليوم، على أنقاض نظام التحالفات التقليدية في المنطقة. وهنا يظهر التنسيق السعودي–التركي كمؤشر على صعود سياسة إقليمية قائمة على تقاطع المصالح بدلاً من صدام الأيديولوجيات.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى