ملف الخصخصة في سوريا.. بين زيادة الكفاءة ومحاذير الآثار الجانبية/ سامر سيف الدين

4 يونيو 2025
تقول الحكاية: عندما زار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر مدينة حلب إبان الوحدة بين سوريا ومصر، يرافقه الرئيس اليوغسلافي الراحل المارشال تيتو، استضافته عائلة من أغنياء حلب، يومها قُدمت الكبة الحلبية بأصنافها الكثيرة المحشوة باللحم والصنوبر والمكسرات في صحون من الذهب مع معالق من ذهب (حسب الروايات المنقولة وغير المكتوبة). نظر تيتو إلى عبد الناصر وقال له: “لن تدوم في هذا البلد طويلًا”، قاصدًا كيف يتفق التأميم الذي أتيت به مع أسلوب الملكية الخاصة القائمة في حلب وسوريا؟!
واليوم وبعد عقود من سيطرة القطاع العام ونظام الاقتصاد شبه الاشتراكي، ما هي فرصة إعادة الخصصة إلى سوريا، وما هي المؤسسات التي يسمح بخصخصتها أو لا، وما إيجابيات وسلبيات هذه الخصخصة لمؤسسات الدولة وما رأي الشعب في ذلك؟
متى بدأت خصخصة مؤسسات الدولة السورية؟
اتسمت عملية تحويل مؤسسات الدولة السورية إلى القطاع الخاص (الخصخصة) بالتقطع، وتأثرت بالسياق السياسي والاقتصادي والصراع في سوريا.
الوحدة بين سوريا ومصر ( 1958-1961): شهدت الوحدة بين سوريا ومصر بدايات عملية التأميم في سوريا ومصر، حيث حول عبد الناصر ملكية القطاعات الأساسية وأغلب الصناعات إلى ملكية الدولة، إضافة إلى قانون الإصلاح الزراعي الذي قضى على الملكيات الكبيرة للأراضي في سوريا. ولكن حكومة الانفصال عام 1961 أعادت الملكية الخاصة لسابق عهدها، فكان للاقتصاد السوري قطاع خاص كبير، لا سيما في قطاعي التجارة والزراعة. كانت مؤسسات الدولة محدودة، ولم تكن الخصخصة محورًا رئيسيًا للسياسات.
التأميم البعثي (1963-2000): بعد تولي حزب البعث السلطة عام 1963، تبنت سوريا نموذجًا اشتراكيًا، مؤمِمًا صناعات رئيسية (مثل النفط، والخدمات المصرفية، والتصنيع). وهيمنت مؤسسات الدولة على الاقتصاد، وكانت الخصخصة محدودة.
في عهد بشار الأسد (منذ عام 2000)، بدأت سوريا تحريرًا اقتصاديًا حذرًا لمواجهة الركود وجذب الاستثمارات. وكان ذلك بمثابة بداية جهود خصخصة محدودة: وهدفت سياسة “اقتصاد السوق الاجتماعي” التي تم انتهاجها في الفترة (2005- 2010) إلى الحد من سيطرة الدولة وتشجيع مشاركة القطاع الخاص. ومن الأمثلة على ذلك:
الخصخصة الجزئية للقطاع المصرفي (على سبيل المثال، سُمح للبنوك الخاصة بالعمل بعد عام 2004).
فتح قطاع الاتصالات أمام الشركات الخاصة (مثل سيريتل، المملوكة لرجل الأعمال المرتبط بالنظام رامي مخلوف).
كما تم خصخصة بعض الشركات المملوكة للدولة، مثل مصانع الإسمنت والسكر، وإن كانت في كثير من الأحيان تُمنح لمحسوبين على النظام.
التشريعات: سهلت قوانين مثل قانون الاستثمار رقم 10 (1991، المُعدل عام 2007) والمرسوم رقم 8 (2007) الاستثمار الخاص في القطاعات التي تُهيمن عليها الدولة. وكانت هذه الجهود محدودة، إذ فضل النظام الولاء على الكفاءة، وظلت مؤسسات الدولة هي المهيمنة.
