أرشيف التلفزيون السوري… ذاكرة وطن أم غنيمة حرب؟/ حسام أبو حامد

07 يونيو 2025
تصنع الذاكرة حصوناً من الحقيقة وسط الدمار والمجازر والسنوات العجاف. لا الذاكرة البشرية وحسب، بل أيضاً تلك التي جمعتها شرائط ممغنطة، وكاميرات، وأصوات إذاعية، وأوراق مكتوبة، نقلت نبض الحياة اليومية. الذاكرة هي الصندوق الأسود الذي يستنطق صوت شعب ينبض بالحياة رغم جراح الثورة والحرب. ومع انهيار النظام، تعرّضت وثائق وسجلّات للتدمير أو السرقة أو الإخفاء المتعمّد، خاصّةً ما يحوي معلومات حسّاسة تتعلّق بأجهزة الأمن والمخابرات، بعضها سُرّب إلى وسائل إعلام، كاشفاً حجم القمع الذي مارسه النظام، ما يؤكّد إلى أيّ حدّ تؤثّر خسارتها في إتمام الطريق إلى العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. ويحتضن التلفزيون السوري جزءاً أساسياً من الأرشيف الوطني، مئات آلاف الساعات من البرامج الثقافية والترفيهية والسياسية، وتسجيلات للأحداث الكُبرى التي مرّت بسورية في فترات مختلفة. وخلال الشهور التي تلت سقوط النظام، بدأنا نشاهد في منصّات التواصل الاجتماعي لقطات لم تكن متاحة سابقاً للعرض، حافظ الأسد يردّ في مقابلة على تسمية حركته “التصحيحية” انقلاباً، وأخرى له مع أنور السادات ومعمّر القذافي يصلّون الجمعة إبّان اتحاد سورية مع مصر وليبيا، وجلسة لمجلس الشعب السوري تنتخبه رئيساً. تسجيلات لجلسات برلمانية أو مؤتمرات حزبية من الداخل، ولقطات من دراما سورية، وأخرى لمدن وأسواق وشوارع. تنتشر هذه التسريبات في سياق عشوائي بلا ضوابط قانونية أو تقنية. والتسريبات، حتى مع نيّات حسنة، ليست بديلاً من الحفظ المنهجي، فالتاريخ بلا سياق صورة معلّقة على جدار فارغ.
بقي أرشيف التلفزيون السوري عرضة إمّا للإهمال، أو للسرقة، أو للتوظيف السياسي. ومنذ سقوط النظام، وكما كانت الحال بالنسبة إلى وثائق السجون وأفرع الأمن، لم تحدّد السلطات السورية الجديدة مصير الأرشيف بعد تقارير عن نهب أجزاء منه، وبيعها في السوق السوداء، أو تحميلها في مواقع إلكترونية. تحدّث موظفون سابقون في الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون عن محاولات “إنقاذ فردية”، وتُتَّهم جهات بمساعدة أسماء الأسد بالتورّط في تسريب (أو استغلال) الأرشيف، لتحقيق مكاسب مالية. لا يوثّق أرشيف التلفزيون السوري الرؤساء فحسب، بل يوثّق وطناً. إنه الصدى المتكرّر لحياة السوريين بتفاصيلها كلّها، الصاخبة منها والبسيطة، والنظر إليه غنيمة حرب من أطراف متعدّدة أو مادّة قابلة للبيع، انتهاك مزدوج للذاكرة وللشعب. إنه ذاكرة السوريين، وجزء من الأرشيف الوطني الأوسع، قبل أن يكون بروباغاندا لنظام الأسد.
قد يعاني ما تبقّى من مواد أرشيفية في التلفزيون السوري عوامل التلف، وما لم تُنقل إلى وسيط رقمي سريعاً، فسنفقد سنواتٍ لا يمكن إعادة تمثيلها أو استعادتها. يتطلّب الأمر قراراً جريئاً بوضع الذاكرة في قلب مشروع “الدولة الجديدة”، لا في هوامشها. ويمكن لسورية أن تستفيد من تجارب دول واجهت ظروفاً مشابهة، فالبوسنة والهرسك أنشأت مركز أفلام سراييفو عام 2008 لإحياء أرشيفها ما قبل الحرب، وفي مكتبتها الوطنية رقمنت تشيلي أرشيف ديكتاتورية أوغستو بينوشيه بدعم من منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وجعلته متاحاً للعامّة، جزءاً من مسار العدالة الانتقالية. لم تسمح تلك الدول (وغيرها؛ تيمور الشرقية وجنوب أفريقيا) للذاكرة بأن تموت. لا بدّ من التحرّك المدروس لإنشاء هيئة وطنية مستقلّة تكون مهمتها جمع كلّ ما يتعلّق بالأرشيف السمعي البصري السوري وتوثيقه وحفظه ورقمنته، تعمل بشفافية بدعم من منظّمات دولية، وإطلاق بوابة رقمية تُتيح الوصول المجّاني والمنظّم إلى المواد الأرشيفية، وفق تصنيفات زمنية وموضوعية، ودعم رقمنة الأرشيفات المنزلية بما يحتفظ به عديد من السوريين من تسجيلات مختلفة عبر حملة وطنية ضمن المشروع العام. هناك حاجة ملحّة لإطلاق برامج أكاديمية بتعاون دولي لإعداد أخصائيي أرشفة ورقمنة، لسدّ النقص في الكفاءات. ولا بدّ من تشريع قوانين تمنع البيع أو التهريب أو التدمير المتعمد لأيّ مادة أرشيفية، واعتبارها ملكاً عامّاً محمياً بالدستور والقانون.
الذاكرة الوطنية ملك الشعب، لا تُحتكر ولا تُباع. إنها وجه سورية الذي يجب ألّا يُطمس، وضميرها الحيّ الذي يجب أن يُصان ذاكرةً جامعةً لكلّ السوريين، بغضّ النظر عن طوائفهم وأعراقهم وتوجّهاتهم السياسية.
العربي الجديد