عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 09 حزيران 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة
لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
——————————
كيف ستدير سوريا علاقتها بإسرائيل في هذه المرحلة؟/ غازي دحمان
9/6/2025
لم يعُدْ سرًا وجود مفاوضات بين سوريا وإسرائيل في بعض العواصم، بيد أن السؤال عما إذا كانت هذه المفاوضات مقتصرة على ترتيبات أمنية بخصوص التطورات التي جرت بعد الحرب على وقع احتلال إسرائيل شريطًا حدوديًا واسعًا في جنوب سوريا، أم هي مقدمة لاتفاق سلام شامل، في ظل تحرك أميركي يهدف إلى إعادة هندسة المنطقة عبر إطفاء بؤر التوتر، بما يسمح لواشنطن بإعادة تشكيل الواقع الإقليمي، بما يتطابق ورؤيتها لدورها العالمي في المرحلة المقبلة؟
السياق والتوقيت
المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، أو ما يصح تسميته بـ” مبادرة التهدئة”، تأتي كجزء من سياق أوسع لانعطافة إستراتيجية أميركية، وغربية بالتبعية، للحفاظ على دور فاعل في ضبط مفاعيل المشهد الدولي، والتأثير في توجهاته المستقبلية، في ظل بروز اللاعب الصيني بقوّة الذي بات يتمدد على جميع المفاصل الجيوسياسية الدولية ناثرًا مشاريعه الواعدة في كل ركن، منذرًا بإزاحة الغرب من موقع الريادة في قيادة النظام الدولي.
وقد أثبتت التطورات أن الساحة الشرق أوسطية تنطوي على مصالح أميركية، توازي، إن لم تتفوّق على مصالح واشنطن في جنوب شرق آسيا، التي رصدت لها موارد ضخمة. وفي ظل تقدير أميركي بأن مواجهة الخطر الصيني لا تتم بترك فراغات كبيرة له ليتمدد بها، مقابل حصاره في بحر الصين، وصحارى الشرق الأوسط وبحاره وممراته المائية، كعناصر مهمة في هذه اللعبة الجيوسياسية التي يتسع نطاقها ليشمل العالم برمته.
وتبعًا لذلك، وفي ضوء توازن القوى العالمي الجديد، بعد أن قلصت التكنولوجيا الصينية الفوارق بدرجة كبيرة، تجد إدارة ترامب نفسها مضطرة للبحث عن آليات جديدة لضمان استمرار التفوق، وهذا ما أكدته زيارة ترامب لدول الخليج العربي، وإيجابية مواقفه تجاه مطالبها، حيث شكّل دعم سوريا محورها الأساسي.
ورشة مفاوضات
ثمّة ما يمكن وصفه بـ “ورشة مفاوضات” انطلقت فعالياتها في أكثر من عاصمة إقليمية ودولية: أبو ظبي، وباكو، وتل أبيب، وربما أماكن أخرى. ما يجري حتى اللحظة يبدو أنه اختبار أو مرحلة تعارف بين المفاوضين، وتقديم كل طرف أطروحاته، والتي غالبًا ما تكون بسقف مرتفع، يجري بعد ذلك تشذيبها للتوافق مع المنطق والواقع. لم يرشح أي شيء عما يدور في كواليس هذه المفاوضات، لكن هناك مؤشرات عديدة على انطلاقها، من ضمنها توقف القصف الإسرائيلي والانفتاح الأميركي المتسارع على دمشق، كذلك تغير الخطاب السياسي تجاه الإدارة السورية الجديدة في كل من تل أبيب، وواشنطن.
لا يعني ذلك أن الأمور تسير بسلاسة وأننا بتنا على بعد أمتار قليلة من التوصل إلى تفاهمات صلبة، بقدر ما يعني تهيئة بيئة مناسبة للمفاوضات، تبدأ بالتهدئة الميدانية ووقف الهجوم الإعلامي الإسرائيلي ضد السلطة السورية الجديدة، وهو شهد بالفعل تحولًا، من خطاب يدعو لعدم الثقة بهذه السلطة إلى خطاب يؤكد على عدم الرغبة بالتدخل بالشأن السوري، وفق وزير خارجية إسرائيل جدعون ساعر.
من الطبيعي أن يتم التركيز في هذه المرحلة على الملفات الأمنية، وأن يقود المفاوضات المختصون بالمسائل الأمنية، على ذلك تأخذ المفاوضات طابعًا تقنيًا بحتًا، بعيدًا عن الأيديولوجيا والمواقف السياسية والحساسيات المختلفة، ولا سيما أن بين البلدين تاريخًا متواصلًا من الترتيبات الأمنية كان يجري تحديثها بعد كل تطور، وآخر الإجراءات كانت المنطقة العازلة التي أعقبت حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، والتزم بها الطرفان حتى سقوط نظام الأسد.
حاجة دمشق للسلام
منذ وصول الإدارة الجديدة للسلطة في دمشق أعلنت بشكل غير موارب، أن الاستقرار والسلام يقفان على رأس جدول أولوياتها في المرحلة القادمة، وبالتالي ليست معنية بلعبة الصراع التي انخرط بها نظام الأسد، على الأقل نتيجة انتمائه لـ”حلف الممانعة” وتسهيل نشاط إيران المناوئ لإسرائيل، والواضح أن إدارة الشرع قرأت جيدًا التحوّل في المزاج الإقليمي الرافض لاستمرار الحروب، ومنطق العسكرة الذي فرضته إيران وحاولت تاليًا التكيف مع متطلبات هذا التحوّل.
لكن أيضًا، متطلبات المرحلة، وضرورة الخروج من واقع، أقل ما يُقال عنه أنه واقع معقد إلى أبعد مدى، فرضت على دمشق تبني خيار البحث عن فرصة السلام، للهرب من واقع موازٍ حقيقي وليس افتراضيًا، سمته الانهيار الاقتصادي والعزلة الدولية، قد يصبح هو التعريف الأساسي لسوريا المستقبلية.
تدرك دمشق أن لها حسابات حساسة في المعادلات التي يجري تأسيسها في المنطقة، وأنها لاحقة لضلع إقليمي أكبر، وربما نقطة غير مرئية في دائرة من الفاعلين الإقليميين الأقوياء، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، وأنها مضطرة للعب تحت ظلال هذه القوى، ما دامت قد دخلت اللعبة بدون أدوات قوّة، على كل الصعد، وبحمل ثقيل من الأزمات والاحتياجات.
وفق ذلك، رأت دمشق أن الانخراط ضمن الهندسة التي تجريها واشنطن، بالتنسيق مع الفاعلين الإقليميين، في الخليج العربي وتركيا، فرصة أرادت التقاطها، ورافعة للخروج من دائرة التهميش والدمار، إذ لا يمكن تحقيق الاستقرار بجوار كيان يعتقد أنه يمتلك ناصية المنطقة، ولا يمكن جذب أموال الاستثمار بدون وضع مستقر، ما يعني تحويل سوريا إلى نموذج الدولة الفاشلة، وهو الكابوس الذي حاول حكّام سوريا الجدد الهروب منه، مع إدراكهم أنه لن يكون في جعبتهم، وهم يجلسون على طاولات التفاوض، سوى تقديم التنازلات.
إسرائيل والسلام بالإكراه
ليست هذه اللحظة المناسبة التي ترغب بها إسرائيل للانخراط في عملية سلام مع سوريا، فلا المزاج الإسرائيلي ولا النخب المؤثرة في وارد السير في هذا المسار الآن، والتفكير الإسرائيلي في هذه المرحلة في مكان آخر، حيث تصحو إسرائيل، بعد طوفان الأقصى، على واقع إستراتيجي مختلف لم تشهد ذاكرتها مثيلًا له منذ قيامها، ولا حتى بعد حرب عام 1967 حينما انهارت بوابات دول الطوق العربي وبات بإمكان الدبابات الإسرائيلية العبور إلى العواصم دون أي عوائق لوجيستية أو عسكرية سوى عائق التوازنات الدولية في خضم الحرب الباردة وحدود النفوذ المرسومة بين مناطق أميركية وأخرى سوفياتية.
الطموح الإسرائيلي في سوريا أكبر من سلام قد يتم التراجع عنه يومًا إذا تغيرت المعطيات، حيث تتجه تفضيلات إسرائيل إلى صناعة كيانات موازية للدولة السورية، كيانات تعتمد في بقائها على الدعم الإسرائيلي، وتدفع دمشق وحكامها إلى الانكفاء نهائيًا عن المطالبة بأراضٍ تحتلها إسرائيل، وتزيد عليها الجنوب حيث المياه الوافرة والأراضي الزراعية وقوة العمل التي تحتاجها المزارع والورش في حيفا والجولان والجليل، واعتقاد قادة إسرائيل أن تحقيق هذا الطموح لن يكلف كثيرًا، وكل ما ستفعله تل أبيب الإشراف على إدارة الصراعات في جنوب سوريا لخدمة مصالحها الجيوسياسية.
لكن التطور المفاجئ تمثل في موقف تركيا ودول الخليج العربي من التغيير في سوريا، ودفع واشنطن إلى احتضانه وجعله مصلحة للأمن القومي الأميركي، الأمر الذي أثار ريبة إسرائيل من احتمال إخراجها من الترتيبات التي هي في الواقع أكبر من مجرد استيعاب سوريا، بقدر ما هي تشكيل لواقع شرق أوسطي مرتبط بدوائر عالمية أوسع، ومشاريع جيوسياسية على نطاق أكبر، وبالتالي فإن إسرائيل تدخل مرحلة التفاهمات مع دمشق كنوع من الاختبار لمسارات التحرك الإقليمي والدولي، ولا سيما بعد تهميشها من تحركات الرئيس ترامب الأخيرة في المنطقة، وحالة الجفاء مع أوروبا، التي بدورها بدأت الانخراط المكثف في دهاليز الملفات الشرق أوسطية.
هل الصفقة وشيكة؟
بناء على هذه المقدمات، لا يبدو أن ما يدور بين دمشق وتل أبيب في هذه المرحلة هي مفاوضات سلام نهائية، بقدر ما هي مباحثات للتوافق على إطار أمني جديد بعد تراجع إسرائيل عن الترتيبات السابقة، وثمة عوامل كثيرة تؤكد هذا الاحتمال:
اختلال توازن القوى بشكل كبير يمنع دمشق من الذهاب إلى مفاوضات سلام تحتاج لأوراق قوّة تجبر إسرائيل على التنازل عن الجولان.
تحتاج الإدارة السورية الجديدة إلى مدى زمني أطول للقيام بخطوة عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، إذ بالرغم من تفضيل قطاعات واسعة من السوريين التركيز على الجوانب الاقتصادية والإعمار، وبالتالي الابتعاد عن الحروب الخارجية؛ لا تزال الصورة غير واضحة بالنسبة للنظام الجديد في دمشق، وبالتالي يشكّل خوضها في عملية سلام، قد تقدم خلالها تنازلات جغرافية مغامرة خطرة.
عدم حاجة إسرائيل إلى سلام يرتّب عليها التزامات بحجم التنازل عن أراضٍ تحتلها في الجولان، ومن مصلحة إسرائيل إبقاء الوضع الأمني هشًا على جبهتها الشمالية، وإبقاء دمشق تحت ضغط الإحساس بعدم الأمان من جهة إسرائيل، إلى حين نضوج ظروف مواتية للحصول على تنازلات كبيرة باطمئنان.
لا تطرح الأطراف التي تحتضن النظام السوري الجديد: الإقليمية والدولية، مسألة التوصل إلى اتفاق سلام بين دمشق وتل أبيب، في هذه المرحلة، لإدراكها أن الظروف غير ناضجة، وأن من شأن الاختلاف في أي مرحلة من مراحل التفاوض قد يفجر جولات صراعية تطيح بالاستقرار السوري الهشّ، لذا فالأفضل هو التوصل لترتيبات أمنية صارمة بين الطرفين تضمن الهدوء إلى حين التوصل لإطار سلام قابل للتطبيق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب سوري
الجزيرة
————————————
ماذا وراء تصريحات الشرع حيال إسرائيل؟/ لميس أندوني
08 يونيو 2025
أثارت تصريحات نُسبت إلى الرئيس السوري أحمد الشرع تساؤلاتٍ مشروعة بشأن رؤية النظام الجديد حيال خطر إسرائيل على سورية؛ فقوله مثلاً إن لدى سورية وإسرائيل “أعداءً مشتركين” غير مفهوم، فهل يعني ذلك الاستعداد للتعاون المشترك، وما دخل إسرائيل بالدور الأمني لسورية؟ واضح أن المسؤولين السوريين يتحاشون الإشارة إلى حرب الإبادة الصهيونية في غزّة، والأهم غياب موقف واضح من احتلال إسرائيل الجولان واعتداءاتها أخيراً على سورية، إضافة إلى غياب مفهوم الأمن القومي العربي في أحاديثهم، واللوم لا يقع عليهم حصراً، فهذا حال سائر الدول العربية وأنظمتها، فالنظام الجديد في سورية ولد في حقبة انهيار مفهوم الأمن القومي العربي، واستبدل بمفهوم “المصلحة القُطرية” وانطلاق عملية فك الارتباط العربي بالقضية الفلسطينية، وكأن التخلص من “عبء القضية الفلسطينية” صمام أمان يفتح باب الاستقرار والازدهار والسلام تحت الرعاية الأميركية.
ما نسمعه عن عودة سورية إلى “الحضن العربي” يعني أن عليها أن تقبل وتندمج في شرق أوسط جديد تبشّر به واشنطن، عماده الدخول في “المعاهدات الإبراهيمية” مع إسرائيل، التي كانت الإمارات أول من وقّعها عام 2021، وفتح سورية ومقدّراتها للشركات الغربية. وهنا لا بد من العودة إلى ما ورد في مقال نشر في “جويش جورنال” في 18 الشهر الماضي (مايو/ أيار) يلخّص ما يحدث من ربط لدخول الاستثمار الأجنبي إلى سورية وتشكيل الاقتصاد السوري وعلاقته بقبول إسرائيل.
لم تكن هناك مقابلة للصحيفة الصهيونية مع الرئيس السوري، بل مقال كتبه جوناثان باس، مالك شركة “أرجنت” الأميركية لنقل الغاز الطبيعي المسال، عن لقائه الرئيس الشرع ضمن وفد اقتصادي. ويتضح من المقال أن الوفد الأميركي ربط النقاش بشأن مستقبل الاستثمارات الأجنبية في سورية بموقف النظام الجديد من إسرائيل، وهذا في حد ذاته خطير؛ فقد سمح باس لنفسه بأن يطلب طمأنات حيال موقف دمشق من تل أبيب للمضي في محادثات بشأن تسلّم شركته خطة تطوير قطاع الغاز في سورية. ولفهم جدية هذا الربط المطلوب أميركياً، وأنه ليس مجرّد مصادفة، ضروري معرفة أن جوناثان باس صديق مقرّب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو الذي أعلن رغبة الشرع في بناء “برج ترامب” في دمشق خلال اللقاء، الذي سهّله كما يقول “نشطاء سوريون”، لمناقشة فرص الاستثمار في سورية عشية جولة ترامب الخليجية. وعرض باس خطة تنفذها شركته “لتطوير قطاع الغاز في سورية”، انطلق بعدها في مقابلات مع محطات تلفزة أميركية، ليعلن بفخر واعتزاز خطته وكأنه مسؤول سوري أو منقذ للشعب السوري. ثم نشر مقاله في المجلة واسعة الانتشار في لوس أنجليس لطمأنة اللوبي الصهيوني وإسرائيل بأنه سمع من الشرع ما يطمئِن من موقفه حيال إسرائيل، وأنه لا تعاون مع دمشق دون التزام مصالح تل أبيب.
السؤال: لماذا يضع الرئيس السوري نفسه في هذا الموقف؟ وكيف يمكن توصيف الوضع بين سورية وإسرائيل “قصفاً متبادلاً يجب أن يتوقف”؟. إسرائيل دولة محتلة ومعتدية، فقد كان بإمكانه أن يكتفي بالقول إن سورية ملتزمة القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الذي أشار إليه في حال حدوث مفاوضات مع إسرائيل. وهنا لن أذهب إلى اتهام الشرع، كما يفعل بعضهم، بأنه وصل إلى السلطة على أساس قبوله التطبيع مع إسرائيل، لكن معظم الدول العربية تتجه نحوالتطبيع، حتى إن ترامب، بكل بساطة، طلب من الشرع الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية في قلب الرياض.
ما يحدُث ليس نتيجة عملية تطور سياسية طبيعية، بل يندرج تحت عنوانين: انهيار النظام العربي، والشروط المطلوبة أميركياً لقبول النظام الجديد في سورية تحت ضغط شروط رفع العقوبات الاقتصادية، وبخاصة الأميركية، عن البلاد، وهي شروط لا يتحدّاها النظام السوري، والأهم أنها لا تلقى مقاومة أو حتى معارضة تُذكر من الدول العربية والإقليمية (تركيا)، فالإقليم في مجمله دخل في ترتيبات فصل المصالح “القُطرية”، والأدق القول كل نظام على حدة، من التزامات القضية الفلسطينية. أي النظر إليها معطّلاً ومعرقلاً نهوض الشعوب، وإيجاد معادلة جديدة للتعامل مع إسرائيل، بمعنى التسليم بأننا دخلنا عهد إسرائيل في المنطقة، وكأنها لا تشكّل تهديداً لكل دولة عربية على حدة، أو على الأمن القومي العربي بمجموعه.
يبدو أن الرئيس السوري يتصرّف على أساس المعادلة التي هي طور التشكيل، لكنها تصبح حقيقةً بقبولها والاستسلام لها، فلن يُقبَل النظام الجديد دون أن يلتزم قواعد اللعبة التي أصبحت شرطاً لقبوله، ودون الأخذ بمخاطر هذه الطريق وتداعياتها على سورية وسيادتها ومستقبل مقدّراتها الاقتصادية.
الغريب والمستهجن أن تاريخ إسرائيل منذ نشوئها والسياسات الأميركية في المنطقة كأنها حدثت في عالم بعيد أو مواز، وكأن إسرائيل لا تشكل خطراً على سورية وأن أميركا صديقة للشعب السوري. ليس المطلوب أن تعلن سورية حرباً على إسرائيل أو تهدّد بانتقام أو مواجهة، فأولويتها الحفاظ على نفسها وإعادة بناء الدولة والمجتمع السوريين، وليس مطلوباً أن تعلن جبهة مواجهة ضد أميركا، وأن لا يكون لها علاقات مع جميع الدول. ولكن لا يوجد حكمة من مهادنة إسرائيل اللفظية إلى درجة محاولة طمأنة كل وفد أميركي وغربي، وفي كل مقابلة صحافية، بأن النظام الجديد لن يكون خطراً على جيرانه، والمقصود إسرائيل، وأن لديها مع إسرائيل أعداءً مشتركين. وهنا لا داعي للتذكير بأن الفلسطينيين في نظر إسرائيل أكبر عدو لها: وأتساءل: لماذا لا يخطر ببال الشرع أن إسرائيل لن تعتبر سورية دولة صديقة، بل إن احتلالها الجولان والقنيطرة جزء من مشروعها الصهيوني الذي لا يقبل بالسيادة السورية على أراضيها.
ليست الإشكالية عدم وعي الشرع خطر إسرائيل، وإنما قد تكون في توهُّم أن الانفتاح على “لبرلة” القطاع العام السوري وفك الارتباط مع القضية الفلسطينية يشكل حماية للنظام الجديد وسورية. هذا التفكير هو التيار السائد لدى الأنظمة العربية وبعض المثقفين السوريين والعرب، وهذا توجّهٌ يزيد من عنجهية إسرائيل، والحديث عن إعطاء جملة تبرئ إسرائيل، ولو دون قصد، من كونها عدواً أو معتدياً، فلا حاجة لطمأنة إسرائيل، بل هناك حاجة للتمسّك بالحقوق الوطنية السورية، وتذكُّر أنّ سورية في موقف قوة، فالشركات العالمية هي التي يجب أن تتنافس على قبول الدولة السورية لها للاستثمار فيها وفقاً لشروط سيادية تضعها دمشق، ولا حاجة، بل من المهين أن يضطر الشرع إلى “إثبات حسن سلوك” أمام ممثل كل شركة تطمع في الثروات السورية، فإسرائيل هي الطرف المعتدي، وليس سورية.
العربي الجديد
——————————–
سياسة أميركية مزدوجة تجاه دمشق/ محمود الريماوي
07 يونيو 2025
تشكّل الاعتداءات الإسرائيلية المتواترة على سورية تحّدياً جسيما لهذا البلد، إذ تزيد هذه الاستهدافات القدرات السورية ضعفاً على ضعف، بما تتسبّب به من تدمير منهجي للقدرات الضعيفة، ويزداد الأمر سوءاً مع الصلافة السياسية التي تبديها حكومة بنيامين نتنياهو تجاه دمشق والقيادة الجديدة فيها، والتي تنطوي على تهديداتٍ سافرةٍ ومن غير أسبابٍ تسوّغ هذا التصعيد الجاري من طرف واحد. ورغم تكرار دمشق إنها ليست في وارد إشعال التوترات مع أي أحد، إلا أن هذه “التطمينات” تُقابَل بغطرسة إسرائيلية ظاهرة، فقد اختطت حكومة نتنياهو تجاه دمشق في عهدها الجديد سياسة تقوم على أن أي تسلح سوري مما تحوزه الجيوش التقليدية يشكل تهديداً للدولة العبرية، ويبدو أن الأخيرة على وشك أن تطلق مطلب نزع أسلحة سورية، لضمان أمن إسرائيل! وبما يشبه مطلباً سبق أن تقدّمت به موسكو لإقرار تسوية مع كييف، فالجار الصالح هو الذي يتجرّد من جميع أسلحته بجوار الجار المدجّج بالأسلحة المتطورة والفتّاكة. ويغدو المشهد أكثر تعقيداً، بالنظر إلى تلاقي حسابات خصوم العهد السوري الجديد، موضوعياً، لإضعاف هذا العهد وتجريده من أسباب المنعة، وحرمانه من تثبيت ركائز الاستقرار.
ومع توالي الاعتداءات الإسرائيلية الجسيمة وافتقارها إلى مبرّر عسكري أو دفاعي، ومع تزايد ارتفاع أصوات مراكز دولية تندّد بهذه التعديات غير المبرّرة وتدعو إلى وقفها، كان من اللافت، في هذه الأثناء، أن ينطلق صاروخان من جنوب سورية نحو أهداف إسرائيلية، وهو ما سارعت تل أبيب للرد عليه موسّعة نطاق عدوانها على مناطق في الجنوب. وأياً كانت الجهة أو الطرف، وأيا كانت النيات وراء هذا النشاط المفاجئ على الجبهة السورية بعد عقود من الصمت، من الواضح أن تل أبيب قد رأت فيه مبرّراً لاعتداءات سابقة وراهنة وربما لاحقة. وإذا الأمر يوحي بخلط أوراق سياسية وعسكرية، فمن الواضح أن تل أبيب هي القادرة على استثمار هذا التطوّر وتوظيفه باتجاه إدامة اعتداءاتها، سعيا إلى تحقيق أهداف استراتيجية، منها إخراج الموقع السوري كلياً من دائرة الصراع، وهو ما يفسّر يروز دعوات أميركية إلى الطرفين لتوقيع معاهدة عدم اعتداء متبادل، علماً أن اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 التي أبرمها النظام السابق تنطوي على التزام متبادل بوقف الأعمال الحربية، وقد سارعت تل أبيب إلى نقض هذه الاتفاقية، ما إن سقط النظام السابق وشنّت حملة على أركان النظام الجديد “المتطرّفين الذين يرتدون أزياء غربية”.
أمام هذه الضغوط العسكرية الشرسة التي تتعرّض لها دمشق، على الحكم الجديد أن يغادر حالة الارتباك السياسي، وألّا يكتفي بالقول إن دمشق ليست بصدد تهديد أي أحد أو أية دولة مجاورة أو غير مجاورة، وأن تشرع في بلورة رؤيتها للسلام مع دولة الاحتلال، ومن غير أن تكون مدعوّة لاختراع شيء جديد. وفي هذا الصدد، من الأهمية بمكان التركيز على المحور الأساسي لأية تسوية، إعادة الأرض المحتلة مقابل إبرام السلام، وأن دمشق توقع اتفاقية سلام ما إن تلتزم تل أبيب بالانسحاب من هضبة الجولان ومن الأراضي والمواضع التي تسلّلت إليها عقب 8 ديسمبر الماضي. ولكون دمشق ملتزمة بالإطار العربي والقرارات العربية العليا وبمبدأ الأمن الجماعي العربي، فإن دمشق تلتزم بمبادرة السلام العربية للعام 2002، وترى فيها إطاراً صالحاً لتسوية جدّية تنهي عقوداً طويلة من الصراع العربي الإسرائيلي، وكانت سورية طرفا فيه وضحية لمطامع إسرائيلية (كما كانت دول غربية طرفا فيه بصورة أو بأخرى).
إنه لمما يسترعي الانتباه إزاء موجة التعدّيات الإسرائيلية المتعاقبة أنها تقع فيما تطلق واشنطن مؤشّرات إيجابية متتالية تجاه دمشق، بدأت حتى قبل لقاء دونالد ترامب بأحمد الشرع في الرياض، ومنها الأنباء عن زيارة مزمعة لوفد رسمي أميركي برئاسة وزير الدفاع العاصمة السورية، وكذلك ما تتواتر عن قبول أميركي لوجود مقاتلين أجانب يخضعون لهيكلية وزارة الدفاع، ويأتمرون بأوامرها ويعتنقون عقيدتها (وهذا ما لا يرتضيه الشطر الأكبر من السوريين، ولسان حالهم إن بوسعهم رفد الجيش الجديد بما يتطلبه من طاقات وموارد بشرية، دونما حاجة لمقاتلين جهاديين أجانب يجهلون كل شيء عن سورية وعن السوريين). والمراد قوله هنا إنه بينما ترفع واشنطن العقوبات عن سورية، وهذا حسن، فإنها، في الوقت نفسه، تغضّ الطرف تماماً عن تعدّيات عسكرية تتخذ هيئة “عقوبات”، ولا تعدو أن تكون بلطجة مكشوفة تشنّها تل أبيب على مواقع ومقدّرات سورية، لمنع هذا البلد من التعافي ولإغراقه في تحدّيات جسيمة، من دون أن يغيب عن البال أن الغرض الجوهري استدراج دمشق تحت السطوة العسكرية إلى الإذعان السياسي، والقبول بصيغة حل وصيغة سلام مزعوم تتماشى مع المطامح الإسرائيلية التوسّعية، ومع ما يسميه مجرم الحرب نتنياهو تغيير وجه الشرق الأوسط. ويثيرالحديث عن دعوة أميركية الشرع لتأدية زيارة رسمية إلى واشنطن في سبتمبر/ أيلول المقبل تساؤلات بشأن مغزى التقرّب الأميركي المتزامن مع تصعيد إسرائيلي، وكيف أمكن لواشنطن أن تجمع ما بين هذين النقيضين بأن تمدّ حبال الود والتسهيلات إلى دمشق، في وقت تتجاهل فيه التعدّيات الإسرائيلية الخطيرة والمتتالية، لا تدينها ولا تدعو إلى وقفها، وهو ما يجد نظيراً له في السعي الأميركي إلى وقف إطلاق النار في غزّة، المتزامن مع التعامي عن الفظائع اليومية بحقّ المدنيين هناك، حتى إن واشنطن تغضّ الطرف عن المهزلة الدامية لتقديم المساعدات، اذ تُستخدم المساعدات المزعومة هذه لزيادة تجويع الغزّيين من جهة، ثم للفتك بهم من جهة ثانية، حين يندفعون للحصول عليها. شيء كهذا تفعله إدارة ترامب مع دمشق بإرسال إشارات طمأنة وتسهيل تحقيق برنامج التعافي، وإعادة بناء ما هدمته حرب النظام على شعبه، جنباً إلى جنب مع تجاهل التدمير الإسرائيلي المتمادي للمقدّرات السورية. وعليه، لا مفرّ أمام الحكم الجديد من الربط بين الأمرين، بالترحيب بالمؤشّرات الأميركية الإيجابية، وفي الوقت نفسه، التشديد على أن هذه الإيجابية لا تتماشى أبداً مع إطلاق يد تل أبيب في التدمير.
العربي الجديد
—————————–
هل يتعلَّم لبنان من حكومة الشرع؟/ عبد الرحمن الراشد
9 يونيو 2025 م
مضَى على الرئيسين جوزيف عون ونواف سلام نحو 150 يوماً. من جانب، لبنانُ يعيش أفضلَ مرحلة منذ عقدين مضيَا. ومن جانبٍ آخر، هناك قلقٌ من بُطءِ التَّقدمِ وأنَّ هناك حرباً أخرى على وشكِ أن تنفجرَ!
سواء، إنْ كان المتقاتلون علَى جانبي الليطاني يستعدُّون لمعركة الحسم – وهو مُستبعدٌ – أم لَا، فإنَّ الطريقَ طويلة نحو استعادة لبنانَ كاملَ سيادته من إسرائيلَ و«حزب الله». لا تزال قواتُ إسرائيلَ على التراب اللبناني، والحزب سلَّم القليلَ من سلاحه الذي لم نرَ منه إلا رأسَ الجليد.
المفردات التي تتكرَّر في خطابات الرئيسين ضد «العدو الإسرائيلي» لا وزنَ لها في واقعِ اليوم، وليست ضرورية في الأدبياتِ السياسية المعاصرة.
الحقيقة المرة للبعض، هي أنَّ إسرائيل، لا السلطات اللبنانية، هي من ستكيّف «حزب الله». ستقرّر حجمَه، وحدودَ قدراته، وكذلك نفوذه.
الجارة الكبرى، سوريا، تمرُّ بحالة مشابهة لكنَّها تختلف في المعالجة. سقطَ نظامُ بشار مثلما سقطَ نظام الضاحية، والإرثُ من بعده كبيرٌ مع الجارة «السوبر باور» الإقليمية. على التُّراب السوري قواتٌ إسرائيلية، واستهدافاتها متكررة لمواقعَ سورية.
في هذا الظرف المعقَّد استطاعت حكومة الرئيس أحمد الشرع تحويلَ الأزمة إلى فرصة واستثمرتها، وهي اليوم محلُ ثناء عالمي ليس لما فعلته، بل لمَا لم تفعله أيضاً. لقد تخلَّصت سريعاً من سياسة نظامِ النعامة السابق، الذي فشل في التعاطي مع السياسة بواقعية داخلياً وخارجياً.
لم يهاجمِ الشرع إسرائيل في خطاباته، ولم يحرك قواتِه أو يوعزْ لجماعاته بالاشتباك أو حتى الرَّد على نيرانها. ولم ينفخ بياناتِ حكومته بمزاعم مواجهاتٍ وانتصارات، بل لم يسمِ إسرائيل بالعدو، ولم يرفضِ الوساطات والتفاوض مع الجار الشّرير. لقد أوضح أنَّ هدفَه استقرار سوريا المدمرة وليس زعزعة استقرار من حولها.
الرئيس اللبناني ورئيس الحكومة هما من نخبة العسكر والمدنيين اللبنانيين. سلام خريجُ جامعتي السوربون الفرنسية وهارفارد الأميركية، اعتقد أنَّه الوحيد في تاريخ الحكومات اللبنانية بمثل هذه الكفاءات التعليمية والعملية الدولية. في حين أنَّ الرئيسَ الشرع خريج «هيئة تحرير الشام» ولم يتعرَّف على العالم، قبل الحكم، سوى ما بين الأنبارِ العراقية وإدلب السورية!
لا يحتاج الأمر إلى نظاراتٍ سميكة لنرى كيف أنَّ الشرع تقدَّم في إصلاح شؤون سوريا، ونجح في عقد صفقات مع كلّ القوى الصديقة و«العدوة». احتوى التهديدات من إسرائيل، وإيران، وقوى عراقية، وعقوبات أميركية، بالتَّفاهم معها، وأغرى المستثمرين من الحكومات بعقود بناء وتشغيل مطارات وموانئ وطاقة وصناعة.
ندرك أنَّ التحديات مختلفة في بيروت عن دمشق، ورغم ذلك تلوح فرصة نادرة أمام اللبنانيين قد لا تتكرَّر أربعين عاماً أخرى، تتمثَّل في إنهاء هيمنة الخارج عليه بعد عقود من الفلسطينيين والسوريين والإيرانيين. وهذه المرحلة تتطلَّب مرونة ومعالجة مختلفة عمَّا كان يفعله السابقون.
من قراءة وضع الفريقين المتقاتلين، «حزب الله» وإسرائيل، لا تخرج الاحتمالات أمام الحزب عن ثلاثة. الأول: أن يعودَ بوصفه قوة إقليمية عابرة للحدود، تهدّد إسرائيل، وتدير حوثي اليمن، وتعمل في سوريا والعراق. إلّا أنَّه بات واضحاً أنَّه سيستحيل على الحزب ذلك مع إصرار الإسرائيليين على سياسة منعِ قيام قوة تهدّدها حدودياً. لاحظوا أنَّ مصر والأردن وسوريا في الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل تنظم أنواع الأسلحة والمسافات عن الحدود، وهذا ما كانَ يرفضه «حزب الله». لكن في اتفاق وقف الحرب قَبِل بالخروج من جنوب الليطاني، والتَّخلي عن السّلاح الثقيل ومنصات الإنتاج العسكري وتفكيك بنيته التحتية.
الاحتمال الثاني: «حزب الله» قوة محلية فقط. عليه أن يتموضعَ بعد أن يعترف بانقلاب موازين القوى، ويتخلَّى عن دوره بوصفه قوة لتهديد إسرائيل وورقة إيرانية تفاوضية. سيحاول الاحتفاظ بسلاح يمنحه الهيمنة على الساحة اللبنانية. ولتحديه، تتعاون السلطات اللبنانية والإسرائيلية، حيث يقوم الإسرائيليون بإبلاغ بيروت عن الأسلحة المخبأة، والجانب اللبناني يتولَّى المداهمة والمصادرة.
لكنَّ الحزب خبير في لعبة الاختباء لولا أنَّ الوضع الجديد مختلف وأصعب عليه مما كان في الماضي. ولا توجد فرصة له للتهرب، حتى بعد تنحية الوسيطة الأميركية مورغان أورتاغوس، التي يصورها الحزب وحلفاؤه بأنَّها دمية نتنياهو. فإسرائيل، لا الإدارة الأميركية، هي من تقرّر في الشأن اللبناني، هذا ما تؤكده الهجمات الإسرائيلية العنيفة على الضاحية، وهي الأولى من نوعها منذ نهاية الحرب.
الرئاسة اللبنانية وعدت باستعادة سيادة الدولة، بنزع سلاح الحزب وإنهاء دور لبنان بصفته جبهة حرب بالنيابة، ولم تنجح بعد. من دون ذلك سيكون الاستقرار هشاً والاستثمار محدوداً. مستقبل لبنانَ من عشر وعشرين سنة مقبلة مرهون بهذه الأيام، لإنهاء الوضع من أرض للميليشيات إلى دولة ذات سيادة تنشغل بشأنها الداخلي وحاجات مواطنيها.
هذا ما يفعله الشرع في سوريا بشجاعة ودهاء، مع أنَّ ظروفه أصعب وأخطر مما يواجه الرئاسات اللبنانية. وليس صحيحاً أنَّ العالم هبَّ لدعم الشرع هكذا، أبداً. جعل أولوياته واضحة، فهو من صنع التحالفات، ولم يرضخ لابتزاز الدعايات المحلية والإقليمية بشأن «الجهاد» و«العدو». عليه محاربة الفلول والانفصاليين وترميم الاقتصاد والتفرغ لبناء دولة شبه منهارة منذ نهاية الحرب الباردة.
الشرق الأوسط
——————————-
بيروت ودمشق وتحدي الدولة الطبيعية/ غسان شربل
9 يونيو 2025 م
يتذمَّر اللبنانيون من نصائحِ السفراء وإملاءات المؤسساتِ المالية الدولية. يشعرون أنَّ الخارجَ يرسم لهم الطريقَ والأهداف ويحدّد لهم الوسائل. يزعجهم أن تبدوَ بلادُهم في صورة قاصرٍ لا يثق العالمُ بقدرته على مساعدة نفسِه للخروج من الهاوية. تكاثر الأطباء وتضارب العلاجات يفاقمان أحياناً ارتباكَ المريض وضياعه.
لا جدال أنَّ من حقّ اللبنانيين، أسوةً ببقية الشعوب، مداواة حاضرهم ورسم مستقبلهم. لكن استردادَ هذا الحق لا يتم فقط بالتذكير بالبديهيات. تبدأ الوصاياتُ عموماً حين تتصدَّع الدولُ تحت وطأة التمزقات والتدخلات. والتمزق اللبناني قديم، ويمكن قول الشيء نفسه عن التدخلات.
أخطر ما يمكن أن يصابَ به بلدٌ هو افتقاد القدرة على القرار. غياب هذه القدرة يستنزف ما تبقى من حصانة يفترض أن تتوفَّرَ لبلد مستقل وسيد. يضاعف من حدةِ المشكلة أن يكونَ البلد محاطاً بحروب ونزاعات تفوق قدرته على الانخراط فيها أو الخروج منها. هكذا يتحوَّل البلد أسيراً في الداخل والخارج معاً. والحقيقة أنَّ المريض اللبناني وجد نفسَه فجأة غارقاً في دوامة حروب انطلقت بعد شرارات «طوفان الأقصى». ثم وجد نفسَه أمام نهاياتٍ صعبة لهذه الحروب، وهي على خلاف ما تمنَّاه من أطلقوا «الطوفان» أو «جبهة الإسناد».
لم يكن أهلُ المنطقة يحتاجون إلى تجاربَ جديدة للتعرف على عدوانية إسرائيل ووحشية ممارسات جيشها. لكن ما حدث أعطى آلة القتل الإسرائيلية فرصةَ الذهاب بعيداً في التدمير والقتل وصولاً إلى ممارسات الإبادة. من يراقب سلوكَ إسرائيل حيال غزةَ والضفة وسوريا ولبنان يشعر أن ميزانَ القوى انكسر فعلاً وعلى نحو صارخ.
لا حاجةَ إلى التذكير بالدَّم الذي يسفك قربَ مراكز توزيع الأغذية في غزة. ولا حاجة إلى تفسير معنى أن ينذرَ الجيش الإسرائيلي سكانَ أبنية في بيروت ويطالبهم بإخلائها ثم يقوم بقصفها. الاغتيالات اليومية التي تنفذها المسيّرات الإسرائيلية في لبنان بالغةُ الدلالات ومثلها استكمال تدمير قدراتِ الجيش السوري السابق.
لا يحتاج أهل المنطقة إلى من يشرح لهم أنَّ الزلزال الكبير ضرب الحلقة السورية. نهاية نظام الأسدين أدَّت إلى تغيير في الملامح والأدوار. نهاية تواصل حلقات ما كان يعرف بـ«محور الممانعة» وانقطاع الطريق التي كانت تبدأ من طهران وتمتد إلى بيروتَ بعد المرور ببغداد ودمشق. تغييرٌ هائل وضع المعنيين أمام خيارات بالغة الصعوبة.
دخل أحمد الشرع قصرَ الرئاسة السوري. وجد بين يديه جمرَ الوقائع الجديدة. بلاد مفككة انفرط عقد جيشها ومؤسساتها. بلاد تغرق في الخوف والفقر يعيش الملايينُ من أبنائها في مخيمات قربَ حدودها. وكان على الشرع أن يختارَ وأن يتَّخذ القرار. زمن الفصائلِ يعني الحروبَ التي لا تنتهي. يعني تفكُّكَ سوريا والمزيد من الدّم والمقابر. كان على الشرع أن يقنعَ السوريين وأن يقنعَ العالم. كان لا بدَّ من فرصة لالتقاط الأنفاسِ واستجماع القدرات واستحقاق المساعدات.
فاجأ الشرع السوريين وفاجأ أهلَ المنطقة والعالم. خياره سوريا أولاً ولا يشعر برغبةِ الاستسلام للوصفات القديمة والعقائد الجامدة والعقاقير التي انتهت مدةُ صلاحيتها. قرَّر قراءةَ ميزان القوى الإقليمي والدولي والتعامل معه. والهاجس إنقاذ سوريا واستردادها من الميليشيات والوصايات.
بعثَ الشرعُ برسالة صريحة مفادها أنَّ سوريا الجديدة تريد أن تكونَ دولة طبيعية. دولة تحتكر مؤسساتها الشرعية قرار الحرب والسلم وتحتكر السلاح أيضاً. وهي مهمة ليست بسيطة على الإطلاق. الدولة الطبيعية تعني الذهابَ إلى القانون والمساواة بين المكونات وتعني احترام القوانين الدولية. تعني الخروجَ من القاموس الذي كان قائماً على الشطب والإكراه وتغيير الملامح. تبلور هذه الإرادة السورية شجَّع الدولَ الراغبة في مساعدة سوريا على التحول مشروع استقرار في المنطقة. قال الشرع إنَّ سوريا الجديدة لا تريد أن تشكّلَ تهديداً لأحد من جيرانها. هذه الرغبة في الخروج من الشق العسكري في النزاع مع إسرائيل فتحت باب المصافحات والاعترافات.
على رغمِ الصُّعوبات يسود انطباع أنَّ رحلة الشرع قد أقلعت بدعم إقليمي ودولي. في الوقت نفسه كان اللبنانيون يحلمون بأن تتمكَّن بلادهم من بدء رحلة العودة إلى مشروع الدولة الطبيعية. تجدَّد هذا الحلمُ مع انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية واختيار نواف سلام رئيساً للوزراء. توقَّف اللبنانيون عند خطاب القسم والبيان الوزاري. مرَّت شهور ولم تتمكن الرحلة اللبنانية من الإقلاع. ظروف وصولِ الشرع تختلف عن ظروف وصول عون وسلام. تركيبة لبنان شديدة التعقيد، واستجماع إرادة لبنانية موحدة ليس سهلاً. واضح أنَّ قراءة «حزب الله» لما حدث في المنطقة تختلف عن قراءة المكونات اللبنانية الأخرى وقراءة الرئيسين عون وسلام.
يطالب العالمُ لبنانَ بالعودة إلى قاموس الدولة الطبيعية ليستحقَّ الثقةَ والمساعدات والدعم. عون وسلام لا يستطيعان القيام بهذه المهمة وحدهما، فهي تقع أيضاً وبالدرجة نفسها على عاتق نبيه بري بحكم موقعه في بيئته وفي الدولة معاً. لا يمكن إنجازُ مهمةٍ من هذا النوع من دون أن تقرأ قيادة «حزب الله» كيف انتهتِ الحرب، وماذا حدث في سوريا. إبقاء لبنان معلقاً على حسابات إيرانية أو غير إيرانية قد يعرّضه لخسارة الاهتمام الدولي بمساعدته.
اشترط العالمُ على سوريا الجديدة أن تحملَ مشروع الدولة الطبيعية، فوافقت وصعدت إلى القطار. افتقار لبنان إلى قرارٍ جدي جامع يبقيهِ على الرَّصيف مرشحاً لمفاجآت كثيرة.
الشرق الأوسط
——————————————
من دمشق…/ أسامة أبو ارشيد
06 يونيو 2025
منذ سقوط نظام بشّار الأسد في سورية نهاية العام الماضي، لم يتوقّف الجدل بين مَن رأى في ذلك انتصاراً لثورة الشعب السوري، بعد أكثر من 13 عاماً من الصمود والتضحيات الجسام، وآخرين رأوا في ذلك نجاحاً لمؤامرة إقليمية ودولية ضدّ نظام كانوا يعدّونه جزءاً من “محور المقاومة” في المنطقة ضدّ إسرائيل، ومشاريع الهيمنة الأميركية. بالنسبة إلى مَن كانوا يناصرون النظام على أساس أنه مقاوم أو “ممانع” (أغلبهم عرب غير سوريين بالمناسبة) لم يكن يعنيهم ما يريده السوريون شعباً، وما طبيعة معاناتهم وشكاواهم وآمالهم. المهم بالنسبة إليهم أن نظام الأسد كان يُعلِن أنه من “محور المقاومة” ضدّ إسرائيل. حتى بشّار نفسه، عندما انطلق قطار الثورات العربية من تونس أواخر عام 2010 قبل أن يصل إلى مصر مطلع 2011، لمَّح إلى أن سورية محصّنة ضدّ الثورات، لأن نظام حسني مبارك (سقط في فبراير/ شباط 2011) يمثّل امتداداً لنظام اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، على عكس سورية التي لم تتورّط في اتفاقات تطبيعية معها، وبقي خطابها الرسمي يقاربها عدوّاً مركزياً لها. ولذلك، عندما خرجت مظاهرات السوريين تطالب بالحرية والكرامة، اعتبرها الأسد جزءاً من مؤامرة إقليمية ودولية ضدّ سورية. لكنّ السوريين نظروا إلى الأمر من زاوية مختلفة. هم بغريزتهم وموقفهم معادون لإسرائيل، غير أن نظامي حافظ الأسد (الأب) وبشّار الأسد (الابن) لم يسعيا إلى تحرير الجولان المحتل منذ 1967، أيّ عندما كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع. على العكس، كانت الجبهة السورية مع إسرائيل أهدأ الجبهات منذ 1974، كما لم تردّ سورية يوماً على الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على أراضيها في حقبة الأسد الابن (2000 – 2024)، إذ كان النظام يكتفي بتكرار معزوفته الشهيرة أن “الردَّ سيكون في المكان والزمان المناسبين”، غير أنه لم يأتِ مرّة واحدة أبداً. في المقابل، كان الشعب السوري يرزح تحت وطأة نظام طائفي أمني باطش ومتجبّر، ويعيش في بلد ينخره الفساد والرشوة، ولم يشهد كثيراً من التطوّر العمراني والاقتصادي، بذريعة أن هذه ضريبة المقاومة والممانعة، وليس مصادفةً أن يكون اسم أكثر فروع الأمن شراسة وبثّاً للرعب في قلوب السوريين “فرع فلسطين”.
أكتب هذه السطور من دمشق. هذه أول زيارة لي إلى سورية، وكنت في حقبة الثورة السورية (2011 – 2024) من المطلوبين لنظام بشّار الأسد، بناء على وثائق سرّبت من فروع أجهزته الأمنية قبل سنوات، بسبب تأييدي ومناصرتي ثورة الشعب السوري. كان انطباعي عن دمشق مختلفاً، كنت أظنّها أكثر تطوّراً وتقدّماً بما يليق باسمها ومكانتها. هذه عاصمة محفور اسمها في أعماق التاريخ، يقال إنها إحدى أقدم مدن العالم المأهولة بشكل غير منقطع 11 ألف عام، وإنها أقدم عاصمة في التاريخ. لكن نظام حزب البعث الذي حكم سورية أكثر من ستّة عقود (منذ 1963)، منها 55 عاماً تحت حكم آل الأسد (منذ انقلاب حافظ الأسد الذي سمّاه “الحركة التصحيحية” عام 1970)، لم يقدّر يوماً، ولم يفهم حقيقة حجم دمشق وسورية وقيمتيهما. أعلم أن بعضهم سيعترض ويقول إن أكثر من 13 عاماً من الثورة دمّرت كثيراً من سورية وأوقفت نموها وتطوّرها. لكن، من يزور دمشق سيفاجأ بأن التاريخ يبدو وكأنّه قد توقّف في مركزها منذ عقود، وليس منذ 2011 فقط. وهنا لا أتحدث عن الأحياء الراقية الجديدة التي بنيت لخدمة شريحة معينة في الحكم والمجتمع، بل عمّا يكابده المواطن السوري العادي يومياً. مؤسّسات مترهلة. بنية تحتية ضعيفة. وسائل نقل كثير منها يعود إلى حقبة الثمانينيّات والتسعينيّات من القرن الماضي. فنادق يفترض أنها فاخرة، ولكنّها لم تشهد تحديثات منذ ثمانينيّات القرن الماضي. خلال وجودي في دمشق اضطررت لزيارة أحد المستشفيات العامّة، ولم يكن مستشفى يستحقّه الشعب السوري. لا أجهزة طبية حديثة، ولا أَسرَّة مناسبة، ولا مباني تليق بمستشفى في العاصمة. هذا لا ينتقص من مهنية الأطباء والممرضين وإنسانيتهم، ولا حتى من حقيقة أن العلاج مجّاني، وأظن أن هذا يعود إلى حقبة حزب البعث. لكن، ذلك المستشفى ربّما لم يشهد تطويراً منذ عقود طويلة سابقة على عام 2011.
نعود إلى جماعة أنصار “محور المقاومة”. قلت ذلك من قبل وأعيده هنا، لا أفهم لماذا يصرّ بعضهم على أن يضع جرح فلسطين في مقابل جرح سورية، وغيره من الجراحات العربية النازفة؟ لمصلحة من تبرير جرائم أنظمة عربية ديكتاتورية بحقّ شعوبها بذريعة أنها تؤيّد فلسطين على الأغلب قولاً لا فعلاً؟ إسرائيل هي العدو الاستراتيجي لهذه الأمّة، لا شكّ في ذلك، وفلسطين قطب الرحى والقضية المركزية لهذه الأمّة. لكن، هل فعلاً ثمَّة من هو مقتنع بأننا سننتصر على إسرائيل في وجود أنظمة عربية كثيرة قائمة اليوم؟ وإذا عدنا إلى سورية، ألم يكن أيتام نظام الأسد يخدعون أنفسهم وهم يتحدّثون عنه وكأنه أحد أضلاع “محور المقاومة”، في حين أن شعبه مسحوقٌ لا يبحث إلا عن لقمة عيشه والسلامة من بطش أجهزة الأمن والمخابرات التي لا تحصى عدداً، كل ذلك باسم المقاومة والممانعة وفلسطين؟
لا عجب إذاً أن نظام الأسد (الأب والابن) لم يضع في اعتباره منذ 1974 محاربة إسرائيل، فهو كان يعلم أن شعبه يبحث عن التحرّر منه أولاً. ومع ذلك، لا يعدم أنصار “محور المقاومة” وجود مؤشّرات يعدّونها أدلةً، يبرّرون فيها قلقهم من سقوط نظام الأسد؛ الفصائل المسلّحة التي أسقطته، وفي مقدمها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً المرتبطة بتنظيم القاعدة)، مصنّفة على قوائم الإرهاب الدولي؛ الرئيس السوري أحمد الشرع نفسه موضوع في قوائم الإرهاب الدولي. فجأة تصبح قوائم الإرهاب الدولي المُتحكَّم بها أميركياً مرجعاً محترماً يُعتدّ به عند هؤلاء، وهم لا يفتأون يحيلون إلى الشرع باسمه الحركي السابق (أبو محمد الجولاني)، ثمّ يذكّرونك بلقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الشرع في الرياض الشهر الماضي (مايو/ أيار) بوساطة سعودية تركية، ويتساءلون، محقّين إلى حدٍّ ما، عن ماهية الاستحقاقات المطلوبة سورياً مقابل ذلك، ثمَّ هم يستدلّون ببعض التصريحات المنسوبة إلى مسؤولين سوريين، بمن فيهم الشرع نفسه، تلمّح إلى إمكانية فتح صفحة جديدة من العلاقات مع إسرائيل، وذلك بغض النظر عن دقّة تلك التصريحات أو مدى اتساع أو ضيق نطاقها واشتراطاتها. أمّا الأكثر غرابة، فهو مطالبتهم النظام السوري الجديد بإعلان الحرب على إسرائيل في ظلّ اعتداءاتها المتكرّرة على سورية منذ سقوط نظام الأسد، وتذكيرهم الشرع بأن المنطقة التي ينحدر منها في الجولان السوري محتلّة إسرائيلياً، وكأنها لم تكن محتلةً 58 عاماً، أي منذ أيام نظام الأسد، ومع ذلك لم يُعيّروه يوماً بذلك.
لا يعني ما سبق أن النظام السوري الجديد قد لا ينحرف قومياً ووطنياً، هذا احتمال وليس حتمية. لكن الشعب السوري يستحقّ فرصة جديدة لالتقاط الأنفاس بعد أكثر من ستّة عقود من القمع وتخلّف النظام السياسي الطائفي الذي حكمهم. ما نطرحه هنا ليس من باب السذاجة السياسية. لا يوجد شيك على بياض لأحد، لكن، أن نطالب النظام الجديد بإعلان الحرب على إسرائيل، وهو لم يشكّل جيشاً وطنياً بعد، ولا يزال يواجه تمرّداً وتحدّيات داخلية جمَّة وهائلة، فهذه سخافة وحماقة. أم هل يا ترى نسي المتباكون على نظام الأسد من بعض الأيديولوجيين العرب أن إسرائيل دمّرت أكثر من 90% من القدرات العسكرية السورية بعد سقوط نظام الأسد؟ طبعاً، لن يسأل هؤلاء أنفسهم، لماذا لم تدمّر تلك القدرات والأسد في الحكم، رغم أن إسرائيل كانت قادرة على هذا؟ لو كان يعني هؤلاء سورية لأصغوا لمطالب الشعب السوري واحتياجاته ومآسيه. لا، ليس الشعب السوري خصماً لفلسطين، ولا هو سيتخلّى عن فلسطين، ولا ينبغي لأحد أن يزايد على صفاء معدن السوريين، ولا حتى أن يضع الفظائع التي تجري في قطاع غزّة في مقابل ما يطلبه السوريون من إعادة بناء وطنهم. من غريب الأمور، أن مُحرّضين كثيرين على سورية الجديدة يعيشون في ظلّ أنظمة مطبّعة مع إسرائيل، ولكنّهم يمارسون رقابةً على الذات بذريعة الحكمة. لنعطِ فرصةً للسوريين لإعادة بناء وطنهم، ولنتذكّر أنه لا يمكن مواجهة إسرائيل بدول مفكّكة منهوبة، وشعوب ذليلة منكوبة، تئن تحت وطأة أنظمة قمعية متخلفة.
حتى ذلك الحين، سنتمنّى لسورية أن تكون كما ينبغي أن تكون، وأن لا نفجع فيها مرّة أخرى، فيكفي شعبها ما عاناه من ويلات، ويكفينا ما عانيناه من جراء غيابها إقليمياً.
العربي الجديد
————————————–
إسرائيل وسوريا… أجندة مقترحة للمفاوضات/ إيتمار رابينوفيتش
أولى القضايا إنشاء “خط أحمر” سري لتفادي التصعيد وضبط التوتر
آخر تحديث 05 يونيو 2025
ينبغي أن يمهد لقاء الرئيس دونالد ترمب وأحمد الشرع وقرار ترمب رفع العقوبات الأميركية عن سوريا الطريق لإقامة علاقة عمل إيجابية بين البلدين. وبحسب التقارير، رد الشرع إيجابا على اقتراح ترمب بالانضمام إلى “اتفاقات أبراهام” في وقت مناسب مستقبلا، غير أن الاكتفاء بتفسير ظاهر هذا الموقف قد لا يكون خيارا حكيما، إذ إن كلا من سوريا وإسرائيل ليستا مستعدتين حاليا لمثل هذه الخطوة الجريئة. ومع ذلك، فإن التوصل إلى صيغة تعايش أكثر تواضعا قد يكون الخيار الواقعي.
يشكل سقوط سلالة الأسد وصعود النظام الذي يتزعمه أحمد الشرع وحركته “هيئة تحرير الشام” تحولا بالغ الأهمية في السياسة الشرق أوسطية، ونقطة مفصلية في علاقة إسرائيل بسوريا. فبين عامي 1991 و2011، حلت عملية سلام متقطعة محل الصراع العنيف بين البلدين، غير أنها لم تنجح في التوصل إلى تسوية نهائية. وقد انتهى هذا المسار مع اندلاع الحرب الأهلية السورية، التي دفعت البلاد تدريجيا إلى الوقوع تحت النفوذ الإيراني.
كان إسقاط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 نتيجة غير مباشرة لحرب غزة، إذ أضعفت الضربات الإسرائيلية لإيران و”حزب الله” كلا الطرفين وحرمت الأسد من دعمهما. وفي ظل هذا الفراغ، خرج الشرع وحركته من إدلب، وسيطرا تباعا على حلب، ثم حماة وحمص ودمشق، من دون مقاومة تذكر. استقبلت إسرائيل هذا التحول الراديكالي بمزيج من القلق والترقب. فقد رأت في إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا مكسبا استراتيجيا، لكنها واجهت عددا من التساؤلات الجوهرية. أولها ما إذا كان الجهادي السابق، الذي بات يتزعم النظام الجديد، قد تخلى فعلا عن نهجه السابق وتحول إلى قائد برغماتي يسعى لإعادة توحيد بلاده وإعمارها. كما أثيرت شكوك حول قدرته على كبح جماح القوى الانفصالية داخل سوريا، وبناء دولة موحدة.
أما السؤال الثالث فتمثل في مدى استعداد النظام الجديد لمواجهة التدخلات الخارجية، سواء من جانب تركيا الساعية إلى نفوذ جنوب حدودها، أو من إيران وروسيا اللتين تحاولان الحفاظ على موطئ قدم لهما في سوريا.
وكان الشرع نفسه قد أعلن في أكثر من مناسبة أنه لا يرغب في مواجهة مع إسرائيل أو التعامل معها في المرحلة الراهنة، وأن أولويته تتمثل في إعادة بناء البلاد، مؤكدا أن “القضية الإسرائيلية” مؤجلة حاليا. غير أن إسرائيل اختارت عدم الانتظار. فبدافع من صدمة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، باشرت تنفيذ ضربات استباقية لمنع أي هجمات محتملة من عناصر جهادية في الجولان السورية، وسيطرت على جبل الشيخ والمنطقة المنزوعة السلاح التي كانت تفصل بين البلدين منذ اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، كما دمرت جزءا كبيرا من العتاد الذي خلفه جيش الأسد، لتفادي وقوعه في أيدي المقاتلين الجهاديين. وتدخلت إسرائيل كذلك لدعم بعض من أبناء الطائفة الدرزية الذين تعرضوا لهجمات من عناصر تابعة للنظام، استجابة لنداءات من الداخل السوري وضغوط من الدروز داخل إسرائيل.
ورغم أن هذه البداية لم تكن مبشرة، فإنها لا تعني بالضرورة استمرار هذا النهج التصادمي. فهناك مصلحة مشتركة للطرفين في ترسيخ علاقة مستقرة، من دون الحاجة إلى توقيع اتفاق سلام أو حل نهائي للنزاع. فمثل هذا الحل يبدو مستبعدا في الوقت الراهن، نظرا إلى حاجة النظام الجديد لترسيخ سلطته، وإلى الوزن الذي تمثله التيارات القومية داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل. لكن يمكن للطرفين التوصل إلى تفاهمات عملية حول قضايا عاجلة تمهد الطريق لتعاون بناء.
أولى هذه القضايا هي إنشاء “خط أحمر” سري يتيح لكلتا الحكومتين التواصل ومعالجة نقاط التوتر وتفادي التصعيد غير الضروري، على غرار الآلية التنسيقية بين إسرائيل وروسيا التي حالت، منذ عام 2015، دون وقوع اشتباكات جوية بين البلدين في الأجواء السورية. القضية الثانية تتعلق بالطموحات التركية في سوريا. فإسرائيل تخشى أن تقوم تركيا– وهي دولة غير معادية لكنها تقاد من قبل نظام يتبنى خطابا نقديا حادا تجاه إسرائيل– بالسعي لترسيخ وجود عسكري في عمق الأراضي السورية وعلى مقربة من الحدود الإسرائيلية. ومثل هذا الوجود لا يخدم مصلحة نظام الشرع، إذا كان يطمح إلى ترسيخ جوهر الدولة ذات السيادة وتعزيز صورتها. ومن ثم، ينبغي أن تُجرى مفاوضات مع تركيا بمبادرة من سوريا وإسرائيل، وربما أيضا بمشاركة إدارة ترمب.
أما المسألة الثالثة فتتعلق بإمكانية رفع العقوبات الأميركية، وعلى رأسها “قانون قيصر” الذي أقره الكونغرس بعد قرار ترمب رفعها. إذ يضع الشرع في صدارة أولوياته إعادة بناء الاقتصاد السوري والانطلاق في عملية الإعمار، غير أن العقوبات الأميركية تشكل عقبة مركزية أمام هذا المسار. ويمكن لإسرائيل، من خلال قنوات الحوار مع إدارة ترمب والكونغرس، أن تضطلع بدور مساعد في هذا الشأن.
وفي ما يتصل بعلاقة النظام الجديد بالأقليات، فإنه لا مصلحة لإسرائيل في إعادة بناء علاقة مع الطائفة العلوية، التي شكلت العمود الفقري لنظام الأسد. أما صلتها بالأكراد، وخصوصا أكراد سوريا، فليست وثيقة، ويبدو أن العلاقة بين هؤلاء والنظام الجديد تتسم في المرحلة الراهنة بدرجة من الاستقرار. أما بالنسبة للدروز، فمن مصلحة النظام العمل على إنهاء الاشتباكات مع بعض مكونات هذه الطائفة، بما يسمح بطي هذا الملف كأحد مصادر التوتر المستمرة.
وقد تتمكن إسرائيل من الإسهام في إعمار سوريا، غير أن هذا الخيار يظل رهينا بموقف الشرع. فهل سيكون منفتحا على تلقي دعم مباشر من إسرائيل؟ أم إنه سيفضل إبقاء هذه العلاقة البرغماتية الناشئة في الظل، بعيدا عن أعين الرأي العام؟
المجلة
———————————
إسرائيل في الجنوب السوري: هندسة الخصم وتثبيت الردع/ مالك الحافظ
8 يونيو 2025
ما الذي تريده إسرائيل حقًا من الجنوب السوري؟ هل باتت خطواتها التصعيدية مؤخرًا تندرج ضمن إطار تثبيت لواقع سياسي جديد؟ وهل تشكّل العودة إلى القصف الجوي بعد استمرار تثبيت التمركز البري، كرسالة مزدوجة، للداخل السوري الجديد ولحلفاء دمشق الخارجيين؟
المدفعية الإسرائيلية كانت قد شنت مساء الثلاثاء قصفًا استهدف مواقع في ريف الجنوب السوري، وذلك بعد سقوط قذائف داخل مناطق تابعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي في الجولان المحتل، قادمة – وفق زعم تل أبيب – من الأراضي السورية.
وقال بيان عسكري إسرائيلي إن الضربات نُفّذت “ردًا على إطلاق قذائف باتجاه إسرائيل من داخل سوريا”، دون تحديد طبيعة المواقع المستهدفة أو الجهات المسؤولة عن إطلاق النار.
وفي موقف سياسي لافت، حمّل وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، رئيس السلطة الانتقالية السورية، أحمد الشرع، المسؤولية المباشرة عن الحادث، ما اعتُبر تصعيدًا سياسيًا في مستوى الخطاب، رغم أن إسرائيل لم تُعلن بعد عن موقف رسمي واضح من شرعية السلطة الجديدة في دمشق.
في تلك الأثناء، تداولت وسائل إعلام عربية وفلسطينية بيانًا نُسب إلى جماعة غير معروفة تُطلق على نفسها اسم “كتائب الشهيد محمد الضيف”، أعلنت فيه مسؤوليتها عن الهجوم. ويشير اسم الجماعة إلى القائد العسكري البارز في حركة “حماس”، الذي قُتل في غارة إسرائيلية عام 2024، ما أثار تساؤلات حول احتمال تشكّل خلايا موالية لحماس أو مرتبطة بها في الجنوب السوري.
يمثل هذا التطور امتدادًا لسلسلة من التفاعلات الميدانية التي اختلقتها إسرائيل بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، وصعود سلطة انتقالية جديدة. وتُدرك إسرائيل أن هذا التغيير في بنية الحكم السوري يفتح مرحلة من الغموض السيادي في الجنوب، ما يسمح لها بالتحرك الميداني السريع، ويقلل من أية احتمالية للتصعيد المضاد.
كما يأتي هذا الحادث في وقت تجري فيه محادثات غير رسمية ومحدودة التأثير حتى الآن بين شخصيات سورية محسوبة على السلطة الانتقالية وطرفين إقليميين هما تركيا وإسرائيل، بشأن آليات ضبط الجنوب السوري أمنيًا، بما يمنع تحوّله إلى ساحة صراع غير مضبوطة التوازنات.
رسائل نارية محسوبة
قد تخشى تل أبيب من احتمال ظهور “نموذج جبهة مفتوحة” على حدودها الشمالية الشرقية، خصوصًا في ظل الهشاشة البنيوية المؤقتة للسلطة الانتقالية.
ويفسّر ذلك توجّه إسرائيل نحو توجيه رسائل نارية محسوبة، ليس فقط للرد على إطلاق نار، وإنما لتثبيت خطوط ردع جديدة، ومنع الجنوب السوري من التحوّل إلى “منطقة رمادية” شبيهة بجنوب لبنان مطلع الألفية.
بالعموم، لا يمكن فصل هذا التصعيد عن التوتر المتراكم في الجنوب السوري، ولعل ما يحدث يكشف عن اختبار فعلي لفكرة “السيادة السورية” الجديدة، من حيث الشكل والوظيفة.
التصعيد الأخير لا يمكن فصله أيضًا عن نمط ثابت دأبت عليه إسرائيل منذ بدء الفراغ السيادي في سوريا، والمتمثل بإعادة تعريف الخصم وفق شروطها الأمنية الخاصة، فحين تُحمّل تل أبيب السلطة الانتقالية الجديدة في دمشق مسؤولية إطلاق قذائف لم يُثبت ارتباطها المباشر بأي جهاز رسمي، فهي تُنتج خصمًا على مقاسها، وتُثبّت في الوعي الدولي أن هناك طرفًا واضحًا يمكن مساءلته وتهديده.
وبدل أن تعترف إسرائيل بعدم تبلور منظومة القرار والسيطرة في دمشق الجديدة، تختار أن تُقحم هذه السلطة الناشئة في موقع “الخصم المسؤول”، لأنها ببساطة تحتاج إلى طرف يمكن مخاطبته علنًا وتوجيه النار نحوه. ما بدا في الظاهر ردًّا إسرائيليًا على إطلاق صواريخ، يمكن قراءته في باطنه كاستعراض لقوة الردع الإسرائيلي في منطقة باتت بلا مركز سيادي حقيقي.
الرد الإسرائيلي السريع، يحمل أبعادًا تتجاوز الميدان، فهو رسالة مزدوجة؛ للداخل الإسرائيلي بأن الخطوط الحمراء ما زالت قائمة رغم الغموض السوري، وللخارج بأن إسرائيل تحتفظ بحق الحركة الاستراتيجية من دون الحاجة للتنسيق مع دمشق أو حتى أنقرة أو واشنطن.
إسرائيل تستثمر لحظة التفكك السوري لتعزيز موطئ قدمها في الجنوب، مستفيدة من الفراغين الأمني والسياسي. ويبدو أن تل أبيب لا تبحث حاليًا عن اتفاق سلام أو صيغة تفاهم معلنة، بل تُفضّل واقعًا ميدانيًا يتيح لها التحرك بحرية.
لا يبدو الجنوب السوري اليوم ساحة صراع مباشر بين دمشق وتل أبيب، بقدر ما هو مساحة اختبار لقدرة الدولة السورية على إعادة تعريف نفسها، والجنوب السوري يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى مساحة تنازع بلا قرار موحد، فيما تتحرك إسرائيل بحرية نسبية، لا لتوسيع نفوذها فحسب، وإنما لتقييد شكل السلطة السورية المقبل.
منطقة عازلة في الجنوب؟
في قلب التحليل السياسي لمستقبل الجنوب السوري، تبرز المنطقة العازلة كأداة لإعادة تشكيل الخرائط الذهنية والسياسية لمنطقة ما بعد الحرب، ولتأطير الفوضى ضمن “حدود يمكن التحكم بها”، دون الحاجة إلى احتلال مباشر أو التزامات قانونية كاملة. وهنا تبرز ضرورة مساءلة هذا المفهوم وفقًا لمدارسه القانونية والسياسية المقارنة.
وفق اتفاقيات جنيف (وخاصة البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977)، تُفهم المنطقة العازلة كحيّز يُفترض أن يكون منزوع السلاح، ومُخصص لحماية المدنيين، أو الفصل بين جبهات النزاع لمنع التصعيد. لكن في الحالة السورية، فإن هذه “الحيادية” تأخذ شكلًا مقلوبًا؛ إذ يتم تصميم العزل الأمني بقرار أحادي، تُفرض خطوطه ميدانيًا دون تفاوض سيادي فعلي، في عملية يمكن قراءتها، استنادًا إلى أطروحات مايكل والتزر عن أخلاقيات الحرب الحديثة، كنوع من “الحوكمة القسرية بالمراقبة الجوية”، حيث تُفرض السيطرة دون احتلال فعلي.
بمعنى آخر، يتم تسويق هذه المناطق كأدوات حفظ سلام، بينما هي فعليًا أدوات إعادة هيكلة جغرافيا السلطة، وتكريس لانعدام السيادة في ظل ضعف المركز.
في الحالة السورية، لا تشير المنطقة العازلة فقط إلى عزل جغرافي، بل تتعدّاه إلى شكل من العزل السياسي، حيث يُجرَّد المركز من القدرة على التأثير في حدود القرار السيادي جنوبًا.
الترا سوريا
———————————–
تركيا وإسرائيل في سوريا… “خط ساخن” لمنع الصدام العسكري/ عمر اونهون
بعد اجتماعات سورية – تركية – إسرائيلية في أذربيجان
آخر تحديث 05 يونيو 2025
شهدت العلاقات بين تركيا وإسرائيل مزيدا من التدهور في أعقاب إطاحة قوى معارضة تقودها “هيئة تحرير الشام” ببشار الأسد في سوريا. وفيما يُنظر إلى الرئيس رجب طيب أردوغان و”حزب العدالة والتنمية” وقاعدتهما الشعبية على نطاق واسع كمؤيدين للقضية الفلسطينية ومنتقدين لإسرائيل من الناحية الأيديولوجية، فإن اختزال التوترات الثنائية في هذا الموقف تحديدا تبسيط مخل. وعلى الرغم من التقلبات الناجمة عن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني والحروب العربية-الإسرائيلية الأوسع، شهدت العلاقات التركية-الإسرائيلية نموا ملحوظا، ولا سيما في عقد التسعينات. وبوصول تانسو تشيلر إلى سدّة الحكم في تركيا، قامت بسابقة تاريخية حين زارت إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني 1994، فكانت أول زعيم تركي يقوم بزيارة رسمية لإسرائيل على هذا المستوى. وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، برزت تركيا كواحدة من أكثر الوجهات السياحية شعبية لدى الإسرائيليين، حيث ارتفع عدد الزوار من 100748 في عام 1993 إلى 310604 في عام 2001، وسجّل رقما قياسيا بلغ ذروته عند 580000 في 2008، قبل أن يتراجع بحدة.
في فبراير/شباط، وأغسطس/آب من عام 1996، وقّع البلدان اتفاقيات تعاون دفاعي أثارت قلقا واسعا في العالم العربي، ما دفع الدبلوماسيين الأتراك إلى طمأنة الحكومات العربية بأن تلك الاتفاقيات لا تستهدفها، مؤكدين أن العلاقات القوية مع إسرائيل قد تخدم القضية الفلسطينية في نهاية المطاف.
وعند تولي حزب “العدالة والتنمية” السلطة عام 2002، أظهر وعيا بتأثير إسرائيل والشتات اليهودي العالمي في مجالات المال والسياسة والإعلام، وسعى إلى بناء علاقات بناءة. وتُوّج هذا التوجه بمنح رئيس الوزراء آنئذ رجب طيب أردوغان “جائزة الشجاعة في الرعاية” من رابطة مكافحة التشهير في نيويورك في يونيو/حزيران 2005، وهي جائزة تُمنح للقادة الذين قدموا دعما لليهود خلال “الهولوكوست”. وخلال الحفل، ندد أردوغان بمعاداة السامية واصفا إياها بـ”المرض العقلي المخزي”، كما وصف “الهولوكوست” بأنه “أكبر جريمة ضد الإنسانية في التاريخ”.
غير أن أول انتقاد علني كبير من أردوغان لإسرائيل كان في مارس/آذار 2004، عقب اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة “حماس” حيث اتهم إسرائيل بممارسة “إرهاب الدولة”. ومع ذلك، فضّلت حكومة “العدالة والتنمية” عدم تصعيد الموقف، وحرصت على الحفاظ على قنوات التواصل الدبلوماسي. وسرعان ما استؤنفت العلاقات عبر زيارات رفيعة المستوى، فزار وزير الخارجية عبد الله غُل إسرائيل في يناير/كانون الثاني 2005، تبعه أردوغان في مايو/أيار من العام ذاته.
وكان عام 2008 عاما مفصليا عندما بادرت تركيا إلى التوسط في محادثات سلام غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل بشأن مرتفعات الجولان. وعلى الرغم من أن المفاوضات أظهرت وعودا إيجابية، فإنها سرعان ما انهارت في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته عقب شن إسرائيل عملية “الرصاص المصبوب” ضد غزة. وقد شعر رجب طيب أردوغان بخيانة شخصية من رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، الذي كان قد زار أنقرة قبل أيام من الهجوم، وخدعه- كما رأى أردوغان- بشأن نوايا إسرائيل.
وقع شرخ آخر خلال “المنتدى الاقتصادي العالمي” في دافوس عام 2009، حين شارك أردوغان في حلقة نقاش مع الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريز، وصرّح غاضبا: “عندما يتعلق الأمر بالقتل، فإنكم تعرفون جيدا كيف تقتلون”، قبل أن يغادر المنصة في حركة درامية تركت أثرا بالغا في المنطقة، وشكلت نقطة تحول حاسمة في العلاقات التركية-الإسرائيلية.
تلى ذلك في عام 2010 حدث استفزازي، عندما اقتحمت قوات الكوماندوز الإسرائيلية سفينة “مافي مرمرة” التركية، التي كانت تحمل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة المحاصر. ومع ذلك، سُجل انفراج جزئي في عام 2013 عندما قدمت إسرائيل اعتذارا رسميا إلى تركيا، تبعته تعويضات مالية في عام 2016، مما مهد الطريق أمام استعادة العلاقات الدبلوماسية وإعادة تبادل السفراء بعد انقطاع دام ست سنوات.
ورغم الاضطرابات السياسية، ظلت الروابط الشعبية بين البلدين قوية، فاستمرت السياحة الإسرائيلية إلى تركيا مدعومة بأكثر من 20 رحلة يوميا بين إسطنبول وتل أبيب، إلى جانب خدمات الطيران. كما بقيت العلاقات التجارية متينة، إذ بلغ حجم التبادل الثنائي في عام 2017 نحو 4.9 مليار دولار، منها 3.4 مليار دولار صادرات تركية، و1.5 مليار دولار واردات من إسرائيل.
غير أن قرار الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها عام 2018 تسبب في شرخ جديد، فسحبت تركيا وإسرائيل سفيريهما مجددا، وظلت العلاقات مجمدة لأربع سنوات. وخلال هذا الجمود الدبلوماسي، عززت إسرائيل علاقاتها مع اليونان، الخصم الإقليمي التقليدي لتركيا، ومع القبارصة اليونانيين. كما انضمت مصر، التي كانت على خلاف مع أنقرة آنذاك، إلى هذا التحالف الجديد. وشكّل هؤلاء معا منتدى غاز شرق المتوسط، في خطوة تهدف إلى تشكيل جبهة موحدة ضد المصالح الاستراتيجية التركية في المنطقة.
وبحلول عام 2022، أسهمت مجموعة من الديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة، إلى جانب وساطة أميركية وتحول أوسع في سياسة أردوغان الخارجية نحو “عدد أقل من الأعداء، عدد أكبر من الأصدقاء”، في إعادة ضبط أخرى للعلاقات. وأُعيد تعيين السفراء، وجاءت لحظة واعدة في سبتمبر/أيلول 2023، عندما عقد الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أول اجتماع ثنائي بينهما على الإطلاق خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقد اعتُبر هذا اللقاء مؤشرا على أمل في التقارب. غير أن هذا التقدم الهش سرعان ما انهار إثر هجمات حركة “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والحملة العسكرية الإسرائيلية اللاحقة في غزة، لتبلغ العلاقات بين تركيا وإسرائيل مستوى جديدا من التدهور. حينها، برز الرئيس رجب طيب أردوغان كأحد أشد منتقدي إسرائيل، إذ استدعت أنقرة سفيرها من تل أبيب وطردت السفير الإسرائيلي. كما فرضت تركيا حظرا رسميا على إسرائيل، وأصبحت صوتا بارزا في المحافل الدولية التي تدين العمليات العسكرية الإسرائيلية وتطالب بالمحاسبة على ما وصفت بجرائم الحرب.
ودعا أردوغان العالم الإسلامي إلى التوحد في مواجهة ما وصفه بـ”تعاظم تهديد التوسع الإسرائيلي”. وفي تصريح يُعد من بين الأقوى له، ألمح إلى أن تركيا قد تدرس التدخل العسكري لوقف الحملة الإسرائيلية، وهو ما فُسّر على نطاق واسع باعتباره تهديدا لا لبس فيه. وتحولت تركيا، من المنظور الإسرائيلي، إلى أحد الخصوم الإقليميين الألدّاء، جنبا إلى جنب مع إيران و”حماس”.
وقد أضاف سقوط نظام بشار الأسد طبقة أخرى من التعقيد، ففي ظل الفراغ السياسي في سوريا وصعود الرئيس المؤقت أحمد الشرع، الذي لا تزال علاقاته السابقة بفصائل جهادية مثل “هيئة تحرير الشام” مصدر قلق لإسرائيل، تحوّلت سوريا إلى بؤرة محتملة لتصعيد التوتر بين إسرائيل وتركيا.
إسرائيل تريد سوريا ضعيفة ومنقسمة، خشية تطورات عدائية مستقبلية، شنت إسرائيل غارات جوية متكررة استهدفت مواقع عسكرية في أنحاء سوريا، لمنع استخدامها لأغراض عملياتية. كما دفعت باتجاه إنشاء منطقة أمنية عازلة على حدودها وفي جنوب سوريا، وفرضت سيطرتها الفعلية على كامل مرتفعات الجولان، وتوغلت في أراض سورية إضافية. وطالبت تل أبيب رسميا بتصنيف جنوب سوريا منطقة منزوعة السلاح.
ورغم الموقف الإسرائيلي المتشدد، تبنى الشرع خطابا برغماتيا، مشددا على أولوية الوحدة والانتعاش على حساب المواجهة. وأعلن أن سوريا لا تشكل تهديدا لإسرائيل ولا تسعى إلى صراع معها. ومع ذلك، تظل إسرائيل حذرة، خاصة من النفوذ التركي المتزايد، إذ تُعد قدرة أنقرة على المساعدة في إعادة بناء الجيش السوري وتأهيله، وإنشاء قواعد على الأراضي السورية، تهديدا مباشرا لحرية إسرائيل في التحرك وتفوقها العسكري في المنطقة. وقد أعربت إسرائيل عن هذه المخاوف علنا.
وفي يناير/كانون الثاني من هذا العام، أصدرت لجنة “ناجل”، وهي هيئة استشارية تابعة للحكومة الإسرائيلية مكلفة بتقييم مخاطر الأمن القومي، تقريرا صنّف التطلعات الإقليمية المتزايدة لتركيا على أنها تهديد حاسم. وحذر من أن السياسة التركية لإعادة بناء نفوذها الإقليمي تمثل خطرا طويل الأمد يتجاوز إيران، لا سيما من خلال دعمها للجماعات المسلحة في سوريا. وأوصى بأن تستعد إسرائيل لاحتمال اندلاع صراع مباشر مع أنقرة.
وكانت صدى لتحذيرات سابقة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 على لسان وزير الخارجية جدعون ساعر، الذي دعا- قبل سقوط الأسد- إلى بناء تحالفات استراتيجية مع الأقليات الإقليمية. وفُسِّرت إشارته إلى الأكراد بوصفهم “ضحايا القمع والعدوان من إيران وتركيا” كرسالة تهديد مبطنة موجهة إلى تركيا والقيادة السورية.
إدواردو رامون إدواردو رامون
تابعت إسرائيل هذه السياسة حتى بعد سقوط الأسد، مركزة جهودها على الكرد والدروز والعلويين. وخلال كلمة ألقاها في حفل استقبال بمناسبة عيد الاستقلال في القدس في مايو، صرّح جدعون ساعر بأن على المجتمع الدولي “أن يتحمل مسؤولياته بحماية الأقليات في سوريا. وقد حمل هذا التصريح تهديدا مبطنا، ليس إلى الشرع وحده، بل أيضا إلى تركيا، المعروفة بموقفها الشائك من المسألة الكردية. وتزايدت مخاوف إسرائيل عقب زيارة الشرع إلى تركيا في فبراير/شباط، حيث ظهرت تقارير عن اتفاق دفاعي بينه وبين أردوغان.
وبموجب ما تم تداوله، ستوفر تركيا تدريبات عسكرية للجيش السوري، وستُمنح حق الوصول إلى قاعدتين عسكريتين لنشر الطائرات وأنظمة الدفاع الجوي التركية. ولم يتأخر الردّ الإسرائيلي، فجاء سريعا وحادا، حين شن سلاح الجو ضربات استهدفت القواعد العسكرية في حمص وحماة، التي يُعتقد أنها كانت مخصصة للاستخدام التركي، ما أدى إلى تدمير بنية تحتية رئيسة شملت المدارج وحظائر الطائرات. وفي خطوة ترهيبية أخرى، ألقت الطائرات الحربية الإسرائيلية قنابل على بُعد أمتار من القصر الرئاسي على جبل قاسيون في دمشق، موجّهة رسالة واضحة إلى الشرع.
خطوط مباشرة
وسط تصاعد المخاوف من مواجهة مباشرة بين تركيا وإسرائيل، أفادت تقارير بلقاءات سرية جمعت مسؤولين من الجانبين في باكو، في مارس/آذار، باستضافة أذربيجان. ورغم عدم صدور تأكيد رسمي أو نتائج معلنة، فإن التهدئة الأخيرة تشير إلى احتمال التوصل إلى تفاهم معين. وتقول روايات غير مؤكدة إن الجانبين اتفقا على نقاط اتصال وربما أنشآ خطا ساخنا سريا لإدارة الأزمات المستقبلية.
ويمضي نتنياهو في مساره كسياسي يعتمد مستقبله السياسي على استمرار الحرب بأهداف متطرفة ويصعب جداً تحقيقها، ولكن نهجه هذا لم يُثر غضب تركيا فحسب، بل نقمة الرئيس ترمب وحلفاء رئيسين تقليديين آخرين، بما في ذلك المملكة المتحدة وكندا وفرنسا.
كما لعبت الولايات المتحدة دورا خلف الكواليس في خفض التوترات. ورغم أن إدارة دونالد ترمب وفرت دعما غير مسبوق لإسرائيل، فإن مؤشرات حديثة تدل على فتور في العلاقة الشخصية بين ترمب ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وأهم من ذلك إعلان ترمب عن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا بعد مشاورات مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس أردوغان، مشيرا بشكل قاطع إلى أن إسرائيل لم تُستشر. وخلال زيارته إلى الرياض، التقى ترمب الشرع، وأعلن دعمه له، معبرا عن ثقته في قدراته رغم ماضيه المثير للجدل.
والأكيد أن هذه الخطوات والتصريحات تسبب قلق نتنياهو واستياءه. وقد استضافت أذربيجان في مايو/أيار جولة ثانية من الاجتماعات، جمعت ممثلين عن كل من إسرائيل وسوريا وتركيا في العاصمة باكو. ومرة أخرى، لم يصدر أي بيان رسمي، إلا أن هذه اللقاءات عُقدت على مستوى فني، وهدفت إلى تجنّب التصعيد العسكري. ولكن انعقاد مثل هذه الاجتماعات لا يتم إلا بموافقة السلطات السياسية العليا، وهو ما يضفي عليها، بطبيعتها، طابعا سياسيا لا لبس فيه.
ولا ريب أن في هذا النوع من التفاعل خطوة ضرورية في مسار إعادة تشكيل العلاقات بين الفاعلين الإقليميين الرئيسين تمهيدا لنظام إقليمي جديد يُنعش فرص التعاون الاقتصادي ويعزز جهود التنمية. ومع ذلك، ما دامت إسرائيل تحت قيادة نتنياهو، فإن تحسّن العلاقات بينها وبين تركيا لا يبدو أمرا قريب المنال. على أن مجرد الحيلولة دون انزلاق البلدين إلى مواجهة مباشرة على الأراضي السورية سيعتبر نجاحا للطرفين.
——————————–
تقرير صادم عن معركة إسرائيل المقبلة مع سوريا الشرع وعن دور ملتبس لدولتين
قلق إسرائيلي من تنامي نفوذ قطر وتركيا في سوريا ما بعد الأس
إيلاف من تل أبيب: أفاد موقع “واللا” العبري بأن المعركة القادمة لإسرائيل قد تكون في سوريا، مشيرا إلى ضرورة حذر تل أبيب من الدور المتزايد لقطر وتركيا بعد سقوط نظام الأسد.
وأوضح الموقع، المقرب من دوائر الاستخبارات الإسرائيلية، أن قطر وتركيا لم تنتظرا نهاية الحرب في سوريا قبل أن تبدآ في تعزيز وجودهما على الأرض. فقد زودتا المسلحين المعارضين لنظام الأسد بالسلاح والتمويل، وساهمتا في جهود إعادة الإعمار، والآن تطالبان بحصة في سوريا الجديدة.
وأشار التقرير إلى أن إسرائيل بدأت تدرك أن مرحلة ما بعد الأسد قد لا تكون بالضرورة في صالحها. فقبل ستة أشهر، نجحت قوات المعارضة السورية بقيادة أبو محمد الجولاني (المعروف رسميا بأحمد الشرع) في السيطرة على دمشق بعد هجوم مفاجئ أطاح بنظام بشار الأسد الذي حكم البلاد لأكثر من 24 عاما.
ويزعم النظام الجديد أن أولويته حالياً هي إعادة الأمن والقانون إلى سوريا، بينما يعزز موقفه بعد رفع العقوبات الأمريكية عن البلاد، كما أعلن الرئيس ترامب قبل أسابيع. ومع دخول سوريا عهدا جديدا، بدأت قوى جديدة مثل قطر وتركيا، التي كانت تدعم المعارضة خلال الحرب، تظهر كفاعلين رئيسيين في المشهد السوري.
وعلق أحد المتابعين قائلاً: “لا داعي للذعر. سقوط نظام الأسد الإرهابي هو أفضل ما حدث في المنطقة. لإسرائيل والنظام الجديد في سوريا مصالح مشتركة في مواجهة المحور الإيراني، كما أن تركيا وقطر تشاركانها هذا الهدف. المشكلة الحقيقية ستكون إذا تدخل الدروز في هذه المعادلة”.
بينما رأى قارئ آخر أن “كل هذه الأطراف تريد الحصول على مكاسب من سوريا، لكن السؤال هو: ما الذي ستعطيه سوريا في المقابل؟ ربما ستفتح الباب أمام وصولها إلى الحدود مع إسرائيل”.
وأضاف ثالث: “الحقيقة أن سوريا هي الأكثر حاجةً إلى تجديد العلاقات مع إسرائيل، لكن الأخيرة تشك في جدوى ذلك بسبب نفوذ تركيا وأردوغان والمملكة العربية السعودية، الذين يسعون جميعاً إلى السيطرة على الأراضي السورية. بينما كل ما تريده إسرائيل هو الأمن والهيمنة الكاملة على هضبة الجولان”.
————————————
استعصاء في السويداء.. التسوية السياسية تسابق الحل الأمني/ليدا زيدان
9 يونيو 2025
تمثّل السويداء تحديًا للحكومة الانتقالية، وهي اليوم الملف الأكثر تعقيدًا في المشهد السوري بعد سقوط النظام، إذ إنها حتى الآن لم تنخرط كليًا ضمن النظام الجديد في البلاد، وتعيش حالة من التوتر والانغلاق، خاصةً بعد الأحداث الأخيرة في ريفها، وفي مدينتي جرمانا وأشرفية صحنايا.
عرفت المحافظة نوعًا من الإدارة المحلية في سنوات الثورة الأخيرة، ووجدت نفسها بعد سقوط النظام أمام واقع مختلف، وفيما كانت هناك محاولات للتقارب الوطني ومحاولات لإعادة التموضع بشروط، خلال الأشهر الأولى، فقد تسببت الأحداث، التي جرت منذ نحو شهر، بحالة من الجمود وغياب الثقة، حيث شنت مجموعات مسلحة هجومًا على قرى في ريف السويداء، وعلى كل من “جرمانا” و”أشرفية صحنايا” بريف دمشق، وتنشط بعض هذه المجموعات تحت مظلة الحكومة الحالية، وعلى الرغم من أن الحكومة نفت علاقتها بالأمر إلا أن الشارع في السويداء حمّلها مسؤولية ما جرى، خاصة مع غياب أي رد فعل رسمي.
هذا الوضع القائم يحرج الحكومة الجديدة كما يحرج النخب السياسية والثقافية في المحافظة، فما هي الاحتمالات الممكنة إزاء ملف السويداء وهل نحن أمام تصعيد أم حل في الأيام القادمة؟
يقول عضو المكتب السياسي في الحركة الشبابية السياسية في السويداء ومدير برامج منظمة “جذور سوريا”، جبران حمزة، إن ملف السويداء يتجه الآن إلى تنفيذ بنود الاتفاق مع حكومة دمشق، خاصةً بعد الاتفاق الأخير بين قادة الفصائل ووجهاء المحافظة، وبعد اللقاء مع الرئيس أحمد الشرع.
ويضيف: “في السويداء لا أحد لديه مصلحة في التصعيد ضد الحكومة السورية والشحن الطائفي، ماعدا الذين كانوا يتبعون للأجهزة الأمنية السابقة في سلطة بشار الأسد، وهم يدركون أنه لا يمكن عزل السويداء عن محيطها، وكل محاولاتهم لفصل السويداء باءت بالفشل لعدم امتلاكهم قاعدة شعبية ونبذهم من قبل الأهالي”. ويرى حمزة أن ملف السويداء لن يذهب للتصعيد العسكري “بل سيتم تنفيذ بنود الاتفاق وانخراط السويداء في الدولة السورية”.
ما هي الخطوات العملية المتمثلة في بنود الاتفاق المشار إليه؟ يجيب حمزة: “الحلول تتضمن تفعيل الضابطة العدلية وانخراط الفصائل في وزارتي الدفاع والداخلية وتفعيل سيادة القانون، وهو ما يتم العمل عليه منذ 4 أشهر لتجنب التصعيد العسكري وحل ملف الجنوب السوري”.
ويتابع: “المطالب المقدمة في الاتفاق مع الحكومة السورية هي دمج الفصائل في وزارتي الدفاع والداخلية، وجعل خدمة المتطوعين ضمن المحافظة، وضبط السلاح العشوائي، وعدم تسليمه مع جعله ضمن صلاحيات الضابطة العدلية، بالإضافة لتقديم الدعم اللوجستي من الحكومة السورية لمؤسسات الدولة كافة”.
خطوة للتقارب أم ضغط أمني؟
بعد التطورات الأخيرة في المحافظة واستقالة المحافظ، مصطفى البكور، وضمن إعادة الهيكيلية لوزارة الداخلية، عيّنت الوزارة العميد أحمد الدالاتي قائدًا للأمن الداخلي في السويداء. استُقبل هذا التعيين بردود فعل مختلفة حيث ذهب البعض إلى اعتبار هذا التعيين خطوة للتقارب وإعادة الثقة فيما اعتبره آخرون ما يشبه ضغطًا حكوميًا على المدينة.
يعلق الكاتب والمحلل السياسي، د. مالك الحافظ، في حديث لـ”الترا سوريا”، على هذه التطورات قائلًا: “تعيين أحمد الدالاتي يُقرأ كرسالة سياسية تحمل مؤشرات على إعادة ضبط العلاقة بين دمشق والسويداء وفق منطق الإدارة الأمنية المحسوبة.. يبدو أن السلطة الانتقالية تسعى إلى تسكين التوتر عبر شخصية ترى فيها قدرة على “التفاوض الصامت” أكثر من المواجهة المباشرة”.
ولا يعتبر الحافظ أن ذلك سيؤدي إلى خفض التوتر بالضرورة أو احتوائه بالكامل، نظرًا لأن المسألة تتجاوز الأشخاص إلى طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع المحلي في السويداء والتي مازالت محكومة بانعدام الثقة.
أما فيما يخص الاتفاق الذي كان قد تم تفعيله على خلفية الأحداث، وبالرغم من الالتزام من قبل الفصائل في السويداء ببنوده إلا أن هناك مشكلة جوهرية تتمثل بانعدام الدعم اللوجستي من قبل الحكومة حسب تصريحات للفصائل المحلية، وهذا قد يؤدي إلى فشل هذا الاتفاق إن لم يكن هناك مساع جدية من الطرفين لإتمامه.
يتابع الحافظ حول هذه النقطة: “الاتفاق الذي بني على تفاهم ضمني بعدم التصعيد مقابل ضبط مجتمعي داخلي، قد يعاد تفعيله بصيغة أكثر تفصيلًا خصوصًا إذا أبدت السلطة الانتقالية استعدادًا لتفويض بعض الملفات للوسطاء المحليين كشيوخ العقل، ومع ذلك لا يُستبعد أن تسعى السلطة لتطبيق نموذج “إداري – أمني” جديد يعزل المدينة عن مطالبها الوطنية الكبرى ويحولها إلى حالة تدار عبر تفاهمات مناطقية”، ويعتبر الحافظ أن هذا الاحتمال قد يفجر أزمة جديدة إذ لم يكن مقبولًا محليًا.
التصعيد أم التوافق؟
بالرغم من الخطاب المتشدد ودور الإعلام التحريضي بعد الهجوم الأخير، لكن يمكن القول إن المزاج العام في السويداء لا يتجه نحو الانفصال، بل يتمثل المطلب الأساسي بالاحترام لحقوق المكونات وإشراكها في بناء الدولة الجديدة، ورفض أي محاولات للهيمنة، بالإضافة لضبط المؤسسة الأمنية، والوصول لصيغة حكم تراعي خصوصية المنطقة ضمن إطار الدولة، وبحسب الحافظ فإن “المرحلة المقبلة ستظل محكومة بالتوازن الدقيق بين الرغبة بالاستقرار والقلق من الإقصاء، التوافق ممكن، لكنه هش ومشروط بمدى استعداد الحكومة الانتقالية للانتقال من منطق الضبط الأمني إلى منطق التمثيل والتفاهم الوطني الحقيقي”.
وهنا يترتب على الحكومة القيام بخطوات جدية لاحتواء التوتر من خلال محاولة علاج ملف السويداء سياسيًا وليس أمنيًا عبر التواصل مع فعاليات في السويداء والسعي لتهدئة حقيقية.
كما قد يؤدي التأخر في التحرك السياسي من قبل الحكومة وتجاهل المطالب المحلية ومحاولة فرض صيغة أمنية إلى زيادة التوتر. “حالة الانغلاق قد تستمر ما لم يفتح أفق سياسي واضح يطمئن أهالي السويداء، أما التصعيد فيبقى احتمالًا قائمًا في حال شعرت الجماعات المحلية أن التعيينات والقرارات تفرض كأمر واقع دون شراكة في القرار”.
تبدو مشكلة السويداء كاختبار لمفهوم الدولة الجديدة والمبدأ الذي ترتكز عليه. هل نحن أمام دولة تشاركية أم أمام محاولة أخرى لاحتكار السلطة. يقول الحافظ : “الحل يكمن في إعادة تعريف العلاقة بين الدولة التي تسسيطر عليها حاليًا السلطة الانتقالية والمجتمع المحلي في السويداء، والمطلوب هو فتح مسار سياسي محلي ينهي الشعور بالتهميش والتعامل الفئوي، ويضمن للمحافظة مشاركة فعلية في صياغة مستقبلها داخل الدولة، بناء الثقة يتطلب إشراك حقيقي للمكونات وضمانات واضحة لحقوقهم واستراتيجية أمنية تقوم على الحوار والشفافية”.
التوازنات الإقليمية ودورها
لا يمكننا مناقشة ماحدث في محافظة السويداء بمعزل عن التوازنات الإقليمية والصراع الإسرائيلي ــ التركي على النفوذ في سوريا. تركيا لديها مخاوفها من إقامة حكم ذاتي في الجنوب السوري الأمر الذي قد يدفع باتجاه أمر مماثل في الشمال الشرقي، من جهة ثانية هناك إسرائيل التي صرحت منذ سقوط النظام بأنها تريد المنطقة الجنوبية منزوعة السلاح بدءًا من حدود الجولان المحتل وصولًا إلى الطريق الواصل بين دمشق والسويداء.
هذا الصراع تحول إلى مواجهة واستعراض لقدرات الجانبين أثناء الأحداث الأخيرة في السويداء، حيث استهدفت إسرائيل مواقع مختلفة في سوريا في محاولة لإثبات حضورها وجدية مطالبها، مبررة ذلك بحماية الطائفة الدرزية، ولقد ردت تركيا على ذلك بإرسال إشارات مفادها أنها لن تتخلى عن مطالبها بسهولة، وبالرغم من استمرار المحادثات ومحاولات التقارب لمنع حدوث اشتباك بين الطرفين في سوريا، إلا أن النتائج النهائية للمحادثات لم تظهر بعد، ويبقى ملف الجنوب رهن هذه النتائج والصراع الإقليمي الذي يضع الحكومة الانتقالية تحت ضغط مزدوج، ويجعل خياراتها محدودة بين فرض النظام بالقوة على المنطقة الجنوبية، أو الوصول إلى تسوية سياسية.
—————————–
===================