أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

كيف تبني سوريا اقتصادها من الداخل/ رشا سيروب

5 حزيران 2025

الحقيقة التي يجب أن ندركها في سوريا، والتي علمتنا إياها تجارب الدول، هي أن الاعتماد الكلي على المساعدات الخارجية أو الاستثمارات الأجنبية وحدها لن يكون كافيًا لإحداث النهضة الاقتصادية المنشودة.

بعد ستة أشهر من طي صفحة الحرب في سوريا، يفرض سؤال نفسه بقوة حول مستقبل البلد: كيف يمكن لسوريا أن تعيد بناء اقتصادها المنهك من دون أن تصبح رهينة للمساعدات الخارجية والوعود الإقليمية والدولية المتقلبة والمتنازعة؟ تلك الوعود التي قد تأتي أو لا تأتي، وغالبًا ما تكون مشروطة بما لا يتوافق مع الأولويات الوطنية لسوريا.

سوريا، كغيرها من الدول التي خرجت من أتون الحرب، عانت من تدمير واسع النطاق للبنية التحتية، ونزوح الملايين، وتراجع هائل في الإنتاجية، وشلل شبه تام في حركة التجارة والاستثمار. التحديات ضخمة، والمسؤولية جسيمة، لكن اليأس ليس خيارًا أمام دولة تبحث عن استعادة عافيتها.

دروس من رماد التاريخ

الحقيقة التي يجب أن ندركها، والتي علمتنا إياها تجارب الدول، هي أن الاعتماد الكلي على المساعدات الخارجية أو الاستثمارات الأجنبية وحدها لن يكون كافيًا لإحداث النهضة الاقتصادية المنشودة. هذه المساعدات، وإن كانت ضرورية في بعض الأحيان لسد فجوات حرجة، غالبًا ما تكون مصحوبة بشروط قد تقوّض السيادة الاقتصادية للدول وتوجهاتها التنموية.

لقد قدم التاريخ دروسًا واضحة: أصبحت ألمانيا “معجزة اقتصادية” بعد الحرب العالمية الثانية. لم تنهض عبر الإصلاح النقدي فحسب، بل عبر رؤية قوامها “اقتصاد السوق الاجتماعي” الذي جمع بين الحرية الاقتصادية وتدخل الدولة لضمان العدالة الاجتماعية. وشقّت فيتنام طريقها نحو النمو المستدام عبر الإصلاح الزراعي واستقطاب الكفاءات المهاجرة و”التعافي الذاتي”.

تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن سوريا تحتاج ما بين 250 و400 مليار دولار لإعادة الإعمار. هذا الرقم الضخم يدفع البعض إلى التطلع إلى المساعدات الخارجية كحل سحري ووحيد، والرهان على رفع العقوبات والاستثمار الأجنبي كطوق نجاة. لكن تجربة العراق بعد عام 2003 تفرض عليها الحذر من هذا النهج. فمليارات الدولارات المخصصة لإعادة الإعمار تبخّرت بسبب الفساد الممنهج، وأصبحت المشاريع الكبرى واجهات لعمليات نهب منظمة، فتراكمت ثروات حفنة من السياسيين ورجال الأعمال على حساب التنمية الاقتصادية الشاملة، وتحوّل الاقتصاد العراقي إلى نظام ريعي جديد ذهبت غالبية عوائده للإنفاق على الرواتب الحكومية وتمويل الواردات، مع تجاهل القطاعات الإنتاجية.

هل يستسلم صانعو القرار في سوريا لإغراءات الوعود الإقليمية والدولية والمساعدات الخارجية غير المضمونة (علمًا أن نسبة تنفيذ التعهدات الخاصة بالمساعدات الإنسانية للنصف الأول من هذا العام بلغت 10% فقط)، أم يبدؤون بتنفيذ ما ورد في الإعلان الدستوري لجهة “تحقيق أهداف الاقتصاد الوطني في مجال العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الشاملة وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة للمواطنين”؟

الانتظار لرفع عقوبات “قانون قيصر” بشكل كلي ودائم، والذي يتطلب موافقة الكونغرس، والترقب الحذر للحصول على الاستثمارات الأجنبية التي ستبقى حبيسة التردّد السياسي والأمني لـ180 يومًا قادمة، ليس استراتيجية للنهوض.

آليات التعافي الذاتي: بناء الاقتصاد من الداخل

ما تحتاجه سوريا خلال الأشهر الستة المقبلة، هو البدء بخطوات عملية نحو بناء “اقتصاد تنموي قائم على العدالة الاجتماعية” بمعزل عن تقلبات المزاج والظروف الخارجية. يمكن لسوريا أن تبدأ بالتعافي الذاتي عبر تفعيل أربع آليات أساسية:

أولًا، إعادة الإعمار الذكي: بدلًا من حصر التركيز على البنى التحتية الكبرى التي تحتاج وقتًا طويلًا لتظهر نتائجها، يجب أن يتركّز الاستثمار في القطاعات التي تحقّق عائدًا اقتصاديًا ملموسًا وانعكاسًا اجتماعيًا سريعًا، وهنا يمكن العمل على إعادة إحياء القطاعات المنتجة الأسرع انتعاشًا، والتي تحمل القدرة على توليد فرص العمل.

القطاع الزراعي يمكن أن يكون محور التعافي الأولي، وذلك لدوره الحيوي في تحقيق الأمن الغذائي والتغذية وتقليل فاتورة الاستيراد. ووفقًا لخطة منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، يتطلب إحياء هذا القطاع استثمارًا فوريًا بقيمة 286 مليون دولار لإعادة تأهيل شبكات الري وتوفير البذور المحسنة، مما قد يرفع الإنتاجية بنسبة 40% خلال ثلاث سنوات.

كما أن السياحة تُعد من القطاعات الواعدة مع توقع زيارة مئات الآلاف من المغتربين السوريين في الصيف، مما سيوفر القطع الأجنبي ويخلق فرص عمل، خصوصًا في المناطق الساحلية والريفية الجبلية التي تعاني من الفقر والبطالة المرتفعة. وهذا من شأنه أن يساعد في تهيئة البيئة المناسبة لتعزيز السلم الأهلي وتحقيق التماسك المجتمعي.

أما قطاع البناء، فله أهمية قصوى في تحقيق العودة الآمنة للنازحين داخليًا والمهجرين في الخارج ويسرّعها، وعلى خلق طلب متزايد على الأيدي العاملة.

ثانيًا، التكيّف مع العقوبات والصناعة المحلية: برغم إعلان الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات والإعفاء المؤقت من بعض العقوبات الأميركية، فإننا لا نتوقع أن نتلمّس آثار ذلك خلال الأيام الـ180 المقبلة. والاستثمارات، إن جاءت، غالبًا ما تكون مشروطة. لذا، يجب أن تكون الأشهر الستة القادمة فرصة لبناء اقتصاد أكثر مرونة وقائم على الذات، فلا يمكن انتظار رحمة المجتمع الدولي وضمان عدم تدخله.

هنا تبرز أهمية الصناعات المحلية، خصوصًا الصغيرة والمتوسطة، التي يجب أن تحظى بأولوية قصوى. هذه الصناعات هي قاطرة النمو الحقيقية في المدى المنظور، فهي الأكثر قدرة على استيعاب الأيدي العاملة وتلبية احتياجات السوق المحلي، وستشكل بديلًا للمستوردات التي تستنزف العملة الأجنبية.

ثالثًا، تحويل الدمار إلى مَورد: تحتوي أنقاض المدن السورية على ملايين الأطنان من الحديد والخرسانة القابلة لإعادة التدوير. لقد أظهرت دراسات جامعة شيفيلد البريطانية أن الخرسانة المُعاد تدويرها من أنقاض المباني المدمرة في سوريا يمكن أن تحل محل 50% من المواد الخام لصنع الخرسانة الجديدة، مما يخفض تكلفة البناء بنسبة 40%. هذا الركام لا يوفّر مواد بناء رخيصة فحسب، بل يسرّع عودة النازحين والمهجّرين ويخلق آلاف فرص العمل خصوصًا في قطاع الجمع والفرز. إنها فرصة لتحويل “الرماد إلى ذهب”.

رابعًا، العقول المهاجرة كرافعة تنموية: العقول السورية في الخارج تمثل رصيدًا استراتيجيًا يمكن استقطابه عبر حوافز متنوعة وضمانات قانونية ودولية. إن عودة هذه الكفاءات ستكون بمثابة “شريان حياة”، ليس فقط عبر نقل المعرفة والخبرات، بل من خلال رأس المال. تشير التقديرات إلى وجود عشرات المليارات من الدولارات المدخرة للمغتربين في المصارف الخارجية. يمكن اجتذاب جزء من هذه الأموال عبر إصدار سندات تنموية بعائد مقبول مع ضمانات دولية.

عقد اجتماعي جديد: الثقة هي الأساس

لكن كل هذه الآليات تبقى حبرًا على ورق من دون وقف النزيف الاقتصادي الذي يتطلب توفير الأمن والأمان. فالعقوبات ليست العائق الوحيد، ولن يخاطر المستثمرون بأموالهم في بيئة ينتشر فيها العنف وتغيب فيها الحوكمة والشفافية.

إن إعادة بناء الاقتصاد السوري ليست مجرد ضخ أموال، بل هي مشروع وطني جامع يقوم على تأسيس عقد اجتماعي جديد يضمن العدالة والفرص للجميع، ويعيد الثقة بين المواطن والدولة. من دون هذه الثقة، ستبقى وعود المستقبل مجرد آمال. وكما قال جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، “الاقتصاد القوي لا يُبنى فقط بالإسمنت والحديد، بل بالثقة، والعدالة، والفرص المتكافئة للجميع”.

هذا المشروع الوطني الجامع هو قرار سياسي يتعلق برؤية القيادة الجديدة لمستقبل البلاد، التي تحتاج أن تدرك أن الوقت ليس حليفًا، والقرار يجب أن يُتخذ الآن قبل فوات الأوان. النجاح لن يأتي عبر معجزة خارجية، بل عبر مزيج من الحوكمة الرشيدة، والابتكار في استخدام الموارد الداخلية، واستعادة الثقة المجتمعية. التجارب التاريخية تُظهر أن الدول التي أعادت بناء اقتصاداتها اعتمادًا على رؤية وطنية شاملة وشراكة مجتمعية حقيقية هي التي نجحت في تحويل الدمار إلى نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل. السوريون اليوم أمام اختبار حقيقي لقدرتهم على تحويل التحديات إلى فرص، مستفيدين من دروس الماضي لبناء اقتصاد ينتمي إليهم أولًا وأخيرًا.

السؤال الآن: هل ستغتنم القيادة السورية هذه الفرصة وتتخذ الخطوات الجريئة اللازمة لكسر حلقة الانتظار وبناء اقتصاد صامد من الداخل؟

أوان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى