الأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعالتدخل الاسرائيلي السافر في سورياالشرع و المقاتلين الأجانب و داعشالعدالة الانتقاليةالعقوبات الأميركية على سورياتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةعن أشتباكات صحنايا وجرمانالقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 09 حزيران 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

——————————

انتهت الأزمة، ابتدأت الأزمة/ ياسين الحاج صالح

«والآن، ما العمل بعد رحيل البرابرة؟»

09-06-2025

        تطلعتُ منذ سنوات المراهقة إلى رؤية الحكم الأسدي يزول. اكتسب هذا التطلع زخماً شخصياً بعد سنوات السجن، حيث تحول الصراع مع الحكم الأسدي من انحياز سياسي وأخلاقي، كمالي بصورة ما، إلى صراع معرف، ضروري ومشكل للهوية. هذا ظهر في الكتابة طوال ربع القرن الماضي، وقد استأثرت الشؤون السورية بما لا يقل عن نصف محصولي الكتابي. وحين سقط النظام أخيراً، كنت مبتهجاً بطبيعة الحال، وسالت دموعي في أول تجمّع لسوريين مغتربين في فضاء عام بعد ساعات من السقوط. على أنه لم يخطر بالبال في ذلك الوقت أن السقوط المشتهى للنظام هو تداعٍ لعالم عشت فيه معظم سنوات عمري، وأنه سيضعني في أزمة على أكثر من مستوى.

        والمنطق في ذلك هو أنه بأثر اشتباك سياسي وفكري ونفسي مديد مع الحكم الأسدي طوال 48 عاماً من سنواتي الأربعة وستين، صرت أسدياً أنا نفسي بطريقة ما: أمقت النظام واحتقر بشار الأسد وأبيه من قبله، لكن عبر هذا القدر من الاستنفار ومن الشحنة النفسية للموقف منه طوال ثلاثة أرباع العمر، صار مني، أحد ثوابت حياتي.

        وفجأة، وبما يشبه المعجزة، اختفى هذا الثابت المديد، فكان لا بد من اختلال التوازن الشخصي، بل اختلال المعنى وفرص البقاء الفاعل. أبدو لنفسي كمن كان يدفع باباً مغلقاً بإحكام، حتى إذا وقع الباب فجأة بعد أن كاد ينقطع نفسه وقع هو فوقه.

        أول إدراك للأزمة أخذ شكلاً ساخراً: لقد ترَكَنا النظام وحيدين، ماذا نفعل الآن في غيابه؟ كان التأهب النفسي والفكري والسياسي والأخلاقي للمعارضين من جيلي متوجهاً ضده، وها هو قد غدر بنا وسقط، فما العمل؟ يعود إلى البال في مثل هذا الوضع مقطع لقسطنطين كافافيس، الشاعر اليوناني الذي عاش في الإسكندرية في مصر: «والآن ما العمل بعد رحيل البرابرة؟ لقد كانوا نوعاً من الحل!».

        كان لي إيقاع يومي للعمل، روتين شخصي، ومشاريع كتابية أعمل عليها أو أخطط لها في الشهور والسنوات القادمة. وتعين أن أجمّد العمل على أكثر من واحد منها، لأن العمل عليها أو إنجازها لم يعد من الأولويات. ظهر لأول مرة خارجٌ لـ«المنفى» الذي كنت قد وطنت النفس على العيش فيه، خارج يمكن العودة إليه: سورية ما بعد الأسدية. وهو ما يعني تغيراً ما في هويتي، إذ لم أعد منفياً، أو ليس مجرد منفي. أعود أم لا أعود؟ هذا هو سؤال اليوم. وهو شاغل لا يسمح بالاستمرارية السابقة له، بل هو انقطاع على مستوى تصور الذات والدور وموضوعات التفكير. في إحدى مسوداتي، ذكرت أني لا أستطيع الكتابة عن المنفى إلا من خارجه، وهذا مثلما أني لم أستطع الكتابة عن السجن إلا بعد الخروج منه. والخارج الوحيد للمنفى هو ذلك البلد التعيس الذي اسمه سورية. ما العمل الآن ولدي خيار حقيقي في الرجعة إليه؟ وهل أرجع نهائياً؟ أو أمارس عودات تجريبية، إلى حين أستطيع أن أحسم أمري؟

        والأمر أصعب على المستوى العام. ما هو موقعي السياسي اليوم؟ لا يكفي أن يقتصر (أو يكاد) دور المرء على الكتابة، أو أنه لم يرد القيام بدور سياسي مباشر. هناك كثير من السياسة في عملي، سياسة مناهضة أساساً للحكم الأسدي، ما يعني أنه لم يعد لها موضوع اليوم. لا بد بالتالي من سياسة جديدة وكتابة جديدة بعد زواله. وهو ما يسهل قوله ويصعب فعله.

        ثم ما هو موقفي السياسي اليوم؟ لست من المنتصرين بسقوط النظام، فهل يكون من أسقطوه برابرتي الجدد، أعدائي؟ ليس بعد. خصومي، إذن؟ بلا شك. لكن ماذا يعني ذلك بالضبط؟ لا تكفي عبارة التفكير النقدي العامة للوفاء بمقتضيات موقع الخصومة وضمان استمرارية فكرية وأخلاقية بين الأسدية وما بعدها. لكنها أولى الفروض على أي حال.

        لا يمتنع من حيث المبدأ أن يكون المرء خصماً أو عدواً لعهدين سياسيين متتابعين، قام أحدها ضد الآخر. ما قد يمتنع في تصوري هو إمكانية حدوث ذلك دون أزمة في الأدوات والتوجه والتهيؤ النفسي.

        ومن أوجه الأزمة العامة كذلك مصير كتبي. هل صارت هكذا فجأة شيئاً من التاريخ، لا تخاطب إلا بدرجات تقل أكثر وأكثر من يعنيهم فهم المزيد عن أحوال اليوم؟ يكثف هذا التساؤل أزمة الكاتب الوجودية، فرصه في البقاء ومعنى عمله. يشبه تقادم أعمال الكاتب وهو حي وفاة الأبناء في حياة الآباء والأمهات. تجربة شديدة القسوة. 

        أياً يكن، العالم الكتابي السياسي تغيّر بالكلية فيما يخصني ويخص جميع من أعرفهم. حقل التجربة لم يعد هو نفسه، لا في بعده المعرفي ولا في بعده النفسي. وهو ما يحتاج إلى استكشاف وتعلم، مع كل احتمالات التعثر والغلط وسوء التقدير والقراءة. وسوء الحساب. يطرح هذا الوضع تحدياً صعباً ربما يستطيع الأصغر سناً الاستجابة له بمرونة أكبر منا، نحن الأسديون القدامى، أعني تحدي إعادة اختراع النفس، أو بعبارة أقل درامية إعادة هيكلة عتادنا وترتيب موقعنا وتشكيل استعداداتنا بما يُبقينا على صلة مؤثرة بما يجري، أو في أقصى الطموح يتيح لنا امتلاك زمام المبادرة الفكري حيال أحوال اليوم. تاريخ الكاتب في كل وقت هو تاريخ إعادة هيكلة مستمرة لعمله، تركيز على عناصر كانت متنحية وزحزحة إلى الهامش لعناصر كانت بارزة، وإدخال عناصر جديدة وإسقاط غيرها، وفي المجمل تحول في الهيكل من أجل تفاعل أفضل مع عالم متغير. اليوم، لا بد لإعادة الهيكلة من أن تكون أوسع نطاقاً وأكثر جذرية، «ثورة»، من أجل استعادة زمام المبادرة.

        لم أكن موجوداً في «سورية الأسد»، فهل سأوجد في سورية ما بعد الأسد؟ أعني الوجود العام، الفاعل والآمن والمحمي قانونياً. ليس الأمر مضموناً بحال. كان الشأن الديني ثاني أهم شاغل فكري سياسي بعد الحكم الأسدي، صراع مُعرِّف ثان، وهو مرشح فيما يأتي من سنوات لأن يصير الأول دون منافس. مع ما يحتمل أن يقترن بذلك من مخاطر سياسية ودينية، لا يقلل منها محدودية استعدادي اليوم لممارسة الرقابة الذاتية.

        و«اليوم» لا يُختَزل إلى واقعة سقوط النظام، بل يتعداه إلى ما يرجح أن يكون زمناً عاصفاً عنيفاً، شهدنا عينات إبادية منه حيال العلويين في الساحل، ثم حيال الدروز في مناطق الجنوب، مع اعتداءات واستفزازات هنا وهناك، تترك المرء مستنفراً، يضع يده على قلبه كل يوم خشية وقوع كارثة إضافية. تبدو سورية أشبه بحطب جاف، من شأن شرارة صغيرة أن تحوله إلى حريق كبير. كانت شرارة تافهة قد تسببت بحرائق في أشرفية صحنايا والسويداء، وبدءاً من جامعة حمص.

        كنا قد عشنا عقوداً من أزمة وطنية ومواطنيّة عامة، أزمة ثقة مفقودة متعددة المستويات بين السوريين، حرص العهد البائد على تغذيتها وتعميقها عبر إثارة خوف السوريين من بعضهم وارتيابهم ببعضهم. اليوم يثير التمركز السني للتكوين الجديد أزمة ثقة مماثلة، يتحتم أن تتطور إلى أزمة وطنية ومواطنية عامة مزمنة. يفاقم من ذلك ما يعرضه هذا التكوين من قمع فائض وغير وظيفي، حيال البيئة العلوية بخاصة، يحد من قدرة قطاعات من السوريين، لا تقتصر على العلويين، على التعامل معه بتجرد وانفصال نفسي.

        هذا للقول إن الأزمات الشخصية لا تقع في عالم منفصل عن الأزمات العامة، وأن حياتنا المتأزمة وجهٌ شخصي من أوجه أزمة بلدنا المستمرة والمتجددة.         

        وبعد، لا أعتقد أن ثمة ما هو استثنائي في وقوعي في أزمة بدأت من لحظة وقوع النظام أرضاً التي لطالما تمنيتها، ويخيل لي أنها تجربة شائعة في أحوال مشابهة. لكنها تجربة جديرة بالتأمل مع ذلك. تسعى وراء شيء بكل قواك وطوال سنوات وعقود، حتى إذا تحقق ما سعيت وراءه تجد أن قواك استُنزفت في ذلك المسعى، وأنه بدل أن يكون هذا التحقق نهاية ترتاح بعدها، هو بداية متعثرة متحدية. قرأت في مكان ما، قبل سنوات طويلة، أن على المرء أن يحاذر في اختيار أحلامه، لأنها قد تتحقق.

        الأزمة وضع حرج ضاغط لا يتبين المرء مخرجاً منه، ليس في طوره الحاد على الأقل. فما هو المسلك الأنسب في مثل هذا الوضع؟ ربما لا شيء خاصاً. لا شيء يتجاوز تجنب اللجاجة، وألا يضع المرء نفسه تحت الضغط والحرج. وربما ليس أكثر من التفاعل بدل التفاؤل والتشاؤم. وربما فتح العينين والذهن من أجل الفهم. ثم ترك الزمن يفعل فعله في الوقائع والأنفس. يمكن للأزمة على هذه الصورة أن تكون فرصة اكتساب وتعلم.

        كم من الزمن؟ لا يسهل التقدير. سورية اليوم في أزمة تغير مفتوحة النهايات وغير متحكم بها. ليس مضموناً كذلك ألا يقع حريق كبير أو انهيار وطني واسع. ولا هو مؤكد بعد أننا سائرون نحو أوضاع أكثر استقراراً، أو نحو تأزم أقل. أزمة التفاعل الشخصي لا تُحَل بمعزل عن الأزمة العامة مثلما تقدم. كانت الحقبة الأسدية زمن تأزّم مزمن، لا يبعد أنها ستكون صيغة الوجود الشخصي والعام لكثير من السوريين في هذه الحقبة الجديدة.

        الأزمات لا توجِّهُ بحد ذاتها نحو المستقبل، ويتواتر أن تُعامَل بإنكار، وأن تعالج بالانكفاء نحو الماضي، برجاء أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه في وقت مضى. في تاريخ سورية السياسي غير مثال على الإنكار والماضوية، ويبدو أن غير قليلين منا أقرب إلى هذا الشرط، الذي ينذر بخروج تام من عالم الفكر والفعل.

        وفي الختام، قد يجد الكاتب أو لا يجد حلولاً لأزمة التغيّر العام في عالمه على مستوى الأدوات والأفكار. لكن إذا كانت الأزمة عامة، بمعنى أنها تشمل الجميع، ومنهم بخاصة الشركاء في التوجّهات والقيم من كتاب وفنانين ومعتقلين سياسيين سابقين، تعيّن أن تكون المعالجات والحلول عامة بصورة ما، تتجاوز الفرد وقدرته أو انعدام قدرته على التغيّر، إلى ما بين الأفراد من روابط محتملة أو ضرورية الإنشاء، إلى مبادرات وأنشطة مغايرة، إلى جمعيات ومنظمات وشبكات جديدة. وهذا كي نخرج من مناجاة الذات إلى الحوار والتفاعل مع الغير، ومن الدوران حول النفس إلى احتمالات الفعل المؤثر.

موقع الجمهورية

—————————————————-

السوريون في مواجهة خطاب الكراهية/ فايز سارة

 7 يونيو 2025 م

يواجه السوريون تصعيداً في خطاب الكراهية؛ حيث تتكرر حالات التنمر، واتهامات التخوين والتشكيك، ودعوات النبذ والتدمير، والحض على سلوكيات الاستهانة بالآخرين وانتهاك حقوقهم، وجميعها تعزز التناقضات، وتنمي الصراعات داخل المجتمع؛ سواء في مستوى الأفراد أو الجماعات، وتهدد السلم الاجتماعي من جهة، وتعيق فرص المصالحة المستقبلية. وتبدو مؤشرات التصعيد واضحة على الإعلام، كما على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، عبر منشورات وتعليقات السوريين على «فيسبوك» وشقيقاتها -مثل «واتساب»- وأقوالهم على «اليوتيوب»، بصورة تتقارب مع واقع الحال على منصة «إكس» الأقل استخداماً من جانب السوريين.

صعود خطاب الكراهية ليس معزولاً عما خلَّفته سنوات الصراع السوري في العقد ونصف العقد الماضيين، وقد شهدت متغيرات كثيرة، أصابت السوريين بكوارث على مختلف الأصعدة، أبرزها مقتل مئات الآلاف من السوريين، وأكثر منهم لحقتهم إصابات وأمراض، وتعرضوا لإخفاء قسري، وأغلب السوريين دُمرت بصورة ما حياتهم وممتلكاتهم. ومن إجمالي السكان البالغ نحو 27 مليون نسمة، تحول أكثر من 10 ملايين إلى لاجئين في نحو مائة دولة، ونحو 5 ملايين آخرين صاروا نازحين داخل سوريا، كما أصاب الدمار الكلي أو الجزئي معظم المدن والقرى، وبعضها صار جبالاً من ركام، وكلها بعض نتائج الصراع.

لقد ضربت آلام السوريين ومعاناتهم الناتجة عن الصراع معاني الشعارات والهتافات عن الحرية والعدالة والمساواة ووحدة السوريين، التي كان يرددها المتظاهرون في مواجهة نظام الأسد وضد حربه عليهم، وعملت سياسة النظام وحلفائه على تكريس الانقسامات والصراعات الدينية والطائفية والمناطقية إلى جانب الانقسامات السياسية، فزادت الأحقاد في القول والفعل، مما عزز انطلاق خطاب الكراهية، وسهَّل انتشاره في كثير من البيئات.

وقادت التطورات السابقة إلى مزيد من الانقسامات والتشظي في المستويات الإثنية والدينية والطائفية والمناطقية وغيرها، وقد صارت أكثر وضوحاً في الخطاب والسلوك السوري في الإعلام، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي تؤكده منشورات وتعليقات السوريين في الإعلام وفي الفضاء الإلكتروني؛ حيث تظهر موجات من الكراهية المتبادلة، والاتهامات التي لا نهاية لها.

ويؤشر حجم الخطاب ومحتوياته ومدى انتشاره إلى أنه لا يقتصر على جهود أنصاره من مختلف الأطراف؛ بل هناك أطراف تدعمه، وتشارك في تحويله إلى تيار واسع لتحقيق الحد الأقصى من أهدافه في إثارة البلبلة والفتن، وتوسيع حدود الصراعات البينية في مستوى الأفراد والجماعات على السواء، وهذا على الأقل ما حصل في حالات مماثلة، بينها نشاط الجيش الإلكتروني السوري الذي شكَّله نظام الأسد بداية ثورة عام 2011، ولعب دوراً واسعاً في شيطنة معارضي النظام، وخصوصاً الفصائل، وتشويه نشاطاتهم بما فيها النشاطات السلمية.

إن أطرافاً مختلفة محلية وخارجية من تشكيلات أمنية وسياسية وميليشيات، تعمل في الخفاء تحت أسماء مستعارة وحسابات وهمية، على إذكاء الكراهية عبر آلاف الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، والمجموعات التي تنشر وتكرِّس انقسام السوريين، مما يحمل إمكانية تحول تعليق بسيط إلى ساحة حرب إلكترونية بين السوريين المختلفين، يتم فيها وصف المعارض بـ«الخائن» والمؤيد بـ«القاتل» دون تدقيق أو إثباتات، ويجري تبادل الاتهامات بألفاظ تفتقر لأي مصداقية وحسٍّ إنساني سليم.

وللحق، فإن الإعلام -وخصوصاً إعلام نظام الأسد وحلفائه وما يتصل بهم من وسائل التواصل- ساهم في تصعيد خطاب الكراهية، وتعميمه بكل الطرق وعلى مختلف المستويات، عبر التغطيات المنحازة، وحملات التشهير. وكان من نتائج حملات الكراهية بالقول والحض على الفعل، تعميق الشرخ المجتمعي، وتكريس انقسامات من كل نوع ومستوى، وتغذية العنف والتطرُّف في مختلف الأوساط، وإعادة إنتاج الخوف داخل المجتمعات السورية، وكلها مجريات تجعل من الصعب الوصول إلى تسويات سياسية عادلة ومقبولة في المستوى الوطني، أو في مستوى مكونات محددة.

وسط خطورة ازدياد الكراهية، يكون من الضروري طرح الأسئلة عن الحل، وعن الخطوات الإجرائية المطلوبة في مواجهة الكراهية، والتي لا بد من أن تتقدمها حملات التوعية عبر الإعلام والهيئات المجتمعية، من أجل تعداد وشرح أخطار خطاب الكراهية، ودعم وإشاعة خطاب المصالحة والسلم الاجتماعي، وخصوصاً بين أطراف التوتر، وتعزيز دور النشطاء والمؤثرين في كسر دائرة الكراهية، وكلها إجراءات لا يمكن أن تكون فاعلة خارج أمرين ينبغي التركيز عليهما: الأول: إشاعة إدانة اجتماعية وأخلاقية لخطاب الكراهية، والثاني: إقرار قوانين تجريم خطاب الكراهية، وإيقاع العقاب بأصحابه.

خطاب الكراهية ليس مجرد خطابات ودعوات إلى سلوكيات؛ بل هو سلاح يلحق الضرر بالمواطنين، وأولهم أصحابه؛ لأنه ينزع إنسانيتهم، ويدمرهم، وهو في الأبعد مما سبق، يهدد ما تبقى من أمل للسوريين في إصلاح وطن مدمَّر، مما يعني أن مسؤولية السوريين اليوم -أفراداً ومؤسسات- أن يعيدوا النظر في خطابهم وسلوكهم، وأن يبحثوا عن المشترَك، ويجعلوا الخير فيه غاية وهدفاً، وأن يسعوا من أجل المستقبل المشترك والأفضل، لا أن يكونوا أولياء لما مضى، وأسرى إرث خلَّفه الاستبداد والديكتاتورية ونظام الاستغلال والنهب تحت شعارات وأهداف كاذبة.

الشرق الأوسط

———————–

الاستثمارات في سورية من النيّات إلى التنفيذ/ سميرة المسالمة

09 يونيو 2025

لم يعد هناك شك في نية العالم للانفتاح على الدولة السورية في مختلف المجالات. ولعل التصريحات الأميركية والأوروبية تعكس شعوراً متزايداً بالمسؤولية والشراكة في عملية البناء، ما يحوّل العامل الخارجي الذي كان سبباً في تعطيل القدرة على النهوض من قعر الاقتصاد خلال الأشهر التي تلت تحرير سورية إلى عامل حاسم في تقويض ما خلفه نظام بشّار الأسد من خراب ممنهج، وتدمير وحشي لسورية والسوريين معاً.

في الوقت نفسه، دخلت الحكومة السورية بسرعة إلى اختبار لقدراتها الذاتية للقفز فوق حالة الانهيار إلى العمل المؤسّسي الجادّ، تارة مستخدمة عصا القوانين القائمة، على الرغم من تقادمها ومعرفتنا بظروف تشكيلها وفقاً لاحتياجات استثمارية تقونن فساد المرحلة الماضية، وتسهل عملية استيلاء أزلام النظام على منابع الاقتصاد وإنتاجيّته، وتارّة باتخاذ قراراتٍ تخالف القوانين أو الدستور المؤقت المعمول به، الأمر الذي يجعل من حاجة سورية إلى صناعة بيئة تشريعية متكاملة وحديثة، لا تقوم على الترميم أو الترقيع، بل على بناء منظومة قانونية متطوّرة تمنح الثقة للمستثمرين المحليين والأجانب، وتراعي ضمان استدامة عائدية الاقتصاد الوطني وحماية ملكيته.

من هنا، يمكن الحديث عن أهمية وجود مؤسّسة تشريعية، وفق معايير برلمانية تقنية، تمثل نخبة قانونية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية ورياضية، فكل مجالات العمل اليوم هي مشروع استثمار ناجح، لا يمكن تجاهله، ولا يمكن تعريضه لمخاطر الهفوات التشريعية، ووجود مجلس تشريعي فعّال ومتوازن ومستقلّ يضمن استصدار القوانين الواضحة والجامعة والمانعة، والتي تتوافق مع المعايير الدولية في مجالات الاستثمار وحقوق المواطنة والعمل، يعزّز من الاستقرار القانوني ويسرّع عملية دخول المستثمرين إلى الأسواق المحلية، فأحد أهم ما يشجّع على دخول الاستثمارات إلى أي بيئة، ويعزّز مناخ الثقة والشفافية، وجود منظومة قضائية نزيهة ومستقلة، قادرة على الفصل في النزاعات بسرعة وحيادية، وجملة قوانين متكاملة تحمي جميع الأطراف، وتضمن حقوق الملكية بكل أشكالها، سيما الملكية الفكرية، والتي يعدّها رواد الصناعة الحديثة حجر الزاوية في بناء اقتصاد حديث وقائم على المعرفة والابتكار، فما هو مطلوب من المجتمع الدولي صار في متناول يد السوريين، أسواق مفتوحة واتفاقات تجارية ومصرفية ومالية، أي أن الشقّ الخارجي، وهو رفع العقوبات الأميركية والأوروبية، وإزالة سورية من قائمة الدول المارقة، وتسهيل انسياب الشراكات الأجنبية إليها، والسماح بحرية حركة الأفراد من العالم وإليه، كما كان طوال السنوات الماضية صار محققاً، بل ومحرّضاً على الاستثمار والبناء.

وقد يكون ما هو مطلوب من السوريين حكومة وشعباً الإرادة المحلية الحازمة بإطفاء الحرائق السياسية التي تنتقل من مكان إلى مكان، لتوفير الاستقرار السياسي والأمني الذي يراهن عليه رأس المال الجبان كما يقال، فاختبار قدراتنا على التحكّم بخلافاتنا لتكون رافعة لتوجيه البيئة التشريعية الضامنة لحقوق السوريين وتنوّعهم هو الامتحان الصعب الذي تنجح فيه الدولة السورية، كلما توسّعت حدود قدرتها على صناعة السلم الأهلي وتقلصت مساحة خلافاتها مع أبعد النقاط عن مركزها في دمشق، ما يسمح بانسياب نتائج الانفتاح الاقتصادي الذي يتوجّه الاستثمار المحلي قبل الأجنبي على كامل الأراضي السورية، ليكون الكفّة الراجحة في ميزان المصلحة الوطنية.

كل استثمار لا يأخذ بالاعتبار عوامل نجاحه وأمانه عابر، يراهن على الأزمات وليس على حلولها، وفي أجواء المنازعات المحلية قد يختلط الغثّ بالسمين، ما يجعل مسؤولية الجهات الحكومية كبيرة على جبهتين، داخلية لتأكيد سيادة مؤسساتها المعنية واستشارة الخبراء والمحكمين، وخارجية في التحقق وضمان دخول المؤسسات القوية والمجرّبة، مع إتاحة المجال للمبتكرين والمبدعين المحليين والدوليين لتكون سورية مكاناً آمنا لأعمالهم وفق معايير دولية واحترافية، ففي سورية تجارب لا يمكن تجاهلها في الاستثمار الوهمي والفاسد.

تبقى الصورة الاقتصادية لسورية انعكاساً لنجاحات الواقع السياسي، ما يجعل من كل مصالحة داخلية رافعة حقيقية لمؤشّر أرباح أسهمنا المحلية والدولية، فهل تفعلها القوى السياسية على اختلاف مسمّياتها، علوية ودرزية وكردية، وأيضاً القوى فوق الطائفية، لمصلحة السوريين جميعهم؟

العربي الجديد

——————————-

حزب حاكم جديد في سورية/ بشير البكر

07 يونيو 2025

صار واضحاً أن “الأمانة العامة للشؤون السياسية” تتولّى دور جهاز الدولة الحزبي في سورية الجديدة. كانت الخطوة الأولى لها، بعد الإعلان عنها في مارس/ آذار الماضي، تسلم مقار حزب البعث الذي جرى حله رسمياً. ومنذ ذلك الحين، أخذ الرأي العام السوري يتعرّف، تدريجياً، إلى التشكيل السياسي الجديد الذي بدا مرتجلاً وغامضاً، كونه لم يكشف عن برنامجه وأهدافه ودوره ونظامه الداخلي، كما لم يفتح باب الانتساب إليه، أو يعقد اجتماعاً جماهيرياً واحداً في أي محافظة.

أثار الاستغراب قرار تشكيلها من وزير الخارجية، أسعد الشيباني، لأن عملها يختصّ بالشأن الداخلي. لكن الغموض سرعان ما تبدّد حينما تبيّن أنها استمرارية للهيئة السياسية التابعة لهيئة تحرير الشام التي كان يتولى مسؤوليّتها في إدلب. ولم يتخل عن هذه المهمة حين تعيينه وزيراً، قبل أن تجرى تسمية أي شخص آخر في موقع رسمي في الدولة، ما يدلّ على مكانة موقعه التراتبي والدور المرسوم له، إلى جانب رئيس الدولة أحمد الشرع، والذي بات يرافقه في أغلب نشاطاته الداخلية والخارجية.

لو أن اختصاص “الأمانة” اقتصر على هيئة تحرير الشام، لما أثارت الأسئلة من حولها، لكن اهتمامها بعمل الحكومة، وظهور إشارات قوية على تحولها إلى حزب، سببا إثارة الجدل. لا أحد يعارض أن يكون لـ”الهيئة” حزبها، بل من المحبذ أن تتحوّل إلى حركة سياسية، وتخلع عنها البدلة العسكرية. وبقدر ما تقدّم من تطمينات للعالم الخارجي عن مغادرة ماضيها الجهادي، يحتاج السوريون لأن تفتح الباب واسعاً أمام حياة سياسية على أسس قانونية تسمح بإنشاء أحزاب، وفق ما هو متعارف عليه. وأول شرط لذلك ألا تمنح “الهيئة” نفسها امتيازات سياسية تحت مبرّر “من يحرّر يقرّر”، وهي بذلك تعيد تكرار تجربة حزب البعث، الذي ضمّن الدستور مادة تسميه قائداً للدولة والمجتمع، وهي المادة الثامنة سيئة الصيت التي ساهمت في تفجير ثورة عام 2011.

عدم تكرار تجربة حزب البعث أمر في غاية الأهمية، والاستفادة من دروسها ضروري جداً، لأن “البعث” بدأ حزباً جماهيرياً حاز شعبية واسعة بفضل الشعارات التي رفعها والأهداف التي نادى بها. ولكنه مارس عكسها، ثم سرعان ما دخل في نفق الصراعات داخله، ومن ثم انخرط في دورة عنفٍ بين أطرافه دمّرت البلد، ومنعته من بناء نفسه على الصعد كافة.

تحول “البعث” من حزب جماهيري إلى جهاز أمني قمعي وذراع ضاربة للديكتاتورية التي بناها حافظ الأسد، وبذلك أقصى المجتمع من السياسة، وحارب الأحزاب المعارضة التي ناضلت من أجل الحرية والكرامة، وضحّت من أجل وطن لكل أبنائه، وديمقراطية تقوم على انتخابات تعدّدية، وصحافة مستقلة، وحرية أحزاب، ورغم أنها تعاني اليوم من تراجع كبير وانعدام وزن، فإن ذلك لا يعني التسليم بسياسة الأمر الواقع، لأن الحركة السياسية لن تلبث أن تعاود نشاطها، كيلا ترجع سورية مملكة للصمت، كما كان عليه الوضع خلال حكم الأسدين، الأب والابن.

قوانين المرحلة الانتقالية يجب أن تسري على الجميع، لا أن تستثني “الهيئة”، وتسمح لها ببناء جهازها الحزبي بالاعتماد على موارد الدولة، من خلال الاستيلاء على مقار حزب البعث وأملاكه، التي يجب أن تنتقل إلى الملكية العامة. وحتى تستقيم الحياة السياسية، لا بد من وضع قانون للأحزاب، وكفّ يد “الأمانة” وعدم تدخّلها في شؤون (وعمل) النقابات والاتحادات الشعبية، التي عيّنت لجان لتسييرها، وتركتها تمارس عملها على نحو مستقل من خلال عقد المؤتمرات الخاصة بها لانتخاب مجالس لتسييرها وادارتها على نحو مستقل عن سلطة الدولة.

العربي الجديد

—————————–

أزمة صامتة بين القاهرة ودمشق.. ماذا يقلق مصر من سوريا الجديدة؟/ فراس فحام

2025.06.08

لم تفلح المساعي الدبلوماسية في تحقيق تقارب بين مصر والإدارة السورية الجديدة، والتي كانت أبرزها وساطة تركيا واحتضانها للقاء بين وزيري الخارجية السوري أسعد الشيباني والمصري بدر عبد العاطي في العاصمة أنقرة بشهر شباط/ فبراير الفائت، حيث اتجهت القاهرة إلى التصعيد ضد سوريا فوافقت محكمة القضاء الإداري في مصر مطلع حزيران/ يونيو الجاري على النظر في دعوى مقدمة ضد الرئيس السوري أحمد الشرع ذات طابع سياسي، تتهمه بارتكاب انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان ضد أقليات طائفية ودينية في سوريا، خاصة في منطقة الساحل السوري، وأتت هذه الدعوى بشكل مغاير لما صدر عن الاتحاد الأوروبي من تقارير تؤكد تورط فلول نظام الأسد في الأحداث التي اندلعت في الساحل السوري قبل عدة أشهر.

وتزامن قبول الدعوى ضد الشرع مع تشديد الإجراءات المصرية على الطلاب السوريين الدارسين في الجامعات، والتشدد في منحهم أوراقهم الرسمية، أو منع عودة بعضهم إلى مصر إثر زيارتهم لسوريا، أو إيقاف قيود بعضهم بحجة عدم حصولهم على الموافقات المطلوبة.

النموذج السوري مؤرق لنظام الحكم المصري

لم تخف السلطات المصرية مخاوفها منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد عبر عملية عسكرية من قبل فصائل المعارضة السورية وعلى رأسها هيئة تحرير الشام ذات الخلفية الإسلامية، حيث بادرت إلى اعتقال سوريين احتفلوا بسقوط الأسد، كما تأخرت مصر بالسماح برفع العلم السوري الجديد على السفارة السورية في القاهرة، وازداد التشديد في مسألة منح إقامات للسوريين.

الأرق المصري الرسمي فيما يبدو ازداد مع توالي الاعتراف الدولي بالإدارة السورية الجديدة على عكس ما كان متوقعاً بحكم خلفيتها الفكرية، فقامت دول عديدة لديها حساسية بالغة من حكم التيارات الإسلامية مثل فرنسا والإمارات بالانفتاح على الإدارة السورية، فاستقبلت مسؤوليها، وعقدت معها اتفاقيات اقتصادية، في ظل خطاب غير مسبوق تقدمه الإدارة السورية لم تستخدمه قبلها تيارات إسلامية وصلت إلى الحكم متعلق بالتأكيد على المواطنة، والعمل ضمن أطر الدولة ورفض تصدير الثورة.

الاعتراف الدولي وخاصة الخليجي بالإدارة السورية الجديدة آثار المخاوف لدى نظام الحكم في مصر الذي لديه تاريخ طويل من الصراع مع الجماعات الإسلامية وآخرها جماعة الإخوان المسلمين، لأن هذه التطورات قد تشكل حافزاً جديداً لتحرك التيار الإسلامي في مصر التي تشهد استياء شعبياً متراكماً على أداء السلطة الحاكم بعد تراجع الدور المصري الإقليمي، وتدهور مؤشرات الاقتصاد.

كثافة الاتصالات الإيرانية المصرية منذ مطلع حزيران/ يونيو الجاري، حيث زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي القاهرة، ثم أجرى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان اتصالاً هاتفياً مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تعكس الاستياء المصري من النهج الخليجي وخاصة السعودي تجاه قضايا المنطقة بما فيها سوريا التي كانت حاضرة في القمة بين الرئيس الأميركي ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع غياب مصر.

التحالف الخليجي التركي السوري وسلبياته على مصر

تتالت المؤشرات على تشكل محور إقليمي يشمل دول الخليج العربي وتركيا وسوريا بعد إزاحة الأسد وتراجع دور إيران، وهذا المحور تجمعه المخاوف الأمنية، والمصالح الاقتصادية.

في مطلع عام 2025، وبعد أقل من شهرين فقط على سقوط الأسد، عاد الحديث عن إحياء خط الغاز القطري الذي من المفترض أن ينقل الغاز إلى أوروبا مروراً بسوريا وتركيا، وبالتالي استعادت سوريا فرصها بأن تكون ممراً للطاقة الخليجية إلى أوروبا سواء الغاز القطري أو النفط السعودي والعراقي، وربما هذا ما يفسر حرص فرنسا على تجديد عقد استثمارها لميناء اللاذقية.

التموضع الجديد لسوريا، واحتمالية استعادة دورها في خطوط الطاقة من الشرق إلى الغرب يؤثر على فرص مصر التي تطمح لتعزيز دورها مع أوروبا التي تبحث عن بدائل للغاز الروسي، حيث تستجر مصر الغاز من مصادر متعددة، وتقوم بتسييله تمهيداً لاستهلاكه المحلي، وتصدير قسم منه إلى أوروبا، وفي هذا السياق أبرمت مصر في آذار/ مارس الفائت اتفاقيات مع شركاء أوروبيين جدد منهم “إيني” الإيطالية، ومع قبرص من أجل تطوير حقل غاز كرونوس لنقل إنتاجه إلى محطات التسييل المصرية تمهيداً لتصديره إلى أوروبا.

تنشط مصر ضمن منتدى غاز المتوسط الذي يضم دولاً أخرى مثل اليونان وقبرص وإسرائيل، وسبق أن دخلت مصر في صراعات مع تركيا لأسباب عديدة من ضمنها التنافس على تصدير الغاز إلى أوروبا، وبناء عليه تم استثناء تركيا من المنتدى الذي كانت تراه أنقرة أنه موجه بدرجة أساسية ضدها، ويبدو أن موقع سوريا يسهم أيضاً في تغذية القلق المصري تجاه الدور السوري في مجال نقل الطاقة إلى أوروبا خاصة في ظل احتمالية تأسيس مشاريع مشتركة مع دول رائدة في مجال إنتاج الغاز مثل قطر.

ما مستقبل التوتر بين دمشق والقاهرة؟

لا تمتلك مصر أدوات تأثير في الشأن السوري، باستثناء علاقتها مع تيار صغير كان ينشط ضمن المعارضة السورية قبل سقوط الأسد متمثل بمنصة القاهرة التي انقسمت على نفسها أيضاً، كما أن مصر لا قدرة اقتصادية لديها على التدخل السلبي في الشأن السوري، وأبرز ورقة ضغط لديها هي التضييق على الطلاب واللاجئين السوريين، وهذه الورقة ستفقد أهميتها تدريجياً بعد إمكانية عودة شريحة كبيرة من اللاجئين إلى سوريا، وفتح دول أخرى لأبوابها للطلاب السوريين مثل تركيا والسعودية.

على المدى المتوسط والبعيد يمكن أن تسهم دول لديها حالياً علاقات إيجابية مع الطرفين في تهدئة التوتر، وإدارة الخلافات وعقد توافقات والحديث هنا عن تركيا التي نجحت في وقت سابق بإدارة خلافاته مع مصر فيما يتعلق بالتنافس على ملف الطاقة وحوض المتوسط عموماً بما فيه ليبيا، خاصة أن مصر بات لديها هواجس كبيرة من السياسات الإسرائيلية في المنطق

تلفزيون سوريا

—————————-

سطوة الدم في سوريا الأسد/ نوار جبور

09.06.2025

الدم السوريّ أعاد “الحياة العارية” إلى الواجهة، رسّخها القتل في الشارع كوضعية علنيّة، يُقتل السوري علناً أمام العدسات من دون أن يُدان أحد بجريمة قتله! القتل الذي لم يكن يُرى صار حاضراً، والجثّة التي كانت تُخفى ظهرت للعلن، ولادة الدم في 2011 هي ولادة القتل بوصفه موصوفاً وانضباطياً وتأديبياً، بدل كونه محواً للأجساد، أصبح ترسيخاً للسيادة، لشرط القتل في حال خالف أحدهم التوجيهات، وانضمّ إلى حشد يهتف علناً”.

كلما رأى الدم، حتى في أحلامه، يُصاب بنوبات توتّر وانهيار، كأن الدم يقول له: “أنت لست رجلاً قوياً، بل قاتل”.

فيودور ديستويفسكي- الجريمة والعقاب

منذ التسعينيات في زمن حافظ الأسد وصولاً الى زمن حكم بشّار الأسد، أخرج نظام الأسد الأب والابن العنف من المشهد الواضح في الشارع. كان العنف يقع في الخفاء، وحصل النظام على تميّز في القتل الخفيّ، فصار الجسد الخاضع للعنف لا يُدمى أمام الجسد خارج المعتقل أو قبو التعذيب، أُقصي الدم حينها عن المساحة العامّة، وبقي سائلاً شفّافاً في المخيّلة، مما أعطى الجسد العلني سيناريو وحيداً: النجاة عبر الجسد المطيع، الذي أضحى ذاتاً مِطواعة بشكل كلّي.

بعد العام 2011 حُرم المُعنَّف من الجثّة، وعلّق حداداً من حوله، وصار القتل أسطورة، والأسطرة هنا تقوم مقام الاعتراف: لا اعتراف، بل توقّع، وظنون، وخوف، وكلّ هذا يمنع التمرّد، كما أن المواجهة مع المُعنِّف بعيدة وخفيّة، إنها ولادة السأم وولادة نسيان موجّه أمام شناعة القتل العلنيّ، وإباحيته، انضباط الجسد – الذات يكون لمن يعارض السلطة، ومن يحاول استعادة ذاكرة/ جثّة منها.

وصل بشّار الأسد إلى سلطة أسّست في السوريين وعياً مشوشاً، وجثّة مرفوض الاعتراف بها، لأنها لم تعد تضع دمها كمشروع للتأسيس في الشارع، كحالة الطليعة المقاتلة مثلاً، ورث بشّار القتل الدموي عن أبيه، لكنّه لم يُشارك في المقتلة، بل بالانضباط فقط، في الحفاظ على انضباط الناس وتخويفهم في سنين حكمه كـ”رئيس شابّ”.

الناس بدأوا يُقصون كلّ توقّع حقيقي لعنف النظام، خلقت السجون اللا مرئي الذي كان كافياً، المعاناة من دون أن تُرى، ولم يكن للسوري حقّ في أن يُقتَل علناً، لقد أفقد النظام السوري السوريين ذواتهم، وهي تحاول إسقاط الحزن على الجثّة، وحتى على البلاد، لا تعبير، لا حداد، هنا فراغ الذات. عاشت الذات السورية قلقاً: أين تُسقط ذاتها اجتماعياً؟ وكيف تُنهي حدادها المؤجّل؟

سؤال الدم

في عام 2011، كان على التشويش أن ينتهي. السؤال الذي طرحه المتظاهرون كان كفيلاً بجواب خارج الإخفاء: الدم. تجرّأ الناس على وضع دمهم على الشارع. ما أسّسه حافظ الأسد لابنه بحرمان الناس من رؤية الدم في الشارع، وأن العنف المؤجّل والخفيّ هو لا مرئي، أسّس لصدمة مؤجّلة في رؤية الدم، فظهرت كلّ الأحداث المؤسطرة والمتخيّلة.

الدم أعاد “الحياة العارية” إلى الواجهة، رسّخها القتل في الشارع كوضعية علنيّة، يُقتل السوري علناً أمام العدسات من دون أن يُدان أحد بجريمة قتله! القتل الذي لم يكن يُرى صار حاضراً، والجثّة التي كانت تُلغى ظهرت، ولادة الدم في 2011 هي ولادة القتل بوصفه موصوفاً وانضباطياً وتأديبياً، بدل كونه محواً للأجساد، أصبح ترسيخاً للسيادة، لشرط القتل في حال خالف أحدهم التوجيهات، وانضمّ إلى حشد يهتف علناً.

لقد خلق عنف النظام في عام 2011 الجثّة التأسيسية، الجثّة التي لا يمكن حذفها، الجثّة التي أُجبر العالم على أن يأخذها بـ”عين” الاعتبار،  لم يكن الدم مجرّد أذى، بل عرض كامل لكلّ القلق، لكلّ الكتمان، ليُشكّل إرادة. الدم كان كافياً لينهار الإخفاء، وليظهر الوجه، وليقول السوري: أنا موجود، حتى لو كنت جثّة. دفع الدم فكرة “الحياة العارية” خارج أقبية السيادة، لأن من قُتل لم يُمحَ، بل عاد من محوه، ووقف في منتصف الصورة، وسُمع اسمه.

طبقات الدم

كان إسقاط تمثال حافظ الأسد محاولة لجرح القداسة التي يُضفيها النظام على صنمية صوره وتماثيله، فظهر الدم. مواجهة المظاهرات السلمية بالسلاح بدأت من هنا، من سقوط التمثال، من أول رصاصة، من أول جثّة. كلما ازداد العدد والمسافة بين فعل السلميين والنظام، ازداد الدم، والدم كان انهياراً لهندسة الطاعة التي حاول النظام توكيدها والإقناع العمومي بها.

 كان الدم مؤسّساً للعنة الأسد الأب، تجاوزها تلويث الأرض بالدم، تجاوزها الأسد  بأسطورة مؤسّسة على قوّة، قوّة لم يكن هو فيها القاتل بل الأب. كان الأسد الابن وارثاً لدم غسل يده منه في الداخل السوري، لقد قتل أو تورّط أو عرف بمقتل لبناني من دون دم، كان يغتال، بدأ هذا منذ رمزي عيراني وتسلّم الأسد الابن ملفّ لبنان.

كان بشّار طالباً لهذا الدم ليقلّد أباه الذي كان قاتلاً وحاكماً، فالأسد الابن لم يعرف نموذجاً للحكم سوى ذاك الذي وضعه والده، فاستحضر درجة البداهة الوحيدة التي امتلكها، أي أن يكون حاكماً وقاتلاً مثل أبيه، ما نظّفه أبوه تمرّد عليه، ووجّه السلاح ليُظهر الدم.

كانت علنية  الدم لحظة انهيار التمثّل الرمزي بلغة لاكان، وظهور الواقعي المفرط في فحشه، الواقعي المنفلت من أي صنع. فهل كان ما شهدناه في عام 2011 هو بين مآلين: انكشاف الواقعي؟ أو الكواليس؟ كأن السوري وجد نفسه فجأة في مسرح بلا ستار، بلا تمثيل، بلا فصل بين ما هو من الممكن فهمه.

 هناك قاموس مفترض لتشويش السوري وراء القضبان، للمعتقل جُمل متداولة تشكّل ما يمكن تسميته بـقاموس الرعب المحكي:

أخذوه هالهفا.

نفوه.

اعتقلوه.

روّحوه.

راح عبيت خالتو.

قشّوه.

لمّوه.

عزموه عفنجان قهوة وما رجع.

صار ورا الشمس.

بضيعتو ما اندفن.

خفوه.

كبسوه متل المخلل.

فص ملح وداب.

عفطوه.

هذه الجمل ليست مجرّد كلام دارج، بل نظام حماية رمزي، يُشارك فيه السوري قسوة النظام بجمل تصف الاختفاء القسري من دون أن تنطق به، وتؤطّر الرعب وتُخفيه في اللغة.

ما لم يظهر من النظام في عهد بشّار، بقي محمولاً في هذه اللغة، وظلّ التشويش قائماً، وظلّ المعتقل يتأرجح في الكناية، في التلميح، في الرعب الذي لا اسم له. تمثّلت الذات السورية في الحياة اليومية بهذه الجمل كمواجهة مع الخوف، ورفض للدم، واختباء من كلّ ما يحمله من كواليس.

أخفى النظام كلّ شيء خلف ما يمكن تسميته بـكواليس الدولة، حيث تُصنع السلطة، وتُخفى أدواتها، ويُعاد ترتيب السلوك ليتناسب مع “الواجهة الأمامية” التي يراها الجمهور. لكن ما كان النظام يُخفيه خلف القضبان خرج إلى المسرح، الذي فشل في ضبطه أمام المظاهرات.

فشلت الدولة في أداء دورها المعتاد، وانكشف المشهد. لم تعد هناك واجهة أمامية، بل كلّ ما كان في الخلف خرج إلينا، ظهر الدم، وكسر التمثيل، وانتهى التمايز بين المسرح والكواليس، ما كان بيروقراطياً في تصوير الجثث، تحوّل إلى متاهة مرعبة من صور الموت المُمَأسس، فجّرها “قيصر” في تسريباته.

لم يعد هناك تشويش، بل يقين جديد: أن القمع لا يُخفى، وأن العنف لم يعد في الخلف. خرج الدم بالكواليس كلّها إلى الشارع، إلى الكاميرا، إلى الهواء، لكنّ النظام لم يفهم هذا الانهيار، فاستعان بأداته الوحيدة: الدم كأداة إغلاق. أراد أن يُغلق الكواليس التي انفجرت، لا بإخفائها، بل بالمزيد من الدم، بالقتل العلني، بالسحل، بالتصوير، ولم يكن ذلك ترميم للواجهة، بل انكشاف نهائي، لم يعد التشويش نافعاً بعده، ولم يعد الخوف يحتاج إلى لغة سرّية.

بدأ الدم، في سوريا، ككواليس للمخيّلة الجمعية، لحظات خلفيّة توثّق ما لا يُقال. شيئاً فشيئاً، صار تصويره يستحوذ على المشهد: يُسجّل، يُنشر بسرعة، يُعلّق عليه، يُعاد تداوله، لم يكن مجرّد أثر، بل رجاء محموم بالتدخّل أمام آلة القتل.

كانت الإرادة السورية تعرف فشل اللغة والحوار، فانتقلت إلى لغة أخرى، دون صوت ودون صورة اللغة الرسمية. لم تعد الكلمات تكفي: كان السوريون يريدون تصوير شارع نازف، دموي، مفتوح على الجرح، أرادوا أن يقولوا: انظروا إلى الجرح، لا تسألونا عن النصّ.

لم يكن لدى السوري العادي الذي حمل الكاميرا رغبة في الشهرة أو نقل الحقيقة فقط، بل رغبة لا واعية في السيطرة على الرعب الكامن فينا جميعاً. كان التصوير نفسه إعادة توزيع للصدمة: من صوّره لم يعد الضحيّة الوحيدة، لقد تحرّر من عبء رؤيته وحيداً.

هكذا، أصبح الدم المسفوك في الشارع مادّة تأسيسية للمخيّلة السورية. لم يعُد الخوف من رؤيته، بل الإلحاح على حضوره. صوّرت البيوت ضحاياها، وسُجّلت الإسعافات المنزلية، وكأن الجسد الجريح لم يعد شأناً خاصاً، بل وثيقة سياسية، وعاطفية، واستغاثة جماعية.

صار الدم يُنتج سردية: ليس فقط عن القتل، بل عن معنى أن تُقتل وأنت تُوثّق، أن تُسعف ويُصوَّر جرحك، أن تصرخ ليُعاد توزيع صرختك. كان مصوّر الدم يظنّ بنجاته، أنها أنانية المصوّر بأنه حاز صورة، لكن في لا وعيه كان فرحاً بالنجاة.

في سوريا، كان الدم يُسفك ويُغسل، يُسفك بوصفه كواليس وبوصفه واقعاً في الشارع،  ويُغسل بوصفه استعادة لسلطة الانضباط، كأن السلطة لا تحتمل أثره، ولا تريد له أن يبقى. لم يُترك الدم على الأرض، لم يُعطَ فرصة أن يكون ذاكرة، أو علامة، كان يُمحى بعد كلّ مقتلة، كما لو أن ما جرى لم يقع، هيكتور قال وهو يحتضر  في “الإلياذة”: “ستُهزم يوماً كما هزمتني، وسيُراق دمك أنت أيضاً”.

وصلنا إلى لحظة تحوّل الدم من القداسة إلى الدناسة، حين انقلب التأويل، وصار الدم مادّة مشاعة، وسيلة للجميع، صار كلّ من يحمل سلاحاً يتكلّم باسم الدم، وكلّ جماعة تملك ميتاً تدّعي الوصاية على الأرض. هكذا، انهارت رمزية الدم، وتحوّلت ذاكرته إلى حرب أهلية.

الدم بحدّ ذاته، عند الفيلسوف جورج باتاي، ما إن يسيل في العنف حتى يكون بين المدنّس والمقدّس، حيث يتصاعد بوصفه سائلاً يتجاوز النظام الأخلاقي والاجتماعي. إراقة الدم تفتح الباب على المحظور، على ما لا يمكن ضبطه، وما لا يُستعاد كما كان، بين أن يكون دمنا مقدّساً ومدنّساً في آنٍ واحد، كان النظام يريد للدم أن يُفقدنا الحدّ، أن يُسقطنا من رمزيته، فلم نعد نعرف ماذا نفعل أمامه، ولا كيف نحمله أو نفهمه.

لقد شكّل الدم في السرديات الكبرى معنى لتكوين الجماعة، وتحديد توجّهات عنفها واتجاهاته، لكن في سوريا، تفتّت هذا المعنى، وتحوّل الدم إلى ملكيّة فئوية، وصار الكلّ يدّعي تمثيله، والجماعة لم تعد واحدة، بل انقسمت على دمائها، لا باسمها. كانت حاجتنا للدم هائلة.

الدم ليس إقصاءً للغة فقط، ولا للاعتراف، بل لأنه كان يُريد الصمت، وكان الدم عائقاً، فيُغسل ويُشطَف، كأنه فائض لا يجوز أن يبقى، وكان الدم في سوريا يسيل قبل أن تُقال اللغة، وكان يزداد إن ازداد الغناء أو الانسجام، وكان النظام يقطع اللحن ويكسر التناغم بنشاز الرصاص، وكان الأمن مضطرّاً إلى أن يصمّ أذنيه ويقتل، لأن الصوت كان احتمالاً للفهم، وكان الدم يملك طقساً، طقساً لا يُراد له أن يُقام.

لكن الدم، في سوريا وحدها، فقد معناه لوقت طويل، لأنه دم يُشطَف أمام مرأى الأهالي، دم يُمحى كأنه لم يكن، يُغسل بسرعة، وبلا أثر، وبلا انتظار للحزن، وكان ذلك أشدّ أنواع الموت وحشية، لا لأنه مريع فقط، بل لأنه بلا طقس، بلا وداع، بلا صرخة، كانت المدينة كلها تُمنع من الحزن، وكان شطف الدم يليه عرض للقوّة، ومسيرة للنظام، ثم إجبار على العمل، وتنشيط الحياة في المدينة، كأن شيئاً لم يكن.

خلق النظام مدناً للغة المرفوضة، مدناً يخاف فيها الصوت أن يتحوّل إلى مظاهرة، أو إلى طقس، أو إلى نواح، مدناً لا يُسمح فيها للحزن أن يُعلن، ولا للدم أن يُحكى، مدناً تخاف الإصغاء، فتُقتل قبل أن تسمع، وتصمت حتى حين تريد أن تبكي.

هذا النص مُهدى إلى عمّار المأمون وهناء جابر.

– صحفي سوري

درج

———————————–

الجوع أو الركوع”: في استعادة سياسة التجويع بسورية/ سمر شمة

9 يونيو 2025

استخدم نظام الأسد البائد في حربه ضد الشعب السوري بعد انطلاق الثورة السورية جميع أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرمة دوليًا، من الكيماوي، إلى القصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة، إلى القنابل الفراغية “أم كل القنابل”، وغيرها من أدوات الموت، واستعان بطائرات السوخوي الروسية، وبالنظام الإيراني، وحزب الله، والميليشيات الشيعية، للقضاء على المدن والبلدات الثائرة، وأدخل التجويع إلى ترسانته، واستخدمه سلاحًا لقتل الأطفال والنساء والمسنين، لإجبار السوريين على النزوح والتهجير تحت شعاره الذي ملأ به الساحات وحواجز التفتيش وكل مكان: “الجوع، أو الركوع”.

حدث ذلك في القرن الواحد والعشرين عندما منعت قوات النظام الأمنية والعسكرية الغذاء والدواء والماء والوقود، والكهرباء عن المدن والأرياف، وأجبرت السوريين على أكل الحشائش وأوراق الأشجار، ولحم القطط والكلاب، وفق ما وثقته آنذاك مؤسسات قانونية وإنسانية.

وقد تبنى مجلس الأمن الدولي في 22 شباط/ فبراير 2014 قرارًا بالإجماع يطالب بتقديم العون، والسماح بعمليات العبور الإنساني عبر الحدود وخطوط إطلاق النار، مهددًا باتخاذ تدابير لاحقة في حال عدم التنفيذ. غير أن النظام السوري أوغل في استبداده واستباحته لسورية وشعبها، حيث شابهت جرائمه جرائم المغول والتتار، وكل مجرمي العصور الماضية، وبقي قرار المجلس حبرًا على ورق. وأعلنت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2015 أن المجاعة ضربت نصف الشعب السوري، وأن هنالك حوالي 13.6 مليون جائع، والعدد مرشح للزيادة.

سياسة التجويع قديمة، وقد استخدمتها القوى الاستعمارية والأنظمة القمعية الاستبدادية على مرّ التاريخ لإخماد ثورات التحرر من الاحتلال، ومن الديكتاتوريات، وهذا ما يحدث الآن في غزة التي تعيش حرب إبادة وتطهير عرقي، وحرب تجويع أدت إلى استشهاد عدد كبير من الفلسطينيين جوعًا، أغلبهم من الأطفال، والنساء الحوامل، على مرأى من العالم أجمع. وهذا ما حدث أيضًا في سورية على مدى سنوات طويلة من نظام وحشي ضد شعبه الأعزل، رغم اعتبار “سياسة التجويع” أمرًا غير أخلاقي بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، ورغم حظرها من القانون الجنائي الدولي والإنساني الذي يمنع استخدام التجويع وسيلة في الحروب والنزاعات المسلحة.

لجأ النظام المخلوع وحلفاؤه منذ بداية الثورة إلى فرض حصار خانق على المدن والبلدات السورية التي شاركت في الثورة، ومنها: ريف دمشق: دوما ـ مضايا ـ داريا ـ معضمية الشام ـ الزبداني ـ مسرابا ـ عربين، ومحافظات حمص ـ حلب ـ دير الزورـ ودرعا، والقائمة لا تنتهي.

كان الوضع في الغوطة الشرقية كارثيًا جرّاء القصف الشديد والحصار الخانق والتجويع الذي عانى منه سكانها منذ عام 2013، وتسبب في انتشار الأمراض القاتلة، والأوبئة، والموت جوعًا. وقد ذكرت وكالة فرانس برس آنذاك أن 9700 طفل يعاني 80 منهم سوء تغذية حاد وشديد، و200 آخرين يعانون من سوء تغذية حاد متوسط. وقال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، عام 2017، إنهم وثقوا استشهاد ما لا يقل عن 397 مدنيًا، بينهم 206 أطفال، و67 سيدة في الغوطة الشرقية، بسبب الجوع، ونقص الدواء، منذ بدء الحصار.

وفي مدينة دوما، التي تُعد مركز الغوطة الشرقية، وتحيط بدمشق ببساط أخضر وبأشجار الفواكه الشامية المعروفة، بدأ الحصار والتجويع فيها منذ عام 2012، مترافقًا مع العمليات العسكرية الهمجية، واستخدام الغازات السامة. وشهدت المنطقة نقصًا كبيرًا في الغذاء والمواد الطبية، وخصوصًا عام 2017، مما تسبب في وفاة أعداد كبيرة من المدنيين، ودفع الأهالي للبحث عن أي طعام بين ركام المنازل والأراضي الزراعية التي دمرتها قوات النظام بمنهجية وإصرار.

وتعرضت مدينة المليحة أيضًا، وهي بوابة الغوطة الشرقية من جهة دمشق، وأجمل بلداتها، لكثافة أشجارها، ووفرة مياهها، لحصار وجوع تسبب في سوء تغذية، بعد أن أغلق النظام وحلفاؤه طرقاتها ومنافذها المؤدية إلى العاصمة، وجوّع أهلها على مدى سنوات، وارتكب فيها أبشع الانتهاكات، وأكثرها دموية.

وقد ذكر مكتب التوثيق والإحصاء في الغوطة أن الأسلحة التي استُخدمت في الحرب القذرة على المدينة مجهولة وذات تدمير هائل، وأن الأهالي الذين صمدوا صمودًا أسطوريًا تعرضوا إلى حرب تجويع ضارية أدت إلى استشهاد أعداد كبيرة من أبنائهم بعد إتلاف المحاصيل وتخريب وتدمير الزراعة وإغلاق المعابر بشكل كامل.

وكانت مدينة داريا العريقة التي تقع قرب دمشق، في الغوطة الغربية، قد تعرضت لحصار وتجويع أهلها منذ عام 2012، بعد قصفها بأعتى الأسلحة، لمنع إدخال أي مساعدات غذائية، أو طبية، وهي من أوائل المدن التي ثارت ضد النظام. وقد رفض الأسد مرارًا وتكرارًا إدخال حليب الأطفال، وأي نوع من أنواع الأغذية لأكثر من 400 ألف مواطن عاشوا فيها حصارًا قاسيًا وصعبًا، وهذا ما جعل المتحدثة باسم حملة “من أجل سورية”، بيسان فقيه، تقول إن النظام يلجأ إلى سياسة الخضوع والتجويع، في محاولة منه للسيطرة على المدينة التي تقع عند مدخل العاصمة، ولن يتخلى عنها أبدًا.

أما مدينة مضايا، المصيف السياحي المشهور في ريف دمشق، فقد تصدرت مشهد “حرب التجويع”، وتعرض سكانها إلى جوع لا يُحتمل، ولأمراض فتاكة. وفي عام 2016، كان سكانها يحصون عدد شهدائهم، حيث شهدت الأيام الأولى من هذا العام وفاة ثلاثة أشخاص يوميًا نتيجة الهزال الشديد، وانعدام الماء والغذاء. وسجلت منظمة أطباء بلا حدود استشهاد 23 مدنيًا في البلدة خلال فترة قصيرة آنذاك. وبحسب مصادر حقوقية وإنسانية، كان الحصار الشديد السبب في أسوأ وأقسى الأزمات الإنسانية الناجمة عن سياسة التجويع التي مارستها أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، وحزب الله، والميليشيات الشيعية، والشبيحة. وقد اضطُر الأهالي كما شاهد العالم أجمع على شاشات الفضائيات، وبالصوت والصورة، إلى تناول الأعشاب الضارة، وسط عجز غير مسبوق لدول العالم، والأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، التي أكدت أن ما يجري في مضايا يندرج تحت بند من المادة السابعة من ميثاق روما الأساسي الناظم لمحكمة الجنايات الدولية، وهي جريمة الإبادة التي تشكل جريمة ضد الإنسانية أيضًا، وهذا ينطبق على المدن السورية والبلدات كافة التي تعرضت للتجويع.

بينما أكدت منظمات حقوقية ومصادر صحافية أن موقف الأمم المتحدة يتصف بالجبن أمام هذه الجرائم المروعة، وذلك بعد أن رفضت إدراج المدينة ومناطق أخرى مشابهة ضمن القائمة الرسمية للمناطق المحاصرة رغم تضور الناس جوعًا.

تخطت المأساة الإنسانية في مضايا وجارتها الزبداني، المدينة السياحية بامتياز، كل الحدود، وبلغت مستوى غير مسبوق من الموت جوعًا، واضطُر أهلها لأكل الكرتون والبهارات مع المياه في حال توفرها، بينما دعا الائتلاف السوري المعارض مجلس الأمن لإنقاذ أرواح المواطنين في المدينتين، وتصنيف الوضع بـ”كارثة إنسانية”، وإقرار تدخل إنساني عاجل لمأساة تفوق الخيال، وذلك بعد أن تُوفي في مضايا وحدها 16 طفلًا تحت سن العاشرة، وثمانية رجال، وست نساء، خلال أسبوع واحد، بسبب الجوع، وتُوفي العشرات في الزبداني أيضًا.

تعرضت مدينة معضمية الشام الواقعة غرب دمشق، وإحدى أهم مدن الغوطة الغربية، للمأساة نفسها، بعد أن حاصرها النظام وشبيحته حصارًا خانقًا بالدبابات والمدرعات منذ أواخر 2012، عندما استولى عليها وقطع الدواء والطعام عنها حتى عام 2016. أكثر من 45 ألف مدني تعرضوا للجوع القاتل فيها، ومُنع الدخول إليها، والخروج منها، مما أدى إلى استشهاد أكثر من 700 شهيد وشهيدة، بينهم أعداد كبيرة من الجائعين والمصابين بأمراض مزمنة خطيرة لم يتمّ علاجها أبدًا.

أما جنوب دمشق فقد منع النظام عن مدنه وبلداته كل المساعدات الغذائية والطبية منذ عام 2013، ودخلت قراه: السبينة، والحسينية، والبويضة، إضافة إلى مخيم اليرموك، مرحلة المجاعة الحقيقية، بعد إغلاق المعابر، والهجوم العسكري الواسع، بمساعدة حزب الله، والفصائل الفلسطينية الموالية للنظام. أودى الجوع بحياة المئات في المخيم، ووثقت منظمة العفو الدولية استشهاد 194 شخصًا فيه في الفترة ما بين تموز/ يوليو 2013 وشباط/ فبراير 2014، بسبب انعدام الرعاية الصحية والغذاء، ونيران القناصة المتواصلة، التي استباحت الجميع من دون استثناء.

وفي آذار/ مارس 2014، أصدرت المنظمة تقريرًا وصفت فيه ما يجري في حق الفلسطينيين والسوريين بأنها “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”. وكشف التقرير الذي حمل عنوان: “امتصاص الحياة في مخيم اليرموك” عن وفاة مئتي شخص منذ تشديد الحصار في تموز/ يوليو 2013، ومنع دخول أي مساعدات. كما أعلن الهلال الأحمر الفلسطيني هذا المخيم “منطقة منكوبة”.

بدأ حصار المدن السورية منذ عام 2012 حتى 2018 عمومًا، وكان لمدينة يبرود الواقعة شمالي العاصمة السورية بحوالي 77 كم ضمن سلسلة جبال القلمون نصيب كبير منه، قبل أن يلجأ سكانها إلى النزوح والهروب بشتى الوسائل والطرق بعد قطع المياه الصالحة للشرب عن المدينة، ومنع كل مقومات الحياة الأساسية.

أما مدينة حمص العدية، عاصمة الثورة السورية، وملتقى الظرفاء والمبدعين، فقد عانت من الحصار والتجويع منذ أيار/ مايو 2011 حتى الشهر نفسه من عام 2014، بعد حملة وحشية على المتظاهرين السلميين، وهجوم عنيف على أحيائها، وأولها حي بابا عمرو، الذي كُتب على نقاط التفتيش فيه “إخضع أو جوع”، وثانيها حي الوعر الذي يُعد جزءًا من المنطقة الريفية المحيطة بالمدينة، ويُسمى “حمص الجديدة”. تمّ قطع الإمدادات عن المدينة، بما فيها الماء والغذاء والدواء والكهرباء والوقود من قِبل حزب الله وإيران والقوات النظامية، واضطر أهلها لتناول حشائش الأرض والنباتات البرية، مما تسبب في حالات تسمم عديدة، وفقدان للذاكرة، واستشهاد أعداد كبيرة من المدنيين من مختلف الأعمار. وقد وصف مسؤولون أمميون الوضع في مختلف بلدات المحافظة بالكارثي، مؤكدين أن أهالي حمص كانوا: “في حالة وهن شديد، وعليهم علامات ضعف واضحة بسبب الجوع، وسوء التغذية”، في مراحل عديدة من مراحل الثورة بعد انتشار الأمراض بين الأطفال، ووفاة العشرات منهم.

وذكرت المتحدثة باسم برنامج الغذاء العالمي أن المؤسسات والمنظمات الإنسانية والحقوقية لم تستطع منع هذه الجرائم وإنقاذ المدينة وأهلها.

وكان الحصار الذي فًرض أيضًا على شرق مدينة حلب من الجرائم والانتهاكات الأكثر خطورة وهمجية التي ارتكبتها بعض القوى المتحاربة آنذاك، حسب ما ذكر حقوقيون دوليون. اختار أهلها الصمود في وجه التجويع، وتعرض أكثر من ربع مليون سوري آنذاك للجوع والإذلال والقتل، وكان أكثر من 350 ألف مدني محاصرين حصارًا محكمًا، وتحت سلطة المرض والهزال، بعد رفض النظام وحلفائه إيصال المساعدات، واستمرار جرائم القصف بدعم روسي إيراني.

أما مدينة دير الزور، أكبر مدن الشرق السوري، فقد تعرضت والبلدات التابعة لها لمعارك طاحنة بين النظام المخلوع، وتنظيم الدولة الإسلامية، ولحصار وتجويع شديدين. واستُشهد فيها عدد كبير من المواطنين، مما جعل الائتلاف المعارض يطالب الأمم المتحدة، ومنظمات الإغاثة العالمية، باتخاذ إجراءات فعالة لإنقاذ نحو 250 ألف مدني هناك، بعد إغلاق منافذ إدخال الغذاء والدواء.

وشهدت مدينة درعا، مهد الثورة السورية، والتي خرجت عن سيطرة النظام لسنوات عديدة، حصارًا خانقًا أيضًا، وشحًا كبيرًا في المياه والغذاء والمستلزمات الطبية وانقطاعًا كاملًا للمياه والكهرباء وفقدانًا للخبز وحليب الأطفال، وعانى فيها أكثر من ثلاثين ألف مواطن من سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها النظام وحليفه الروسي منذ بداية الثورة، ودفعت المحافظة كما هو معروف برمتها أثمانًا باهظة لا مثيل لها.

منظمة اليونيسيف، من جهتها، كانت قد حذرت في كانون الأول/ ديسمبر 2015 من تأثير تعليق مساعدات برنامج الغذاء العالمي على حياة ملايين الأطفال السوريين، ودعت الدول المانحة إلى تجنب وقوع كارثة إنسانية، بينما صرح وسيط الأمم المتحدة ديمستورا، بعد عام، أن “النظام السوري يرفض رفع الحصار الذي يجوّع الملايين في أنحاء البلاد”.

وبعد أعوام، وفي كانون الأول/ ديسمبر 2019، أعلنت محكمة الجنايات الدولية أن “التجويع في حالات الحروب جريمة حرب”، وصرّح مسؤولون في الأمم المتحدة بعد عام بأن السوريين يعانون من أزمة جوع لا مثيل لها على مدى سنوات.

ومع ذلك كله، تحايل السوريون في مختلف المدن والبلدات الثائرة على سياسة التجويع الممنهجة، وأوجدوا بدائل مبتكرة لصنع وقود بديل، وأنظمة زراعية غير تقليدية، مثل صناعة الخبز من العدس، وإنتاج سكر بدائي، واعتمدوا نظام المقايضة بدلًا من النقود، وزرعوا أسطح ما تبقى من منازلهم، والأزقة، والمقابر، والملاعب الرياضية، بالخضراوات، والبقوليات، وأكلوا الخبز المتعفن، وأصبحت الحشائش الضارة والمفيدة المصدر الرئيسي لغذائهم منذ مطلع عام 2013.

والمعروف أن سياسة التجويع تتجاوز الآثار الجسدية إلى الآثار النفسية المدمرة، لأنها امتهان وتحطيم لكرامة الإنسان، وعزة نفسه، وحقوقه، استخدمها النظام وحلفاؤه عقابًا جماعيًا لإذلال السوريين وهزيمتهم، والبقاء على رأس السلطة، ولو على حساب مئات من الشهداء والجرحى والمهجرين.

مراجع:

ــ بوابة سورية.

ــ العربي الجديد.

ــ التلفزيون العربي.

ــ الجزيرة.

ــ وكالات.

ضفة ثالثة

—————————————-

6 أشهر على سقوط الأسد… تمسك بالأمل رغم ضخامة التحديات

الإدارة الجديدة ورثت سوريا مقسمة ومعزولة دولياً

9 يونيو 2025 م

قبل 6 أشهر، ما كان مستحيلاً يوماً ما في سوريا، صار واقعاً حقيقياً، إذ أُطيح بنظام الرئيس بشار الأسد الذي حكم البلاد لنحو رُبع قرن، وذلك بعد سنوات من الحرب الأهلية الوحشية.

وشهدت سوريا نهاية 5 عقود من الحكم السلطوي لعائلة الأسد، تركت مجتمعاً ممزقاً مشوهاً بسبب العنف، يعصف به انعدام الثقة، ولكنه يحمل أملاً في بداية جديدة، بحسب تقرير لـ«وكالة الأنباء الألمانية».

اليوم، تتولى إدارة جديدة مقاليد الأمور في سوريا، التي يبلغ تعداد سكانها نحو 23 مليون نسمة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، بعدما فرَّ بشار الأسد إلى موسكو. وقام وتحالفه، بدور رئيسي في الإطاحة ببشار الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول). ولدى تولي القيادة الجديدة مقاليد السلطة، تعهَّدت بأن تكون «سوريا للجميع». بعد مرور 6 أشهر، هل أوفت هذه الإدارة بوعدها؟

مخاوف الأقليات

على الصعيد الدولي، ينظر إلى طريقة معاملة الأقليات في «سوريا الجديدة»، بنوع من التشكك. يشار إلى أن أغلبية سكان سوريا من المسلمين السُّنَّة، مثل الشرع ورفاقه. ورغم ذلك، فإن مخاوف الدروز والعلويين والمسيحيين تأججت، نتيجة أحداث العنف الطائفي التي شهدتها سوريا خلال الأشهر الأخيرة. وفي أوائل شهر مايو (أيار) الماضي، شنَّ مقاتلون متحالفون مع الحكومة هجمات استهدفت أفراداً من الطائفة الدرزية؛ ما أسفر عن مقتل العشرات. كما أفاد مراقبون بوقوع ما وصفوها بـ«مجازر» في منطقة الساحل السوري أوائل شهر مارس (آذار) الماضي.

وهاجمت مجموعات كبيرة من مؤيدي وفلول نظام بشار الأسد، بشكل منسق ومتزامن، مواقع عسكرية ومدنية تعود للحكومة التي ردَّت بعملية عسكرية واسعة، أودت بحياة مئات العلويين (الطائفة التي ينتمي إليها الأسد).

من جهته، قال حمود الحناوي، وهو شيخ درزي وأحد كبار قادة الطائفة الدينية، لـ«وكالة الأنباء الألمانية»: «ثمة خوف، ليس فقط بين الطائفة الدرزية، ولكن بين الأقليات الأخرى أيضاً». وأضاف: «إذا لم نتعلم قبول بعضنا بعضاً، بغض النظر عن عقائدنا، فلن نتمكَّن مطلقاً من بناء أمة». وهذا بالضبط ما تعهَّد به الرئيس أحمد الشرع للشعب السوري عندما تولى مقاليد السلطة: سوريا موحدة. وأكد الزعيم الدرزي: «ولكن علينا أن نضع في اعتبارنا دائماً أن سوريا كانت مقسمةً من قبل النظام القديم»، مضيفاً أنه لا يمكن بناء وطن موحد «إلا إذا وضعنا يدنا في يد بعضنا»، ودون تطرف من أي طرف.

بالنسبة للأكراد في شمال شرقي البلاد، الذين كانوا يحكمون منطقتهم في السابق بدرجة كبيرة من الحكم الذاتي (بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا 2011)، جاءت الخطوة الرئيسية نحو تحقيق الوحدة الوطنية السورية عبر اتفاق بين القادة الأكراد والحكومة على الاندماج الكامل في مؤسسات الدولة. ومن الناحية النظرية، من شأن ذلك أن يمنح إدارة الشرع سلطةً على جميع الهياكل المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا. ورغم ذلك، فإن التفاصيل الرئيسية للاتفاق لا تزال لم تحسم بعد.

وأعرب ممثلو الأكراد عن تفاؤل حذر، بقولهم: «يساورنا القلق، مثلنا مثل الطوائف الأخرى، ولكننا سنرى ما إذا كان الحكام الجدد سيوفون بوعودهم، ويعيدون لكل سوري وطنه».

العودة إلى الساحة الدولية

وضعت القيادة الجديدة في دمشق ضمن أولوياتها، النأي بنفسها عن إرث نظام الأسد، وإعادة بناء العلاقات الدولية. كان نظام الأسد معزولاً إلى حد كبير بعد اندلاع الحرب الأهلية، وتعرَّضت حكومته لعقوبات شديدة من غالبية المجتمع الدولي.

واندلع الصراع في سوريا عام 2011 باحتجاجات ضد النظام، تعرَّضت للقمع العنيف، ثم تصاعد الأمر إلى حرب أهلية واسعة النطاق، شهدت مشاركة دولية؛ ما أدى إلى نزوح نحو 14 مليون شخص، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.

وبعد مرور نحو 6 أشهر على سقوط الأسد، التقى الشرع كثيراً من قادة العالم، بينهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وفي أوروبا، استقبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ومن المقرر أن يلقي الشرع كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.

إعادة التواصل بالشبكات المالية العالمية

وحقَّقت دمشق في الآونة الأخيرة مكاسب واسعة على الساحة الدولية، خصوصاً فيما يتعلق برفع العقوبات. وفي منتصف شهر مايو، هرع السوريون إلى الشوارع للاحتفال بإعلان الرئيس ترمب، بشكل مفاجئ وبعد تدخل من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، رفع العقوبات الأميركية على البلاد بشكل كامل. وبعد أيام قليلة، حذا الاتحاد الأوروبي حذو أميركا. وأشادت وزارة الخارجية السورية بهذه «الخطوة التاريخية» لـ«سوريا الجديدة».

ويشار إلى أنه خلال سنوات الحرب، كانت السلع الأساسية – بداية من الأدوية إلى الوقود – شحيحةً، حيث كان الاستيراد مستحيلاً في ظل وطأة العقوبات الدولية. كما كانت سوريا معزولةً إلى حد كبير عن النظام المالي العالمي، مما جعل تحويل الأموال من البلاد وإليها، شبه مستحيل. ويقول المراقبون إن رفع العقوبات عن سوريا قد يؤدي إلى خفض الأسعار بشكل تدريجي، والسماح بتدفق رؤوس الأموال الأجنبية، حيث إن البلاد في حاجة ماسة إليها، وهو أمر بالغ الأهمية للانتعاش الاقتصادي وجهود إعادة الإعمار على المدى الطويل.

90 % من السوريين يعتمدون على المساعدات

واليوم بعد مرور 6 أشهر على الإطاحة بنظام الأسد، فإن سوريا لا تزال بعيدةً عن الاستقرار. ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة لشهر أبريل (نيسان)، عاد نحو 400 ألف لاجئ سوري من الدول المجاورة – وأكثر من مليون نازح بالداخل – إلى ديارهم.

ولا يزال الوضع الإنساني في سوريا مزرياً، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 90 في المائة من السكان ما زالوا يعتمدون على شكل ما من المساعدات الإنسانية. وبعد مرور السنوات الطويلة على اندلاع الصراع، لا يزال الفقر متفشياً على نطاق واسع. ويقول كثير من السوريين إنهم لا يزالون يعانون من الغموض بشأن مستقبل بلادهم. وقال أحد العائدين: «في بعض الأيام نتساءل ما إذا كانت سوريا الجديدة مختلفة… وفي أيام أخرى نعتقد أننا نسير في الاتجاه الصحيح خطوة بخطوة… الأمل لا يزال حياً».

الشرق الأوسط

———————————–

علم “داعش” في سوق الحميدية: تجارة أم تغلغل مقلق؟/ مصطفى الدباس

الأحد 2025/06/08

أثار تداول صورة في وسائل التواصل الاجتماعي، تظهر راية تنظيم (داعش) معروضة للبيع في أحد محال سوق الحميدية في دمشق، موجة استياء واستغراب، وسط تساؤلات متزايدة عن خلفيات هذه الظاهرة وحدودها.

وتظهر الصورة التي جرى تناقلها من أكثر من زاوية، راية سوداء مكتوب عليها: “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وهي الصيغة نفسها التي يعتمدها تنظيم “داعش” كشعار رسمي له منذ ظهوره العلني العام 2014.

وحسب ناشطين محليين، فإن المحل الذي ظهرت فيه الراية يقع بالقرب من محل “مجوهرات السعادة”، وهو ما يعزز فرضية صحة الصورة.

من العلم الرسمي إلى أعلام العقائد والتنظيمات

المحل الظاهر في الصور يبدو مختصاً ببيع الأعلام والرايات، من بينها علم سوريا الرسمي، وعلم المملكة العربية السعودية، وأعلام أخرى دينية الطابع، وهذه الظاهرة تعد جديدة على أسواق العاصمة، إذ لطالما كان بيع الأعلام والرموز السياسية والدينية محصوراً بموافقة أمنية مسبقة، ويقتصر غالباً على العلم الوطني، وفي فترات سابقة خلال عهد النظام السابق، كانت تباع في بعض الأماكن أعلام “حزب الله” اللبناني وصور قادة إيرانيين، لكن ذلك كان يجري تحت حماية سياسية واضحة.

لكن اليوم، يبدو أن هذه القيود بدأت تتفكك، مع تنامي أسواق غير خاضعة لرقابة مركزية مشددة، وانتشار محال تعرض فيها رموز ذات طابع ديني أو سياسي دون رقابة ظاهرة.

الانفتاح ومكافحة الإرهاب معاً

وكان وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني  أطلق تصريحات واضحة بشأن التزام الدولة الجديدة بمحاربة الإرهاب، بالتوازي مع جهود الانفتاح على المجتمع الدولي، خصوصاً عقب اللقاء الذي جمع الرئيس أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض. واعتبر الشيباني أن مكافحة الإرهاب تمثل “شرطاً رئيسيًا لاستعادة الاستقرار واستقطاب الاستثمار الأجنبي”، مشيراً إلى أن الحكومة لن تسمح لأي جماعات متطرفة بإعادة تموضعها تحت عناوين دينية أو سياسية.

قلق من التغلغل الرمزي والفكري

والحال أن ظهور علم “داعش” في سوق شعبي كـ”الحميدية”، وهو من أكثر الأسواق ازدحاماً وزيارة في دمشق، يثير مخاوف من احتمالية تغلغل الفكر الجهادي المتطرف في بعض البيئات الشعبية، خصوصاً في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تمر بها البلاد، والتي قد تضعف المناعة المجتمعية تجاه الخطابات المتطرفة، وهذا يطرح تساؤلات: هل ما حدث مجرد تصرف فردي لبائع لا يميّز بين رمزية الشهادة والراية التي اتخذها داعش شعاراً دامياً؟ أم أننا أمام ظاهرة أوسع، يستغل فيها الدين والرموز الإسلامية لدوافع تجارية، وربما سياسية غير معلنة؟

كما أن غياب اي توضيح رسمي حول هوية الجهة التي صنعت هذه الراية أو استوردتها، يفتح الباب أمام أسئلة إضافية، هل هذه الأعلام تصنع محلياً أم تستورد من الخارج؟ وهل تمر عبر رقابة الجمارك أو وزارة الأوقاف؟ وهل يمكن حقاً الفصل بين “علم التوحيد” كشعار ديني قديم، وبين “علم داعش” كرؤية عنفية جهادية معاصرة؟

وحسب مختصين، لا يمكن تجاهل أثر السياق، فبيع هذه الراية في مكان عام لا يفهم بمعزل عن تاريخ استخدامها، خصوصاً في منطقة عانت من العنف والتطرف لسنوات.

تزامن مع تحركات ميدانية للتنظيم

وتداول الصورة، يأتي في وقت عاد فيه اسم “داعش” إلى الواجهة، بعد تنفيذ التنظيم لهجمات في الجنوب السوري خلال أيار/مايو الماضي، أبرزها تفجير عبوة ناسفة ضد قوات من الفرقة 70 في منطقة تلول الصفا جنوب السويداء، ما أدى إلى مقتل مرافق مدني وإصابة ثلاثة جنود،  كما فجّر التنظيم عبوة أخرى ضد فصائل مدعومة من الولايات المتحدة في المنطقة ذاتها، ما أسفر عن مقتل أحد المقاتلين وإصابة ثلاثة آخرين، وتزامنت هذه التحركات مع تقارير أمنية عن نشاط متجدد لخلايا التنظيم في البادية ودير الزور.

ما هو علم التوحيد؟

ويعد علم التوحيد، المعروف بشهادته “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، رمزاً دينياً إسلامياً قديماً، يُنسب استخدامه إلى عهد النبي محمد، وإن اختلفت الألوان والأنماط في سياقات تاريخية متعددة. لكن “تنظيم داعش” استولى على هذا الرمز وخصه بخلفية سوداء وخط معين، ليُصبح لاحقاً مرتبطًا بهوية التنظيم، لا سيما بعد أن جعله جزءاً من كل مواده الإعلامية ومن راياته الميدانية.

هذا الربط أثار إشكالية كبيرة في الدول الغربية، حيث بات ينظر إلى هذه الراية بوصفها رمزاً إرهابياً. ففي ألمانيا، مثلاً، يحظر عرضها بموجب المادة 86a من القانون الجنائي، باعتبارها شعاراً لمنظمة محظورة. وفي بريطانيا وفرنسا، تعدّ راية “داعش” بمثابة تحريض على الإرهاب.

أما في السعودية، فرغم أن علم المملكة يحتوي على الشهادة نفسها، إلا أنه مصمم بلون أخضر واضح ويمنع استخدامه في غير السياقات الرسمية، حفاظاً على قدسيته.

القانون في سوريا

حتى الآن، لا يوجد في القانون السوري الجديد نص صريح يجرم بيع أو عرض راية تحمل الشهادة الإسلامية، حتى لو كانت مشابهة لعلم تنظيم “داعش”. لكن قانون مكافحة الإرهاب (رقم 19 لعام 2012) يجرم الترويج لتنظيمات إرهابية أو الانتماء إليها، ما يجعل بيع هذه الرايات في بعض الحالات عرضة للتأويل القانوني، تبعاً للسياق والنية.

وفي ظل غياب رقابة واضحة، ووجود أسواق تجارية غير منضبطة، قد يمر مثل هذا الفعل من دون مساءلة، ما يطرح أسئلة عن مدى جهوزية الدولة الجديدة للتعامل مع هذه الرموز التي تحمل في ظاهرها ديناً، وفي باطنها أيديولوجيا دموية.

هل يمكن الفصل بين الراية والتنظيم؟

السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا الجدل: هل يمكن فعلاً فصل الشهادة الإسلامية عن السياق العنيف الذي ارتبط بها من خلال استخدام داعش لها؟ الجواب ليس بسيطاً، بل يتطلب وعياً جماعياً، ورقابة ثقافية وأمنية وقانونية دقيقة، وتوازن بين احترام الرموز الدينية، ومنع تحولها إلى أدوات دعائية خطابات العنف.

المدن

———————————–

جورج صبرة في دمشق/ معن البياري

09 يونيو 2025

لم تعد خبراً عودة (أو زيارة) معارضٍ سوريٍّ لنظام الأسد إلى بلده؛ فقد صار هذا من عاديّ الأمور في الشهور الستة الماضية، وسيكون من الافتعال أن يلتقط واحدُنا مشوار سياسيٍّ أو مثقفٍ سوري، أقام عقوداً في مغتربٍ (أو منفى)، إلى دمشق، فيبسُط في الحدث كلاماً عاطفيّاً، أو يرتجل حديثاً عن مهمّات النخبة السورية العريضة في بلدها. ولكنّ ثمّة إغواءً خاصّاً في هبوط المعارض جورج صبرة، وهو سجينٌ سابق وترأس المجلس الوطني السوري (وربما “الائتلاف” قبل أن ينسحب منه)، في مطار دمشق، أول من أمس السبت، فليس الخبرُ هنا بالضبط؛ بل في أنّ هذا المناضل هو مَن أشهَرَ تصريحاً مثيراً في ديسمبر/ كانون الأول 2012، فظلّ، بسببه، يُلاحَق بالانتقادات والإدانات وسلالٍ من السخرية والتهكّم والتجريح، لمّا قال إنّ جبهة النصرة جزءٌ من الثورة السورية، وليست تنظيماً إرهابياً، وهاجم الولايات المتحدة لتصنيفها هذا. … لم يرحمه رفاقٌ وأصحابٌ له وعمومٌ عريضٌ من نخب الثورة، حتى إنّ تاريخ الرجل، وسنوات سجنه الثماني في زنازين حافظ الأسد، ومرابطتَه في مفاوضاتٍ غير مباشرةٍ ترأسها في جنيف (وأستانة) مع حكم الاستبداد الأسدي، واجتهاداته في مؤسّسات المعارضة السورية، وصلابتَه في غير موقفٍ ضدّ النظام (اعتَبَر مرّة “داعش” وجهاً آخر له)، ذلك كلّه كان كثيرون يُعمّون عليه، ويُعلون قولته تلك (لـ”سي إن إن”، وهذه جريرةٌ أخرى ربما؟). لم يتراجع جورج صبرة عمّا قال، ولا استدرك إن عبارته أُخرجت عن سياقها، ولا عمَد إلى توضيحها، وإنْ يلزم التذكير بأنه قال، في التصريح نفسه، إنّ جبهة النصرة ليست أساسيةً في المعارضة السورية، وإنما مجرّد عنصرٍ من مجموعات عدّة تشكّل الجيش السوري الحرّ. وفي البال أنه لاحقاً (2017) دافع بشدّة عن رئاسة محمّد علوش وفدَ المعارضة المفاوض في أستانة، ووصفه بأنه “قياديٌّ كُفْء، ومن أبرز القيادات الثورية”، وقال إنّ تعيين الهيئة العليا للمفاوضات هذا الرجل الذي تزعّم “جيش الإسلام” كبيراً للمفاوضين في محادثات جنيف صائبٌ وقوي، “لأنه ينسف كل المزاعم التي كانت تتهم “جيش الإسلام” و”أحرار الشام” بأنها تنظيمان إرهابيان”.

يعود جورج صبرة إلى دمشق، وجبهة النصرة التي صارت هيئة تحرير الشام هي السلطة في سورية، وفي سدّة الحكم ورئاسة الدولة، فيحقّ له أن يزهو بقولته تلك، قبل 12 عاماً، على شاشة واحدةٍ من أشهر التلفزات الأميركية (والعالمية حكماً)، فهذا رئيس الولايات المتحدة يُجالس زعيم هذه الجبهة الذي يتقاطر إليه مسؤولونٌ كبار من الشرق والغرب (إلّا من تونس!) للتحاور معه، ولعرض وسائل إعانة سورية وإسعافها. لم يكن الثائر النزيه والزاهد يقرأ الفنجان، فلم يحدِس أو يتوقّع، في أقصى متخيَّله، كما كل الأنام في الأرض، أنّ أبا محمّد الجولاني (أحمد الشرع لاحقاً) سيكون الرئيسَ السوري الذي سيُنصت إليه مع جمعٍ في باريس، لكنّه كان متخفّفاً من الحمولات إيّاها عن مفهوم الثورة، والاعتبارات التي تجعل هذا ثائراً وذاك إرهابياً. ولعلّه كان يؤمن بأنّ ما من ثورةٍ إلّا وشابتها أجناسٌ من العمل المسلّح تنتسب إلى الإرهاب أو شيءٍ منه، وهذا في المعنى العريض قتل مدنيين خارج القانون. والأهم أن كاتب قصص الأطفال السابق (لمَن لا يعرف) كان على قناعةٍ بكل فعلٍ يرجُّ نظام الأسد، عسكريٍّ مسلّح أو سلميٍّ أهلي، وهو الذي شارك في قيادة مظاهراتٍ أولى لمّا نشبت الثورة، قبل أن يغادر إلى الخارج، ثم ينخرط في العمل السياسي بمثابرةٍ مشهودة، ويشتبك في خرائط الخلافات التي ما انفكّت تطرأ على مؤسّسات المعارضة وأجسامها، وقد تحدّث، في تلك الغضون كثيراً، عن عجز المعارضة عن بناء قيادةٍ موحّدةٍ لها.

كتب جورج صبرة في مقالةٍ في “العربي الجديد” قبل أزيد من 11 عاماً، إنّ التسلّط الأقلّوي على حكم سورية بقوة القهر استدعت “عصبويةًً طائفيةً تكون بديلاً عن القاعدة الشعبية اللازمة لأي سلطة، فصار العلويون حرّاس النظام الذي بناه حافظ الأسد، ووضعهم في مواجهة الشعب، من دون أن يكون للفئات الشعبية والفقراء منهم حظوة تُذكر”. ومثقفٌ مناضلٌ سوريٌّ لديه هذه الرؤية، ناهضَ كل نزوع طائفي بحصافةٍ باهرة، وصاحب بصيرةٍ (لم لا، وقولتُه تلك خالدة؟)، تحتاج سورية إلى من هم من قماشَته وفي حكمَته. … تُراه عاد إلى بلده، أم يزورُها، أم سيُراقب ما سيفعل أهل الحكم، في جبهة النصرة (سابقاً) التي دافع عن عدم إرهابيّتها أمام العالم كلّه؟ لا أعرف.

العربي الجديد

=====================

الأبعاد المجتمعية للثورة السورية/ جورج صبرة

05 ابريل 2014

مهما اختلف المحللون والباحثون بشأن انطلاقة الثورة السورية ومجرياتها، لن يختلفوا على أنها ثورة السوريين على الظلم والاستبداد، وجاءت في إطار الربيع العربي، وربما تتويجاً له، لأن التغيير في سوريا، وارتداداته الداخلية والإقليمية والدولية، تتعدى الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب السوري، ليشمل القضايا الجيوسياسية في المنطقة، ومصيرها في إطار الصراع الدولي، وقضايا الأمن والاستقرار والسلام في العالم أيضاً. وهذا يفسر الصعوبات التي تواجهها الثورة، والتعقيدات التي تحيط بها، بحيث صارت قضية إقليمية ودولية بامتياز.

إن موقع سوريا على خريطة الشرق الأوسط، ودورها في تاريخ المنطقة، يؤهلانها، باستمرار، لتكون مكاناً للصراع فيه ودولة للصراع عليها.

أما في الداخل السوري، فللثورة أبعاد متعددة، ميزتها عن مثيلاتها في العالم العربي، فقد نسجتها خيوط نصف قرن من التشابك والانقطاع والصراعات الصاخبة والمكتومة بين القوى الاجتماعية والسياسية، خلال عمر الاستبداد المديد، وتحت سيطرته وسطوته، في إطار دولة تسلطية شمولية عزّ نظيرها.

1- البعد الاقتصادي: الريف حاضنة الثورة وأرضها الخصبة.

على الرغم من أن إرهاصات الثورة كانت مدينية ومدنية، برزت في دمشق العاصمة، إلا أن السمة الأبرز للحراك الثوري، ونشاطاته المتنوعة الريادية واللاحقة، هو الريفية. حيث كان أبناء الريف المحرك الأول للتظاهرات، وصارت سواعدهم المسند الأول لبندقية الثورة عندما تسلحت. حتى إن أول تظاهرة خرجت من الجامع الأموي في 15/3/2011 صممت، ونفذت، بأيدي شباب ريفيين، ومن مختلف المناطق والطوائف. لم يكن الفقر وحده دافعاً، إنما كان، إلى جانبه، التفاوت الحاد بين الطبقات الاجتماعية، في توفير أسباب الحياة وآمال المستقبل، والتهميش الكبير الذي شعر به معظم السوريين، وخصوصاً أهل الريف، من الأكثرية في العمل العام وإدارة شؤون البلاد.

وكان لتآكل الطبقة الوسطى المتدرج، والتدهور المستمر في أوضاعها، أن وضعا البلاد أمام ثنائية حادة بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون شيئاً. بين من يقبضون على السلطة والمال والمعرفة، ومن وجدوا أنفسهم على الهامش من دون حاضر، ولا مستقبل، ما عمم سخطاً واسعاً على النظام في الريف، وفي أوساط الطبقة الوسطى في المدينة. إذا أضفنا إلى ذلك حجم الأراضي المصادرة، والمستملكة من مؤسسات الدولة والجيش، وحجم الاعتداءات على أملاك الفلاحين من أصحاب النفوذ، لإنشاء مزارع، وامتلاك عقارات بريعية المواقع الرسمية التي يحتلونها، وفشل الخطط الزراعية في تنمية الريف، نعرف أن أهل الريف، وسكانه، صاروا ينتظرون صرخة احتجاج واستنكار، ليرددوا صداها، ويتجاوبوا معها.

2- البعد الاجتماعي: الشباب وقود الثورة، ومحركها الأساس، وللمرأة دور مميز، ومعاناة استثنائية.

من الطبيعي أن تصعد كل الثورات بعزم الشباب أولاً، غير أن ما ميز الثورة السورية هو المساهمة الكبرى للشباب المبكر فيها، حتى إن آلافاً منهم دخلوا السجون، وهم دون الثامنة عشرة من العمر. كان التسرب من المدرسة، وانعدام فرص العمل اللائقة، سبباً في تراكم الشباب، وتزاحمهم في مواقع العمل المؤقت والمجهد والبسيط العائدية، (كراجات تصليح السيارات -جني المحاصيل -ورشات البناء)، ما وفر خلايا جاهزة للانطلاق في مسيرة الثورة من دون تردد، خصوصاً وأن هذا الجيل يحمِّل آباءه مسؤولية استقرار الاستبداد، ونظام التمييز، وتأبيده على أعناق السوريين، فخرج الأبناء من دون حسابات الآباء وخارج إرادتهم، وأبناء البعثيين في المقدمة.

للمرأة السورية صفحة مشرقة في سجل الثورة، من بداية البدايات إلى التظاهرات إلى حمل السلاح والقتال، وشاركت متفوقة في جميع النشاطات، مع ما اقتضته ظروفها من اعتقال وتعذيب وتهجير ومعاناة، في الترحيل الداخلي، والتهجير الخارجي في مخيمات اللجوء (بين شهداء الثورة 12000 شهيدة). وكان الاغتصاب أشنع ما تعرضت له المرأة السورية، من حقد النظام وبربريته، حين تعرضت أكثر من 800 فتاة للاغتصاب، نصفهن قاصرات، وحالات عديدة تمت تحت أنظار الأهل، وأكثر من 200 حالة تمت في السجون والمعتقلات.

3- البعد الديني/ الطائفي: المساجد بوابة الثورة ومراكز انطلاقها.

ولدت سوريا دولة مدنية بعد الاستقلال، وبقيت كذلك، غير أن النهج الطائفي الذي اعتمدته السلطة، للاستمرار في الحكم، كان يذر قرنه في المجتمع رويداً رويداً، ويتسلل إلى مؤسسات الدولة، بدءاً من الجيش والأجهزة الأمنية، حتى شمل بقية القطاعات. وهذا نتيجة التسلط الأقلوي على حكم البلاد بقوة القهر، الذي استدعى عصبوية طائفية، تكون بديلاً عن القاعدة الشعبية اللازمة لأي سلطة. فصار العلويون حراس النظام الذي بناه حافظ الأسد في 1970، ويستمر حتى الآن، ووضعهم في مواجهة الشعب، من دون أن يكون للفئات الشعبية والفقراء منهم حظوة تذكر. استخدم الطائفة قاعدة للوصول إلى السلطة، ويضعها الآن رهينة للاستمرار فيها.

في بلاد ليس فيها قانون ينظم الحياة السياسية، ويوفر للأحزاب مقراتٍ حرة، ونشاطات برعاية القانون، وتنعدم فيها منظمات المجتمع المدني، المستقلة والفاعلة. بقيت المساجد المكان الوحيد الذي يتسع لحيز بسيط من الحضور الحر، على الرغم من هيمنة السلطة على المؤسسات الدينية، وهيمنة دار الإفتاء على حركة المساجد. فهل يحق لأحد، بعد هذا، أن يستغرب انطلاق التظاهرات من المساجد؟ فشكراً للمساجد لأنها فتحت أبوابها لتخرج منها الثورة.

وبالتالي، هناك مائة سبب وسبب، ليكون المسلمون السنة عصب الثورة، وقاعدتها، وفي بنيتها الأساس. منذ البدايات وحتى حمل السلاح، شاركت الطوائف الأخرى، من مسيحيين ودروز وإسماعيلية وعلويين في مختلف النشاطات الثورية، في الداخل والخارج. وكانت شعارات الثورة، وأسماء الجمع، تعبر عن هذه المشاركة، وتحض عليها. (الجمعة العظيمة – جمعة صالح العلي)، غير أن عنف النظام الذي تجاوز كل حد، والمجازر الطائفية المبكرة التي ارتكبها (البيضة والحولة) دفع إلى أسلمة الثورة، للدفاع عن المسلمين السنة، المستهدفين بوضوح لا تخطئه العين.

4- البعد العشائري: العشيرة ومؤثرات التسلط والفساد.

منذ أيام الثورة الأولى، امتلأت السجون بشباب عشائر الجولان المحتل، الموجودين أساساً في ريف دمشق والمحافظات المجاورة. ومن نسميهم ” النازحين” كانوا رأس الحربة في إطلاق الثورة، وحمل السلاح، في تجمعاتهم المنتشرة في ضواحي دمشق، مثل (سبينة –حجيرة –جديدة الفضل –الحجر الأسود)، فقد أطلقت العشيرة الجولانية أبناءها من دون قيود أو حدود، لأن أهل الجولان كانوا الضحية الكبرى لنظام القمع الذي سبب نزوحهم من أرضهم المحتلة، وتخاذل عن فعل شيء لاستردادها. ولم يوفر لهم الحدود الدنيا للعيش الكريم، أكثر من أربعة عقود هي عمر النكسة. ونتيجة ذلك، ظلوا على هامش المجتمع، وخارج رعاية الدولة واهتمامها. فقدوا مرتكزات مجتمعهم القديم، وأشكال الحماية التي يوفرها، من دون أن يحصلوا على حماية بديلة، أو ينخرطوا في المجتمعات الجديدة التي جاوروها قسراً، فكانت الثورة دواءهم المنتظر، ومن هذه العشائر: النعيم -الفضل –الفاعور.

أما عشائر الشمال (شمر –الجبور –البقارة –العقيدات) فقد تنازعتها نوازع التسلط والفساد التي اعتمدها النظام في شراء ولاءات ضمن هذه العشائر، كجزء من نهجه التفتيتي، لوحدة المجتمع. ونجح في تصنيع مرتكزات من أبناء العشائر، فنشأ في كل عشيرة اتجاه انتهازي، يتعامل مع النظام، وينفذ توجهاته بهذا القدر أو ذاك من الحذر والتمويه، غير أن التوجه العام للعشيرة السورية كان مع الثورة، ومضافات شيوخها التاريخيين، وذوي الاعتبار، بقيت مضافات للثورة، ومنصات لانطلاقها. ولم تستطع انقسامات الأخوة، وأبناء العمومة داخل العشيرة، أن تلغي هذه الحقيقة. فأخذت العشيرة السورية مكانها المرموق في جميع المكونات السياسية للمعارضة السورية، وقدمت إضافة نوعية لنشاطها، بالاستفادة من البعدين العربي والإقليمي للعشيرة.

 هوية الثورة:

• شعبية: برز فيها ضعف دور النخب وهامشيته، فالمحرك الأساس والفاعل الأول والأخير هو جماهير الشعب. لذلك، افتقدت الثورة للقيادة المركزية. فليس لحزب، أو جماعة، أو تكتل، أو أي شخص الادعاء بدور قيادي، أو مميز في الثورة. وبقي عدد كبير من النخب الثقافية والسياسية والقيادات الدينية والاجتماعية في موقع المراقبة والوسطية والانتظار، بينما اتخذ بعضهم موقف الشك والنأي بالنفس عن الثورة، وأحداثها.

• وطنية: شملت كل المناطق السورية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وضمت إلى صفوفها جميع مكونات الشعب القومية، كالعرب والكرد والتركمان والسريان الآشوريين وغيرهم، والمكونات الدينية والطائفية،  كالمسلمين السنة والمسيحيين والدروز والإسماعيلية والعلويين، وإنْ، بنسب متفاوتة، لا بد من بحث أسبابها بالتفصيل في دراساتٍ متأنية ومتخصصة.

• ديمقراطية: شعارات الثورة عبرت بقوة عن وطنيتها، وعن ديمقراطيتها في الوقت نفسه، منذ الإرهاصات في حادثة الحريقة 17 شباط 2011 “الشعب السوري ما بينذل” إلى تظاهرة الجامع الأموي 15 /3/ 2011 “حرية حرية” وحتى شعارات “الحرية والكرامة” في درعا “الشعب السوري واحد واحد” و”الشعب يريد إسقاط النظام” الذي تردد في جميع المدن السورية. وحتى بعد أن حمل الثوار السلاح، دفاعاً عن أنفسهم وعن ذويهم، بقيت أهداف الثورة متمحورة حول الحرية والديمقراطية، قضيتين مركزيتين وراء تضحياتها في سبيل إسقاط الاستبداد.

مجتمع تاريخي بتنوعه، غني ومعقد بتركيبه، متسارع بتحولاته، وثورة بهذا العمق والاتساع والطموح، لا يمكن تلبية استحقاقاتهما في عجالة كهذه، فعذراً للقصور.

_________________________________________________

ورقة قدمت في مؤتمر “الوحدة الوطنية والعيش المشترك” في الدوحة 2 – 3 نيسان 2014، وخص كاتبها، جورج صبرة، موقع “العربي الجديد” بها لنشرها.

————————————-

فرصة كبيرة وتحدّيات الداخل السوري/ عمار ديوب

06 يونيو 2025

أصبحت سورية محطّ أنظار العالم في الأشهر الماضية، وتحديداً منذ إعلان الرئيس ترامب عزمه رفع العقوبات عنها، وزيارة الرئيس السوري أحمد الشرع باريس، وزياراته المتكرّرة إلى تركيا والخليج. لم تعد سورية معزولةً أو منبوذةً أو متروكةً للتعفّن الكامل. هناك فرصة كبيرة إذاً، واحتضان حقيقي من العرب والعالم. بالتالي، الأمر مرهون بما ستفعله إدارة الرئيس الشرع، إذ تقف أمام تحدّيات متعدّدة، منها ما يخصّ مسارها السياسي الذي يواجه انتقادات كثيرة، وتتكثّف في عدم إشراك فئات من المعارضة أو الشعب فيها، واحتكار شخصيات أساسية من الإدارة، ومن يواليها، أغلبية الإدارات في مختلف مؤسّسات الدولة. والتشاركية موضوع ضغوط دولية تطالب بإشراك الأقليات، وهناك اشتراطات بتعدّدية سياسية وحكم تمثيلي، وهذا يتلاقى مع مطالب داخلية، تؤكّد الشيء نفسه.

عدا عن التحدّيات السياسية، هناك تحدّيات أمنية وعسكرية، ورغم محاولات وزير الدفاع، مرهف أبو قصيرة، ضبط الفصائل وحلّها ودمجها في وزارته، وإصدار مذكّرة قواعد لسلوك العسكريين، فلا تزال المهمّة صعبةً للغاية، وقد تزامن رفع العقوبات الأوروبية في الأيام الماضية مع فرض عقوبات جديدة بحقّ ثلاث فرق عسكرية كبيرة (السلطان مراد وسليمان شاه والحمزات)، وبحقّ قائدَين عسكريَّين (أبو عمشة وأبو بكر) كذلك. لضلوعهم في “جرائم تعسّفية” و”أعمال تعذيب” في مارس/ آذار الفائت في مدن وبلدات في الساحل السوري. ويفترض بوزير الدفاع حلّ هذه الفرق، وإبعاد هذَين القائدَين، فهل سيفعل؟ وإن لم يفعل، ماذا ستكون ردّة فعل أوروبا؟… على الإدارة الإسراع بإعادة تشكيل الجيش وأجهزة الأمن على أسس وطنية، وإبعاد (عدا المقاتلين الأجانب) كل الشخصيات التي ترفض هذه الأسس. ويرتبط هذا التحدّي بتأمين بيئة آمنة ومستقرّة، وإنهاء أشكال التعدّيات على الحريات الفردية والعامّة، وإيجاد حلّ حقيقي وتفاوضي للسلاح لدى فصائل في السويداء أو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي. هناك التحدّي الاقتصادي، وهو معقّد للغاية، وهناك انتقادات شديدة لكيفية إدارة هذا الملفّ؛ فلم يصدُر بعد قانون للاستثمار، ولا قانون للمصارف، ولم تنشأ محكمة خاصّة بالاستثمارات، ولم يرتبط النظام المالي بنظام سويفت بعد، ولا تزال النافذة الواحدة مغلقة، وهذه بيئة غير ملائمة لتدفّق الاستثمارات.

يشكّل غياب خطّة اقتصادية واضحة لكيفية استقبال الاستثمارات الخارجية، وتحديد مجالات عملها، الإشكالية الكبرى، ويمكن الوصول إلى تلك الخطة بدعوة الخبراء الاقتصاديين إلى اجتماعات مكثّفة، وهذا لم يتحقّق. وقد بدأت أصوات اقتصادية قريبة من السلطة تطالب به، وتنتقد غياب الشفافية وأسس الحكم الرشيد والحرية الاقتصادية، وسيادة التجريب والفوضى في هذا التحدّي. يذلّل هذه العقبات تدفّق شركات عالمية عديدة للمساهمة في إعادة الإعمار، ولكن غياب الشفافية من العقود التي أبرمت (أو ستبرم) يمثل إشكالية حقيقية ستضرُّ بالسلطة نفسها، وأيضاً ستُمكّن هذه الشركات من اختيار القطاعات التي ترغب في الاستثمار فيها، وهذا يتعارض مع البدء بقطاعات معنيّة صناعية وزراعية وعقارية، وخاصّة في المدن المُدمَّرة، لتكون الأساس لنهوض بقية القطاعات.

شكّل الاتفاق الأولي حول النهوض بقطاع الكهرباء مع شركات قطرية وتركية وأميركية بدايةً إيجابيةً، فإعادة إنتاج الكهرباء بشكل منتظم ستكون المدخل السليم للنهوض بمختلف قطاعات الاقتصاد، الكبيرة والصغيرة، وستكون الفائدة عامّة، وستكون كلفته للاستخدام المنزلي أو الصناعي المشكلة الكبرى في المستقبل. وبالتالي، يجب مراعاة ذلك في نصوص الاتفاقيات مع هذه الشركات، فسورية دولة فاشلة الآن، وتحتاج إلى المساعدة، لا للاستثمار فيها على أرضية أنها فاشلة، وهناك أكثر من 90% تحت مستوى خطّ الفقر.

يعدُّ التحدّي الاجتماعي الأخطر، ويرتبط بالسابق، ولكنّه يؤثّر في التحدّيَين الأمني والسياسي. سيؤدّي تدفق الاستثمارات العربية والأجنبية إلى إيجاد فرص عمل محدودة، ولكن تركّز الاستثمارات في بناء المدن المُدمَّرة والزراعة والصناعة سيؤدّي إلى التخفيف من حدّة هذا التحدّي. لقد مرّت ستة أشهر والأزمة الاجتماعية هي نفسها، فهناك ضرورة لإيجاد حلول معيّنة لمواجهتها، وعدم ترك الأمور من دون خطّة مرسومة، ومُعلنة، ومُناقشة ومحدّدة بأزمنة، وعبر الإعلام الرسمي. هناك تحدّيات كبيرة أخرى تتعلّق بعدم عودة بقيّة اللاجئين، ووجود ملايين السوريين في المخيّمات، وهناك مشكلة التعليم الكُبرى، ووجود ملايين الأطفال والمراهقين خارج التعليم، وأيُّ تعليمٍ يجب التركيز فيه في هذه المرحلة، ويرتبط هذا بالخطّة الاقتصادية، وبأيّ القطاعات سيُبدَأ فيها. سورية خارجة من حرب، ومن تعفّن وانقسامات مجتمعية، امتدّت أربعة عشر عاماً، وتدخّلات دولية ضدّ مصالح الشعب. هي دولة بحاجة إلى أشكال المساعدة كلّها، ولكنّها بحاجة (مجدّداً) إلى عقليات دولتية، ولخطط وطنية في المجالات كافّة، والبدايات السليمة تقود إلى إمكانية النهوض العام.

أشكال النقد المختلفة، التي وجهها كاتب هذه السطور عبر “العربي الجديد”، كانت بقصد المساهمة في هذا النهوض، إلى جانب آخرين كتبوا عن تحدّيات تواجهها سورية مذكورة أعلاه. والآن، نالت الإدارة الثقة العالمية، ولكنّها ثقة مشروطة، ولنلاحظ العقوبات الأوروبية الجديدة، وهناك الرفع الأميركي لعقوبات تتطلّب موافقة الكونغرس كذلك، وسيكون هناك نقاشات واسعة حول البيئة التي تحقّقت في سورية، وتسمح برفعها، والكلام يخصّ الحرّيات السياسية والاقتصادية والاستقرار الأمني أولاً، وهناك الشروط الأميركية المتعلّقة بأمن الكيان الصهيوني أو بالأسس التي يبنى عليها الجيش والأمن ثانياً. إذاً ليس من ثقةٍ مطلقة، أو رفعٍ للعقوبات من دون شروط، ومن يقول بذلك يبيع الأوهام لنفسه وللشعب، وسرعان ما ستتبخّر، وستتزعزع الثقة بالسلطة من جديد.

يشكّل التحدّي السياسي العقبة الكبرى أمام الإدارة الجديدة، والمشكلة هنا أن الإدارة تتجاهل خطورة هذا الموضوع، وهناك من يرى أن خيار الاستئثار والهيمنة هو خيارها، وليس في حوزتها أيّ فِكَر عن الديمقراطية أو التعدّدية السياسية أو إشاعة الحريات العامّة بقوانين. نعم، ليس لدى الإدارة تجربة ديمقراطية سابقة، وتعدّد الفصائل، وشخصيات السلطة القوية، يحدان من الركون إلى الديمقراطية شكلاً للحكم السياسي، ولكن هذا يتعارض مع ميل شعبي عام، سرعان ما سيعود ليسأل عن أسباب تأخّر المباشرة بالتشاركية، وعن الانتخابات وعن احتكار السلطات… هل تغيّر الإدارة مسارها السياسي وتنفتح تجاه إشراك الشعب، وتبدأ بانتخاب مجلس الشعب في الأسابيع المقبلة، وتكفّ عن سياسة التعيين، وتسعى إلى أن تتجاوز التحدّيات الكبرى أعلاه؟

———————————

ولماذا الحرية؟ لكي نشرب الويسكي مثلاً؟/ عمر قدور

السبت 2025/06/07

مخيّبةٌ لكثر من السوريين هي أخبار الأيام الأخيرة من “عش الورور” في ريف دمشق، و”الدالية” و”قرفيص” و”بيت عانا”. ففي عش الورور ارتُكبت مجزرة ذهب ضحيتها خمسة مدنيين علويين، وفي ريف جبلة جرت أعمال قتل واعتقال وإحراق ممتلكات، على نحو يذكّر بالأحداث المشؤومة قبل ثلاثة شهور في الساحل السوري. هذه الأخبار مخالفة لأجواء التفاؤل التي بثّتها أوساط السلطة، فيما يتعلق بالانفتاح الدولي عليها ونتائجه، خصوصاً ما يتعلق منها بمجيء المساعدات والاستثمارات، وانعكاسهما على الوضع المعيشي.

كالمعتاد، أثارت أخبار العنف الانتقادات في أوساط لا تُحسب على موالاة السلطة، بينما تجنّب قسم من مؤيّدي الأخيرة الخوض فيما حدث، وحاول قسم آخر إيجاد الذرائع. أي أن التعاطي كان وفق الانقسام الذي بات أيضاً معهوداً، وراسخاً بما يكفي ليمنع التفكير في السياسة ومقتضياتها. هكذا لا تُطرح أسئلة يُفترض أنها من بديهيات تفكير الناس بمصالحهم؛ أسئلة من قبيل تأثير أخبار العنف الطائفي، وإلى جوارها أحداث تشير إلى الانفلات الأمني، على المناخ الاقتصادي وعلى التوقعات الاقتصادية المستقبلية. حتى التذرّع بأن “الفلول” هم الذين يتسببون بالأحداث الطائفية لا يوضع قيد التفكير، لجهة أن استخدام “الفلول” على هذا النحو يقوّض القول بأن السلطة قوية ومسيطرة على البلد، ويقوّض تالياً فرضية إمساكها بالأمن الضروري كي يكون هناك مناخ استثماري آمن.

وكما تغيب الروابط الواقعية بين تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي من جهة، وتحسين الوضع المعيشي من جهة ثانية، تغيب كذلك الروابط بين مطلب الحرية وأثاره على مستويات متعددة غير تلك التي يُدفع بها إلى الواجهة. لقد صار معتاداً جداً نوعٌ من الجدالات ينحرف عن صلب الموضوع، ليذهب إلى خارجه أو إلى جزئية منه تغطي على الأصل، سواء حدث ذلك عن عمد أو عن خفة في الوعي.

واحد من الأمثلة الشائعة المتكررة تصويرُ المطالبين بالحريات الفردية كأنّهم طُلاب كأس من الويسكي، وهمّهم في الحياة التنقّل بين البارات. أصحاب “الاتهام” يتجاهلون أن المشروبات الكحولية كانت منذ الاستقلال موجودة في سوريا لمن يرغب، ولم تُجبر سلطة ما السوريين على احتسائها أو على تركها، والعقوبات المتعلقة باحتساء المشروب هي في سياق المعاقبة على السكْر في حال أدى إلى الأذى، أو إلى إقلاق راحة الآخرين. بعبارة أخرى، التضييق في هذا الجانب هو بمثابة نكوص عن حد من الحرية الفردية سائدٌ منذ الاستقلال، وهذا لا يعطي مؤشّراً إيجابياً فيما يخص قضية الحريات عموماً.

المشروبات الكحولية هي صناعة وتجارة وسياحة أيضاً، وفي العديد من المدن يكون وجودها هو دافع ارتياد المطاعم، ما يعني أن حجم الانفاق المرتبط بالكحوليات يتعدّاها، وعلى الأرجح يكون أضعاف الإنفاق عليها بمفردها. القطاع السياحي المعتمد على الوافدين، وحتى على السياحة الداخلية، مرتبط بجزء كبير منه بحرية تناول المشروبات الكحولية، وبحرية عدم تناولها بالتأكيد. فقدان هذه الحرية من المرجّح أن يؤثّر على سوريا كوجهة سياحية، خاصة مع وجود وجهتين في الجوار تتيحان مستوى عالياً من الحريات، هما تركيا ولبنان.

بالتأكيد، لن يجبر أحدٌ شخصاً ما على تناول الكحول، ولن تُجبَر امرأة على الخروج إلى الشارع وهي تلبس البكيني. والحق أن النساء في أصقاع الأرض كلها لا يخرجن إلى الشارع بالبكيني، فهذا افتراض خاص بالجدل السوري، إذ يُواجه الحديث عن حقوق النساء وحرياتهن بأقوال من نمط: هل تريد للمرأة أن تخرج بالبكيني؟

لا يندر إطلاقاً تأويل الحديث عن حقوق النساء على المحمل الجسدي، وكأن الحديث ينحصر بالبكيني وبالحرية الجنسية، والأخيرة يتم تأويلها فوراً على محمل الإفراط، أو على محمل العهر. هكذا تبدو الصيغة إما ما يُقال إنه انحلال، أو القبول بمستوى متدنٍّ من حقوق النساء، وحتى النماذج الغربية التي تُستحضر لدحض المطالبة بالحقوق هي جزئيات في مجتمعاتها، وبعضها الظاهر في الغرب يوجد ما يماثله بعيداً عن الأنظار والإشهار في سوريا.

الحديث اليوم عن النساء وحرياتهن يُنظر إليه أيضاً كمطلب فئوي لمجموعة من المثقفين، حيث صار شائعاً استخدام وصف المثقفين على سبيل التحقير، أو كمطلب يخص نساء الأقليات، وفي كل الأحوال لا توضع حقوق النساء ضمن السياق السوري العام، والاستثنائي في جانب منه. نعني بالاستثنائي تحديداً أن سوريا خارجة للتو من صراع مدمّر، أدى حسب التقديرات إلى مقتل وفقدان ما يُقارب مليون رجل، يُضاف إليهم حجم كبير من الذكور الهاربين من بطش الأسد أو من الخدمة العسكرية، وأخيراً ما يزيد عن مليوني إعاقة، أيضاً معظمها لدى الذكور.

بموجب الإحصائيات السكانية الأخيرة قبل الثورة كانت نسبة النساء راجحة، أما الآن مع الأخذ بالتقديرات السابقة فهناك اختلال كبير جداً في التناسب بين عدد الإناث والذكور. ما يهمنا في هذا السياق أن القوة العاملة في سوريا ستكون من النساء بنسبة كبرى، وستنضم سوريا إلى نادي البلدان التي حملت فيها النساء عبء إعادة الإعمار بعد حروب مدمرة.

لا يحتاج الأمر نباهة استثنائية للقول بأن إقصاء النساء من الفضاء العام لا يستقيم مع دورهن الاقتصادي الاضطراري والاستثنائي، وحتى إذا لم يحدث الإقصاء أو التهميش على نحو معلن ومباشر فإن حدوثه من خلال السكوت عن انتهاكات فردية سيدفع النساء إلى الخوف، وإلى تحاشي الخطر المحتمل حدوثه. إن أفضل تصوّر للمستقبل القريب ينص على تحول البلد إلى ورشة عمل تحتاج إلى عدد من الأيدي العاملة قد يفوق ما هو متوفر حقاً، وإقصاء النساء، فوق ما فيه من قمع لحرياتهن، هو خسارة على المستوى الاقتصادي الكلّي. و لابأس إذا أضفنا إلى ذلك أن خروج النساء، وتعدد الخيارات الفردية لأنماط عيشهن، يستتبع حجماً من الإنفاق وأنواعاً من الإنتاج يصبّان في الدورة الاقتصادية العامة.

لم تندلع الثورة في سوريا احتجاجاً على منسوب متدنٍّ للحريات الاجتماعية، ولا احتجاجاً على ما هو متوفر منها، رغم وجود مطالب بتحسين بعض القوانين المتعلقة بالمرأة ومواءمتها مع القوانين الدولية. الثورة كانت للمطالبة بقدر أعلى من الحريات، خصوصاً السياسية، والظن أن تقييد الحريات الفردية والاجتماعية ممكن هو على شاكلة الظن أن تقييد السياسية منها ممكن. الأهم أن الحرية والقوانين التي تحمي حريات الجميع ليسا بالمطلب الاجتماعي أو الثقافي فحسب، هما في صلب الحرية الاقتصادية أيضاً.

ننوّه بأن القوانين تحمي حداً من الحريات أعلى من الحد المعتاد، والشرائح الأوسع في العالم لا تمارس الحد الأقصى المسموح به قانوناً. والحرية بمراميها الاقتصادية هي بمثابة رأسمال تحتاج إليه سوريا من أجل جذب الاستثمارات، فهي ليست على شاكلة بلدان تمتلك من الثروات الطبيعية ما يجعلها تأتي بما تشاء، وتحقق النوعية التي تريدها من النهضة والرخاء. الحرية المنشودة ليست من أجل شرب الويسكي، أو من أجل السماح بالبكيني على البلاجات، لكن حرية فعل الاثنين لمن يشاء لا تنفصل عن الحرية المطلوبة لنهوض الاقتصاد؛ الحرية المطلوبة لتأمين لقمة العيش.

المدن

—————————————

يا عمال ومستهلكي سوريا.. اتحدوا/ إياد الجعفري

الإثنين 2025/06/09

هي ليست دعوة أيديولوجية- يسارية الطابع، بقدر ما هي دعوة لخلق توازن مبكّر في العلاقة بين الطبقة العاملة التي تشكّل الغالبية في المجتمع السوري، وبين أرباب العمل من القطاع الخاص، الذي ازداد نفوذه بصورة جليّة، منذ سقوط نظام الأسد، مع إعلان السلطات الجديدة عن توجهها الليبرالي.

وهنا، تجب الإشارة إلى أن حقوق العمالة لم تكن مصانة في سوريا، حتى يوم كانت السلطات السابقة ترفع شعارات يسارية، لم تتجاوز كونها بروباغندا، لا تطبيق عملياً لها على أرض الواقع. لكن هناك فارقاً نوعياً استجد بعيد سقوط نظام الأسد.

ففي السابق، كانت جميع أطراف العملية الإنتاجية والاقتصادية في سوريا، ضحايا لإجراءات النظام الاستثنائية في جمع المال، بعد جفاف مصادر التمويل، بعيد العام 2011. فأضرار إجراءات النظام الجبائية المبالغ بها، طالت مصالح أرباب الأعمال في سوريا، بصورة تجاوزت بأضرارها حقبة الصراع العسكري المسلح بين 2012 و2018. حتى أن أكبر ملامح الانهيار الاقتصادي في سوريا، تجلت بعيد العام 2018، ووصلت إلى ذروتها في الأعوام التي تلت 2021، جراء سياسات النظام حيال رأس المال الوطني الذي بقي في البلاد، فدفع الثمن غالياً.

ومع الأيام الأولى من سقوط النظام، وإبداء السلطات الجديدة مواقف إيجابية حيال رأس المال الوطني، بدا أن جانباً كبيراً من التجار والصناعيين، من المحتفين بشدة برحيل الأسد، ومن المرحبين بحفاوة بالتغيير الذي حصل. وبدأت التطورات اللاحقة تؤكد إيجابية هذا التغيير لصالحهم.

قبل أيام، أصدرت وزارة المالية السورية قراراً بتشكيل لجنة لإصلاح المنظومة الضريبية، وإعداد نظام ضريبي جديد. وضمت اللجنة في عضويتها، ممثلين عن غرف التجارة والصناعة في دمشق وحلب، في خطوة غير مسبوقة. إذ بات لممثلي القطاع الخاص القدرة على المشاركة في صياغة لوائح الضرائب والرسوم المفروضة عليهم. خطوة أشاد بها الكثيرون، وانتقدها البعض. لكنها كشفت عن ازدياد نفوذ رأس المال السوري، وطبيعة العلاقة الإيجابية التي باتت تربط بينه وبين ممثلي السلطة الجديدة.

من جانب كاتب هذه السطور، هي خطوة مرحب بها بالفعل. فسوريا اليوم بحاجة ملحة لتفعيل نشاط رأس المال الوطني فيها، وجذب المغترب منه، والعربي والأجنبي أيضاً، عبر إجراءات استثنائية، بغية خلق فرص عمل وتحسين القدرة الشرائية للسوريين، بأسرع وقت ممكن. من أبرز الإجراءات لتحقيق ذلك، وضع الضرائب بصورة تشاركية مع دافعيها الرئيسيين. لكن في الوقت ذاته، وفيما يمكن الترحيب بأية إجراءات لجذب رأس المال للاستثمار في سوريا، يجب الانتباه إلى حقوق العمالة، وعدم إتاحة المجال للتغول عليها.

وفيما يتهم البعض السلطة القائمة في دمشق اليوم، بأنها باتت شريكة لأصحاب رؤوس الأموال، وحليفة لهم، يمكن ملاحظة شيء من الارتباك في أداء صنّاع القرار الاقتصاديين، في محاولة خلق توازن في المصالح بين غالبية السوريين، وبين أرباب الأعمال في القطاع الخاص. من ذلك، القرار الذي صدر عن وزارة الاقتصاد والصناعة، ونص على تكثيف الجولات الميدانية لدوريات التجارة الداخلية وحماية المستهلك في الأسواق، قبيل عطلة عيد الأضحى. ودوريات التجارة الداخلية المعروفة شعبياً باسم “التموين”، لطالما كانت مرادفاً للرشوة والابتزاز الموجه للتجار. وقد فشلت لعقود، خلال عهد النظام السابق، في تحقيق الهدف الرئيس منها، وهو ضبط الأسعار، لصالح المستهلك السوري. ورغم ذلك، لقي القرار ترحيباً ملحوظاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في أوساط السوريين الذين علّقوا عليه، جراء انفلات الأسعار غير المسبوق الذي تعيشه سوريا، منذ سقوط النظام السابق.

ورغم أن القرار المشار إليه، استهدف لجم المغالاة في رفع الأسعار من جانب “بعض ضعاف النفوس من أصحاب الفعاليات التجارية”، إلا أنه ناقض النهج الذي أعلنته السلطات الجديدة منذ أشهر، والقائم على التوجه نحو “اقتصاد السوق الحر التنافسي”، وعدم التدخل في فرض الأسعار.

هذا الارتباك في أداء السلطات، يُظهر عدم وضوح الرؤية لديها، حيال كيفية خلق توازن بين مصالح المستهلكين من جهة، والتجار والمنتجين من جهة ثانية. ينسحب ذلك على العلاقة بين الطبقة العاملة وأرباب العمل. هل من رؤية لدى السلطة، لخلق توازن في المصالح بينهما؟ كان لافتاً، قبل أيام، الإعلان عن توقيع اتفاق بين الاتحاد العام لنقابات العمال في سوريا، واتحاد نقابات موظفي القطاع العام في تركيا، لتعزيز التعاون في مجالات التدريب والدعم الفني وتبادل الخبرات النقابية.

وكما هو معلوم، كانت الحركة النقابية السورية إحدى أبرز ضحايا قمع نظام الأسد في حقبة السبعينات من القرن الفائت، قبل تدجينها لتصبح أداة سلطوية. واليوم باتت الفرصة ملائمة لاستعادة دور النقابات في سوريا. وقد لا يكون المدخل الأمثل لذلك، هو التعاون مع نقابات نظيرة في تركيا، المصنفة ضمن أسوأ 10 دول على صعيد حقوق العمال، وفق مؤشر الحقوق الدولي الصادر عام 2025. لكن، تجب الإشارة إلى أن سوريا في وضع أسوأ من تركيا، في تصنيفات المؤشر الدولي ذاته. ورغم ذلك، لفت معدّو المؤشر –الاتحاد الدولي للنقابات- إلى ظهور جهود مبكرة لتنظيم العمال واستعادة حقوقهم في سوريا، بعد سقوط نظام الأسد.

ومع غياب إعلان السلطات الجديدة عن رؤية واضحة لموازنة المصالح بين القطاع الخاص، وبين المستهلكين والطبقة العاملة، قد يكون المدخل الأمثل لخلق هكذا توازن، هو في تحرك المجتمع المدني، تحديداً، النقابات وجمعيات حماية المستهلك، لتنظّم نفسها، وتتعاون، وتحاول خلق عوامل ضغط على السلطات وعلى القطاع الخاص، لاستدراج التنازلات، على صعيد خفض الأسعار ورفع الأجور، عبر استراتيجيات مبتكرة للمقاطعة مثلاً، وللإضراب في حالات أخرى. البديل عن ذلك، هو حصر الرهان على مواقف إيجابية من جانب السلطة، وحدها. والانتكاس إلى رهانات مجرّبة مراراً، من قبيل “دوريات التموين”، وتحديد الأسعار والأجور.

المدن

————————————-

لماذا لم تتحسّن العلاقات السورية اللبنانية؟/ عمر كوش

08 يونيو 2025

يبدو أن مقولة “خلاص سورية هو خلاص للبنان” التي كان يردّدها مثقفون وسياسيون سوريون ولبنانيون، وتعبّر عن مدى ارتباط الأوضاع بين البلدين، بحاجةٍ إلى مزيد من النظر والفحص، بالنظر إلى أن تغيّر الأوضاع في سورية مع السقوط المدوّي لنظام الأسد البائد لم يصاحبه تغيّر كبير في الوضع في لبنان. وبالأحرى، لم يؤثر كثيراً على مسار تصحيح العلاقة بين البلدين، على الرغم من انتخاب رئيس جديد في لبنان وتشكيل حكومة جديدة، جرى أول مرّة، ومنذ عدة عقود، بعيداً عن أي تدخّل من الطرف السوري.

صحيح أن سقوط نظام الأسد أسهم في تسهيل عملية انتخاب الرئيس جوزاف عون، واختيار نواف سلام لرئاسة الحكومة اللبنانية، إلا أن العامل الأهم الذي حسم ذلك تراجع دور حزب الله في إثر الضربات القاصمة التي تلقّاها من إسرائيل، وأفضت إلى تصفية معظم قياداته السياسية والعسكرية، واضطرّ مكرهاً إلى قبول تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701. وبالتالي، لم تعد علاقات لبنان الخارجية، ومعها كل القرارت المصيرية في لبنان، وتلك المتعلقة بمصير السياسيين اللبنانيين، لم تعد تُصنع في دمشق بالتنسيق مع طهران مثلما كان الأمر خلال عهد الوصاية السورية، وكان حزب الله صاحب الكلمة العليا في الداخل اللبناني، ويستطيع فرض “فيتو” على أي قرار سياسي لبناني لا يرضى عنه، فضلاً عن أنه كان يمتلك قرار الحرب والسلم في لبنان، وأدخل لبنان في حرب مع إسرائيل في أكثر من مرّة، من دون استشارة أحد من اللبنانيين.

إذن، لم يتأثر مسار العلاقات السورية اللبنانية بالرغم من الزلزال الاستراتيجي الذي حدث في سورية في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ومن التغير الحاصل في التركيبة الحكومية في لبنان، حيث لم يتم إحداث تقدّم في ملفات المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية، وخصوصاً معتقلي الرأي في سجن رومية، على الرغم من تحرك السلطات السورية في هذا الخصوص، والوعود التي تلقتها من المسؤولين اللبنانيين. كما أن مطالبتها باسترداد الأموال السورية المودعة في المصارف اللبنانية لم تلق آذاناً مسموعة، على الرغم من حاجتها الماسّة إليها، كونها تمثل أحد أهم موارد تمويل لتعافي الوضع المعيشي للسوريين، وتمويل عملية إعادة الإعمار، لا سيّما وأن حجمها يتجاوز 20 مليار دولار حسب تقديرات مراكز البحوث والدراسات، ويفوق كل ودائع القطاع المصرفي الخاص وأصوله في سورية. وينسحب الأمر كذلك على ملف ترسيم الحدود البحرية والبرّية الذي أبدت الإدارة الجديدة استعداها للتعاون بشأنه وتقديم الخرائط، وترحيبها بعودة اللاجئين السوريين من لبنان إلى بلادهم.

في الجانب الأمني، تعتبر الإدارة السورية الجديدة ملف تهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود السورية اللبنانية الملف الأبرز الذي يؤرقها، كونه يفاقم التحدّي الأمني الذي تواجهه منذ سقوط نظام الأسد، حيث لا تقوم السلطات اللبنانية بما عليها من إجراءات لضبط الحدود ووقف التهريب، على الرغم من وعود المسؤولين اللبنانيين الذين التقوا نظراءهم السوريين في دمشق أو في سواها من العواصم. كما أن الوفود العسكرية اللبنانية التي زارت دمشق لمتابعة الملفات الأمنية والحدودية لم تفعل شيئاً في هذا الخصوص، فيما يغيب الجيش اللبناني في المناطق الحدودية نظراً إلى وجود عشائر ومجموعات موالية لحزب الله فيها.

لا تخفي الإدارة السورية الجديدة انزعاجها من التعامل اللبناني الرسمي معها، على الرغم من انفتاحها لفتح صفحة جديدة مع لبنان، تطوي صفحة الوصاية والهيمنة، وتقوم على المصالح المشتركة للشعبين وللدولتين. ولعل اللافت في الأمر أن بعض الأوساط اللبنانية تحذّر الرئاسة اللبنانية من الاستجابة للمطالب السورية، وتعتبرها بمثابة رضوخ يهدّد سيادة لبنان واستقلاله، في حين أنها كانت راضية طوال عقود عديدة عن رضوخه لوصاية نظام الأسد البائد والمحور الإيراني.

كان المأمول، بل والمفترض أيضاً، أن تؤدّي التغيرات التي حصلت أخيراً في كل من دمشق وبيروت إلى تحسّن في مسار العلاقات السورية اللبنانية، بالرغم من محاولات الإدارة السياسية الجديدة في سورية، ومساعي بعض السياسيين اللبنانيين، وفي مقدّمهم رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام الذي زار دمشق، ولم تؤثر زيارته كثيراً في حلحلة المسائل والملفات العالقة بين البلدين، بالنظر إلى أن رئيس الحكومة ليس وحده صاحب القرار في هذا الشأن، وليس هناك توجّه من رئيس الجمهورية اللبنانية لاستيعاب التغير الحاصل في سورية، لأنه لا يزال مشدوداً إلى حسابات نظام المحاصصة الطائفية في لبنان. وهنا الفرق بين التغير الحاصل في سورية الذي طاول النظام برمته والتغير الحاصل في لبنان واقتصر على تغير الشخصيات الرسمية، بينما بقي نظام المحاصصة الطائفي نفسه على الرغم من تراجع وزن حزب الله وتأثيره العسكري والسياسي في الداخل اللبناني، الأمر الذي يشي بأن الحسابات والتوازنات السابقة ما تزال تفعل فعلها في لبنان، وتؤثر ليس على وضعه الداخلي، بل على علاقاته الخارجية أيضاً. وهذا يفسّر عدم احتضان دول الخليج العربي التغير الحاصل في لبنان، حيث لم تتم دعوة الرئيس عون إلى القمة الخليجية الأميركية التي استضافتها الرياض في 14 مايو/ أيار، خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط. فيما دعي الرئيس السوري أحمد الشرع إليها، ثم جرى اللقاء التاريخي بين الشرع وترامب، وأعلن الأخير رفع العقوبات عن سورية، بينما ما يزال اللبنانيون ينتظرون تدفق المساعدات والاستثمارات العربية والدولية في وقت تفرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على معظم شحضيات حزب الله ومؤسساته، وتطاول العقوبات أيضاً شخصيات مقرّبة منه مثل جبران باسيل وغيره، الأمر الذي يعيق تعافي لبنان ويمنع تدفق الاستثمارات الأجنبية فيه، وإعادة الإعمار فيه.

المشكلة أن القوى السياسية في لبنان ما تزال متأخّرة عن مواكبة التغيّر السوري، نظراً إلى أن التغيير الحاصل في الوضع اللبناني لم يكن جذرياً مثل نظيره السوري، إذ ما تزال القوى الخاسرة من التغير السوري تمتلك أوراق قوة، وتتخوّف من فقدانها. إضافة إلى أن القوى المتحكّمة بالنظام اللبناني ما تزال تنظر إلى الإدارة السورية الجديدة بوصفها مجموعة إسلامية متشدّدة، فيما غيرت معظم الدول مواقفها مما جرى في سورية، واحتضنت التغير السوري الجديد ودعمته.

العربي الجديد

——————————

أرشيف التلفزيون السوري… ذاكرة وطن أم غنيمة حرب؟/ حسام أبو حامد

07 يونيو 2025

تصنع الذاكرة حصوناً من الحقيقة وسط الدمار والمجازر والسنوات العجاف. لا الذاكرة البشرية وحسب، بل أيضاً تلك التي جمعتها شرائط ممغنطة، وكاميرات، وأصوات إذاعية، وأوراق مكتوبة، نقلت نبض الحياة اليومية. الذاكرة هي الصندوق الأسود الذي يستنطق صوت شعب ينبض بالحياة رغم جراح الثورة والحرب. ومع انهيار النظام، تعرّضت وثائق وسجلّات للتدمير أو السرقة أو الإخفاء المتعمّد، خاصّةً ما يحوي معلومات حسّاسة تتعلّق بأجهزة الأمن والمخابرات، بعضها سُرّب إلى وسائل إعلام، كاشفاً حجم القمع الذي مارسه النظام، ما يؤكّد إلى أيّ حدّ تؤثّر خسارتها في إتمام الطريق إلى العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. ويحتضن التلفزيون السوري جزءاً أساسياً من الأرشيف الوطني، مئات آلاف الساعات من البرامج الثقافية والترفيهية والسياسية، وتسجيلات للأحداث الكُبرى التي مرّت بسورية في فترات مختلفة. وخلال الشهور التي تلت سقوط النظام، بدأنا نشاهد في منصّات التواصل الاجتماعي لقطات لم تكن متاحة سابقاً للعرض، حافظ الأسد يردّ في مقابلة على تسمية حركته “التصحيحية” انقلاباً، وأخرى له مع أنور السادات ومعمّر القذافي يصلّون الجمعة إبّان اتحاد سورية مع مصر وليبيا، وجلسة لمجلس الشعب السوري تنتخبه رئيساً. تسجيلات لجلسات برلمانية أو مؤتمرات حزبية من الداخل، ولقطات من دراما سورية، وأخرى لمدن وأسواق وشوارع. تنتشر هذه التسريبات في سياق عشوائي بلا ضوابط قانونية أو تقنية. والتسريبات، حتى مع نيّات حسنة، ليست بديلاً من الحفظ المنهجي، فالتاريخ بلا سياق صورة معلّقة على جدار فارغ.

بقي أرشيف التلفزيون السوري عرضة إمّا للإهمال، أو للسرقة، أو للتوظيف السياسي. ومنذ سقوط النظام، وكما كانت الحال بالنسبة إلى وثائق السجون وأفرع الأمن، لم تحدّد السلطات السورية الجديدة مصير الأرشيف بعد تقارير عن نهب أجزاء منه، وبيعها في السوق السوداء، أو تحميلها في مواقع إلكترونية. تحدّث موظفون سابقون في الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون عن محاولات “إنقاذ فردية”، وتُتَّهم جهات بمساعدة أسماء الأسد بالتورّط في تسريب (أو استغلال) الأرشيف، لتحقيق مكاسب مالية. لا يوثّق أرشيف التلفزيون السوري الرؤساء فحسب، بل يوثّق وطناً. إنه الصدى المتكرّر لحياة السوريين بتفاصيلها كلّها، الصاخبة منها والبسيطة، والنظر إليه غنيمة حرب من أطراف متعدّدة أو مادّة قابلة للبيع، انتهاك مزدوج للذاكرة وللشعب. إنه ذاكرة السوريين، وجزء من الأرشيف الوطني الأوسع، قبل أن يكون بروباغاندا لنظام الأسد.

قد يعاني ما تبقّى من مواد أرشيفية في التلفزيون السوري عوامل التلف، وما لم تُنقل إلى وسيط رقمي سريعاً، فسنفقد سنواتٍ لا يمكن إعادة تمثيلها أو استعادتها. يتطلّب الأمر قراراً جريئاً بوضع الذاكرة في قلب مشروع “الدولة الجديدة”، لا في هوامشها. ويمكن لسورية أن تستفيد من تجارب دول واجهت ظروفاً مشابهة، فالبوسنة والهرسك أنشأت مركز أفلام سراييفو عام 2008 لإحياء أرشيفها ما قبل الحرب، وفي مكتبتها الوطنية رقمنت تشيلي أرشيف ديكتاتورية أوغستو بينوشيه بدعم من منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وجعلته متاحاً للعامّة، جزءاً من مسار العدالة الانتقالية. لم تسمح تلك الدول (وغيرها؛ تيمور الشرقية وجنوب أفريقيا) للذاكرة بأن تموت. لا بدّ من التحرّك المدروس لإنشاء هيئة وطنية مستقلّة تكون مهمتها جمع كلّ ما يتعلّق بالأرشيف السمعي البصري السوري وتوثيقه وحفظه ورقمنته، تعمل بشفافية بدعم من منظّمات دولية، وإطلاق بوابة رقمية تُتيح الوصول المجّاني والمنظّم إلى المواد الأرشيفية، وفق تصنيفات زمنية وموضوعية، ودعم رقمنة الأرشيفات المنزلية بما يحتفظ به عديد من السوريين من تسجيلات مختلفة عبر حملة وطنية ضمن المشروع العام. هناك حاجة ملحّة لإطلاق برامج أكاديمية بتعاون دولي لإعداد أخصائيي أرشفة ورقمنة، لسدّ النقص في الكفاءات. ولا بدّ من تشريع قوانين تمنع البيع أو التهريب أو التدمير المتعمد لأيّ مادة أرشيفية، واعتبارها ملكاً عامّاً محمياً بالدستور والقانون.

الذاكرة الوطنية ملك الشعب، لا تُحتكر ولا تُباع. إنها وجه سورية الذي يجب ألّا يُطمس، وضميرها الحيّ الذي يجب أن يُصان ذاكرةً جامعةً لكلّ السوريين، بغضّ النظر عن طوائفهم وأعراقهم وتوجّهاتهم السياسية.

العربي الجديد

———————————-

 السوريون شعب يستحق الحياة/ أحمد زكريا

2025.06.08

لطالما كانت سوريا، بتاريخها العريق وشعبها الصلب، رمزًا للصمود في وجه العواصف، وعلى مدى عقود، عاش الشعب السوري تحت وطأة تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية ألقت بظلالها على حياته اليومية، لكن هذا الشعب لم يفقد يومًا أمله في غدٍ أفضل.

اليوم، مع بوادر رفع العقوبات الدولية عن سوريا، تلوح في الأفق فرصة حقيقية لإعادة بناء وطن مزقته الحرب والعزلة، إنها ليست مجرد خطوة سياسية، بل بداية انفراج طال انتظاره، وبصيص أمل ينير طريق الشعب السوري نحو مستقبل يسوده الاستقرار والكرامة.

إذا ما عدنا بالزمن إلى الوراء، نجد أن سوريا عاشت عقودًا من التحديات التي شكلت واقعها المرير.

على الصعيد السياسي، هيمن نظام الحزب الواحد على مقاليد الحكم، مُحكمًا قبضته على الحريات العامة ومُقيدًا أي محاولات للتعبير عن الرأي أو التغيير. هذه السياسات المستبدة لم تترك مجالًا للحوار أو المشاركة السياسية، مما أدى إلى شعور بالإحباط العام بين أوساط الشعب.

على الصعيد الاقتصادي، عانت سوريا من خسائر فادحة نتيجة العزلة الدولية التي فرضت عليها بسبب تحالفاتها السياسية المثيرة للجدل.

ارتبط اسم سوريا بدول وصفت بـ”محور الشر”، مثل إيران، مما أدى إلى فرض عقوبات اقتصادية طويلة الأمد.

هذه العقوبات لم تؤثر فقط على النظام الحاكم، بل طالت الشعب السوري الذي عانى من تدهور الأوضاع المعيشية، وارتفاع معدلات الفقر، ونقص الموارد الأساسية. لقد أثقلت هذه العقوبات كاهل المواطن السوري، الذي وجد نفسه محاصرًا بين مطرقة العزلة الدولية وسندان الفساد الداخلي.

أما على الصعيد الاجتماعي، فقد شهدت سوريا تمزقًا في نسيجها الاجتماعي الذي كان يومًا متجانسًا.

تم تأجيج الطائفية والمناطقية والعرقية كأدوات لصرف الانتباه عن القضايا الأساسية، ولتعزيز هيمنة السلطة الحاكمة. هذه السياسات زرعت بذور الانقسام في المجتمع السوري، مما جعل التحديات أكثر تعقيدًا.

    ارتبط اسم سوريا بدول وصفت بـ”محور الشر”، مثل إيران، مما أدى إلى فرض عقوبات اقتصادية طويلة الأمد.

مع اندلاع الثورة في عام 2011، دخلت سوريا مرحلة جديدة من المعاناة، حيث استمرت حرب نظام الأسد الضروس لمدة أربعة عشر عامًا، واجه الشعب السوري نظامًا مستبدًا مدعومًا بقوى خارجية، في ظل عزلة دولية خانقة.

رغم ذلك، أظهر الشعب السوري صمودًا أسطوريًا، لقد قاوم السوريون بكل ما أوتوا من قوة، مدفوعين بحلم الحرية والكرامة، كانت المعارك التي خاضها الأحرار والثوار ملحمة حقيقية، حيث ضحوا بالغالي والنفيس من أجل وطن يعيش فيه الجميع بأمان وسلام.

هذا الصمود لم يكن مجرد مقاومة عسكرية، بل كان تعبيرًا عن إرادة شعب رفض الاستسلام لليأس. في ظل الحصار والعقوبات والدمار، واصل السوريون الحفاظ على إنسانيتهم، متمسكين بأملهم في مستقبل أفضل.

لقد كانت هذه السنوات العجاف اختبارًا قاسيًا لروح الشعب السوري، لكنه أثبت أنه شعب يستحق الحياة.

اليوم، نشهد بوادر تغيير إيجابي مع رفع العقوبات عن سوريا، هذه الخطوة ليست مجرد قرار سياسي، بل هي بداية لتحول جذري قد يعيد سوريا إلى خريطة العالم كدولة فاعلة، لقد بدأت سوريا تخرج من عنق الزجاجة، حيث أصبحت محجًا للوفود العربية والدولية التي تزورها لعقد صفقات إعادة الإعمار.

هذه الزيارات ليست مجرد رحلات دبلوماسية، بل هي إشارة واضحة إلى أن سوريا بدأت تستعيد مكانتها في المجتمع الدولي.

مشروع مارشال الذي يُلوح في الأفق يمثل فرصة تاريخية لإعادة بناء سوريا. هذا المشروع، الذي يهدف إلى إحياء الاقتصاد السوري وإعادة إعمار البنية التحتية، قد يكون الشرارة التي ستغير حياة السوريين نحو الأفضل.

إن إعادة الإعمار ليست مجرد بناء جسور ومبانٍ، بل هي بناء مستقبل يتسع لأحلام الشباب، ويوفر الأمان للعائلات، ويعيد الأمل للأجيال القادمة.

إن رفع العقوبات وانفتاح سوريا على العالم يفتحان الباب أمام إمكانيات هائلة.

سوريا، بموقعها الجغرافي الاستراتيجي وتاريخها الغني، تملك كل المقومات لتصبح مركزًا إقليميًا للتجارة والثقافة والاستقرار.

هذا الانفتاح سيسمح بتدفق الاستثمارات، وإعادة بناء البنية التحتية، وخلق فرص عمل لملايين السوريين الذين عانوا من البطالة والفقر.

علاوة على ذلك، فإن استعادة الاستقرار في سوريا سيكون له أثر إيجابي على المنطقة بأسرها. سوريا المستقرة والمزدهرة قادرة على أن تكون جسراً للتعاون بين الدول العربية والمجتمع الدولي، مما يعزز السلام والتنمية في المنطقة.

إن استقرار سوريا ليس مجرد مصلحة وطنية، بل هو مصلحة إقليمية وعالمية.

في خضم كل هذه التحديات، يبقى الشعب السوري هو البطل الحقيقي لهذه القصة.

لقد أثبت السوريون أنهم شعب لا يُقهر، قادر على مواجهة أصعب الظروف والخروج منها أقوى. إن صمودهم في وجه الحرب والعزلة والمعاناة هو شهادة على قوة إرادتهم وتمسكهم بالحياة.

اليوم، ومع بداية هذا الفصل الجديد في تاريخ سوريا، حان الوقت لمنح هذا الشعب الفرصة التي يستحقها. إن رفع العقوبات وانطلاق مشاريع إعادة الإعمار هما خطوات أولية نحو تحقيق العدالة لهذا الشعب الذي قاسى الكثير، إنهم يستحقون وطنًا آمنًا، حرًا، ومزدهرًا، يعكس طموحاتهم وتضحياتهم.

سوريا اليوم تقف على أعتاب مرحلة جديدة، مليئة بالتحديات ولكنها محفوفة بالأمل.

إن رفع العقوبات وانفتاح العالم على سوريا هما بداية الطريق نحو استعادة الكرامة والاستقرار، فالشعب السوري، الذي صمد في وجه كل الصعاب، يستحق أن يرى النور في نهاية النفق، لذلك دعونا نعمل جميعًا (شعوبًا ودولاً) على دعم سوريا في رحلتها نحو الإعمار والازدهار، لأن السوريين ليسوا فقط شعبًا يستحق الحياة، بل هم شعب قادر على بناء مستقبل يليق بتضحياته.

مرت سنوات الحرب، وظل الشعب السوري يدفع الثمن، قُتل الآلاف، وهُجر الملايين، ودُمرت المدن والقرى، بينما بقي الإنسان السوري في صميم المعاناة، محاصرًا بين القصف والجوع والخوف. لكنه ظل صامدًا، لا لأنه يريد الحرب، بل لأنه يبحث عن حياة تستحق أن تُعاش.

الشعب السوري ليس مجرد إحصائية في تقارير المنظمات الإنسانية، ولا هو رقم في قائمة اللاجئين، إنه إنسان له أحلام، له طموحاته، له حقه في أن يعيش بكرامة، حقه في أن يذهب إلى المدرسة، أن يعمل، أن يبتسم، أن يحلم بمستقبل لا يخفي خلفه خطر الموت أو الاعتقال.

لقد عاش هذا الشعب كل أشكال الألم: فقد الأبناء، تفتت العائلات، انعدام الأمن والأمان، ومع ذلك، ما زالت هناك شرارة أمل في عيون الكثيرين، شرارة تقول إن الحياة تستحق المحاولة، وأن المستقبل يمكن أن يكون أفضل إذا أعطي لكل مواطن فرصة حقيقية ليعيش.

الحديث عن استحقاق الشعب السوري للحياة ليس موقفًا سياسيًا، ليس دعوة للشفقة، هو ببساطة اعتراف بحقيقة بديهية: لا يُعقل أن يظل هذا الإنسان رهينة للصراعات والحسابات الخارجية، هو بحاجة إلى سلام حقيقي، إلى عفو عام، إلى بنية تحتية تُعاد، إلى مجتمع يُضمّد جراحه ويبدأ من جديد.

نعم، الشعب السوري يستحق الحياة، يستحق أن يعود إلى بيته، إلى عمله، إلى كرامته، واستحقاقه لهذا الحق البسيط لا يحتاج إلى نقاش، بل إلى إرادة حقيقية من الجميع لإعادة بناء ما دُمر، وترك الماضي المؤلم خلفنا، والبدء بمستقبل يجمع ولا يفرق.

نعم، الشعب السوري يستحق الحياة، يستحق أن يعود إلى وطنه دون خوف، أن يبني بيته مرة أخرى، أن يفتح مدرسة لأطفاله، وأن يحلم بمستقبل لا يحمل اسم الحرب، ولن يكون هذا إلا إذا قرر الجميع أن الإنسان أولى من المصالح، وأن الحياة ليست امتيازًا، بل حق يجب أن يُعطى دون شروط.

——————————————

 ذاكرة الثورة.. بين الشهداء الذين غابوا والأحلام التي بقيت/ علي سفر

2025.06.07

واحدة من مجموعات فيس بوك حملت عنوان “شو رح تعمل بس يسقط النظام”، قام شخص ما باستعادتها، لتظهر بعد 14 سنة على الواجهة أمام المشتركين فيها. فنشطت من جديد، لا ليُجيب الأعضاء عن سؤال تجاوزته الوقائع، بعد أن انتصرت الثورة على نظام الإجرام الأسدي، بل من أجل تذكّر بعض التفاصيل، بكامل الطاقة التي صار فعل التذكّر يمنحها للسوريين، بين الأسى والفرح، وبين تكريس الذكرى ونسيان الحوادث المؤلمة التي أحاقت بالجميع في ظروف حرب ساحقة، لم ينجُ من تأثيراتها أحد.

التفاصيل المستعادة هنا بدأت بأسماء وصور المشتركين الشهداء والمختفين قسرًا والمعتقلين الذين غابت حيواتهم في مجاهيل الأسر. فحين نتذكّر ذلك الحضور البهيّ حينما كانوا بيننا، أو على صفحات فيس بوك وغيره، يسجّلون تفاصيل مشاركتهم في لحظة تاريخية فارقة، ونتذكّر كيف أنهم اختفوا فجأة من ذلك الفضاء، نتيجة لتكتيك كان يُتبع مع المعتقلين الجدد، يقضي بقيام أصدقائهم بحذف صفحاتهم الشخصية، بالتعاون مع عدد من الناشطين الواصلين إلى المحطة الإقليمية للموقع الأزرق، من أجل حمايتهم في أثناء التحقيق من عذاب إضافي بسبب فضول المحققين لمعرفة كل شاردة وواردة في محادثاتهم، وحرصًا أيضًا على الشركاء ممن لم يتم اعتقالهم.

بسبب هذا التكتيك اختفت نسبة كبيرة من صفحات الناشطين الغائبين، وبقي القليل. لكن لا يخلو الأمر من العثور على مشاركة لهذا الشهيد أو ذاك المختفي أو المعتقل في صفحة ما أو مجموعة منسية، كما حصل هنا.

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن القيمة الأهم في عودة محادثات السوريين الثائرين بمختلف توجهاتهم، تمثّلت في محتوى الإجابة على السؤال: ماذا تريد أن تفعل إذا سقط النظام؟

إذ يحصل الباحث المهتم بتحوّلات مطالب السوريين بين شهور الثورة الأولى ولحظة سقوط النظام، على كمّ هائل من الحيثيات التي تُظهر الفرق بين زمنين، حدثت بينهما مجازر هائلة، أدت إلى نزوح ولجوء ما يقارب نصف سكان سوريا، وارتفاع أعداد القتلى على يد جيش النظام وأجهزته الأمنية وشبّيحته والفصائل الطائفية القادمة من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان، والطيران الروسي والحرس الثوري الإيراني. ووقوع جرائم شنيعة ارتكبتها الفصائل المسلحة التي حاربت النظام وحلفاءه، ووقوع جزء كبير من السوريين تحت أسر تنظيم الدولة، الذي حوّل أنظار العالم من مراقبة أفعال الأسد وعصاباته إلى التركيز على أفعال قام بها مقاتلوه والتي لا يقبل بها شرع ولا دين.

يصعب التصديق بأن الشاب الذي حلم بعد سقوط النظام بعزف الدرامز في شارع الصالحية، ما زال يحتفظ بالحلم ذاته اليوم. فما جرى في سوريا جعله يترك السلمية كخيار أساسي للثورة في عامها الأول، ويبحث عن طريقة أخرى لمقاومة العنف الذي مُورس ضده وضد أهله وسكّان حيه ومنطقته، التي صارت خاوية بعد أن هرب الناس منها، فأتى الشبيحة ونهبوها، وكسّروا وأحرقوا ما لم يستطيعوا حمله معهم.

معظم ما يُقرأ في هذه المجموعة وفي غيرها، يأتي على ذات المنوال؛ فلا تستغرب أن ترى الشابة الثائرة التي كانت تملأ الشارع بحيويتها، قد انتهى بها الحال تنتظر عودتها بعد أن قضت الوقت وهي تُربّي أطفالًا صغارًا في إحدى دول اللجوء، ولن تستغرب أن البعض ممن كانوا يشاركون الثائرين الحلم ذاته قد انتكسوا في وقت ما وعادوا إلى أحضان النظام، وربما صاروا من شبيحته.

هي تحوّلات الحياة، نعم، لكنها اختبار كبير، نجح فيه الشهداء والمختفون، وقد غادروا المشهد وهم على الأرضية التي نعرفها، ونجح فيه آخرون، ممن أكملوا العمل على قضيتهم الأساسية، فواجهوا صعوبات جمّة، كادت أن تجعل كفّة اليأس راجحة على كفّة التفاؤل في حيواتهم، حتى تم إنقاذ الجميع عبر انتصار قوات ردع العدوان في إسقاط الطغمة الأسدية، والتي ضمّت مقاتلين كانوا في وقت ما حالمين، كما الجميع الذين دوّنوا أفكارهم في المجموعة.

التباينات التي يشهدها الواقع بين السوريين المنتصرين، ولا سيّما الخلاف حول الموقف من الدولة الحالية، وسلوكيات القائمين على مؤسساتها، لم يكن شركاء الحلم ليتوقّعوا أنهم سيصلون إليها. لا لعجز في التفكير، بل لأن الإغواء الثوري العفوي قاد نحو تصوّر مثالي، لم يكن الشباب الثائر مضطرًا لأن يخوض في رؤى مخالفة له، بسبب الدويّ الهائل الذي أحرزه سقوط أعتى الأنظمة الديكتاتورية العربية في وقت قياسي تحت موجات الربيع العربي.

لكن غياب التوقع لا يعني الاستنكاف عن مباشرة السياسة بوصفها الوسيلة الأفضل للنضال من أجل تغيير الواقع المستجد، وهذا ما يتوجّب على وارثي اللحظة الثورية الأولى أن يفعلوه الآن. فالزمن المتبقي في المرحلة الانتقالية يمكن استغلاله، ويمكن أن يتم ذلك في أي وقت، من أجل بناء أطر سياسية تعبّر عن تطلعاتهم، وكذلك يمكن لكل من ذهب إلى الثورة من أجل حلمه أن يبحث عن الأدوات والشركاء من أجل أن ينفّذه.

خلال الأيام الماضية، تذكّر السوريون في لحظة عاطفية واحدًا من الشباب السوري النقي الذي دفع حياته ثمنًا لموقفه في الانضمام إلى الثورة، أقصد المخرج الشاب باسل شحادة. وطالما أن حمص قد ضمّت جسده بعد أن استُشهد، كان الجميع يتذكرون أيضًا الشهيد عبد الباسط الساروت، ورحلته من كرة القدم إلى الثورة والعمل العسكري. ولو قُيّض لنا أن نسألهما بشكل افتراضي عمّا كانا سيفعلانه بعد سقوط النظام، فهل كنا سنسمع منهما جوابًا لا نتوقّعه؟

سيذهب السينمائي إلى أفلامه، وحارس المرمى إلى ملعبه، والموسيقي إلى أنغامه، والسياسي إلى جدالاته، إلخ… لكن شيئًا واحدًا سيجمع الكل: لقد أصبح بإمكاننا أن نعيش ونعبر عن أنفسنا من دون خوف من سلطة تطارد حياتنا وأحلامنا.

تلفزيون سوريا

 ———————————

 استحقاقات سوريا الخضراء الأساسية/ فارس الذهبي

2025.06.08

يمثل التصحر إحدى أكبر الكوارث البيئية التي تواجه سوريا اليوم، بعد أكثر من عقد من الحرب الطاحنة التي لم تدمر العمران والإنسان فحسب، بل امتدت لتفتك بالغابات والأشجار والمياه والتوازن البيئي. ومع تراجع الغطاء النباتي، صار البلد على حافة أزمة وجودية تتجلى بجفاف الأنهار والينابيع، وبتغير وجه الطبيعة والمجتمع معًا.

نيران الحرب وأفول الأشجار

منذ سنوات، اضطر الأهالي في بادية الشام والتي تتشارك فيها ثمانية محافظات وتشكل 55% من مساحة البلاد، وخصوصاً محافظات ريف دمشق والغوطة وإدلب وحمص إلى التحطيب المباشر من الأحراش والغابات المحمية لاستخدام الخشب في التدفئة بعد أن غابت الكهرباء والمازوت. اجتُثَّت الأشجار كما تُجتث الأرواح، وتعرضت الغابات لهجمات متكررة من الميليشيات الموالية للنظام، إما بالحرق أو بالقصف، مما أدى إلى إبادة عشرات آلاف الأشجار، خصوصًا في إدلب والساحل، حيث فُقدت مساحات شاسعة من بساتين الزيتون والبطم التي كانت تمثل جزءًا من الهوية الثقافية والاقتصادية لتلك المناطق.

في الغوطة الشرقية، حدثت كارثة بيئية موازية بفعل قرارات محافظ ريف دمشق التي سمحت بالبناء العشوائي فوق الأراضي الزراعية، ما أدى إلى خسارة آخر أحزمة دمشق الخضراء مقابل أرباح فاحشة.

تدهور الغطاء النباتي أثر مباشرة على دورة المياه الطبيعية. فمع تناقص الأشجار، تراجعت قدرة التربة على احتجاز الرطوبة، وبدأت الآبار تنضب، وغابت الأمطار عن مناطق كانت خصبة. اليوم، يعاني نبع الفيجة – الشريان الرئيسي الذي يغذي دمشق – من جفاف مقلق، كما تراجعت منسوبات نهر الفرات والخابور والعاصي إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، مهددة الحياة الزراعية وسلامة الإمداد المائي لملايين السوريين.

تفاقم التصحر في سوريا يعني تآكل الرقعة الزراعية وازدياد الفقر والنزوح. كلما احترق حقل أو سقطت شجرة، انقطع مورد رزق. وكلما تصحرت قرية، سُحقت أسرة واضطرت للرحيل نحو المدن أو وراء الحدود. باتت الصلة بين البيئة والنزوح واضحة، وصار الحفاظ على الأشجار مسألة حياة لا مجرد رفاهية.

إن الأزمة الحالية لا تُحلّ فقط بالرثاء، بل تحتاج إلى حملة وطنية شاملة لتشجير البلاد، تبدأ من المدارس وتنتهي عند الوزارات والبلديات. من الضروري زراعة مئات آلاف الأشجار سنويًا، وبخاصة في المناطق المدمّرة، مع إطلاق برامج توعية حول أهمية الغابات في الاستقرار البيئي والمائي والمجتمعي.

كما يجب الاستفادة من تجارب دول نجحت في مقاومة التصحر، كالصين والجزائر والسعودية، وخلق تحالفات دولية لدعم مشاريع الغرس والحفاظ على مصادر المياه. في المقابل، لا بدّ من محاسبة من سهّلوا الإبادة الخضراء بقوانين كارثية أو بفساد مفضوح.

أهمية المحميات الطبيعية والسياحة البيئية في مكافحة التصحر

في ظل التدهور البيئي المتسارع الذي تعاني منه سوريا، تبرز أهمية المحميات الطبيعية كأحد الحلول الاستراتيجية للحفاظ على التنوع البيولوجي ومقاومة التصحر. تُعد محمية “التليلة” الواقعة شرق تدمر نموذجاً رائداً في هذا المجال، حيث أُنشئت بالتعاون بين الحكومتين السورية والإيطالية، وتهدف إلى إعادة تأهيل الغطاء النباتي وإحياء الحياة البرية عبر استعادة أنواع منقرضة مثل المها العربي والغزلان.

تغطي المحمية 22 ألف هكتار، وتحيط بها جمعيات رعوية تدير عشرات آلاف الهكتارات من الأراضي. وقد سجلت هذه المبادرات نتائج ملموسة، حيث تضاعف عدد الغزلان، وجرى إدخال برامج لإعادة الغطاء النباتي وتوسيع الموارد الطبيعية.

إلى جانب البعد البيئي، تمتلك هذه المحميات إمكانيات سياحية هائلة لم تُستثمر بعد بالشكل الكافي. تشير التجربة الإماراتية، خصوصًا في دبي، إلى إمكانيات السياحة الصحراوية في إنعاش الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة. وتعد منطقة تدمر مرشحة مثالية لهذا النوع من السياحة، نظرًا لما تملكه من مزيج فريد بين الطبيعة الصحراوية والآثار التاريخية.

إضافة إلى محمية التليلة، توجد مبادرات محلية في محافظات السويداء وريف دمشق لإنشاء محميات رعوية ومناطق لإعادة تأهيل المراعي، تهدف إلى حماية النباتات البرية والأزهار البرية وبالتالي النحل البري والحشرات المتممة للدائرة البيئية وبالتالي تأمين مراعي بديلة للمجتمعات البدوية.

وفي المدن الكبرى، تصبح فكرة تطويق المدن بأحزمة خضراء محمية قانونياً مسألة ملحّة. إن إقامة غابات حضرية حول المدن، مثل مشروع مقترح لمحمية على جبل قاسيون ينطلق من سفوحه المطلة على المدينة لينتشر ما وراء الجبل حيث استوطنت قطعات جيش النظام السابق لنصف قرن وحرمت السوريين من هذه المنطقة لعقود، من شأنه أن يحسن جودة الهواء، ويقلل من درجات الحرارة، ويوفر متنفساً بيئياً للسكان، فضلاً عن كونه رمزاً للتماهي بين المدينة والطبيعة.

إن حماية المحميات الطبيعية وتوسيعها، إلى جانب تطوير السياحة البيئية، يمثلان خياراً استراتيجياً لسورية لمواجهة التصحر، وتحقيق توازن بين الإنسان والبيئة، واستعادة صلة المجتمعات بجذورها الطبيعية. فمشاريع التنمية التي تعبر المحافظات السورية مثل خطوط السكة الحديدية والطرقات السريعة قد تزدهر في ظل تنمية البادية السورية وإعادتها إلى سابق عهدها البيئي المزدحم بالحيوانات والمراعي الخضراء.

ما خسرته سوريا من أشجار خلال سنوات الحرب ليس مجرد أخشاب، بل هو فقدان للظل والهوية والرزق والاستقرار. لا يمكن تصور سلام حقيقي بدون أرض خضراء، ولا يمكن الحديث عن عودة الحياة دون خطة إنقاذ بيئي شاملة. إن غرس شجرة اليوم ليس مجرد فعل رمزي، بل مقاومة حقيقية في وجه التصحر والتشظي.

تلفزيون سوريا

————————————-

 رجلُ دين في لجان مقابلة المناصب والإدارات السورية!/ أحمد جاسم الحسين

2025.06.09

حضرتْ مظاهر التدين في الفضاء العام السوري بكثافة في الشهور السابقة، يمكنك أن تلحظ ذلك بسهولة أينما تحركت في سوريا: في اللحى، وفي الشعارات الدينية، وفي اللباس، في اللغة والخطاب ومرجعياتهما كذلك.

ولا تزال الظاهرة موضع أخذ ورد وستبقى، بين من يعد ذلك أمراً طبيعياً كون السُنة في سوريا يشكلون ثلاثة أرباع المجتمع ومن يرى أن المجتمع السوري مجتمع محافظ تقليدياً (لا أعرف من أين شكلوا هذه القناعة)، ومن يعده حالة طارئة تشجعها السلطة الحالية، ومن يرى أن تلك ردة فعل على حرمان غير معلن من حرية الإشهار عن نفسك وخصوصيتك، وناقمٍ أننا لم نثر من أجل ذلك، ومرحب بالظاهرة لأنه استعاد حقه!

قد تكون كل تلك الاحتمالات والتفسيرات صحيحة، سوريا اليوم تعيش حراكاً كبيراً وتغييرات هوياتية جذرية ربما لم تمر بها من قبل عبر تاريخها القصير والمرتبك.

ليس خافياً على أحد الهوية الدينية للحكم ومرجعياته وتاريخه، ذلك منشور عبر الفضاء العام وموثق وغير منكر، بيد أن الإشكاليات تأتي غالباً من جهتين: هل يمكن المحافظة على تلك الخلفية بكامل زخمها حين الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة؟ وكذلك هل يقبل المجتمع ذلك؟

في أية ظاهرة سورية اليوم تحضر المقارنة بين النظام السابق، كأنه قدر السوريين المقارنة بين أسوأ نظام توغلي توحشي، وبين أحد مخرجات ثورة السوريين، وهي مقارنة مجحفة وغير أخلاقية، لأنه لا يمكن لأي ثورة مهما كانت المؤثرات فيها أن تقبل بتلك المقارنة، إضافة إلى أن أي مقارنة في هذا السياق ستعني أنها الفائزة لأن ذلك النظام التوغلي التوحشي الاستبدادي يضرب به المثل في السوء والخراب، وبالتالي سنكتفي بأي منجز تقوم به السلطة الحالية ولن ننقدها أو نصحح مسارها بحجة أنها خلصتنا من أسوأ نظام استبدادي. وهذا غير مفيد لسوريا بل قد يوقعنا بالمراوحة في المكان وهو ما لا يريده أي محب لبلده!

حين رأى السوريون أو قرؤوا قبل أيام أن مستشار الرئيس للشؤون الدينية حاضر في مقابلات الراغبين بالحصول على موقع إداري، بخاصة في مقابلة رؤساء الجامعات، قوبل ذك بردتَي فعل رئيسيتين:

    فريق رأى أن حضوره ضامن أخلاقي أنه لن يأتي شخص ذو جذور فاسدة إلى موقع إداري، وأن التدين أحد عوامل الاختيار أي ضامن أخلاقي بمرجعية دينية، وأصحاب وجهة النظر هذه معظمهم متدينون أو مرحبون بالتفسير الديني للظواهر، أو لديهم ردات فعل عكسية نتيجة لتهميش العامل الديني من قبل، أو اعتقادهم أن حل كل شيء في مجتمعنا ديني.

    فريق سأل: ما علاقة مستشار الرئيس للشؤون الدينية بالمواقع وهل يفهم دهاليز رئاسة جامعة دمشق والتعليم العالي حتى يحضر؟ وبم يختلف حضوره عن حضور مندوب حزب البعث من قبل؟ وكيف يكون السوري مطمئناً على مستقبل بلده ورجال الدين جزء من القرار فيه؟ ألا يكفي سوريا ما فيها؟ وهؤلاء معظمهم من المعارضين أو الداعين لدولة مدنية أو ممن يحرصون على المحافظة على مسافة بين جهاز الدولة الإداري والقناعات الإيمانية لكل شخص…

اللجنة التي تم تكليفها لجنة غير مألوفة في سوريا، وكان شغل المناصب يقرر في سوريا عبر نصف قرن وأكثر نتيجة لخلطة غريبة عجيبة تتمثل في: صلة القرابة، والمصالح الشخصية والرشاوى والرضا المخابراتي والحزبي والمنظماتي والأيديولوجي، وقد يشفع للمرشح بهدف ترجيح كفته إن كانت الأسهم السابقة متقاربة سيرة ذاتية لها علاقة بالكفاءة! بالتأكيد لم تكن تلك المعايير ثابتة خلال النصف قرن الماضي، بل ترتفع وتنخفض أسهم كل منه تبعاً للظروف والمرحلة والشخص المرشح ذاته!

إدارياً يحق لرئيس الجمهورية أو للوزير أو سواه أن يكلف أحد مستشاريه بعضوية أية لجنة من اللجان التي يتم تشكيلها، أو يحق لرئيس اللجنة الاستعانة بأية خبرة يراها مناسبة، وهذا عرف إداري ليس في سوريا فحسب بل في كل دول العالم، وعادة ما يتضمن القرار فقرات تحدد المهمة والمكافأة والزمان والمكان.

مربط القول في الموضوع الأسئلة التالية:

    ما حدود التدخل الديني في مفاصل الدولة؟

    ما حدود دور المستشار الديني في اللجنة؟

    هل يملك مستشار الرئيس الخبرة في الشؤون الجامعية؟

إدارياً، تشكيل لجنة اختيار مناصب؛ يعرض كل راغب بشغل منصب رؤيته واستراتيجيته أمامها لاختيار الأكفأ تقليد إداري مهم، يرافقه سؤال آخر: كيف تم ترشيح هؤلاء الثلاثة لرئاسة الجامعة مثلاً؟

ألم يكن من الأجدر بالسلطة الجديدة أن تستحدث منصة تضع فيها شروطاً تراها تنسجم مع القوانين النافذة، يتقدم الراغبون مع رؤيتهم ثم تختار اللجنة مرشحين منهم لمقابلة أولى وثانية؟

سنجد إجابات: هذا ترف إداري ليس الوقت وقته! أو ربما هذه درجة عالية ليس لدينا وقت لها، أو ضرورة الانسجام الإداري بين المرشحين والرئيس والمرؤوس!

وفي الإجابة، على الإجابة يمكن القول: ليس الموضوع موضوع مصاهرة وزواج وخطبة، الموضوع موضوع بلد، والبلد تحكمه القوانين التي يجب أن ينصاع لها الجميع ممن لديهم المهارات والخبرات الخاصة بشغل موقع إداري!

واقع شغل المهام الإدارية في الجامعات السورية اليوم يقول: تم اختراق القوانين الإدارية مرات عدة (هناك من استعمل مصطلح انتهاكات إدارية) عبر المظاهر التالية: تعيين أساتذة من خارج الجامعات بعيداً عن القانون الأساسي للعاملين في الدولة أو قانون تنظيم الجامعات، وكذلك تعيين أساتذة جامعة بمواقع إدارية خارج القانون الناظم، وإعادة أساتذة جامعة مفصولين بشكل استثنائي وعدم إعادة أساتذة آخرين حتى الآن، إضافة إلى حالة ضياع كبيرة في القانون الجامعي المرجعي حالياً هل هو القانون الإداري السوري أم الذي كانت  أصدرته جامعة إدلب؟ وهل جامعة إدلب ذاتها معترف بها أم أنها جزء من الشرعية الثورية؟

كل تلك الأسئلة (رغم جوانب بعضها التشكيكية) بحاجة إلى شفافية في الإجابة، وتكشف أن هناك تركة إدارية كبيرة أمام الحكومة الحالية تحتاج إلى حلول ومستشارين وخبراء لتوحيد المرجعيات والقوانين الناظمة للجامعات في سوريا!

أمام كل تلك الأسئلة المتعددة والمركبة والموجعة إدارياً وخدمياً وأمنياً يغدو تعيين رجل دين في لجنة شغل المناصب (الجامعية وغير الجامعية) تفصيلاً صغيراً في مشهد إداري سوري مرتبك أمامه كثير من الاستحقاقات وهو يعيد فكرة ضرورة أن تبقى السلطة الحالية متمسكة بفكرة انتقالية إلى مرحلة أكثر استقراراً، لكن الانتقالي إن لم يكن لديه نواظم فإن الإرباك والتخريب سيكون أكبر وأكثر! فإن حسبناها بعين إدارية طبيعية سيصيبنا كثير من الشعور بالخيبة وهو شعور غير مفيد عامة، خاصة في مراحل إعادة الإعمار وما بعد انتهاء النزاع!

في الأحوال كلها، هناك جانب آخر مهم لا يمكن أن نغفل عنه وهو مفهوم رئيس الجامعة ودوره، ومن يحدد الأكفأ؟ ومن يحق له ذلك أو لا يحق؟ لعلل الأهم عالمياً سيرة أكاديمية نظيفة، وأبحاث علمية دولية ورؤية مستقبلية للجامعة، خاصة أن شغل المواقع الإدارية الأكاديمية له دوره في تقييم الجامعات عالمياً!

لعل أفضل ما يتم الاتكاء عليه للتخلص من كثير من الجدل هو توضيح “الشرعية الثورية” وحدودها، وإلا فإن كثيراً من وجع الرأس سيملأ حياتنا، إنْ أعملنا آليات التفكير المنطقي في الوضع السوري اليوم، لكنها مراحل الإعمار صعبة ومؤلمة غير أن خلفها باب أمل حياتي وإداري كبير مفتوح!

حال كثير من السوريين اليوم: (أمشي وأقول وصلت والكنطرة بعيدة)، والوصول اليوم ممكن، والأبواب مفتوحة، تحتاج الإرادة والمتابعة والنقد والمثابرة، وهي صفات تتربع في داخلها الشخصية السورية الفذة التي تقف عند كل تفصيل حتى لو كان التفصيل يخص المستشار الديني للرئيس ومدى قدرته أو علاقته بالتقييم الإداري للمرشحين بشغل مواقع إدارية كبيرة من مثل رئيس جامعة.

وموقع رئيس الجامعة لديه صلاحيات تعادل صلاحيات الوزير، والمنصب يؤثر على سمعة البلد لأن التعليم العالي والجامعات من المؤشرات الإدارية والرئيسية التي تشير إلى المركب الذي يمشي به البلد وما مدى احتماليات الغرق، أو حدوث حوادث مفاجئة تؤدي إلى خروج بوالين الأمان من مكانها واصطدامها بالركاب.

والسوريون رفاق سفر وركاب ومالكون ومؤثرون ومحبون وفاعلون في السيارة السورية المنهكة والجميلة والدافئة، وهي تبحث عن بوصلة وتختار طريقاً آمناً وقصيراً وفاعلاً ومشجّراً!

أخيراً؛ لا بد من تأكيد فكرة أن من عمل مع الرئيس الشرع في مراحل عدة من تاريخه ممن يمكن أن ندعوهم بـ (الكتلة الصلبة) الذين هم موضع ثقته ورفاق دربه والمؤمنون بحلمه، بل شركاء الحلم، يتجاوز دورهم وأثرهم المهمة الإدارية التي يكلفون بها.

والسؤال المهم: كيف نوائم بين رأس مالهم عند السيد الرئيس ودورهم التاريخي وقدراتهم ورمزيتهم من جهة، وقوانين الدولة السورية وأطرها الإدارية؛ بحيث لا يفيض رأس المال الرمزي للأشخاص عن قدرة القوانين ومرونتها حتى لا نضيع منظومة الدولة رغم كل ما فيها من  أمراض ومشكلات، ولعل تفعيل القانون الحالي أو المطور الذي يمر بالمراحل الطبيعية لإقرار القوانين أحد أهم عوامل الحفاظ على سوريا، سوريا الحالية أو التي نطمح إليها!

—————————————-

الأموال السورية المجمدة في الخارج.. أماكن وجودها وفرص استعادتها/ سامر سيف الدين

9 يونيو 2025

أصدرت وزارة الخزانة الأميركية، يوم 24 أيار/مايو، ترخيصًا عامًا رقم 25 (GL 25) يقضي بالتخفيف الفوري للعقوبات على سوريا، والتي كانت مفروضة بموجب قانون قيصر، والسماح بإجراء المعاملات التي كانت محظورة سابقًا. وهذا الإعفاء مدته 180 يومًا بموجب أمر تنفيذي، مع إمكانية إعادة فرضها بعد ستة أشهر.

وشمل الإعفاء البنك المركزي السوري والمصرف التجاري، والشركتين السورية للغاز والسورية للنفط، والخطوط الجوية السورية، والإذاعة والتلفزيون، وموانئ اللاذقية وطرطوس، بالإضافة إلى الكثير من المؤسسات المصرفية واللوجستية. وبعض الشخصيات والكيانات. وبحسب بيان الخزانة الأميركية، يهدف هذا الإعفاء إلى المساعدة في إعادة بناء الاقتصاد السوري، والقطاع المالي، والبنية التحتية، بما يتماشى مع مصالح السياسة الخارجية الأميركية. ومن المتوقع أن يسهل هذا القرار استرداد الأموال السورية المجمدة والتي تقدر بالمليارات، وتتوزع على العديد من بلدان العالم. فلماذا جُمدت هذه الأموال وأين تتركز، وما هي أهمية استردادها، وما محددات ذلك؟

العوامل التي أدت إلى تجميد الأصول السورية

تم تجميد الأصول السورية في عدد من الدول الأوروبية بسبب عوامل عدة،  تتعلق بالسياسات الدولية تجاه النظام السوري السابق وسلوكياته. حيث بدأت الدول الأوروبية، بقيادة الاتحاد الأوروبي، بفرض عقوبات على سوريا منذ عام 2011 كرد فعل على القمع العنيف الذي مارسه النظام ضد المتظاهرين السلميين. وشملت هذه العقوبات تجميد أصول شخصيات بارزة في النظام، بما في ذلك بشار الأسد، بالإضافة إلى حظر السفر ومنع التعاملات المالية مع مؤسسات الدولة السورية.

وقد اعتبرت الدول الأوروبية الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السوري، بما في ذلك استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين وعمليات التعذيب واستخدام الأسلحة الكيميائية ضد السكان، مبررًا لاتخاذ إجراءات صارمة لتقييد قدرة النظام على الوصول إلى الموارد المالية.

وتشير التقارير إلى أن جزءًا كبيرًا من الأموال المجمدة يعود إلى فساد النظام السوري وسوء إدارته للموارد. وهذه العقوبات المفروضة على سوريا كانت جزءًا من جهود دولية أوسع للضغط على النظام لتغيير سلوكه، وتحسين الأوضاع الإنسانية في البلاد.

أهم الدول التي تتوزع فيها الأصول السورية المجمدة

تحتفظ عدة دول في العالم بأموال سورية مجمدة نتيجة العقوبات المفروضة على النظام السوري. من بين هذه الدول: سويسرا التي تحتفظ حاليًا بحوالي 99 مليون فرنك سويسري (حوالي 112 مليون دولار أميركي). والمملكة المتحدة، التي  تشير التقارير بأنها تحتفظ بأصول سورية مجمدة تقدر بحوالي 163.2 مليون جنيه إسترليني، وهو ما يعادل تقريبًا 200 مليون دولار.

وهناك تقارير تشير إلى أن ألمانيا تحتفظ أيضًا بأموال سورية مجمدة، لكن التفاصيل الدقيقة حول المبالغ غير متاحة بشكل واسع.  كما أن النمسا عملت على تجميد الأصول السورية كجزء من العقوبات الأوروبية، ولكن المعلومات المحددة حول المبالغ المجمدة غير متوفرة.

كما تحتفظ فرنسا أيضًا بأموال سورية مجمدة، وهي من أوائل الدول التي دعت إلى إعادة النظر في العقوبات المفروضة على النظام السوري في ظل التغيرات السياسية.

وهناك إشارات إلى أن إيطاليا تحتفظ بأموال سورية مجمدة، ولكن التفاصيل حول هذه الأصول ليست واضحة.

وكانت الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات على النظام السوري منذ عام 1979، وتجميد الأصول السورية جزء من هذه العقوبات. ومع ذلك، لا توجد تقديرات دقيقة لقيمة الأصول المجمدة في الولايات المتحدة.

كما قامت تركيا أيضًا بتجميد أصول الحكومة السورية، لكن المعلومات الدقيقة حول قيمة هذه الأصول غير متوفرة بشكل واسع. وهناك تقارير تشير إلى أن بعض الدول العربية مثل مصر والأردن تحتفظ بأموال سورية مجمدة، لكن القيم الدقيقة لهذه الأصول غير محددة. فيما يُعتقد أن الأموال المجمدة في لبنان تتراوح بين 20 إلى 50 مليار دولار.

أيضًا كان بارزًا في الأيام الأخيرة المحادثات بين مسؤولين سوريين مع بعض مسؤولي مملكة البحرين، حيث تسعى الحكومة السورية جاهدةً لاستعادة الأموال المودعة في البنوك البحرينية، وتحديدًا تلك التابعة للمصرف التجاري السوري.

وتشمل هذه الأصول المجمدة، الحسابات المصرفية والاستثمارات والعقارات المرتبطة بعائلة الأسد وشركائها المقربين. وأفادت التقارير بتجميد مليارات الدولارات من الثروة المتراكمة خلال الحرب السورية في أوروبا. بينما يدير مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) في الولايات المتحدة هذه الأصول المُحتفظ بها في مؤسسات مالية أميركية، وتشمل أموالًا مقيدة بموجب لوائح العقوبات المفروضة على سوريا.

ولا تزال المواقع والمبالغ الدقيقة غامضة جزئيًا نظرًا لتعقيد الأنظمة المالية الدولية وتباين ممارسات الإفصاح. ويزعم البعض أن إجمالي الأموال المجمدة يبلغ 173 مليار دولار، لكن هذا الرقم يفتقر إلى التحقق المستقل، ويجب اعتباره غير قاطع.

أهمية استرداد الأموال المجمدة لسوريا

يُمكن أن يُوفر الوصول إلى هذه الأموال دفعةً ضروريةً للغاية للاقتصاد السوري، الذي تأثر بشدة بسنوات من الصراع والعقوبات. يُمكن استخدام هذه الأموال في جهود إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.

ومن المؤكد أن يُعزز استرداد هذه الأصول بنجاح ثقة الجمهور بالحكومة وقدرتها على إدارة الاقتصاد، وهو أمر ضروري لاستقرار طويل الأمد في بيئة ما بعد الصراع.

كما أن القدرة على استرداد الأصول المُجمّدة سيحسن مكانة سوريا في العلاقات الدولية، مما قد يُؤدي إلى مزيد من التفاعلات الدبلوماسية والشراكات الاقتصادية.

وقد تم اقتراح استخدام الأصول المجمدة لتمويل مشاريع تنموية وإعادة إعمار في سوريا. حيث أقر البرلمان الأوروبي مشروع قرار يسمح باستخدام هذه الأصول لدعم عملية الانتقال السياسي وإعادة الإعمار، مما يتيح الفرصة لتوجيه الأموال نحو القطاعات الحيوية مثل الطاقة، المياه، والصحة.

كذلك يمكن تخصيص جزء من الأصول المجمدة لتعويض ضحايا الحرب، مما يساعد على معالجة الأضرار التي لحقت بالمدنيين نتيجة النزاع. وهذا يتطلب آليات قانونية واضحة لضمان توزيع هذه التعويضات بشكل عادل.

هل ستسترد سوريا أموالها قريبًا؟

إن الإفراج عن الأصول المجمدة يتطلب التنسيق مع الحكومات والمؤسسات المالية الأجنبية، مما قد ينطوي على إجراءات قانونية مطولة للتحقق من الملكية وضمان الامتثال للقوانين الدولية.

وقد يُثني الوضع السياسي والأمني الهش في سوريا الجهات الأجنبية عن الإفراج عن الأموال حتى تشكيل حكومة مستقرة.

ويعتمد الاسترداد على استعداد دول مثل الولايات المتحدة الأميركية، ودول الاتحاد الأوروبي، وسويسرا لرفع تجميد الأصول، والذي قد يكون مشروطًا باستيفاء سوريا لمعايير معينة تتعلق بالحوكمة أو مكافحة الفساد.

يُعزّز الترخيص العام رقم 25 الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية بشكل كبير احتمالات استرداد هذه الأصول من خلال إزالة عوائق العقوبات، على الرغم من أن التحديات القانونية والسياسية والإدارية قد تُؤخّر الاسترداد الكامل. وفي حين أن طريق استرداد الأموال السورية المُجمّدة محفوفٌ بالتحديات، فإن التغييرات الأخيرة في سياسة العقوبات الأميركية تُعطي بصيص أملٍ للحكومة السورية وجهودها لإنعاش الاقتصاد.

————————–

سامي مروان مبيض.. مؤرخ في قلب الجدل السوري

8 يونيو 2025

يعيش المشهد السوري موجة من الجدل الحاد إثر تعيين المؤرخ السوري سامي مروان مبيض في منصب مستشار لحاكم مصرف سوريا، وهو ما اعتبره كثيرون خطوة رمزية تكشف عن توجهات النخبة الحاكمة الجديدة في مرحلة ما بعد الأسد.

يُعرف مبيض، وهو رئيس مجلس أمناء مؤسسة “تاريخ دمشق”، بكتاباته المكثفة حول تاريخ النخبة الدمشقية والطبقات البرجوازية في سوريا، وقد أصدر عدة مؤلفات، مثل “تاريخ دمشق المنسي” (2015)، و”الماسونية الدمشقية” (2016)، و”غرب كنيس دمشق” (2017)، وغيرها. كما عمل كاتبًا في الصحافة العربية والإنجليزية، ومحاضرًا زائرًا في جامعات ومراكز بحثية.

لكن خلف هذه السيرة الأكاديمية يطفو الكثير من الجدل حول الدور السياسي غير المعلن لمبيض، خاصةً خلال العقدين الأخيرين من حكم النظام السوري، إذ يرى منتقدوه أنه كان قريبًا من دوائر النظام، مشاركًا في مشاريع الحفاظ على التراث اللامادي بإشراف أسماء الأسد، ومن ثم مشروع “وثيقة وطن” الذي أشرفت عليه بثينة شعبان، ووُصف بأنه محاولة لإعادة كتابة التاريخ السوري بما يخدم سردية النظام، عبر أرشفة شهادات مُنتقاة وتوظيفها سياسيًا.

وقد انتقده عدد من الباحثين والناشطين بسبب مشاركاته التي اعتبروها جزءًا من جهود “تجميل” صورة نظام الأسد، عدا عن مقالاته المنشورة باللغة الإنجليزية، والتي وصفها الباحث والمحلل الأميركي، ديفيد ليش، بأنها تعكس “مشاعر النظام السوري”، وتُستخدم كأداة ناعمة للدعاية.

واعتبر البعض أن من الصعب جدًا إعادة تدوير شخص مثل سامي مبيض، مشيرين إلى أنه كان بإمكانه، بحكم شهاداته وطبيعة عمله، إيجاد أعمال أخرى غير تلك التي انخرط فيها في ظل نظام الأسد وتحت رعايته، مؤكدين أنه اختار أن يكون إلى جانب “بشار” حتى آخر لحظة من عمر نظامه.

ورأى هؤلاء أن تعيينه مستشارًا لحاكم مصرف سوريا دليل على أن عقلية السلطة الحالية بعيدة عن الثورة وأهدافها، خاصةً في ظل تعاملها مع مقربين آخرين من نظام الأسد مثل فادي صقر ومحمد حمشو وغيرهم.

وتداول العديد من الناشطين مقطع فيديو يظهر فيه مبيض إلى جانب أسماء الأسد خلال فعالية لقطاف الورد الدمشقي، في إشارة إلى مدى قربه من النظام السابق.

وأكد آخرون أن تعيين مبيض في هذا المنصب يُعد تعيين شخص عمل على تزوير التاريخ، وخاصةً تاريخ الثورة، وتضحيات السوريين، لصالح رواية الأسد، مشددين على أن تعيينه “عارٌ لا يُمحى”.

من جهة أخرى، يرى بعض المدافعين عن صاحب كتاب “نكبة نصارى الشام” أنه لم يكن “شبيحًا ولا بوقًا دعائيًا مباشرًا”، بل أكاديميًا اجتهد ضمن هوامش محدودة، مفضلًا البقاء في الداخل السوري ورعاية أسرته على الخروج والمواجهة، وهو ما يفتح الجدل الأكبر: هل يُعفى المثقف من مسؤوليته الأخلاقية إن اختار الصمت أو التأقلم؟ وهل يمكن أن نفصل الأكاديمية عن السياسة في ظروف كهذه؟

يُعيد هذا الجدل طرح أسئلة محورية عن موقع المثقف السوري بين سرد الوقائع وتزييف الذاكرة، وعن حدود الحياد الممكنة في سياق مأساوي مثل الذي عاشته سوريا منذ 2011.

وبين من يرى في تعيين مبيض دلالة على استمرار النخبوية القديمة بوجوه جديدة، ومن يعتبره اختيارًا تقنيًا لا يتعدى الشأن الأكاديمي، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمثل هذا التعيين استمرارية لبنية معرفية خاضعة للسلطة؟ أم خطوة نحو إعادة التفكير في سردية التاريخ السوري؟

الترا سوريا

———————————-

الشرق الأوسط الجديد بين الحقيقة والخرافة/ فيصل علوش

7 يونيو 2025

عاد الحديث مجددًا عن إقامة شرق أوسط جديد في ضوء التغيرات والتطورات المتلاحقة التي حدثت في الآونة الأخيرة، ومنها الانعكاسات والتداعيات الكارثية التي لحقت بالأطراف المحسوبة على “محور المقاومة”، إثر هجوم السابع من أكتوبر 2023 في غزة، وخصوصًا الضربات الموجعة التي تلقاها “حزب الله”، وصولًا إلى الإطاحة بالحكم الأسدي في دمشق، وما قد ينجم عن ذلك من اصطفافات وتحالفات جديدة في المنطقة بحكم موقع سوريا الجيو – سياسي المميز في هذه البقعة من العالم.

العنوان الأبرز لمشروع “الشرق الأوسط الجديد”، كما يجري تداوله، يتمثل في إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة بما يخدم المصالح الإسرائيلية والأميركية والغربية. وجرت العادة أن يتم إلحاق لفظ الجديد بالشرق الأوسط بعد كل حرب، أو تطور كبير تشهده المنطقة؛ بدءًا من حرب الخليج الثانية التي أعقبها الدخول في مفاوضات مدريد للسلام (1991)، وصولًا إلى الحرب الأخيرة والرهانات التي تعقدها الأطراف الفاعلة فيها على ما يمكن أن تتركه من آثار وتداعيات.

بيريس ومشروع “الشرق الأوسط الجديد”

وكان أول من تحدث بإسهاب عن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” هو الرئيس الإسرائيلي الأسبق، شمعون بيريس، في كتابه الشهير الذي حمل العنوان ذاته وصدر عام 1994، (وكان يومها وزيرًا للخارجية)، إذ تناول فيه الأسس والمرتكزات الرئيسة التي يمكن أن يقوم عليها نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، (من وجهة النظر الإسرائيلية)، لا يقوم فقط على الحروب العسكرية أو الصراعات السياسية، بل بالاستناد إلى اتفاقات سلام بين الدول العربية وإسرائيل تؤدي إلى دمج الكيان الصهيوني في محيطه العربي، وتحقيق استقرار أمني وسياسي وتعاون اقتصادي بين دول المنطقة، يمكن أن يرقى إلى شكل من أشكال الاتحاد فيما بينها، على غرار الاتحاد الأوروبي، على نحو يحقق الرخاء والسعادة لكافة شعوب المنطقة.

وعلى خلفية إخفاق مشروع بيريس، (لأسباب كثيرة لسنا بصددها الآن، لعلّ أهمها تعثر ترجمة اتفاقات أوسلو إلى واقع عملي وميداني على الأرض، ونشوب الانتفاضة الفلسطينية الثانية)، ثم وقوع أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وما تلاها من غزو أميركي لأفغانستان، فقد جرى الترويج لأفكار ومشاريع حول “شرق أوسط كبير”، طرحتها واشنطن، وخاصة عقب غزوها للعراق واحتلاله عام 2003، في عهد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وسيطرة تيار “المحافظين الجدد” في الحزب الجمهوري على إدارته.

نسخ جديدة من المشروع

وتقوم الأفكار الأميركية، المتناغمة إلى حد كبير مع أفكار المحافظين الجدد الراديكالية، (والتي يمكن اعتبارها نسخة ثانية من مشروع الشرق الأوسط الجديد)، على إعادة صوغ البيئة الإقليمية في المنطقة بما يتوافق مع الأهداف والمصالح والقيم الأميركية، وضمنًا الإسرائيلية أيضًا، وذلك من خلال التركيز على “تشجيع الديمقراطية والحكم الرشيد وتأمين فرص العمل والاستثمار الاقتصادي”، كما ورد آنئذٍ على لسان غير مسؤول أميركي، انطلاقًا من ربطهم بين تنامي قوة ونفوذ الإسلام السياسي وبين التدهور الاقتصادي والاستبداد السياسي الذي تشهده المنطقة.

وعلى الرغم من الإخفاق الذريع الذي أصاب المشروع الأميركي، الذي كان يحدوه الأمل بـ”دومينو ديمقراطي” في المنطقة وإعادة هندسة اجتماعية لها انطلاقًا من المنصة العراقية، إلا أن ذلك لم يمنع مسؤولي إدارة بوش من استمرار الحديث عن طموحهم بشأن الشرق الأوسط. ففي العام 2005 ألقت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، جملتها ذائعة الصيت حول “الفوضى الخلاقة”، التي جرى تفسيرها بوصفها نهجًا وأولوية في السياسة الخارجية الأميركية، في إطار سعيها إلى “نشر الديمقراطية في العالم العربي”. وبعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز/ يوليو 2006، تحدثت رايس نفسها عن “آلام هذه الحرب بوصفها جزءًا من مخاض الولادة الصعبة للشرق الأوسط الجديد”.

فيما بعد، وفي ضوء الإخفاقات المتتالية التي لحقت بالأفكار الإسرائيلية والأميركية المتصلة بمشاريع “الشرق الأوسط”، إضافة إلى المسارات الصعبة والمتعرجة التي ولجتها بلدان “الربيع العربي”، فقد خفتت وتراجعت الأصوات الداعية لإنشاء شرق أوسط جديد، إلى أن تمّ إحياؤها مجددًا عقب التوقيع على “اتفاقات أبراهام”، مع الترويج لمقولة أن الشرق الأوسط يدخل حقبة جديدة، يمكن أن تتطور فيها الأمور إلى مستوى بناء تحالف إقليمي (أشبه بناتو شرق أوسطي)، بقيادة الولايات المتحدة، يضم دولًا عربية وإسرائيل، على أن يكون موجهًا ضد إيران ووكلائها في المنطقة.

أما الآن، فإن معاودة الحديث والترويج لـ”الشرق الأوسط الجديد” يندرج في إطار استكمال حلقات التطبيع الإبراهيمية، بل وتتويجها عبر ضمّ المملكة السعودية إليها، إضافة إلى الرهان على التغيير السياسي الذي حدث في دمشق، والتموضع الإقليمي المختلف للإدارة الجديدة، بما في ذلك إمكان انضمامها إلى مسار التطبيع الإبراهيمي أيضًا. وحسب نتنياهو، فإن إسرائيل حسمت الحرب الأخيرة لصالحها، وبالتالي فإن من حقها أن “تعيد تشكيل المنطقة، وعلى الآخرين اللحاق وركوب قطار الشرق الأوسط الجديد قبل فوات الأوان”. كما يرى أن “إسرائيل هي التي ستقرر وحدها شكل ومحتوى التسوية مع الفلسطينيين”، بعيدًا من “النقاش العاطفي حول خرافات الحق والقرارات الدولية المتعلقة بطبيعة الكيان الفلسطيني وحدوده أو مستوى السيادة فيه وعلاقاته مع الدول المحيطة”!

وفي حال حدوث مثل هذا السيناريو فإنه سيعني تطورًا نوعيًا ومهمًا جدًا على طريق صياغة الشرق الأوسط الجديد، وفق المنظور الإسرائيل والأميركي، لكن ومع الإقرار بذلك، فإنه يجدر بنا أن نتوقف عند الملاحظتين التاليتين:

الملاحظة الأولى:

يحذرنا مترجم كتاب بيريس في تقديمه له، من أن لا ننخدع بموضوعية بيريس ومنطقه، وهو يتحدث عن فشل الحروب وأهمية السلام، لأننا سرعان ما سنكتشف أن “هذا السياسي الماكر والخطير، إنما يدُسّ لنا السمّ في العسل”، وأن “دعوته الظاهرية للسلام لا تُخفي استراتيجية إسرائيل التوسّعية، المتمثلة بضرورة استمرار هيمنة إسرائيل على الـمنطقة، وإن اختلفت الوسيلة وتغيرت..”.

وفي الواقع، علينا أن نعترف أن بيريس، (واسحق رابين الذي اغتاله متطرف يهودي بعد أن وقع على اتفاق أوسلو ووادي عربة)، كانا ينتميان إلى آخر جيل من القادة الصهاينة الذين توصلوا إلى استنتاج مفاده أن “تحقيق مصلحة إسرائيل والحفاظ على أمنها واستقرارها يجب أن يتم بوسائل لا تقتصر على الغلبة العسكرية فقط”، وهذا أمر في غاية الأهمية، أقله بالمقارنة مع ما يفعله بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة حاليًا.

بيريس يُقرّ، مثلًا، بعُقم الحرب قائلًا: “الحروب التي خاضتها إسرائيل لم تستطع أن تضمن لها النصر النهائي، ولا أن تجلب لها الأمن والسلام. صحيح أن العرب لا يستطيعون هزيمة إسرائيل، إلا أن إسرائيل لا تستطيع، بدورها، إملاء شروط السلام على العرب”. ويتحدث بيريس كذلك عن أن “الأمة التي تحاول السيطرة على أمة أخرى وحكمها بحجة الدفاع عن النفس، لا تستطيع منع نفسها من ممارسة القمع”، وهذه الفكرة قريبة جدًا من المقولة اليسارية التي تقول: “إن الأمة التي تستعمر أمة أخرى لا تكون حرة أبدًا”.

وإذا كان قادة إسرائيل الحاليون قد نسوا هذه المقولة التحررية، واستسلموا لعنجهيتهم وعناصر السيطرة والغلبة والإكراه التي أرسوها على مدى عقود، فهذا لا يسوغ لنا كسوريين؛ على المستوى الرسمي والشعبي، التسليم بما يحصل والقبول به كأمر واقع لا يُردّ. وإذا كنا سنذهب نحو خيار التطبيع مع إسرائيل، فحريّ بنا أن نذهب إليه كخيار حر وواعٍ لنظام ديمقراطي قوي ومستقر ويمثل تطلعات شعبه، وليس نظامًا هشًا وضعيفًا مفروضًا بعناصر القوة والقسر والإكراه والاستقواء بالخارج. خيار حر وواع لنظام يحترم حقوق الإنسان ويتعامل بشفافية مع المشاكل المطروحة، ويخضع للمساءلة وسيادة القانون، ولا يتسول التطبيع لنيل رضا واشنطن، أو غيرها من العواصم الكبرى في العالم.

الملاحظة الثانية:

وإلى ذلك، فإن بيريس كان من القادة الصهاينة الذين أقرّوا بأن “القضية الفلسطينية هي لب الصراع المهلك الطويل في الشرق الأوسط”، كما ورد في كتابه. وهذه نقطة مهمة أيضًا، وخصوصًا بالمقارنة مع ما يعتقده ويفعله نسق القادة الحاليين في إسرائيل، وفي مقدمهم بنيامين نتنياهو، الذي لا يؤمن بوجود أيّ حل للقضية الفلسطينية، ويعتبر أن اتفاق أوسلو “خطأ فادح” ارتكبه القادة الصهاينة الذين سبقوه. وعلى ذلك، فهو يعتقد أن الاتفاقات الإبراهيمية تمثل “نقطة تحول تاريخية”، لأنها بالضبط، تبتعد عن “الفكرة الخاطئة” التي كان يتبناها العرب؛ وهي أن “لا إمكانية للتطبيع مع إسرائيل من دون إبرام اتفاق سلام مع الفلسطينيين أولًا”.

والحال، وبعيدًا من خرافة التطبيع الرسمية والتشدق بأسطورة الشرق الأوسط الجديد، فإن عدم اليقين قد يبقى سيد الموقف في منطقة تعاني من الاختلالات والصراعات المعقدة والمركبة وانعدام الأمن والاستقرار. في منطقة كلّ ما يجري فيها من تغيرات وتحولات لا يكفي لإعطاء مؤشرات يقينية لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، في ظلّ السيولة الكبيرة في الأحداث، وتدخل قوى إقليمية ودولية عديدة متنافسة ومتباينة المصالح والأهداف. وعلى سبيل المثال، وعلى رغم دعم الولايات المتحدة والدول الغربية اللامحدود لإسرائيل، فقد تبين في الآونة الأخيرة إمكان بروز تباين جدي في المصالح والأهداف بين العواصم الغربية، بما فيها واشنطن، من جهة، والكيان الإسرائيلي من جهة أخرى.

كما أنه قد يتراجع اهتمام الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية إلى حين، وقد تنشغل الدول العربية، بما فيها سوريا، بمشاكلها الأمنية والسياسية والاقتصادية الخاصة، وقد تجد فيها مسوغًا كافيًا للانضمام إلى قافلة التطبيع “الإبراهيمية”، مع بقاء القضية الفلسطينية مركونة ومنتظرة من دون حلّ، لقليل أو كثير من الوقت، إلا أن هذه القضية ستستمر كبؤرة للتوتر والحروب في المنطقة، والفلسطينيون “الخاسرون” في المعادلة العربية والإقليمية لن يتخلوا عن قضيتهم العادلة ومطالبهم المحقة، ولن يختفوا في نهاية المطاف!

الترا سوريا

——————————–

===================

=======================

العدالة الانتقالية تحيث 09 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

العدالة الانتقالية في سوريا

—————————————

تكاملا للمسارات.. هيئة المفقودين يجب أن تكون تحت مظلة “لجنة الحقيقة”/ فضل عبد الغني

2025.06.09

يشكّل ملف الاختفاء القسري في سوريا أحد أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا ضمن سجل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدها النزاع المسلح منذ عام 2011. وقد لجأ نظام الأسد، بشكل منهجي، إلى توظيف الاختفاء القسري كسلاح حرب يستهدف الأفراد أولًا، ثم عائلاتهم ومجتمعاتهم لاحقًا، في محاولة لتفكيك النسيج الاجتماعي وترسيخ مناخ من الرعب والإذعان. ووفقًا لقاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن ما لا يقل عن 177,000 شخص لا يزالون في عداد المختفين قسريًا على يد مختلف أطراف النزاع، ما يضع هذا الملف في صدارة أولويات العدالة الانتقالية بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024.

وانطلاقًا من هذا المنظور، لا يمكن معالجة ملف المفقودين بمعزل عن المسار الشامل للعدالة الانتقالية، لما يحمله من أبعاد حقوقية، وسياسية، واجتماعية تتجاوز الأثر الفردي للمفقود لتشمل البنية المجتمعية بكاملها. لذا، تتطلب معالجته مقاربة شاملة ترتبط بالكشف عن الحقيقة، والمساءلة، وجبر الضرر، والإصلاح المؤسسي.

التحديات المؤسسية لتشكيل هيئة منفصلة للمفقودين

صدر المرسوم الرئاسي رقم 19 لعام 2025 القاضي بإنشاء “الهيئة الوطنية للمفقودين”، وإنشاء هيئة منفصلة تُعنى حصريًا بملف المفقودين في سوريا، بعيدًا عن البنية المؤسسية المتكاملة لمسار العدالة الانتقالية، يثير مجموعة من التحديات المؤسسية المعقدة التي قد تُضعف الاستجابة الحقوقية المتكاملة لمآسي الاختفاء القسري.

يُعد غياب التنسيق المؤسسي أحد أبرز المخاطر الناتجة عن الفصل الهيكلي لهيئة المفقودين عن لجنة الحقيقة وبقية مكونات العدالة الانتقالية. إذ لا تقتصر معالجة حالات الاختفاء القسري على توثيق الغياب الفيزيائي أو تحديد أماكن الاحتجاز، بل تتطلب تفاعلًا مباشرًا مع آليات المحاسبة، ولجان التعويض وجبر الضرر، إلى جانب دورها في إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية المسؤولة عن ارتكاب الجريمة. إن الفصل التنظيمي قد يُنتج فجوة معرفية ومعلوماتية، ويحول دون تبادل الأدلة والبيانات والسجلات بين الهيئات المعنية، مما يؤدي إلى ازدواجية في التقييم، وضعف في تحديد المسؤوليات، وتعثر في سير العدالة.

كما أن إنشاء هيئة جديدة خارج منظومة العدالة الانتقالية يستلزم بالضرورة تأسيس هياكل إدارية وتنظيمية منفصلة (تشمل فرق التوثيق، الدعم القانوني، الدعم النفسي، إدارة الشكاوى)، الأمر الذي يؤدي إلى رفع الكلفة البيروقراطية، ويخلق تضاربًا وظيفيًا مع الهياكل القائمة. فعلى سبيل المثال، ستتولى الهيئة الجديدة جمع إفادات الضحايا وتوثيق الحالات، وهو ما يتقاطع جوهريًا مع صلاحيات لجنة الحقيقة، ما يثير إشكالات معيارية وإجرائية، وقد يؤدي إلى تضارب في التوصيات والتقارير الرسمية، أو إلى ازدواج في تمثيل الضحايا وإيصال صوتهم.

ومن شأن هذا الانقسام المؤسسي أن يُضعف الرؤية الشاملة التي تستلزمها العدالة الانتقالية، ويؤخّر مساراتها التكميلية مثل التحقيق، والمحاسبة، وجبر الضرر، الأمر الذي ينعكس سلبًا على ثقة الضحايا بقدرة المؤسسات الجديدة على إنصافهم واستعادة حقوقهم.

إن التجربة السورية، نظرًا لتعقيداتها وتراكم الانتهاكات فيها، تفرض الحاجة إلى منظومة عدالة انتقالية متجانسة تضمن انسيابية العمل المؤسسي، لا إلى كيانات متوازية، بل إلى وحدات مترابطة ضمن هيكل موحد قادر على الاستجابة الجماعية لتحديات ما بعد النزاع.

الرؤية التي طرحتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان في نيسان الماضي اقترحت إلحاق هيئة المفقودين بلجنة الحقيقة، باعتبار ذلك ضرورة وظيفية ومنهجية تستند إلى طبيعة جريمة الاختفاء القسري بوصفها جريمة مركبة تتطلب فهمًا شاملًا لسياقاتها السياسية والمؤسسية، وهو الدور الذي تضطلع به عادة لجان الحقيقة في تجارب العدالة الانتقالية المقارنة. إن دمج هيئة المفقودين ضمن لجنة الحقيقة يضمن تكاملًا وظيفيًا حيويًا مع بقية مكونات العدالة الانتقالية، بما يشمل هيئات المحاسبة القضائية، ولجان التعويض وجبر الضرر، وبرامج تخليد الذكرى، وآليات إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية.

فالكشف عن مصير المختفين يُعد شرطًا أساسيًا لمحاسبة الجناة، كما أن توثيق الانتهاكات يشكّل أساسًا لتحديد أحقية الضحايا في التعويض، ويسهم في معالجة الصدمة الجماعية الناتجة عن استمرار الغياب والإنكار. كذلك، فإن وجود وحدة مختصة بالمفقودين ضمن لجنة الحقيقة يُتيح الاستفادة من البنية التقنية، والخبرات القانونية، وآليات الإحالة المؤسسية المتوفرة، ما يعزّز من كفاءتها ويُجنب تكرار المهام أو تضاربها.

يشكّل ملف المفقودين في سوريا اختبارًا حاسمًا لمدى جدية العملية الانتقالية في تحقيق العدالة والمساءلة، فهو في جوهره تجسيد لمأساة وطنية تتطلب مقاربة مؤسسية شاملة، تعالج الاختفاء القسري كجريمة متعددة الأبعاد: إنسانية، وقانونية، ومجتمعية. إن إدماج هيئة المفقودين ضمن لجنة الحقيقة يُجسّد فلسفة العدالة الانتقالية القائمة على وحدة المسار وتكامل الأهداف. وإن إنجاح مسار العدالة الانتقالية في سوريا يقتضي تصميمًا مؤسسيًا متكاملًا، تُبنى فيه الهيئات على أسس تنسيقية وتشاركية واضحة تمنح المجتمع السوري فرصة لتجاوز إرث الغياب والإنكار.

تلفزيون سوريا

——————————-

==========================

عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 09 حزيران 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة

لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي

عن أشتباكات صحنايا وجرمانا

——————————

كيف ستدير سوريا علاقتها بإسرائيل في هذه المرحلة؟/ غازي دحمان

9/6/2025

لم يعُدْ سرًا وجود مفاوضات بين سوريا وإسرائيل في بعض العواصم، بيد أن السؤال عما إذا كانت هذه المفاوضات مقتصرة على ترتيبات أمنية بخصوص التطورات التي جرت بعد الحرب على وقع احتلال إسرائيل شريطًا حدوديًا واسعًا في جنوب سوريا، أم هي مقدمة لاتفاق سلام شامل، في ظل تحرك أميركي يهدف إلى إعادة هندسة المنطقة عبر إطفاء بؤر التوتر، بما يسمح لواشنطن بإعادة تشكيل الواقع الإقليمي، بما يتطابق ورؤيتها لدورها العالمي في المرحلة المقبلة؟

السياق والتوقيت

المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، أو ما يصح تسميته بـ” مبادرة التهدئة”، تأتي كجزء من سياق أوسع لانعطافة إستراتيجية أميركية، وغربية بالتبعية، للحفاظ على دور فاعل في ضبط مفاعيل المشهد الدولي، والتأثير في توجهاته المستقبلية، في ظل بروز اللاعب الصيني بقوّة الذي بات يتمدد على جميع المفاصل الجيوسياسية الدولية ناثرًا مشاريعه الواعدة في كل ركن، منذرًا بإزاحة الغرب من موقع الريادة في قيادة النظام الدولي.

وقد أثبتت التطورات أن الساحة الشرق أوسطية تنطوي على مصالح أميركية، توازي، إن لم تتفوّق على مصالح واشنطن في جنوب شرق آسيا، التي رصدت لها موارد ضخمة. وفي ظل تقدير أميركي بأن مواجهة الخطر الصيني لا تتم بترك فراغات كبيرة له ليتمدد بها، مقابل حصاره في بحر الصين، وصحارى الشرق الأوسط وبحاره وممراته المائية، كعناصر مهمة في هذه اللعبة الجيوسياسية التي يتسع نطاقها ليشمل العالم برمته.

وتبعًا لذلك، وفي ضوء توازن القوى العالمي الجديد، بعد أن قلصت التكنولوجيا الصينية الفوارق بدرجة كبيرة، تجد إدارة ترامب نفسها مضطرة للبحث عن آليات جديدة لضمان استمرار التفوق، وهذا ما أكدته زيارة ترامب لدول الخليج العربي، وإيجابية مواقفه تجاه مطالبها، حيث شكّل دعم سوريا محورها الأساسي.

ورشة مفاوضات

ثمّة ما يمكن وصفه بـ “ورشة مفاوضات” انطلقت فعالياتها في أكثر من عاصمة إقليمية ودولية: أبو ظبي، وباكو، وتل أبيب، وربما أماكن أخرى. ما يجري حتى اللحظة يبدو أنه اختبار أو مرحلة تعارف بين المفاوضين، وتقديم كل طرف أطروحاته، والتي غالبًا ما تكون بسقف مرتفع، يجري بعد ذلك تشذيبها للتوافق مع المنطق والواقع. لم يرشح أي شيء عما يدور في كواليس هذه المفاوضات، لكن هناك مؤشرات عديدة على انطلاقها، من ضمنها توقف القصف الإسرائيلي والانفتاح الأميركي المتسارع على دمشق، كذلك تغير الخطاب السياسي تجاه الإدارة السورية الجديدة في كل من تل أبيب، وواشنطن.

لا يعني ذلك أن الأمور تسير بسلاسة وأننا بتنا على بعد أمتار قليلة من التوصل إلى تفاهمات صلبة، بقدر ما يعني تهيئة بيئة مناسبة للمفاوضات، تبدأ بالتهدئة الميدانية ووقف الهجوم الإعلامي الإسرائيلي ضد السلطة السورية الجديدة، وهو شهد بالفعل تحولًا، من خطاب يدعو لعدم الثقة بهذه السلطة إلى خطاب يؤكد على عدم الرغبة بالتدخل بالشأن السوري، وفق وزير خارجية إسرائيل جدعون ساعر.

من الطبيعي أن يتم التركيز في هذه المرحلة على الملفات الأمنية، وأن يقود المفاوضات المختصون بالمسائل الأمنية، على ذلك تأخذ المفاوضات طابعًا تقنيًا بحتًا، بعيدًا عن الأيديولوجيا والمواقف السياسية والحساسيات المختلفة، ولا سيما أن بين البلدين تاريخًا متواصلًا من الترتيبات الأمنية كان يجري تحديثها بعد كل تطور، وآخر الإجراءات كانت المنطقة العازلة التي أعقبت حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، والتزم بها الطرفان حتى سقوط نظام الأسد.

حاجة دمشق للسلام

منذ وصول الإدارة الجديدة للسلطة في دمشق أعلنت بشكل غير موارب، أن الاستقرار والسلام يقفان على رأس جدول أولوياتها في المرحلة القادمة، وبالتالي ليست معنية بلعبة الصراع التي انخرط بها نظام الأسد، على الأقل نتيجة انتمائه لـ”حلف الممانعة” وتسهيل نشاط إيران المناوئ لإسرائيل، والواضح أن إدارة الشرع قرأت جيدًا التحوّل في المزاج الإقليمي الرافض لاستمرار الحروب، ومنطق العسكرة الذي فرضته إيران وحاولت تاليًا التكيف مع متطلبات هذا التحوّل.

لكن أيضًا، متطلبات المرحلة، وضرورة الخروج من واقع، أقل ما يُقال عنه أنه واقع معقد إلى أبعد مدى، فرضت على دمشق تبني خيار البحث عن فرصة السلام، للهرب من واقع موازٍ حقيقي وليس افتراضيًا، سمته الانهيار الاقتصادي والعزلة الدولية، قد يصبح هو التعريف الأساسي لسوريا المستقبلية.

تدرك دمشق أن لها حسابات حساسة في المعادلات التي يجري تأسيسها في المنطقة، وأنها لاحقة لضلع إقليمي أكبر، وربما نقطة غير مرئية في دائرة من الفاعلين الإقليميين الأقوياء، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، وأنها مضطرة للعب تحت ظلال هذه القوى، ما دامت قد دخلت اللعبة بدون أدوات قوّة، على كل الصعد، وبحمل ثقيل من الأزمات والاحتياجات.

وفق ذلك، رأت دمشق أن الانخراط ضمن الهندسة التي تجريها واشنطن، بالتنسيق مع الفاعلين الإقليميين، في الخليج العربي وتركيا، فرصة أرادت التقاطها، ورافعة للخروج من دائرة التهميش والدمار، إذ لا يمكن تحقيق الاستقرار بجوار كيان يعتقد أنه يمتلك ناصية المنطقة، ولا يمكن جذب أموال الاستثمار بدون وضع مستقر، ما يعني تحويل سوريا إلى نموذج الدولة الفاشلة، وهو الكابوس الذي حاول حكّام سوريا الجدد الهروب منه، مع إدراكهم أنه لن يكون في جعبتهم، وهم يجلسون على طاولات التفاوض، سوى تقديم التنازلات.

إسرائيل والسلام بالإكراه

ليست هذه اللحظة المناسبة التي ترغب بها إسرائيل للانخراط في عملية سلام مع سوريا، فلا المزاج الإسرائيلي ولا النخب المؤثرة في وارد السير في هذا المسار الآن، والتفكير الإسرائيلي في هذه المرحلة في مكان آخر، حيث تصحو إسرائيل، بعد طوفان الأقصى، على واقع إستراتيجي مختلف لم تشهد ذاكرتها مثيلًا له منذ قيامها، ولا حتى بعد حرب عام 1967 حينما انهارت بوابات دول الطوق العربي وبات بإمكان الدبابات الإسرائيلية العبور إلى العواصم دون أي عوائق لوجيستية أو عسكرية سوى عائق التوازنات الدولية في خضم الحرب الباردة وحدود النفوذ المرسومة بين مناطق أميركية وأخرى سوفياتية.

الطموح الإسرائيلي في سوريا أكبر من سلام قد يتم التراجع عنه يومًا إذا تغيرت المعطيات، حيث تتجه تفضيلات إسرائيل إلى صناعة كيانات موازية للدولة السورية، كيانات تعتمد في بقائها على الدعم الإسرائيلي، وتدفع دمشق وحكامها إلى الانكفاء نهائيًا عن المطالبة بأراضٍ تحتلها إسرائيل، وتزيد عليها الجنوب حيث المياه الوافرة والأراضي الزراعية وقوة العمل التي تحتاجها المزارع والورش في حيفا والجولان والجليل، واعتقاد قادة إسرائيل أن تحقيق هذا الطموح لن يكلف كثيرًا، وكل ما ستفعله تل أبيب الإشراف على إدارة الصراعات في جنوب سوريا لخدمة مصالحها الجيوسياسية.

لكن التطور المفاجئ تمثل في موقف تركيا ودول الخليج العربي من التغيير في سوريا، ودفع واشنطن إلى احتضانه وجعله مصلحة للأمن القومي الأميركي، الأمر الذي أثار ريبة إسرائيل من احتمال إخراجها من الترتيبات التي هي في الواقع أكبر من مجرد استيعاب سوريا، بقدر ما هي تشكيل لواقع شرق أوسطي مرتبط بدوائر عالمية أوسع، ومشاريع جيوسياسية على نطاق أكبر، وبالتالي فإن إسرائيل تدخل مرحلة التفاهمات مع دمشق كنوع من الاختبار لمسارات التحرك الإقليمي والدولي، ولا سيما بعد تهميشها من تحركات الرئيس ترامب الأخيرة في المنطقة، وحالة الجفاء مع أوروبا، التي بدورها بدأت الانخراط المكثف في دهاليز الملفات الشرق أوسطية.

هل الصفقة وشيكة؟

بناء على هذه المقدمات، لا يبدو أن ما يدور بين دمشق وتل أبيب في هذه المرحلة هي مفاوضات سلام نهائية، بقدر ما هي مباحثات للتوافق على إطار أمني جديد بعد تراجع إسرائيل عن الترتيبات السابقة، وثمة عوامل كثيرة تؤكد هذا الاحتمال:

    اختلال توازن القوى بشكل كبير  يمنع دمشق من الذهاب إلى مفاوضات سلام تحتاج لأوراق قوّة تجبر إسرائيل على التنازل عن الجولان.

    تحتاج الإدارة السورية الجديدة إلى مدى زمني أطول للقيام بخطوة عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، إذ بالرغم من تفضيل قطاعات واسعة من السوريين التركيز على الجوانب الاقتصادية والإعمار، وبالتالي الابتعاد عن الحروب الخارجية؛ لا تزال الصورة غير واضحة بالنسبة للنظام الجديد في دمشق، وبالتالي يشكّل خوضها في عملية سلام، قد تقدم خلالها تنازلات جغرافية مغامرة خطرة.

    عدم حاجة إسرائيل إلى سلام يرتّب عليها التزامات بحجم التنازل عن أراضٍ تحتلها في الجولان، ومن مصلحة إسرائيل إبقاء الوضع الأمني هشًا على جبهتها الشمالية، وإبقاء دمشق تحت ضغط الإحساس بعدم الأمان من جهة إسرائيل، إلى حين نضوج ظروف مواتية للحصول على تنازلات كبيرة باطمئنان.

    لا تطرح الأطراف التي تحتضن النظام السوري الجديد: الإقليمية والدولية، مسألة التوصل إلى اتفاق سلام بين دمشق وتل أبيب، في هذه المرحلة، لإدراكها أن الظروف غير ناضجة، وأن من شأن الاختلاف في أي مرحلة من مراحل التفاوض قد يفجر جولات صراعية تطيح بالاستقرار السوري الهشّ، لذا فالأفضل هو التوصل لترتيبات أمنية صارمة بين الطرفين تضمن الهدوء إلى حين التوصل لإطار سلام قابل للتطبيق.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

كاتب سوري

الجزيرة

————————————

ماذا وراء تصريحات الشرع حيال إسرائيل؟/ لميس أندوني

08 يونيو 2025

أثارت تصريحات نُسبت إلى الرئيس السوري أحمد الشرع تساؤلاتٍ مشروعة بشأن رؤية النظام الجديد حيال خطر إسرائيل على سورية؛ فقوله مثلاً إن لدى سورية وإسرائيل “أعداءً مشتركين” غير مفهوم، فهل يعني ذلك الاستعداد للتعاون المشترك، وما دخل إسرائيل بالدور الأمني لسورية؟ واضح أن المسؤولين السوريين يتحاشون الإشارة إلى حرب الإبادة الصهيونية في غزّة، والأهم غياب موقف واضح من احتلال إسرائيل الجولان واعتداءاتها أخيراً على سورية، إضافة إلى غياب مفهوم الأمن القومي العربي في أحاديثهم، واللوم لا يقع عليهم حصراً، فهذا حال سائر الدول العربية وأنظمتها، فالنظام الجديد في سورية ولد في حقبة انهيار مفهوم الأمن القومي العربي، واستبدل بمفهوم “المصلحة القُطرية” وانطلاق عملية فك الارتباط العربي بالقضية الفلسطينية، وكأن التخلص من “عبء القضية الفلسطينية” صمام أمان يفتح باب الاستقرار والازدهار والسلام تحت الرعاية الأميركية.

ما نسمعه عن عودة سورية إلى “الحضن العربي” يعني أن عليها أن تقبل وتندمج في شرق أوسط جديد تبشّر به واشنطن، عماده الدخول في “المعاهدات الإبراهيمية” مع إسرائيل، التي كانت الإمارات أول من وقّعها عام 2021، وفتح سورية ومقدّراتها للشركات الغربية. وهنا لا بد من العودة إلى ما ورد في مقال نشر في “جويش جورنال” في 18 الشهر الماضي (مايو/ أيار) يلخّص ما يحدث من ربط لدخول الاستثمار الأجنبي إلى سورية وتشكيل الاقتصاد السوري وعلاقته بقبول إسرائيل.

لم تكن هناك مقابلة للصحيفة الصهيونية مع الرئيس السوري، بل مقال كتبه جوناثان باس، مالك شركة “أرجنت” الأميركية لنقل الغاز الطبيعي المسال، عن لقائه الرئيس الشرع ضمن وفد اقتصادي. ويتضح من المقال أن الوفد الأميركي ربط النقاش بشأن مستقبل الاستثمارات الأجنبية في سورية بموقف النظام الجديد من إسرائيل، وهذا في حد ذاته خطير؛ فقد سمح باس لنفسه بأن يطلب طمأنات حيال موقف دمشق من تل أبيب للمضي في محادثات بشأن تسلّم شركته خطة تطوير قطاع الغاز في سورية. ولفهم جدية هذا الربط المطلوب أميركياً، وأنه ليس مجرّد مصادفة، ضروري معرفة أن جوناثان باس صديق مقرّب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو الذي أعلن رغبة الشرع في بناء “برج ترامب” في دمشق خلال اللقاء، الذي سهّله كما يقول “نشطاء سوريون”، لمناقشة فرص الاستثمار في سورية عشية جولة ترامب الخليجية. وعرض باس خطة تنفذها شركته “لتطوير قطاع الغاز في سورية”، انطلق بعدها في مقابلات مع محطات تلفزة أميركية، ليعلن بفخر واعتزاز خطته وكأنه مسؤول سوري أو منقذ للشعب السوري. ثم نشر مقاله في المجلة واسعة الانتشار في لوس أنجليس لطمأنة اللوبي الصهيوني وإسرائيل بأنه سمع من الشرع ما يطمئِن من موقفه حيال إسرائيل، وأنه لا تعاون مع دمشق دون التزام مصالح تل أبيب.

السؤال: لماذا يضع الرئيس السوري نفسه في هذا الموقف؟ وكيف يمكن توصيف الوضع بين سورية وإسرائيل “قصفاً متبادلاً يجب أن يتوقف”؟. إسرائيل دولة محتلة ومعتدية، فقد كان بإمكانه أن يكتفي بالقول إن سورية ملتزمة القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الذي أشار إليه في حال حدوث مفاوضات مع إسرائيل. وهنا لن أذهب إلى اتهام الشرع، كما يفعل بعضهم، بأنه وصل إلى السلطة على أساس قبوله التطبيع مع إسرائيل، لكن معظم الدول العربية تتجه نحوالتطبيع، حتى إن ترامب، بكل بساطة، طلب من الشرع الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية في قلب الرياض.

ما يحدُث ليس نتيجة عملية تطور سياسية طبيعية، بل يندرج تحت عنوانين: انهيار النظام العربي، والشروط المطلوبة أميركياً لقبول النظام الجديد في سورية تحت ضغط شروط رفع العقوبات الاقتصادية، وبخاصة الأميركية، عن البلاد، وهي شروط لا يتحدّاها النظام السوري، والأهم أنها لا تلقى مقاومة أو حتى معارضة تُذكر من الدول العربية والإقليمية (تركيا)، فالإقليم في مجمله دخل في ترتيبات فصل المصالح “القُطرية”، والأدق القول كل نظام على حدة، من التزامات القضية الفلسطينية. أي النظر إليها معطّلاً ومعرقلاً نهوض الشعوب، وإيجاد معادلة جديدة للتعامل مع إسرائيل، بمعنى التسليم بأننا دخلنا عهد إسرائيل في المنطقة، وكأنها لا تشكّل تهديداً لكل دولة عربية على حدة، أو على الأمن القومي العربي بمجموعه.

يبدو أن الرئيس السوري يتصرّف على أساس المعادلة التي هي طور التشكيل، لكنها تصبح حقيقةً بقبولها والاستسلام لها، فلن يُقبَل النظام الجديد دون أن يلتزم قواعد اللعبة التي أصبحت شرطاً لقبوله، ودون الأخذ بمخاطر هذه الطريق وتداعياتها على سورية وسيادتها ومستقبل مقدّراتها الاقتصادية.

الغريب والمستهجن أن تاريخ إسرائيل منذ نشوئها والسياسات الأميركية في المنطقة كأنها حدثت في عالم بعيد أو مواز، وكأن إسرائيل لا تشكل خطراً على سورية وأن أميركا صديقة للشعب السوري. ليس المطلوب أن تعلن سورية حرباً على إسرائيل أو تهدّد بانتقام أو مواجهة، فأولويتها الحفاظ على نفسها وإعادة بناء الدولة والمجتمع السوريين، وليس مطلوباً أن تعلن جبهة مواجهة ضد أميركا، وأن لا يكون لها علاقات مع جميع الدول. ولكن لا يوجد حكمة من مهادنة إسرائيل اللفظية إلى درجة محاولة طمأنة كل وفد أميركي وغربي، وفي كل مقابلة صحافية، بأن النظام الجديد لن يكون خطراً على جيرانه، والمقصود إسرائيل، وأن لديها مع إسرائيل أعداءً مشتركين. وهنا لا داعي للتذكير بأن الفلسطينيين في نظر إسرائيل أكبر عدو لها: وأتساءل: لماذا لا يخطر ببال الشرع أن إسرائيل لن تعتبر سورية دولة صديقة، بل إن احتلالها الجولان والقنيطرة جزء من مشروعها الصهيوني الذي لا يقبل بالسيادة السورية على أراضيها.

ليست الإشكالية عدم وعي الشرع خطر إسرائيل، وإنما قد تكون في توهُّم أن الانفتاح على “لبرلة” القطاع العام السوري وفك الارتباط مع القضية الفلسطينية يشكل حماية للنظام الجديد وسورية. هذا التفكير هو التيار السائد لدى الأنظمة العربية وبعض المثقفين السوريين والعرب، وهذا توجّهٌ يزيد من عنجهية إسرائيل، والحديث عن إعطاء جملة تبرئ إسرائيل، ولو دون قصد، من كونها عدواً أو معتدياً، فلا حاجة لطمأنة إسرائيل، بل هناك حاجة للتمسّك بالحقوق الوطنية السورية، وتذكُّر أنّ سورية في موقف قوة، فالشركات العالمية هي التي يجب أن تتنافس على قبول الدولة السورية لها للاستثمار فيها وفقاً لشروط سيادية تضعها دمشق، ولا حاجة، بل من المهين أن يضطر الشرع إلى “إثبات حسن سلوك” أمام ممثل كل شركة تطمع في الثروات السورية، فإسرائيل هي الطرف المعتدي، وليس سورية.

العربي الجديد

——————————–

سياسة أميركية مزدوجة تجاه دمشق/ محمود الريماوي

07 يونيو 2025

تشكّل الاعتداءات الإسرائيلية المتواترة على سورية تحّدياً جسيما لهذا البلد، إذ تزيد هذه الاستهدافات القدرات السورية ضعفاً على ضعف، بما تتسبّب به من تدمير منهجي للقدرات الضعيفة، ويزداد الأمر سوءاً مع الصلافة السياسية التي تبديها حكومة بنيامين نتنياهو تجاه دمشق والقيادة الجديدة فيها، والتي تنطوي على تهديداتٍ سافرةٍ ومن غير أسبابٍ تسوّغ هذا التصعيد الجاري من طرف واحد. ورغم تكرار دمشق إنها ليست في وارد إشعال التوترات مع أي أحد، إلا أن هذه “التطمينات” تُقابَل بغطرسة إسرائيلية ظاهرة، فقد اختطت حكومة نتنياهو تجاه دمشق في عهدها الجديد سياسة تقوم على أن أي تسلح سوري مما تحوزه الجيوش التقليدية يشكل تهديداً للدولة العبرية، ويبدو أن الأخيرة على وشك أن تطلق مطلب نزع أسلحة سورية، لضمان أمن إسرائيل! وبما يشبه مطلباً سبق أن تقدّمت به موسكو لإقرار تسوية مع كييف، فالجار الصالح هو الذي يتجرّد من جميع أسلحته بجوار الجار المدجّج بالأسلحة المتطورة والفتّاكة. ويغدو المشهد أكثر تعقيداً، بالنظر إلى تلاقي حسابات خصوم العهد السوري الجديد، موضوعياً، لإضعاف هذا العهد وتجريده من أسباب المنعة، وحرمانه من تثبيت ركائز الاستقرار.

ومع توالي الاعتداءات الإسرائيلية الجسيمة وافتقارها إلى مبرّر عسكري أو دفاعي، ومع تزايد ارتفاع أصوات مراكز دولية تندّد بهذه التعديات غير المبرّرة وتدعو إلى وقفها، كان من اللافت، في هذه الأثناء، أن ينطلق صاروخان من جنوب سورية نحو أهداف إسرائيلية، وهو ما سارعت تل أبيب للرد عليه موسّعة نطاق عدوانها على مناطق في الجنوب. وأياً كانت الجهة أو الطرف، وأيا كانت النيات وراء هذا النشاط المفاجئ على الجبهة السورية بعد عقود من الصمت، من الواضح أن تل أبيب قد رأت فيه مبرّراً لاعتداءات سابقة وراهنة وربما لاحقة. وإذا الأمر يوحي بخلط أوراق سياسية وعسكرية، فمن الواضح أن تل أبيب هي القادرة على استثمار هذا التطوّر وتوظيفه باتجاه إدامة اعتداءاتها، سعيا إلى تحقيق أهداف استراتيجية، منها إخراج الموقع السوري كلياً من دائرة الصراع، وهو ما يفسّر يروز دعوات أميركية إلى الطرفين لتوقيع معاهدة عدم اعتداء متبادل، علماً أن اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 التي أبرمها النظام السابق تنطوي على التزام متبادل بوقف الأعمال الحربية، وقد سارعت تل أبيب إلى نقض هذه الاتفاقية، ما إن سقط النظام السابق وشنّت حملة على أركان النظام الجديد “المتطرّفين الذين يرتدون أزياء غربية”.

أمام هذه الضغوط العسكرية الشرسة التي تتعرّض لها دمشق، على الحكم الجديد أن يغادر حالة الارتباك السياسي، وألّا يكتفي بالقول إن دمشق ليست بصدد تهديد أي أحد أو أية دولة مجاورة أو غير مجاورة، وأن تشرع في بلورة رؤيتها للسلام مع دولة الاحتلال، ومن غير أن تكون مدعوّة لاختراع شيء جديد. وفي هذا الصدد، من الأهمية بمكان التركيز على المحور الأساسي لأية تسوية، إعادة الأرض المحتلة مقابل إبرام السلام، وأن دمشق توقع اتفاقية سلام ما إن تلتزم تل أبيب بالانسحاب من هضبة الجولان ومن الأراضي والمواضع التي تسلّلت إليها عقب 8 ديسمبر الماضي. ولكون دمشق ملتزمة بالإطار العربي والقرارات العربية العليا وبمبدأ الأمن الجماعي العربي، فإن دمشق تلتزم بمبادرة السلام العربية للعام 2002، وترى فيها إطاراً صالحاً لتسوية جدّية تنهي عقوداً طويلة من الصراع العربي الإسرائيلي، وكانت سورية طرفا فيه وضحية لمطامع إسرائيلية (كما كانت دول غربية طرفا فيه بصورة أو بأخرى).

إنه لمما يسترعي الانتباه إزاء موجة التعدّيات الإسرائيلية المتعاقبة أنها تقع فيما تطلق واشنطن مؤشّرات إيجابية متتالية تجاه دمشق، بدأت حتى قبل لقاء دونالد ترامب بأحمد الشرع في الرياض، ومنها الأنباء عن زيارة مزمعة لوفد رسمي أميركي برئاسة وزير الدفاع العاصمة السورية، وكذلك ما تتواتر عن قبول أميركي لوجود مقاتلين أجانب يخضعون لهيكلية وزارة الدفاع، ويأتمرون بأوامرها ويعتنقون عقيدتها (وهذا ما لا يرتضيه الشطر الأكبر من السوريين، ولسان حالهم إن بوسعهم رفد الجيش الجديد بما يتطلبه من طاقات وموارد بشرية، دونما حاجة لمقاتلين جهاديين أجانب يجهلون كل شيء عن سورية وعن السوريين). والمراد قوله هنا إنه بينما ترفع واشنطن العقوبات عن سورية، وهذا حسن، فإنها، في الوقت نفسه، تغضّ الطرف تماماً عن تعدّيات عسكرية تتخذ هيئة “عقوبات”، ولا تعدو أن تكون بلطجة مكشوفة تشنّها تل أبيب على مواقع ومقدّرات سورية، لمنع هذا البلد من التعافي ولإغراقه في تحدّيات جسيمة، من دون أن يغيب عن البال أن الغرض الجوهري استدراج دمشق تحت السطوة العسكرية إلى الإذعان السياسي، والقبول بصيغة حل وصيغة سلام مزعوم تتماشى مع المطامح الإسرائيلية التوسّعية، ومع ما يسميه مجرم الحرب نتنياهو تغيير وجه الشرق الأوسط. ويثيرالحديث عن دعوة أميركية الشرع لتأدية زيارة رسمية إلى واشنطن في سبتمبر/ أيلول المقبل تساؤلات بشأن مغزى التقرّب الأميركي المتزامن مع تصعيد إسرائيلي، وكيف أمكن لواشنطن أن تجمع ما بين هذين النقيضين بأن تمدّ حبال الود والتسهيلات إلى دمشق، في وقت تتجاهل فيه التعدّيات الإسرائيلية الخطيرة والمتتالية، لا تدينها ولا تدعو إلى وقفها، وهو ما يجد نظيراً له في السعي الأميركي إلى وقف إطلاق النار في غزّة، المتزامن مع التعامي عن الفظائع اليومية بحقّ المدنيين هناك، حتى إن واشنطن تغضّ الطرف عن المهزلة الدامية لتقديم المساعدات، اذ تُستخدم المساعدات المزعومة هذه لزيادة تجويع الغزّيين من جهة، ثم للفتك بهم من جهة ثانية، حين يندفعون للحصول عليها. شيء كهذا تفعله إدارة ترامب مع دمشق بإرسال إشارات طمأنة وتسهيل تحقيق برنامج التعافي، وإعادة بناء ما هدمته حرب النظام على شعبه، جنباً إلى جنب مع تجاهل التدمير الإسرائيلي المتمادي للمقدّرات السورية. وعليه، لا مفرّ أمام الحكم الجديد من الربط بين الأمرين، بالترحيب بالمؤشّرات الأميركية الإيجابية، وفي الوقت نفسه، التشديد على أن هذه الإيجابية لا تتماشى أبداً مع إطلاق يد تل أبيب في التدمير.

العربي الجديد

—————————–

هل يتعلَّم لبنان من حكومة الشرع؟/ عبد الرحمن الراشد

 9 يونيو 2025 م

مضَى على الرئيسين جوزيف عون ونواف سلام نحو 150 يوماً. من جانب، لبنانُ يعيش أفضلَ مرحلة منذ عقدين مضيَا. ومن جانبٍ آخر، هناك قلقٌ من بُطءِ التَّقدمِ وأنَّ هناك حرباً أخرى على وشكِ أن تنفجرَ!

سواء، إنْ كان المتقاتلون علَى جانبي الليطاني يستعدُّون لمعركة الحسم – وهو مُستبعدٌ – أم لَا، فإنَّ الطريقَ طويلة نحو استعادة لبنانَ كاملَ سيادته من إسرائيلَ و«حزب الله». لا تزال قواتُ إسرائيلَ على التراب اللبناني، والحزب سلَّم القليلَ من سلاحه الذي لم نرَ منه إلا رأسَ الجليد.

المفردات التي تتكرَّر في خطابات الرئيسين ضد «العدو الإسرائيلي» لا وزنَ لها في واقعِ اليوم، وليست ضرورية في الأدبياتِ السياسية المعاصرة.

الحقيقة المرة للبعض، هي أنَّ إسرائيل، لا السلطات اللبنانية، هي من ستكيّف «حزب الله». ستقرّر حجمَه، وحدودَ قدراته، وكذلك نفوذه.

الجارة الكبرى، سوريا، تمرُّ بحالة مشابهة لكنَّها تختلف في المعالجة. سقطَ نظامُ بشار مثلما سقطَ نظام الضاحية، والإرثُ من بعده كبيرٌ مع الجارة «السوبر باور» الإقليمية. على التُّراب السوري قواتٌ إسرائيلية، واستهدافاتها متكررة لمواقعَ سورية.

في هذا الظرف المعقَّد استطاعت حكومة الرئيس أحمد الشرع تحويلَ الأزمة إلى فرصة واستثمرتها، وهي اليوم محلُ ثناء عالمي ليس لما فعلته، بل لمَا لم تفعله أيضاً. لقد تخلَّصت سريعاً من سياسة نظامِ النعامة السابق، الذي فشل في التعاطي مع السياسة بواقعية داخلياً وخارجياً.

لم يهاجمِ الشرع إسرائيل في خطاباته، ولم يحرك قواتِه أو يوعزْ لجماعاته بالاشتباك أو حتى الرَّد على نيرانها. ولم ينفخ بياناتِ حكومته بمزاعم مواجهاتٍ وانتصارات، بل لم يسمِ إسرائيل بالعدو، ولم يرفضِ الوساطات والتفاوض مع الجار الشّرير. لقد أوضح أنَّ هدفَه استقرار سوريا المدمرة وليس زعزعة استقرار من حولها.

الرئيس اللبناني ورئيس الحكومة هما من نخبة العسكر والمدنيين اللبنانيين. سلام خريجُ جامعتي السوربون الفرنسية وهارفارد الأميركية، اعتقد أنَّه الوحيد في تاريخ الحكومات اللبنانية بمثل هذه الكفاءات التعليمية والعملية الدولية. في حين أنَّ الرئيسَ الشرع خريج «هيئة تحرير الشام» ولم يتعرَّف على العالم، قبل الحكم، سوى ما بين الأنبارِ العراقية وإدلب السورية!

لا يحتاج الأمر إلى نظاراتٍ سميكة لنرى كيف أنَّ الشرع تقدَّم في إصلاح شؤون سوريا، ونجح في عقد صفقات مع كلّ القوى الصديقة و«العدوة». احتوى التهديدات من إسرائيل، وإيران، وقوى عراقية، وعقوبات أميركية، بالتَّفاهم معها، وأغرى المستثمرين من الحكومات بعقود بناء وتشغيل مطارات وموانئ وطاقة وصناعة.

ندرك أنَّ التحديات مختلفة في بيروت عن دمشق، ورغم ذلك تلوح فرصة نادرة أمام اللبنانيين قد لا تتكرَّر أربعين عاماً أخرى، تتمثَّل في إنهاء هيمنة الخارج عليه بعد عقود من الفلسطينيين والسوريين والإيرانيين. وهذه المرحلة تتطلَّب مرونة ومعالجة مختلفة عمَّا كان يفعله السابقون.

من قراءة وضع الفريقين المتقاتلين، «حزب الله» وإسرائيل، لا تخرج الاحتمالات أمام الحزب عن ثلاثة. الأول: أن يعودَ بوصفه قوة إقليمية عابرة للحدود، تهدّد إسرائيل، وتدير حوثي اليمن، وتعمل في سوريا والعراق. إلّا أنَّه بات واضحاً أنَّه سيستحيل على الحزب ذلك مع إصرار الإسرائيليين على سياسة منعِ قيام قوة تهدّدها حدودياً. لاحظوا أنَّ مصر والأردن وسوريا في الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل تنظم أنواع الأسلحة والمسافات عن الحدود، وهذا ما كانَ يرفضه «حزب الله». لكن في اتفاق وقف الحرب قَبِل بالخروج من جنوب الليطاني، والتَّخلي عن السّلاح الثقيل ومنصات الإنتاج العسكري وتفكيك بنيته التحتية.

الاحتمال الثاني: «حزب الله» قوة محلية فقط. عليه أن يتموضعَ بعد أن يعترف بانقلاب موازين القوى، ويتخلَّى عن دوره بوصفه قوة لتهديد إسرائيل وورقة إيرانية تفاوضية. سيحاول الاحتفاظ بسلاح يمنحه الهيمنة على الساحة اللبنانية. ولتحديه، تتعاون السلطات اللبنانية والإسرائيلية، حيث يقوم الإسرائيليون بإبلاغ بيروت عن الأسلحة المخبأة، والجانب اللبناني يتولَّى المداهمة والمصادرة.

لكنَّ الحزب خبير في لعبة الاختباء لولا أنَّ الوضع الجديد مختلف وأصعب عليه مما كان في الماضي. ولا توجد فرصة له للتهرب، حتى بعد تنحية الوسيطة الأميركية مورغان أورتاغوس، التي يصورها الحزب وحلفاؤه بأنَّها دمية نتنياهو. فإسرائيل، لا الإدارة الأميركية، هي من تقرّر في الشأن اللبناني، هذا ما تؤكده الهجمات الإسرائيلية العنيفة على الضاحية، وهي الأولى من نوعها منذ نهاية الحرب.

الرئاسة اللبنانية وعدت باستعادة سيادة الدولة، بنزع سلاح الحزب وإنهاء دور لبنان بصفته جبهة حرب بالنيابة، ولم تنجح بعد. من دون ذلك سيكون الاستقرار هشاً والاستثمار محدوداً. مستقبل لبنانَ من عشر وعشرين سنة مقبلة مرهون بهذه الأيام، لإنهاء الوضع من أرض للميليشيات إلى دولة ذات سيادة تنشغل بشأنها الداخلي وحاجات مواطنيها.

هذا ما يفعله الشرع في سوريا بشجاعة ودهاء، مع أنَّ ظروفه أصعب وأخطر مما يواجه الرئاسات اللبنانية. وليس صحيحاً أنَّ العالم هبَّ لدعم الشرع هكذا، أبداً. جعل أولوياته واضحة، فهو من صنع التحالفات، ولم يرضخ لابتزاز الدعايات المحلية والإقليمية بشأن «الجهاد» و«العدو». عليه محاربة الفلول والانفصاليين وترميم الاقتصاد والتفرغ لبناء دولة شبه منهارة منذ نهاية الحرب الباردة.

الشرق الأوسط

——————————-

بيروت ودمشق وتحدي الدولة الطبيعية/ غسان شربل

9 يونيو 2025 م

يتذمَّر اللبنانيون من نصائحِ السفراء وإملاءات المؤسساتِ المالية الدولية. يشعرون أنَّ الخارجَ يرسم لهم الطريقَ والأهداف ويحدّد لهم الوسائل. يزعجهم أن تبدوَ بلادُهم في صورة قاصرٍ لا يثق العالمُ بقدرته على مساعدة نفسِه للخروج من الهاوية. تكاثر الأطباء وتضارب العلاجات يفاقمان أحياناً ارتباكَ المريض وضياعه.

لا جدال أنَّ من حقّ اللبنانيين، أسوةً ببقية الشعوب، مداواة حاضرهم ورسم مستقبلهم. لكن استردادَ هذا الحق لا يتم فقط بالتذكير بالبديهيات. تبدأ الوصاياتُ عموماً حين تتصدَّع الدولُ تحت وطأة التمزقات والتدخلات. والتمزق اللبناني قديم، ويمكن قول الشيء نفسه عن التدخلات.

أخطر ما يمكن أن يصابَ به بلدٌ هو افتقاد القدرة على القرار. غياب هذه القدرة يستنزف ما تبقى من حصانة يفترض أن تتوفَّرَ لبلد مستقل وسيد. يضاعف من حدةِ المشكلة أن يكونَ البلد محاطاً بحروب ونزاعات تفوق قدرته على الانخراط فيها أو الخروج منها. هكذا يتحوَّل البلد أسيراً في الداخل والخارج معاً. والحقيقة أنَّ المريض اللبناني وجد نفسَه فجأة غارقاً في دوامة حروب انطلقت بعد شرارات «طوفان الأقصى». ثم وجد نفسَه أمام نهاياتٍ صعبة لهذه الحروب، وهي على خلاف ما تمنَّاه من أطلقوا «الطوفان» أو «جبهة الإسناد».

لم يكن أهلُ المنطقة يحتاجون إلى تجاربَ جديدة للتعرف على عدوانية إسرائيل ووحشية ممارسات جيشها. لكن ما حدث أعطى آلة القتل الإسرائيلية فرصةَ الذهاب بعيداً في التدمير والقتل وصولاً إلى ممارسات الإبادة. من يراقب سلوكَ إسرائيل حيال غزةَ والضفة وسوريا ولبنان يشعر أن ميزانَ القوى انكسر فعلاً وعلى نحو صارخ.

لا حاجةَ إلى التذكير بالدَّم الذي يسفك قربَ مراكز توزيع الأغذية في غزة. ولا حاجة إلى تفسير معنى أن ينذرَ الجيش الإسرائيلي سكانَ أبنية في بيروت ويطالبهم بإخلائها ثم يقوم بقصفها. الاغتيالات اليومية التي تنفذها المسيّرات الإسرائيلية في لبنان بالغةُ الدلالات ومثلها استكمال تدمير قدراتِ الجيش السوري السابق.

لا يحتاج أهل المنطقة إلى من يشرح لهم أنَّ الزلزال الكبير ضرب الحلقة السورية. نهاية نظام الأسدين أدَّت إلى تغيير في الملامح والأدوار. نهاية تواصل حلقات ما كان يعرف بـ«محور الممانعة» وانقطاع الطريق التي كانت تبدأ من طهران وتمتد إلى بيروتَ بعد المرور ببغداد ودمشق. تغييرٌ هائل وضع المعنيين أمام خيارات بالغة الصعوبة.

دخل أحمد الشرع قصرَ الرئاسة السوري. وجد بين يديه جمرَ الوقائع الجديدة. بلاد مفككة انفرط عقد جيشها ومؤسساتها. بلاد تغرق في الخوف والفقر يعيش الملايينُ من أبنائها في مخيمات قربَ حدودها. وكان على الشرع أن يختارَ وأن يتَّخذ القرار. زمن الفصائلِ يعني الحروبَ التي لا تنتهي. يعني تفكُّكَ سوريا والمزيد من الدّم والمقابر. كان على الشرع أن يقنعَ السوريين وأن يقنعَ العالم. كان لا بدَّ من فرصة لالتقاط الأنفاسِ واستجماع القدرات واستحقاق المساعدات.

فاجأ الشرع السوريين وفاجأ أهلَ المنطقة والعالم. خياره سوريا أولاً ولا يشعر برغبةِ الاستسلام للوصفات القديمة والعقائد الجامدة والعقاقير التي انتهت مدةُ صلاحيتها. قرَّر قراءةَ ميزان القوى الإقليمي والدولي والتعامل معه. والهاجس إنقاذ سوريا واستردادها من الميليشيات والوصايات.

بعثَ الشرعُ برسالة صريحة مفادها أنَّ سوريا الجديدة تريد أن تكونَ دولة طبيعية. دولة تحتكر مؤسساتها الشرعية قرار الحرب والسلم وتحتكر السلاح أيضاً. وهي مهمة ليست بسيطة على الإطلاق. الدولة الطبيعية تعني الذهابَ إلى القانون والمساواة بين المكونات وتعني احترام القوانين الدولية. تعني الخروجَ من القاموس الذي كان قائماً على الشطب والإكراه وتغيير الملامح. تبلور هذه الإرادة السورية شجَّع الدولَ الراغبة في مساعدة سوريا على التحول مشروع استقرار في المنطقة. قال الشرع إنَّ سوريا الجديدة لا تريد أن تشكّلَ تهديداً لأحد من جيرانها. هذه الرغبة في الخروج من الشق العسكري في النزاع مع إسرائيل فتحت باب المصافحات والاعترافات.

على رغمِ الصُّعوبات يسود انطباع أنَّ رحلة الشرع قد أقلعت بدعم إقليمي ودولي. في الوقت نفسه كان اللبنانيون يحلمون بأن تتمكَّن بلادهم من بدء رحلة العودة إلى مشروع الدولة الطبيعية. تجدَّد هذا الحلمُ مع انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية واختيار نواف سلام رئيساً للوزراء. توقَّف اللبنانيون عند خطاب القسم والبيان الوزاري. مرَّت شهور ولم تتمكن الرحلة اللبنانية من الإقلاع. ظروف وصولِ الشرع تختلف عن ظروف وصول عون وسلام. تركيبة لبنان شديدة التعقيد، واستجماع إرادة لبنانية موحدة ليس سهلاً. واضح أنَّ قراءة «حزب الله» لما حدث في المنطقة تختلف عن قراءة المكونات اللبنانية الأخرى وقراءة الرئيسين عون وسلام.

يطالب العالمُ لبنانَ بالعودة إلى قاموس الدولة الطبيعية ليستحقَّ الثقةَ والمساعدات والدعم. عون وسلام لا يستطيعان القيام بهذه المهمة وحدهما، فهي تقع أيضاً وبالدرجة نفسها على عاتق نبيه بري بحكم موقعه في بيئته وفي الدولة معاً. لا يمكن إنجازُ مهمةٍ من هذا النوع من دون أن تقرأ قيادة «حزب الله» كيف انتهتِ الحرب، وماذا حدث في سوريا. إبقاء لبنان معلقاً على حسابات إيرانية أو غير إيرانية قد يعرّضه لخسارة الاهتمام الدولي بمساعدته.

اشترط العالمُ على سوريا الجديدة أن تحملَ مشروع الدولة الطبيعية، فوافقت وصعدت إلى القطار. افتقار لبنان إلى قرارٍ جدي جامع يبقيهِ على الرَّصيف مرشحاً لمفاجآت كثيرة.

الشرق الأوسط

——————————————

من دمشق…/ أسامة أبو ارشيد

06 يونيو 2025

منذ سقوط نظام بشّار الأسد في سورية نهاية العام الماضي، لم يتوقّف الجدل بين مَن رأى في ذلك انتصاراً لثورة الشعب السوري، بعد أكثر من 13 عاماً من الصمود والتضحيات الجسام، وآخرين رأوا في ذلك نجاحاً لمؤامرة إقليمية ودولية ضدّ نظام كانوا يعدّونه جزءاً من “محور المقاومة” في المنطقة ضدّ إسرائيل، ومشاريع الهيمنة الأميركية. بالنسبة إلى مَن كانوا يناصرون النظام على أساس أنه مقاوم أو “ممانع” (أغلبهم عرب غير سوريين بالمناسبة) لم يكن يعنيهم ما يريده السوريون شعباً، وما طبيعة معاناتهم وشكاواهم وآمالهم. المهم بالنسبة إليهم أن نظام الأسد كان يُعلِن أنه من “محور المقاومة” ضدّ إسرائيل. حتى بشّار نفسه، عندما انطلق قطار الثورات العربية من تونس أواخر عام 2010 قبل أن يصل إلى مصر مطلع 2011، لمَّح إلى أن سورية محصّنة ضدّ الثورات، لأن نظام حسني مبارك (سقط في فبراير/ شباط 2011) يمثّل امتداداً لنظام اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، على عكس سورية التي لم تتورّط في اتفاقات تطبيعية معها، وبقي خطابها الرسمي يقاربها عدوّاً مركزياً لها. ولذلك، عندما خرجت مظاهرات السوريين تطالب بالحرية والكرامة، اعتبرها الأسد جزءاً من مؤامرة إقليمية ودولية ضدّ سورية. لكنّ السوريين نظروا إلى الأمر من زاوية مختلفة. هم بغريزتهم وموقفهم معادون لإسرائيل، غير أن نظامي حافظ الأسد (الأب) وبشّار الأسد (الابن) لم يسعيا إلى تحرير الجولان المحتل منذ 1967، أيّ عندما كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع. على العكس، كانت الجبهة السورية مع إسرائيل أهدأ الجبهات منذ 1974، كما لم تردّ سورية يوماً على الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على أراضيها في حقبة الأسد الابن (2000 – 2024)، إذ كان النظام يكتفي بتكرار معزوفته الشهيرة أن “الردَّ سيكون في المكان والزمان المناسبين”، غير أنه لم يأتِ مرّة واحدة أبداً. في المقابل، كان الشعب السوري يرزح تحت وطأة نظام طائفي أمني باطش ومتجبّر، ويعيش في بلد ينخره الفساد والرشوة، ولم يشهد كثيراً من التطوّر العمراني والاقتصادي، بذريعة أن هذه ضريبة المقاومة والممانعة، وليس مصادفةً أن يكون اسم أكثر فروع الأمن شراسة وبثّاً للرعب في قلوب السوريين “فرع فلسطين”.

أكتب هذه السطور من دمشق. هذه أول زيارة لي إلى سورية، وكنت في حقبة الثورة السورية (2011 – 2024) من المطلوبين لنظام بشّار الأسد، بناء على وثائق سرّبت من فروع أجهزته الأمنية قبل سنوات، بسبب تأييدي ومناصرتي ثورة الشعب السوري. كان انطباعي عن دمشق مختلفاً، كنت أظنّها أكثر تطوّراً وتقدّماً بما يليق باسمها ومكانتها. هذه عاصمة محفور اسمها في أعماق التاريخ، يقال إنها إحدى أقدم مدن العالم المأهولة بشكل غير منقطع 11 ألف عام، وإنها أقدم عاصمة في التاريخ. لكن نظام حزب البعث الذي حكم سورية أكثر من ستّة عقود (منذ 1963)، منها 55 عاماً تحت حكم آل الأسد (منذ انقلاب حافظ الأسد الذي سمّاه “الحركة التصحيحية” عام 1970)، لم يقدّر يوماً، ولم يفهم حقيقة حجم دمشق وسورية وقيمتيهما. أعلم أن بعضهم سيعترض ويقول إن أكثر من 13 عاماً من الثورة دمّرت كثيراً من سورية وأوقفت نموها وتطوّرها. لكن، من يزور دمشق سيفاجأ بأن التاريخ يبدو وكأنّه قد توقّف في مركزها منذ عقود، وليس منذ 2011 فقط. وهنا لا أتحدث عن الأحياء الراقية الجديدة التي بنيت لخدمة شريحة معينة في الحكم والمجتمع، بل عمّا يكابده المواطن السوري العادي يومياً. مؤسّسات مترهلة. بنية تحتية ضعيفة. وسائل نقل كثير منها يعود إلى حقبة الثمانينيّات والتسعينيّات من القرن الماضي. فنادق يفترض أنها فاخرة، ولكنّها لم تشهد تحديثات منذ ثمانينيّات القرن الماضي. خلال وجودي في دمشق اضطررت لزيارة أحد المستشفيات العامّة، ولم يكن مستشفى يستحقّه الشعب السوري. لا أجهزة طبية حديثة، ولا أَسرَّة مناسبة، ولا مباني تليق بمستشفى في العاصمة. هذا لا ينتقص من مهنية الأطباء والممرضين وإنسانيتهم، ولا حتى من حقيقة أن العلاج مجّاني، وأظن أن هذا يعود إلى حقبة حزب البعث. لكن، ذلك المستشفى ربّما لم يشهد تطويراً منذ عقود طويلة سابقة على عام 2011.

نعود إلى جماعة أنصار “محور المقاومة”. قلت ذلك من قبل وأعيده هنا، لا أفهم لماذا يصرّ بعضهم على أن يضع جرح فلسطين في مقابل جرح سورية، وغيره من الجراحات العربية النازفة؟ لمصلحة من تبرير جرائم أنظمة عربية ديكتاتورية بحقّ شعوبها بذريعة أنها تؤيّد فلسطين على الأغلب قولاً لا فعلاً؟ إسرائيل هي العدو الاستراتيجي لهذه الأمّة، لا شكّ في ذلك، وفلسطين قطب الرحى والقضية المركزية لهذه الأمّة. لكن، هل فعلاً ثمَّة من هو مقتنع بأننا سننتصر على إسرائيل في وجود أنظمة عربية كثيرة قائمة اليوم؟ وإذا عدنا إلى سورية، ألم يكن أيتام نظام الأسد يخدعون أنفسهم وهم يتحدّثون عنه وكأنه أحد أضلاع “محور المقاومة”، في حين أن شعبه مسحوقٌ لا يبحث إلا عن لقمة عيشه والسلامة من بطش أجهزة الأمن والمخابرات التي لا تحصى عدداً، كل ذلك باسم المقاومة والممانعة وفلسطين؟

لا عجب إذاً أن نظام الأسد (الأب والابن) لم يضع في اعتباره منذ 1974 محاربة إسرائيل، فهو كان يعلم أن شعبه يبحث عن التحرّر منه أولاً. ومع ذلك، لا يعدم أنصار “محور المقاومة” وجود مؤشّرات يعدّونها أدلةً، يبرّرون فيها قلقهم من سقوط نظام الأسد؛ الفصائل المسلّحة التي أسقطته، وفي مقدمها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً المرتبطة بتنظيم القاعدة)، مصنّفة على قوائم الإرهاب الدولي؛ الرئيس السوري أحمد الشرع نفسه موضوع في قوائم الإرهاب الدولي. فجأة تصبح قوائم الإرهاب الدولي المُتحكَّم بها أميركياً مرجعاً محترماً يُعتدّ به عند هؤلاء، وهم لا يفتأون يحيلون إلى الشرع باسمه الحركي السابق (أبو محمد الجولاني)، ثمّ يذكّرونك بلقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الشرع في الرياض الشهر الماضي (مايو/ أيار) بوساطة سعودية تركية، ويتساءلون، محقّين إلى حدٍّ ما، عن ماهية الاستحقاقات المطلوبة سورياً مقابل ذلك، ثمَّ هم يستدلّون ببعض التصريحات المنسوبة إلى مسؤولين سوريين، بمن فيهم الشرع نفسه، تلمّح إلى إمكانية فتح صفحة جديدة من العلاقات مع إسرائيل، وذلك بغض النظر عن دقّة تلك التصريحات أو مدى اتساع أو ضيق نطاقها واشتراطاتها. أمّا الأكثر غرابة، فهو مطالبتهم النظام السوري الجديد بإعلان الحرب على إسرائيل في ظلّ اعتداءاتها المتكرّرة على سورية منذ سقوط نظام الأسد، وتذكيرهم الشرع بأن المنطقة التي ينحدر منها في الجولان السوري محتلّة إسرائيلياً، وكأنها لم تكن محتلةً 58 عاماً، أي منذ أيام نظام الأسد، ومع ذلك لم يُعيّروه يوماً بذلك.

لا يعني ما سبق أن النظام السوري الجديد قد لا ينحرف قومياً ووطنياً، هذا احتمال وليس حتمية. لكن الشعب السوري يستحقّ فرصة جديدة لالتقاط الأنفاس بعد أكثر من ستّة عقود من القمع وتخلّف النظام السياسي الطائفي الذي حكمهم. ما نطرحه هنا ليس من باب السذاجة السياسية. لا يوجد شيك على بياض لأحد، لكن، أن نطالب النظام الجديد بإعلان الحرب على إسرائيل، وهو لم يشكّل جيشاً وطنياً بعد، ولا يزال يواجه تمرّداً وتحدّيات داخلية جمَّة وهائلة، فهذه سخافة وحماقة. أم هل يا ترى نسي المتباكون على نظام الأسد من بعض الأيديولوجيين العرب أن إسرائيل دمّرت أكثر من 90% من القدرات العسكرية السورية بعد سقوط نظام الأسد؟ طبعاً، لن يسأل هؤلاء أنفسهم، لماذا لم تدمّر تلك القدرات والأسد في الحكم، رغم أن إسرائيل كانت قادرة على هذا؟ لو كان يعني هؤلاء سورية لأصغوا لمطالب الشعب السوري واحتياجاته ومآسيه. لا، ليس الشعب السوري خصماً لفلسطين، ولا هو سيتخلّى عن فلسطين، ولا ينبغي لأحد أن يزايد على صفاء معدن السوريين، ولا حتى أن يضع الفظائع التي تجري في قطاع غزّة في مقابل ما يطلبه السوريون من إعادة بناء وطنهم. من غريب الأمور، أن مُحرّضين كثيرين على سورية الجديدة يعيشون في ظلّ أنظمة مطبّعة مع إسرائيل، ولكنّهم يمارسون رقابةً على الذات بذريعة الحكمة. لنعطِ فرصةً للسوريين لإعادة بناء وطنهم، ولنتذكّر أنه لا يمكن مواجهة إسرائيل بدول مفكّكة منهوبة، وشعوب ذليلة منكوبة، تئن تحت وطأة أنظمة قمعية متخلفة.

حتى ذلك الحين، سنتمنّى لسورية أن تكون كما ينبغي أن تكون، وأن لا نفجع فيها مرّة أخرى، فيكفي شعبها ما عاناه من ويلات، ويكفينا ما عانيناه من جراء غيابها إقليمياً.

العربي الجديد

————————————–

إسرائيل وسوريا… أجندة مقترحة للمفاوضات/ إيتمار رابينوفيتش

أولى القضايا إنشاء “خط أحمر” سري لتفادي التصعيد وضبط التوتر

آخر تحديث 05 يونيو 2025

ينبغي أن يمهد لقاء الرئيس دونالد ترمب وأحمد الشرع وقرار ترمب رفع العقوبات الأميركية عن سوريا الطريق لإقامة علاقة عمل إيجابية بين البلدين. وبحسب التقارير، رد الشرع إيجابا على اقتراح ترمب بالانضمام إلى “اتفاقات أبراهام” في وقت مناسب مستقبلا، غير أن الاكتفاء بتفسير ظاهر هذا الموقف قد لا يكون خيارا حكيما، إذ إن كلا من سوريا وإسرائيل ليستا مستعدتين حاليا لمثل هذه الخطوة الجريئة. ومع ذلك، فإن التوصل إلى صيغة تعايش أكثر تواضعا قد يكون الخيار الواقعي.

يشكل سقوط سلالة الأسد وصعود النظام الذي يتزعمه أحمد الشرع وحركته “هيئة تحرير الشام” تحولا بالغ الأهمية في السياسة الشرق أوسطية، ونقطة مفصلية في علاقة إسرائيل بسوريا. فبين عامي 1991 و2011، حلت عملية سلام متقطعة محل الصراع العنيف بين البلدين، غير أنها لم تنجح في التوصل إلى تسوية نهائية. وقد انتهى هذا المسار مع اندلاع الحرب الأهلية السورية، التي دفعت البلاد تدريجيا إلى الوقوع تحت النفوذ الإيراني.

كان إسقاط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 نتيجة غير مباشرة لحرب غزة، إذ أضعفت الضربات الإسرائيلية لإيران و”حزب الله” كلا الطرفين وحرمت الأسد من دعمهما. وفي ظل هذا الفراغ، خرج الشرع وحركته من إدلب، وسيطرا تباعا على حلب، ثم حماة وحمص ودمشق، من دون مقاومة تذكر. استقبلت إسرائيل هذا التحول الراديكالي بمزيج من القلق والترقب. فقد رأت في إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا مكسبا استراتيجيا، لكنها واجهت عددا من التساؤلات الجوهرية. أولها ما إذا كان الجهادي السابق، الذي بات يتزعم النظام الجديد، قد تخلى فعلا عن نهجه السابق وتحول إلى قائد برغماتي يسعى لإعادة توحيد بلاده وإعمارها. كما أثيرت شكوك حول قدرته على كبح جماح القوى الانفصالية داخل سوريا، وبناء دولة موحدة.

أما السؤال الثالث فتمثل في مدى استعداد النظام الجديد لمواجهة التدخلات الخارجية، سواء من جانب تركيا الساعية إلى نفوذ جنوب حدودها، أو من إيران وروسيا اللتين تحاولان الحفاظ على موطئ قدم لهما في سوريا.

وكان الشرع نفسه قد أعلن في أكثر من مناسبة أنه لا يرغب في مواجهة مع إسرائيل أو التعامل معها في المرحلة الراهنة، وأن أولويته تتمثل في إعادة بناء البلاد، مؤكدا أن “القضية الإسرائيلية” مؤجلة حاليا. غير أن إسرائيل اختارت عدم الانتظار. فبدافع من صدمة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، باشرت تنفيذ ضربات استباقية لمنع أي هجمات محتملة من عناصر جهادية في الجولان السورية، وسيطرت على جبل الشيخ والمنطقة المنزوعة السلاح التي كانت تفصل بين البلدين منذ اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، كما دمرت جزءا كبيرا من العتاد الذي خلفه جيش الأسد، لتفادي وقوعه في أيدي المقاتلين الجهاديين. وتدخلت إسرائيل كذلك لدعم بعض من أبناء الطائفة الدرزية الذين تعرضوا لهجمات من عناصر تابعة للنظام، استجابة لنداءات من الداخل السوري وضغوط من الدروز داخل إسرائيل.

ورغم أن هذه البداية لم تكن مبشرة، فإنها لا تعني بالضرورة استمرار هذا النهج التصادمي. فهناك مصلحة مشتركة للطرفين في ترسيخ علاقة مستقرة، من دون الحاجة إلى توقيع اتفاق سلام أو حل نهائي للنزاع. فمثل هذا الحل يبدو مستبعدا في الوقت الراهن، نظرا إلى حاجة النظام الجديد لترسيخ سلطته، وإلى الوزن الذي تمثله التيارات القومية داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل. لكن يمكن للطرفين التوصل إلى تفاهمات عملية حول قضايا عاجلة تمهد الطريق لتعاون بناء.

أولى هذه القضايا هي إنشاء “خط أحمر” سري يتيح لكلتا الحكومتين التواصل ومعالجة نقاط التوتر وتفادي التصعيد غير الضروري، على غرار الآلية التنسيقية بين إسرائيل وروسيا التي حالت، منذ عام 2015، دون وقوع اشتباكات جوية بين البلدين في الأجواء السورية. القضية الثانية تتعلق بالطموحات التركية في سوريا. فإسرائيل تخشى أن تقوم تركيا– وهي دولة غير معادية لكنها تقاد من قبل نظام يتبنى خطابا نقديا حادا تجاه إسرائيل– بالسعي لترسيخ وجود عسكري في عمق الأراضي السورية وعلى مقربة من الحدود الإسرائيلية. ومثل هذا الوجود لا يخدم مصلحة نظام الشرع، إذا كان يطمح إلى ترسيخ جوهر الدولة ذات السيادة وتعزيز صورتها. ومن ثم، ينبغي أن تُجرى مفاوضات مع تركيا بمبادرة من سوريا وإسرائيل، وربما أيضا بمشاركة إدارة ترمب.

أما المسألة الثالثة فتتعلق بإمكانية رفع العقوبات الأميركية، وعلى رأسها “قانون قيصر” الذي أقره الكونغرس بعد قرار ترمب رفعها. إذ يضع الشرع في صدارة أولوياته إعادة بناء الاقتصاد السوري والانطلاق في عملية الإعمار، غير أن العقوبات الأميركية تشكل عقبة مركزية أمام هذا المسار. ويمكن لإسرائيل، من خلال قنوات الحوار مع إدارة ترمب والكونغرس، أن تضطلع بدور مساعد في هذا الشأن.

وفي ما يتصل بعلاقة النظام الجديد بالأقليات، فإنه لا مصلحة لإسرائيل في إعادة بناء علاقة مع الطائفة العلوية، التي شكلت العمود الفقري لنظام الأسد. أما صلتها بالأكراد، وخصوصا أكراد سوريا، فليست وثيقة، ويبدو أن العلاقة بين هؤلاء والنظام الجديد تتسم في المرحلة الراهنة بدرجة من الاستقرار. أما بالنسبة للدروز، فمن مصلحة النظام العمل على إنهاء الاشتباكات مع بعض مكونات هذه الطائفة، بما يسمح بطي هذا الملف كأحد مصادر التوتر المستمرة.

وقد تتمكن إسرائيل من الإسهام في إعمار سوريا، غير أن هذا الخيار يظل رهينا بموقف الشرع. فهل سيكون منفتحا على تلقي دعم مباشر من إسرائيل؟ أم إنه سيفضل إبقاء هذه العلاقة البرغماتية الناشئة في الظل، بعيدا عن أعين الرأي العام؟

المجلة

———————————

إسرائيل في الجنوب السوري: هندسة الخصم وتثبيت الردع/ مالك الحافظ

8 يونيو 2025

ما الذي تريده إسرائيل حقًا من الجنوب السوري؟ هل باتت خطواتها التصعيدية مؤخرًا تندرج ضمن إطار تثبيت لواقع سياسي جديد؟ وهل تشكّل العودة إلى القصف الجوي بعد استمرار تثبيت التمركز البري، كرسالة مزدوجة، للداخل السوري الجديد ولحلفاء دمشق الخارجيين؟

المدفعية الإسرائيلية كانت قد شنت مساء الثلاثاء قصفًا استهدف مواقع في ريف الجنوب السوري، وذلك بعد سقوط قذائف داخل مناطق تابعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي في الجولان المحتل، قادمة – وفق زعم تل أبيب – من الأراضي السورية.

وقال بيان عسكري إسرائيلي إن الضربات نُفّذت “ردًا على إطلاق قذائف باتجاه إسرائيل من داخل سوريا”، دون تحديد طبيعة المواقع المستهدفة أو الجهات المسؤولة عن إطلاق النار.

وفي موقف سياسي لافت، حمّل وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، رئيس السلطة الانتقالية السورية، أحمد الشرع، المسؤولية المباشرة عن الحادث، ما اعتُبر تصعيدًا سياسيًا في مستوى الخطاب، رغم أن إسرائيل لم تُعلن بعد عن موقف رسمي واضح من شرعية السلطة الجديدة في دمشق.

في تلك الأثناء، تداولت وسائل إعلام عربية وفلسطينية بيانًا نُسب إلى جماعة غير معروفة تُطلق على نفسها اسم “كتائب الشهيد محمد الضيف”، أعلنت فيه مسؤوليتها عن الهجوم. ويشير اسم الجماعة إلى القائد العسكري البارز في حركة “حماس”، الذي قُتل في غارة إسرائيلية عام 2024، ما أثار تساؤلات حول احتمال تشكّل خلايا موالية لحماس أو مرتبطة بها في الجنوب السوري.

يمثل هذا التطور امتدادًا لسلسلة من التفاعلات الميدانية التي اختلقتها إسرائيل بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، وصعود سلطة انتقالية جديدة. وتُدرك إسرائيل أن هذا التغيير في بنية الحكم السوري يفتح مرحلة من الغموض السيادي في الجنوب، ما يسمح لها بالتحرك الميداني السريع، ويقلل من أية احتمالية للتصعيد المضاد.

كما يأتي هذا الحادث في وقت تجري فيه محادثات غير رسمية ومحدودة التأثير حتى الآن بين شخصيات سورية محسوبة على السلطة الانتقالية وطرفين إقليميين هما تركيا وإسرائيل، بشأن آليات ضبط الجنوب السوري أمنيًا، بما يمنع تحوّله إلى ساحة صراع غير مضبوطة التوازنات.

رسائل نارية محسوبة

 قد تخشى تل أبيب من احتمال ظهور “نموذج جبهة مفتوحة” على حدودها الشمالية الشرقية، خصوصًا في ظل الهشاشة البنيوية المؤقتة للسلطة الانتقالية.

ويفسّر ذلك توجّه إسرائيل نحو توجيه رسائل نارية محسوبة، ليس فقط للرد على إطلاق نار، وإنما لتثبيت خطوط ردع جديدة، ومنع الجنوب السوري من التحوّل إلى “منطقة رمادية” شبيهة بجنوب لبنان مطلع الألفية.

بالعموم، لا يمكن فصل هذا التصعيد عن التوتر المتراكم في الجنوب السوري، ولعل ما يحدث يكشف عن اختبار فعلي لفكرة “السيادة السورية” الجديدة، من حيث الشكل والوظيفة.

التصعيد الأخير لا يمكن فصله أيضًا عن نمط ثابت دأبت عليه إسرائيل منذ بدء الفراغ السيادي في سوريا، والمتمثل بإعادة تعريف الخصم وفق شروطها الأمنية الخاصة، فحين تُحمّل تل أبيب السلطة الانتقالية الجديدة في دمشق مسؤولية إطلاق قذائف لم يُثبت ارتباطها المباشر بأي جهاز رسمي، فهي تُنتج خصمًا على مقاسها، وتُثبّت في الوعي الدولي أن هناك طرفًا واضحًا يمكن مساءلته وتهديده.

وبدل أن تعترف إسرائيل بعدم تبلور منظومة القرار والسيطرة في دمشق الجديدة، تختار أن تُقحم هذه السلطة الناشئة في موقع “الخصم المسؤول”، لأنها ببساطة تحتاج إلى طرف يمكن مخاطبته علنًا وتوجيه النار نحوه. ما بدا في الظاهر ردًّا إسرائيليًا على إطلاق صواريخ، يمكن قراءته في باطنه كاستعراض لقوة الردع الإسرائيلي في منطقة باتت بلا مركز سيادي حقيقي.

 الرد الإسرائيلي السريع، يحمل أبعادًا تتجاوز الميدان، فهو رسالة مزدوجة؛ للداخل الإسرائيلي بأن الخطوط الحمراء ما زالت قائمة رغم الغموض السوري، وللخارج بأن إسرائيل تحتفظ بحق الحركة الاستراتيجية من دون الحاجة للتنسيق مع دمشق أو حتى أنقرة أو واشنطن.

إسرائيل تستثمر لحظة التفكك السوري لتعزيز موطئ قدمها في الجنوب، مستفيدة من الفراغين الأمني والسياسي. ويبدو أن تل أبيب لا تبحث حاليًا عن اتفاق سلام أو صيغة تفاهم معلنة، بل تُفضّل واقعًا ميدانيًا يتيح لها التحرك بحرية.

لا يبدو الجنوب السوري اليوم ساحة صراع مباشر بين دمشق وتل أبيب، بقدر ما هو مساحة اختبار لقدرة الدولة السورية على إعادة تعريف نفسها، والجنوب السوري يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى مساحة تنازع بلا قرار موحد، فيما تتحرك إسرائيل بحرية نسبية، لا لتوسيع نفوذها فحسب، وإنما لتقييد شكل السلطة السورية المقبل.

منطقة عازلة في الجنوب؟

في قلب التحليل السياسي لمستقبل الجنوب السوري، تبرز المنطقة العازلة كأداة لإعادة تشكيل الخرائط الذهنية والسياسية لمنطقة ما بعد الحرب، ولتأطير الفوضى ضمن “حدود يمكن التحكم بها”، دون الحاجة إلى احتلال مباشر أو التزامات قانونية كاملة. وهنا تبرز ضرورة مساءلة هذا المفهوم وفقًا لمدارسه القانونية والسياسية المقارنة.

وفق اتفاقيات جنيف (وخاصة البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977)، تُفهم المنطقة العازلة كحيّز يُفترض أن يكون منزوع السلاح، ومُخصص لحماية المدنيين، أو الفصل بين جبهات النزاع لمنع التصعيد. لكن في الحالة السورية، فإن هذه “الحيادية” تأخذ شكلًا مقلوبًا؛ إذ يتم تصميم العزل الأمني بقرار أحادي، تُفرض خطوطه ميدانيًا دون تفاوض سيادي فعلي، في عملية يمكن قراءتها، استنادًا إلى أطروحات مايكل والتزر عن أخلاقيات الحرب الحديثة، كنوع من “الحوكمة القسرية بالمراقبة الجوية”، حيث تُفرض السيطرة دون احتلال فعلي.

بمعنى آخر، يتم تسويق هذه المناطق كأدوات حفظ سلام، بينما هي فعليًا أدوات إعادة هيكلة جغرافيا السلطة، وتكريس لانعدام السيادة في ظل ضعف المركز.

في الحالة السورية، لا تشير المنطقة العازلة فقط إلى عزل جغرافي، بل تتعدّاه إلى شكل من العزل السياسي، حيث يُجرَّد المركز من القدرة على التأثير في حدود القرار السيادي جنوبًا.

الترا سوريا

———————————–

تركيا وإسرائيل في سوريا… “خط ساخن” لمنع الصدام العسكري/ عمر اونهون

بعد اجتماعات سورية – تركية – إسرائيلية في أذربيجان

آخر تحديث 05 يونيو 2025

شهدت العلاقات بين تركيا وإسرائيل مزيدا من التدهور في أعقاب إطاحة قوى معارضة تقودها “هيئة تحرير الشام” ببشار الأسد في سوريا. وفيما يُنظر إلى الرئيس رجب طيب أردوغان و”حزب العدالة والتنمية” وقاعدتهما الشعبية على نطاق واسع كمؤيدين للقضية الفلسطينية ومنتقدين لإسرائيل من الناحية الأيديولوجية، فإن اختزال التوترات الثنائية في هذا الموقف تحديدا تبسيط مخل. وعلى الرغم من التقلبات الناجمة عن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني والحروب العربية-الإسرائيلية الأوسع، شهدت العلاقات التركية-الإسرائيلية نموا ملحوظا، ولا سيما في عقد التسعينات. وبوصول تانسو تشيلر إلى سدّة الحكم في تركيا، قامت بسابقة تاريخية حين زارت إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني 1994، فكانت أول زعيم تركي يقوم بزيارة رسمية لإسرائيل على هذا المستوى. وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، برزت تركيا كواحدة من أكثر الوجهات السياحية شعبية لدى الإسرائيليين، حيث ارتفع عدد الزوار من 100748 في عام 1993 إلى 310604 في عام 2001، وسجّل رقما قياسيا بلغ ذروته عند 580000 في 2008، قبل أن يتراجع بحدة.

في فبراير/شباط، وأغسطس/آب من عام 1996، وقّع البلدان اتفاقيات تعاون دفاعي أثارت قلقا واسعا في العالم العربي، ما دفع الدبلوماسيين الأتراك إلى طمأنة الحكومات العربية بأن تلك الاتفاقيات لا تستهدفها، مؤكدين أن العلاقات القوية مع إسرائيل قد تخدم القضية الفلسطينية في نهاية المطاف.

وعند تولي حزب “العدالة والتنمية” السلطة عام 2002، أظهر وعيا بتأثير إسرائيل والشتات اليهودي العالمي في مجالات المال والسياسة والإعلام، وسعى إلى بناء علاقات بناءة. وتُوّج هذا التوجه بمنح رئيس الوزراء آنئذ رجب طيب أردوغان “جائزة الشجاعة في الرعاية” من رابطة مكافحة التشهير في نيويورك في يونيو/حزيران 2005، وهي جائزة تُمنح للقادة الذين قدموا دعما لليهود خلال “الهولوكوست”. وخلال الحفل، ندد أردوغان بمعاداة السامية واصفا إياها بـ”المرض العقلي المخزي”، كما وصف “الهولوكوست” بأنه “أكبر جريمة ضد الإنسانية في التاريخ”.

غير أن أول انتقاد علني كبير من أردوغان لإسرائيل كان في مارس/آذار 2004، عقب اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة “حماس” حيث اتهم إسرائيل بممارسة “إرهاب الدولة”. ومع ذلك، فضّلت حكومة “العدالة والتنمية” عدم تصعيد الموقف، وحرصت على الحفاظ على قنوات التواصل الدبلوماسي. وسرعان ما استؤنفت العلاقات عبر زيارات رفيعة المستوى، فزار وزير الخارجية عبد الله غُل إسرائيل في يناير/كانون الثاني 2005، تبعه أردوغان في مايو/أيار من العام ذاته.

وكان عام 2008 عاما مفصليا عندما بادرت تركيا إلى التوسط في محادثات سلام غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل بشأن مرتفعات الجولان. وعلى الرغم من أن المفاوضات أظهرت وعودا إيجابية، فإنها سرعان ما انهارت في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته عقب شن إسرائيل عملية “الرصاص المصبوب” ضد غزة. وقد شعر رجب طيب أردوغان بخيانة شخصية من رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، الذي كان قد زار أنقرة قبل أيام من الهجوم، وخدعه- كما رأى أردوغان- بشأن نوايا إسرائيل.

وقع شرخ آخر خلال “المنتدى الاقتصادي العالمي” في دافوس عام 2009، حين شارك أردوغان في حلقة نقاش مع الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريز، وصرّح غاضبا: “عندما يتعلق الأمر بالقتل، فإنكم تعرفون جيدا كيف تقتلون”، قبل أن يغادر المنصة في حركة درامية تركت أثرا بالغا في المنطقة، وشكلت نقطة تحول حاسمة في العلاقات التركية-الإسرائيلية.

تلى ذلك في عام 2010 حدث استفزازي، عندما اقتحمت قوات الكوماندوز الإسرائيلية سفينة “مافي مرمرة” التركية، التي كانت تحمل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة المحاصر. ومع ذلك، سُجل انفراج جزئي في عام 2013 عندما قدمت إسرائيل اعتذارا رسميا إلى تركيا، تبعته تعويضات مالية في عام 2016، مما مهد الطريق أمام استعادة العلاقات الدبلوماسية وإعادة تبادل السفراء بعد انقطاع دام ست سنوات.

ورغم الاضطرابات السياسية، ظلت الروابط الشعبية بين البلدين قوية، فاستمرت السياحة الإسرائيلية إلى تركيا مدعومة بأكثر من 20 رحلة يوميا بين إسطنبول وتل أبيب، إلى جانب خدمات الطيران. كما بقيت العلاقات التجارية متينة، إذ بلغ حجم التبادل الثنائي في عام 2017 نحو 4.9 مليار دولار، منها 3.4 مليار دولار صادرات تركية، و1.5 مليار دولار واردات من إسرائيل.

غير أن قرار الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها عام 2018 تسبب في شرخ جديد، فسحبت تركيا وإسرائيل سفيريهما مجددا، وظلت العلاقات مجمدة لأربع سنوات. وخلال هذا الجمود الدبلوماسي، عززت إسرائيل علاقاتها مع اليونان، الخصم الإقليمي التقليدي لتركيا، ومع القبارصة اليونانيين. كما انضمت مصر، التي كانت على خلاف مع أنقرة آنذاك، إلى هذا التحالف الجديد. وشكّل هؤلاء معا منتدى غاز شرق المتوسط، في خطوة تهدف إلى تشكيل جبهة موحدة ضد المصالح الاستراتيجية التركية في المنطقة.

وبحلول عام 2022، أسهمت مجموعة من الديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة، إلى جانب وساطة أميركية وتحول أوسع في سياسة أردوغان الخارجية نحو “عدد أقل من الأعداء، عدد أكبر من الأصدقاء”، في إعادة ضبط أخرى للعلاقات. وأُعيد تعيين السفراء، وجاءت لحظة واعدة في سبتمبر/أيلول 2023، عندما عقد الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أول اجتماع ثنائي بينهما على الإطلاق خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقد اعتُبر هذا اللقاء مؤشرا على أمل في التقارب. غير أن هذا التقدم الهش سرعان ما انهار إثر هجمات حركة “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والحملة العسكرية الإسرائيلية اللاحقة في غزة، لتبلغ العلاقات بين تركيا وإسرائيل مستوى جديدا من التدهور. حينها، برز الرئيس رجب طيب أردوغان كأحد أشد منتقدي إسرائيل، إذ استدعت أنقرة سفيرها من تل أبيب وطردت السفير الإسرائيلي. كما فرضت تركيا حظرا رسميا على إسرائيل، وأصبحت صوتا بارزا في المحافل الدولية التي تدين العمليات العسكرية الإسرائيلية وتطالب بالمحاسبة على ما وصفت بجرائم الحرب.

ودعا أردوغان العالم الإسلامي إلى التوحد في مواجهة ما وصفه بـ”تعاظم تهديد التوسع الإسرائيلي”. وفي تصريح يُعد من بين الأقوى له، ألمح إلى أن تركيا قد تدرس التدخل العسكري لوقف الحملة الإسرائيلية، وهو ما فُسّر على نطاق واسع باعتباره تهديدا لا لبس فيه. وتحولت تركيا، من المنظور الإسرائيلي، إلى أحد الخصوم الإقليميين الألدّاء، جنبا إلى جنب مع إيران و”حماس”.

وقد أضاف سقوط نظام بشار الأسد طبقة أخرى من التعقيد، ففي ظل الفراغ السياسي في سوريا وصعود الرئيس المؤقت أحمد الشرع، الذي لا تزال علاقاته السابقة بفصائل جهادية مثل “هيئة تحرير الشام” مصدر قلق لإسرائيل، تحوّلت سوريا إلى بؤرة محتملة لتصعيد التوتر بين إسرائيل وتركيا.

إسرائيل تريد سوريا ضعيفة ومنقسمة، خشية تطورات عدائية مستقبلية، شنت إسرائيل غارات جوية متكررة استهدفت مواقع عسكرية في أنحاء سوريا، لمنع استخدامها لأغراض عملياتية. كما دفعت باتجاه إنشاء منطقة أمنية عازلة على حدودها وفي جنوب سوريا، وفرضت سيطرتها الفعلية على كامل مرتفعات الجولان، وتوغلت في أراض سورية إضافية. وطالبت تل أبيب رسميا بتصنيف جنوب سوريا منطقة منزوعة السلاح.

ورغم الموقف الإسرائيلي المتشدد، تبنى الشرع خطابا برغماتيا، مشددا على أولوية الوحدة والانتعاش على حساب المواجهة. وأعلن أن سوريا لا تشكل تهديدا لإسرائيل ولا تسعى إلى صراع معها. ومع ذلك، تظل إسرائيل حذرة، خاصة من النفوذ التركي المتزايد، إذ تُعد قدرة أنقرة على المساعدة في إعادة بناء الجيش السوري وتأهيله، وإنشاء قواعد على الأراضي السورية، تهديدا مباشرا لحرية إسرائيل في التحرك وتفوقها العسكري في المنطقة. وقد أعربت إسرائيل عن هذه المخاوف علنا.

وفي يناير/كانون الثاني من هذا العام، أصدرت لجنة “ناجل”، وهي هيئة استشارية تابعة للحكومة الإسرائيلية مكلفة بتقييم مخاطر الأمن القومي، تقريرا صنّف التطلعات الإقليمية المتزايدة لتركيا على أنها تهديد حاسم. وحذر من أن السياسة التركية لإعادة بناء نفوذها الإقليمي تمثل خطرا طويل الأمد يتجاوز إيران، لا سيما من خلال دعمها للجماعات المسلحة في سوريا. وأوصى بأن تستعد إسرائيل لاحتمال اندلاع صراع مباشر مع أنقرة.

وكانت صدى لتحذيرات سابقة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 على لسان وزير الخارجية جدعون ساعر، الذي دعا- قبل سقوط الأسد- إلى بناء تحالفات استراتيجية مع الأقليات الإقليمية. وفُسِّرت إشارته إلى الأكراد بوصفهم “ضحايا القمع والعدوان من إيران وتركيا” كرسالة تهديد مبطنة موجهة إلى تركيا والقيادة السورية.

إدواردو رامون إدواردو رامون

تابعت إسرائيل هذه السياسة حتى بعد سقوط الأسد، مركزة جهودها على الكرد والدروز والعلويين. وخلال كلمة ألقاها في حفل استقبال بمناسبة عيد الاستقلال في القدس في مايو، صرّح جدعون ساعر بأن على المجتمع الدولي “أن يتحمل مسؤولياته بحماية الأقليات في سوريا. وقد حمل هذا التصريح تهديدا مبطنا، ليس إلى الشرع وحده، بل أيضا إلى تركيا، المعروفة بموقفها الشائك من المسألة الكردية. وتزايدت مخاوف إسرائيل عقب زيارة الشرع إلى تركيا في فبراير/شباط، حيث ظهرت تقارير عن اتفاق دفاعي بينه وبين أردوغان.

وبموجب ما تم تداوله، ستوفر تركيا تدريبات عسكرية للجيش السوري، وستُمنح حق الوصول إلى قاعدتين عسكريتين لنشر الطائرات وأنظمة الدفاع الجوي التركية. ولم يتأخر الردّ الإسرائيلي، فجاء سريعا وحادا، حين شن سلاح الجو ضربات استهدفت القواعد العسكرية في حمص وحماة، التي يُعتقد أنها كانت مخصصة للاستخدام التركي، ما أدى إلى تدمير بنية تحتية رئيسة شملت المدارج وحظائر الطائرات. وفي خطوة ترهيبية أخرى، ألقت الطائرات الحربية الإسرائيلية قنابل على بُعد أمتار من القصر الرئاسي على جبل قاسيون في دمشق، موجّهة رسالة واضحة إلى الشرع.

خطوط مباشرة

وسط تصاعد المخاوف من مواجهة مباشرة بين تركيا وإسرائيل، أفادت تقارير بلقاءات سرية جمعت مسؤولين من الجانبين في باكو، في مارس/آذار، باستضافة أذربيجان. ورغم عدم صدور تأكيد رسمي أو نتائج معلنة، فإن التهدئة الأخيرة تشير إلى احتمال التوصل إلى تفاهم معين. وتقول روايات غير مؤكدة إن الجانبين اتفقا على نقاط اتصال وربما أنشآ خطا ساخنا سريا لإدارة الأزمات المستقبلية.

ويمضي نتنياهو في مساره كسياسي يعتمد مستقبله السياسي على استمرار الحرب بأهداف متطرفة ويصعب جداً تحقيقها، ولكن نهجه هذا لم يُثر غضب تركيا فحسب، بل نقمة الرئيس ترمب وحلفاء رئيسين تقليديين آخرين، بما في ذلك المملكة المتحدة وكندا وفرنسا.

كما لعبت الولايات المتحدة دورا خلف الكواليس في خفض التوترات. ورغم أن إدارة دونالد ترمب وفرت دعما غير مسبوق لإسرائيل، فإن مؤشرات حديثة تدل على فتور في العلاقة الشخصية بين ترمب ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وأهم من ذلك إعلان ترمب عن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا بعد مشاورات مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس أردوغان، مشيرا بشكل قاطع إلى أن إسرائيل لم تُستشر. وخلال زيارته إلى الرياض، التقى ترمب الشرع، وأعلن دعمه له، معبرا عن ثقته في قدراته رغم ماضيه المثير للجدل.

والأكيد أن هذه الخطوات والتصريحات تسبب قلق نتنياهو واستياءه. وقد استضافت أذربيجان في مايو/أيار جولة ثانية من الاجتماعات، جمعت ممثلين عن كل من إسرائيل وسوريا وتركيا في العاصمة باكو. ومرة أخرى، لم يصدر أي بيان رسمي، إلا أن هذه اللقاءات عُقدت على مستوى فني، وهدفت إلى تجنّب التصعيد العسكري. ولكن انعقاد مثل هذه الاجتماعات لا يتم إلا بموافقة السلطات السياسية العليا، وهو ما يضفي عليها، بطبيعتها، طابعا سياسيا لا لبس فيه.

ولا ريب أن في هذا النوع من التفاعل خطوة ضرورية في مسار إعادة تشكيل العلاقات بين الفاعلين الإقليميين الرئيسين تمهيدا لنظام إقليمي جديد يُنعش فرص التعاون الاقتصادي ويعزز جهود التنمية. ومع ذلك، ما دامت إسرائيل تحت قيادة نتنياهو، فإن تحسّن العلاقات بينها وبين تركيا لا يبدو أمرا قريب المنال. على أن مجرد الحيلولة دون انزلاق البلدين إلى مواجهة مباشرة على الأراضي السورية سيعتبر نجاحا للطرفين.

——————————–

تقرير صادم عن معركة إسرائيل المقبلة مع سوريا الشرع وعن دور ملتبس لدولتين

قلق إسرائيلي من تنامي نفوذ قطر وتركيا في سوريا ما بعد الأس

إيلاف من تل أبيب: أفاد موقع “واللا” العبري بأن المعركة القادمة لإسرائيل قد تكون في سوريا، مشيرا إلى ضرورة حذر تل أبيب من الدور المتزايد لقطر وتركيا بعد سقوط نظام الأسد.

وأوضح الموقع، المقرب من دوائر الاستخبارات الإسرائيلية، أن قطر وتركيا لم تنتظرا نهاية الحرب في سوريا قبل أن تبدآ في تعزيز وجودهما على الأرض. فقد زودتا المسلحين المعارضين لنظام الأسد بالسلاح والتمويل، وساهمتا في جهود إعادة الإعمار، والآن تطالبان بحصة في سوريا الجديدة.

وأشار التقرير إلى أن إسرائيل بدأت تدرك أن مرحلة ما بعد الأسد قد لا تكون بالضرورة في صالحها. فقبل ستة أشهر، نجحت قوات المعارضة السورية بقيادة أبو محمد الجولاني (المعروف رسميا بأحمد الشرع) في السيطرة على دمشق بعد هجوم مفاجئ أطاح بنظام بشار الأسد الذي حكم البلاد لأكثر من 24 عاما.

ويزعم النظام الجديد أن أولويته حالياً هي إعادة الأمن والقانون إلى سوريا، بينما يعزز موقفه بعد رفع العقوبات الأمريكية عن البلاد، كما أعلن الرئيس ترامب قبل أسابيع. ومع دخول سوريا عهدا جديدا، بدأت قوى جديدة مثل قطر وتركيا، التي كانت تدعم المعارضة خلال الحرب، تظهر كفاعلين رئيسيين في المشهد السوري.

وعلق أحد المتابعين قائلاً: “لا داعي للذعر. سقوط نظام الأسد الإرهابي هو أفضل ما حدث في المنطقة. لإسرائيل والنظام الجديد في سوريا مصالح مشتركة في مواجهة المحور الإيراني، كما أن تركيا وقطر تشاركانها هذا الهدف. المشكلة الحقيقية ستكون إذا تدخل الدروز في هذه المعادلة”.

بينما رأى قارئ آخر أن “كل هذه الأطراف تريد الحصول على مكاسب من سوريا، لكن السؤال هو: ما الذي ستعطيه سوريا في المقابل؟ ربما ستفتح الباب أمام وصولها إلى الحدود مع إسرائيل”.

وأضاف ثالث: “الحقيقة أن سوريا هي الأكثر حاجةً إلى تجديد العلاقات مع إسرائيل، لكن الأخيرة تشك في جدوى ذلك بسبب نفوذ تركيا وأردوغان والمملكة العربية السعودية، الذين يسعون جميعاً إلى السيطرة على الأراضي السورية. بينما كل ما تريده إسرائيل هو الأمن والهيمنة الكاملة على هضبة الجولان”.

————————————

استعصاء في السويداء.. التسوية السياسية تسابق الحل الأمني/ليدا زيدان

9 يونيو 2025

تمثّل السويداء تحديًا للحكومة الانتقالية، وهي اليوم الملف الأكثر تعقيدًا في المشهد السوري بعد سقوط النظام، إذ إنها حتى الآن لم تنخرط كليًا ضمن النظام الجديد في البلاد، وتعيش حالة من التوتر والانغلاق، خاصةً بعد الأحداث الأخيرة في ريفها، وفي مدينتي جرمانا وأشرفية صحنايا.

عرفت المحافظة نوعًا من الإدارة المحلية في سنوات الثورة الأخيرة، ووجدت نفسها بعد سقوط النظام أمام واقع مختلف، وفيما كانت هناك محاولات للتقارب الوطني ومحاولات لإعادة التموضع بشروط، خلال الأشهر الأولى، فقد تسببت الأحداث، التي جرت منذ نحو شهر، بحالة من الجمود وغياب الثقة، حيث شنت مجموعات مسلحة هجومًا على قرى في ريف السويداء، وعلى كل من “جرمانا” و”أشرفية صحنايا” بريف دمشق، وتنشط بعض هذه المجموعات تحت مظلة الحكومة الحالية، وعلى الرغم من أن الحكومة نفت علاقتها بالأمر إلا أن الشارع في السويداء حمّلها مسؤولية ما جرى، خاصة مع غياب أي رد فعل رسمي.

هذا الوضع القائم يحرج الحكومة الجديدة كما يحرج النخب السياسية والثقافية في المحافظة، فما هي الاحتمالات الممكنة إزاء ملف السويداء وهل نحن أمام تصعيد أم حل في الأيام القادمة؟

يقول عضو المكتب السياسي في الحركة الشبابية السياسية في السويداء ومدير برامج منظمة “جذور سوريا”، جبران حمزة، إن ملف السويداء يتجه الآن إلى تنفيذ بنود الاتفاق مع حكومة دمشق، خاصةً بعد الاتفاق الأخير بين قادة الفصائل ووجهاء المحافظة، وبعد اللقاء مع الرئيس أحمد الشرع.

ويضيف: “في السويداء لا أحد لديه مصلحة في التصعيد ضد الحكومة السورية والشحن الطائفي، ماعدا الذين كانوا يتبعون للأجهزة الأمنية السابقة في سلطة بشار الأسد، وهم يدركون أنه لا يمكن عزل السويداء عن محيطها، وكل محاولاتهم لفصل السويداء باءت بالفشل لعدم امتلاكهم قاعدة شعبية ونبذهم من قبل الأهالي”. ويرى حمزة أن ملف السويداء لن يذهب للتصعيد العسكري “بل سيتم تنفيذ بنود الاتفاق وانخراط السويداء في الدولة السورية”.

ما هي الخطوات العملية المتمثلة في بنود الاتفاق المشار إليه؟ يجيب حمزة: “الحلول تتضمن تفعيل الضابطة العدلية وانخراط الفصائل في وزارتي الدفاع والداخلية وتفعيل سيادة القانون، وهو ما يتم العمل عليه منذ 4 أشهر لتجنب التصعيد العسكري وحل ملف الجنوب السوري”.

ويتابع: “المطالب المقدمة في الاتفاق مع الحكومة السورية هي دمج الفصائل في وزارتي الدفاع والداخلية، وجعل خدمة المتطوعين ضمن المحافظة، وضبط السلاح العشوائي، وعدم تسليمه مع جعله ضمن صلاحيات الضابطة العدلية، بالإضافة لتقديم الدعم اللوجستي من الحكومة السورية لمؤسسات الدولة كافة”.

خطوة للتقارب أم ضغط أمني؟

بعد التطورات الأخيرة في المحافظة واستقالة المحافظ، مصطفى البكور، وضمن إعادة الهيكيلية لوزارة الداخلية، عيّنت الوزارة العميد أحمد الدالاتي قائدًا للأمن الداخلي في السويداء. استُقبل هذا التعيين بردود فعل مختلفة حيث ذهب البعض إلى اعتبار هذا التعيين خطوة للتقارب وإعادة الثقة فيما اعتبره آخرون ما يشبه ضغطًا حكوميًا على المدينة.

يعلق الكاتب والمحلل السياسي، د. مالك الحافظ، في حديث لـ”الترا سوريا”، على هذه التطورات قائلًا: “تعيين أحمد الدالاتي يُقرأ كرسالة سياسية تحمل مؤشرات على إعادة ضبط العلاقة بين دمشق والسويداء وفق منطق الإدارة الأمنية المحسوبة.. يبدو أن السلطة الانتقالية تسعى إلى تسكين التوتر عبر شخصية ترى فيها قدرة على “التفاوض الصامت” أكثر من المواجهة المباشرة”.

 ولا يعتبر الحافظ أن ذلك سيؤدي إلى خفض التوتر بالضرورة أو احتوائه بالكامل، نظرًا لأن المسألة تتجاوز الأشخاص إلى طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع المحلي في السويداء والتي مازالت محكومة بانعدام الثقة.

أما فيما يخص الاتفاق الذي كان قد تم تفعيله على خلفية الأحداث، وبالرغم من الالتزام من قبل الفصائل في السويداء ببنوده إلا أن هناك مشكلة جوهرية تتمثل بانعدام الدعم اللوجستي من قبل الحكومة حسب تصريحات للفصائل المحلية، وهذا قد يؤدي إلى فشل هذا الاتفاق إن لم يكن هناك مساع جدية من الطرفين لإتمامه.

يتابع الحافظ حول هذه النقطة: “الاتفاق الذي بني على تفاهم ضمني بعدم التصعيد مقابل ضبط مجتمعي داخلي، قد يعاد تفعيله بصيغة أكثر تفصيلًا خصوصًا إذا أبدت السلطة الانتقالية استعدادًا لتفويض بعض الملفات للوسطاء المحليين كشيوخ العقل، ومع ذلك لا يُستبعد أن تسعى السلطة لتطبيق نموذج “إداري – أمني” جديد يعزل المدينة عن مطالبها الوطنية الكبرى ويحولها إلى حالة تدار عبر تفاهمات مناطقية”، ويعتبر الحافظ أن هذا الاحتمال قد يفجر أزمة جديدة إذ لم يكن مقبولًا محليًا.

التصعيد أم التوافق؟

بالرغم من الخطاب المتشدد ودور الإعلام التحريضي بعد الهجوم الأخير، لكن يمكن القول إن المزاج العام في السويداء لا يتجه نحو الانفصال، بل يتمثل المطلب الأساسي بالاحترام لحقوق المكونات وإشراكها في بناء الدولة الجديدة، ورفض أي محاولات للهيمنة، بالإضافة لضبط المؤسسة الأمنية، والوصول لصيغة حكم تراعي خصوصية المنطقة ضمن إطار الدولة، وبحسب الحافظ  فإن “المرحلة المقبلة ستظل محكومة بالتوازن الدقيق بين الرغبة بالاستقرار والقلق من الإقصاء، التوافق ممكن، لكنه هش ومشروط بمدى استعداد الحكومة الانتقالية للانتقال من منطق الضبط الأمني إلى منطق التمثيل والتفاهم الوطني الحقيقي”.

وهنا يترتب على الحكومة القيام بخطوات جدية لاحتواء التوتر من خلال محاولة علاج ملف السويداء سياسيًا وليس أمنيًا عبر التواصل مع فعاليات في السويداء والسعي لتهدئة حقيقية.

كما قد يؤدي التأخر في التحرك السياسي من قبل الحكومة وتجاهل المطالب المحلية ومحاولة فرض صيغة أمنية إلى زيادة التوتر. “حالة الانغلاق قد تستمر ما لم يفتح أفق سياسي واضح يطمئن أهالي السويداء، أما التصعيد فيبقى احتمالًا قائمًا في حال شعرت الجماعات المحلية أن التعيينات والقرارات تفرض كأمر واقع دون شراكة في القرار”.

تبدو مشكلة السويداء كاختبار لمفهوم الدولة الجديدة والمبدأ الذي ترتكز عليه. هل نحن أمام دولة تشاركية أم أمام محاولة أخرى لاحتكار السلطة. يقول الحافظ : “الحل يكمن في إعادة تعريف العلاقة بين الدولة التي تسسيطر عليها حاليًا السلطة الانتقالية والمجتمع المحلي في السويداء، والمطلوب هو فتح مسار سياسي محلي ينهي الشعور بالتهميش والتعامل الفئوي، ويضمن للمحافظة مشاركة فعلية في صياغة مستقبلها داخل الدولة، بناء الثقة يتطلب إشراك حقيقي للمكونات وضمانات واضحة لحقوقهم واستراتيجية أمنية تقوم على الحوار والشفافية”.

التوازنات الإقليمية ودورها

لا يمكننا مناقشة ماحدث في محافظة السويداء بمعزل عن التوازنات الإقليمية والصراع الإسرائيلي ــ التركي على النفوذ في سوريا. تركيا لديها مخاوفها من إقامة حكم ذاتي في الجنوب السوري الأمر الذي قد يدفع باتجاه أمر مماثل في الشمال الشرقي، من جهة ثانية هناك إسرائيل التي صرحت منذ سقوط النظام بأنها تريد المنطقة الجنوبية منزوعة السلاح بدءًا من حدود الجولان المحتل وصولًا إلى الطريق الواصل بين دمشق والسويداء.

هذا الصراع تحول إلى مواجهة واستعراض لقدرات الجانبين أثناء الأحداث الأخيرة في السويداء، حيث استهدفت إسرائيل مواقع مختلفة في سوريا في محاولة لإثبات حضورها وجدية مطالبها، مبررة ذلك بحماية الطائفة الدرزية، ولقد ردت تركيا على ذلك بإرسال إشارات مفادها أنها لن تتخلى عن مطالبها بسهولة، وبالرغم من استمرار المحادثات ومحاولات التقارب لمنع حدوث اشتباك بين الطرفين في سوريا، إلا أن النتائج النهائية للمحادثات لم تظهر بعد، ويبقى ملف الجنوب رهن هذه النتائج والصراع الإقليمي الذي يضع الحكومة الانتقالية تحت ضغط مزدوج، ويجعل خياراتها محدودة بين فرض النظام بالقوة على المنطقة الجنوبية، أو الوصول إلى تسوية سياسية.

—————————–

===================

لقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا تحديث 09 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

ملف رفع العقوبات عن سوريا

——————————

مؤشرات على الانسحاب الأميركي الشامل من سوريا

أ ف ب

آخر تحديث 08 يونيو 2025

أكد مسؤولون أميركيون، قبل أيام، سحب 500 جندي أميركي من مواقعهم في سوريا. وقد أسندت منشآت حيوية مرتبطة بمهمة مكافحة تنظيم “داعش”، مثل موقع دعم المهام “الفرات” وموقع دعم المهام “القرية الخضراء”، إلى “قوات سوريا الديمقراطية”، فيما جرى إغلاق بعضها بالكامل. وأوضح توم باراك، المبعوث الأميركي إلى سوريا، في مقابلة تلفزيونية مع وسيلة إعلام تركية، قائلا: “انتقلنا من ثماني قواعد إلى خمس فثلاث، وسنبقي على الأرجح على قاعدة واحدة”.

وفي الأسبوع نفسه، أفادت تقارير بأن الولايات المتحدة طلبت من “مجلس سوريا الديمقراطية” تسريع مفاوضاته مع دمشق لدمج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الجيش السوري الجديد بحلول نهاية شهر أغسطس/آب من هذا العام. وكان من المتوقع أن تمتد المفاوضات بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” بشأن الإصلاحات الأمنية لمدة عام، استنادا إلى الاتفاق الذي جرى في مارس/آذار بين قائد “قسد” مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع، وسط ترجيحات بتأخير ناجم عن الجمود السياسي وغياب التوافق.

كما أفادت التقارير بأن الولايات المتحدة منحت الضوء الأخضر لخطة الإدارة السورية الجديدة، التي تقضي بدمج نحو 3500 مقاتل جهادي أجنبي ضمن الهيكل التنظيمي للفرقة 84 في الجيش السوري، في تحول لافت في موقف واشنطن، بعد أن كانت تتحفظ سابقا على إشراك المقاتلين الأجانب في وزارة الدفاع التابعة للإدارة الجديدة، معتبرة هذا الملف من الشروط الأساسية لرفع العقوبات.

وتعكس هذه القرارات الثلاثة نهجا أميركيا جديدا، بل تعكس تحولا جذريا بمقدار 180 درجة في السياسة تجاه سوريا، كما تُظهر نفاد صبر متزايد إزاء عملية بناء الحوكمة، ما يشير إلى دافع أعمق آخذ في التبلور، وهو الانسحاب الكامل للولايات المتحدة من سوريا والعراق. وقد أظهرت الخطوات التي أعقبت إعلان تخفيف العقوبات الأميركية أن الهدف الذي طالما سعى إليه الرئيس دونالد ترمب يتمثل في إنهاء الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، وسط مؤشرات متزايدة على انسحاب شامل قد يبدأ في خريف أو شتاء العام الحالي.

ليس بالأمر الجديد

الانسحاب من الشرق الأوسط ليس غريبا على ترمب أو فريقه. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2019، وخلال ولايته الأولى، اتخذ الرئيس الأميركي قرارا مفاجئا بسحب القوات من شمال شرق سوريا. وقد تزامن هذا القرار مع استعداد تركيا لشن هجوم على المنطقة، استهدف، إلى جانب الفصائل المرتبطة بحزب “العمال الكردستاني” مثل “وحدات حماية الشعب”، الشريك الأهم للولايات المتحدة في عملية “العزم الصلب” على الأرض: “قوات سوريا الديمقراطية”.

أثار هذا القرار موجة غضب عارمة، إذ ساد انطباع بأن الولايات المتحدة لم تتخل فقط عن مهمة مكافحة الإرهاب، رغم أهميتها وعدم اكتمالها، بل تخلت أيضا عن أحد أبرز حلفائها في المنطقة “قوات سوريا الديمقراطية”. ودفع هذا التحول المفاجئ عددا من كبار مسؤولي الأمن القومي في إدارة ترمب إلى تقديم استقالاتهم، من بينهم المبعوث الخاص لدى التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” بريت ماكغورك، ووزير الدفاع جيمس ماتيس. وفي وقت لاحق، تراجع ترمب عن قراره بسحب كامل القوات، وقرر الإبقاء على 400 جندي أميركي في سوريا بدلا من تنفيذ انسحاب كامل للقوات التي بلغ عددها حينها 2000 جندي.

في المقابل، نجح ترمب بشكل أكبر في تقليص الوجود العسكري الأميركي في العراق. فبعد سلسلة من الضربات المتبادلة بين الولايات المتحدة من جهة، وإيران والميليشيات المدعومة منها في العراق من جهة أخرى، عقب مقتل قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني” قاسم سليماني، ونائب رئيس “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس، بدأت إدارة ترمب الأولى خفضا تدريجيا للقوات خلال ربيع وصيف 2020.

وقد شكّل الهجوم الإيراني على قاعدة عين الأسد الجوية، الذي كاد أن يودي بحياة مئات الجنود والمقاولين الأميركيين، عاملا حاسما في دفع القرار نحو الانسحاب. كما ساهم تصويت البرلمان العراقي في يناير/كانون الثاني لصالح إلغاء طلب المساعدة من التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” وطرد القوات الأميركية من البلاد، في ترسيخ مبررات الإدارة الأميركية، التي كانت متشككة أصلا في جدوى الوجود العسكري الخارجي، للشروع في خطة انسحاب شاملة، رغم أن التصويت لم يكن ملزما قانونيا.

وساعدت جائحة “كوفيد-19” في تمويه عملية تقليص الوجود العسكري الأميركي، ما أتاح تنفيذ خفض تدريجي للقوات بشكل هادئ. فقد سلّمت الولايات المتحدة أكثر من ثماني قواعد لقوات الأمن العراقية في مواقع استراتيجية، مثل معسكري التاجي والقائم، إلى جانب نقل المعدات، وخفّضت وجودها العسكري من 5200 إلى نحو 2500 جندي، أي بأكثر من النصف. وقد أرست هذه الخطوة، التي أطلقتها إدارة ترمب، الأساس للإجراءات اللاحقة التي تبنّتها إدارة بايدن.

وفي حين كانت عملية “العزم الصلب” تعمل أصلا في العراق ضمن إطار “النصيحة والمساعدة”، غيّرت الولايات المتحدة رسميا تفويض المهمة، لتنتقل من الدور القتالي إلى مهمة تركز على بناء القدرات. كما وضعت جدولا زمنيا مرحليا لسحب القوات الأميركية، بالتوازي مع انتقال مهام التحالف الدولي لهزيمة تنظيم “داعش”، على أن يُستكمل هذا المسار بحلول عام 2026.

ومن المقرر تنفيذ الانسحاب بشكل تدريجي، بدءا بإعادة انتشار القوات الأميركية من بغداد إلى أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق. وفي المرحلة التالية، ستبدأ واشنطن بخفض أعداد قواتها وتسليم المعدات، مع تحويل برامج بناء القدرات إلى عملية إخلاء مرحلية. وعلى الرغم من إعلان نيتها الحفاظ على وجود استشاري محدود في العراق، استجابة لدعوة حكومة السوداني، فإن العدد الدقيق لهذا الوجود لم يُحدد بعد.

لكن التحول المفاجئ في المشهد السوري مع اقتراب نهاية ولاية بايدن ألقى بظلال من التردد على مسار الانسحاب. فقد أثار سقوط نظام الأسد الوحشي، وتشكيل حكومة انتقالية جديدة تقودها “هيئة تحرير الشام”، وما رافق هذه العملية من تصاعد في المخاوف بشأن حالة عدم الاستقرار، تحذيرات متزايدة من احتمال أن يستغل تنظيم “داعش” هذه الأوضاع للظهور مجددا.

وفي ديسمبر/كانون الأول، أعلنت إدارة بايدن إعادة نشر أكثر من ألف جندي أميركي إضافي في شمال شرقي سوريا، ما رفع عدد القوات الأميركية هناك إلى 2000 جندي بحلول نهاية عام 2024، وذلك في إطار الاستجابة للظروف الأمنية المستجدة، ودعم “قوات سوريا الديمقراطية”، ومنع إعادة تمركز “داعش” في منطقة البادية السورية.

من جهته، أعرب العراق عن قلقه من احتمال تحرك التنظيم عبر الحدود السورية العراقية، ومن هشاشة الوضع الأمني في مراكز احتجاز عناصر التنظيم، مثل مخيم الهول. كما قدّم طلبات سرية للولايات المتحدة لتأجيل جدول الانسحاب إلى ما بعد عام 2026، وصولا إلى عام 2029.

إلا أن هذه الطلبات لم تجد صدى لدى إدارة ترمب الجديدة، خصوصا مع فريق الأمن القومي الذي يبدي قدرا أكبر من التشكك تجاه الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط مقارنة بإدارته الأولى.

نظرة نحو عام 2026

لا يبدو من قبيل الصدفة أن يتزامن تقليص واشنطن لقواتها، ومنحها الضوء الأخضر للإصلاحات الأمنية، والضغط الأخير لتسريع المفاوضات بين “قوات سوريا الديمقراطية” ودمشق، مع إعلان ترمب عن تخفيف العقوبات والتحول الجذري في السياسة الأميركية تجاه سوريا. بل يشكّل هذا التزامن تأكيدا واضحا وصريحا على الهدف المحوري الذي يوجه هذا التحول: الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من سوريا والعراق، وإنهاء الانخراط في مهمة مكافحة “داعش” في المنطقة.

وفيما تسعى الولايات المتحدة إلى تسريع وتيرة هذا المسار، تشير التقديرات إلى أن الانسحاب من سوريا قد يُستكمل بحلول خريف 2025 أو شتاء 2026، على أن يكتمل الانسحاب من العراق بحلول نهاية عام 2026.

ومع بقاء نحو 500 جندي فقط وثلاث قواعد أميركية في سوريا، وتركيز ما تبقى من القوات في العراق، يبدو أن وتيرة الانسحاب قد تتسارع خلال المرحلة المقبلة.

ومن المؤشرات الإيجابية أن واشنطن تدفع باتجاه مزيد من الإصلاحات الأمنية تمهيدا للانسحاب، بما في ذلك السعي نحو توافق بين “روجافا” ودمشق بشأن دمج “قوات سوريا الديمقراطية” في الجيش السوري الجديد. فهذه الإجراءات لا تُمثّل فقط عناصر ضرورية، بل تعد متطلبات أساسية لأي عملية انتقال فعلي لمهمة مكافحة تنظيم “داعش”، وأي انسحاب منظم للقوات الأميركية.

فالاحتكاك القائم بين الإدارة السورية الجديدة ومنطقة الحكم الذاتي في شمال شرقي سوريا يُمهّد الطريق أمام جهات خبيثة، وفي مقدمتها “داعش”، لاستغلال هذا التوتر، ما قد يُفضي إلى تعطيل كبير في العملية الانتقالية، التي تسير حاليا بوتيرة شبه مستقرة، ويقوّض فرص توحيد البلاد.

لكن على إدارة ترمب أن تعي أن الإصلاح الأمني في سوريا الجديدة، بعد 14 عاما من النزاع والانقسام، هو سباق ماراثوني لا سباق سرعة. وينبغي التعامل مع نقل مهمة مكافحة “داعش” في كل من العراق وسوريا بالمقاربة نفسها. إذ إن أي عملية انسحاب سريع تتجاهل احتمال عودة التنظيم، وقدرات القوات الشريكة، وتعقيدات المشهد الأمني الأوسع، قد تنقلب عكسيا على إدارة ترمب إذا اختارت التسرع.

المجلة

———————————

سياسة أميركية مزدوجة تجاه دمشق/ محمود الريماوي

07 يونيو 2025

تشكّل الاعتداءات الإسرائيلية المتواترة على سورية تحّدياً جسيما لهذا البلد، إذ تزيد هذه الاستهدافات القدرات السورية ضعفاً على ضعف، بما تتسبّب به من تدمير منهجي للقدرات الضعيفة، ويزداد الأمر سوءاً مع الصلافة السياسية التي تبديها حكومة بنيامين نتنياهو تجاه دمشق والقيادة الجديدة فيها، والتي تنطوي على تهديداتٍ سافرةٍ ومن غير أسبابٍ تسوّغ هذا التصعيد الجاري من طرف واحد. ورغم تكرار دمشق إنها ليست في وارد إشعال التوترات مع أي أحد، إلا أن هذه “التطمينات” تُقابَل بغطرسة إسرائيلية ظاهرة، فقد اختطت حكومة نتنياهو تجاه دمشق في عهدها الجديد سياسة تقوم على أن أي تسلح سوري مما تحوزه الجيوش التقليدية يشكل تهديداً للدولة العبرية، ويبدو أن الأخيرة على وشك أن تطلق مطلب نزع أسلحة سورية، لضمان أمن إسرائيل! وبما يشبه مطلباً سبق أن تقدّمت به موسكو لإقرار تسوية مع كييف، فالجار الصالح هو الذي يتجرّد من جميع أسلحته بجوار الجار المدجّج بالأسلحة المتطورة والفتّاكة. ويغدو المشهد أكثر تعقيداً، بالنظر إلى تلاقي حسابات خصوم العهد السوري الجديد، موضوعياً، لإضعاف هذا العهد وتجريده من أسباب المنعة، وحرمانه من تثبيت ركائز الاستقرار.

ومع توالي الاعتداءات الإسرائيلية الجسيمة وافتقارها إلى مبرّر عسكري أو دفاعي، ومع تزايد ارتفاع أصوات مراكز دولية تندّد بهذه التعديات غير المبرّرة وتدعو إلى وقفها، كان من اللافت، في هذه الأثناء، أن ينطلق صاروخان من جنوب سورية نحو أهداف إسرائيلية، وهو ما سارعت تل أبيب للرد عليه موسّعة نطاق عدوانها على مناطق في الجنوب. وأياً كانت الجهة أو الطرف، وأيا كانت النيات وراء هذا النشاط المفاجئ على الجبهة السورية بعد عقود من الصمت، من الواضح أن تل أبيب قد رأت فيه مبرّراً لاعتداءات سابقة وراهنة وربما لاحقة. وإذا الأمر يوحي بخلط أوراق سياسية وعسكرية، فمن الواضح أن تل أبيب هي القادرة على استثمار هذا التطوّر وتوظيفه باتجاه إدامة اعتداءاتها، سعيا إلى تحقيق أهداف استراتيجية، منها إخراج الموقع السوري كلياً من دائرة الصراع، وهو ما يفسّر يروز دعوات أميركية إلى الطرفين لتوقيع معاهدة عدم اعتداء متبادل، علماً أن اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 التي أبرمها النظام السابق تنطوي على التزام متبادل بوقف الأعمال الحربية، وقد سارعت تل أبيب إلى نقض هذه الاتفاقية، ما إن سقط النظام السابق وشنّت حملة على أركان النظام الجديد “المتطرّفين الذين يرتدون أزياء غربية”.

أمام هذه الضغوط العسكرية الشرسة التي تتعرّض لها دمشق، على الحكم الجديد أن يغادر حالة الارتباك السياسي، وألّا يكتفي بالقول إن دمشق ليست بصدد تهديد أي أحد أو أية دولة مجاورة أو غير مجاورة، وأن تشرع في بلورة رؤيتها للسلام مع دولة الاحتلال، ومن غير أن تكون مدعوّة لاختراع شيء جديد. وفي هذا الصدد، من الأهمية بمكان التركيز على المحور الأساسي لأية تسوية، إعادة الأرض المحتلة مقابل إبرام السلام، وأن دمشق توقع اتفاقية سلام ما إن تلتزم تل أبيب بالانسحاب من هضبة الجولان ومن الأراضي والمواضع التي تسلّلت إليها عقب 8 ديسمبر الماضي. ولكون دمشق ملتزمة بالإطار العربي والقرارات العربية العليا وبمبدأ الأمن الجماعي العربي، فإن دمشق تلتزم بمبادرة السلام العربية للعام 2002، وترى فيها إطاراً صالحاً لتسوية جدّية تنهي عقوداً طويلة من الصراع العربي الإسرائيلي، وكانت سورية طرفا فيه وضحية لمطامع إسرائيلية (كما كانت دول غربية طرفا فيه بصورة أو بأخرى).

إنه لمما يسترعي الانتباه إزاء موجة التعدّيات الإسرائيلية المتعاقبة أنها تقع فيما تطلق واشنطن مؤشّرات إيجابية متتالية تجاه دمشق، بدأت حتى قبل لقاء دونالد ترامب بأحمد الشرع في الرياض، ومنها الأنباء عن زيارة مزمعة لوفد رسمي أميركي برئاسة وزير الدفاع العاصمة السورية، وكذلك ما تتواتر عن قبول أميركي لوجود مقاتلين أجانب يخضعون لهيكلية وزارة الدفاع، ويأتمرون بأوامرها ويعتنقون عقيدتها (وهذا ما لا يرتضيه الشطر الأكبر من السوريين، ولسان حالهم إن بوسعهم رفد الجيش الجديد بما يتطلبه من طاقات وموارد بشرية، دونما حاجة لمقاتلين جهاديين أجانب يجهلون كل شيء عن سورية وعن السوريين). والمراد قوله هنا إنه بينما ترفع واشنطن العقوبات عن سورية، وهذا حسن، فإنها، في الوقت نفسه، تغضّ الطرف تماماً عن تعدّيات عسكرية تتخذ هيئة “عقوبات”، ولا تعدو أن تكون بلطجة مكشوفة تشنّها تل أبيب على مواقع ومقدّرات سورية، لمنع هذا البلد من التعافي ولإغراقه في تحدّيات جسيمة، من دون أن يغيب عن البال أن الغرض الجوهري استدراج دمشق تحت السطوة العسكرية إلى الإذعان السياسي، والقبول بصيغة حل وصيغة سلام مزعوم تتماشى مع المطامح الإسرائيلية التوسّعية، ومع ما يسميه مجرم الحرب نتنياهو تغيير وجه الشرق الأوسط. ويثيرالحديث عن دعوة أميركية الشرع لتأدية زيارة رسمية إلى واشنطن في سبتمبر/ أيلول المقبل تساؤلات بشأن مغزى التقرّب الأميركي المتزامن مع تصعيد إسرائيلي، وكيف أمكن لواشنطن أن تجمع ما بين هذين النقيضين بأن تمدّ حبال الود والتسهيلات إلى دمشق، في وقت تتجاهل فيه التعدّيات الإسرائيلية الخطيرة والمتتالية، لا تدينها ولا تدعو إلى وقفها، وهو ما يجد نظيراً له في السعي الأميركي إلى وقف إطلاق النار في غزّة، المتزامن مع التعامي عن الفظائع اليومية بحقّ المدنيين هناك، حتى إن واشنطن تغضّ الطرف عن المهزلة الدامية لتقديم المساعدات، اذ تُستخدم المساعدات المزعومة هذه لزيادة تجويع الغزّيين من جهة، ثم للفتك بهم من جهة ثانية، حين يندفعون للحصول عليها. شيء كهذا تفعله إدارة ترامب مع دمشق بإرسال إشارات طمأنة وتسهيل تحقيق برنامج التعافي، وإعادة بناء ما هدمته حرب النظام على شعبه، جنباً إلى جنب مع تجاهل التدمير الإسرائيلي المتمادي للمقدّرات السورية. وعليه، لا مفرّ أمام الحكم الجديد من الربط بين الأمرين، بالترحيب بالمؤشّرات الأميركية الإيجابية، وفي الوقت نفسه، التشديد على أن هذه الإيجابية لا تتماشى أبداً مع إطلاق يد تل أبيب في التدمير.

العربي الجديد

—————————–

الاستثمارات في سورية من النيّات إلى التنفيذ/ سميرة المسالمة

09 يونيو 2025

لم يعد هناك شك في نية العالم للانفتاح على الدولة السورية في مختلف المجالات. ولعل التصريحات الأميركية والأوروبية تعكس شعوراً متزايداً بالمسؤولية والشراكة في عملية البناء، ما يحوّل العامل الخارجي الذي كان سبباً في تعطيل القدرة على النهوض من قعر الاقتصاد خلال الأشهر التي تلت تحرير سورية إلى عامل حاسم في تقويض ما خلفه نظام بشّار الأسد من خراب ممنهج، وتدمير وحشي لسورية والسوريين معاً.

في الوقت نفسه، دخلت الحكومة السورية بسرعة إلى اختبار لقدراتها الذاتية للقفز فوق حالة الانهيار إلى العمل المؤسّسي الجادّ، تارة مستخدمة عصا القوانين القائمة، على الرغم من تقادمها ومعرفتنا بظروف تشكيلها وفقاً لاحتياجات استثمارية تقونن فساد المرحلة الماضية، وتسهل عملية استيلاء أزلام النظام على منابع الاقتصاد وإنتاجيّته، وتارّة باتخاذ قراراتٍ تخالف القوانين أو الدستور المؤقت المعمول به، الأمر الذي يجعل من حاجة سورية إلى صناعة بيئة تشريعية متكاملة وحديثة، لا تقوم على الترميم أو الترقيع، بل على بناء منظومة قانونية متطوّرة تمنح الثقة للمستثمرين المحليين والأجانب، وتراعي ضمان استدامة عائدية الاقتصاد الوطني وحماية ملكيته.

من هنا، يمكن الحديث عن أهمية وجود مؤسّسة تشريعية، وفق معايير برلمانية تقنية، تمثل نخبة قانونية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية ورياضية، فكل مجالات العمل اليوم هي مشروع استثمار ناجح، لا يمكن تجاهله، ولا يمكن تعريضه لمخاطر الهفوات التشريعية، ووجود مجلس تشريعي فعّال ومتوازن ومستقلّ يضمن استصدار القوانين الواضحة والجامعة والمانعة، والتي تتوافق مع المعايير الدولية في مجالات الاستثمار وحقوق المواطنة والعمل، يعزّز من الاستقرار القانوني ويسرّع عملية دخول المستثمرين إلى الأسواق المحلية، فأحد أهم ما يشجّع على دخول الاستثمارات إلى أي بيئة، ويعزّز مناخ الثقة والشفافية، وجود منظومة قضائية نزيهة ومستقلة، قادرة على الفصل في النزاعات بسرعة وحيادية، وجملة قوانين متكاملة تحمي جميع الأطراف، وتضمن حقوق الملكية بكل أشكالها، سيما الملكية الفكرية، والتي يعدّها رواد الصناعة الحديثة حجر الزاوية في بناء اقتصاد حديث وقائم على المعرفة والابتكار، فما هو مطلوب من المجتمع الدولي صار في متناول يد السوريين، أسواق مفتوحة واتفاقات تجارية ومصرفية ومالية، أي أن الشقّ الخارجي، وهو رفع العقوبات الأميركية والأوروبية، وإزالة سورية من قائمة الدول المارقة، وتسهيل انسياب الشراكات الأجنبية إليها، والسماح بحرية حركة الأفراد من العالم وإليه، كما كان طوال السنوات الماضية صار محققاً، بل ومحرّضاً على الاستثمار والبناء.

وقد يكون ما هو مطلوب من السوريين حكومة وشعباً الإرادة المحلية الحازمة بإطفاء الحرائق السياسية التي تنتقل من مكان إلى مكان، لتوفير الاستقرار السياسي والأمني الذي يراهن عليه رأس المال الجبان كما يقال، فاختبار قدراتنا على التحكّم بخلافاتنا لتكون رافعة لتوجيه البيئة التشريعية الضامنة لحقوق السوريين وتنوّعهم هو الامتحان الصعب الذي تنجح فيه الدولة السورية، كلما توسّعت حدود قدرتها على صناعة السلم الأهلي وتقلصت مساحة خلافاتها مع أبعد النقاط عن مركزها في دمشق، ما يسمح بانسياب نتائج الانفتاح الاقتصادي الذي يتوجّه الاستثمار المحلي قبل الأجنبي على كامل الأراضي السورية، ليكون الكفّة الراجحة في ميزان المصلحة الوطنية.

كل استثمار لا يأخذ بالاعتبار عوامل نجاحه وأمانه عابر، يراهن على الأزمات وليس على حلولها، وفي أجواء المنازعات المحلية قد يختلط الغثّ بالسمين، ما يجعل مسؤولية الجهات الحكومية كبيرة على جبهتين، داخلية لتأكيد سيادة مؤسساتها المعنية واستشارة الخبراء والمحكمين، وخارجية في التحقق وضمان دخول المؤسسات القوية والمجرّبة، مع إتاحة المجال للمبتكرين والمبدعين المحليين والدوليين لتكون سورية مكاناً آمنا لأعمالهم وفق معايير دولية واحترافية، ففي سورية تجارب لا يمكن تجاهلها في الاستثمار الوهمي والفاسد.

تبقى الصورة الاقتصادية لسورية انعكاساً لنجاحات الواقع السياسي، ما يجعل من كل مصالحة داخلية رافعة حقيقية لمؤشّر أرباح أسهمنا المحلية والدولية، فهل تفعلها القوى السياسية على اختلاف مسمّياتها، علوية ودرزية وكردية، وأيضاً القوى فوق الطائفية، لمصلحة السوريين جميعهم؟

العربي الجديد

——————————-

ماذا وراء تصريحات الشرع حيال إسرائيل؟/ لميس أندوني

08 يونيو 2025

أثارت تصريحات نُسبت إلى الرئيس السوري أحمد الشرع تساؤلاتٍ مشروعة بشأن رؤية النظام الجديد حيال خطر إسرائيل على سورية؛ فقوله مثلاً إن لدى سورية وإسرائيل “أعداءً مشتركين” غير مفهوم، فهل يعني ذلك الاستعداد للتعاون المشترك، وما دخل إسرائيل بالدور الأمني لسورية؟ واضح أن المسؤولين السوريين يتحاشون الإشارة إلى حرب الإبادة الصهيونية في غزّة، والأهم غياب موقف واضح من احتلال إسرائيل الجولان واعتداءاتها أخيراً على سورية، إضافة إلى غياب مفهوم الأمن القومي العربي في أحاديثهم، واللوم لا يقع عليهم حصراً، فهذا حال سائر الدول العربية وأنظمتها، فالنظام الجديد في سورية ولد في حقبة انهيار مفهوم الأمن القومي العربي، واستبدل بمفهوم “المصلحة القُطرية” وانطلاق عملية فك الارتباط العربي بالقضية الفلسطينية، وكأن التخلص من “عبء القضية الفلسطينية” صمام أمان يفتح باب الاستقرار والازدهار والسلام تحت الرعاية الأميركية.

ما نسمعه عن عودة سورية إلى “الحضن العربي” يعني أن عليها أن تقبل وتندمج في شرق أوسط جديد تبشّر به واشنطن، عماده الدخول في “المعاهدات الإبراهيمية” مع إسرائيل، التي كانت الإمارات أول من وقّعها عام 2021، وفتح سورية ومقدّراتها للشركات الغربية. وهنا لا بد من العودة إلى ما ورد في مقال نشر في “جويش جورنال” في 18 الشهر الماضي (مايو/ أيار) يلخّص ما يحدث من ربط لدخول الاستثمار الأجنبي إلى سورية وتشكيل الاقتصاد السوري وعلاقته بقبول إسرائيل.

لم تكن هناك مقابلة للصحيفة الصهيونية مع الرئيس السوري، بل مقال كتبه جوناثان باس، مالك شركة “أرجنت” الأميركية لنقل الغاز الطبيعي المسال، عن لقائه الرئيس الشرع ضمن وفد اقتصادي. ويتضح من المقال أن الوفد الأميركي ربط النقاش بشأن مستقبل الاستثمارات الأجنبية في سورية بموقف النظام الجديد من إسرائيل، وهذا في حد ذاته خطير؛ فقد سمح باس لنفسه بأن يطلب طمأنات حيال موقف دمشق من تل أبيب للمضي في محادثات بشأن تسلّم شركته خطة تطوير قطاع الغاز في سورية. ولفهم جدية هذا الربط المطلوب أميركياً، وأنه ليس مجرّد مصادفة، ضروري معرفة أن جوناثان باس صديق مقرّب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو الذي أعلن رغبة الشرع في بناء “برج ترامب” في دمشق خلال اللقاء، الذي سهّله كما يقول “نشطاء سوريون”، لمناقشة فرص الاستثمار في سورية عشية جولة ترامب الخليجية. وعرض باس خطة تنفذها شركته “لتطوير قطاع الغاز في سورية”، انطلق بعدها في مقابلات مع محطات تلفزة أميركية، ليعلن بفخر واعتزاز خطته وكأنه مسؤول سوري أو منقذ للشعب السوري. ثم نشر مقاله في المجلة واسعة الانتشار في لوس أنجليس لطمأنة اللوبي الصهيوني وإسرائيل بأنه سمع من الشرع ما يطمئِن من موقفه حيال إسرائيل، وأنه لا تعاون مع دمشق دون التزام مصالح تل أبيب.

السؤال: لماذا يضع الرئيس السوري نفسه في هذا الموقف؟ وكيف يمكن توصيف الوضع بين سورية وإسرائيل “قصفاً متبادلاً يجب أن يتوقف”؟. إسرائيل دولة محتلة ومعتدية، فقد كان بإمكانه أن يكتفي بالقول إن سورية ملتزمة القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الذي أشار إليه في حال حدوث مفاوضات مع إسرائيل. وهنا لن أذهب إلى اتهام الشرع، كما يفعل بعضهم، بأنه وصل إلى السلطة على أساس قبوله التطبيع مع إسرائيل، لكن معظم الدول العربية تتجه نحوالتطبيع، حتى إن ترامب، بكل بساطة، طلب من الشرع الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية في قلب الرياض.

ما يحدُث ليس نتيجة عملية تطور سياسية طبيعية، بل يندرج تحت عنوانين: انهيار النظام العربي، والشروط المطلوبة أميركياً لقبول النظام الجديد في سورية تحت ضغط شروط رفع العقوبات الاقتصادية، وبخاصة الأميركية، عن البلاد، وهي شروط لا يتحدّاها النظام السوري، والأهم أنها لا تلقى مقاومة أو حتى معارضة تُذكر من الدول العربية والإقليمية (تركيا)، فالإقليم في مجمله دخل في ترتيبات فصل المصالح “القُطرية”، والأدق القول كل نظام على حدة، من التزامات القضية الفلسطينية. أي النظر إليها معطّلاً ومعرقلاً نهوض الشعوب، وإيجاد معادلة جديدة للتعامل مع إسرائيل، بمعنى التسليم بأننا دخلنا عهد إسرائيل في المنطقة، وكأنها لا تشكّل تهديداً لكل دولة عربية على حدة، أو على الأمن القومي العربي بمجموعه.

يبدو أن الرئيس السوري يتصرّف على أساس المعادلة التي هي طور التشكيل، لكنها تصبح حقيقةً بقبولها والاستسلام لها، فلن يُقبَل النظام الجديد دون أن يلتزم قواعد اللعبة التي أصبحت شرطاً لقبوله، ودون الأخذ بمخاطر هذه الطريق وتداعياتها على سورية وسيادتها ومستقبل مقدّراتها الاقتصادية.

الغريب والمستهجن أن تاريخ إسرائيل منذ نشوئها والسياسات الأميركية في المنطقة كأنها حدثت في عالم بعيد أو مواز، وكأن إسرائيل لا تشكل خطراً على سورية وأن أميركا صديقة للشعب السوري. ليس المطلوب أن تعلن سورية حرباً على إسرائيل أو تهدّد بانتقام أو مواجهة، فأولويتها الحفاظ على نفسها وإعادة بناء الدولة والمجتمع السوريين، وليس مطلوباً أن تعلن جبهة مواجهة ضد أميركا، وأن لا يكون لها علاقات مع جميع الدول. ولكن لا يوجد حكمة من مهادنة إسرائيل اللفظية إلى درجة محاولة طمأنة كل وفد أميركي وغربي، وفي كل مقابلة صحافية، بأن النظام الجديد لن يكون خطراً على جيرانه، والمقصود إسرائيل، وأن لديها مع إسرائيل أعداءً مشتركين. وهنا لا داعي للتذكير بأن الفلسطينيين في نظر إسرائيل أكبر عدو لها: وأتساءل: لماذا لا يخطر ببال الشرع أن إسرائيل لن تعتبر سورية دولة صديقة، بل إن احتلالها الجولان والقنيطرة جزء من مشروعها الصهيوني الذي لا يقبل بالسيادة السورية على أراضيها.

ليست الإشكالية عدم وعي الشرع خطر إسرائيل، وإنما قد تكون في توهُّم أن الانفتاح على “لبرلة” القطاع العام السوري وفك الارتباط مع القضية الفلسطينية يشكل حماية للنظام الجديد وسورية. هذا التفكير هو التيار السائد لدى الأنظمة العربية وبعض المثقفين السوريين والعرب، وهذا توجّهٌ يزيد من عنجهية إسرائيل، والحديث عن إعطاء جملة تبرئ إسرائيل، ولو دون قصد، من كونها عدواً أو معتدياً، فلا حاجة لطمأنة إسرائيل، بل هناك حاجة للتمسّك بالحقوق الوطنية السورية، وتذكُّر أنّ سورية في موقف قوة، فالشركات العالمية هي التي يجب أن تتنافس على قبول الدولة السورية لها للاستثمار فيها وفقاً لشروط سيادية تضعها دمشق، ولا حاجة، بل من المهين أن يضطر الشرع إلى “إثبات حسن سلوك” أمام ممثل كل شركة تطمع في الثروات السورية، فإسرائيل هي الطرف المعتدي، وليس سورية.

العربي الجديد

——————————–

فرصة كبيرة وتحدّيات الداخل السوري/ عمار ديوب

06 يونيو 2025

أصبحت سورية محطّ أنظار العالم في الأشهر الماضية، وتحديداً منذ إعلان الرئيس ترامب عزمه رفع العقوبات عنها، وزيارة الرئيس السوري أحمد الشرع باريس، وزياراته المتكرّرة إلى تركيا والخليج. لم تعد سورية معزولةً أو منبوذةً أو متروكةً للتعفّن الكامل. هناك فرصة كبيرة إذاً، واحتضان حقيقي من العرب والعالم. بالتالي، الأمر مرهون بما ستفعله إدارة الرئيس الشرع، إذ تقف أمام تحدّيات متعدّدة، منها ما يخصّ مسارها السياسي الذي يواجه انتقادات كثيرة، وتتكثّف في عدم إشراك فئات من المعارضة أو الشعب فيها، واحتكار شخصيات أساسية من الإدارة، ومن يواليها، أغلبية الإدارات في مختلف مؤسّسات الدولة. والتشاركية موضوع ضغوط دولية تطالب بإشراك الأقليات، وهناك اشتراطات بتعدّدية سياسية وحكم تمثيلي، وهذا يتلاقى مع مطالب داخلية، تؤكّد الشيء نفسه.

عدا عن التحدّيات السياسية، هناك تحدّيات أمنية وعسكرية، ورغم محاولات وزير الدفاع، مرهف أبو قصيرة، ضبط الفصائل وحلّها ودمجها في وزارته، وإصدار مذكّرة قواعد لسلوك العسكريين، فلا تزال المهمّة صعبةً للغاية، وقد تزامن رفع العقوبات الأوروبية في الأيام الماضية مع فرض عقوبات جديدة بحقّ ثلاث فرق عسكرية كبيرة (السلطان مراد وسليمان شاه والحمزات)، وبحقّ قائدَين عسكريَّين (أبو عمشة وأبو بكر) كذلك. لضلوعهم في “جرائم تعسّفية” و”أعمال تعذيب” في مارس/ آذار الفائت في مدن وبلدات في الساحل السوري. ويفترض بوزير الدفاع حلّ هذه الفرق، وإبعاد هذَين القائدَين، فهل سيفعل؟ وإن لم يفعل، ماذا ستكون ردّة فعل أوروبا؟… على الإدارة الإسراع بإعادة تشكيل الجيش وأجهزة الأمن على أسس وطنية، وإبعاد (عدا المقاتلين الأجانب) كل الشخصيات التي ترفض هذه الأسس. ويرتبط هذا التحدّي بتأمين بيئة آمنة ومستقرّة، وإنهاء أشكال التعدّيات على الحريات الفردية والعامّة، وإيجاد حلّ حقيقي وتفاوضي للسلاح لدى فصائل في السويداء أو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي. هناك التحدّي الاقتصادي، وهو معقّد للغاية، وهناك انتقادات شديدة لكيفية إدارة هذا الملفّ؛ فلم يصدُر بعد قانون للاستثمار، ولا قانون للمصارف، ولم تنشأ محكمة خاصّة بالاستثمارات، ولم يرتبط النظام المالي بنظام سويفت بعد، ولا تزال النافذة الواحدة مغلقة، وهذه بيئة غير ملائمة لتدفّق الاستثمارات.

يشكّل غياب خطّة اقتصادية واضحة لكيفية استقبال الاستثمارات الخارجية، وتحديد مجالات عملها، الإشكالية الكبرى، ويمكن الوصول إلى تلك الخطة بدعوة الخبراء الاقتصاديين إلى اجتماعات مكثّفة، وهذا لم يتحقّق. وقد بدأت أصوات اقتصادية قريبة من السلطة تطالب به، وتنتقد غياب الشفافية وأسس الحكم الرشيد والحرية الاقتصادية، وسيادة التجريب والفوضى في هذا التحدّي. يذلّل هذه العقبات تدفّق شركات عالمية عديدة للمساهمة في إعادة الإعمار، ولكن غياب الشفافية من العقود التي أبرمت (أو ستبرم) يمثل إشكالية حقيقية ستضرُّ بالسلطة نفسها، وأيضاً ستُمكّن هذه الشركات من اختيار القطاعات التي ترغب في الاستثمار فيها، وهذا يتعارض مع البدء بقطاعات معنيّة صناعية وزراعية وعقارية، وخاصّة في المدن المُدمَّرة، لتكون الأساس لنهوض بقية القطاعات.

شكّل الاتفاق الأولي حول النهوض بقطاع الكهرباء مع شركات قطرية وتركية وأميركية بدايةً إيجابيةً، فإعادة إنتاج الكهرباء بشكل منتظم ستكون المدخل السليم للنهوض بمختلف قطاعات الاقتصاد، الكبيرة والصغيرة، وستكون الفائدة عامّة، وستكون كلفته للاستخدام المنزلي أو الصناعي المشكلة الكبرى في المستقبل. وبالتالي، يجب مراعاة ذلك في نصوص الاتفاقيات مع هذه الشركات، فسورية دولة فاشلة الآن، وتحتاج إلى المساعدة، لا للاستثمار فيها على أرضية أنها فاشلة، وهناك أكثر من 90% تحت مستوى خطّ الفقر.

يعدُّ التحدّي الاجتماعي الأخطر، ويرتبط بالسابق، ولكنّه يؤثّر في التحدّيَين الأمني والسياسي. سيؤدّي تدفق الاستثمارات العربية والأجنبية إلى إيجاد فرص عمل محدودة، ولكن تركّز الاستثمارات في بناء المدن المُدمَّرة والزراعة والصناعة سيؤدّي إلى التخفيف من حدّة هذا التحدّي. لقد مرّت ستة أشهر والأزمة الاجتماعية هي نفسها، فهناك ضرورة لإيجاد حلول معيّنة لمواجهتها، وعدم ترك الأمور من دون خطّة مرسومة، ومُعلنة، ومُناقشة ومحدّدة بأزمنة، وعبر الإعلام الرسمي. هناك تحدّيات كبيرة أخرى تتعلّق بعدم عودة بقيّة اللاجئين، ووجود ملايين السوريين في المخيّمات، وهناك مشكلة التعليم الكُبرى، ووجود ملايين الأطفال والمراهقين خارج التعليم، وأيُّ تعليمٍ يجب التركيز فيه في هذه المرحلة، ويرتبط هذا بالخطّة الاقتصادية، وبأيّ القطاعات سيُبدَأ فيها. سورية خارجة من حرب، ومن تعفّن وانقسامات مجتمعية، امتدّت أربعة عشر عاماً، وتدخّلات دولية ضدّ مصالح الشعب. هي دولة بحاجة إلى أشكال المساعدة كلّها، ولكنّها بحاجة (مجدّداً) إلى عقليات دولتية، ولخطط وطنية في المجالات كافّة، والبدايات السليمة تقود إلى إمكانية النهوض العام.

أشكال النقد المختلفة، التي وجهها كاتب هذه السطور عبر “العربي الجديد”، كانت بقصد المساهمة في هذا النهوض، إلى جانب آخرين كتبوا عن تحدّيات تواجهها سورية مذكورة أعلاه. والآن، نالت الإدارة الثقة العالمية، ولكنّها ثقة مشروطة، ولنلاحظ العقوبات الأوروبية الجديدة، وهناك الرفع الأميركي لعقوبات تتطلّب موافقة الكونغرس كذلك، وسيكون هناك نقاشات واسعة حول البيئة التي تحقّقت في سورية، وتسمح برفعها، والكلام يخصّ الحرّيات السياسية والاقتصادية والاستقرار الأمني أولاً، وهناك الشروط الأميركية المتعلّقة بأمن الكيان الصهيوني أو بالأسس التي يبنى عليها الجيش والأمن ثانياً. إذاً ليس من ثقةٍ مطلقة، أو رفعٍ للعقوبات من دون شروط، ومن يقول بذلك يبيع الأوهام لنفسه وللشعب، وسرعان ما ستتبخّر، وستتزعزع الثقة بالسلطة من جديد.

يشكّل التحدّي السياسي العقبة الكبرى أمام الإدارة الجديدة، والمشكلة هنا أن الإدارة تتجاهل خطورة هذا الموضوع، وهناك من يرى أن خيار الاستئثار والهيمنة هو خيارها، وليس في حوزتها أيّ فِكَر عن الديمقراطية أو التعدّدية السياسية أو إشاعة الحريات العامّة بقوانين. نعم، ليس لدى الإدارة تجربة ديمقراطية سابقة، وتعدّد الفصائل، وشخصيات السلطة القوية، يحدان من الركون إلى الديمقراطية شكلاً للحكم السياسي، ولكن هذا يتعارض مع ميل شعبي عام، سرعان ما سيعود ليسأل عن أسباب تأخّر المباشرة بالتشاركية، وعن الانتخابات وعن احتكار السلطات… هل تغيّر الإدارة مسارها السياسي وتنفتح تجاه إشراك الشعب، وتبدأ بانتخاب مجلس الشعب في الأسابيع المقبلة، وتكفّ عن سياسة التعيين، وتسعى إلى أن تتجاوز التحدّيات الكبرى أعلاه؟

———————————

كيف ستدير سوريا علاقتها بإسرائيل في هذه المرحلة؟/ غازي دحمان

9/6/2025

لم يعُدْ سرًا وجود مفاوضات بين سوريا وإسرائيل في بعض العواصم، بيد أن السؤال عما إذا كانت هذه المفاوضات مقتصرة على ترتيبات أمنية بخصوص التطورات التي جرت بعد الحرب على وقع احتلال إسرائيل شريطًا حدوديًا واسعًا في جنوب سوريا، أم هي مقدمة لاتفاق سلام شامل، في ظل تحرك أميركي يهدف إلى إعادة هندسة المنطقة عبر إطفاء بؤر التوتر، بما يسمح لواشنطن بإعادة تشكيل الواقع الإقليمي، بما يتطابق ورؤيتها لدورها العالمي في المرحلة المقبلة؟

السياق والتوقيت

المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، أو ما يصح تسميته بـ” مبادرة التهدئة”، تأتي كجزء من سياق أوسع لانعطافة إستراتيجية أميركية، وغربية بالتبعية، للحفاظ على دور فاعل في ضبط مفاعيل المشهد الدولي، والتأثير في توجهاته المستقبلية، في ظل بروز اللاعب الصيني بقوّة الذي بات يتمدد على جميع المفاصل الجيوسياسية الدولية ناثرًا مشاريعه الواعدة في كل ركن، منذرًا بإزاحة الغرب من موقع الريادة في قيادة النظام الدولي.

وقد أثبتت التطورات أن الساحة الشرق أوسطية تنطوي على مصالح أميركية، توازي، إن لم تتفوّق على مصالح واشنطن في جنوب شرق آسيا، التي رصدت لها موارد ضخمة. وفي ظل تقدير أميركي بأن مواجهة الخطر الصيني لا تتم بترك فراغات كبيرة له ليتمدد بها، مقابل حصاره في بحر الصين، وصحارى الشرق الأوسط وبحاره وممراته المائية، كعناصر مهمة في هذه اللعبة الجيوسياسية التي يتسع نطاقها ليشمل العالم برمته.

وتبعًا لذلك، وفي ضوء توازن القوى العالمي الجديد، بعد أن قلصت التكنولوجيا الصينية الفوارق بدرجة كبيرة، تجد إدارة ترامب نفسها مضطرة للبحث عن آليات جديدة لضمان استمرار التفوق، وهذا ما أكدته زيارة ترامب لدول الخليج العربي، وإيجابية مواقفه تجاه مطالبها، حيث شكّل دعم سوريا محورها الأساسي.

ورشة مفاوضات

ثمّة ما يمكن وصفه بـ “ورشة مفاوضات” انطلقت فعالياتها في أكثر من عاصمة إقليمية ودولية: أبو ظبي، وباكو، وتل أبيب، وربما أماكن أخرى. ما يجري حتى اللحظة يبدو أنه اختبار أو مرحلة تعارف بين المفاوضين، وتقديم كل طرف أطروحاته، والتي غالبًا ما تكون بسقف مرتفع، يجري بعد ذلك تشذيبها للتوافق مع المنطق والواقع. لم يرشح أي شيء عما يدور في كواليس هذه المفاوضات، لكن هناك مؤشرات عديدة على انطلاقها، من ضمنها توقف القصف الإسرائيلي والانفتاح الأميركي المتسارع على دمشق، كذلك تغير الخطاب السياسي تجاه الإدارة السورية الجديدة في كل من تل أبيب، وواشنطن.

لا يعني ذلك أن الأمور تسير بسلاسة وأننا بتنا على بعد أمتار قليلة من التوصل إلى تفاهمات صلبة، بقدر ما يعني تهيئة بيئة مناسبة للمفاوضات، تبدأ بالتهدئة الميدانية ووقف الهجوم الإعلامي الإسرائيلي ضد السلطة السورية الجديدة، وهو شهد بالفعل تحولًا، من خطاب يدعو لعدم الثقة بهذه السلطة إلى خطاب يؤكد على عدم الرغبة بالتدخل بالشأن السوري، وفق وزير خارجية إسرائيل جدعون ساعر.

من الطبيعي أن يتم التركيز في هذه المرحلة على الملفات الأمنية، وأن يقود المفاوضات المختصون بالمسائل الأمنية، على ذلك تأخذ المفاوضات طابعًا تقنيًا بحتًا، بعيدًا عن الأيديولوجيا والمواقف السياسية والحساسيات المختلفة، ولا سيما أن بين البلدين تاريخًا متواصلًا من الترتيبات الأمنية كان يجري تحديثها بعد كل تطور، وآخر الإجراءات كانت المنطقة العازلة التي أعقبت حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، والتزم بها الطرفان حتى سقوط نظام الأسد.

حاجة دمشق للسلام

منذ وصول الإدارة الجديدة للسلطة في دمشق أعلنت بشكل غير موارب، أن الاستقرار والسلام يقفان على رأس جدول أولوياتها في المرحلة القادمة، وبالتالي ليست معنية بلعبة الصراع التي انخرط بها نظام الأسد، على الأقل نتيجة انتمائه لـ”حلف الممانعة” وتسهيل نشاط إيران المناوئ لإسرائيل، والواضح أن إدارة الشرع قرأت جيدًا التحوّل في المزاج الإقليمي الرافض لاستمرار الحروب، ومنطق العسكرة الذي فرضته إيران وحاولت تاليًا التكيف مع متطلبات هذا التحوّل.

لكن أيضًا، متطلبات المرحلة، وضرورة الخروج من واقع، أقل ما يُقال عنه أنه واقع معقد إلى أبعد مدى، فرضت على دمشق تبني خيار البحث عن فرصة السلام، للهرب من واقع موازٍ حقيقي وليس افتراضيًا، سمته الانهيار الاقتصادي والعزلة الدولية، قد يصبح هو التعريف الأساسي لسوريا المستقبلية.

تدرك دمشق أن لها حسابات حساسة في المعادلات التي يجري تأسيسها في المنطقة، وأنها لاحقة لضلع إقليمي أكبر، وربما نقطة غير مرئية في دائرة من الفاعلين الإقليميين الأقوياء، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، وأنها مضطرة للعب تحت ظلال هذه القوى، ما دامت قد دخلت اللعبة بدون أدوات قوّة، على كل الصعد، وبحمل ثقيل من الأزمات والاحتياجات.

وفق ذلك، رأت دمشق أن الانخراط ضمن الهندسة التي تجريها واشنطن، بالتنسيق مع الفاعلين الإقليميين، في الخليج العربي وتركيا، فرصة أرادت التقاطها، ورافعة للخروج من دائرة التهميش والدمار، إذ لا يمكن تحقيق الاستقرار بجوار كيان يعتقد أنه يمتلك ناصية المنطقة، ولا يمكن جذب أموال الاستثمار بدون وضع مستقر، ما يعني تحويل سوريا إلى نموذج الدولة الفاشلة، وهو الكابوس الذي حاول حكّام سوريا الجدد الهروب منه، مع إدراكهم أنه لن يكون في جعبتهم، وهم يجلسون على طاولات التفاوض، سوى تقديم التنازلات.

إسرائيل والسلام بالإكراه

ليست هذه اللحظة المناسبة التي ترغب بها إسرائيل للانخراط في عملية سلام مع سوريا، فلا المزاج الإسرائيلي ولا النخب المؤثرة في وارد السير في هذا المسار الآن، والتفكير الإسرائيلي في هذه المرحلة في مكان آخر، حيث تصحو إسرائيل، بعد طوفان الأقصى، على واقع إستراتيجي مختلف لم تشهد ذاكرتها مثيلًا له منذ قيامها، ولا حتى بعد حرب عام 1967 حينما انهارت بوابات دول الطوق العربي وبات بإمكان الدبابات الإسرائيلية العبور إلى العواصم دون أي عوائق لوجيستية أو عسكرية سوى عائق التوازنات الدولية في خضم الحرب الباردة وحدود النفوذ المرسومة بين مناطق أميركية وأخرى سوفياتية.

الطموح الإسرائيلي في سوريا أكبر من سلام قد يتم التراجع عنه يومًا إذا تغيرت المعطيات، حيث تتجه تفضيلات إسرائيل إلى صناعة كيانات موازية للدولة السورية، كيانات تعتمد في بقائها على الدعم الإسرائيلي، وتدفع دمشق وحكامها إلى الانكفاء نهائيًا عن المطالبة بأراضٍ تحتلها إسرائيل، وتزيد عليها الجنوب حيث المياه الوافرة والأراضي الزراعية وقوة العمل التي تحتاجها المزارع والورش في حيفا والجولان والجليل، واعتقاد قادة إسرائيل أن تحقيق هذا الطموح لن يكلف كثيرًا، وكل ما ستفعله تل أبيب الإشراف على إدارة الصراعات في جنوب سوريا لخدمة مصالحها الجيوسياسية.

لكن التطور المفاجئ تمثل في موقف تركيا ودول الخليج العربي من التغيير في سوريا، ودفع واشنطن إلى احتضانه وجعله مصلحة للأمن القومي الأميركي، الأمر الذي أثار ريبة إسرائيل من احتمال إخراجها من الترتيبات التي هي في الواقع أكبر من مجرد استيعاب سوريا، بقدر ما هي تشكيل لواقع شرق أوسطي مرتبط بدوائر عالمية أوسع، ومشاريع جيوسياسية على نطاق أكبر، وبالتالي فإن إسرائيل تدخل مرحلة التفاهمات مع دمشق كنوع من الاختبار لمسارات التحرك الإقليمي والدولي، ولا سيما بعد تهميشها من تحركات الرئيس ترامب الأخيرة في المنطقة، وحالة الجفاء مع أوروبا، التي بدورها بدأت الانخراط المكثف في دهاليز الملفات الشرق أوسطية.

هل الصفقة وشيكة؟

بناء على هذه المقدمات، لا يبدو أن ما يدور بين دمشق وتل أبيب في هذه المرحلة هي مفاوضات سلام نهائية، بقدر ما هي مباحثات للتوافق على إطار أمني جديد بعد تراجع إسرائيل عن الترتيبات السابقة، وثمة عوامل كثيرة تؤكد هذا الاحتمال:

    اختلال توازن القوى بشكل كبير  يمنع دمشق من الذهاب إلى مفاوضات سلام تحتاج لأوراق قوّة تجبر إسرائيل على التنازل عن الجولان.

    تحتاج الإدارة السورية الجديدة إلى مدى زمني أطول للقيام بخطوة عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، إذ بالرغم من تفضيل قطاعات واسعة من السوريين التركيز على الجوانب الاقتصادية والإعمار، وبالتالي الابتعاد عن الحروب الخارجية؛ لا تزال الصورة غير واضحة بالنسبة للنظام الجديد في دمشق، وبالتالي يشكّل خوضها في عملية سلام، قد تقدم خلالها تنازلات جغرافية مغامرة خطرة.

    عدم حاجة إسرائيل إلى سلام يرتّب عليها التزامات بحجم التنازل عن أراضٍ تحتلها في الجولان، ومن مصلحة إسرائيل إبقاء الوضع الأمني هشًا على جبهتها الشمالية، وإبقاء دمشق تحت ضغط الإحساس بعدم الأمان من جهة إسرائيل، إلى حين نضوج ظروف مواتية للحصول على تنازلات كبيرة باطمئنان.

    لا تطرح الأطراف التي تحتضن النظام السوري الجديد: الإقليمية والدولية، مسألة التوصل إلى اتفاق سلام بين دمشق وتل أبيب، في هذه المرحلة، لإدراكها أن الظروف غير ناضجة، وأن من شأن الاختلاف في أي مرحلة من مراحل التفاوض قد يفجر جولات صراعية تطيح بالاستقرار السوري الهشّ، لذا فالأفضل هو التوصل لترتيبات أمنية صارمة بين الطرفين تضمن الهدوء إلى حين التوصل لإطار سلام قابل للتطبيق.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

كاتب سوري

الجزيرة

—————————–

الأموال السورية المجمدة في الخارج.. أماكن وجودها وفرص استعادتها/ سامر سيف الدين

9 يونيو 2025

أصدرت وزارة الخزانة الأميركية، يوم 24 أيار/مايو، ترخيصًا عامًا رقم 25 (GL 25) يقضي بالتخفيف الفوري للعقوبات على سوريا، والتي كانت مفروضة بموجب قانون قيصر، والسماح بإجراء المعاملات التي كانت محظورة سابقًا. وهذا الإعفاء مدته 180 يومًا بموجب أمر تنفيذي، مع إمكانية إعادة فرضها بعد ستة أشهر.

وشمل الإعفاء البنك المركزي السوري والمصرف التجاري، والشركتين السورية للغاز والسورية للنفط، والخطوط الجوية السورية، والإذاعة والتلفزيون، وموانئ اللاذقية وطرطوس، بالإضافة إلى الكثير من المؤسسات المصرفية واللوجستية. وبعض الشخصيات والكيانات. وبحسب بيان الخزانة الأميركية، يهدف هذا الإعفاء إلى المساعدة في إعادة بناء الاقتصاد السوري، والقطاع المالي، والبنية التحتية، بما يتماشى مع مصالح السياسة الخارجية الأميركية. ومن المتوقع أن يسهل هذا القرار استرداد الأموال السورية المجمدة والتي تقدر بالمليارات، وتتوزع على العديد من بلدان العالم. فلماذا جُمدت هذه الأموال وأين تتركز، وما هي أهمية استردادها، وما محددات ذلك؟

العوامل التي أدت إلى تجميد الأصول السورية

تم تجميد الأصول السورية في عدد من الدول الأوروبية بسبب عوامل عدة،  تتعلق بالسياسات الدولية تجاه النظام السوري السابق وسلوكياته. حيث بدأت الدول الأوروبية، بقيادة الاتحاد الأوروبي، بفرض عقوبات على سوريا منذ عام 2011 كرد فعل على القمع العنيف الذي مارسه النظام ضد المتظاهرين السلميين. وشملت هذه العقوبات تجميد أصول شخصيات بارزة في النظام، بما في ذلك بشار الأسد، بالإضافة إلى حظر السفر ومنع التعاملات المالية مع مؤسسات الدولة السورية.

وقد اعتبرت الدول الأوروبية الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السوري، بما في ذلك استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين وعمليات التعذيب واستخدام الأسلحة الكيميائية ضد السكان، مبررًا لاتخاذ إجراءات صارمة لتقييد قدرة النظام على الوصول إلى الموارد المالية.

وتشير التقارير إلى أن جزءًا كبيرًا من الأموال المجمدة يعود إلى فساد النظام السوري وسوء إدارته للموارد. وهذه العقوبات المفروضة على سوريا كانت جزءًا من جهود دولية أوسع للضغط على النظام لتغيير سلوكه، وتحسين الأوضاع الإنسانية في البلاد.

أهم الدول التي تتوزع فيها الأصول السورية المجمدة

تحتفظ عدة دول في العالم بأموال سورية مجمدة نتيجة العقوبات المفروضة على النظام السوري. من بين هذه الدول: سويسرا التي تحتفظ حاليًا بحوالي 99 مليون فرنك سويسري (حوالي 112 مليون دولار أميركي). والمملكة المتحدة، التي  تشير التقارير بأنها تحتفظ بأصول سورية مجمدة تقدر بحوالي 163.2 مليون جنيه إسترليني، وهو ما يعادل تقريبًا 200 مليون دولار.

وهناك تقارير تشير إلى أن ألمانيا تحتفظ أيضًا بأموال سورية مجمدة، لكن التفاصيل الدقيقة حول المبالغ غير متاحة بشكل واسع.  كما أن النمسا عملت على تجميد الأصول السورية كجزء من العقوبات الأوروبية، ولكن المعلومات المحددة حول المبالغ المجمدة غير متوفرة.

كما تحتفظ فرنسا أيضًا بأموال سورية مجمدة، وهي من أوائل الدول التي دعت إلى إعادة النظر في العقوبات المفروضة على النظام السوري في ظل التغيرات السياسية.

وهناك إشارات إلى أن إيطاليا تحتفظ بأموال سورية مجمدة، ولكن التفاصيل حول هذه الأصول ليست واضحة.

وكانت الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات على النظام السوري منذ عام 1979، وتجميد الأصول السورية جزء من هذه العقوبات. ومع ذلك، لا توجد تقديرات دقيقة لقيمة الأصول المجمدة في الولايات المتحدة.

كما قامت تركيا أيضًا بتجميد أصول الحكومة السورية، لكن المعلومات الدقيقة حول قيمة هذه الأصول غير متوفرة بشكل واسع. وهناك تقارير تشير إلى أن بعض الدول العربية مثل مصر والأردن تحتفظ بأموال سورية مجمدة، لكن القيم الدقيقة لهذه الأصول غير محددة. فيما يُعتقد أن الأموال المجمدة في لبنان تتراوح بين 20 إلى 50 مليار دولار.

أيضًا كان بارزًا في الأيام الأخيرة المحادثات بين مسؤولين سوريين مع بعض مسؤولي مملكة البحرين، حيث تسعى الحكومة السورية جاهدةً لاستعادة الأموال المودعة في البنوك البحرينية، وتحديدًا تلك التابعة للمصرف التجاري السوري.

وتشمل هذه الأصول المجمدة، الحسابات المصرفية والاستثمارات والعقارات المرتبطة بعائلة الأسد وشركائها المقربين. وأفادت التقارير بتجميد مليارات الدولارات من الثروة المتراكمة خلال الحرب السورية في أوروبا. بينما يدير مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) في الولايات المتحدة هذه الأصول المُحتفظ بها في مؤسسات مالية أميركية، وتشمل أموالًا مقيدة بموجب لوائح العقوبات المفروضة على سوريا.

ولا تزال المواقع والمبالغ الدقيقة غامضة جزئيًا نظرًا لتعقيد الأنظمة المالية الدولية وتباين ممارسات الإفصاح. ويزعم البعض أن إجمالي الأموال المجمدة يبلغ 173 مليار دولار، لكن هذا الرقم يفتقر إلى التحقق المستقل، ويجب اعتباره غير قاطع.

أهمية استرداد الأموال المجمدة لسوريا

يُمكن أن يُوفر الوصول إلى هذه الأموال دفعةً ضروريةً للغاية للاقتصاد السوري، الذي تأثر بشدة بسنوات من الصراع والعقوبات. يُمكن استخدام هذه الأموال في جهود إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.

ومن المؤكد أن يُعزز استرداد هذه الأصول بنجاح ثقة الجمهور بالحكومة وقدرتها على إدارة الاقتصاد، وهو أمر ضروري لاستقرار طويل الأمد في بيئة ما بعد الصراع.

كما أن القدرة على استرداد الأصول المُجمّدة سيحسن مكانة سوريا في العلاقات الدولية، مما قد يُؤدي إلى مزيد من التفاعلات الدبلوماسية والشراكات الاقتصادية.

وقد تم اقتراح استخدام الأصول المجمدة لتمويل مشاريع تنموية وإعادة إعمار في سوريا. حيث أقر البرلمان الأوروبي مشروع قرار يسمح باستخدام هذه الأصول لدعم عملية الانتقال السياسي وإعادة الإعمار، مما يتيح الفرصة لتوجيه الأموال نحو القطاعات الحيوية مثل الطاقة، المياه، والصحة.

كذلك يمكن تخصيص جزء من الأصول المجمدة لتعويض ضحايا الحرب، مما يساعد على معالجة الأضرار التي لحقت بالمدنيين نتيجة النزاع. وهذا يتطلب آليات قانونية واضحة لضمان توزيع هذه التعويضات بشكل عادل.

هل ستسترد سوريا أموالها قريبًا؟

إن الإفراج عن الأصول المجمدة يتطلب التنسيق مع الحكومات والمؤسسات المالية الأجنبية، مما قد ينطوي على إجراءات قانونية مطولة للتحقق من الملكية وضمان الامتثال للقوانين الدولية.

وقد يُثني الوضع السياسي والأمني الهش في سوريا الجهات الأجنبية عن الإفراج عن الأموال حتى تشكيل حكومة مستقرة.

ويعتمد الاسترداد على استعداد دول مثل الولايات المتحدة الأميركية، ودول الاتحاد الأوروبي، وسويسرا لرفع تجميد الأصول، والذي قد يكون مشروطًا باستيفاء سوريا لمعايير معينة تتعلق بالحوكمة أو مكافحة الفساد.

يُعزّز الترخيص العام رقم 25 الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية بشكل كبير احتمالات استرداد هذه الأصول من خلال إزالة عوائق العقوبات، على الرغم من أن التحديات القانونية والسياسية والإدارية قد تُؤخّر الاسترداد الكامل. وفي حين أن طريق استرداد الأموال السورية المُجمّدة محفوفٌ بالتحديات، فإن التغييرات الأخيرة في سياسة العقوبات الأميركية تُعطي بصيص أملٍ للحكومة السورية وجهودها لإنعاش الاقتصاد.

————————–

أبعد من مصالح اقتصادية.. الدور السوري الجديد في الرؤية الأميركية/أحمد الكناني

8 يونيو 2025

شكل لقاء الرئيس الشرع في الرياض بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، نقطة تحول في مسار العلاقات السورية الدولية، إذ أعطى ترامب برفعه العقوبات الضوء الأخضر للدول الحليفة لواشنطن بإعادة تموضعها في سوريا، وذلك عبر الاستثمارات وإبرام الاتفاقيات الاقتصادية، لاسيما توقيع دمشق لاتفاق بـ 7 مليار دولار مع شركات توليد الكهرباء القطرية والتركية والأميركية، وإعادة تفعيل الدور السوري في الشراكات العالمية.

إلا أن السياسة الأميركية لم تتوقف عند رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، بل تجاوزتها إلى إجراء بعض التغييرات في سياستها، عبر تقديم الدعم لدمشق لتسريع تنفيذ الاتفاق المبرم، برعايتها، بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في العاشر من آذار/ مارس الماضي، إضافة إلى الإيعاز لـ”قسد” بتسليم مخيم الهول والسجون لدمشق، والموافقة على دمج آلاف المقاتلين الجهاديين السابقين الأجانب في الجيش السوري، ما طرح العديد من التساؤلات حول طبيعة الدعم الأميركي لدمشق، وفيما إذا كانت واشنطن سوف تعتمد سوريا الجديدة كحليف أساسي لها في المستقبل.

دعم المركزية شمال شرق سوريا

يعتقد الباحث في الشؤون الدولية، عزيز موسى، أن الدعم الأميركي لدمشق في الملف الكردي يأتي انطلاقًا من رغبة واشنطن في الاستفادة من خبرات قوات قسد داخل الجيش السوري، في مكافحة الإرهاب، ولهذا السبب، تضغط واشنطن على قسد باستمرار لتسريع عملية الاندماج مع الجيش السوري الجديد، تزامنًا مع تفكيك أهم القواعد الأميركية في شمال شرق سوريا وتخفيض أعداد قواتها.

ويضيف موسى، في حديثه لـ”الترا سوريا”، أن واشنطن سحبت عددًا من الأوراق من قسد لصالح دمشق، خاصة فيما يتعلق بإدارة سجون تنظيم داعش التي تضم ما يقارب 10 آلاف مقاتل، ومخيم الهول في الحسكة، وهذا يمكن أن يقرأ أيضًا في سياق الاختبار لقدرة الإدارة السورية على التعامل مع هذه الملفات.

فيما يرى الباحث في مركز عمران، أسامة الشيخ علي، في حديثه لـ”الترا سوريا”، أن الإجراءات الأميركية لا تعني التخلي عن قسد لصالح دمشق، إلا أن واشنطن باتت تركز على دعم الدولة المركزية بشكل أكبر، لاعتقادها بـ “عدم جدوى دعم الفواعل (قسد) دون الدولة”، خاصة وأنها قدمت المال والسلاح والخبرة، وباتت تضغط لدمج هذه الإمكانيات لصالح الجيش السوري، ويعزز ذلك الضمانات التي قدمها الرئيس الشرع بما يتعلق بمحاربة تنظيم داعش، والابتعاد عن التنظيمات المتطرفة، والاتفاق السلمي مع قوات سوريا الديمقراطية.

ضبط الفاعلين الإقليميين

من وجهة نظر الباحث السياسي سركيس قصارجيان، فإن واشنطن وفقًا لسياسية الرئيس الأميركي، تعمل على تهيئة الظروف الإقليمية في سوريا لإنشاء مشاريع اقتصادية طويلة الأمد، دون أي منغصات أو تنافسات إقليمية، وعليه تعمل السياسة الأميركية على دعم قرار دمشق من بوابة إنشاء التوافقات بين جميع الفاعلين بالملف السوري بالحد الأدنى، لا سيما العلاقات الجيدة السورية مع تركيا والخليج وحتى مع قسد، وهو أحد أبرز أسباب الدعم الأميركي لدمشق.

وفي هذا السياق يعتقد الباحث موسى أن الانفتاح الدولي والإقليمي على سوريا يحمل قلقًا تركيًا ضمنيًا نظرًا لدور الولايات لمتحدة كموازن للقوى وضابط للإطار العام لسياسات حلفائها الإقليميين تجاه دمشق بما لا يسمح بتفوق كامل لأحد الفاعلين على الآخر في النفوذ، إضافة للدور السعودي الذي يتمتع بخصوصية عربية سياسية واقتصادية والحضور في أكثر من ملف يتعلق بسوريا، ما يدفع تركيا للعمل نحو توسيع دائرة نفوذها بامتلاك مفاتيح ملفات أمنية وسياسية.

روسيا والصين في الأجندة الأميركية

ينوه الباحث في الشؤون الدولية عزيز موسى إلى أن واشنطن تنظر إلى سوريا كمنصة ضغط غير مباشرة يمكن توظيفها ضمن منظومة الردع الاستراتيجي ضد روسيا، خاصة مع استمرار الحرب في أوكرانيا منذ العام 2022، إذ تعمل واشنطن على إبقاء الساحة السورية ضمن معادلة ربط الملفات، بحيث تكون دمشق طرفًا محوريًا يمكن من خلالها تعديل سلوك روسيا في مناطق نزاع أخرى، مثل أوكرانيا أو القوقاز، وبناء على ذلك تتركز الجهود الأميركية في توسيع رقعة نفوذها في سوريا عبر التنسيق مع حلفاء إقليميين.

فيما يرى الباحث في الشؤون السياسية، سركيس قصارجيان، وجود هدف محتمل بالنسبة للموافقة الأميركية على تجنيد المقاتلين الأجانب في الجيش السوري، خاصة أنه يثير قلقًا كبيرًا سواء بالنسبة للصين أو حتى روسيا، وهما خصما أميركيا التقليديان، لافتًا إلى أنه في الوقت الحالي ليس من الأولوية الأميركية إنهاء التواجد الروسي في سوريا، وإلا كانت وضعته شرطًا أساسيًا لرفع العقوبات عن دمشق.

مسار الاتفاق الابراهيمي

يرى الباحث قصارجيان أن التفاهمات السورية مع واشنطن تأتي في إطار مصلحة إسرائيل، إذ إن واشنطن لن تتخلى عن دعمها ومراعاتها للمصالح الإسرائيلية في المنطقة، وبالتالي التفاهمات مع دمشق تدعم مسار التطبيع السوري مع إسرائيل.

الترا سوريا

———————————-

===================

الشرع و المقاتلين الأجانب و داعش تحديث 09 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

الشرع و المقاتلين الأجانب و داعش

——————————

سورية الجديدة” وخرائط الشرعية السياسية/ محمد أبو رمان

08 يونيو 2025

بانضمام 3500 مقاتل من الحزب الإسلامي التركستاني (الأيغور الصينيين) إلى الجيش السوري الجديد، بمباركة أميركية وغربية، فإنّ إحدى أكبر العقبات والعقد التي كانت تقف في وجه النظام السوري الجديد، وكانت مطلباً رسمياً أميركياً وغربياً وعربياً، انتهت.

تبدو الطريق معبّدة أكثر من أيّ وقت مضى لاستكمال الشرعية السياسية الدولية للنظام الجديد في سورية، مع تجميد العقوبات ورفعها عن الدولة، ورفع أسماء قيادات هيئات تحرير الشام عن قوائم الإرهاب، وعن تجميد الأموال، وأغلب القيود التي جعلت سورية فترة طويلة تحت طائلة العقوبات الاقتصادية التي أضرّت بصورة كبيرة بالاقتصاد السوري.

لكن لماذا غيّرت أميركا موقفها من إدماج الأيغور في الجيش السوري؛ بخاصة أنّ هذه القضية، كما ذكرت أوساط دبلوماسية عربية، كانت “عقدة كبيرة” في مفاوضات الغرف السريّة بين دمشق وواشنطن وعواصم غربية وعربية؟

نقطة التحول المفصلية انفكاك السياسة الأميركية تجاه سورية من المنظور الإسرائيلي – اللوبي الصهيوني إلى المنظور التركي – السعودي (والأردني والقطري)، والتحرّر من رؤية بنيامين نتنياهو والتيار اليميني الإسرائيلي، الذي لم يكن يريد إلّا سورية مقسّمة وضعيفة ومجزّأة، وبالمناسبة لن ييأس من وضع التصورات والسياسات التي تحقق هذه الرؤية.

المتغيّر الثاني إدراك المسؤولين والسياسيين الأميركيين والغربيين والعرب كذلك أنّ مسألة الأيغور الصينيين بالنسبة للرئيس أحمد الشرع شخصياً كانت خطّاً أحمر، كما يؤكّد دبلوماسيون عرب شاركوا في النقاشات، إذ بالرغم من الضغوط الشديدة عليه، أصرّ على أنّه لن يتمكن من التخلي عنهم، بعد ما قدّموه من أدوار مهمة وأساسية في حماية إدلب في مرحلة حسّاسة، وفي إسقاط النظام السوري، فضلاً عن أنّ تخليه عنهم سيُضعف مصداقيته وسمعته في أوساط أبناء هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة السورية المسلّحة التي وقفت معه في المرحلة الماضية.

على الجهة المقابلة، لم تكن هنالك أيّ جهة دولية مستعدة لاستقبال هؤلاء المقاتلين، والذهاب نحو نموذج البوسنة في تخيير المقاتلين الأجانب بين الحياة المدنية ومغادرة البلاد أو “مدْننتهم”، كما يرى حسن جابر، (الباحث في معهد السياسة والمجتمع المتخصص بالشأن السوري) فيه مخاطرة كبيرة باستقطابهم من خلال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي يحاول استثمار الفرصة الحالية في سورية لإعادة بناء عملياته وتدشينها في مواجهة النظام السوري الجديد، ما قد يسهّل عملية استقطابهم، بخاصة أنّهم ينتمون إلى الحركة الجهادية العالمية، التي يمثّل “داعش” اليوم العمود الفقري الرئيس فيها، بعدما أصبح تنظيم القاعدة أشبه بالشبح العاجز، بخاصة بعد مقتل أيمن الظواهري وانقلاب حركة طالبان عليه.

لن ينهي حل مشكلة الأيغور كل الملفات العالقة في الحالة الداخلية، فهناك مسائل أخرى عديدة، أهمها ما يتعلّق بالاندماج الداخلي واستكمال حلقات الشرعية الدستورية والسياسية والتوافق على قواعد اللعبة السياسية الجديدة في البلاد، ومدى التوافق على تعزيز نموذج ديمقراطي – تعدّدي، يأخذ بالاعتبار الاختلافات والتنوعات الإثنية والدينية والطائفية، وهي مسائل تتطلب حواراً عميقاً وخطوات متدرّجة، لكن انزياح العقوبات الخارجية والانفتاح الاقتصادي للنظام الجديد، وتحوّل العامل الخارجي (بنسبة كبيرة جداً) إلى متغيّر مساعد ومساند للعملية السياسية الجديدة، هذه جميعاً بمثابة قوة دفع هائلة ومهمّة حصل عليها الشرع وحكومته لاستكمال عملية الانتقال المطلوبة.

من الضروري أن يتأسس فهم المرحلة السورية من الضروري على إدراك أنّ سقوط بشّار الأسد لم يكن بمثابة سقوط نظام واستبداله بآخر جديد، بل اكتشف الجميع أنّه لم يكن هنالك نظام أصلاً، ورثوا خراباً حقيقياً؛ إدارة بيروقراطية متضخّمة، بلا أيّ فعالية، آليات عمل ما تزال محكومة بمنطق عفا عليه الزمن، ومستوى بطالة كبير ومرعب، وما يقارب 90% من السكان تحت خط الفقر، بنية تحتية مدمّرة، وخدمات فاشلة، وأكثر من مليوني طالب خارج التعليم، وأنظمة تعليم مختلفة، بحسب السلطة والإقليم، بلا جيش وبلا أمن، مع ملايين السوريين المهجّرين إلى الخارج؛.. فجوهر المهمّة المطلوبة في المرحلة المقبلة يتجاوز مفهوم الانتقال السياسي من نظام سلطوي إلى نظام جديد، بل هو إعادة بناء دولة “من تحت الصفر”.

العربي الجديد

—————————–

 لماذا غيرت الولايات المتحدة موقفها من المقاتلين الأجانب في سوريا؟/ باسل المحمد

2025.06.08

في لحظة بدت وكأنها تعكس تحولاً عميقاً في استراتيجية واشنطن تجاه الملف السوري، كشف مبعوث الرئيس الأميركي إلى سوريا، توماس باراك عن وجود تفاهمات بين الولايات المتحدة والحكومة السورية الجديدة، بشأن خطة تسمح بانضمام نحو 3500 مقاتل أجنبي – معظمهم من الإيغور القادمين من الصين والدول المجاورة – إلى الفرقة 84 في الجيش السوري المشكل حديثاً.

شكلت هذه التصريحات التي نقلتها وكالة رويترز مفاجأة سياسية، خاصة أن واشنطن كانت قد ربطت – وبشكل حازم – الاعتراف بشرعية حكومة الرئيس أحمد الشرع ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا بخروج هؤلاء المقاتلين من البلاد.

هذا التحول الأميركي لا يمكن قراءته كخطوة منفردة أو عابرة، بل يندرج ضمن إعادة تموضع واضحة في سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا الجديدة، قد تكون مدفوعة بمتغيرات ميدانية، أو بتفاهمات غير معلنة مع أطراف إقليمية. فهل تخلت واشنطن عن شروطها مقابل استقرار مؤقت؟ أم أن انخراط المقاتلين الأجانب في مؤسسات الدولة الجديدة هو جزء من مقاربة أكثر براغماتية لاحتواء نفوذ قوى أخرى كروسيا والصين؟

واقعية أميركية جديدة.. الاستقرار أولاً

يبدو واضحا من خلال تعامل إدارة ترامب مع الملف السوري، أن سياسة واشنطن الجديدة تجاه سوريا تعتمد على مقاربة تقوم على دعم الاستقرار ومنع الفوضى الأمنية، بحيث لا تشكل سوريا أي خطر أو تهديد إقليمي أو دولي، ولو تطلب ذلك بحسب مراقبين التغاضي عن بعض الشروط السابقة، بل وحتى الانخراط في ترتيبات محلية لا تنسجم كليا مع المعايير الأميركية التقليدية.

وتتماشى هذه المقاربة أيضاً مع ما ورد في تقرير حديث لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي أكد أن: أهم ما يمكن أن تفعله واشنطن في سوريا حالياً هو دعم أي ترتيبات تؤدي إلى بسط الأمن المحلي ومنع الفوضى، حتى لو كانت غير مكتملة من حيث المعايير الديمقراطية”.

هذه الرغبة باستقرار الأوضاع في سوريا كانت واضحة جداً في التصريحات الأميركية التي رافقت رفع العقوبات، إذ أوضح ترامب في سياق حديثه خلال زيارته للسعودية أن ” هناك حكومة جديدة في سوريا نأمل أن تنجح بتحقيق الاستقرار”، إذ بدا واضحا من خلال تصريحات ترامب ولقائه مع الرئيس الشرع في الرياض أن واشنطن قد حسمت أمرها واختارت نهج التعاون مع الحكم الجديد في سوريا لتعطيه “فرصة للنمو”، وفق تعبير ترامب.

بدوره قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أمام جلسة استماع في مجلس الشيوخ في 20 مايو/ أيار إن رفع العقوبات سيساعد سوريا في منع حرب أهلية شاملة وفوضى.

من هنا يمكن فهم التحول الأميركي حيال التعامل مع المقاتلين الأجانب ليس كتنازل سياسي، بل كجزء من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تثبيت الحد الأدنى من النظام والانضباط داخل سوريا، وتحويلها من ساحة مفتوحة للصراع إلى دولة قابلة للتعامل السياسي والاقتصادي.

سوريا ودبلوماسية التطمين والتهدئة

في مواجهة التوجّس الدولي من ملف المقاتلين الأجانب، سعت الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع إلى نزع فتيل المخاوف الدولية عبر تبنّي خطاب هادئ وتطميني، يبرز استعدادها لضبط هذا الملف ضمن إطار الدولة لا خارجه.

وقد جاءت هذه الرسائل – المعلنة والضمنية – في أكثر من مناسبة سياسية وأمنية، سواء من خلال بيانات وزارة الدفاع السورية أو عبر لقاءات رسمية مع وفود دولية. فخلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع الرئيس الفرنسي ماكرون أوضح الرئيس أحمد الشرع أن الحكومة السورية تضمن لجميع دول العالم، أن المقاتلين الأجانب الذين بقوا في سوريا لن يشكلوا خطرا على أي من الدول المجاورة، ولن يُلحقوا الضرر ببلدانهم التي جاؤوا منها.

وفي هذا السياق يشير الباحث في الجماعات الإسلامية حسن أبو هنية أن التحول الأميركي الأخير في التعامل مع ملف المقاتلين الأجانب في سوريا لا يمكن فصله عن البراغماتية المتبادلة بين واشنطن والحكومة السورية الجديدة، فدمشق – عبر رسائل طمأنة مدروسة وسلوك ميداني منضبط – نجحت في بناء قدر من الثقة مع الإدارة الأميركية.

ويضيف هنية في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن واشنطن باتت ترى في الحكومة الجديدة بقيادة أحمد الشرع شريكًا أكثر واقعية واستقرارًا، خاصة في ظل التوافق الإقليمي المتزايد على دعمها. ومن هنا، لم يعد شرط طرد المقاتلين الأجانب أولوية أميركية.

وفي تصريح للإخبارية السورية في منتصف أيار الماضي أكد وزير الدفاع مرهف أبو قصرة أن الوزارة تعمل على ضبط كل الجهات العسكرية تحت وزارة الدفاع حتى يأتمر الجميع بأمر الوزارة كقوات عسكرية”، مضيفاً “لن نسمح لأي تجمع عسكري أن يكون خارج سلطة وزارة الدفاع”.

وكان الرئيس الشرع قد ألمح سابقا خلال مقابلة أجرتها صحيفة نيويورك تايمز في نيسان الماضي، إلى أن حكومته قد تمنح الجنسية السورية للمقاتلين الأجانب الذين عاشوا سنوات طويلة في سوريا و”ثبتوا إلى جانب الثورة” على حد قوله، إلّا أن هذا الطرح يثير مخاوف لدى عدد من الدول الغربية، التي تخشى من أن تتحول سوريا ملاذاً للمتطرفين، لكن الشرع سعى إلى طمأنتهم وفق الصحيفة، مؤكداً التزامه بمنع استخدام الأراضي السورية لتهديد أي دولة أخرى.

المقاتلون الإيغور.. بين الدمج والتطرف

لم يكن أمام الحكومة السورية الجديدة هامش كبير للمناورة في التعامل مع ملف المقاتلين الأجانب، خصوصاً في ظل هشاشة المرحلة الانتقالية وخطورة ترك هذه القوى دون أفق واضح. فاستبعادهم أو ترحيلهم بالقوة لن يكن مجرد قرار سياسي صعبـ بحسب مراقبين ـ بل مخاطرة أمنية حقيقية قد تفتح الباب أمام عودة كثيرين منهم إلى أحضان تنظيمات جهادية عابرة للحدود.

وكان مصدران مقربان من وزارة الدفاع السورية قالا لوكالة رويترز إن الشرع والمقربين منه حاولوا إقناع مفاوضين غربيين بأن ضم مقاتلين أجانب إلى الجيش سيكون أقل خطورة من التخلي عنهم، الأمر الذي قد يدفعهم إلى الانضمام مجددا لتنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة.

وفي هذا السياق يوضح الباحث حسن أبو هنية أن دمشق نجحت في إقناع واشنطن والعواصم الأوروبية بأن المرحلة تتطلب “حلولاً واقعية لا مثالية”، قائلاً: “أوضحت الحكومة السورية أنها أما احتمالين؛ إما أن تدمج هذه القوة ضمن وزارة الدفاع وتخضعها للقوانين السورية، أو أن تستجيب للضغوط بإخراجهم، فتدفعهم بذلك نحو التطرف، والانضمام إلى صفوف “داعش” أو “القاعدة”.

ومن الطبيعي في هذه الحالة ـ يتابع هنيةـ أن يعودوا للقتال في صفوف تنظيم داعش أو القاعدة أو حراس الدين. لهذا كان خيار الدمج هو الأكثر عقلانية، وهو ما أقنع واشنطن وحلفاءها بخفض سقف الشروط والتعامل بمرونة مع هذا الملف.

وفي خطوة فعلية في هذا الاتجاه قرر الحزب الإسلامي التركستاني، المؤلف في غالبية أفراده من الإيغور الصينيين حل الحزب والانضمام إلى وزارة الدفاع وفق شروطها. وقال عثمان بوغرا، وهو مسؤول سياسي في الحزب الإسلامي التركستاني، لرويترز في بيان مكتوب، إن الجماعة حلّت نفسها رسميا واندمجت في الجيش السوري، وأضاف أن الجماعة تعمل حاليا بالكامل تحت سلطة وزارة الدفاع، وتلتزم بالسياسات المتبعة في البلاد، وتحافظ على عدم الارتباط بأي كيانات أو جماعات خارجية.

ما علاقة الصين؟

لم يكن التحول الأميركي تجاه ملف المقاتلين الأجانب في سوريا نابعاً فقط من ضرورات محلية تتعلق بالمرحلة الانتقالية، بل عكس أيضاً موازين صراع أوسع بين القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين. إذ بات واضحاً أن واشنطن لا تنظر إلى الإيغور الموجودين في سوريا بوصفهم تهديدًا إرهابيًا صرفًا، بل ورقة جيوسياسية تستخدمها في مواجهة تمدد بكين ونفوذها الإقليمي والدولي.

ومن بين آلاف المقاتلين الأجانب الذين يُتوقع دمجهم في الفرقة 84 التابعة للجيش السوري الجديد، تنتمي النسبة الأكبر إلى “الحزب الإسلامي التركستاني”، وهو تنظيم جهادي إيغوري تعتبره الصين تهديدًا مباشرًا، في حين أزالت الولايات المتحدة اسمه من قوائم الإرهاب في عام 2020، في خطوة أثارت حينها الكثير من الجدل حول دوافعها السياسية.

ويؤكد الباحث في معهد كارنيغي، مهند الحاج علي، أن ملف المقاتلين الإيغور لا يمكن فصله عن التوتر الاستراتيجي المتصاعد بين واشنطن وبكين. فبحسب رأيه، تحظى قضية الإيغور باهتمام أميركي خاص، خصوصاً مع تركيز واشنطن المستمر على “الانتهاكات التي ترتكبها الصين ضد هذه الأقلية، ومساعيها لتغيير البنية الإثنية في إقليم شينجيانغ”.

ويرى الحاج علي في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن “هذا التحول يعكس رغبة أميركية في استثمار وجود الحزب التركستاني كورقة ضغط في مواجهة نفوذ الصين. فبدلاً من مطالبة الحكومة السورية الجديدة بطرد هؤلاء المقاتلين، يبدو أن واشنطن فضّلت القبول بدمجهم في الجيش الجديد، لاعتبارات عديدة منها أن وجودهم  في الجيش يمنح الولايات المتحدة فرصة لتوظيف هذا الملف ضمن معادلة تنافسها الاستراتيجي مع بكين”.

وبحسب تقرير صادر عن مجلة “فورين بوليسي” الأميركية فقد وصل آلاف الإيغور إلى سوريا عام 2012 قادمين من الصين عبر تركيا، وتقدر أعدادهم اليوم بنحو 15 ألف شخص، بينهم خمسة آلاف مقاتل، يتركزون في إدلب ومحيط جسر الشغور. ويطلق عليهم السوريون اسم “التركستان”، وقد أسسوا مدارس ومشاريع صغيرة من مطاعم ومحطات وقود، كما التحق المئات منهم بجامعة إدلب مجانًا، شأنهم شأن الطلاب السوريين.

تلفزيون سوريا

—————————————–

 تجربة المقاتلين الأجانب في البوسنة/ حسام جزماتي

2025.06.09

في حين تحفل المكتبة الجهادية بالمذكرات الأفغانية فإن تجارب أخرى بقيت في الظل إلى هذه الدرجة أو تلك. ولعل من أقلها توثيقاً مشاركة متطوعين عرب، وقليل من سواهم، في القتال في صف البوسنيين إبان الحرب التي دارت هناك بين عامي 1992 و1995، إثر إعلان جمهورية البوسنة والهرسك استقلالها.

لكن جهادياً مصرياً، هو أحمد حازم، يروي هذه القصة بتفصيل كاف في جزء كبير من كتاب أشمل ألفه بعنوان «تجلية الراية».

في البداية يرصد حازم تزامن إعلان الاستقلال وبدء الحرب مع خيبة الجهاديين العرب بتجربة أفغانستان وقتئذ، بعد انسحاب القوات السوفييتية الغازية وانهيار حلفائها وبدء قتال الإخوة من فصائل المجاهدين الأفغان التي لم يرغب معظم المهاجرين في المضي معها في حربها الأهلية وفضّل المغادرة.

وفي ذلك الوقت كانت البوسنة مكاناً مجهولاً بالنسبة إليهم. فتشكك بعضهم في إمكانية الجهاد لإقامة دولة إسلامية، كما تساءل آخرون عن نقاء راية البوسنيين، وسرت تخمينات بأنها كمين أعدته أجهزة المخابرات الغربية لتجميع المجاهدين في قلب أوروبا وقتلهم. في حين استهان آخرون بالأمر وسارعوا إلى البوسنة.

وقد كان أنور شعبان من أوائل هؤلاء، قادماً من المركز الإسلامي الذي أسسه في مدينة ميلانو بعدما حاز الجنسية الإيطالية، إثر ملاحقته في بلده مصر لانتمائه إلى «الجماعة الإسلامية» التي كانت نشطة.

من هذين العنصرين؛ أعضاء «الجماعة الإسلامية» واللاجئين العرب في إيطاليا، سيأتي منبعان رئيسيان للجهاد البوسني. فقد كانت «الجماعة» تجد صعوبة في الإنفاق على كوادرها وعائلاتهم المهاجرة بعدما غادرت هيئات الإغاثة الخليجية مدينة بيشاور الباكستانية، المركزية في الجهاد الأفغاني، فقررت «الجماعة» إرسال أفراد منها إلى البوسنة كنوع من التجربة، سرعان ما تبعهم آخرون بحثاً عن متابعة الجهاد. ومن جهة أخرى استقطب مركز ميلانو أعداداً من المهاجرين من بلدان المغرب العربي على الأرجح، كانوا يبحثون عن طريق للخلاص الروحي بعد تجارب كان بعضها غير مشروع.

ومن الضفة الثالثة جاء المتطوعون الخليجيون؛ متبرعون ربما راودتهم فكرة أن يصبحوا بن لادن الساحة الجديدة، ومقاتلون استثارت حميتهم الانتهاكات المريعة التي ارتكبتها القوات الصربية من قتل واغتصاب. وكان الجهاد في البوسنة مرضياً عنه من الحكومات الخليجية ومن مؤسساتها الدينية، فكانت التبرعات تصل من رجال أعمال وشخصيات معروفة، وكانت أجهزة الجيش والشرطة تمنح منسوبيها إجازات بلا راتب للمشاركة في هذه المعارك.

في هذا السياق، وبعد استقرار النواة الأولى ببضعة أسابيع، وصل أبو عبد العزيز الجدّاوي (محمود باحاذق) أبرز مؤسسي كتيبة المجاهدين. وكان من قدامى المقاتلين في أفغانستان، كما اشتهر كأحد «مشايخ الحقيبة» القادرين على جمع التبرعات. وكان قد قام برحلات في كشمير وأريتريا وغيرها إلى أن وصل إلى البوسنة.

منذ البداية قرر أبو عبد العزيز إخضاع كتيبته لسلطات الحكم البوسني الوليد برئاسة علي عزت بيغوفيتش. وفي لقاء أجرته معه جريدة التايمز اللندنية في آب 1992 قال: «نحن تحت إشراف وسيطرة القوات البوسنية. تعليماتي لرجالي المجاهدين وشرطي عليهم هو أننا لسنا أصحاب قرار قيادي هنا وليست لنا جبهة عسكرية منفصلة، نحن نعمل تحت إشراف البوسنيين وسيطرتهم. متى انتهت الحرب عدنا إلى بلادنا». كما حدد الجدّاوي منذ البداية الإطار العام لمهمته وهو تخليص البوسنة من المحتل والرحيل فور توقف العمليات الحربية من دون الارتباط بإقامة دولة إسلامية أو دولة خلافة أو جعل البوسنة داراً للهجرة كما كانت الحال في أفغانستان قبل أشهر بالنسبة لآلاف المتطوعين من خارج الخليج، أي من الذين لا يستطيعون العودة إلى ديارهم. لكن الجداوي سرعان ما غادر، لأسبابه الخاصة ربما، بعدما وصل عدد أعضاء الكتيبة إلى العشرات، وبعد أن أرست تعاونها مع الجيش البوسني الوليد.

وتولى قيادتها بعده عدة أمراء كان أولهم شاب مصري أسمى نفسه وحي الدين، راسلَ، في صيف 1993 قيادة الجيش لاعتبار المتطوعين كتيبة من كتائبه. تلقى الجنرال راسم ديليتش، الذي دأب على الشكوى من عدم انضباط المتطوعين، الطلب وأصدر أمره بضمهم إلى «تشكيل مؤقت» مما يدل على نية حلهم في المستقبل. وأصبحت الكتيبة جزءاً من اللواء السابع في الفيلق الثالث.

في الحقيقة كان شباب ذوو ميول سلفية يُصدَمون بنمط الحياة الغربي الذي يعيشه المسلمون الذين أتوا لنصرتهم. وفي أكثر من مناسبة حاول بعضهم تحطيم محلات تبيع الخمور ومقاه للعب القمار وأماكن للدعارة. وحاول آخرون تدمير كنيسة فارغة كانت مركزاً سابقاً لقيادة قوات كرواتية فمنعهم جنرال بوسني وكاد الأمر أن يتطور إلى صدام. وفي إحدى المرات أرسل أحد الجنرالات كتاباً لقائد الجيش يتذمر فيه من «أساليب الحرب غير التقليدية الخارجة عن معاهدة جنيف التي يتبعها أعضاء كتيبة المجاهدين والتي قد تسبب أذى فادحاً لجمهورية البوسنة». وأخذت وحدات بوسنية مسلحة خارج العاصمة سراييفو، تعمل بشكل مستقل تقريباً، تتخذ اتجاهاً شبه إسلامي تأثراً بنجاحات كتيبة المجاهدين.

وعلى الرغم من أن المتطوعين لم يكونوا نسبة عالية من مجمل القوات، لكن أهميتهم أتت من استلامهم النقاط الحساسة.

انتهت الحرب البوسنية باتفاق دايتون الذي رفضته بعض قيادات الجهاديين في البداية، ليس فقط لأنه يشترط إخراجهم من البلاد بل لأنهم رأوا أنه مجحف في حق المسلمين. لكنهم سرعان ما رجعوا إلى قواعدهم التأسيسية بتنفيذ ما اختاره البوسنيون عبر زعيمهم بيغوفيتش.

في ذلك الوقت كان هناك عرب خارج الكتيبة الجهادية أكثر ممن هم في داخلها، وإن حوت أكبر عدد منهم. فاجتمع مجلس شورى الكتيبة مع المجموعات الأخرى وقرروا أن حل التشكيلات الجهادية هو أفضل الخيارات. وبناء على ذلك أعلن قائدها الأخير، أبو المعالي الجزائري، في احتفال بذلك حضره قائد الجيش، أنه «يتفهم القرار السياسي»، وطلب من الشعب البوسني «التسلح بالإسلام في الحرب القادمة التي لن تخاض بالسلاح». وخلال أيام بدأ خروج المتطوعين القادرين على مغادرة البلاد والراغبين في ذلك، بعد تقليدهم أوسمة رسمية تعبيراً عن الامتنان. وأحيل أبو المعالي على التقاعد بعد منحه رتبة رائد في الجيش. وسُمح له، ولاثنين فقط من أقرب معاونيه المتبقين، بحمل مسدسات مرخصة.

قرر أبو المعالي تحويل الكتيبة إلى جماعة اقتصادية لتستثمر ما كان في صندوقها من تبرعات، وما قدمته الهيئة العليا للإغاثة السعودية من مبالغ للمقاتلين السابقين الذين أقاموا في قرية منضبطة بأنظمة واضحة بعد أن خلت من سكانها في أثناء الحرب.

ورغم أن الجهاديين المتقاعدين لم يكونوا راضين عن الحياة العامة في البلاد التي دافعوا عنها، ثم اضطروا إلى الإقامة فيها، إلا أنهم التزموا بقوانينها طوال مدة سكنهم. لكن أعدادهم صارت تقل بالتدريج، ولا سيما مع مشاركة أحزاب لا تميل إليهم في الحكم، أخذت بالتضييق عليهم رغم زواج بعضهم من بوسنيات وحصولهم على الجنسية. غير أن الموضوع ظل في إطار القانون والتظلم والسلمية.

أما أبو المعالي نفسه فاقتنع باقتراح متبرع ثري بأن ينقل نشاطه الاقتصادي إلى أفغانستان. لكن التوقيت كان سيئاً حين صادف أشهراً فقط قبل عمليات 11 أيلول 2001 وملاحقة العرب هناك. فتسللت المجموعة إلى إيران حيث قبض عليها ثم أطلق سراحها، لتسافر إلى ماليزيا وتنقطع أخبار أفرادها..

تلفزيون سوريا

————————————-

بين دمج المقاتلين الأجانب وتصاعد التهديدات الإسرائيلية/ مالك الحافظ

2025.06.07

في واحدة من أكثر الخطوات إثارة للقلق في المرحلة الانتقالية السورية، وضمن سياق لم تُحسم فيه بعد أسئلة السيادة والتمثيل والمحاسبة، يُطرح الحديث عن توافق أميركي مع دمشق حول دمج المقاتلين الجهاديين المتشددين/الأجانب ضمن هيكل “الجيش الوطني الجديد” في سوريا.

تتجاوز هذه الخطوة بعدها الإداري أو العسكري لتطرح ضمناً، سؤالاً أكبر حول طبيعة البنية التي تُبنى باسم “الجيش الوطني”، فهل تستطيع المرحلة الانتقالية إنتاج نموذج وطني يستند إلى بناء مؤسسي جامع، لا إلى دمج التشكيلات العابرة للهويّة الوطنية في مؤسسات تُفترض أنها تمثل إرادة السوريين جميعاً وحماية أمنهم وحدودهم ضمن مبادئ ومنطلقات وطنية؟ وحتى هذه اللحظة، لا تظهر معالم واضحة لعقد وطني حقيقي يعيد تعريف الانتماء والتمثيل على أسس مدنية وشاملة.

هذا التوجه لا يستند إلى منطق الدولة المؤسسية وإنما ينطلق من ترتيبات ميدانية فرضها الواقع بعد انهيار نظام الأسد. فالمؤسسة العسكرية التي يُفترض أن تكون تجسيداً لسيادة جامعة، تبدو هنا وكأنها تُشكَّل كوعاء احتوائي لمجموعات مقاتلة ارتبطت بسياقات عابرة للهوية الوطنية، وليس كمؤسسة تُبنى على أسس تمثيلية تعبّر عن رؤية مشتركة لمستقبل سوريا.

يتكشّف خلف قرار دمج المقاتلين الأجانب ما هو أبعد من احتمالية تسوية مؤقتة؛ إنّه تموضع خطير خارج منطق الدولة ومفهوم الوطن، يستند إلى توازنات قسرية فرضتها خرائب ما بعد الحرب. فحين يُمنح مقاتلون أجانب، لم يخضعوا لأي مراجعة فكرية جذرية، موقعاً داخل البنية العسكرية السورية الجديدة، فإننا نشهد إعادة تعريف خطيرة لهوية المؤسسات.

إنّ السلطة الانتقالية، تُقدم على خطوة من هذا النوع وكأنها تملك تفويضاً سيادياً لا يملكه إلا برلمان منتخب، ولا يصدر إلا عن عقد اجتماعي ناضج. فقرار تجنيس أو إدماج مقاتلين غير سوريين، لا يمكن النظر إليه إلا كفعل تأسيسي يُسقط الحدود الفاصلة بين الدولة والتنظيم، وبين الوطن ومشروع “الأمّة” العابر له. إذ في غياب مساءلة حقيقية أو محاسبة عادلة، وفي ظل فراغ تشريعي شامل، يغدو كل قرار في هذا السياق متجاوزاً لصلاحيات المرحلة الراهنة.

المقاتل الذي يتبنّى عقيدة لا ترى في الوطن إطاراً سيادياً ولا في الدولة مرجعية سياسية، لا يمكن تجنيسه وإدماجه في مؤسسات يُفترض أنها تمثّل العقد الاجتماعي الجامع. إذ يتحوّل مثل هذا الإدماج إلى صيغة تعايش قسري بين مشروع الدولة ومشروع “الدولة–الظل”، بكل ما يحمله من مخاطر تقويضية للبنية المؤسسية الوليدة.

ذلك أنّ العقيدة التي يحملها كثير من هؤلاء المقاتلين لا تتأسس على مبدأ المواطنة، ولا على التراتب القانوني–الدستوري، وإنما على منطق الولاء للعقيدة العابرة، حيث تتحوّل “الأمة” إلى تصور ميتافيزيقي يغيب فيه الوطن كإطار سياسي وقانوني جامع، وتذوب الدولة أمام تصوّر أممي للشرعية، لا يعترف بالجغرافيا ولا يعوّل على السيادة، وإنما يختزل الانتماء في العقيدة العابرة للحدود.

في هذا السياق، يتعدى إدماجهم المشكلة الأمنية أو الديمغرافية، إلى أزمة تأويل للدولة ذاتها ومجالها الرمزي. فبُنية الجيش إن كانت حاملة لمشروع وطني، يجب أن تقوم على سردية سيادية داخلية، لا على مساكنة قسرية بين سرديات متضادة؛ سردية المواطن الذي يسعى لاستعادة الدولة، وسردية المقاتل الذي لم يدخل الحرب لأجل الوطن بل لأجل نصوص العبور إلى “التمكين”.

تُحذّر العديد من الأدبيات النقدية للدراسات الأمنية، خصوصاً تلك المتأثرة بأعمال باري بوزان وأوليه ويفر، من أنّ الدول الخارجة من النزاع تميل أحياناً إلى “أمننة” خياراتها من دون عقلنتها، أي تسويغ الاستثناء باسم الضرورة، حتى لو أدى ذلك إلى إعادة إنتاج شروط النزاع نفسه. وبهذا المعنى فإن دمج المقاتلين الأجانب من دون إعادة تفكيك مشروعهم العقدي–الذهني، بالإضافة إلى أنه لا يسهم في بناء الاستقرار، فإنه يتجه إلى خلق “أمننة متفجرة” قد تنفجر لاحقاً في وجه أي عملية سياسية.

المقصود بـ”الأمننة المتفجرة” هو أن يُعاد إنتاج الخطر كعنصر مكوّن داخل بنية النظام الأمني ذاته. ففي حالة إدماج المقاتلين الأجانب، تتشكل نواة صراعية داخل الجيش نفسه، تنتمي لعقيدة مغايرة أو مناقضة للعقيدة الوطنية. ما يعني أن الأمن هنا يُبنى على تساكن هش بين روايات متضادة، سرعان ما يمكن أن تنفجر على شكل صراعات داخلية، انشقاقات، أو حتى تمرّدات. وبذلك تتحول المؤسسة من ضمانة استقرار إلى بيئة كامنة للعنف المؤجل، ومن أداة ضبط إلى مسرح لاحق للفوضى المُمأسسة.

لقد بات واضحاً أنّ لدينا معضلة حقيقية تتجاوز مسألة دمج وتجنيس المقاتلين الأجانب وتتجه كمؤشر نفي صريح لأي محاولة لتأسيس دولة مدنية، وهو ما يُنذر في المستقبل القريب بعودة العنف، كعُرف جديد قد يتم تبنيه تحت غطاء الحاجة والاستقرار.

في هذا السياق، يمكن استحضار مفهوم تفكك السيادة كما تناولته دراسات الحوكمة العابرة للدولة، ولا سيما في أعمال ستيفن كراسنر حول “السيادة المفككة” التي تُمارس فيها السلطات من قِبل جهات متعددة خارج الإطار الوطني. فحين تُنتزع أدوات العنف من يد الدولة وتُوزّع على شبكات تتقاطع مصالحها ولا تتقاطع هوياتها، تغدو السيادة مجرد قشرة رمزية، ويبدأ الحقل الأمني في التآكل من الداخل.

لكن التحوّلات الحساسة في المشهد السوري لا تقف عند ملف دمج وتجنيس المقاتلين الأجانب. فالتصعيد الإسرائيلي الأخير في الجنوب السوري يبدو أنه يتجه نحو مرحلة أكثر تعقيداً وحساسية، فالضربات التي طالت مواقع متفرقة، لا يمكن قراءتها إلا كمؤشرات على محاولات متزايدة لإعادة ترتيب خطوط النفوذ الأمني والعسكري، بعيداً عن أي إطار تفاهم معلن.

هذا النمط من الاستهداف يعكس رغبة إسرائيلية واضحة في فرض وقائع جديدة على الأرض، من دون المرور عبر المسارات السياسية المعتادة. كما أن الحديث المتنامي في تقارير غير رسمية عن ترتيبات محتملة في الجنوب السوري، ومن ضمنها الحديث عن مناطق عازلة أو خطوط فصل، يعكس اتجاهاً إقليمياً تروج له وتتبناه إسرائيل لإعادة هندسة الجغرافيا الأمنية، في منطقة شديدة الهشاشة، لم تتبلور بعد فيها معادلات الاستقرار الدائم.

ما جرى ويجري هو تفكيك تدريجي لبنية الردع التقليدية التي كانت تُحيط بجنوب سوريا، مقابل بناء نمط جديد من “الضبط بالاختراق”، أي أن الأمن سيُفرض من خارج الحدود، ضمن توازنات إقليمية شديدة التعقيد. وفي ظل الفراغات السياسية والدستورية التي تشوب المرحلة الانتقالية، تُصبح الجغرافيا الجنوبية مرشّحة لتكون مسرحاً لتفاهمات فوق–وطنية، لا تعكس بالضرورة المزاج الشعبي، ولا تستند إلى عملية تفاوضية شاملة أو عقد وطني معلن.

وإذا كانت بعض الدول بعد النزاعات تعتمد على إعادة بناء مركز الثقل الوطني من أطرافها الحدودية، فإن ما يحدث في الجنوب السوري قد يُفهم في غياب مسار سيادي شامل كمحاولة لتثبيت نموذج أمني هش، يعتمد على توافقات صامتة أكثر مما يستند إلى عقد سياسي موحّد.

في هذا المعنى، فإن التحدي يندرج ضمن ضرورة الحفاظ على الجنوب بوصفه جزءاً من الجغرافيا الوطنية الجامعة، لا كمنطقة أمنية ملحقة بخارطة مصالح إقليمية.

ووسط هذه التطورات، يبرز الجنوب السوري كساحة اختبار حقيقية لتحديات الأمن والسيادة والاستقرار، ويضع الجميع أمام مسؤولية حماية هذه المساحة من الانزلاق إلى معادلات تتجاوز منطق الدولة، وتفتح المجال لتفاهمات تتشكّل خارج الأطر الوطنية الجامعة.

تلفزيون سوريا

——————————–

 في السبب العميق للخشية من إدماج المقاتلين الأجانب/ إياد الجعفري

2025.06.06

في تفكيك مواقف السوريين المتضاربة حيال قضية إدماج المقاتلين الأجانب في الجيش السوري، نلحظ أن معظم حجج الطرفين الرئيسيين، المؤيد بالمطلق، والمعارض بالمطلق، تنطلق أساساً من موقف مسبق حيال السلطة الحالية في سوريا، وليس من القضية ذاتها. إذ تبدو جميع تلك الحجج، ظرفية، تتعلّق بكيفية تعامل السلطة مع هذا الملف الشائك، أكثر مما تتعلّق بحيثيات الملف ذاته.

يمكن في هذا السياق أن نورد أمثلة على حجج المعارضين لهذا الإدماج. فالتركيز على الخلفية العقائدية الجهادية للمقاتلين الأجانب، يتجاهل الخلفية العقائدية القريبة، إن لم تكن المطابقة، التي تدين بها القاعدة القتالية من السوريين، والتي تستند إليها منظومة السلطة الحالية. وهي القاعدة الأكبر عدداً، مقارنة بنظرائها من الأجانب. كما أنها البيئة الحاضنة لهؤلاء الأجانب، التي تشكّل أحد الدوافع الرئيسة التي تجعل السلطة تعمل على إدارة هذا الملف الشائك، بحذر كبير. فتلك البيئة الحاضنة، لن تقبل مطلقاً، المساس بشركاء الجبهات والدم المسفوك المشترك على الأرض، حتى لحظة إسقاط النظام البائد.

في السياق ذاته، يركّز كثيرون على مصير العقيدة القتالية للجيش السوري، في ضوء إدماج المقاتلين الأجانب، متجاهلاً أيضاً، أن تلك العقيدة القتالية تُصاغ بالفعل، باتجاه إسلامي منسجم مع تركيبة مكونات السلطة، التي تشكّل “هيئة تحرير الشام” –سابقاً-، عمودها الفقري. فإدماج مقاتلين أجانب، من خلفية جهادية، بأعداد تتراوح بين 3500 و 5000 مقاتل، لن يشكّل فرقاً جوهرياً في جيشٍ يضم عشرات آلاف المقاتلين، غالبيتهم العظمى من السوريين ذوي الخلفية الجهادية، أيضاً.

أما الحديث عن منح المقاتلين الأجانب المدمجين، الجنسية السورية، فيبدو أقل الحجج وجاهة، نظراً للبعد “التوطيني” المتعلق بالحاجة لخلق انتماء لهؤلاء الأفراد، يحثهم على الخضوع للسلطة في سياق محلي، لا عابر للحدود، بعد أن فقدوا القدرة على العودة لأوطانهم، نظراً لأنهم مدانون فيها. فخلق أفق للاستقرار بعيد المدى، لدى هؤلاء الأفراد، من أبرز العوامل التي تساعد على تشذيب خلفيتهم الجهادية غير المرغوب في بروزها، إلا في سياق يخدم مصالح السلطة. ومن هنا، تتوضح إحدى أبرز مصادر القلق حيال عملية الإدماج تلك. فالجانب الشائك هنا، يأتي من زاوية: كيف ستستغلهم السلطة القائمة؟ وفي أي اتجاه؟

وفي السياق أيضاً، يتم التركيز على العقيدة العابرة للحدود، التي تحكم عقلية هؤلاء المقاتلين الأجانب، بوصفها مسماراً في نعش “الوطنية السورية” المأمول تجسيدها في مؤسسة الجيش الجديد. ومن المستغرب معالجة هذا الملف، من هذه الزاوية. فتجربة قيادة هيئة تحرير الشام –سابقاً- في ضبط الإيقاع الجهادي، للمقاتلين الأجانب المتحالفين معها، على مدار الأعوام التي تلت الـ 2017، ونجاحها في نزع سمة –العابر للحدود- من نشاطهم القتالي، وإخضاعهم لأولويات “الهيئة” في إقناع الغرب، منذ ذلك التاريخ، بأنها لا تشكّل تهديداً له.. تلك التجربة، على مدار السنوات السبع الفائتة –على الأقل-، تشكّل ركيزة قبول الغرب، اليوم، بالرهان على سلطة الرئيس أحمد الشرع، في إدارة المشهد السوري الشديد التعقيد. فخلال تلك الحقبة، أثبتت “هيئة تحرير الشام” قيمتها النوعية بالنسبة لكثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين، حيال ملفَّين مهمَّين: ضبط الجهاديين في منطقة سيطرتها، والإمساك بملف المهاجرين منهم، الذين لا ترغب دولهم في عودتهم. هذا النجاح السابق، هو ما يُبنى عليه الآن، وهو سبب تراجع الأميركيين عن شرط إبعاد المقاتلين الأجانب عن الجيش السوري الجديد، والقبول برؤية الشرع لإدماجهم.

ولا يعني هذا النجاح السابق، أن لا مخاطر في المرحلة المقبلة. لكنه يعني، أنه يتم البناء على خبرة سابقة في إدارة تعقيدات العلاقة مع أصناف الجهاديين، وتحييد أو عزل أعتاهم، وتطويع الباقي بما يخدم مصالح قيادة هيئة تحرير الشام – سابقاً-. وهي القيادة التي ينحدر منها، اليوم، جلّ أصحاب المواقع الأكثر حساسية في تركيبة السلطة الراهنة.

أما من زاوية المعترضين على هذا الإدماج، من جراء غياب الأساس القانوني له. فيمكن الإقرار بوجاهة هذه الحجة بالتأكيد. لكنها تبدو أقرب للترف، في مشهد تستفرد فيه السلطة الحالية، بالفعل، بمصادر الحكم والتشريع، وسط سيولة قانونية جليّة في كل الملفات الشائكة التي تعيشها سوريا. وليس في ملف إدماج المقاتلين الأجانب، فحسب. ومن هنا، يتبدى أيضاً السبب العميق لمخاوف المعترضين، المتمثّل في الخشية من أن تكون هذه السيولة القانونية، هي السمة التي ستحكم أداء السلطة الحالية لسنوات مقبلة، لا لفترة مؤقتة محدودة زمنياً وخاضعة لاعتبارات الانتقال السياسي والأمني القائم.

هل من حلول أفضل لهذا الملف الشائك؟ يحيلنا هذا السؤال مجدداً إلى الدوافع العميقة للمعترضين على إدماج المقاتلين الأجانب. فهم، في معظم الحالات، لا ينطلقون من المعطيات الواقعية المجرّدة، بقدر ما ينطلقون من مواقف مسبقة من السلطة، التي يخشون أنها بصدد التأسيس لرأس حربة “أصمّ” مستعد للانخراط ضد مناوئي السلطة، بشراسة وانضباط مشهود له بالأوامر، مقارنة بنظرائهم من السوريين. وهذا ما يحيلنا إلى النقطة ذاتها. فإن كان موقفك إيجابياً –أو حتى حيادياً- من السلطة، فستجد أن الحل المطروح –إدماج المقاتلين الأجانب- هو أفضل المتاح. أما إن كنت تخشى من الاستفراد بمستقبل البلاد من جانب سلطة الشرع، بناء على مشاهداتك اليومية لكيفية توزيع المناصب والمواقع الحسّاسة على المقرّبين من قيادة “الهيئة” سابقاً، فسترى في لواء المقاتلين الأجانب، المزمع تشكيله، “رأس حربة” مستقبلي ضدك.

تلفزيون سوريا

—————————

معضلة الجهاديين الأجانب في الجيش/ لمى قنوت

شكل تصريح مبعوث الرئيس الأمريكي إلى سوريا، توماس باراك، حول موافقة الولايات المتحدة على خطة طرحتها سوريا للسماح لآلاف من المقاتلين الأجانب بالانضمام للجيش السوري الجديد، “بشرط أن يحدث ذلك بشفافية”، بعدًا إضافيًا، لا يقبل الشك، حول طبيعة المرحلة ونوع نظام الحكم الذي تكرسه الإدارة الانتقالية، فعهد “الازدهار” الذي يتم الترويج له، مشروع مركزي أحادي فئوي، يتشكل على أسس فوقية، بعيدًا عن عقد اجتماعي وعملية سياسية تضمينية تشاركية شاملة، وفي غياب لسيادة القانون ومناخ بعيد عن الشفافية، ولولا ما تنشره أو تسربه وسائل الإعلام الغربية لما علم السوريون، رجالًا ونساء بتنوعاتهن، بمعظم السياسات التي تنوي السلطة اعتمادها والمشاريع والخطط التي تقدمها للدول، على قاعدة أولوية إرضاء الخارج، طمعًا بالاعتراف والشرعية واستكمال رفع العقوبات.

ورغم معرفة السلطة الحاكمة بقلق سوريين من المنهج الذي تتبعه بشأن بناء جيش وطني، وخطورة ضم جهاديين أجانب في بنيته كفرقة واحدة، لما في ذلك من أبعاد تتعلق بمأسسة العقلية الجهادية العابرة للحدود، وتهديد للأمن الوطني، أو تحولهم مستقبلًا كأداة للصراعات، بدل حل معضلة وجودهم إنسانيًا وبشكل قانوني، وتحديدًا لمن لا يستطيعون العودة إلى بلادهم بسبب الاضطهاد، وقاتلوا في صفوف عملية “ردع العدوان”، ولم تتلطخ أيديهم بقتل المدنيين، فبإمكان الإدارة منحهم حق اللجوء الإنساني وإعادة تأهيلهم وتمكينهم من الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم والتدريب المهني والحق في العمل، أو منحهم إقامات يمكن تجديدها بناء على التزامهم بالقانون أسوة بالعديد من الدول، بدلًا من سعيها لضمهم للجيش وتبريرها لذلك بالخشية من انضمامهم لـتنظيمي “داعش” و”القاعدة”، والذي هو إقرار صريح من السلطة، بتطرف بعضهم على الأقل، ورغبتها في بناء جيش مؤدلج ولاؤه للسلطة ورئيسها لا للدولة السورية.

وعلاوة على ذلك، فإن اتخاذ السلطة قرار ضمهم وتجنيسهم قبل صدور تقرير ونتائج عمل لجنة التحقيق وتقصي الحقائق التي شكلها أحمد الشرع في 9 من آذار 2025، من أجل الكشف عن الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت منذ 6 من آذار الماضي في الساحل السوري ضد المدنيين من منبت علوي، ومؤسسات عامة ورجال من الجيش والأمن العام، والتي يعتقد أن يكونوا جزءًا من الفصائل التي تورطت فيها، يعني حمايتهم من المحاسبة بأحسن تقدير، وخاصة أن جرائم قتل مواطنين، نساء ورجالًا، من منبت علوي لم تتوقف حتى يومنا هذا، وتنتقل من مكان لآخر، من عش الورور إلى الربيعة، والدالية، وبيت عانا، ومشقيتا وغيرها من المناطق، وتستباح ممتلكات أسر ويحتجز شبان تعسفيًا وتختطف نساء من الطائفة نفسها، دون أن تضع السلطة حدًا لجرائم العنف الطائفي وتُحاسب مرتكبيها من فصائل وأفراد ينضوون تحت سلطتها.

وفضلًا عن ذلك، فإن ضم جهاديين كانوا أعضاء في شركات مقاولات عسكرية جهادية خاصة، أو ما زالوا فيها، مثل “ملحمة تكتيكال -Malhama Tactical ” والتي كان يرأسها أوزبكي يعرف باسم “أبو رفيق”، وكانت في سوريا منذ عام 2016، وشركة “أويغور يورتوغ تاكتيكال” التي تأسست في 2018، وشركتي “مهاجر تاكتيكال” ذات القيادة الأوزبكية و”ألبانيان تاكتيكال” اللتين تأسستا في عام 2022، فإن أعضاء هذه الشركات هم بمثابة مرتزقة بحسب العرف العسكري، ولكن بأيديولوجيا جهادية قد ترقى في بعض الأحيان لأيديولوجيا تكفيرية لا يمكن لحملتها التعايش بسلام مع شعب متنوع مثل الشعب السوري.

إن إصرار السلطة الانتقالية على ضم الجهاديين الأجانب في الجيش، ككتلة واحدة في الفرقة 84، قُدّر عدد الإيغور منهم بـ3500 مقاتل ينتمون إلى “الحزب الإسلامي التركستاني”، وقبول الأمريكي به، بدل مطلبهم السابق في إبعادهم عن أي مناصب قيادية حساسة في هيكل السلطة، ثم طلب إخراجهم من سوريا كأحد الشروط لتخفيف العقوبات الأمريكية، فتح الباب أمام تدخل الأمريكي العميق في تركيبة وبنية الجيش وإملاءات لن تتوقف، بعد شرط الشفافية الذي ورد في تصريح توماس باراك، والذي أوحت صيغته وكأنه يمنح موافقة على شأن يتعلق بجيشهم لا بجيش دولة أخرى، ومن جهة أخرى سيؤدي إلى توتر العلاقة الدبلوماسية مع الصين وإحجام شركات صينية عن المشاركة في إعادة الإعمار، بالإضافة إلى أن وجود جهاديين من آسيا الوسطى في الجيش أيضًا، سيعقد العلاقة مع روسيا، وخاصة بعد تصريح رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، جيم ريش، بضرورة طرد روسيا من سوريا، وهو يتعارض مع المقاربة المتوازنة التي تنتهجها الإدارة الانتقالية مع روسيا.

تغامر وتخاطر السلطة الانتقالية في النهج الذي تتبعه في بناء جيش وطني، سواء كان في تسريح من لم تتلطخ أيدهم بدماء السوريين والسوريات خلال حرب النظام البائد على الشعب، أو في عدم استدعاء الضباط الذين انشقوا عن النظام، وقرار ضم الجهاديين الأجانب ضمن كتلة في الجيش هو استكمال لمروحة الأخطاء، وخاصة أنها تتخذ قرارات بغياب مجلس تشريعي، وأي شكل من الرقابة والمساءلة المدنية، مما يجعلها معضلة مركزية في مأسسة التطرف ضمن جيش عقائدي يوالي السلطة، ويحمي مرتكبي الجرائم والانتهاكات ويعزز ثقافة الإفلات من العقاب، ويطبع مع استمرارية عنف المعسكر الطائفي في سوريا بدلًا من إقامة دولة حديثة قائمة على شرعة حقوق الإنسان والحرية والتعددية السياسية وسيادة القانون.

عنب بلدي

———————————

المقاتلون الأجانب وعقدة المنشار/ غزوان قرنفل

في حمأة انقسام السوريين، كما هو معتاد، بين رافض لتجنيس المقاتلين الأجانب وبين مؤيد لتجنيسهم وضمهم لبنية الجيش السوري الجديد، ومؤيد لخطوة السلطة وقرارها بهذا الاتجاه، خصوصًا بعد أن حصلت على الضوء الأخضر الأمريكي بهذا الشأن، سها الجميع عن قرار كانت أصدرته السلطة الانتقالية فعلًا قبل ذلك بكثير، قضى بتعيين ستة مقاتلين أجانب من جنسيات مختلفة في مراكز قيادية عليا ضمن بنية الجيش، وقبل تجنيسهم حتى، وكذلك صدور قرار بضم المقاتلين الأجانب جلهم لبنية الجيش الجديد ضمن لواء خاص بهم، وأيضًا قبل أن يتم تجنيسهم، وهي سابقة ربما لم نسمع بها أو نقرأ عنها في أي دولة من دول العالم التي تقيم وزنًا واحترامًا للقانون ولشعبها، أو تزعم أنها تفعل ذلك!

وأنا هنا لم أناقش بعد مسألة تجنيسهم من عدمها، وإنما أحاول القول إن أي سلطة انتقالية اعتمدت قواعد دستورية وادعت أنها ستحترم القانون وتمتثل في كل ما تتخذه من قرارات، وما تقوم به من إجراءات لموجبات القانون، باعتبارها انتقلت من الشرعية “الثورية”، كما يقال، إلى الشرعية الدستورية، تجسيدًا لتصريحها بالانتقال من مرحلة الثورة الى مرحلة بناء الدولة، فلا يحق لها والحال كذلك أن تتخذ إجراء من هذا القبيل وتقوم بتعيين أجانب لا يحملون الجنسية السورية في مراكز قيادية عليا بالجيش أو القوى الأمنية، ولا حتى قبول ضم المقاتلين الأجانب للجيش السوري قبل تمتعهم قانونيًا ودستوريًا بجنسية الدولة السورية، احترامًا لمبدأ السيادة الوطنية التي لا يجوز التهاون بها أو العبث فيها. وبالتالي فإن كل ما اتخذته السلطة الحالية من إجراءات في هذا السياق هو انتهاك للقانون وخرق لقواعد الدستور، لا يصححه “فرمان” بتجنيسهم الآن.

أما ما يتعلق بأحقية منح هؤلاء الجنسية السورية أو حجبها عنهم والمسوغات التي يسوقها طرفا الانقسام السوري بهذا الشأن، دعمًا لوجهة نظرهم وطعنًا بوجهة نظر الطرف الآخر المغاير، فأتمنى أولًا أن نعتاد على آلية تفكير مختلف عما نتبعه حتى الآن، في كل قضايانا التي تكون مثار خلاف وانقسام في الرأي. تفكير يأخذ بالاعتبار أنه لا يتعين أن يتبنى كل الناس وجهة نظر أو رؤية أو موقف واحد من أي قضية، سواء تلك المتعلقة بتجنيس المقاتلين الأجانب أو غيرها من القضايا المهمة التي غالبًا تكون مثار خلاف وانقسام، وأن تعدد هذه الرؤى والمواقف هو مسألة غاية في الإيجابية لأنها تنبئ باهتمام عام وحرص على أن يكون بلدنا نموذجًا إيجابيًا وبارزًا وفاعلًا إيجابيًا لشعبه ومحيطه، وليس مدعاة للطعن بالآخر والتشكيك بوطنيته، وأن نضع كل القضايا مثار الخلاف والانقسام ضمن ميزان مصلحتنا الوطنية العليا، وضمن هذا المنظور يقدم كل صاحب رأي رأيه ويفسر للآخرين كيف أن ذلك هو الأصوب لتعزيز وخدمة تلك المصلحة العليا.

ضمن هذا المعيار، أعتقد أن خيار تجنيس المقاتلين الأجانب من حيث المبدأ وضمن سياق المرحلة الحالية ليس خيارًا صائبًا وفي غير محله ووقته أبدًا، وأن ثمة خيارات أخرى أعتقد أنها أكثر نجاعة بما يخدم المصالح السورية العليا وبما لا يتنكر لإسهام هؤلاء بشكل أو بآخر في دعم خيار إسقاط النظام السابق، رغم إيماني الشخصي أن هؤلاء ما جاؤوا أصلًا نصرة لثورة السوريين ولا لدعم خياراتهم في التحول الديمقراطي، ولا انتصارًا لقيمة الإنسان الذي كانت تسحقه آلة الموت الإجرامية والطائفية، وإلا فإنه كان الأولى بهم أن “يجاهدوا” لفعل ذلك في بلدانهم ابتداء، حيث يعانون هم أنفسهم وأبناء جلدتهم من الاضطهاد.

هؤلاء بشكل عام سيبقون غرباء عن المجتمع السوري وثقافته وتراثه وعاداته وأفكاره، وهم يحملون فكرًا جهاديًا متطرفًا عابرًا للحدود، لا يؤمنون بالوطنية السورية ولا يملكون الاستعداد لاحترامها ولا لاحترام ظروف السوريين وخياراتهم الوطنية، وسيبقون في نظر كثير من الدول مصدر تهديد وستبقى سوريا في نظر تلك الدول دولة راعية وحاضنة للإرهاب، وسيعاني السوريون أينما توجهوا بجوازات سفرهم من النبذ والرفض والشك.

لا يغرينا الآن الضوء الأخضر الأمريكي بهذا الشأن، ويجب ألا نعوّل أو نتكئ عليه لنحصل على قبول عالمي في هذا الشأن تحديدًا، فكثيرًا ما كان الضوء الأخضر الأمريكي يقودنا إلى ما لا يحمد عقباه، ولا تنسوا في هذا السياق زيارة السفير الأمريكي السابق روبرت فورد في تموز 2011، التي اعتبرت بمثابة ضوء أخضر لثورة السوريين ودعمها، ثم كيف تبدلت السياسات والمواقف للدرجة التي لم يستوجب لديها استخدام السلاح الكيماوي ضد السوريين أي تدبير أو إجراء لدعم المعارضة في إسقاط النظام، بل قادتهم نحو مسارات سياسية تدرك مسبقًا أنها لا تفضي إلى حل حقيقي وجذري للصراع بينما كان عداد موت السوريين لا يتوقف، فما الذي ومن يضمن ألا يتبدل في لحظة أخرى موقف الإدارة الأمريكية الحالية أو القادمة من هذا الأمر، وألا يدفع السوريون فاتورة ذلك مرة أخرى؟

ثم إن هذا الأمر ستكون له حساسية وارتدادات على مستوى العلاقات مع كل من الصين وروسيا، وهي قوى دولية وازنة لا يمكننا تجاهل أهميتها، فقط لأننا نريد وضع بيضنا السوري كله في السلة الأمريكية، فهذه دول وازنة سياسيًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا وسنحتاج إليها اليوم أو غدًا، فلماذا نحرق جسورنا معها دون حاجة أو ضرورة لفعل ذلك.

لكل ما تقدم فأنا أعتقد أن اتخاذ خطوة التجنيس غير صائبة ولا تتسم بالحكمة ولا بعد النظر، بل يمكن اتباع خيار آخر كمنح هؤلاء إقامة لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد، تقونن لهم وجودهم وإقامتهم وعملهم في سوريا، سواء في مرافق مدنية أو حتى كمدربين ومستشارين عسكريين متعاقدين، لكن لا يجوز بأي حال تجنيسهم ومنحهم فرصة تسلّم مناصب عليا في الدولة وأجهزة السلطة وهم يحملون صفة مواطنين، إذا كنا حقًا نتجه نحو تأسيس دولة مدنية لا موطن أو بؤرة جهادية.

سيقول قائل: ولكن لدينا من السوريين من هم ربما أكثر سلفية وجهادية من هؤلاء. ولا أملك تجاه ذلك إلا القول: نعم صحيح هناك من السوريين من هم أكثر تطرفًا، ولكن هؤلاء هم سوريون، ولا نملك الحق في إنكار سوريتهم، وربما نتمكن بالحوار والمناصحة والبحث عن مشترك وطني أعلى بيننا وبينهم أن نخفف من غلوائهم واستيعاب تحولاتهم، لكننا لسنا مضطرين أبدًا أن نجنّس متطرفين جددًا نضيفهم إلى قوائم السوريين ثم نبحث عن حلول معهم بشأن خياراتنا الوطنية.

عنب بلدي

——————————–

المسألة الأويغوريّة” في سوريا: خيطٌ بمئات العُقد/ صهيب عنجريني

6/6/2025

خلال السنوات الأخيرة، لم يعد “الحزب الإسلامي التركستاني” جماعة جهاديّة عرقيّة صرفة، ومن غير الواضح بعد ما إذا كان قرار الإدماج المزعوم في الجيش السوري مصمّمًا لاستيعاب جميع مقاتليه بمختلف جنسياتهم.

“.. بايعت المجموعة الملّا محمد عمر بيعة عامة، فطلب إليهم وقف برنامجهم العملي ضد الصين والاكتفاء بتربية من يلحق بهم، نظرًا لحاجة طالبان إلى علاقات جيدة مع الصين تُوازن الضغوط الأميركية، فالتزموا ذلك”.

ترِد الفقرة أعلاه في الكتاب المرجعي الضخم “دعوة المقاومة الإسلامية” الذي كتبه واحدٌ من أهم مؤرّخي ومُنظري الجهاد العالمي، هو أبو مصعب السوري (مصطفى ست مريم/نصّار).

يستعرض أبو مصعب في أحد فصول كتابه تجربة “الحزب الإسلامي لتركستان الشرقية”، الذي وُلد ونشأ في تسعينيات القرن الماضي تحت رعاية حركة “طالبان” في أفغانستان، وهي تجربة لافتة لا يتسع المجال لاستعراضها هنا، لكن الاستشهاد بها باختصار مفيدٌ بالتأكيد ليكون مدخلًا إلى تشريح “المسألة الأويغورية” في سوريا. فبرغم اختلافات عديدة بين التجربتين في السياقات والتفاصيل، ثمة تطابق لافت بين المآل الذي يشير إليه أبو مصعب في الحالة الأفغانية، وبين اللحظة السورية الراهنة، إذ يجد مقاتلو “الحزب الإسلامي التركستاني” أنفسهم مطالَبين بمراعاة حسابات الإدارة الجديدة في دمشق، وحاجتها إلى الانفتاح على الغرب، وربما أخذ الهواجس الصينية في الاعتبار أيضًا.

في النسخة الأفغانيّة، التزم مؤسس “الحزب” توجيهات أميره (الملا عمر)، وانصبّ تركيزه على “التربية الجهادية” لمنتسبي حزبه، برغم طموحاته بأن تحين لحظة تُمكنه من الحصول على “دعمٍ من الولايات المتحدة تقدّمه لحركته في إطار برنامج سري أقرّه الكونغرس العام 1995 لتفكيك الصين باستخدام النزعات العرقيّة والدينيّة فيها”، وفق أبو مصعب.

التجربة السورية ابنة الأفغانيّة

في أواخر تسعينيّات القرن الماضي، أعلن حسن معصوم (أبو محمّد التركستاني) تأسيس “الحزب الإسلامي لتركستان الشرقية”، بهدف “الجهاد من أجل تحرير تركستان الشرقية (الانفصال عن الصين) وإقامة الدولة الإسلامية”. وتركستان الشرقية هو إقليم في أقصى شمال غرب الصين، تسكنه غالبية تركية مسلمة، وتطلق عليه بكين اسم “شينغيانغ”، ومعناه الأرض الجديدة.

كان معصوم (المولود في كشغر عام 1964) قد تلقّى علومًا دينيّة في مسقط رأسه، وفي العام 1997 توجّه إلى مكّة، وبالتزامن مع امتداد حركة “طالبان” وسيطرتها على كابل والعديد من مدن أفغانستان، سافر التركستاني إلى أفغانستان مع آخرين من المتأثرين بالأفكار “الجهاديّة”.

في تشرين الأول/أكتوبر 2003، أعلن الجيش الباكستاني مقتل حسن معصوم في عملية على الحدود مع أفغانستان، وخلفه عبد الحق التركستاني. كان “الحزب الإسلامي التركستاني” قد أنشأ معسكرات عدّة في مناطق سيطرة “طالبان” وبإشرافها، وتخصّص بعضها في تدريب “الجهاديين الفتيان”، وهم مقاتلون تتراوح أعمارهم بين 14 و16 عامًا. لاحقًا، تحوّل هؤلاء إلى رأس حربة في “المشروع الجهادي التركستاني” في سوريا.

اتُّخذ قرار استحداث “فرع سوري” لـ”الجهاد التركستاني” في مرحلة مبكرة من عمر الحدث السوري، وبدأ توافد جماعات من مقاتليه إلى سوريا في النصف الثاني من العام 2012، أي بعد بضعة أشهر من إعلان تأسيس “جبهة النصرة لأهل الشام”. اختير للتركستاني أول الأمر اسم “الحزب الإسلامي التركستاني لنصرة أهل الشّام”، في تطابق لافت مع تسمية الجبهة التي ستغدو لاحقًا حليفه الأهم، ولاحقًا حُوّر اسم الحزب ليغدو “الحزب الإسلامي التركستاني في بلاد الشام”.

المنابع الثلاث

وفد “الجهاديون التركستان” إلى سوريا من ثلاث وجهات أساسيّة: الصين، وأفغانستان، وتركيا. ولعبت أنقرة دورًا محوريًّا في تجنيدهم وتدريبهم وتوجيههم. شكّلت مظلوميّة “تركستان الشرقيّة” أرضيةً خصبة لاستقطاب “الجهادييّن”، لا سيّما مع اعتماد سرديّة مفادها أنّ “نظامَي الحكم (السابق) في دمشق وبكين ركنان أساسيّان من أركان جبهة كفر واحدة”. و”إذا كانت الصين لديها الحق بدعم الأسد في سوريا، فنحن لدينا الحق بدعم السوريين المسلمين”، وفقًا لما جاء في عدد آذار/مارس 2013 من “مجلّة تركستان الإسلاميّة”.

أتاح العدد الكبير لأفراد الجالية التركستانية في تركيا (نحو 20 ألفًا) بيئة مثاليّة لاستقطاب شبّان الجالية، وكان “الحزب” قد دشّن نشاطه في استقطاب “المجاهدين التركستان” داخل الأراضي التركيّة بإطلاق موقع إلكتروني “جهادي” باللغة التركيّة. وقال بيان إطلاقه إنه “أول موقع جهادي باللغة التركية، علّه يكون سببًا في إحياء فريضة الجهاد في سبيل الله في نفوس شباب الإسلام في تركيا وغيرها”.

كذلك؛ شكلت “أرض الشام” فرصة للجهاديين التركستان في أفغانستان لإعادة شحذ همّتهم، وإحياء آمالهم. أما الوافدون من الصين فكانوا هاربين من الاضطهاد الممارس ضدّهم على أسس عقائدية وعرقيّة، وكثرٌ ممن وفدوا في مرحلة التأسيس (2012 ـــ 2013) هم ممن سبق أن اعتُقلوا في الصين.

من الملاحظات الجديرة بالاهتمام أن الحكومة الصينية قد خفّفت منذ مطلع العام 2014 القيود المفروضة على إصدار جوازات سفر للأويغور، ما يبدو أنّه شكّل عاملًا مساعدًا لسفر الرّاغبين في الانضمام إلى “الجهاد” في سوريا. وكان معظم هؤلاء يفِدون مصطحبين عائلاتهم، برغم المسار الشاق الذي يقطعونه.

أمسك “المهاجرون” الذين قدموا من تركستان (الصين) سريعًا بمعظم المناصب القياديّة في “الحزب الإسلامي التركستاني” في سوريا، برغم وجود عناصر من أصحاب الخبرة الأكبر وفدوا من أفغانستان، وهذا يُردّ على الأرجح إلى أن ولاء القادمين من الصين لخوض تجربتهم “الجهاديّة” يبدو مضمونًا بشكل أكبر بكثير من نظرائهم القادمين من تجربة “جهاديّة” سابقة أخضعتهم لروابط تنظيميّة مع “حركة طالبان”، وللاحتكاك مع أجهزة استخبارات داعمة لـ”طالبان”.

“الربيع التركستاني في الشام”

لعبت “التجربة السوريّة” دورًا محوريًّا في تشكيل ملامح “الجهاد التركستاني”، وبصورة تفوق التجربة الأفغانيّة بأشواط، خصوصًا أنّ جاذبية “الجهاد الأفغاني” قد انخفضت بشكل كبير بعد هزائم “الإمارة” عقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر. لم يعاصر “التركستان” الحقبة الأفغانيّة الذهبيّة، لا سيّما فترة انسحاب الاتحاد السوفياتي وإعلان “الإمارة الإسلاميّة”. كما أنّ قدرات “الماكينة الإعلاميّة الجهاديّة” كانت أقلّ بكثير من قدراتها في “الحقبة الشامية”.

منحت سوريا “التركستان” عددًا كبيرًا من “الانتصارات” التي أُجيد استثمارها لاستقطاب مزيد من “الجهاديين”، وجُيّر دعم مالي استثنائي لـ”المهاجرين” وعائلاتهم. أما انفراد “العائلات التركستانيّة” بقرى وبلدات سوريّة بأكملها وتحويلها إلى مجتمعات مغلقة، فقد شكل إغراءً إضافيًّا زاد من عديد المستقطبين.

عملت “الماكينة الشرعيّة” على تحديث “السرديّة الجهاديّة التركستانيّة” بصورة تتناسب مع الرغبة في تحويل سوريا إلى أولوية. في الحقبة الأفغانيّة، كان الأويغور يُبشّرون بأنّ “هجرتهم إلى أفغانستان ستضمن لهم العودة إلى بلادهم وتحريرها”. أما في الحقبة السوريّة، فقد تطوّرت السرديّة لتصبح “هجرة أفغانستان مشابهة لهجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة، أما الهجرة الثانية إلى سوريا فهي تكرار لسيناريو الهجرة إلى يثرب”، ما يعني أنّ “الفتح” الموعود سيحين بمجرّد انتصار “الجهاد الشّامي”، ويعود التركستان لتحرير بلادهم من “الاحتلال الشيوعي”.

بذور “الإدماج”

في أواخر العام 2017، دخلت “المسألة الأويغورية” في سوريا حقبة جديدة، مع تحولات في الخطاب أسست لفرز “مجاهدي تركستان” إلى فئتين: واحدة تطمح إلى تدشين “الجهاد ضد البوذيين” وعدّه أولوية من باب “مجاهدة العدو القريب”، وأخرى ترى “المكوث في الشام أولوية”.

في تلك المرحلة، دخلت “الفتوى” على الخط، وحرصت على إمساك العصا من المنتصف. خصّصت مجلّة “تركستان الإسلاميّة” التي يُصدرها “التركستاني” ثلاث صفحات من عددها 23 (رمضان / 2018) لمناقشة هذه المسألة “شرعيًّا” تحت عنوان “في أي ثغر يجاهد التركستان؟”.

استُهلّت “الفتوى” التي خطّها “الشيخ أبو عبد الرحمن الشامي” بالتأكيد على أنّ “الواجب أن يقاتل أهل كل دارٍ من يليهم (أي الأقرب إليهم) من العدو الصائل”. لكنّ الشامي لم يُغلق الباب نهائيًّا أمام الآراء الأخرى، فأشار إلى وجود “استثناءات” تفرضها المعطيات “الجهاديّة” بشكل عام من دون أن يعدم “الأدلّة الشرعيّة” التي تؤكّد “صواب” كلّ من الموقفين المتناقضين.

شدّدت “الفتوى” على وجوب “إتمام الجهاد في الشام حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا”، مبيحةً في الوقت نفسه لمن لم “يهاجر” بعد أن يبقى في بلاده استعدادًا لـ”مجاهدة العدو القريب”.

الخلاصة التي حاولت “الفتوى” الخروج بها تتمحور حول تخيير الأويغور المقيمين في الصين بين “النفير” إلى الشام، أو الاستعداد لـ”الجهاد” في بلادهم متى دقّت ساعته. أما الموجودون في سوريا وقتذاك، فقد حرصت “الفتوى” على تأكيد وجوب التزامهم قرار “أمراء الجماعة” في شأن “الثغور” وأولوياتها، مع التركيز على تحريم “التحوّل من ثغر إلى ثغر من دون إذن الأمير”.

وُقّعت تلك الفتوى باسم مستعار/ حركي هو “أبو عبد الرحمن الشامي”، ورجّحت مصادر عديدة وقتذاك أن المفتي لم يكن سوى د.مظهر الويس (وزير العدل في حكومة دمشق حاليًًا) الذي كان ينشط في تلك المرحلة باسم أبو عبد الرحمن الشامي.

“أنصار” ومناوئون

في تلك المرحلة، أفرز التحول في خطاب “الإسلامي التركستاني” انقسامات في صفوفه، لا سيما مع دخول واحد من أبرز دعاة “الجهاد ضد البوذيين” على الخط لانتهاز الفرصة، وهو “جهادي” يُعرف باسم أبو ذر عزام، كما يُعرف بأسماء أخرى منها “أبو ذر الباكستاني”، و”أبو ذر البورمي”، وينتمي إلى العرق الروهينغي. وكان قبل سنوات المتحدث باسم “الحركة الإسلاميّة في أوزبكستان”.

وفد أبو ذر إلى سوريا في 2014 وانضم إلى صفوف تنظيم “داعش”، ثم انفصل عنه وغادر مناطق سيطرته سرًّا في النصف الثاني من 2016، ثم شرع في تشكيل “مجلس أعلى لتنسيق الجهاد ضد البوذيين، يتصدى لمهمة التنسيق بين الجهاديين التركستان والأوزبك وسائر جهاديي آسيا، بهدف وضع خطط للجهاد ضد البوذيين في كل مكان”.

بمرور الوقت، أدت هذه التطورات إلى حركة انشقاقات في صفوف “الحزب الإسلامي التركستاني”، خصوصًا بعد مشاركته المباشرة إلى جانب “هيئة تحرير الشام/النصرة» في الاقتتالات الداخلية ضد مختلف المجموعات الأخرى. كما دخل في قطيعة مع “كتيبة غرباء التركستان” التي كانت منذ نشأتها تعمل بتنسيق تام مع “الحزب”.

واجه “الحزب” تلك التطورات بالحرص على ترميم صفوفه مغيّرًا أدبيّاته بشكل لافت، فشكّل “كتيبة أنصار التركستان” من السوريين المتعاونين معه، كما راح يجيّر جزءًا من “إصداراته الإعلامية” لإبراز عناصر من “الجهاديين الأجانب” قال إنهم انضموا إلى صفوفه، ومن بينهم فرنسيّون.

أفضت كل تلك المجريات إلى تحولَين بارزين، يطبعان مشهد “الجهاد التركستاني” في سوريا حتى اليوم، أولهما نزع “حصرية التمثيل” من “الحزب الإسلامي التركستاني” بعدما احتكرها بشكل شبه تام منذ اضمحلال تنظيم “داعش”، وثانيهما أن “الحزب” الذي قيل إنه حلّ نفسه تمهيدًا لإدماج مقاتليه في “الجيش السوري الجديد”، لم يعد منذ سنوات “جماعة جهاديّة عرقيّة صرفة”، ومن غير الواضح بعد إذا ما كان قرار الإدماج المزعوم مصمّمًا لاستيعاب جميع مقاتليه بمختلف جنسياتهم.

موقع أوان

—————————————

===================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى