أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

عن الإمساك بالعصا من الوسط في سوريا/ موفق نيربية

تتعرّض النخب السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية في سوريا منذ الثامن من ديسمبر الماضي إلى سؤال متكرّر دائماً: «إلى أين تتّجه البلاد؟ هل تنجح الجماعة التي قادت حركة سقوط النظام الأخيرة في تجربة الحكم؟ هل يمكن تحقيق الاستقرار والأمان، عدا عن الشروع بتأسيس دولة تعددية/ ديمقراطية/ تحفظ حقوق الإنسان والمواطن وحرّياته الأساسية؟ هل نشارك في هذه العملية؟».

وفي الحقيقة، هنالك فارق بين المتسائلين، كلٍّ حسب « بيئته الحاضنة»- اقرأ: طائفته وقوميّته وفكره – وحسب رغبته التي ملّت الانتظار الطويل أيضاً، وتريد التعلّق بأيّة قشّة متاحة. يُقال إن استطلاع رأي أعطى الرئيس الشرع ثقة 85% من شعبه، وحتى لو حذفنا منها شيئاً، فإن ذلك ظاهرة وأمر واقع، وتعبير عن عاطفة جارفة أحياناً لا يستطيع أحد الاعتراض عليها أو إهمالها في حساباته وأفكاره وبرامجه.

بالنسبة لي شخصيّاً، كنت أتّهَم أحياناً بالوسطية، وتدوير الزوايا، وضعف مستوى الراديكالية لديّ، وأحيانا «بالإمساك بالعصا من منتصفها». ولطالما غضبت من تلك» التهمة»، أو ابتسمت كمن أُمسِك متلبّساً في أحيان أخرى. وسأفعل ذلك مرة أخرى في هذا المقال، لأنّي أشعر بالطمأنينة لهذا الخيار أكثر من أية مرة سابقة.

من أهمّ معاني ونتائج هذا الموقف قبول مبدأ المساومة والتسوية والتوفيق، وتعزيز العلاقة مع مجموعات مختلفة، وإغضاب غيرها بالطبع. يجري ذلك من دون إساءة لأحد أو تقليل لاحترام رأيه واختلافه. كذلك يؤدّي هذا الموقف إلى تجنّب التصعيد والانجراف معه بعيداً.

قد تؤدي هذه الاستراتيجية إلى تحقيق بعض الاستقرار في البيئات السياسية المتوترة، ما يُقلل من احتمال تطوّر الصراعات بشكلٍ لا يمكن عَكسُه بعد ذلك. لكنّه يخاطر بخسارة بعض الصداقات أيضاً، بسبب الشعور بالخيانة أو التهميش؛ أو ينتج عنه تأخير الاستجابة للأزمات على الأقل. في الوقت نفسه، تكون هذه الاستراتيجية فعّالة في بناء التحالفات، وصياغة البرامج التي توحّد بين المختلفين نسبياً على أهداف مشتركة، دائمة أو مؤقّتة. وباختصار: تساعد هذه العقلية على المناورة السياسية، مع القدرة على التنقّل بين الأطراف المختلفة، فتكسب شيئاً من دون أن تخسر غيره.. ونأتي الآن إلى موضوعنا السوري:

هنالك طرف -غالب- يميل إلى الثقة المفرطة بالسلطة الجديدة، ممّا يدفع إلى قبول ادّعاءاتها دون تفحّصها بعناية، أو دون التشكيك بها على طريقتنا منذ القدم مع قرارات أيّ حكومة، ومن ثمّ الامتناع عن البحث عن حلول بديلة أو تعطيله. ذلك النوع من الثقة يعرّض أصحابه لإمكانية التلاعب بهم وبعواطفهم ومواقفهم، إذ يغيب احتمال التدقيق في قرارات وسياسات الحكومة، ذلك يُضعف الضوابط والتوازنات ومبدأ المحاسبة الضروري، وقد يؤدّي لتراجع الحوكمة أو انهيارها، أو منع قيامها أيضاً، قد يساعد ذلك الخيار البعضَ أحياناً على الدفاع المرتجل والشفوي عن توجّهات ما كان ليقبل بها في ظروف أخرى، إنه لا يرى حتى تلك المحاولات التي ستؤدّي إلى تقويض استقلاليّته وجودة حياته، حتى عمّا هي عليه في وقت الحدث. ربّما يؤدّي مثل ذلك الموقف «الداعم»، إلى تآكل «يقظة» المواطنين، وتعرّضهم لاحتيال يتجاوز الضوابط المتعارف عليها، فيتسامحون بجرأة مضاعفة مع إساءة استخدام السلطة. يمكن أيضاً أن يساعد على إضعاف المؤسسات القائمة نفسها، أو مشاريع قيامها، لتسود مكانها الشكلانية والفراغ والعبث. أيّ موقف داعم ينبغي أن ينطلق إذن من التفكير النقدي الحر، ويحاول تحييد المصالح العابرة ما استطاع، لأنّ غياب ذلك النوع من التفكير والتدقيق، سوف ينتج عنه اكتساب صاحب القرار للجرأة أكثر على الفساد وتكراره، حتى يصبح في البنية والعقل ويبدأ بالتمدّد إلى خارجه، مع تعقيد احتمال محاسبة المسؤولين ومساءلتهم عن أفعالهم وقراراتهم. فمعالجة المخالفات والانتهاكات وإصلاحها مستحيلة، من دون مبدأ المساءلة والشفافية، وكذلك حريّة التفكير وانفتاحه خارج المصالح المباشرة، التي لا تعدو أن تكون شفوية أحياناً ومجرّد ارتجال، أو انعكاس لمسار الخلافات والانتماءات ما قبل المدنية.

ولعلّ الأكثر خطورة هو شعور المواطنين بالرضا والإدمان على تلك الثقة والاستسلام لها، مما يُضعف رغبتهم في المشاركة في العملية السياسية أو محاسبة ممثليهم فيها، هذا بدوره يُضعف القوة العامة للمؤسسات الديمقراطية – بتسميته ذاتها أو بوظيفتها- ويُصعّب معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية المهمة.

في المقابل، هنالك مساوئ للنقد الزائد للسلطة، الذي قد يساعد على بروز عديد من المشاكل، وعلى، ربّما، عدم الاستقرار والفساد أيضاً، وحتّى إلى شيء من التدهور الاقتصادي. إن أيّ إضعاف للحكومة خارج المنطق والمصلحة الوطنية سوف يُضعف قدرتها على تنفيذ ما تعهّدت به، في كلّ المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعملياً أو حالياً يضعف قدرتها على تحقيق التعافي في أقرب وقت ممكن، أو على تهيئة البنية التحتية لاستقبال برامج إعادة البناء. وليس هذا في مصلحة، وربما ليس في برنامج الناقد الشرس في نقده.

بشكل غير مباشر يؤدّي النقد المفرط إلى نتائج تشبه ما تفعله الثقة والدعم الزائدان، خصوصاً حين يزداد ضعف الحكومة وتصبح عرضة لانتشار الفساد بشكل أسهل، أو حين تهتزّ الثقة بالمؤسّسات والقائمين عليها، فيغلب عليهم التردّد وعدم الثقة، ممّا يقود إلى إضعاف تلك المؤسسات. هنا يشبه المفعول ما كان تؤدّي إليه الطهرانية والثوريّة الزائدة سابقاً، من برامج سيّئة و»نضال» سيّئ أيضاً.

تحتاج سوريا حالياً إلى خطوات إسعافية، تستفيد من المردود الأعلى من رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية، لتضمّد جراح الاقتصاد، ضمن منظور معيشيّ كحدّ أدنى في البداية، حتى يستطيع الشعب الاستيقاظ من حالته البائسة، ويعطي بعض وقته للفاعلية السياسية الضرورية، كشرط مسبق لتأسيس سوريا المقبلة. لا يمكن العمل والإنتاج على الإطلاق والأنفاس متلاحقة متقطّعة كما هو الحال.

لقد تحقّقت ثلاث إيجابيات كادت تكون مستحيلة:

فقد رحل النظام الأبدي، ليس الذي صدّق نفسه وعائلته وحسب بأنّه باق إلى الأبد بكلّ سخافة وتفاهة تلك الفكرة، بل إن الشعب المعنيّ ذاته اختلف عمّا كان عليه، بعد أن طحنته عاديات الدهر والأسد أربعة وخمسين عاماً، وأوصلته براغماتية الداعمين وأطماعهم إلى عمق اليأس، بدلاً من برّ الأمان الذي وعدوا به.

انطلق الحدث الخارق من إدلب، التي سادت فيها هيئة تحرير الشام وخلقت «نظامها وحكومتها»، هي المصنّفة إرهابية من قبل أمريكا وأوروبا وآخرين، بما في ذلك مجلس الأمن نفسه، ثمّ قاده من لم يكن ليصدّق عديد الناس في الداخل والخارج أنه يمكن أن ينفّذ تلك المهمة المستحيلة: إسقاط الاستبداد وتحرير دمشق منه، أو البدء بذلك، ذلك كان المستحيل الثاني. ومع «التصنيف» وضغط التاريخ واستمرار مظاهر بعض التطرّف حتّى الآن، لم نكن نحسب أن رفع العقوبات سيكون بهذه السرعة وهذا العمق: ليعود أمل السوريين بالخروج من الجبّ العميق، وبعودة البصر إلى وعيهم السياسي. حتى ما يتعلّق بالعدوّ التاريخي الذي استطاع الأسد تمويه مفعوله السلبي باتفاقية فصل القوات، واجهتها السلطة الجديدة وأحرجت إسرائيل – والولايات المتحدة – بالمرونة التي أظهرتها، وتجاوزت الحرج الذي يمثّله مثل ذلك الموقف أمام» المتطرّفين» الآخرين. ساعد ذلك على تحقيق المستحيل الثالث، وعلى تجاوز الشعب السوريّ لتلك العقدة، من دون تخلّ عن الأرض والمبدأ رسمياً وحتّى الآن.

لذلك كلّه، لا بد من وجود من يمسك العصا من منتصفها، ويدعو إلى التوافق والتسويات وتبريد الخواطر المريرة، وهو موقف آني ومؤقّت حتماً. ولو كان الوضع منتظماً من الناحية السياسية، أو لو انتظم، لكان عدد المعارضين أكثر من الآن بكثير، ولكن: لا تريد الأغلبية العظمى منهم أن تغامر بتطوير موقف مناقض جذرياً للسلطة في الوقت الحرج الراهن. الإمساك بالعصا من وسطها يتعارض مع أيّ استخدام عنيف لها، وهو مجرّد أداة للمحافظة على التوازن عند السير على حبل رفيع… تمتدّ تحته الهاويةُ السحيقة!

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى