سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعشهادات

قصتي في سجون داعش أمام المحكمة/ رضوان سفرجلاني

شهادة على مُحاكمة عناصر من تنظيم الدولة أمام القضاء الفرنسي (1)

22-05-2025

        1.قُتِلَت كايلا مولر في سجون داعش مطلع العام 2015، وتقول شهادات متواترة إنها تعرضّت مراراً للتعذيب أثناء احتجازها. وبينما يُرجَّح أنه تم إعدامها على يد داعش، زعمَ التنظيمُ وقتها أنها قتلت نتيجة إحدى الغارات التي نفذها سلاح الجو الأردني انتقاماً لإعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة (ملاحظة من المُحرِّر).

        لم أكن نائماً، لكنني لم أكن مستيقظاً تماماً أيضاً. الليلة التي سبقت شهادتي مرَّت كأنها زمنٌ بلا شكل، لا هو ليل ولا هو نهار، فقط انتظارٌ ثقيلٌ يشبه الوقوف في ممر طويل لا يُفضي إلى شيء واضح. قلق خفيف يسبق مواجهة كبرى. مررتُ بمحاكم من قبل، وقفتُ أمام قضاة في بلدان بعيدة وصعبة، وأمام آخرين لا يشبهون القضاة في شيء. جلساتهم عُقدت في ظلام الأقبية. أَسئلتهم لم تُطرَح بصوت هادئ، ولم يكن للحجة لديهم أي أثر على الحكم. لكن هذه المرة كانت مختلفة. فالمسألة ليست مجرد استدعاء، بل اعتراف، وإن لم يُعلَن: أن ما حدث حقيقي بما يكفي ليُعرض على قاضٍ، ويُروى أمام جمهور، ويُسجَّلَ في محضر رسمي لا يمكن التراجع عنه.

        المقهى المطلّ على قصر العدل في باريس كان مزدحماً بالسواد الطويل؛ ينساب المحامون والمحاميات بلباسهم الأسود بين الطاولات كأنهم امتداد لظلال المبنى الحجري القديم. يتبادلون النظرات السريعة والملفات الثقيلة وكلمات مقتضبة. اليوم جمعة والمكان لا يبدو مكتظاً على نحوٍ يمنع قدوم زبائن جدد،  تختلط الموسيقى الخفيفة مع رائحة القهوة وأصوات ارتطام الملاعق الصغيرة بفناجين البورسلان. الشارع مزدحم بالمارة، جلس المدخنون على طاولات المقهى الخارجية، يشربون القهوة التي ستبرد قريباً، لكنهم لا يلاحظون، لأنهم منشغلون بالنظر إلى الناس الذين يعبرون القصر الذي عرفَ يوماً ملوكَ فرنسا، واليوم قضاةَ محاكم الإرهاب.

        التقيتُ المحاميتَين المُكلَّفتين بتمثيلي كطرف مدني. لم يكن اللقاء عاطفياً، ولا رسمياً أكثر مما يجب. دخلنا مباشرة في صلب الموضوع. أخبرَتاني أن المحاكمة قد بدأت منذ الاثنين، وأن شهادتي ستكون بعد استراحة الغداء، أي بعد ساعات قليلة من الآن. قالتا إن هذه المُحاكمة تختلف عن غيرها: إنها محاكمة لعناصر من تنظيم الدولة الإسلامية، في قضية يُطلق عليها اسم «رهائن داعش»، يُحاكَمُ فيها المتهمون بتهم تتعلق بخطف وتعذيب رهائن أجانب وسوريين. وشَرَحتا أن كوني طرفاً مدنياً يمنحني الحق في المواجهة، والسؤال، والمُطالَبة. كما أنه يمنحني حق الاطّلاع على الملفات، ومعرفة ما دار خلف الكواليس طوال السنوات الماضية. أضافتا أن الشهادة قد تطول، وأن القضاة سيطرحون أسئلة مُتفرِّعة، دقيقة، وربما شخصية. لم يكن الأمر جديداً تماماً عليّ، لكنني شعرتُ فجأة بأنني لم أَستعدّ بما يكفي. حضرتُ إلى باريس ليوم واحد فقط، ومعي حقيبة صغيرة فيها بعض الملابس والوثائق. لم أكن قد رتّبت في ذهني احتمال البقاء. لكنهما قالتا إن ذلك وارد. بل مُرجَّح.

        ما علاقتي بهذه القضية؟ ولماذا قرّرتُ أن أتكلم؟

        وصلتني الرسالة بالبريد، قبل نحو شهرين من بدء المحاكمة. لم تتضمن تفاصيل كثيرة، تضمنت فقط طلباً رسمياً بمراجعة أحد مكاتب المحاماة لأمر عاجل وضروري، تحت طائلة الملاحقة القانونية في حال الامتناع. أحد الأصدقاء نَبّهني لاحتمال أن تكون خدعة، لكن الورقة كانت ممهورة بختم رسمي، ومرفقة بعنوان وأرقام هواتف. بحثت عبر الإنترنت، ووجدت أن المكتب موجود بالفعل.

        عندما ذهبت، جلستُ أمام محامية أخبرتني بهدوء أن هناك استدعاءً رسمياً باسمي صادراً عن المحكمة العليا في باريس للإدلاء بشهادة في قضية ذات صلة بالإرهاب. أخبرتني أن حضور الجلسة إجباري، وفي حال التخلّف يحق للقاضي إصدار أمر بإحضاري بالقوة عبر الشرطة. لحظتها فقط، بدأت أفهم أن الأمر حقيقي، ثقيل، وخارج حساباتي.

        الاستدعاء تضمَّنَ أسماء المتهمين، والتهم الموجهة إليهم، ومعلومات اتصال بجمعية ضحايا الإرهاب في باريس، التي ستكون مسؤولة عن الترتيبات اللوجستية. رغم كل هذه التفاصيل، بقي الأمر مفاجئاً لي. لقد أدليتُ بشهادتي لموظفين من وزارة الداخلية فور وصولي إلى فرنسا في عام 2019، ولم أتلقَ منذ ذلك الوقت أي إشعار أو إشارة تدلّ على تحرّك الملف أو اقتراب أي محاكمة. بل كنتُ على قناعة، مثل كثيرين، أن فرنسا لا تنوي الخوض في هذه الملفات الشائكة، بعكس الولايات المتحدة التي فتحت قضية خاصة للجهاديين البريطانيين، وقد شاركتُ فيها سابقاً كشاهد.

        ما راودني أولاً كان الخوف. ليس فقط من انتقام قد يحدث لاحقاً، بل من ثمن بدأت دفعه منذ زمن وما زلتُ أدفعه، وأخشى أن تزداد فداحته مع الوقت. لكن مع ذلك، كان لدي شعور واضح: هذه فرصة لن تتكرر. ففي المحكمة الفرنسية، لم يكن المتهمون مسؤولين عن سجون الأجانب فقط، بل عن السجون التي كنتُ أنا فيها، والتي رأيتُ فيها الموت عن قُرب. اثنان من أكثر سجون تنظيم الدولة الاسلامية رُعباً، سجن مشفى الأطفال وسجن الشيخ نجار، لهذا السبب، كانت هذه المحاكمة تَمسّني بشكل مباشر، أكثر من أي محاكمة أخرى. لكن القرار لم يكن سهلاً. لم أرد أن أكون مجرد «ديكور بشري» في محكمة لا أشعر أنها تُمثّلني. أردت أن يكون لمشاركتي معنى، وأن يكون لي صوت حقيقي. ذهبتُ لا لأنقلَ ما حدث لي فقط، بل ما حدث لمن لم يتمكنوا من التواجد: من ماتوا، أو فُقِدوا، أو ما زالوا بعيدين، في بلدان أخرى أو في صمتهم الثقيل.

        أظن أن اللحظة التي بدأتُ أقتنع فيها بأن عليّ المشاركة لم تكن فقط لحظة عقلانية، بل شيء أشبه بالإحساس الداخلي. شعرتُ أن هذا ما يُفترض بي فعله: أن أتكلم. أن أُخرِجَ ما حدث من العتمة، وأُسمّي الأشياء بمسمياتها. أن أكسر تلك المسافة التي كانت تفصل بين ما عشته، وبين ما يرويه الآخرون عن «الخلافة»، أو «النصرة»، أو «الجهاد». كل من كان هناك يعرف أن القصة الحقيقية لم تَكُن في الشعارات، بل في السجون، الزنازين والتحقيقات. في التفاصيل الصغيرة التي لا تُرى في صور الدعاية. ما حدث لم يكن نصراً ولا عزّاً ولا دولة. كان قمعاً منظّماً باسم الدين. هكذا قررت أن أُصبحَ طرفاً مدنياً في الدعوى، لا مجرّد شاهد.

        النسيان بالنسبة لي فكرة لا تُطاق. أن تمضي كل هذه التجربة دون أن تُفهَم، دون أن تُروَى، هذا أكثر ما كان يُرعبني. ما زلت أبحث عن أجوبة لأسئلة مضى على بعضها أكثر من عشر سنوات. ما زلتُ أحاول أن أفهم: من كان هناك؟ ماذا حصل فعلاً؟ من فُتِحَ له الباب؟ ومن بقي خلف الأبواب إلى الأبد؟

        من السجون إلى المحكمة

        على المنصة الرئيسية، جلسَ القضاة بلباسهم الأحمر والأبيض، في مكان أعلى بقليل من أماكن المحامين والمُتّهمين والحضور. بدا حضورهم ثقيلاً ومَهيباً. دخلتُ القاعة وحدي، لا حقيبة، لا هاتف، فقط بطاقة التعريف التي وُضِعت أمامي على الطاولة. جلستُ في المكان المخصص للمدّعين المدنيين، بانتظار أن يُنادى عليّ. قاعة المحكمة، السقف العالي، الضوء البارد، المقاعد الخشبية الصلبة التي تشبه تلك الموجودة في الكنائس القديمة. لم يكن في القاعة رعب، لكن كان فيها شيء آخر: كثافة. شعرتُ بها في نظرات من جلسوا في الصفوف الخلفية، وفي الأوراق المصفوفة أمام القضاة، وفي الملفات المغلقة التي يعرف أصحابها أنها إن فتحت، سيخرج منها أكثر من معلومات، سيخرج منها زمنٌ كامل.

        بعد لحظات، جاء النداء، وقفت، وسِرتُ ببطء نحو المنصة. القضاة ينظرون إليّ، وكل شيء حولي هادئ إلى حدّ الخوف.

        – ما اسمك الكامل؟

        – رضوان سفرجلاني.

        – عمرك؟

        – ثلاثة وأربعون.

        – هل تُقسِم على قول الحقيقة، كل الحقيقة، ولاشيء غير الحقيقة!

        – أُقسِم.

        – يمكنك أن تبدأ سيد سفرجلاني من المكان الذي تراه مناسباً…

        بعد إنهاء المرحلة الجامعية، قررتُ السفر إلى دبي للهروب من الخدمة العسكرية الإلزامية، في عام 2011 وبعد ست سنوات قضيتها بين دبي، الأردن، مصر والسودان، عدتُ لأداء الخدمة العسكرية ومحاولة بناء حياة مستقرة بعدها. قدَّمتُ أوراقي، لكن قبل أن أتلقى الرد، اندلعت الثورة، حي القابون في دمشق كان من أوائل الأحياء التي انتفضت. في نيسان 2011 كان هناك بالفعل عدد من الشهداء. لم أبدأ خدمتي العسكرية، بل حدث العكس. انخرطتُ بالأنشطة الإعلامية والسلمية للثورة، بدأت بتوثيق الأحداث، ونشرت صوراً جذبت انتباه وكالة رويترز فبدأتُ العمل معهم تحت اسم مستعار.

        مع بداية العام 2013، قرّرتُ المغادرة إلى تركيا، بالتحديد إلى المناطق القريبة من الشريط الحدودي السوري، وتابعتُ عملي مع المكاتب الإعلامية في تلك المناطق، أحياناً كمترجم ومرافق للصحفيين ووكالات الإعلام، وأحياناً أخرى أُساعدُ في تركيب الإنترنت الفضائي، وأُساعدُ قوافل الإغاثة في توثيق عملها.

        في الثاني من آب (أغسطس) 2013، تواصلَ معي  لتركيب جهاز إنترنت فضائي أطباءٌ من منظمة أطباء بلا حدود يعملون في مدينة حلب، رافقتني في تلك الزيارة صديقة أميركية تدعى كايلا مولر تعمل في الإغاثة. الزيارة التي كان من المفترض أن تدوم بضع ساعات امتدت يوماً إضافياً، وبعد مغادرتنا بعدة دقائق أوقف مسلحون ملثمون السيارة التابعة للمنظمة وأجبرونا أربعتنا، أنا والفتاة والسائق ومعاونه، على النزول تحت تهديد السلاح والانتقال إلى سيارة فان. قاموا مباشرة بضربي بأخمص البندقية، سالت الدماء على وجهي، كانوا يتكلمون فيما بينهم بعربية أقرب إلى الفصحى ولهجات متعددة.

        في القبو، تم عصب عينيّ. صودرت كل أغراضي، حتى نظّارتي الطبية. تركوني واقفاً لأيام. لا أحد يقول لك لماذا أنت هنا، ولا متى ستخرج، فقط أوامر غاضبة، وصوت السياط، وصراخٌ قادم من غرف مجاورة. في الأيام التالية، كنت أُسحَب إلى التحقيق وأُعذَّب. لم يكن الحديث يدور حول ما فعلت، بل حول ما يريدونني أن أعترف به. كانوا يسألون عن الفتاة الأميركية التي كنتُ برفقتها، عن عملي، عن المنظمة. لم يُصدّقوا شيئاً. قالوا إنني أزرع أجهزة تجسُّس، وإنني أعمل لصالح استخبارات غربية.

        – هل يمكنك إخبارنا أكثر عن الفتاة الأميركية التي كانت برفقتك؟ من هي وما علاقتك بها؟

        – كانت تربطنا علاقة صداقة قوية، في ذلك الوقت كانت تعمل كمُنسِّقة مع عدة منظمات إغاثية. قبل دخولنا إلى سوريا كنا قد اتفقنا على أن تقول أمام الجميع إنها زوجتي، اعتقدنا أن ذلك قد يشكل حماية لنا في مناطق يسيطر عليها متشددون إسلاميون.

        بعد أسبوع من التعذيب والوقوف المتواصل، وصلتُ إلى نقطة الانهيار. قلتُ إنني مستعد للاعتراف بما يريدون. جاء رجل يتحدث بلهجة سعودية وسألني إن كنتُ سمعت بسجن غوانتانامو. أجبته: نعم. قال: «هنا لا شيء أمام غوانتانامو… مرحباً بك في سجون الدولة الإسلامية». عندها فقط، عرفتُ بالضبط أين أنا.

        السجن كان تابعاً لجهاز «الأمنيات»، أحد أكثر الأجنحة سرية وتنظيماً في داعش. معظم العناصر فيه كانوا من جنسيات غير سورية: مغاربة، فرنسيون، بلجيكيون، عراقيون. شخص يتكلم الفرنسية ويدعى «أبو عبيدة التونسي» بدا أنه صاحب السلطة الأعلى في المكان. السوريون كانوا في المرتبة الأدنى: حرّاس، أدوات تعذيب، منفذو أوامر.

        جميع الحراس تقريباً كانوا ملثمين. القليل جداً من الوجوه كانت مكشوفة وغالباً عن طريق الخطأ، أو عندما كانوا يفتحون الباب بسرعة ثم ينسحبون. اللّثام لم يكن مجرد إجراء أمني، بل كان جزءاً من الرعب: لا تعرف من يعذّبك، من يسحبك، من يصيح فيك. الوجوه غير المرئية كانت أداة إضافية للتجريد من الإنسانية.

        لم نكن نعلم عدد الغرف في القبو، ولا عدد الموجودين فيه، تنوّعت خلفيات المُعتقلين: مدنيون، إعلاميون، ناشطون، عمال، مقاتلون سابقون في الجيش الحر، من خلفيات عربية وكردية وأرمنية. لم يكن أحدٌ يعرف تهمته، أو لماذا جِيء به، البعض خُطِفَ من حاجز، البعض من الشارع، وآخرون وُعِدوا بلقاء «الأمير» ثم اختفوا لأسابيع. أصوات صراخ المعتقلين والتعذيب لم تنقطع ليلاً ولا نهاراً. أحياناً صراخ بلهجات فرنسية أو إنكليزية. كان واضحاً أن أجانبَ يُعذَّبون في مكان قريب. ذات ليلة، أدخلوا إلينا شاباً مُنهكاً. قال إن اسمه «عبد الله عزام» من مدينة حلب. كان يهمهم بكلام غير مترابط. في اليوم التالي، قال إن أخاه زاره ليلاً. كان من الواضح أنه يهذي. بعدها بساعات، توقفت أنفاسه. طرقنا الباب. طلبوا منا وضع جثته خارج الغرفة.

        بعض السجانين كانوا يصطحبون أبناءهم معهم. أحدهم، عراقي يُعرف باسم «أبو مريم العراقي»، كان يأتي بابنه الصغير الذي لم يتجاوز العشر سنوات، ويجعله يشارك في تعذيب المعتقلين، يطلب منه أن يضرب «أعداء الله» ويجعلهم «يعوون كالكلاب».

        كل ما في هذا المكان كان يقول: لا نجاة هنا. كل شيء وُضِعَ كي يُكسَرَ الإنسان، صوته، ذاكرته، رغبته في النجاة. بعد حوالي شهرين، أُبلِغت أنني سأُعرَض على «قاضٍ». لم يُسمَح لي برؤية وجهه. جلستُ مُطمَّش العينين، وهو، من خلفي، يقرأ لائحة اتهامات بدت وكأنها مختارة عشوائياً من كوابيس الأنظمة الشمولية: من التجسس والتعاون مع المخابرات الأجنبية، إلى عبادة الشيطان. لم يطلب مني الدفاعَ عن نفسي، لم يعرض دليلاً، لم يسأل سؤالاً. فقط سرد اتهامات، ثم حكم. قال إنه يحكمني بالجلد، وبمصادرة جميع معداتي: الكاميرات، الحاسوب، وحتى النظارات. ثم أنهى الجلسة بلهجة ناعمة كأنها نصيحة: «لوجه الله، أنصحك بالابتعاد عن الإعلام والعمل الصحفي».

        بعد أيام، أُبلغت بإطلاق سراحي. جعلوني أوقّع على أوراق لا أعرف محتواها، كنتُ ما أزال مُطمَّش العينين. قال أحدهم بوضوح لا يحتمل التأويل: «لا تتكلم. إن نسيت، سنذكّرك».

        بعد حوالي شهرين من خروجي من سجن مشفى الأطفال وعودتي إلى تركيا، كنتُ أعيش في دوّامة من الإرهاق والذاكرة المشوشة. لم أكن أعرف من أين أبدأ، لكنني كنت مصرّاً على أمرين: معرفة مصير صديقتي الأميركية التي اختُطفت معي، ومحاولة استعادة معدّاتي التي صادرها التنظيم. بدأت أبحث، أسأل، أتقصّى، وأربطُ الخيوط القليلة التي أملكها، حتى وصلتُ إلى شخص في ريف إدلب جمعني بأمير المنطقة التابع لتنظيم الدولة الإسلامية.

        كان اللقاء مشروطاً بضمان الأمان على حياتي، وهو ما وافقَ عليه الأمير شفهياً أمام من حضروا. هناك، سردتُ له كل ما مررتُ به داخل سجن المشفى: كيف خُطِفت، وماذا حدث معي، من قابلت، من عذّبني، الأصوات التي سمعتُها من غرف الرهائن الأجانب، الأسماء والكنى التي بقيت في ذاكرتي. مع كل تفصيل كنت أرويه، بدا الأمير أكثر دهشة، وكأنه يسمع بهذه الأمور للمرة الأولى. قاطعني أكثر من مرة ليسأل: «أأنت متأكد أن هذا حصل داخل دولة الخلافة؟»، «وهل كان عناصرنا هم من فعلوا ذلك؟».

        في نهاية الجلسة، حلف الأيمان أنه لم يكن يعلم بوجود سجون سرية تُدار بهذا الشكل داخل مناطق التنظيم، وأن ما جرى معي لا يُشبه ما يُفترَض أن تُمثّله الدولة الإسلامية. وعدني بأنه سيفتح تحقيقاً داخلياً، وسيُساعدني في استعادة أجهزتي، وسيتقصّى عن مصير «زوجتي الأميركية».

        الأقبية التي تعرف اسمي مسبقاً

        تواصلَ معي أمير إدلب مجدداً عبر الوسيط ذاته. قال إن رسالتي وصلت، وإن قاضياً كبيراً في الدولة الإسلامية قرَّرَ الاستماع إليّ بنفسه. بدا الأمر وكأنه فرصة نادرة. أو هكذا أردتُ أن أصدّق. طُلِبَ مني أن أعود إلى إدلب فوراً.

        بمجرد وصولي، تسلّمني عناصر ملثمون واقتادوني إلى مقرّ سري. قالوا إن القاضي سيأتي قريباً. لكن «قريباً» تلك امتدت لأيام. أربع أو خمس ليالٍ قضيتها في زنزانة صغيرة بالكاد وسعتني، في قبو مظلم لم يكن مكتملًا بعد؛ الأسمنت على الجدران ما زال رطباً، والرائحة خانقة، كأن الجدران لم تنشف بعد من دم أو ماء أو الإثنين معاً. كان واضحاً أنني لست وحدي. كنتُ أسمع حركات، همسات، وصرير أبواب تُفتَح وتُغلَق في طبقات خفّية من المكان. المسؤولون عن هذا القبو لم يتحدثوا العربية في البداية. الفرنسية كانت اللغة الأساسية، وبعضهم تحدث بلهجة مَغاربية ثقيلة، وكان من الصعب أن أفهم كل ما يقولونه. السوريون كانوا قلّة، وكأنهم غرباء في تنظيم صارت لهجاته الأساسية آتية من بلاد بعيدة.

        حين حضر القاضي أخذوني إلى غرفة في الطابق الأرضي، لم يكن ملثماً. رجلٌ في نهاية الأربعينيات على الأرجح، بملامح جامدة وهدوء مرعب. يرافقه ثلاثة حراس يتحركون معه كظله، لا يسبقونه ولا يتأخرون عنه. على الجدار علم أسود كبير مكتوب عليه باللون الأبيض. كل الموجودين في الغرفة كانوا مسلحين؛ هُم ببنادق آلية وأحزمة ناسفة، وأنا برواية ضعيفة عن زواجي من كايلا.

        من اللحظة الأولى، كان واضحاً أنه ليس مجرد قاضٍ، وإلا لماذا كلُّ هؤلاء الحراس المحيطين به!! لماذا يرتدي درعاً ثقيلاً ويحيط نفسه بأحزمة ناسفة؟ كان صاحبَ سلطة، ربما أعلى من كل من سبق أن تعاملتُ معهم. ولم يكن بحاجة إلى أن يرفع صوته ليفرضَ حضوره.

        سألني عن عملي في الصحافة وعن الفتاة الأميركية التي رافقتني، أخبرته أنها زوجتي، لكنه رفضَ الإجابة بشأنها، ثم طلب من مرافقيه أخذي1. يمسكني الحراس كما لو كنت مجرماً خطيراً، كلُّ واحد منهم يقبض على ذراعي كأنني قد أُفلت في أي لحظة وأرتكب جريمة أخرى، جريمة لم أرتكبها أصلاً. الحارس الثالث يقف خلفي، لا أراه، لكني أشعر بوجوده القريب جداً، أنفاسه تكاد تلامس رقبتي. أحاول أن أتكلم، أن أشرح، أن أسأل، لكن لا أحد يسمعني، أو ربما يسمعونني ويتجاهلونني عن قصد، كما لو أن صوتي لا يعني شيئاً، كقطعة خشب تُنقَل من مكان إلى آخر بلا معنى. يَسحبونني إلى الزنزانة، يفتحون الباب، يدفعونني إلى الداخل، يُغلقونه ورائي، صوتُ الحديد حين يُطبق يشبه مقصلة تهوي على عنق، ليس بالضرورة عنقي، لكن عنق شخص ما، شخص لن يعرف أحدٌ بموته.

        امتدت الفترة التي قضيتها في هذا القبو حوالي الشهرين، تعرّفتُ إلى معتقل أرمني يدعى هوسيب. قال لي إننا موجودون في معمل قديم للأخشاب داخل المنطقة الصناعية في الشيخ نجار، وقد عرفَ ذلك لأنه كان يملك معملاً قريباً في المكان نفسه قبل أن تسيطر الدولة الإسلامية على المنطقة.

        روى لي هوسيب كيف اعتُقل مع صديقَيه كيفورك وديكران، بعد أن تلقّى مُلّاك المعامل وعداً من «أمير المنطقة» بأن التنظيم لن يتعرض لهم إذا أعادوا فتح ورشهم. صدّقوا الوعود، فاستأنفوا العمل. بعد فترة قصيرة داهمت مجموعة من عناصر التنظيم المعمل واعتقلتهم دون توجيه تهمة واضحة، ثم أخبرهم الأمير لاحقاً أن الغاية من اعتقالهم هي الضغط على عائلاتهم والكنيسة الأرمنية لدفع فدية ضخمة لقاء الإفراج عنهم. قال له صراحة: «الكنيسة الأرمنية قادرة بسهولة على دفع خمسة ملايين دولار».

        في القبو نفسه، التقيتُ بالصحفي السوري مؤيد السلوم وأخيه يحيى. أخبرني يحيى أنه قبل أيام من وصولي، التقى بطاقم قناة سكاي نيوز الإخباري، الصحفي اللبناني سمير كساب والمصور الموريتاني إسحاق، وأن الأخير أبلغه بأنه شاهد عبد الوهاب الملا قبل ذلك بأيام، في المكان نفسه. بعد فترة قصيرة، تم اقتياد مؤيد وعبد الوهاب مع سمير وإسحاق إلى جهة مجهولة، ولم تُعرَف عنهم أي أخبار منذ ذلك الحين.

        كان من بين المعتقلين أيضاً المسعف نور حاووط ومجد مستو من النقطة الطبية في حي صلاح الدين. اعتُقل الاثنان إلى جانب المصور كرم المصري والإعلامي لؤي أبو الجود. وفقاً لما رواه نور، فإن عمه، أبو أحمد حاووط، وهو عنصر أمني لدى تنظيم الدولة، كان المسؤول عن اعتقاله وتعذيبه، وذلك نتيجة خلاف عائلي قديم بينه وبين والد نور. تناوبَ أبو أحمد مع أبو مريم العراقي على تعذيب نور، وعندما حاول أحد المعتقلين التخفيف عن نور وصرخ بوجه من يعذبونه: «لم نسمع أن رسول الله عذَّبَ أحداً قط»، أتاه الجواب من العراقي: «رسول الله لم يُعذّب ونحن سوف نُعذّب».

        كان السجن سرّياً لاحتوائه على رهائن أجانب، بلغ عددهم ثلاث عشرة رهينة من جنسيات متعددة: فرنسية، بريطانية، أميركية، إسبانية، وغيرها. ورغم تَعرُّض الجميع للتعذيب القاسي، فإن المعتقلين السوريين تحديداً عوملوا بلا أي اعتبار، وكأن حياتهم أقل قيمة في نظر الجلادين، فمُنِعَ عنهم الطعام والماء واستخدام الحمامات لأيام، لم يكن لديهم أي سياسة واضحة، كان المنع أو العطاء تِبعاً لمزاج السجّان الموجود، حصة الفرد من الطعام يومياً لم تتجاوز نصف رغيف مع خمس زيتونات، منعوا المساجين أيضاً من الوضوء وقراءة القرآن بتهم الزندقة والردة، وشبَّهونا بالصحوات. 

        كان سجن معمل الأخشاب خاضعاً لسيطرة مجموعتين جهاديتين رئيسيتين. الأولى مجموعة بريطانية  ضمَّت أربعة جهاديين بريطانيين، عُرفت لاحقًا باسم «البيتلز»، برز منها محمد أموازي، المعروف بلقب «الجهادي جون»، الذي ظهر في مقاطع الفيديو التي نشرها تنظيم الدولة، ونفّذَ فيها عمليات ذبح رهائن أجانب. أموازي كان أمير المجموعة حتى مقتله في غارة جوية عام 2015، بينما أُلقي القبض على الشافعي الشيخ وألكسندا كوتي عام 2018 أثناء محاولتهما الفرار متنكرين بعباءات نسائية، في حين اعتُقِلَ آين ديفيس في تركيا.

        أما المجموعة الثانية فكانت فرنسية، تُعرف باسم «خلية دو مارن» أو «خلية 94»، نسبة إلى رقم المقاطعة الإدارية Val-de-Marne قرب باريس التي ينحدر منها معظم أعضائها. قاد هذه المجموعة أبو عبيدة التونسي، الذي فرض سيطرته الكاملة على السجن من خلال مجموعة مقربة ضمت أبو محمد علي الفرنسي، وأبو عبد الله الفرنسي، وأبو عمر الفرنسي وآخرين.

        تصاعدت المنافسة بين المجموعتين، وبلغت ذروتها في خريف 2013، حين اتهم البريطانيون أفراد الخلية الفرنسية بالإهمال الأمني و«الجهل بالجهاد»، بعد العثور على شمعة مشتعلة تُركت في أحد ممرات السجن. وردّاً على هذه الاتهامات، نفّذت المجموعة الفرنسية مجزرة مروعة في كانون الأول (ديسمبر) 2013، راح ضحيتها سبعة معتقلين، بينهم خمسة رجال وامرأتان. أحد القتلى كان يُعرف باسم «أبو علي صليبة»، وهو قائد «جبهة سيف الدولة» التابعة للجيش الحر في حلب.

        مع اقتراب نهاية العام 2013، كان سجن معمل الأخشاب في الشيخ نجار قد امتلأ بالكامل، خصوصاً بعد تصاعد الاشتباكات بين تنظيم الدولة الإسلامية ولواء التوحيد، ما أدى إلى اعتقال عدد كبير من مقاتلي اللواء المذكور. الزنازين الانفرادية، الضيقة أصلاً، أصبحت تضمّ اثنين أو ثلاثة معتقلين في كل واحدة.

        مع اشتداد القتال، بدأ صوت القصف يقترب يوماً بعد يوم، حتى بات المعتقلون يشعرون باهتزاز الجدران مع كل قذيفة. تقرَّرَ إخلاء السجن على دفعات: الرهائن الأجانب تم إخراجهم أولاً، بعد إيهامهم بأنه سيتم إطلاق سراحهم، لكنهم نُقِلوا إلى الرقة. أما نحن المعتقلين السوريين، فقد نُقِلنا إلى موقع آخر داخل المحطة الحرارية، حيث تم لاحقاً فصل المدنيين عن العسكريين.

        في التوقيت نفسه، تم إخلاء سجن مشفى الأطفال، لكن دون نقل أي من السجناء الموجودين فيه. قامت المجموعة الفرنسية بإعدام جميع المعتقلين وعددهم 44 معتقلاً، باستثناء من كانوا في الغرفة الأخيرة، حيث لم يُسعفهم الوقت لتنفيذ الإعدام. تُركت الغرفة مغلقة حتى وصول عناصر من الجيش الحر الذين تمكنوا لاحقاً من تحرير من تبقى على قيد الحياة.

        في البداية، كان المسؤولون عن المحطة الحرارية من جنسيات أردنية وفلسطينية، وتعاملوا مع المعتقلين بطريقة بدت أقل قسوة من المجموعة الفرنسية السابقة. غير أن هذا لم يَدُم طويلاً. أبو عبيدة التونسي ومجموعته سرعان ما ظهروا مجدداً وسيطروا على السجن، ورفضوا الانصياع لأوامر القاضي «أبو عمار المصري» الذي كان قد قرَّرَ إطلاق سراح جميع المدنيين الذين لم تثبت ضدهم أي تهم. مزَّقَ عناصر المجموعة أوامر الإفراج، بحجة «عدم اكتمال التحقيقات».

        لاحقاً، نفّذَ التونسي ومجموعته عمليات إعدام بحق عدد من المعتقلين، من بينهم نور حاووط ومجد مستو. وأُجبر بعض المعتقلين، من ضمنهم كاتب هذه السطور، على ارتداء بدلات برتقالية مشابهة لتلك التي ارتداها معتقلي غوانتانامو، وعلى حضور عملية ذبح طالت معتقلاً عراقياً من الطائفة الشيعية.

        في إحدى المناسبات، واجهني أبو عبيدة شخصياً، وأخبرني أن حديثي إلى والي إدلب عن الانتهاكات في سجن مشفى الأطفال اعتُبِرَ «خيانة»، وأنني لا أستحق الرحمة أو الحرية، مضيفاً: «ستبقى هنا حتى تجنّ… أو تموت».

        تقلّصَ عدد السجناء تدريجياً مع مرور الأيام، حتى أصبحنا سبعة أو ثمانية فقط. وفي النهاية، نُقلنا إلى سجن جديد داخل مبنى المركز الثقافي في مدينة تادف. كانت المجموعة المسيطرة على هذا السجن في معظمها من العناصر السورية، فاستغلّيتُ تلك الفرصة وطلبتُ من أحد الحراس رؤية أمير المركز أو القاضي المسؤول عن المكان. شرحتُ له وضعي، وتهديدات أبو عبيدة التونسي التي طالتني، فقرَّرَ إطلاق سراحي. خرجتُ من السجن في نهاية شباط (فبراير) 2014، وتوجّهت مباشرة نحو الحدود، وعدتُ إلى تركيا.

        في هذه الأثناء، نُقل كرم المصري ولؤي أبو الجود إلى سجن الباب، حيث تم الإفراج عنهما لاحقاً بعد قرابة شهر. أما المعتقلون الأرمن الثلاثة، هوسيب، كيفورك وديكران، فقد أعدمتهم مجموعة «البيتلز» البريطانية، التي كانت تتولى إدارة الملف الأمني للرهائن الأجانب والمسيحيين في تلك الفترة.

        حين خرجت، لم أَحتفل. لم أُخبر أحداً. مشيتُ طويلاً، كما لو أنني أهرب من شيء يُطاردني، أو أبحث عن شيء لا أعرفه. كنت أحاول أن أُصدّق أنني نجوت. لكن الحقيقة أنني تركت جسدي يخرج، بينما بقي شيء مني هناك، في القبو، في الزنزانة، في الصوت الذي لم يَنسَ الصراخ بعد.

        *****

—————————————

    «كنتُ السوري الوحيد»: داعش أمام المحكمة في باريس/ رضوان سفرجلاني

    شهادة على مُحاكمة عناصر من تنظيم الدولة أمام القضاء الفرنسي (2)

 * * *

        الأسابيع الخمسة التي امتدت عليها محاكمة عناصر «الأمنيات»، الذي كان الجهاز الداخلي الأكثر سرّية وتنكيلاً في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، بدت وكأنها محاولة لاستدعاء زمنٍ لم ينتهِ بعد، زمنٍ مُعلّق بين ذاكرة من نجا، وصمت من لم يَنجُ. في قاعة باريسية فخمة من زمن الملوك، جلسَ الناجون أمام القضاة، لا بوصفهم شهوداً فقط، بل كحاملي سرديات لا يملكها سواهم. كلماتٌ قيلت تحت التعذيب، شهاداتٌ انتُزعت من الأقبية، ووجوه لا تزال تظهر في الكوابيس، خرجت من الظلال لتواجه أسماء، وصوراً، وسكوتاً مُطبِقاً في قفص زجاجي محكم الإغلاق.

        الأسماء التي وُجِّهت إليها التهم كانت معروفة، عرفهم السوريون جيداً، «أبو كذا»، و«أمير كذا»، كانوا كالظلال الثقيلة، أو كالأشباح، تُروى عنهم قصص الرعب، التعذيب والتصفية في سجونٍ لا تُرى، وتُنكَر حتى من قبل من يديرها. هنا، في هذه القاعة، كانت كل شهادة تُقال تفتح صدعاً في جدار النسيان، وكأن المحكمة لا تكتفي بإصدار الأحكام، بل تعيد ترتيب الزمن نفسه، وتمنحه، أخيراً، لحظة للعدالة، حتى وإن جاءت متأخرة.

        من هم المتهمون؟ ولماذا هذه المحاكمة؟

        لم تكن هذه المُحاكمة كسائر المحاكمات. هي الأولى من نوعها في بلد أوروبي، انعقدت وسط إجراءات أمنية مشددة وجدل قانوني وسياسي رافقها منذ بدايتها. هذه المحاكمة، التي امتدت من 17 شباط (فبراير) إلى 22 آذار (مارس) 2025، كانت لحظة نادرة، واجه فيها القانونُ الفرنسي مجموعة من الأشخاص الذين يُشتبَه في أنهم مثّلوا، في وقت ما، أحد أوجه تنظيم الدولة الإسلامية: ذلك الوجه الخفي داخل السجون، حيث يُحتجز الناس ويُعذَّبون، ولا يبقى من الأثر إلا ما يحمله الناجون في ذاكرتهم. خمس شخصيات وُجِّهت إليها تُهَم خطيرة تتراوح بين الانتماء إلى منظمة إرهابية، والمشاركة في احتجاز وتعذيب رهائن بشكل ممنهج داخل معتقلات التنظيم في سوريا بين عامي 2013 و2014. ثلاثة منهم حضروا جسدياً إلى المحكمة، واثنان يُحاكمان غيابياً بناء على افتراض وفاتهما في سوريا. لم يكن خطرُ هؤلاء محصوراً بسجون حلب والرقة، لقد تجاوز شَرُّهم حدود سوريا، عبر التخطيط، الإلهام، أو المشاركة المباشرة في تنفيذ عمليات إرهابية في أوروبا نفسها. لم يكونوا خطراً على «العدو الغربي» فحسب، بل على كل من كان خارج سرديتهم الضيقة: عرباً أو أجانب، مسلمين أو غير مسلمين، سوريين أو فرنسيين. من نجا منهم، حمل هذا العنف معه، أو زرعه في الآخرين، أو صمت عنه وهو يتكاثر.

        كشفت الوثائق والشهادات أن ما جرى في تلك السجون لم يكن فوضى أو عنفاً اعتباطياً. بل كانت منظومة شمولية متكاملة، أقرب إلى معسكرات الاعتقال، مُؤسَّسةً على تحطيم الكرامة وسحق النفس البشرية؛ الحرمان من الطعام، التعليق، التعذيب بالكهرباء، الصدمات النفسية، وضعيات الإذلال، وحتى استخدام الكلوروفورم والحقن، كلها كانت أدوات يومية في يد هؤلاء الجهاديين.

        1- مهدي نموش: مواطن فرنسي من أصول جزائرية، وُلد عام 1985 في منطقة روبيه شمال فرنسا، هجره والده عند الولادة، ووالدته لم تكن قادرة على تربيته، فانتقلَ إلى عائلة حاضنة منذ الصغر. بدأت مسيرته في عالم الإجرام داخل فرنسا بصفته لصاً صغيراً ومتورطاً في قضايا جنائية، 8 إدانات جنائية بين 2004 و2009، وسُجِنَ من ديسمبر (كانون الأول) 2007 حتى ديسمبر 2012 (خمس سنوات تقريباً). لكنه تَحوَّلَ تدريجياً في السجن إلى شخص متطرف دينياً. بعد خروجه من السجن نهاية العام 2012، توجّه نموش إلى سوريا عبر تركيا، حيث انضمَّ أولاً إلى جبهة النصرة، ثم التحق في منتصف 2013 بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. داخل الأراضي السورية، وتحديداً في حلب، لعب دوراً محورياً في شبكة احتجاز الرهائن الغربيين، حيث عمل سَجّاناً في مواقع مثل مستشفى العيون وسجن الشيخ نجار، وارتكب هناك أعمال تعذيب وحشية بحق صحفيين وعمال إغاثة ومواطنين مدنيين، سوريين وأجانب.

        كان يُعرَف داخل صفوف التنظيم بكنية «أبو عمر الفرنسي»، وكان على علاقة وثيقة بأسماء جهادية بارزة مثل سليم بن غالم (أبو محمد علي) ، نجم العشراوي (أبو إدريس الفرنسي)، ومحمد أمين بو طهار (أبو عبيدة التونسي). وقد انضمَّ إلى جهاز «الأمنيات»، الذراع الأمنية والاستخباراتية لداعش، والذي كان يتولى مهام تعذيب الرهائن وتنفيذ الإعدامات والتخطيط للعمليات الخارجية.

        بعد مغادرته سوريا في أوائل 2014، سافر نموش عبر بلدان في جنوب شرق آسيا، ثم عاد إلى أوروبا حيث نفذ في 24 أيار (مايو) 2014 هجوماً دامياً على المتحف اليهودي في بروكسل، أسفر عن مقتل أربعة أشخاص. وُصِفَ الهجوم حينها بأنه أول اعتداء إرهابي ينفذه مقاتل عائد من سوريا على أرض أوروبية، مما جعله رمزاً مبكراً لظاهرة «العائدين» التي هزّت أمن أوروبا لسنوات. حوكم في بروكسل ونال حكماً مؤبداً وجرى تسليمه إلى فرنسا لاحقاً لمحاكمته على جرائمه التي ارتكبها بحق الصحافيين الفرنسيين.

        كشفت التحقيقات أيضاً عن علاقاته مع منفذي هجمات باريس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 وتفجيرات بروكسل في آذار (مارس) 2016، من خلال اتصالات هاتفية ومراسلات أثناء فترة احتجازه في بلجيكا. وقد تم توقيفه في مرسيليا بعد أيام من الهجوم، وبحوزته الأسلحة المستخدمة في المجزرة نفسها، إضافة إلى ذخيرة ومقاطع فيديو يتبنى فيها العملية باسم تنظيم داعش. أُدينَ لاحقاً في كل من بلجيكا وفرنسا، وتحوّلَ إلى رمز للجهاد العابر للحدود الأوروبية – السورية، مُجسِّداً العلاقة المباشرة بين منظومة التعذيب في سوريا وشبكات الإرهاب في الغرب.

        بدا خلال الجلسات ساخراً، متحدياً، غير نادم وغير متعاون، رغم وضوح الصور والتسجيلات التي ظهر فيها بوجه مكشوف وصوت لا يمكن الخطأ بشأن صاحبه. أصرَّ نموش على الإنكار، زاعماً أنه ليس الشخص الظاهر فيها، وصرّحَ بأنه «قتل كثيرين ويتأسف لأنه لم يقتل أكثر». حاول مراراً تحويل قفص الاتهام إلى منبر دعائي إيديولوجي، مُعترِفاً بانخراطه الجهادي، لكنه نفى مشاركته في التعذيب أو حمل كنية «أبو عمر»، رغم أن رهائن سابقين قد تعرّفوا عليه بشكل قاطع. قبل النطق بالحكم، حاول تبرير أفعاله وبدا أنه مقتنع بكل ما قام به فقال: «من خلال الإرهاب حرَّرَ الشعب السوري نفسه من الديكتاتورية، نعم، كنت إرهابياً ولن أعتذر عن ذلك أبداً، لست نادماً على يوم ولا ساعة ولا على أي فعل». في ختام الجلسات، هاجم السياسات الغربية، وعبّر عن نيته في حال خروجه الانضمامَ إلى مقاتلي حماس لمحاربة إسرائيل. نالَ حكماً بالسجن المؤبد، مع فترة حبس الزامية مدتها 22 سنة لا يمكنه خلالها طلب الإفراج المبكر.

        2- أسامة العطار، المعروف داخل الأوساط الجهادية بكنية «أبو أحمد العراقي»، أحد أبرز الجهاديين الناطقين بالفرنسية في تنظيم الدولة الإسلامية. وُلدَ في بلجيكا لعائلة مغربية الأصل، وكان قريباً من أخويه غير الشقيقَين إبراهيم وصلاح عبد السلام، المشتبه بهما الرئيسيين في هجمات باريس 2015 وتفجيرات بروكسل 2016. انخرط في الفكر الجهادي في سن مبكرة بتأثير مباشر من الداعية البلجيكي السوري الأصل باسم عياشي، وكان على علاقة وثيقة بابنيه عبد الحق و بدر الدين. انتسبَ إلى معهد العلوم الشرعية «مسجد أبو النور»، ولاحقاً إلى معهد الفتح، والاثنان في دمشق التي مكثَ فيها حوالي السنتين بين عامي 2000 و2002.

        بدأت مسيرته الجهادية المبكرة في العراق عام 2004، حيث انضمَّ إلى تنظيم القاعدة، ثم اعتُقل عام 2005 وحُكم عليه بسبب دخوله العراق بطريقة غير شرعية بالسجن المؤبد، قبل أن يتم تخفيض الحكم إلى عشر سنوات. خلال فترة سجنه تنقل بين عدة سجون، سجن أبو غريب، معتقل بوكا ومعتقل كروبر، أقام علاقات وثيقة مع قادة جهاديين بارزين، من بينهم أبو بكر البغدادي وأبو محمد العدناني، ما منحه لاحقاً موقعاً مميزاً في هيكلية تنظيم الدولة.

        أُفرج عنه عام 2012 ليختفي بعدها ويتوجه مجدداً إلى سوريا، حيث بات أحد القيادات الأمنية العليا في داعش، وتولّى دوراً محورياً في تنسيق العمليات الخارجية للتنظيم. والإشراف على ملف الرهائن الغربيين في حلب والرقة، كان المسؤول الأعلى عن مجموعة السجّانين الناطقين بالفرنسية والبريطانية، بمن فيهم عناصر خلية «البيتلز» التي نفذت عمليات تعذيب وقتل رهائن أجانب أمام الكاميرا. أفادت شهادات رهائن سابقين بأنه كان يزور مراكز الاحتجاز لإعطاء تعليمات، واستلام أدلة حياة من الرهائن لاستخدامها في مفاوضات الفدية، وأحياناً لتنفيذ عمليات الإعدام أو الإشراف عليها. أكد شهود أنه نفذ شخصياً عملية الإعدام بقطع الرأس بحق الرهينة الروسي سيرغي غوربونوف، وأنه عرض تنفيذ إعدامات بحق رهائن بريطانيين وأميركيين، لكن البغدادي رفض، مُفضِّلاً تنفيذها على يد محمد إموازي المعروف باسم «الجهادي جون»، لأنه يتحدث الإنكليزية. ومع ذلك، لم يُمنع عطار من حضور تلك الإعدامات.

        برز اسمه لاحقاً بوصفه العقل المدبر لهجمات باريس وبروكسل، حيث كشفت تسجيلات وتحقيقات استخباراتية أن عبد الحميد أباعود، المنفذ الرئيسي لهجمات باريس، كان يرفع تقاريره مباشرة إلى أسامة العطار. يجسد العطار نموذج «الجهادي الشبحي»: رجل لم يظهر قط في تسجيل مصوّر، نادر الصور، لكنه يقف وراء أكثر الهجمات دموية في أوروبا خلال العقد الماضي، ويجمع بين التخطيط الاستراتيجي، والإشراف المباشر على الجرائم داخل سوريا، والتواصل الخفي مع المنفذين داخل أوروبا، نال حكماً غيابياً بالسجن المؤبد.

        3- عبد المالك تانيم: فرنسي من أصول مغاربية، انخرط مبكراً في مسار الجهاد العابر للحدود. غادر فرنسا عام 2012 إلى مصر، ثم دخل سوريا بشكل غير قانوني في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه، حيث انضم أولاً إلى جبهة النصرة، ثم بايع تنظيم الدولة الإسلامية في ربيع 2013.

        في حلب، أصبح جزءاً من جهاز الأمنيات التابع لداعش. عُيِّنَ مساعداً لأبو عبيدة التونسي، القائد المسؤول عن ملف الرهائن، أظهرته كاميرات المراقبة مسلحاً ويتجول داخل سجن مشفى الاطفال بحرية، وقد ربطته الأدلة بمهدي نموش (الذي أنكر معرفته به)، وبسليم بن غالم، الذي أوكل إليه مهمة تهريب عائلته إلى تركيا في كانون الثاني (يناير) 2014. صمته خلال التحقيق وعدم تعاونه، أثار شكوكاً حول مدى صدقه في ادّعاء التوبة أو الندم. قام المدعي العام بتعداد أكثر من 15 تناقض وكذب في أقواله خلال الجلسات، ثم أخبره «أنت تقوم برمي نفسك إلى الماء مقيد اليدين، أنت لا تترك لنفسك أي فرصة للنجاة». نالَ حكماً بالسجن لمدة 22 سنة.

        4- قيس العبدالله: سوري الجنسية، وُصَفَ خلال مُحاكمته في باريس بأنه أحد العناصر البارزة في تنظيم الدولة الإسلامية، ويعتقد أنه كان اليد اليمنى لوالي الرقة أبو لقمان، وكان يُعرَف داخل صفوف التنظيم بلقب «أبو حمزة TNT»، تماشياً مع خلفيته الجامعية وقدرته على تصنيع المتفجرات.

        انضم إلى جبهة النصرة ثم داعش بين عامي 2012 و2014، حيث خدم في جهاز الأمنيات في الرقة وانضم من خلاله إلى فرقة «التماسيح»، الأمنية التي نشطت في مدينة الرقة. كان يُشتبه في تورطه بشكل غير مباشر في اختطاف الصحفيين الفرنسيين نيكولا هينان وبيير توريس. حضر اجتماعاً غامضاً قبل أيام من اختطافهما، وادّعى حينها أنه ينتمي للجيش الحر، رغم أن كل الأدلة تُناقِض ذلك وتُظهِر أنه كان بالفعل جزءاً من تنظيم الدولة.

        تُظهر الأدلة الرقمية أنه احتفظ في حواسيبه الشخصية -التي أنكر ملكيتها- بوثائق تعليمية عن صناعة المتفجرات، بعضها يحمل شعار داعش، كما عُثر على آثار مواد شديدة الانفجار على جواز سفره. واستخدم صورة قناص من داعش على حسابه في تويتر، وشارك منشورات تمجّد «الخلافة»، بل ونشر عند ولادة ابنه عبارات يدعو فيها الله أن «يحفظه ليكون من أنصار الخلافة المنتخبة كأبيه».

        رغم ادعائه بأنه غادر سوريا هرباً من بطش التنظيم، إلا أن تحركاته اللاحقة، بما فيها زيارات متكررة إلى تركيا وظهوره في الرقة بعد مغادرته إلى أوروبا، تناقض روايته. ورغم أن الأدلة لم تثبت مشاركته المباشرة في التعذيب أو تنفيذ عمليات، فإن دوره كمُصنّع متفجرات وعضو في جهاز أمني مسؤول عن الخطف والقتل، جعل منه أحد الركائز التقنية الصامتة في منظومة داعش، وخطراً حقيقياً حتى بعد مغادرته سوريا. في مداخلته الختامية، طلب المدعي العام من المحكمة إنزال العقوبة القصوى بحق قيس العبد الله: 22 عاماً من السجن المُشدَّد، دون أي إمكانية لتخفيض العقوبة. صادقَ القاضي على هذا الطلب، وأصدر حكماً يقضي بسجنه الكامل مع ترحيله النهائي من الأراضي الفرنسية.

        5- سليم بن غالم: فرنسي من أصول مغاربية، يُعَدُّ أحد أكثر الجهاديين الفرنسيين شهرة في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية. بدأ تاريخه الإجرامي في سن العشرين، وتضمّن ست إدانات منذ عام 2001، من بينها محاولة قتل. مساره نحو التشدد انطلق من داخل السجون الفرنسية عام 2007، حيث تأثّر بشخصيات بارزة في التيار السلفي الجهادي، قبل أن يغادر إلى اليمن عام 2011 برفقة شريف كواشي (منفذ هجوم صحيفة شارلي إيبدو) للالتحاق بتنظيم «القاعدة في جزيرة العرب». هناك خضع لتدريب عسكري، وكان ينوي تنفيذ هجوم على جامعة أميركية في فرنسا، لكنه غيّرَ مساره متجهاً لاحقاً إلى تونس ثم سوريا.

        في آذار (مارس) 2013، دخل سوريا والتحق بدايةً بجبهة النصرة ثم بايع تنظيم داعش، وتحوّلَ إلى أحد جلّادي التنظيم في حلب. تولّى إدارة سجن الشيخ نجّار، وكان من أبرز السجّانين الذين مارسوا التعذيب والإذلال بحق الرهائن الغربيين والسجناء السوريين. ظهر وجهه مراراً في تسجيلات كاميرات المراقبة داخل سجن مستشفى الأطفال في حلب، وكان يحمل السلاح ويتنقّلُ بثقة بين الممرات، مُوجِّهاً التعليمات لغيره من الحراس حول «كيفية ضرب المعتقلين»، وظهر أيضاً في فيديو دعوي من شوارع حلب يدعو الجهاديين في العالم وأوروبا لاستهداف الدول التي يعيشون فيها.

        قدّمته شهادات للرهائن الأجانب على أنه «أبو محمد علي الفرنسي»، السجّان الذي شاركهم معظم مراحل اعتقالهم بين حلب والرقة، وكان مسؤولاً عن نقلهم، تعذيبهم، والتحكّم في تفاصيل حياتهم اليومية. كما أكد سوريون كانوا معتقلين وجوده الفعلي في السجن، وأشار بعضهم إلى أنه كان يُصدر أوامر مباشرة بالتعذيب. وهو يتحمّلُ مسؤولية مباشرة، برفقة نجم العشراوي (أبو إدريس)، عن مجزرة سجن مشفى الأطفال التي خلفت 45 قتيلاً.

        عام 2014، تولّى سليم منصباً في الشرطة الإسلامية في مدينة الباب، وتورط في تنفيذ عمليات إعدام وقطع رؤوس وصَلْب، حسب وثائق داخلية لداعش وشهادات زوجته «كاهنة هوري»، التي سمعت صرخات المعتقلين ليلاً من مقرّ عمله القريب. في أواخر العام نفسه تم نقله إلى جهاز العمليات الخارجية التابع لداعش في دير الزور، حيث عمل على تجنيد مقاتلين وإرسالهم إلى أوروبا لتنفيذ هجمات. ورغم إعلان مقتله في غارة جوية عام 2017، لم يتم التأكُّد رسمياً من وفاته، ويُحاكَم غيابياً أمام القضاء الفرنسي بتهم تشمل القتل والخطف والتعذيب والانتماء إلى تنظيم إرهابي. في النهاية حَكمته المحكمة غيابياً بالسجن المؤبد المُشدَّد.

        لم يكن هؤلاء، وغيرهم، فرادى، ولم تكن قراراتهم نابعة من غريزة سادية فقط. كانوا جزءاً من بنية عسكرية وأمنية داخل تنظيم الدولة، تبدأ من الأمنيين المحليين في حلب والرقة، وتصل إلى الرأس الأعلى المسؤول عن ملف الرهائن: أبو محمد العدناني. معظم المتهمين عملوا بتسلسل: بو طهار، بن غالم، نموش، ثم العطار، ونجم العشراوي في مرحلة لاحقة، حين تحولت إدارة الرهائن إلى وحدة أكثر «احترافية» بقيادة البريطانيين المعروفين بلقب «البيتلز». في المجمل، تم اختطاف 25 شخصاً من الغربيين، جميعهم صحفيون أو عاملون في المجال الإنساني، في مناطق مختلفة من سوريا. أُطلق سراح خمسة عشر رهينة منهم في نهاية المطاف مقابل فدية، خمس رهائن تمّ إعدامهم، أربع رهائن لقوا حتفهم في ظروف غير معروفة.

        بنية المحكمة والجو القانوني والسياسي المحيط بها

        لم تكن هذه المحاكمة مُجرَّد إجراء قانوني، بل مشهداً مكثّفاً من تعقيدات العدالة الحديثة حين تصطدم بوحشية الجرائم العابرة للحدود، وبقصور الدولة نفسها في مُجاراتها. المحكمة التي نظرت في القضية كانت محكمة الجنايات الخاصة في باريس، وهي هيئة لا تضم محلفين مدنيين كما هو الحال في بعض الأنظمة، بل تتألف من قضاة محترفين فقط، في ما يبدو أنه إجراء متبع في فرنسا في القضايا التي تمسّ الأمن القومي، أو التي تتصف بحساسية استثنائية، كقضايا الإرهاب. هذه المحاكمة التي بدأت رسمياً في 2025، كانت امتداداً لملفّ قضائي فُتح منذ عام 2014، بعد تحرير الصحفيين الأربعة من قبضة التنظيم. ما تلا ذلك كان جهداً استمر أكثر من عقد من الزمن: شهادات، صور، وثائق استخباراتية، تسجيلات، ومطابقات لغوية ووجهية. لكن عشر سنوات من التجميع لم تكن كافية أحياناً لتجاوز تعقيدات التحقيقات العابرة للحدود، المليئة بثغرات اللغة، وتناقض الشهادات، وهشاشة الأدلة الرقمية. ورغم ذلك، في قاعة المحكمة، بدا وكأن الزمن اكتمل.

        منذ البداية، أُحيطت المحاكمة بجوّ من التوتر السياسي والإداري، إذ تم تقليص مدّتها من ستة إلى خمسة أسابيع، رغم اعتراض محاميّ الدفاع، الذين رأوا في ذلك إخلالاً بحقوق المتهمين. إلا أن القاضي اعتبر أن خمسة أسابيع كافية، في حين تحدّثَ بعض المطلعين عن عجز في موارد وزارة العدل الفرنسية، سواء من حيث التمويل أو عدد القضاة المتخصصين في قضايا الإرهاب (قيل إنه لا يوجد سوى اثنين من القضاة المختصين في باريس)، ما أجبر المحكمة على ضغط الزمن القضائي.

        رغم التحديات، كانت الجلسات علنية، حضرها صحفيون، وممثلو منظمات حقوق الإنسان، وطلاب مدارس، في مشهد غير مألوف في العالم العربي، لكنه جزء من المنظومة التعليمية الفرنسية، التي تدمج زيارة المحاكم ضمن برامج التربية المدنية، تماماً كما يُؤخَذ الطلاب لزيارة المتاحف والمسارح. بعض الطلاب سبق أن شاهدوا الصحفيين الناجين يتحدثون عن تجاربهم، مما جعلهم يحضرون الجلسات ليس فقط كمراقبين، بل كجيل يُربَّى على الذاكرة. الناجون الحاملون للجنسية الفرنسية أو الأوروبية جرى الاعتراف بهم كأطراف مدنية مباشرة، ما منحهم حق التمثيل القانوني، وتقديم طلبات، والترافع. وقد تغيّر وضعي الشخصي، أنا الذي أكتب، من شاهد إلى طرف مدني أثناء جلسات المحكمة، بعد مشورة فريقي القانوني، في خطوة لم تكن رمزية فقط، بل قانونية، تحمي الشهادة وتحفظ كرامتها في وجه أي تشكيك.

        بعضُ الوقائع داخل المحكمة أظهرت هشاشة النظام نفسه. فقد تبيّنَ، مثلاً، أن المتهم مهدي نموش احتفظ في زنزانته بملاحظات مكتوبة بخط يده تتضمن معلومات عن الشهود. ورغم أن المحكمة برّرت الأمر بأن من حق المتهمين معرفة الشهادات الموجودة في ملف الدعوى، أثار الاحتفاظ بهذه الأوراق بشكل شخصي داخل الزنزانة قلقاً قانونياً، اعتُبر انتهاكاً غير مباشر لقواعد الحماية. ومن المثير أيضاً أن جميع المتهمين تقريباً حصلوا بطريقة ما على هواتف خلوية أثناء فترة توقيفهم، حتى في سجون يُفترض أن مراقبتها مُشدَّدة. وُجِدَ بحوزة عبد المالك تانيم ستة هواتف مختلفة على مدى أشهر، استخدم أحدها لإجراء أكثر من 200 مكالمة، قال إنها تتعلّق بـ«ألعاب إلكترونية»، وللتواصل مع ابنه الصغير المقيم في تركيا. قيس العبد الله أيضاً احتُجز وهو يمتلك هاتفاً، قال إنه يستخدمه للتواصل مع أسرته، لكن يبقى السؤال: كيف دخلت هذه الأجهزة، ولماذا لم يُكشَف عنها إلّا لاحقاً؟

        إحدى المفارقات كانت أن بعض الشهود السوريين رفضوا الحضور خوفاً من الانتقام، رغم أنهم يقيمون في أوروبا، معتبرين أن العودة إلى سوريا لاحقاً قد تُعرّضهم للخطر بسبب هشاشة الوضع الأمني. في إحدى الحالات، استُدعي شاهد عبر الشرطة من مكان عمله بعد أن رفض الحضور طواعية. على الطرف المقابل، المحققون العاملون في وزارات الداخلية والعدل الفرنسية وحدهم حصلوا على حماية خاصة، وأدلوا بشهاداتهم من وراء حجاب، دون كشف هوياتهم، وأُشير إليهم في الملف برموز مُشفّرة.

        على الصعيد الدولي، تجلّى الطابع العابر للحدود في المحاكمة من خلال تنسيق أمني وقضائي عالي المستوى بين فرنسا وبلجيكا وألمانيا والولايات المتحدة. بلجيكا زوّدت فرنسا بتفاصيل محاكمة مهدي نموش السابقة، فيما ساعدت ألمانيا في تعقُّب قيس العبد الله. أما الولايات المتحدة، فقد أتاحت جلسات استماع مصوّرة لعنصرين بريطانيين من تنظيم داعش (كوتي والشيخ) سبق أن حوكموا في أميركا عام 2022، وكانا شاهدين مباشرين على جهاز الاحتجاز والتعذيب، وكنت حاضراً وقتها كشاهد في تلك المحاكمة.

        في المقابل، لم يكن هناك أي تعاون مع السلطات السورية، لأسباب واضحة تتعلق بفقدان الشرعية والفوضى، ولم يُذكَر أي تعاون مع السلطات التركية، رغم أن زوجة أحد المتهمين تُقيم في تركيا. بل ألمحَ بعض مُحاميّ الادعاء إلى غياب الحماسة التركية بشأن تسهيل شهادات بعض الشهود الذين مرّوا عبر أراضيها.

        أَولى الإعلام الفرنسي المُحاكمة اهتماماً لافتاً، خصوصاً في أيامها الأولى والأخيرة. مهدي نموش، الذي كان الأكثر شهرة بين المتهمين، حظي بتغطية واسعة، وساهم في ذلك سلوكه داخل المحكمة، حيث حاول باستمرار تحويل قفص الإتهام إلى منصة دعائية. وقد سبق له أن قال لأحد الرهائن في حلب: «سنلتقي في المحكمة في باريس»، وكأنه كان يخطط لمسرح الظهور الإعلامي منذ البداية. حضور الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند بصفته شاهداً، بدعوة من فريق دفاع نموش، أعطى تغطية إضافية رغم أنه لم يُدلِ بمعلومات جديدة، ورفضَ الإجابة عن أي سؤال بخصوص دفع الفدية. لم يكن حضور هولاند ذا فائدة فعلية، لكنه أضاء المحاكمة إعلامياً مجدداً. ومن الملاحظ أن تغطية الصحافة انخفضت قليلاً خلال محاكمة المتهم السوري قيس العبدالله، لكنها لم تنقطع تماماً. عدد من الصحفيين المتخصصين في قضايا الإرهاب واكبوا الجلسات منذ اليوم الأول، وكانوا دقيقين ومتوازنَين في نقل التفاصيل. لم تكن هناك هيمنة على السردية من الجانب الفرنسي، لكن بحكم وجود أربعة رهائن فرنسيين، طغت أخبارهم بطبيعة الحال على غيرهم. وقد حضرت وسائل إعلام بريطانية وإسبانية أيضاً، بينما غابت وسائل الإعلام العربية، وخاصة السورية، بشكل كامل عن المحاكمة، رغم أن القضية تمسّ سجوناً وأحداثاً وقعت داخل الأراضي السورية، ورغم وجود ناجين وشهود سوريين بين الحاضرين. ربما يعود هذا الغياب لانشغال السوريين بقضايا أكثر إلحاحاً، أو لقلّة تغطية مؤسساتهم الإعلامية لمثل هذا النوع من المحاكمات التي تجري خارج البلاد.

        الجانب الإنساني والعاطفي للمحاكمة كان حاضراً بقوة، خاصة في جلسة شهادة عائلة سليم بن غالم. والده ووالدته وأخته حضروا واعتذروا علناً أمام القاضي والضحايا. قالت الأم إنها لا تعرف كيف تحوّلَ ابنها من شاب محبوب إلى جلاد، وإنها تبكي كل يوم عندما تتذكر ما حدث. بعد الجلسة، اقتربت مني شخصياً وسألتني إن كنت أعرف ابنها. أخبرتها، بالعربية الفصحى، أنه كان مسؤولاً عن سجني وتعذيبي، لكنني لا أحمل ضغينة تجاه العائلة. في لحظة عاطفية نادرة، حضنتني مع باقي أفراد العائلة، مشهدٌ مؤثرٌ طغى على تغطيات إعلامية كثيرة في الأيام التالية.

        شهادة ناقصة في قاعة مُكتملة

        منذ اللحظة التي وطأت فيها قدمي قاعة المحكمة، أدركت ذلك: أنا السوري الوحيد هنا. سألت فريق محاميّ، فأخبروني أنه من المحتمل ظهور شهود سوريين آخرين، لكنني كنت السوري الوحيد الذي تقدم بصفة طرف مدني في القضية. لم تكن العزلة التي شعرتُ بها محصورة في اللغة أو الجغرافيا، بل كانت عزلة سردية، عميقة، ممتدة. كأن ما جرى في سوريا بين عامي 2013 و2017 تحت حُكْم تنظيم الدولة الإسلامية لا يُنظر إليه كقصة قائمة بذاتها، بل كجزء غامض من حكاية أكبر تدور حول الضحايا الغربيين.

        في كل مرة أُتيحت لي فرصة الكلام، كنت أتكلم. لا لأقارن، بل لأُضيء على زاوية تُرِكَت مظلمة. تلك السنوات السوداء من عمر الثورة السورية لم تحظَ بكامل حقها في التوثيق أو العدالة. في أوروبا، خضع بعض ضباط النظام للمساءلة، كما في قضيتي أنور رسلان وإياد الغريب في ألمانيا. محاكمات نادرة لكنها موجودة. أما في مواجهة تنظيم الدولة، فكل ما يُلاحَق هم المنفذون الذين اعتدوا على صحفيين غربيين، لا أولئك الذين صَلَبوا السوريين في الساحات.

        في قاعة المحكمة الباريسية، لم تكن اللغة عائقاً لي، تحدّثت بالإنكليزية حين لزم، وكان إلى جانبي مترجم طوال الوقت. لكنني أصررتُ أن أدلي بشهادتي بالعربية. أردت أن تُسمَع الكُنى كما نُطقت في الزنازين: «أبو عمر» و«أبو عمار»، لا كما تُقرأ مشوشة بحروف فرنسية. هذه الكُنى ليست تفصيلاً. إنها مفاتيح لذاكرة جماعية، أصوات لا تُنسى، تفاصيل لا تُترجَم. المحامون، القضاة، حتى المترجمون، كانوا عاجزين عن تمييز أسماء أو أماكن لم يُعايشوها. أحياناً كنت أشرح أن مشفى العيون ومشفى الأطفال هما المبنى نفسه، أو أوضح أن من نطلق عليه «الفرنسي» لم نكن نعرف إن كان بلجيكياً أو مغربياً، اللغة التي خاطبنا بها هي ما شكّلَ معرفتنا به، لا جنسيته القانونية.

        هذا الغياب السوري لم يكن نقصاً في الأصوات، بل في الإرادة. لم تُطلَب أي شهادة جديدة من سوريين آخرين. شهادتان قديمتان، واحدةٌ منهما لي، مثّلت كل ما سُجّل عن الرهائن السوريين. وكأن العدالة هنا تخص الرعايا الفرنسيين فقط. أما الآخرون، من اختفوا، من ماتوا، من ما زالوا ينتظرون، فوجودهم أو غيابهم سيّان في ميزان المحكمة. ربما لم يكن غياب الشهود السوريين ناتجاً فقط عن إهمال المحكمة، بل عن تعب طويل، وعن شعور مرير بأن لا أحد يصغي، مهما علت الأصوات. إرهاق جماعي ناتج عن تكرار الشهادة مرة بعد مرة، دون أن تتغير النتيجة، ودون أن يأتي الاعتراف الذي يستحقونه.

        ومع ذلك، رفضت أن أكون مجرد شاهد يروي ما حدث له وينتظر الأسئلة. كنت أبحث بنفسي عن التفاصيل التي ربما غابت عن الملفات والتحقيقات. كنت أعود كل ليلة إلى الأسماء، إلى التواريخ، إلى الوجوه. تواصلتُ مع سجناء وناجين آخرين، سألتهم عن كل ما قد يكون مفيداً، دققتُ في الذاكرة، راجعتُ الشهادات، بعض الأدلة التي وفّرتُها للمحكمة كانت مُتاحة منذ سنوات على الإنترنت، لكنها ظلت غير مُستعمَلة، ببساطة لأن أحداً لم يبحث عنها بلغتنا. أحد هذه الأدلة كان تسجيلاً، باللغة العربية، لعنصر سابق من تنظيم الدولة، ذكر فيه بالاسم سليم بن غالم «أبو محمد علي»، وربطه مباشرة بمجزرة مشفى الأطفال. تسجيلٌ كان موجوداً على يوتيوب، علناً، دون أن يلاحظه المحققون.

        وصل بي البحث أحياناً إلى مُراجعة خرائط غوغل، ومحاولة تحديد أمكنة قد تكون لسجن معمل الأخشاب في المدينة الصناعية. كنت أبحث بين الورش والمعامل، أتواصلُ مع أرقام الهواتف الموجودة على الإعلانات التجارية، واسألهم مباشرة: «هل لديكم قبو؟»، سؤال كان يبدو غريباً لهم، لكنه بالنسبة لي كان خيطاً صغيراً قد يقود إلى ذاكرة مفقودة. لم أصل إلى نتيجة، لكنني لم أتوقف عن المحاولة. محاولاتي لم تتوقف عند جمع الأدلة. تواصلت مع وسائل إعلام سورية، عرضت عليهم تغطية المحاكمة من الداخل، قدمت لهم تفاصيل دقيقة ومباشرة من قاعة المحكمة. لم أتلقَ أي رد. كأن ما يحدث هنا لا يعنيهم، أو كأن المحاكم خارج الحدود لم تعد تستحق اهتمامهم. لم أكن أبحث عن دور أكبر لي. كنت فقط أريد أن لا تبقى هذه المُحاكمة محصورة في رواية واحدة، وأن لا يختفي صوت السوريين مرة أخرى، كما اختفى آلاف المرات قبل ذلك.

        سبق أن أدليتُ بشهادتي في محكمة أميركية عام 2022، ضمن قضية «البيتلز»، كمجرد شاهد. يومها، عرفتُ أنني أروي القصة لصالح ضحايا آخرين. أما هنا، في باريس، كنتُ طرفاً مدنياً. كنت حاضراً لا كصوت مساند وديكور بشري، بل كصاحب قصة. لم يكن الأمر شكلياً: لي حق في الاعتراض، في المطالبة، في أن يُعترَف بي كضحية. وهذا الاعتراف، في عالم العدالة، لا يقلّ قيمة عن الحكم نفسه. في واشنطن، حوكم القادة؛ من يظهرون في الفيديوهات ويصدرون الأوامر. في باريس، حوكم المنفذون؛ من مارسوا التعذيب، من قبضوا على الحبال، من حملوا المفاتيح إلى الزنازين. ولأول مرة، رأيت محكمة أوروبية تُمسك بـ«اليد» لا فقط بـ«الرأس».

        ما حدث في قاعة المحكمة لم يكن مجرد استعادة قانونية لملف قديم. كان، بالنسبة لي، استعادة لذاكرة غُيّبت طويلاً. أن أجلس هناك، في قلب باريس، وأتكلم بلساني، بلغتي، عن سجون في حلب والرقة، كان كأنني أفتح نافذة صغيرة في جدار طويل من الصمت. لكنّ الشعور الأهم لم يكن في الجلسات، ولا في الأحكام، بل في المقارنة التي لم تغب عن ذهني بين محكمتين فصلتهما ثلاث سنوات وسقوطُ نظام. ما بين المحكمتين، سقط بشار الأسد، وسقط معه حاجزٌ داخلي لطالما خنقَ شعوري بالعدالة. شعرتُ لأول مرة أن صوتي لا يُستخدم لإضاءة قصة أحدٍ آخر، بل لبناء قصتي أنا، قصة بلدي، وناسه، ودمه المسكوب.

        ربما لم تكن المحاكمة كاملة. وربما لم يكن الحضور السوري فيها كما ينبغي. لكنني، في النهاية، كنتُ هناك. في المكان الذي يُفترَض أن تُروى فيه القصص، ويُواجَه فيه الجلادون، ويُحكى فيه عن الظلّ لا فقط عن النور. تحدثت باسم من لم يعودوا قادرين على الكلام، وخرجت من القاعة وأنا أعلم أن جزءاً من ذاكرتنا، أخيراً، سُمع. وأن العدالة، ولو تأخرت، يمكن أن تبدأ… من كلمة.

        ومع ذلك، بقي شيء ناقص. بقي السوري غائباً. بقيت أسماؤنا تُلَفَّظ على استحياء، وأصواتنا تتردد من خلف الزجاج. تمنيتُ طوال جلسات المحكمة أن تكون شهادتي التالية داخل قاعة محكمة سورية، لا فرنسية. لكن تلك الأمنية بدت، حتى اللحظة، مستحيلة. لا لأننا لم نطالب بالعدالة، بل لأن من يملكون السلاح لا يؤمنون بها، ومن يسيطرون على المحاكم لا يعرفون الفرق بين القانون والانتقام.

        سقط النظام، نعم، لكن ميزان العدالة لم يَستقِم، لم يتغيّر شيء جوهري في منطق المحاسبة. المسؤولون الجدد لا يأخذون العدالة على محمل الجد، بل يتعاملون معها كأداة انتقائية، يُلاحَق فيها من لا سندَ له، بينما يُترَك أصحاب النفوذ، والمرتكبون الكبار، خارج دائرة المساءلة. نرى من يُحاكَم لأنه سرق، أو لأنه أبدى اعتراضاً بسيطاً، بينما يفلت من ارتكب جرائم ضد الإنسانية باسم الثورة أو الدين أو «الشرعية». في هذا الواقع، تتحول العدالة إلى وهم، تُمارَس فيها المحاسبة كاستعراضٍ للقوة، لا كبحث عن الحقيقة أو إنصافٍ للضحايا.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى