أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

سطوة الدم في سوريا الأسد/ نوار جبور

09.06.2025

الدم السوريّ أعاد “الحياة العارية” إلى الواجهة، رسّخها القتل في الشارع كوضعية علنيّة، يُقتل السوري علناً أمام العدسات من دون أن يُدان أحد بجريمة قتله! القتل الذي لم يكن يُرى صار حاضراً، والجثّة التي كانت تُخفى ظهرت للعلن، ولادة الدم في 2011 هي ولادة القتل بوصفه موصوفاً وانضباطياً وتأديبياً، بدل كونه محواً للأجساد، أصبح ترسيخاً للسيادة، لشرط القتل في حال خالف أحدهم التوجيهات، وانضمّ إلى حشد يهتف علناً”.

كلما رأى الدم، حتى في أحلامه، يُصاب بنوبات توتّر وانهيار، كأن الدم يقول له: “أنت لست رجلاً قوياً، بل قاتل”.

فيودور ديستويفسكي- الجريمة والعقاب

منذ التسعينيات في زمن حافظ الأسد وصولاً الى زمن حكم بشّار الأسد، أخرج نظام الأسد الأب والابن العنف من المشهد الواضح في الشارع. كان العنف يقع في الخفاء، وحصل النظام على تميّز في القتل الخفيّ، فصار الجسد الخاضع للعنف لا يُدمى أمام الجسد خارج المعتقل أو قبو التعذيب، أُقصي الدم حينها عن المساحة العامّة، وبقي سائلاً شفّافاً في المخيّلة، مما أعطى الجسد العلني سيناريو وحيداً: النجاة عبر الجسد المطيع، الذي أضحى ذاتاً مِطواعة بشكل كلّي.

بعد العام 2011 حُرم المُعنَّف من الجثّة، وعلّق حداداً من حوله، وصار القتل أسطورة، والأسطرة هنا تقوم مقام الاعتراف: لا اعتراف، بل توقّع، وظنون، وخوف، وكلّ هذا يمنع التمرّد، كما أن المواجهة مع المُعنِّف بعيدة وخفيّة، إنها ولادة السأم وولادة نسيان موجّه أمام شناعة القتل العلنيّ، وإباحيته، انضباط الجسد – الذات يكون لمن يعارض السلطة، ومن يحاول استعادة ذاكرة/ جثّة منها.

وصل بشّار الأسد إلى سلطة أسّست في السوريين وعياً مشوشاً، وجثّة مرفوض الاعتراف بها، لأنها لم تعد تضع دمها كمشروع للتأسيس في الشارع، كحالة الطليعة المقاتلة مثلاً، ورث بشّار القتل الدموي عن أبيه، لكنّه لم يُشارك في المقتلة، بل بالانضباط فقط، في الحفاظ على انضباط الناس وتخويفهم في سنين حكمه كـ”رئيس شابّ”.

الناس بدأوا يُقصون كلّ توقّع حقيقي لعنف النظام، خلقت السجون اللا مرئي الذي كان كافياً، المعاناة من دون أن تُرى، ولم يكن للسوري حقّ في أن يُقتَل علناً، لقد أفقد النظام السوري السوريين ذواتهم، وهي تحاول إسقاط الحزن على الجثّة، وحتى على البلاد، لا تعبير، لا حداد، هنا فراغ الذات. عاشت الذات السورية قلقاً: أين تُسقط ذاتها اجتماعياً؟ وكيف تُنهي حدادها المؤجّل؟

سؤال الدم

في عام 2011، كان على التشويش أن ينتهي. السؤال الذي طرحه المتظاهرون كان كفيلاً بجواب خارج الإخفاء: الدم. تجرّأ الناس على وضع دمهم على الشارع. ما أسّسه حافظ الأسد لابنه بحرمان الناس من رؤية الدم في الشارع، وأن العنف المؤجّل والخفيّ هو لا مرئي، أسّس لصدمة مؤجّلة في رؤية الدم، فظهرت كلّ الأحداث المؤسطرة والمتخيّلة.

الدم أعاد “الحياة العارية” إلى الواجهة، رسّخها القتل في الشارع كوضعية علنيّة، يُقتل السوري علناً أمام العدسات من دون أن يُدان أحد بجريمة قتله! القتل الذي لم يكن يُرى صار حاضراً، والجثّة التي كانت تُلغى ظهرت، ولادة الدم في 2011 هي ولادة القتل بوصفه موصوفاً وانضباطياً وتأديبياً، بدل كونه محواً للأجساد، أصبح ترسيخاً للسيادة، لشرط القتل في حال خالف أحدهم التوجيهات، وانضمّ إلى حشد يهتف علناً.

لقد خلق عنف النظام في عام 2011 الجثّة التأسيسية، الجثّة التي لا يمكن حذفها، الجثّة التي أُجبر العالم على أن يأخذها بـ”عين” الاعتبار،  لم يكن الدم مجرّد أذى، بل عرض كامل لكلّ القلق، لكلّ الكتمان، ليُشكّل إرادة. الدم كان كافياً لينهار الإخفاء، وليظهر الوجه، وليقول السوري: أنا موجود، حتى لو كنت جثّة. دفع الدم فكرة “الحياة العارية” خارج أقبية السيادة، لأن من قُتل لم يُمحَ، بل عاد من محوه، ووقف في منتصف الصورة، وسُمع اسمه.

طبقات الدم

كان إسقاط تمثال حافظ الأسد محاولة لجرح القداسة التي يُضفيها النظام على صنمية صوره وتماثيله، فظهر الدم. مواجهة المظاهرات السلمية بالسلاح بدأت من هنا، من سقوط التمثال، من أول رصاصة، من أول جثّة. كلما ازداد العدد والمسافة بين فعل السلميين والنظام، ازداد الدم، والدم كان انهياراً لهندسة الطاعة التي حاول النظام توكيدها والإقناع العمومي بها.

 كان الدم مؤسّساً للعنة الأسد الأب، تجاوزها تلويث الأرض بالدم، تجاوزها الأسد  بأسطورة مؤسّسة على قوّة، قوّة لم يكن هو فيها القاتل بل الأب. كان الأسد الابن وارثاً لدم غسل يده منه في الداخل السوري، لقد قتل أو تورّط أو عرف بمقتل لبناني من دون دم، كان يغتال، بدأ هذا منذ رمزي عيراني وتسلّم الأسد الابن ملفّ لبنان.

كان بشّار طالباً لهذا الدم ليقلّد أباه الذي كان قاتلاً وحاكماً، فالأسد الابن لم يعرف نموذجاً للحكم سوى ذاك الذي وضعه والده، فاستحضر درجة البداهة الوحيدة التي امتلكها، أي أن يكون حاكماً وقاتلاً مثل أبيه، ما نظّفه أبوه تمرّد عليه، ووجّه السلاح ليُظهر الدم.

كانت علنية  الدم لحظة انهيار التمثّل الرمزي بلغة لاكان، وظهور الواقعي المفرط في فحشه، الواقعي المنفلت من أي صنع. فهل كان ما شهدناه في عام 2011 هو بين مآلين: انكشاف الواقعي؟ أو الكواليس؟ كأن السوري وجد نفسه فجأة في مسرح بلا ستار، بلا تمثيل، بلا فصل بين ما هو من الممكن فهمه.

 هناك قاموس مفترض لتشويش السوري وراء القضبان، للمعتقل جُمل متداولة تشكّل ما يمكن تسميته بـقاموس الرعب المحكي:

أخذوه هالهفا.

نفوه.

اعتقلوه.

روّحوه.

راح عبيت خالتو.

قشّوه.

لمّوه.

عزموه عفنجان قهوة وما رجع.

صار ورا الشمس.

بضيعتو ما اندفن.

خفوه.

كبسوه متل المخلل.

فص ملح وداب.

عفطوه.

هذه الجمل ليست مجرّد كلام دارج، بل نظام حماية رمزي، يُشارك فيه السوري قسوة النظام بجمل تصف الاختفاء القسري من دون أن تنطق به، وتؤطّر الرعب وتُخفيه في اللغة.

ما لم يظهر من النظام في عهد بشّار، بقي محمولاً في هذه اللغة، وظلّ التشويش قائماً، وظلّ المعتقل يتأرجح في الكناية، في التلميح، في الرعب الذي لا اسم له. تمثّلت الذات السورية في الحياة اليومية بهذه الجمل كمواجهة مع الخوف، ورفض للدم، واختباء من كلّ ما يحمله من كواليس.

أخفى النظام كلّ شيء خلف ما يمكن تسميته بـكواليس الدولة، حيث تُصنع السلطة، وتُخفى أدواتها، ويُعاد ترتيب السلوك ليتناسب مع “الواجهة الأمامية” التي يراها الجمهور. لكن ما كان النظام يُخفيه خلف القضبان خرج إلى المسرح، الذي فشل في ضبطه أمام المظاهرات.

فشلت الدولة في أداء دورها المعتاد، وانكشف المشهد. لم تعد هناك واجهة أمامية، بل كلّ ما كان في الخلف خرج إلينا، ظهر الدم، وكسر التمثيل، وانتهى التمايز بين المسرح والكواليس، ما كان بيروقراطياً في تصوير الجثث، تحوّل إلى متاهة مرعبة من صور الموت المُمَأسس، فجّرها “قيصر” في تسريباته.

لم يعد هناك تشويش، بل يقين جديد: أن القمع لا يُخفى، وأن العنف لم يعد في الخلف. خرج الدم بالكواليس كلّها إلى الشارع، إلى الكاميرا، إلى الهواء، لكنّ النظام لم يفهم هذا الانهيار، فاستعان بأداته الوحيدة: الدم كأداة إغلاق. أراد أن يُغلق الكواليس التي انفجرت، لا بإخفائها، بل بالمزيد من الدم، بالقتل العلني، بالسحل، بالتصوير، ولم يكن ذلك ترميم للواجهة، بل انكشاف نهائي، لم يعد التشويش نافعاً بعده، ولم يعد الخوف يحتاج إلى لغة سرّية.

بدأ الدم، في سوريا، ككواليس للمخيّلة الجمعية، لحظات خلفيّة توثّق ما لا يُقال. شيئاً فشيئاً، صار تصويره يستحوذ على المشهد: يُسجّل، يُنشر بسرعة، يُعلّق عليه، يُعاد تداوله، لم يكن مجرّد أثر، بل رجاء محموم بالتدخّل أمام آلة القتل.

كانت الإرادة السورية تعرف فشل اللغة والحوار، فانتقلت إلى لغة أخرى، دون صوت ودون صورة اللغة الرسمية. لم تعد الكلمات تكفي: كان السوريون يريدون تصوير شارع نازف، دموي، مفتوح على الجرح، أرادوا أن يقولوا: انظروا إلى الجرح، لا تسألونا عن النصّ.

لم يكن لدى السوري العادي الذي حمل الكاميرا رغبة في الشهرة أو نقل الحقيقة فقط، بل رغبة لا واعية في السيطرة على الرعب الكامن فينا جميعاً. كان التصوير نفسه إعادة توزيع للصدمة: من صوّره لم يعد الضحيّة الوحيدة، لقد تحرّر من عبء رؤيته وحيداً.

هكذا، أصبح الدم المسفوك في الشارع مادّة تأسيسية للمخيّلة السورية. لم يعُد الخوف من رؤيته، بل الإلحاح على حضوره. صوّرت البيوت ضحاياها، وسُجّلت الإسعافات المنزلية، وكأن الجسد الجريح لم يعد شأناً خاصاً، بل وثيقة سياسية، وعاطفية، واستغاثة جماعية.

صار الدم يُنتج سردية: ليس فقط عن القتل، بل عن معنى أن تُقتل وأنت تُوثّق، أن تُسعف ويُصوَّر جرحك، أن تصرخ ليُعاد توزيع صرختك. كان مصوّر الدم يظنّ بنجاته، أنها أنانية المصوّر بأنه حاز صورة، لكن في لا وعيه كان فرحاً بالنجاة.

في سوريا، كان الدم يُسفك ويُغسل، يُسفك بوصفه كواليس وبوصفه واقعاً في الشارع،  ويُغسل بوصفه استعادة لسلطة الانضباط، كأن السلطة لا تحتمل أثره، ولا تريد له أن يبقى. لم يُترك الدم على الأرض، لم يُعطَ فرصة أن يكون ذاكرة، أو علامة، كان يُمحى بعد كلّ مقتلة، كما لو أن ما جرى لم يقع، هيكتور قال وهو يحتضر  في “الإلياذة”: “ستُهزم يوماً كما هزمتني، وسيُراق دمك أنت أيضاً”.

وصلنا إلى لحظة تحوّل الدم من القداسة إلى الدناسة، حين انقلب التأويل، وصار الدم مادّة مشاعة، وسيلة للجميع، صار كلّ من يحمل سلاحاً يتكلّم باسم الدم، وكلّ جماعة تملك ميتاً تدّعي الوصاية على الأرض. هكذا، انهارت رمزية الدم، وتحوّلت ذاكرته إلى حرب أهلية.

الدم بحدّ ذاته، عند الفيلسوف جورج باتاي، ما إن يسيل في العنف حتى يكون بين المدنّس والمقدّس، حيث يتصاعد بوصفه سائلاً يتجاوز النظام الأخلاقي والاجتماعي. إراقة الدم تفتح الباب على المحظور، على ما لا يمكن ضبطه، وما لا يُستعاد كما كان، بين أن يكون دمنا مقدّساً ومدنّساً في آنٍ واحد، كان النظام يريد للدم أن يُفقدنا الحدّ، أن يُسقطنا من رمزيته، فلم نعد نعرف ماذا نفعل أمامه، ولا كيف نحمله أو نفهمه.

لقد شكّل الدم في السرديات الكبرى معنى لتكوين الجماعة، وتحديد توجّهات عنفها واتجاهاته، لكن في سوريا، تفتّت هذا المعنى، وتحوّل الدم إلى ملكيّة فئوية، وصار الكلّ يدّعي تمثيله، والجماعة لم تعد واحدة، بل انقسمت على دمائها، لا باسمها. كانت حاجتنا للدم هائلة.

الدم ليس إقصاءً للغة فقط، ولا للاعتراف، بل لأنه كان يُريد الصمت، وكان الدم عائقاً، فيُغسل ويُشطَف، كأنه فائض لا يجوز أن يبقى، وكان الدم في سوريا يسيل قبل أن تُقال اللغة، وكان يزداد إن ازداد الغناء أو الانسجام، وكان النظام يقطع اللحن ويكسر التناغم بنشاز الرصاص، وكان الأمن مضطرّاً إلى أن يصمّ أذنيه ويقتل، لأن الصوت كان احتمالاً للفهم، وكان الدم يملك طقساً، طقساً لا يُراد له أن يُقام.

لكن الدم، في سوريا وحدها، فقد معناه لوقت طويل، لأنه دم يُشطَف أمام مرأى الأهالي، دم يُمحى كأنه لم يكن، يُغسل بسرعة، وبلا أثر، وبلا انتظار للحزن، وكان ذلك أشدّ أنواع الموت وحشية، لا لأنه مريع فقط، بل لأنه بلا طقس، بلا وداع، بلا صرخة، كانت المدينة كلها تُمنع من الحزن، وكان شطف الدم يليه عرض للقوّة، ومسيرة للنظام، ثم إجبار على العمل، وتنشيط الحياة في المدينة، كأن شيئاً لم يكن.

خلق النظام مدناً للغة المرفوضة، مدناً يخاف فيها الصوت أن يتحوّل إلى مظاهرة، أو إلى طقس، أو إلى نواح، مدناً لا يُسمح فيها للحزن أن يُعلن، ولا للدم أن يُحكى، مدناً تخاف الإصغاء، فتُقتل قبل أن تسمع، وتصمت حتى حين تريد أن تبكي.

هذا النص مُهدى إلى عمّار المأمون وهناء جابر.

– صحفي سوري

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى