لقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا تحديث 09 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
——————————
مؤشرات على الانسحاب الأميركي الشامل من سوريا
أ ف ب
آخر تحديث 08 يونيو 2025
أكد مسؤولون أميركيون، قبل أيام، سحب 500 جندي أميركي من مواقعهم في سوريا. وقد أسندت منشآت حيوية مرتبطة بمهمة مكافحة تنظيم “داعش”، مثل موقع دعم المهام “الفرات” وموقع دعم المهام “القرية الخضراء”، إلى “قوات سوريا الديمقراطية”، فيما جرى إغلاق بعضها بالكامل. وأوضح توم باراك، المبعوث الأميركي إلى سوريا، في مقابلة تلفزيونية مع وسيلة إعلام تركية، قائلا: “انتقلنا من ثماني قواعد إلى خمس فثلاث، وسنبقي على الأرجح على قاعدة واحدة”.
وفي الأسبوع نفسه، أفادت تقارير بأن الولايات المتحدة طلبت من “مجلس سوريا الديمقراطية” تسريع مفاوضاته مع دمشق لدمج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الجيش السوري الجديد بحلول نهاية شهر أغسطس/آب من هذا العام. وكان من المتوقع أن تمتد المفاوضات بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” بشأن الإصلاحات الأمنية لمدة عام، استنادا إلى الاتفاق الذي جرى في مارس/آذار بين قائد “قسد” مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع، وسط ترجيحات بتأخير ناجم عن الجمود السياسي وغياب التوافق.
كما أفادت التقارير بأن الولايات المتحدة منحت الضوء الأخضر لخطة الإدارة السورية الجديدة، التي تقضي بدمج نحو 3500 مقاتل جهادي أجنبي ضمن الهيكل التنظيمي للفرقة 84 في الجيش السوري، في تحول لافت في موقف واشنطن، بعد أن كانت تتحفظ سابقا على إشراك المقاتلين الأجانب في وزارة الدفاع التابعة للإدارة الجديدة، معتبرة هذا الملف من الشروط الأساسية لرفع العقوبات.
وتعكس هذه القرارات الثلاثة نهجا أميركيا جديدا، بل تعكس تحولا جذريا بمقدار 180 درجة في السياسة تجاه سوريا، كما تُظهر نفاد صبر متزايد إزاء عملية بناء الحوكمة، ما يشير إلى دافع أعمق آخذ في التبلور، وهو الانسحاب الكامل للولايات المتحدة من سوريا والعراق. وقد أظهرت الخطوات التي أعقبت إعلان تخفيف العقوبات الأميركية أن الهدف الذي طالما سعى إليه الرئيس دونالد ترمب يتمثل في إنهاء الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، وسط مؤشرات متزايدة على انسحاب شامل قد يبدأ في خريف أو شتاء العام الحالي.
ليس بالأمر الجديد
الانسحاب من الشرق الأوسط ليس غريبا على ترمب أو فريقه. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2019، وخلال ولايته الأولى، اتخذ الرئيس الأميركي قرارا مفاجئا بسحب القوات من شمال شرق سوريا. وقد تزامن هذا القرار مع استعداد تركيا لشن هجوم على المنطقة، استهدف، إلى جانب الفصائل المرتبطة بحزب “العمال الكردستاني” مثل “وحدات حماية الشعب”، الشريك الأهم للولايات المتحدة في عملية “العزم الصلب” على الأرض: “قوات سوريا الديمقراطية”.
أثار هذا القرار موجة غضب عارمة، إذ ساد انطباع بأن الولايات المتحدة لم تتخل فقط عن مهمة مكافحة الإرهاب، رغم أهميتها وعدم اكتمالها، بل تخلت أيضا عن أحد أبرز حلفائها في المنطقة “قوات سوريا الديمقراطية”. ودفع هذا التحول المفاجئ عددا من كبار مسؤولي الأمن القومي في إدارة ترمب إلى تقديم استقالاتهم، من بينهم المبعوث الخاص لدى التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” بريت ماكغورك، ووزير الدفاع جيمس ماتيس. وفي وقت لاحق، تراجع ترمب عن قراره بسحب كامل القوات، وقرر الإبقاء على 400 جندي أميركي في سوريا بدلا من تنفيذ انسحاب كامل للقوات التي بلغ عددها حينها 2000 جندي.
في المقابل، نجح ترمب بشكل أكبر في تقليص الوجود العسكري الأميركي في العراق. فبعد سلسلة من الضربات المتبادلة بين الولايات المتحدة من جهة، وإيران والميليشيات المدعومة منها في العراق من جهة أخرى، عقب مقتل قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني” قاسم سليماني، ونائب رئيس “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس، بدأت إدارة ترمب الأولى خفضا تدريجيا للقوات خلال ربيع وصيف 2020.
وقد شكّل الهجوم الإيراني على قاعدة عين الأسد الجوية، الذي كاد أن يودي بحياة مئات الجنود والمقاولين الأميركيين، عاملا حاسما في دفع القرار نحو الانسحاب. كما ساهم تصويت البرلمان العراقي في يناير/كانون الثاني لصالح إلغاء طلب المساعدة من التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” وطرد القوات الأميركية من البلاد، في ترسيخ مبررات الإدارة الأميركية، التي كانت متشككة أصلا في جدوى الوجود العسكري الخارجي، للشروع في خطة انسحاب شاملة، رغم أن التصويت لم يكن ملزما قانونيا.