مرحلة ما بعد الثورة في سوريا (2011-2025):
دمرت الحرب التي تلت الثورة السورية (2011 حتى الآن) مؤسسات الدولة والاقتصاد، مما أوقف الخصخصة المنهجية. ومع ذلك، حدثت خصخصة مرتجلة في سياقات محددة:
المناطق الخاضعة لسيطرة النظام: أصدرت حكومة الأسد قوانين مثل المرسوم رقم 66 (2012) لإعادة التطوير الحضري (مثل مشروع مدينة ماروتا)، مما نقل فعليًا ملكية الأراضي العامة إلى مطورين من القطاع الخاص مرتبطين بالنظام.
الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا: سمحت الإدارة الذاتية، التي تسيطر على أجزاء من شمال شرق سوريا، بمشاركة محدودة للقطاع الخاص في الاقتصادات المحلية (مثل تجارة النفط)، وإن لم تسمح بخصخصة رسمية لمؤسسات الدولة.
مناطق المعارضة: في مناطق مثل إدلب، قامت جماعات معارضة مثل هيئة تحرير الشام بخصخصة بعض الخدمات (مثل الكهرباء والمياه) لشركات محلية أو منظمات غير حكومية بسبب انهيار البنية التحتية للدولة.
وفي حوار مع د. نضال الشعار وزير الاقتصاد والتجارة في الحكومة الانتقالية السورية، نشر مؤخرًا في “ألترا سوريا”، وضح الشعار رأي الحكومة الحالية بموضوع الخصخصة قائلًا: “الحديث عن الخصخصة غالبًا ما يُفهم بشكل خاطئ. نحن لا نبيع ممتلكات الشعب السوري، بل نُعيد تنظيم إدارتها بما يحقق المنفعة العامة. الأصول ستبقى ملكًا للدولة، لكننا نحرص على إدارتها بكفاءة وبطريقة منهجية مدروسة تضمن استفادة جميع شرائح المجتمع”.
إيجابيات الخصخصة
يرى العديد من خبراء الاقتصاد وداعمي عملية الخصخصة في سوريا أن الخصخصة إذا طُبقت بفعالية، فإنها ستعود بفوائد على الاقتصاد السوري وحوكمته، لعدة أسباب منها:
الكفاءة الاقتصادية: يمكن لإدارة القطاع الخاص أن تُحسن كفاءة المؤسسات الحكومية ذات الأداء الضعيف (مثل الكهرباء والنقل). على سبيل المثال، عانى قطاع الكهرباء في سوريا قبل الحرب من سوء إدارة مزمن وانقطاعات متكررة، وهو ما يمكن للاستثمار الخاص معالجته.
ويمكن للمنافسة أن تُحفز الابتكار وتُخفض التكاليف.
توليد الإيرادات: يمكن أن يُوفر بيع أصول الدولة أموالًا لإعادة الإعمار، وهو أمر بالغ الأهمية بالنظر إلى تكلفة إعادة إعمار سوريا المُقدرة بـ ٤٠٠ مليار دولار (وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة). كما يمكن للصناعات المُخصخصة أن تجذب الاستثمار الأجنبي، مما يُخفف العبء على ميزانيات الدولة.
الحد من الفساد: من الناحية النظرية، يمكن للخصخصة أن تُقلل من احتكارات الدولة والفساد البيروقراطي من خلال نقل السيطرة إلى كيانات خاصة تنافسية.
تحسين الخدمات: يمكن أن تقوم الإدارة الخاصة لخدمات، مثل الرعاية الصحية والتعليم، بتحسين الجودة وإمكانية الوصول إليها، ولا سيما في المناطق التي مزقتها الحرب حيث انهارت مؤسسات الدولة. فعلى سبيل المثال، تفوقت المستشفيات الخاصة في دمشق على المستشفيات العامة في بعض الحالات.
خلق فرص العمل: يمكن لقطاع خاص نابض بالحياة أن يخلق فرص عمل، مما يُعالج معدل البطالة المرتفع في سوريا (الذي قدرته منظمة العمل الدولية بنسبة 50% في عام 2023 ومن المؤكد أنه قد زاد بعد ذلك).
سلبيات خصخصة مؤسسات الدولة السورية
وفي مقابل المشجعين للخصخصة هناك الكثيرون، ممن تم استبيان آرائهم عن المسألة، قالوا إن الخصخصة تنطوي في السياق السوري الهش على مخاطر كبيرة، لا سيما في ظل ضعف المؤسسات، وترسخ المحسوبية، وأن لها الكثير من المساوئ منها:
رأسمالية المحسوبية: غالبًا ما استفاد الموالون للنظام السابق أو أمراء الحرب من الخصخصة، كما يتضح في مشاريع مثل “ماروتا سيتي”، حيث نُقلت ملكية الأراضي العامة إلى مطورين مرتبطين بالنظام. وهذا يُفاقم عدم المساواة وانعدام الثقة العامة. وبدون عمليات مناقصات شفافة، قد تُرسخ الخصخصة الفساد بدلًا من الحد منه.
خسارة الأصول الاستراتيجية: قد تُضعف خصخصة قطاعات رئيسية مثل النفط والغاز والزراعة سيطرة الدولة على الموارد الحيوية. على سبيل المثال، تم تخصيص حقول النفط السورية في الشمال الشرقي (الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا) جزئيًا من خلال صفقات محلية، مما قلل من الإيرادات الوطنية وعدمها أحيانًا.
التفاوت الاجتماعي: قد تؤدي الخصخصة إلى زيادة تكاليف الخدمات الأساسية (مثل الرعاية الصحية والمياه)، مما يجعلها بعيدة المنال بالنسبة لسكان سوريا الفقراء (يعيش 90% منهم تحت خط الفقر، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة لعام 2025).
وقد تُهمل الشركات الخاصة الهادفة إلى الربح المناطق الريفية والمهمشة (مثل دير الزور والسويداء)، مما يُفاقم التفاوتات الإقليمية.
فقدان الوظائف: تُوظف مؤسسات الدولة حوالي مليون سوري ( وجزء كبير من هؤلاء يمكن تصنيفهم تحت مسمى البطالة المقنعة). وقد تؤدي الخصخصة إلى تسريح العمال، حيث تُعطي الشركات الخاصة الأولوية للكفاءة على الرعاية الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، أدت خصخصة المصانع الحكومية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى خفض الوظائف في القطاع الصناعي بحلب. كذلك أدى تحويل تبعية مؤسسات تعبئة المياه المعدنية، دريكيش ويقين، من مؤسسة معامل الدفاع إلى وزارة الصناعة إلى حرمان هذه المؤسسة من إيرادات ضخمة، بالإضافة لتسريح الكثير من العمال بحجة عدم الحاجة وعدم الكفاءة.
التأثير الخارجي: قد يُهيمن المستثمرون الأجانب على القطاعات المخصخصة، مما يُقوض السيادة السورية. ويُجسد انخراط روسيا في عقود الفوسفات والغاز (مثل صفقات ستروي ترانس غاز) والتي وقعت اتفاقياتها في زمن نظام بشار الأسد مثال على هذا الأثر.
غياب الإطار التنظيمي: تفتقر سوريا إلى نظام قانوني قوي لتنظيم الكيانات الخاصة، مما يُعرضها لخطر الاحتكارات أو الاستغلال. ويُصعب ضعف القضاء (الذي أفسدته عقود من سيطرة حزب البعث) إنفاذ العقود أو حماية المصالح العامة.
رد الفعل الشعبي: قد يُقاوم السوريون، المُعتادون على الخدمات التي تُقدمها الدولة (رغم عدم كفاءتها أحيانًا)، الخصخصة.
القطاعات الأكثر تأثرًا بالخصخصة
تعتبر الخصخصة خطوة استراتيجية تهدف إلى تحسين الأداء الاقتصادي في سوريا، خاصة بعد سنوات من الصراع والفساد. هناك عدة قطاعات رئيسية من المتوقع أن تتأثر بشكل كبير بعملية الخصخصة، وهي تشمل:
1. القطاع الصناعي
المؤسسات العامة: تشمل المؤسسات العامة للصناعات الهندسية، الكيميائية، الغذائية، والإسمنت. هذه المؤسسات تعاني من خسائر كبيرة بسبب الفساد وسوء الإدارة، مما يجعلها مرشحة رئيسية للخصخصة. ويُعتقد أن إدخال القطاع الخاص في إدارة هذه المؤسسات يمكن أن يحسن الكفاءة ويزيد من الإنتاجية، حيث أثبتت التجارب العالمية أن القطاع الخاص غالبًا ما يكون أكثر قدرة على إدارة المؤسسات الصناعية بشكل فعال.
2. قطاع النقل والمواصلات
الموانئ والمطارات: تخطط الحكومة السورية الجديدة لخصخصة الموانئ والمطارات كجزء من جهودها لجذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز التجارة. هذا القطاع يعاني من تدهور كبير بسبب سنوات من الإهمال. ومن المتوقع أن تؤدي الخصخصة إلى تحسين جودة الخدمات المقدمة في هذا القطاع، مما يسهم في تسريع حركة التجارة والنقل داخل البلاد.
3. قطاع الطاقة
تشمل الخطط الحكومية خصخصة شركات الطاقة التي تعاني من ضعف الأداء. ويعتبر هذا القطاع حيويًا لاقتصاد البلاد، حيث أن تحسين كفاءة إنتاج الطاقة يمكن أن يسهم في استقرار الاقتصاد. إن الخصخصة في هذا القطاع قد تساعد في جذب الاستثمارات اللازمة لتحديث البنية التحتية للطاقة، مما يساهم في تحسين الإمدادات وتقليل الانقطاعات. وفي هذا السياق تم توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة الطاقة السورية ومجموعة من شركات رائدة في مجال الطاقة العالمية لدعم قطاع الطاقة بقيمة 7 مليار دولار، لإنشاء 4 محطات إنتاجية بسعة توليد إجمالية تقدر بنحو 4 آلاف ميغاوات.
4. القطاع الزراعي
تحسين الإنتاجية: يمكن أن تشمل الخصخصة أيضًا بعض جوانب القطاع الزراعي، حيث أن إدخال تقنيات جديدة وإدارة أكثر كفاءة يمكن أن يحسن الإنتاجية ويعزز الأمن الغذائي في البلاد.
5. قطاع الخدمات العامة
إدارة المرافق العامة: تشمل الخطط خصخصة بعض خدمات المرافق العامة مثل المياه والصرف الصحي. هذه الخدمات تعاني من نقص التمويل والإدارة، مما يجعلها مرشحة للخصخصة لتحسين الكفاءة وجودة الخدمات.
نظرة واقعية للخصخصة
تتأثر عدة قطاعات رئيسية بخصخصة مؤسسات الدولة في سوريا، بما في ذلك الصناعة، النقل، الطاقة، الزراعة، والخدمات العامة. يتطلب نجاح هذه العملية تخطيطًا دقيقًا وإطارًا قانونيًا مناسبًا لضمان تحقيق الفوائد الاقتصادية دون تفاقم المشكلات الاجتماعية أو الاقتصادية.
وتعتبر حماية حقوق العمال خلال عملية خصخصة مؤسسات الدولة في سوريا أمرًا بالغ الأهمية، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية. ولابد من وضع إطار قانوني واضح وتشريعات تحمي حقوق العمال. كذلك يجب أن تتضمن سياسات الخصخصة برامج تدريبية وإعادة تأهيل للعمال المتأثرين، مما يساعدهم على الانتقال إلى وظائف جديدة أو تحسين مهاراتهم لتلبية احتياجات سوق العمل.
ويجب أن تتم عمليات الخصخصة وفق معايير واضحة وشفافة، مما يقلل من فرص الفساد والمحسوبية. يجب أن تكون هناك آليات رقابية صارمة لضمان عدم استغلال العملية لتحقيق مكاسب شخصية على حساب العمال.
بالإضافة لكل ما سبق يجب أن تُحافظ الحكومة على القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم تحت إدارتها، لضمان استمرار تقديم الخدمات الأساسية لكل السكان دون تراجع، مع تحسين تدريجي في مستوى هذه الخدمات.
الترا سوريا