الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

“الجوع أو الركوع”: في استعادة سياسة التجويع بسورية/ سمر شمة

9 يونيو 2025

استخدم نظام الأسد البائد في حربه ضد الشعب السوري بعد انطلاق الثورة السورية جميع أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرمة دوليًا، من الكيماوي، إلى القصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة، إلى القنابل الفراغية “أم كل القنابل”، وغيرها من أدوات الموت، واستعان بطائرات السوخوي الروسية، وبالنظام الإيراني، وحزب الله، والميليشيات الشيعية، للقضاء على المدن والبلدات الثائرة، وأدخل التجويع إلى ترسانته، واستخدمه سلاحًا لقتل الأطفال والنساء والمسنين، لإجبار السوريين على النزوح والتهجير تحت شعاره الذي ملأ به الساحات وحواجز التفتيش وكل مكان: “الجوع، أو الركوع”.

حدث ذلك في القرن الواحد والعشرين عندما منعت قوات النظام الأمنية والعسكرية الغذاء والدواء والماء والوقود، والكهرباء عن المدن والأرياف، وأجبرت السوريين على أكل الحشائش وأوراق الأشجار، ولحم القطط والكلاب، وفق ما وثقته آنذاك مؤسسات قانونية وإنسانية.

وقد تبنى مجلس الأمن الدولي في 22 شباط/ فبراير 2014 قرارًا بالإجماع يطالب بتقديم العون، والسماح بعمليات العبور الإنساني عبر الحدود وخطوط إطلاق النار، مهددًا باتخاذ تدابير لاحقة في حال عدم التنفيذ. غير أن النظام السوري أوغل في استبداده واستباحته لسورية وشعبها، حيث شابهت جرائمه جرائم المغول والتتار، وكل مجرمي العصور الماضية، وبقي قرار المجلس حبرًا على ورق. وأعلنت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2015 أن المجاعة ضربت نصف الشعب السوري، وأن هنالك حوالي 13.6 مليون جائع، والعدد مرشح للزيادة.

سياسة التجويع قديمة، وقد استخدمتها القوى الاستعمارية والأنظمة القمعية الاستبدادية على مرّ التاريخ لإخماد ثورات التحرر من الاحتلال، ومن الديكتاتوريات، وهذا ما يحدث الآن في غزة التي تعيش حرب إبادة وتطهير عرقي، وحرب تجويع أدت إلى استشهاد عدد كبير من الفلسطينيين جوعًا، أغلبهم من الأطفال، والنساء الحوامل، على مرأى من العالم أجمع. وهذا ما حدث أيضًا في سورية على مدى سنوات طويلة من نظام وحشي ضد شعبه الأعزل، رغم اعتبار “سياسة التجويع” أمرًا غير أخلاقي بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، ورغم حظرها من القانون الجنائي الدولي والإنساني الذي يمنع استخدام التجويع وسيلة في الحروب والنزاعات المسلحة.

لجأ النظام المخلوع وحلفاؤه منذ بداية الثورة إلى فرض حصار خانق على المدن والبلدات السورية التي شاركت في الثورة، ومنها: ريف دمشق: دوما ـ مضايا ـ داريا ـ معضمية الشام ـ الزبداني ـ مسرابا ـ عربين، ومحافظات حمص ـ حلب ـ دير الزورـ ودرعا، والقائمة لا تنتهي.

كان الوضع في الغوطة الشرقية كارثيًا جرّاء القصف الشديد والحصار الخانق والتجويع الذي عانى منه سكانها منذ عام 2013، وتسبب في انتشار الأمراض القاتلة، والأوبئة، والموت جوعًا. وقد ذكرت وكالة فرانس برس آنذاك أن 9700 طفل يعاني 80 منهم سوء تغذية حاد وشديد، و200 آخرين يعانون من سوء تغذية حاد متوسط. وقال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، عام 2017، إنهم وثقوا استشهاد ما لا يقل عن 397 مدنيًا، بينهم 206 أطفال، و67 سيدة في الغوطة الشرقية، بسبب الجوع، ونقص الدواء، منذ بدء الحصار.

وفي مدينة دوما، التي تُعد مركز الغوطة الشرقية، وتحيط بدمشق ببساط أخضر وبأشجار الفواكه الشامية المعروفة، بدأ الحصار والتجويع فيها منذ عام 2012، مترافقًا مع العمليات العسكرية الهمجية، واستخدام الغازات السامة. وشهدت المنطقة نقصًا كبيرًا في الغذاء والمواد الطبية، وخصوصًا عام 2017، مما تسبب في وفاة أعداد كبيرة من المدنيين، ودفع الأهالي للبحث عن أي طعام بين ركام المنازل والأراضي الزراعية التي دمرتها قوات النظام بمنهجية وإصرار.

وتعرضت مدينة المليحة أيضًا، وهي بوابة الغوطة الشرقية من جهة دمشق، وأجمل بلداتها، لكثافة أشجارها، ووفرة مياهها، لحصار وجوع تسبب في سوء تغذية، بعد أن أغلق النظام وحلفاؤه طرقاتها ومنافذها المؤدية إلى العاصمة، وجوّع أهلها على مدى سنوات، وارتكب فيها أبشع الانتهاكات، وأكثرها دموية.

وقد ذكر مكتب التوثيق والإحصاء في الغوطة أن الأسلحة التي استُخدمت في الحرب القذرة على المدينة مجهولة وذات تدمير هائل، وأن الأهالي الذين صمدوا صمودًا أسطوريًا تعرضوا إلى حرب تجويع ضارية أدت إلى استشهاد أعداد كبيرة من أبنائهم بعد إتلاف المحاصيل وتخريب وتدمير الزراعة وإغلاق المعابر بشكل كامل.

وكانت مدينة داريا العريقة التي تقع قرب دمشق، في الغوطة الغربية، قد تعرضت لحصار وتجويع أهلها منذ عام 2012، بعد قصفها بأعتى الأسلحة، لمنع إدخال أي مساعدات غذائية، أو طبية، وهي من أوائل المدن التي ثارت ضد النظام. وقد رفض الأسد مرارًا وتكرارًا إدخال حليب الأطفال، وأي نوع من أنواع الأغذية لأكثر من 400 ألف مواطن عاشوا فيها حصارًا قاسيًا وصعبًا، وهذا ما جعل المتحدثة باسم حملة “من أجل سورية”، بيسان فقيه، تقول إن النظام يلجأ إلى سياسة الخضوع والتجويع، في محاولة منه للسيطرة على المدينة التي تقع عند مدخل العاصمة، ولن يتخلى عنها أبدًا.

أما مدينة مضايا، المصيف السياحي المشهور في ريف دمشق، فقد تصدرت مشهد “حرب التجويع”، وتعرض سكانها إلى جوع لا يُحتمل، ولأمراض فتاكة. وفي عام 2016، كان سكانها يحصون عدد شهدائهم، حيث شهدت الأيام الأولى من هذا العام وفاة ثلاثة أشخاص يوميًا نتيجة الهزال الشديد، وانعدام الماء والغذاء. وسجلت منظمة أطباء بلا حدود استشهاد 23 مدنيًا في البلدة خلال فترة قصيرة آنذاك. وبحسب مصادر حقوقية وإنسانية، كان الحصار الشديد السبب في أسوأ وأقسى الأزمات الإنسانية الناجمة عن سياسة التجويع التي مارستها أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، وحزب الله، والميليشيات الشيعية، والشبيحة. وقد اضطُر الأهالي كما شاهد العالم أجمع على شاشات الفضائيات، وبالصوت والصورة، إلى تناول الأعشاب الضارة، وسط عجز غير مسبوق لدول العالم، والأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، التي أكدت أن ما يجري في مضايا يندرج تحت بند من المادة السابعة من ميثاق روما الأساسي الناظم لمحكمة الجنايات الدولية، وهي جريمة الإبادة التي تشكل جريمة ضد الإنسانية أيضًا، وهذا ينطبق على المدن السورية والبلدات كافة التي تعرضت للتجويع.

بينما أكدت منظمات حقوقية ومصادر صحافية أن موقف الأمم المتحدة يتصف بالجبن أمام هذه الجرائم المروعة، وذلك بعد أن رفضت إدراج المدينة ومناطق أخرى مشابهة ضمن القائمة الرسمية للمناطق المحاصرة رغم تضور الناس جوعًا.

تخطت المأساة الإنسانية في مضايا وجارتها الزبداني، المدينة السياحية بامتياز، كل الحدود، وبلغت مستوى غير مسبوق من الموت جوعًا، واضطُر أهلها لأكل الكرتون والبهارات مع المياه في حال توفرها، بينما دعا الائتلاف السوري المعارض مجلس الأمن لإنقاذ أرواح المواطنين في المدينتين، وتصنيف الوضع بـ”كارثة إنسانية”، وإقرار تدخل إنساني عاجل لمأساة تفوق الخيال، وذلك بعد أن تُوفي في مضايا وحدها 16 طفلًا تحت سن العاشرة، وثمانية رجال، وست نساء، خلال أسبوع واحد، بسبب الجوع، وتُوفي العشرات في الزبداني أيضًا.

تعرضت مدينة معضمية الشام الواقعة غرب دمشق، وإحدى أهم مدن الغوطة الغربية، للمأساة نفسها، بعد أن حاصرها النظام وشبيحته حصارًا خانقًا بالدبابات والمدرعات منذ أواخر 2012، عندما استولى عليها وقطع الدواء والطعام عنها حتى عام 2016. أكثر من 45 ألف مدني تعرضوا للجوع القاتل فيها، ومُنع الدخول إليها، والخروج منها، مما أدى إلى استشهاد أكثر من 700 شهيد وشهيدة، بينهم أعداد كبيرة من الجائعين والمصابين بأمراض مزمنة خطيرة لم يتمّ علاجها أبدًا.

أما جنوب دمشق فقد منع النظام عن مدنه وبلداته كل المساعدات الغذائية والطبية منذ عام 2013، ودخلت قراه: السبينة، والحسينية، والبويضة، إضافة إلى مخيم اليرموك، مرحلة المجاعة الحقيقية، بعد إغلاق المعابر، والهجوم العسكري الواسع، بمساعدة حزب الله، والفصائل الفلسطينية الموالية للنظام. أودى الجوع بحياة المئات في المخيم، ووثقت منظمة العفو الدولية استشهاد 194 شخصًا فيه في الفترة ما بين تموز/ يوليو 2013 وشباط/ فبراير 2014، بسبب انعدام الرعاية الصحية والغذاء، ونيران القناصة المتواصلة، التي استباحت الجميع من دون استثناء.

وفي آذار/ مارس 2014، أصدرت المنظمة تقريرًا وصفت فيه ما يجري في حق الفلسطينيين والسوريين بأنها “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”. وكشف التقرير الذي حمل عنوان: “امتصاص الحياة في مخيم اليرموك” عن وفاة مئتي شخص منذ تشديد الحصار في تموز/ يوليو 2013، ومنع دخول أي مساعدات. كما أعلن الهلال الأحمر الفلسطيني هذا المخيم “منطقة منكوبة”.

بدأ حصار المدن السورية منذ عام 2012 حتى 2018 عمومًا، وكان لمدينة يبرود الواقعة شمالي العاصمة السورية بحوالي 77 كم ضمن سلسلة جبال القلمون نصيب كبير منه، قبل أن يلجأ سكانها إلى النزوح والهروب بشتى الوسائل والطرق بعد قطع المياه الصالحة للشرب عن المدينة، ومنع كل مقومات الحياة الأساسية.

أما مدينة حمص العدية، عاصمة الثورة السورية، وملتقى الظرفاء والمبدعين، فقد عانت من الحصار والتجويع منذ أيار/ مايو 2011 حتى الشهر نفسه من عام 2014، بعد حملة وحشية على المتظاهرين السلميين، وهجوم عنيف على أحيائها، وأولها حي بابا عمرو، الذي كُتب على نقاط التفتيش فيه “إخضع أو جوع”، وثانيها حي الوعر الذي يُعد جزءًا من المنطقة الريفية المحيطة بالمدينة، ويُسمى “حمص الجديدة”. تمّ قطع الإمدادات عن المدينة، بما فيها الماء والغذاء والدواء والكهرباء والوقود من قِبل حزب الله وإيران والقوات النظامية، واضطر أهلها لتناول حشائش الأرض والنباتات البرية، مما تسبب في حالات تسمم عديدة، وفقدان للذاكرة، واستشهاد أعداد كبيرة من المدنيين من مختلف الأعمار. وقد وصف مسؤولون أمميون الوضع في مختلف بلدات المحافظة بالكارثي، مؤكدين أن أهالي حمص كانوا: “في حالة وهن شديد، وعليهم علامات ضعف واضحة بسبب الجوع، وسوء التغذية”، في مراحل عديدة من مراحل الثورة بعد انتشار الأمراض بين الأطفال، ووفاة العشرات منهم.

وذكرت المتحدثة باسم برنامج الغذاء العالمي أن المؤسسات والمنظمات الإنسانية والحقوقية لم تستطع منع هذه الجرائم وإنقاذ المدينة وأهلها.

وكان الحصار الذي فًرض أيضًا على شرق مدينة حلب من الجرائم والانتهاكات الأكثر خطورة وهمجية التي ارتكبتها بعض القوى المتحاربة آنذاك، حسب ما ذكر حقوقيون دوليون. اختار أهلها الصمود في وجه التجويع، وتعرض أكثر من ربع مليون سوري آنذاك للجوع والإذلال والقتل، وكان أكثر من 350 ألف مدني محاصرين حصارًا محكمًا، وتحت سلطة المرض والهزال، بعد رفض النظام وحلفائه إيصال المساعدات، واستمرار جرائم القصف بدعم روسي إيراني.

أما مدينة دير الزور، أكبر مدن الشرق السوري، فقد تعرضت والبلدات التابعة لها لمعارك طاحنة بين النظام المخلوع، وتنظيم الدولة الإسلامية، ولحصار وتجويع شديدين. واستُشهد فيها عدد كبير من المواطنين، مما جعل الائتلاف المعارض يطالب الأمم المتحدة، ومنظمات الإغاثة العالمية، باتخاذ إجراءات فعالة لإنقاذ نحو 250 ألف مدني هناك، بعد إغلاق منافذ إدخال الغذاء والدواء.

وشهدت مدينة درعا، مهد الثورة السورية، والتي خرجت عن سيطرة النظام لسنوات عديدة، حصارًا خانقًا أيضًا، وشحًا كبيرًا في المياه والغذاء والمستلزمات الطبية وانقطاعًا كاملًا للمياه والكهرباء وفقدانًا للخبز وحليب الأطفال، وعانى فيها أكثر من ثلاثين ألف مواطن من سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها النظام وحليفه الروسي منذ بداية الثورة، ودفعت المحافظة كما هو معروف برمتها أثمانًا باهظة لا مثيل لها.

منظمة اليونيسيف، من جهتها، كانت قد حذرت في كانون الأول/ ديسمبر 2015 من تأثير تعليق مساعدات برنامج الغذاء العالمي على حياة ملايين الأطفال السوريين، ودعت الدول المانحة إلى تجنب وقوع كارثة إنسانية، بينما صرح وسيط الأمم المتحدة ديمستورا، بعد عام، أن “النظام السوري يرفض رفع الحصار الذي يجوّع الملايين في أنحاء البلاد”.

وبعد أعوام، وفي كانون الأول/ ديسمبر 2019، أعلنت محكمة الجنايات الدولية أن “التجويع في حالات الحروب جريمة حرب”، وصرّح مسؤولون في الأمم المتحدة بعد عام بأن السوريين يعانون من أزمة جوع لا مثيل لها على مدى سنوات.

ومع ذلك كله، تحايل السوريون في مختلف المدن والبلدات الثائرة على سياسة التجويع الممنهجة، وأوجدوا بدائل مبتكرة لصنع وقود بديل، وأنظمة زراعية غير تقليدية، مثل صناعة الخبز من العدس، وإنتاج سكر بدائي، واعتمدوا نظام المقايضة بدلًا من النقود، وزرعوا أسطح ما تبقى من منازلهم، والأزقة، والمقابر، والملاعب الرياضية، بالخضراوات، والبقوليات، وأكلوا الخبز المتعفن، وأصبحت الحشائش الضارة والمفيدة المصدر الرئيسي لغذائهم منذ مطلع عام 2013.

والمعروف أن سياسة التجويع تتجاوز الآثار الجسدية إلى الآثار النفسية المدمرة، لأنها امتهان وتحطيم لكرامة الإنسان، وعزة نفسه، وحقوقه، استخدمها النظام وحلفاؤه عقابًا جماعيًا لإذلال السوريين وهزيمتهم، والبقاء على رأس السلطة، ولو على حساب مئات من الشهداء والجرحى والمهجرين.

مراجع:

ــ بوابة سورية.

ــ العربي الجديد.

ــ التلفزيون العربي.

ــ الجزيرة.

ــ وكالات.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى