«مجزرة الشعيطات» في متحف تفاعلي… صوت ضحايا «داعش» المسكوت عنهم

كشف وتوثيق للأسماء ومواقع المقابر الجماعية
دير الزور: «الشرق الأوسط»
5 يونيو 2025 م
في أحد أكثر فصول الحرب السورية وحشيةً، ارتُكبت مجزرة الشعيطات في ريف دير الزور الشرقيّ في شهر أغسطس (آب) من عام 2014. في أيام قليلة قُتِل أكثر من 800 شخص (من الذكور) من أبناء عشيرة الشعيطات على يد تنظيم «داعش» بعد رفضهم الانصياع لسلطته. طُردت العائلات من منازلها ودُمِّرت البلدات وأُلقيت الجثث في مقابر جماعية بقيت بلا أسماء ولا شواهد.
وعلى الرغم من هول الحدث لم تُوثق هذه المجزرة بالشكل الكافي ولم تُقدَّم سرديّتها الكاملة من منظور الضحايا بل هي من أكثر المجازر المسكوت عنها، حتى الصور المتعلقة بها تكاد تكون غير موجودة، إلا تلك المُروِّعة التي بثها التنظيم نفسه.
اليوم، وبعد عشر سنوات، وإطلاق لجان ومشاريع للعدالة الانتقالية يأمل أهالي الضحايا بشيء من الاعتراف ورد الاعتبار وقبور لأحباب يزورونها، ويقدم هذا المشروع الذي يفتح ملف «مجزرة الشعيطات» ويوثقها بالأسماء والأرقام والروايات الفردية فسحة أمل للعائلات.
وكان مشروع «متحف سجون داعش» انطلق لفتح الملف وسدّ هذه الفجوة في الذاكرة السورية، من خلال مشروع توثيقيّ غير مسبوق يعيد بناء ما جرى رقمياً، ويمنح صوتاً لمن طُمست وجوههم وكُتِمت أصواتهم. وكان قد بدأ العمل على المتحف منذ 2017 وأطلق رسمياً في لندن أكتوبر (تشرين الأول) 2024، وهو بمثابة معرض افتراضي وتفاعلي دائم يعيد إحياء تجربة سجون «داعش» عبر تقنيات بصرية تفاعلية خاصة.
المجزرة بعد 10 سنوات
في شهر أغسطس من عام 2014 وعلى مدى أيام عدة، ارتكب تنظيم «داعش» بحقّ عشيرة الشعيطات، في ريف دير الزور الشرقي، مجزرة جماعيّة تُعد من أبشع الجرائم التي شهدتها سوريا في سنوات النزاع. وقعت المجزرة بعد رفض أبناء العشيرة، التي يٌقدَّر عدد أفرادها بعشرات الآلاف، مبايعة التنظيم أو السماح له بفرض سيطرته الكاملة على بلداتهم الثلاث: أبو حمام، الكشكية، وغرانيج. وقد بدأت المواجهة بمناوشات بين مقاتلي الشعيطات وعناصر «داعش»، لكنها سرعان ما تحوّلت عملية عسكرية منظَّمة نفذها التنظيم ضد السكان المحليّين، استُخدمت فيها القوة المفرطة والإعدامات الجماعية حتى بحق أطفال وسيلةَ عقاب وردع.
استمرت العملية 12 يوماً، من 30 يوليو (تموز) إلى 11 أغسطس عام 2014. ووفق ما وثّقه «متحف سجون داعش» بالتعاون مع رابطة عائلات الضحايا، بلغ عدد الضحايا الموثَّقين حتى عام 2021 نحو 814 شخصاً، بينهم 558 مدنياً قُتلوا في غضون أسابيع قليلة. كما قُتل 256 آخرون في السجون أو بعد محاكمات شكليّة أو اختفوا في أثناء المعارك، ولا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم. من بين هؤلاء الضحايا، وُثّقت أسماء 141 امرأة صُنِّفن أرامل نتيجة فقدان أزواجهن، إضافة إلى 307 أطفالٍ يتَّمَتْهم المجزرة.
«طائفة ممتنعة بالسلاح»
نفّذ «داعش» المجزرة بعد صدور فتوى داخلية عن أحد قادته الشرعيّين، صَنَّفت أبناء الشعيطات «طائفة ممتنعة بالسلاح»، وهي صيغة فقهيّة يعتمدها التنظيم لتبرير قتل جماعات لا تبايعه. جاءت الفتوى بالتزامن مع صدور أوامر مكتوبة من قيادة «ولاية الخير» تطلب تنفيذ الإعدامات «بنداً بنداً»، ما يكشف عن أن الجريمة لم تكن عملاً عشوائياً، بل عملية ممنهجة حظيت بتخطيط وتنفيذ دقيقَيْن. وقد حصل فريق العمل على وثائق مسرّبة من أرشيف تنظيم «داعش» تثبت وجود هذه الفتوى وما تمثله من دليل جنائي.
إلى جانب القتل، تعرّضت قرى الشعيطات لحملة تهجير قسريّ واسعة ترافقت مع هدم كثير من منازل ومصادرة ممتلكات، كما أُجبر الآلاف على الفرار. وقد تمكن الفريق من توثيق 20 مقبرة جماعية في المناطق الثلاث، اكتُشفت على التوالي ما بين عامَي 2014 و2020، ودُفن فيها مئات الضحايا، في ظل انعدام تام لأي تدخل من منظمات دولية وقت ارتكاب المجزرة.
وثائق وتحليل جنائي
يقول أيمن علاو، الباحث في ملف مجزرة الشعيطات وعضو فريق التوثيق في متحف سجون «داعش»، إن العمل على هذا الملفّ كان أكثر من مجرد مهمة مهنية؛ إذ تحوّل اختباراً يومياً للفصل بين العقل والذاكرة الشخصية. ويقول: «أنا من أبناء الشعيطات، وفقدت أحد أقاربي في المجزرة. كنا نبحث عن الحقيقة، ولكننا في كل خطوة نصطدم بجدار. بصفتي باحثاً، كنت مضطراً إلى أن أضع مشاعري جانباً لأُنجز عملاً دقيقاً يمكن الاستناد إليه لاحقاً قانونياً أو بحثياً. لكن في كل شهادة كنت أستمع إليها، كنت أسمع أيضاً صوت أهلي، وأشتمّ رائحة قريتنا، وأتذكر من فقدناهم».
ويضيف: «في العمل التوثيقيّ، كان من الضروريّ أن نلتزم الدقة والمهنية، وأن نُخرج الألم من النص قدر الإمكان. لكن بصفتي أباً لعائلة وابناً لهذه الأرض، لا يمكنني أن أعدّ هذه المجزرة مجرد ملف. إنها حياتنا التي انكسرت، وهي أيضاً مسؤوليتنا أن نمنع دفنها بصمت مرة أخرى».
استعادة افتراضية للسجن
المتحف، وهو مشروع بحثيّ وتوثيقيّ يقوده فريق من الصحافيّين والباحثين السوريين، أطلق مؤخراً ملفاً استقصائياً وتفصيلياً شاملاً عن المجزرة. لم يكتفِ الفريق بجمع الشهادات أو سرد الوقائع، بل أعاد أعضاؤه بناء المكان افتراضياً، ونسجوا منه سردية رقمية تفاعلية يمكن للزائر استكشافها كما لو كان يسير في أروقة السجن الذي شهد الإعدامات.
العمل على هذا الملف لم يكن سهلاً، لا من الناحية التقنية، ولا من الناحية النفسية. فالفريق واجه تحديات تتعلق بحماية الشهود، والوصول إلى الأدلة، والتعامل مع شهادات مؤلمة، أحياناً من ناجين لا تزال آثار التعذيب بادية على أجسادهم أو ملامحهم. استغرق جمع الشهادات والتحقق شهوراً طويلة، كما تطلب بناء النموذج الرقمي الاستعانة بفريق من المهندسين والمصمّمين الذين استعانوا بصور الأقمار الاصطناعية والخرائط وروايات الشهود لإعادة بناء سجن «كتيبة البتار»، أحد المراكز الرئيسَة التي أقامها التنظيم لاحتجاز أبناء الشعيطات قبل إعدامهم.
كل غرفة في هذا السجن الرقمي تحكي قصة، وفيه ممرّ يؤدي إلى غرفة الاحتجاز الجماعي، وفي الزاوية اليسرى منه زنزانة انفراديّة فُهِم من شهادة أحد المعتقلين أنّها كانت مكاناً للتعذيب اليومي. بإمكان الزائر الضغط على الجدران أو الأبواب لسماع شهادات حقيقية، مُسجَّلة بصوت أصحابها أو بصوت ممثلين عنهم؛ وذلك لحماية هوية الشهود.
مِن المشاهد المؤثرة في الجولة الافتراضيّة ما يطالعنا في شهادة امرأة تدعى أم ركان وهي تتحدّث عن اختفاء ابنها، راويةً كيف تلقّت خبره من جارٍ وجده في إحدى المقابر الجماعية، بعد أيام من فقدانه. صوتها منخفض، متماسك، لكنه مليء بما يكفي ليصيب المستمع برجفة.
من أهم النقاط التي يركّز عليها فريق المتحف، أنّ هذا التوثيق ليس فقط للاستهلاك الإعلاميّ أو التوثيق الأكاديمي والتاريخي، بل هو أيضاً جزء من عمل قانونيّ دائم ومتواصل. فكل مقابلة، وكل صورة، وكل خريطة، حُفِظت ضمن قاعدة بيانات يمكن توظيفها في مرافعات قانونيّة مستقبليّة وأي مسار قد تتخذه آليات العدالة الانتقالية المزمعة سواء في سوريا أو خارجها. وقد تمّ التنسيق مع محقّقين دوليّين ومحامين، وأُرسلت نسخ من بعض المواد إلى هيئات حقوقيّة في أوروبا، حيث تُجرى محاكمات لعدد من عناصر «داعش» الذين هربوا من سوريا بعد سقوط التنظيم.
ويقول أحد أعضاء الفريق القانوني مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، إن هذا النوع من التوثيق بات ضرورياً في ظل غياب آليات محاسبة رسمية واضحة على المستوى المحلي. وقال: «إذا لم نوثّق نحن، وإذا لم نحفظ الأدلة، فلن تكون هناك محاسبة. وما لا يُوثق يُنسى».
لكن التحدّي لا يكمن فقط في توثيق الجرائم، بل في سردها بطريقة تحترم خصوصية الضحايا. لذلك؛ حرص الفريق على حماية الشهود وعدم الكشف عن هوياتهم، خصوصاً أن بعضهم لا يزال يعيش في مناطق معرضة للخطر. كل شهادة خضعت لمراجعة أخلاقية، وجرى الحصول على «موافقات مستنيرة» من أصحابها، مع إعطائهم الحق الكامل في التراجع أو التعديل أو الحذف.
وقد أُدرجت في جميع المواد تحذيرات من المحتوى الحساس، وتجنّب الفريق عرض أي صور دموية أو لقطات صادمة. فالهدف، بحسب القائمين على المشروع، ليس إثارة المشاعر، بل تقديم الحقيقة وإنصاف الضحايا وعائلاتهم.
رابطة عائلة ضحايا الشعيطات
في هذا السياق، جاء تأسيس «رابطة أهالي ضحايا الشعيطات» خطوة موازية لجهود التوثيق، بأفق اجتماعيّ وحقوقيّ مختلف. أيمن علاو، أحد مؤسسي الرابطة والباحث في ملف المجزرة، يقول إن الحاجة إلى الرابطة لم تكن تنظيميّة بقدر ما جاءت من فراغٍ شعرت به العائلات على مدى سنوات؛ إذ لم تجد من يمثل صوتها أو يدافع عن حقوقها.
ويوضح علاو: «العمل على الرابطة مختلف تماماً عن التوثيق. هنا، لا نتعامل مع الضحايا بوصفها مصادر معلومات، بل بوصفها أسراً منكوبة لها الحقّ في الظهور والكلام والمطالبة. نحن نحاول تحويل الحزن الفردي فعلاً جماعياً، وتنظيم الغياب بصفته مطلباً سياسيّاً وقانونيّاً».
ويرى علاو أن أحد أهداف الرابطة هو كسر العزلة عن الشعيطات، وتذكير السوريين والعالم بأن هذه المجزرة لم تلقَ المحاسبة المفروضة، وأن آلامها ما زالت حيّة في البيوت والأسماء والصور. «كنا نُعاقب مرتين: مرة بالقتل، ومرة بالنسيان. الرابطة هي محاولة لتفكيك هذا النسيان، وإعادة كرامة من غابوا، وصوت من بقوا».
بهذه الجهود، تُفتح نافذة جديدة على واحدة من أكثر الجرائم المسكوت عنها في الحرب السورية. إنها ليست فقط قصة مجزرة، بل نموذج من كيفيّة إخضاع مجموعة سكانية برمتها وجعلها تدفع ثمن الرفض بالإبادة. وما يفعله «متحف سجون داعش» هو بناء ذاكرة بديلة، تُصاغ من أصوات الشهود، ومن الصور التي لم تُلتقط وقت الجريمة، ومن الحقائق التي لم تروَ.
وقد تختزل العبارة التالية المنشورة على موقع المتحف كل ما يجب أن يقال:
«بعض الجرائم تعيش في الصمت. نحن بنينا هذا كي تتكلَّم».
الشرق الأوسط