وساعدت جائحة “كوفيد-19” في تمويه عملية تقليص الوجود العسكري الأميركي، ما أتاح تنفيذ خفض تدريجي للقوات بشكل هادئ. فقد سلّمت الولايات المتحدة أكثر من ثماني قواعد لقوات الأمن العراقية في مواقع استراتيجية، مثل معسكري التاجي والقائم، إلى جانب نقل المعدات، وخفّضت وجودها العسكري من 5200 إلى نحو 2500 جندي، أي بأكثر من النصف. وقد أرست هذه الخطوة، التي أطلقتها إدارة ترمب، الأساس للإجراءات اللاحقة التي تبنّتها إدارة بايدن.
وفي حين كانت عملية “العزم الصلب” تعمل أصلا في العراق ضمن إطار “النصيحة والمساعدة”، غيّرت الولايات المتحدة رسميا تفويض المهمة، لتنتقل من الدور القتالي إلى مهمة تركز على بناء القدرات. كما وضعت جدولا زمنيا مرحليا لسحب القوات الأميركية، بالتوازي مع انتقال مهام التحالف الدولي لهزيمة تنظيم “داعش”، على أن يُستكمل هذا المسار بحلول عام 2026.
ومن المقرر تنفيذ الانسحاب بشكل تدريجي، بدءا بإعادة انتشار القوات الأميركية من بغداد إلى أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق. وفي المرحلة التالية، ستبدأ واشنطن بخفض أعداد قواتها وتسليم المعدات، مع تحويل برامج بناء القدرات إلى عملية إخلاء مرحلية. وعلى الرغم من إعلان نيتها الحفاظ على وجود استشاري محدود في العراق، استجابة لدعوة حكومة السوداني، فإن العدد الدقيق لهذا الوجود لم يُحدد بعد.
لكن التحول المفاجئ في المشهد السوري مع اقتراب نهاية ولاية بايدن ألقى بظلال من التردد على مسار الانسحاب. فقد أثار سقوط نظام الأسد الوحشي، وتشكيل حكومة انتقالية جديدة تقودها “هيئة تحرير الشام”، وما رافق هذه العملية من تصاعد في المخاوف بشأن حالة عدم الاستقرار، تحذيرات متزايدة من احتمال أن يستغل تنظيم “داعش” هذه الأوضاع للظهور مجددا.
وفي ديسمبر/كانون الأول، أعلنت إدارة بايدن إعادة نشر أكثر من ألف جندي أميركي إضافي في شمال شرقي سوريا، ما رفع عدد القوات الأميركية هناك إلى 2000 جندي بحلول نهاية عام 2024، وذلك في إطار الاستجابة للظروف الأمنية المستجدة، ودعم “قوات سوريا الديمقراطية”، ومنع إعادة تمركز “داعش” في منطقة البادية السورية.
من جهته، أعرب العراق عن قلقه من احتمال تحرك التنظيم عبر الحدود السورية العراقية، ومن هشاشة الوضع الأمني في مراكز احتجاز عناصر التنظيم، مثل مخيم الهول. كما قدّم طلبات سرية للولايات المتحدة لتأجيل جدول الانسحاب إلى ما بعد عام 2026، وصولا إلى عام 2029.
إلا أن هذه الطلبات لم تجد صدى لدى إدارة ترمب الجديدة، خصوصا مع فريق الأمن القومي الذي يبدي قدرا أكبر من التشكك تجاه الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط مقارنة بإدارته الأولى.
نظرة نحو عام 2026
لا يبدو من قبيل الصدفة أن يتزامن تقليص واشنطن لقواتها، ومنحها الضوء الأخضر للإصلاحات الأمنية، والضغط الأخير لتسريع المفاوضات بين “قوات سوريا الديمقراطية” ودمشق، مع إعلان ترمب عن تخفيف العقوبات والتحول الجذري في السياسة الأميركية تجاه سوريا. بل يشكّل هذا التزامن تأكيدا واضحا وصريحا على الهدف المحوري الذي يوجه هذا التحول: الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من سوريا والعراق، وإنهاء الانخراط في مهمة مكافحة “داعش” في المنطقة.
وفيما تسعى الولايات المتحدة إلى تسريع وتيرة هذا المسار، تشير التقديرات إلى أن الانسحاب من سوريا قد يُستكمل بحلول خريف 2025 أو شتاء 2026، على أن يكتمل الانسحاب من العراق بحلول نهاية عام 2026.
ومع بقاء نحو 500 جندي فقط وثلاث قواعد أميركية في سوريا، وتركيز ما تبقى من القوات في العراق، يبدو أن وتيرة الانسحاب قد تتسارع خلال المرحلة المقبلة.
ومن المؤشرات الإيجابية أن واشنطن تدفع باتجاه مزيد من الإصلاحات الأمنية تمهيدا للانسحاب، بما في ذلك السعي نحو توافق بين “روجافا” ودمشق بشأن دمج “قوات سوريا الديمقراطية” في الجيش السوري الجديد. فهذه الإجراءات لا تُمثّل فقط عناصر ضرورية، بل تعد متطلبات أساسية لأي عملية انتقال فعلي لمهمة مكافحة تنظيم “داعش”، وأي انسحاب منظم للقوات الأميركية.
فالاحتكاك القائم بين الإدارة السورية الجديدة ومنطقة الحكم الذاتي في شمال شرقي سوريا يُمهّد الطريق أمام جهات خبيثة، وفي مقدمتها “داعش”، لاستغلال هذا التوتر، ما قد يُفضي إلى تعطيل كبير في العملية الانتقالية، التي تسير حاليا بوتيرة شبه مستقرة، ويقوّض فرص توحيد البلاد.
لكن على إدارة ترمب أن تعي أن الإصلاح الأمني في سوريا الجديدة، بعد 14 عاما من النزاع والانقسام، هو سباق ماراثوني لا سباق سرعة. وينبغي التعامل مع نقل مهمة مكافحة “داعش” في كل من العراق وسوريا بالمقاربة نفسها. إذ إن أي عملية انسحاب سريع تتجاهل احتمال عودة التنظيم، وقدرات القوات الشريكة، وتعقيدات المشهد الأمني الأوسع، قد تنقلب عكسيا على إدارة ترمب إذا اختارت التسرع.
المجلة
———————————
سياسة أميركية مزدوجة تجاه دمشق/ محمود الريماوي
07 يونيو 2025
تشكّل الاعتداءات الإسرائيلية المتواترة على سورية تحّدياً جسيما لهذا البلد، إذ تزيد هذه الاستهدافات القدرات السورية ضعفاً على ضعف، بما تتسبّب به من تدمير منهجي للقدرات الضعيفة، ويزداد الأمر سوءاً مع الصلافة السياسية التي تبديها حكومة بنيامين نتنياهو تجاه دمشق والقيادة الجديدة فيها، والتي تنطوي على تهديداتٍ سافرةٍ ومن غير أسبابٍ تسوّغ هذا التصعيد الجاري من طرف واحد. ورغم تكرار دمشق إنها ليست في وارد إشعال التوترات مع أي أحد، إلا أن هذه “التطمينات” تُقابَل بغطرسة إسرائيلية ظاهرة، فقد اختطت حكومة نتنياهو تجاه دمشق في عهدها الجديد سياسة تقوم على أن أي تسلح سوري مما تحوزه الجيوش التقليدية يشكل تهديداً للدولة العبرية، ويبدو أن الأخيرة على وشك أن تطلق مطلب نزع أسلحة سورية، لضمان أمن إسرائيل! وبما يشبه مطلباً سبق أن تقدّمت به موسكو لإقرار تسوية مع كييف، فالجار الصالح هو الذي يتجرّد من جميع أسلحته بجوار الجار المدجّج بالأسلحة المتطورة والفتّاكة. ويغدو المشهد أكثر تعقيداً، بالنظر إلى تلاقي حسابات خصوم العهد السوري الجديد، موضوعياً، لإضعاف هذا العهد وتجريده من أسباب المنعة، وحرمانه من تثبيت ركائز الاستقرار.
ومع توالي الاعتداءات الإسرائيلية الجسيمة وافتقارها إلى مبرّر عسكري أو دفاعي، ومع تزايد ارتفاع أصوات مراكز دولية تندّد بهذه التعديات غير المبرّرة وتدعو إلى وقفها، كان من اللافت، في هذه الأثناء، أن ينطلق صاروخان من جنوب سورية نحو أهداف إسرائيلية، وهو ما سارعت تل أبيب للرد عليه موسّعة نطاق عدوانها على مناطق في الجنوب. وأياً كانت الجهة أو الطرف، وأيا كانت النيات وراء هذا النشاط المفاجئ على الجبهة السورية بعد عقود من الصمت، من الواضح أن تل أبيب قد رأت فيه مبرّراً لاعتداءات سابقة وراهنة وربما لاحقة. وإذا الأمر يوحي بخلط أوراق سياسية وعسكرية، فمن الواضح أن تل أبيب هي القادرة على استثمار هذا التطوّر وتوظيفه باتجاه إدامة اعتداءاتها، سعيا إلى تحقيق أهداف استراتيجية، منها إخراج الموقع السوري كلياً من دائرة الصراع، وهو ما يفسّر يروز دعوات أميركية إلى الطرفين لتوقيع معاهدة عدم اعتداء متبادل، علماً أن اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 التي أبرمها النظام السابق تنطوي على التزام متبادل بوقف الأعمال الحربية، وقد سارعت تل أبيب إلى نقض هذه الاتفاقية، ما إن سقط النظام السابق وشنّت حملة على أركان النظام الجديد “المتطرّفين الذين يرتدون أزياء غربية”.
أمام هذه الضغوط العسكرية الشرسة التي تتعرّض لها دمشق، على الحكم الجديد أن يغادر حالة الارتباك السياسي، وألّا يكتفي بالقول إن دمشق ليست بصدد تهديد أي أحد أو أية دولة مجاورة أو غير مجاورة، وأن تشرع في بلورة رؤيتها للسلام مع دولة الاحتلال، ومن غير أن تكون مدعوّة لاختراع شيء جديد. وفي هذا الصدد، من الأهمية بمكان التركيز على المحور الأساسي لأية تسوية، إعادة الأرض المحتلة مقابل إبرام السلام، وأن دمشق توقع اتفاقية سلام ما إن تلتزم تل أبيب بالانسحاب من هضبة الجولان ومن الأراضي والمواضع التي تسلّلت إليها عقب 8 ديسمبر الماضي. ولكون دمشق ملتزمة بالإطار العربي والقرارات العربية العليا وبمبدأ الأمن الجماعي العربي، فإن دمشق تلتزم بمبادرة السلام العربية للعام 2002، وترى فيها إطاراً صالحاً لتسوية جدّية تنهي عقوداً طويلة من الصراع العربي الإسرائيلي، وكانت سورية طرفا فيه وضحية لمطامع إسرائيلية (كما كانت دول غربية طرفا فيه بصورة أو بأخرى).
إنه لمما يسترعي الانتباه إزاء موجة التعدّيات الإسرائيلية المتعاقبة أنها تقع فيما تطلق واشنطن مؤشّرات إيجابية متتالية تجاه دمشق، بدأت حتى قبل لقاء دونالد ترامب بأحمد الشرع في الرياض، ومنها الأنباء عن زيارة مزمعة لوفد رسمي أميركي برئاسة وزير الدفاع العاصمة السورية، وكذلك ما تتواتر عن قبول أميركي لوجود مقاتلين أجانب يخضعون لهيكلية وزارة الدفاع، ويأتمرون بأوامرها ويعتنقون عقيدتها (وهذا ما لا يرتضيه الشطر الأكبر من السوريين، ولسان حالهم إن بوسعهم رفد الجيش الجديد بما يتطلبه من طاقات وموارد بشرية، دونما حاجة لمقاتلين جهاديين أجانب يجهلون كل شيء عن سورية وعن السوريين). والمراد قوله هنا إنه بينما ترفع واشنطن العقوبات عن سورية، وهذا حسن، فإنها، في الوقت نفسه، تغضّ الطرف تماماً عن تعدّيات عسكرية تتخذ هيئة “عقوبات”، ولا تعدو أن تكون بلطجة مكشوفة تشنّها تل أبيب على مواقع ومقدّرات سورية، لمنع هذا البلد من التعافي ولإغراقه في تحدّيات جسيمة، من دون أن يغيب عن البال أن الغرض الجوهري استدراج دمشق تحت السطوة العسكرية إلى الإذعان السياسي، والقبول بصيغة حل وصيغة سلام مزعوم تتماشى مع المطامح الإسرائيلية التوسّعية، ومع ما يسميه مجرم الحرب نتنياهو تغيير وجه الشرق الأوسط. ويثيرالحديث عن دعوة أميركية الشرع لتأدية زيارة رسمية إلى واشنطن في سبتمبر/ أيلول المقبل تساؤلات بشأن مغزى التقرّب الأميركي المتزامن مع تصعيد إسرائيلي، وكيف أمكن لواشنطن أن تجمع ما بين هذين النقيضين بأن تمدّ حبال الود والتسهيلات إلى دمشق، في وقت تتجاهل فيه التعدّيات الإسرائيلية الخطيرة والمتتالية، لا تدينها ولا تدعو إلى وقفها، وهو ما يجد نظيراً له في السعي الأميركي إلى وقف إطلاق النار في غزّة، المتزامن مع التعامي عن الفظائع اليومية بحقّ المدنيين هناك، حتى إن واشنطن تغضّ الطرف عن المهزلة الدامية لتقديم المساعدات، اذ تُستخدم المساعدات المزعومة هذه لزيادة تجويع الغزّيين من جهة، ثم للفتك بهم من جهة ثانية، حين يندفعون للحصول عليها. شيء كهذا تفعله إدارة ترامب مع دمشق بإرسال إشارات طمأنة وتسهيل تحقيق برنامج التعافي، وإعادة بناء ما هدمته حرب النظام على شعبه، جنباً إلى جنب مع تجاهل التدمير الإسرائيلي المتمادي للمقدّرات السورية. وعليه، لا مفرّ أمام الحكم الجديد من الربط بين الأمرين، بالترحيب بالمؤشّرات الأميركية الإيجابية، وفي الوقت نفسه، التشديد على أن هذه الإيجابية لا تتماشى أبداً مع إطلاق يد تل أبيب في التدمير.
العربي الجديد
—————————–
الاستثمارات في سورية من النيّات إلى التنفيذ/ سميرة المسالمة
09 يونيو 2025
لم يعد هناك شك في نية العالم للانفتاح على الدولة السورية في مختلف المجالات. ولعل التصريحات الأميركية والأوروبية تعكس شعوراً متزايداً بالمسؤولية والشراكة في عملية البناء، ما يحوّل العامل الخارجي الذي كان سبباً في تعطيل القدرة على النهوض من قعر الاقتصاد خلال الأشهر التي تلت تحرير سورية إلى عامل حاسم في تقويض ما خلفه نظام بشّار الأسد من خراب ممنهج، وتدمير وحشي لسورية والسوريين معاً.
في الوقت نفسه، دخلت الحكومة السورية بسرعة إلى اختبار لقدراتها الذاتية للقفز فوق حالة الانهيار إلى العمل المؤسّسي الجادّ، تارة مستخدمة عصا القوانين القائمة، على الرغم من تقادمها ومعرفتنا بظروف تشكيلها وفقاً لاحتياجات استثمارية تقونن فساد المرحلة الماضية، وتسهل عملية استيلاء أزلام النظام على منابع الاقتصاد وإنتاجيّته، وتارّة باتخاذ قراراتٍ تخالف القوانين أو الدستور المؤقت المعمول به، الأمر الذي يجعل من حاجة سورية إلى صناعة بيئة تشريعية متكاملة وحديثة، لا تقوم على الترميم أو الترقيع، بل على بناء منظومة قانونية متطوّرة تمنح الثقة للمستثمرين المحليين والأجانب، وتراعي ضمان استدامة عائدية الاقتصاد الوطني وحماية ملكيته.
من هنا، يمكن الحديث عن أهمية وجود مؤسّسة تشريعية، وفق معايير برلمانية تقنية، تمثل نخبة قانونية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية ورياضية، فكل مجالات العمل اليوم هي مشروع استثمار ناجح، لا يمكن تجاهله، ولا يمكن تعريضه لمخاطر الهفوات التشريعية، ووجود مجلس تشريعي فعّال ومتوازن ومستقلّ يضمن استصدار القوانين الواضحة والجامعة والمانعة، والتي تتوافق مع المعايير الدولية في مجالات الاستثمار وحقوق المواطنة والعمل، يعزّز من الاستقرار القانوني ويسرّع عملية دخول المستثمرين إلى الأسواق المحلية، فأحد أهم ما يشجّع على دخول الاستثمارات إلى أي بيئة، ويعزّز مناخ الثقة والشفافية، وجود منظومة قضائية نزيهة ومستقلة، قادرة على الفصل في النزاعات بسرعة وحيادية، وجملة قوانين متكاملة تحمي جميع الأطراف، وتضمن حقوق الملكية بكل أشكالها، سيما الملكية الفكرية، والتي يعدّها رواد الصناعة الحديثة حجر الزاوية في بناء اقتصاد حديث وقائم على المعرفة والابتكار، فما هو مطلوب من المجتمع الدولي صار في متناول يد السوريين، أسواق مفتوحة واتفاقات تجارية ومصرفية ومالية، أي أن الشقّ الخارجي، وهو رفع العقوبات الأميركية والأوروبية، وإزالة سورية من قائمة الدول المارقة، وتسهيل انسياب الشراكات الأجنبية إليها، والسماح بحرية حركة الأفراد من العالم وإليه، كما كان طوال السنوات الماضية صار محققاً، بل ومحرّضاً على الاستثمار والبناء.
وقد يكون ما هو مطلوب من السوريين حكومة وشعباً الإرادة المحلية الحازمة بإطفاء الحرائق السياسية التي تنتقل من مكان إلى مكان، لتوفير الاستقرار السياسي والأمني الذي يراهن عليه رأس المال الجبان كما يقال، فاختبار قدراتنا على التحكّم بخلافاتنا لتكون رافعة لتوجيه البيئة التشريعية الضامنة لحقوق السوريين وتنوّعهم هو الامتحان الصعب الذي تنجح فيه الدولة السورية، كلما توسّعت حدود قدرتها على صناعة السلم الأهلي وتقلصت مساحة خلافاتها مع أبعد النقاط عن مركزها في دمشق، ما يسمح بانسياب نتائج الانفتاح الاقتصادي الذي يتوجّه الاستثمار المحلي قبل الأجنبي على كامل الأراضي السورية، ليكون الكفّة الراجحة في ميزان المصلحة الوطنية.
كل استثمار لا يأخذ بالاعتبار عوامل نجاحه وأمانه عابر، يراهن على الأزمات وليس على حلولها، وفي أجواء المنازعات المحلية قد يختلط الغثّ بالسمين، ما يجعل مسؤولية الجهات الحكومية كبيرة على جبهتين، داخلية لتأكيد سيادة مؤسساتها المعنية واستشارة الخبراء والمحكمين، وخارجية في التحقق وضمان دخول المؤسسات القوية والمجرّبة، مع إتاحة المجال للمبتكرين والمبدعين المحليين والدوليين لتكون سورية مكاناً آمنا لأعمالهم وفق معايير دولية واحترافية، ففي سورية تجارب لا يمكن تجاهلها في الاستثمار الوهمي والفاسد.
تبقى الصورة الاقتصادية لسورية انعكاساً لنجاحات الواقع السياسي، ما يجعل من كل مصالحة داخلية رافعة حقيقية لمؤشّر أرباح أسهمنا المحلية والدولية، فهل تفعلها القوى السياسية على اختلاف مسمّياتها، علوية ودرزية وكردية، وأيضاً القوى فوق الطائفية، لمصلحة السوريين جميعهم؟
العربي الجديد
——————————-
ماذا وراء تصريحات الشرع حيال إسرائيل؟/ لميس أندوني
08 يونيو 2025
أثارت تصريحات نُسبت إلى الرئيس السوري أحمد الشرع تساؤلاتٍ مشروعة بشأن رؤية النظام الجديد حيال خطر إسرائيل على سورية؛ فقوله مثلاً إن لدى سورية وإسرائيل “أعداءً مشتركين” غير مفهوم، فهل يعني ذلك الاستعداد للتعاون المشترك، وما دخل إسرائيل بالدور الأمني لسورية؟ واضح أن المسؤولين السوريين يتحاشون الإشارة إلى حرب الإبادة الصهيونية في غزّة، والأهم غياب موقف واضح من احتلال إسرائيل الجولان واعتداءاتها أخيراً على سورية، إضافة إلى غياب مفهوم الأمن القومي العربي في أحاديثهم، واللوم لا يقع عليهم حصراً، فهذا حال سائر الدول العربية وأنظمتها، فالنظام الجديد في سورية ولد في حقبة انهيار مفهوم الأمن القومي العربي، واستبدل بمفهوم “المصلحة القُطرية” وانطلاق عملية فك الارتباط العربي بالقضية الفلسطينية، وكأن التخلص من “عبء القضية الفلسطينية” صمام أمان يفتح باب الاستقرار والازدهار والسلام تحت الرعاية الأميركية.
ما نسمعه عن عودة سورية إلى “الحضن العربي” يعني أن عليها أن تقبل وتندمج في شرق أوسط جديد تبشّر به واشنطن، عماده الدخول في “المعاهدات الإبراهيمية” مع إسرائيل، التي كانت الإمارات أول من وقّعها عام 2021، وفتح سورية ومقدّراتها للشركات الغربية. وهنا لا بد من العودة إلى ما ورد في مقال نشر في “جويش جورنال” في 18 الشهر الماضي (مايو/ أيار) يلخّص ما يحدث من ربط لدخول الاستثمار الأجنبي إلى سورية وتشكيل الاقتصاد السوري وعلاقته بقبول إسرائيل.
لم تكن هناك مقابلة للصحيفة الصهيونية مع الرئيس السوري، بل مقال كتبه جوناثان باس، مالك شركة “أرجنت” الأميركية لنقل الغاز الطبيعي المسال، عن لقائه الرئيس الشرع ضمن وفد اقتصادي. ويتضح من المقال أن الوفد الأميركي ربط النقاش بشأن مستقبل الاستثمارات الأجنبية في سورية بموقف النظام الجديد من إسرائيل، وهذا في حد ذاته خطير؛ فقد سمح باس لنفسه بأن يطلب طمأنات حيال موقف دمشق من تل أبيب للمضي في محادثات بشأن تسلّم شركته خطة تطوير قطاع الغاز في سورية. ولفهم جدية هذا الربط المطلوب أميركياً، وأنه ليس مجرّد مصادفة، ضروري معرفة أن جوناثان باس صديق مقرّب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو الذي أعلن رغبة الشرع في بناء “برج ترامب” في دمشق خلال اللقاء، الذي سهّله كما يقول “نشطاء سوريون”، لمناقشة فرص الاستثمار في سورية عشية جولة ترامب الخليجية. وعرض باس خطة تنفذها شركته “لتطوير قطاع الغاز في سورية”، انطلق بعدها في مقابلات مع محطات تلفزة أميركية، ليعلن بفخر واعتزاز خطته وكأنه مسؤول سوري أو منقذ للشعب السوري. ثم نشر مقاله في المجلة واسعة الانتشار في لوس أنجليس لطمأنة اللوبي الصهيوني وإسرائيل بأنه سمع من الشرع ما يطمئِن من موقفه حيال إسرائيل، وأنه لا تعاون مع دمشق دون التزام مصالح تل أبيب.
السؤال: لماذا يضع الرئيس السوري نفسه في هذا الموقف؟ وكيف يمكن توصيف الوضع بين سورية وإسرائيل “قصفاً متبادلاً يجب أن يتوقف”؟. إسرائيل دولة محتلة ومعتدية، فقد كان بإمكانه أن يكتفي بالقول إن سورية ملتزمة القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الذي أشار إليه في حال حدوث مفاوضات مع إسرائيل. وهنا لن أذهب إلى اتهام الشرع، كما يفعل بعضهم، بأنه وصل إلى السلطة على أساس قبوله التطبيع مع إسرائيل، لكن معظم الدول العربية تتجه نحوالتطبيع، حتى إن ترامب، بكل بساطة، طلب من الشرع الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية في قلب الرياض.
ما يحدُث ليس نتيجة عملية تطور سياسية طبيعية، بل يندرج تحت عنوانين: انهيار النظام العربي، والشروط المطلوبة أميركياً لقبول النظام الجديد في سورية تحت ضغط شروط رفع العقوبات الاقتصادية، وبخاصة الأميركية، عن البلاد، وهي شروط لا يتحدّاها النظام السوري، والأهم أنها لا تلقى مقاومة أو حتى معارضة تُذكر من الدول العربية والإقليمية (تركيا)، فالإقليم في مجمله دخل في ترتيبات فصل المصالح “القُطرية”، والأدق القول كل نظام على حدة، من التزامات القضية الفلسطينية. أي النظر إليها معطّلاً ومعرقلاً نهوض الشعوب، وإيجاد معادلة جديدة للتعامل مع إسرائيل، بمعنى التسليم بأننا دخلنا عهد إسرائيل في المنطقة، وكأنها لا تشكّل تهديداً لكل دولة عربية على حدة، أو على الأمن القومي العربي بمجموعه.
يبدو أن الرئيس السوري يتصرّف على أساس المعادلة التي هي طور التشكيل، لكنها تصبح حقيقةً بقبولها والاستسلام لها، فلن يُقبَل النظام الجديد دون أن يلتزم قواعد اللعبة التي أصبحت شرطاً لقبوله، ودون الأخذ بمخاطر هذه الطريق وتداعياتها على سورية وسيادتها ومستقبل مقدّراتها الاقتصادية.
الغريب والمستهجن أن تاريخ إسرائيل منذ نشوئها والسياسات الأميركية في المنطقة كأنها حدثت في عالم بعيد أو مواز، وكأن إسرائيل لا تشكل خطراً على سورية وأن أميركا صديقة للشعب السوري. ليس المطلوب أن تعلن سورية حرباً على إسرائيل أو تهدّد بانتقام أو مواجهة، فأولويتها الحفاظ على نفسها وإعادة بناء الدولة والمجتمع السوريين، وليس مطلوباً أن تعلن جبهة مواجهة ضد أميركا، وأن لا يكون لها علاقات مع جميع الدول. ولكن لا يوجد حكمة من مهادنة إسرائيل اللفظية إلى درجة محاولة طمأنة كل وفد أميركي وغربي، وفي كل مقابلة صحافية، بأن النظام الجديد لن يكون خطراً على جيرانه، والمقصود إسرائيل، وأن لديها مع إسرائيل أعداءً مشتركين. وهنا لا داعي للتذكير بأن الفلسطينيين في نظر إسرائيل أكبر عدو لها: وأتساءل: لماذا لا يخطر ببال الشرع أن إسرائيل لن تعتبر سورية دولة صديقة، بل إن احتلالها الجولان والقنيطرة جزء من مشروعها الصهيوني الذي لا يقبل بالسيادة السورية على أراضيها.
ليست الإشكالية عدم وعي الشرع خطر إسرائيل، وإنما قد تكون في توهُّم أن الانفتاح على “لبرلة” القطاع العام السوري وفك الارتباط مع القضية الفلسطينية يشكل حماية للنظام الجديد وسورية. هذا التفكير هو التيار السائد لدى الأنظمة العربية وبعض المثقفين السوريين والعرب، وهذا توجّهٌ يزيد من عنجهية إسرائيل، والحديث عن إعطاء جملة تبرئ إسرائيل، ولو دون قصد، من كونها عدواً أو معتدياً، فلا حاجة لطمأنة إسرائيل، بل هناك حاجة للتمسّك بالحقوق الوطنية السورية، وتذكُّر أنّ سورية في موقف قوة، فالشركات العالمية هي التي يجب أن تتنافس على قبول الدولة السورية لها للاستثمار فيها وفقاً لشروط سيادية تضعها دمشق، ولا حاجة، بل من المهين أن يضطر الشرع إلى “إثبات حسن سلوك” أمام ممثل كل شركة تطمع في الثروات السورية، فإسرائيل هي الطرف المعتدي، وليس سورية.
العربي الجديد
——————————–
فرصة كبيرة وتحدّيات الداخل السوري/ عمار ديوب
06 يونيو 2025
أصبحت سورية محطّ أنظار العالم في الأشهر الماضية، وتحديداً منذ إعلان الرئيس ترامب عزمه رفع العقوبات عنها، وزيارة الرئيس السوري أحمد الشرع باريس، وزياراته المتكرّرة إلى تركيا والخليج. لم تعد سورية معزولةً أو منبوذةً أو متروكةً للتعفّن الكامل. هناك فرصة كبيرة إذاً، واحتضان حقيقي من العرب والعالم. بالتالي، الأمر مرهون بما ستفعله إدارة الرئيس الشرع، إذ تقف أمام تحدّيات متعدّدة، منها ما يخصّ مسارها السياسي الذي يواجه انتقادات كثيرة، وتتكثّف في عدم إشراك فئات من المعارضة أو الشعب فيها، واحتكار شخصيات أساسية من الإدارة، ومن يواليها، أغلبية الإدارات في مختلف مؤسّسات الدولة. والتشاركية موضوع ضغوط دولية تطالب بإشراك الأقليات، وهناك اشتراطات بتعدّدية سياسية وحكم تمثيلي، وهذا يتلاقى مع مطالب داخلية، تؤكّد الشيء نفسه.
عدا عن التحدّيات السياسية، هناك تحدّيات أمنية وعسكرية، ورغم محاولات وزير الدفاع، مرهف أبو قصيرة، ضبط الفصائل وحلّها ودمجها في وزارته، وإصدار مذكّرة قواعد لسلوك العسكريين، فلا تزال المهمّة صعبةً للغاية، وقد تزامن رفع العقوبات الأوروبية في الأيام الماضية مع فرض عقوبات جديدة بحقّ ثلاث فرق عسكرية كبيرة (السلطان مراد وسليمان شاه والحمزات)، وبحقّ قائدَين عسكريَّين (أبو عمشة وأبو بكر) كذلك. لضلوعهم في “جرائم تعسّفية” و”أعمال تعذيب” في مارس/ آذار الفائت في مدن وبلدات في الساحل السوري. ويفترض بوزير الدفاع حلّ هذه الفرق، وإبعاد هذَين القائدَين، فهل سيفعل؟ وإن لم يفعل، ماذا ستكون ردّة فعل أوروبا؟… على الإدارة الإسراع بإعادة تشكيل الجيش وأجهزة الأمن على أسس وطنية، وإبعاد (عدا المقاتلين الأجانب) كل الشخصيات التي ترفض هذه الأسس. ويرتبط هذا التحدّي بتأمين بيئة آمنة ومستقرّة، وإنهاء أشكال التعدّيات على الحريات الفردية والعامّة، وإيجاد حلّ حقيقي وتفاوضي للسلاح لدى فصائل في السويداء أو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي. هناك التحدّي الاقتصادي، وهو معقّد للغاية، وهناك انتقادات شديدة لكيفية إدارة هذا الملفّ؛ فلم يصدُر بعد قانون للاستثمار، ولا قانون للمصارف، ولم تنشأ محكمة خاصّة بالاستثمارات، ولم يرتبط النظام المالي بنظام سويفت بعد، ولا تزال النافذة الواحدة مغلقة، وهذه بيئة غير ملائمة لتدفّق الاستثمارات.
يشكّل غياب خطّة اقتصادية واضحة لكيفية استقبال الاستثمارات الخارجية، وتحديد مجالات عملها، الإشكالية الكبرى، ويمكن الوصول إلى تلك الخطة بدعوة الخبراء الاقتصاديين إلى اجتماعات مكثّفة، وهذا لم يتحقّق. وقد بدأت أصوات اقتصادية قريبة من السلطة تطالب به، وتنتقد غياب الشفافية وأسس الحكم الرشيد والحرية الاقتصادية، وسيادة التجريب والفوضى في هذا التحدّي. يذلّل هذه العقبات تدفّق شركات عالمية عديدة للمساهمة في إعادة الإعمار، ولكن غياب الشفافية من العقود التي أبرمت (أو ستبرم) يمثل إشكالية حقيقية ستضرُّ بالسلطة نفسها، وأيضاً ستُمكّن هذه الشركات من اختيار القطاعات التي ترغب في الاستثمار فيها، وهذا يتعارض مع البدء بقطاعات معنيّة صناعية وزراعية وعقارية، وخاصّة في المدن المُدمَّرة، لتكون الأساس لنهوض بقية القطاعات.
شكّل الاتفاق الأولي حول النهوض بقطاع الكهرباء مع شركات قطرية وتركية وأميركية بدايةً إيجابيةً، فإعادة إنتاج الكهرباء بشكل منتظم ستكون المدخل السليم للنهوض بمختلف قطاعات الاقتصاد، الكبيرة والصغيرة، وستكون الفائدة عامّة، وستكون كلفته للاستخدام المنزلي أو الصناعي المشكلة الكبرى في المستقبل. وبالتالي، يجب مراعاة ذلك في نصوص الاتفاقيات مع هذه الشركات، فسورية دولة فاشلة الآن، وتحتاج إلى المساعدة، لا للاستثمار فيها على أرضية أنها فاشلة، وهناك أكثر من 90% تحت مستوى خطّ الفقر.
يعدُّ التحدّي الاجتماعي الأخطر، ويرتبط بالسابق، ولكنّه يؤثّر في التحدّيَين الأمني والسياسي. سيؤدّي تدفق الاستثمارات العربية والأجنبية إلى إيجاد فرص عمل محدودة، ولكن تركّز الاستثمارات في بناء المدن المُدمَّرة والزراعة والصناعة سيؤدّي إلى التخفيف من حدّة هذا التحدّي. لقد مرّت ستة أشهر والأزمة الاجتماعية هي نفسها، فهناك ضرورة لإيجاد حلول معيّنة لمواجهتها، وعدم ترك الأمور من دون خطّة مرسومة، ومُعلنة، ومُناقشة ومحدّدة بأزمنة، وعبر الإعلام الرسمي. هناك تحدّيات كبيرة أخرى تتعلّق بعدم عودة بقيّة اللاجئين، ووجود ملايين السوريين في المخيّمات، وهناك مشكلة التعليم الكُبرى، ووجود ملايين الأطفال والمراهقين خارج التعليم، وأيُّ تعليمٍ يجب التركيز فيه في هذه المرحلة، ويرتبط هذا بالخطّة الاقتصادية، وبأيّ القطاعات سيُبدَأ فيها. سورية خارجة من حرب، ومن تعفّن وانقسامات مجتمعية، امتدّت أربعة عشر عاماً، وتدخّلات دولية ضدّ مصالح الشعب. هي دولة بحاجة إلى أشكال المساعدة كلّها، ولكنّها بحاجة (مجدّداً) إلى عقليات دولتية، ولخطط وطنية في المجالات كافّة، والبدايات السليمة تقود إلى إمكانية النهوض العام.
أشكال النقد المختلفة، التي وجهها كاتب هذه السطور عبر “العربي الجديد”، كانت بقصد المساهمة في هذا النهوض، إلى جانب آخرين كتبوا عن تحدّيات تواجهها سورية مذكورة أعلاه. والآن، نالت الإدارة الثقة العالمية، ولكنّها ثقة مشروطة، ولنلاحظ العقوبات الأوروبية الجديدة، وهناك الرفع الأميركي لعقوبات تتطلّب موافقة الكونغرس كذلك، وسيكون هناك نقاشات واسعة حول البيئة التي تحقّقت في سورية، وتسمح برفعها، والكلام يخصّ الحرّيات السياسية والاقتصادية والاستقرار الأمني أولاً، وهناك الشروط الأميركية المتعلّقة بأمن الكيان الصهيوني أو بالأسس التي يبنى عليها الجيش والأمن ثانياً. إذاً ليس من ثقةٍ مطلقة، أو رفعٍ للعقوبات من دون شروط، ومن يقول بذلك يبيع الأوهام لنفسه وللشعب، وسرعان ما ستتبخّر، وستتزعزع الثقة بالسلطة من جديد.
يشكّل التحدّي السياسي العقبة الكبرى أمام الإدارة الجديدة، والمشكلة هنا أن الإدارة تتجاهل خطورة هذا الموضوع، وهناك من يرى أن خيار الاستئثار والهيمنة هو خيارها، وليس في حوزتها أيّ فِكَر عن الديمقراطية أو التعدّدية السياسية أو إشاعة الحريات العامّة بقوانين. نعم، ليس لدى الإدارة تجربة ديمقراطية سابقة، وتعدّد الفصائل، وشخصيات السلطة القوية، يحدان من الركون إلى الديمقراطية شكلاً للحكم السياسي، ولكن هذا يتعارض مع ميل شعبي عام، سرعان ما سيعود ليسأل عن أسباب تأخّر المباشرة بالتشاركية، وعن الانتخابات وعن احتكار السلطات… هل تغيّر الإدارة مسارها السياسي وتنفتح تجاه إشراك الشعب، وتبدأ بانتخاب مجلس الشعب في الأسابيع المقبلة، وتكفّ عن سياسة التعيين، وتسعى إلى أن تتجاوز التحدّيات الكبرى أعلاه؟
———————————
كيف ستدير سوريا علاقتها بإسرائيل في هذه المرحلة؟/ غازي دحمان
9/6/2025
لم يعُدْ سرًا وجود مفاوضات بين سوريا وإسرائيل في بعض العواصم، بيد أن السؤال عما إذا كانت هذه المفاوضات مقتصرة على ترتيبات أمنية بخصوص التطورات التي جرت بعد الحرب على وقع احتلال إسرائيل شريطًا حدوديًا واسعًا في جنوب سوريا، أم هي مقدمة لاتفاق سلام شامل، في ظل تحرك أميركي يهدف إلى إعادة هندسة المنطقة عبر إطفاء بؤر التوتر، بما يسمح لواشنطن بإعادة تشكيل الواقع الإقليمي، بما يتطابق ورؤيتها لدورها العالمي في المرحلة المقبلة؟
السياق والتوقيت
المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، أو ما يصح تسميته بـ” مبادرة التهدئة”، تأتي كجزء من سياق أوسع لانعطافة إستراتيجية أميركية، وغربية بالتبعية، للحفاظ على دور فاعل في ضبط مفاعيل المشهد الدولي، والتأثير في توجهاته المستقبلية، في ظل بروز اللاعب الصيني بقوّة الذي بات يتمدد على جميع المفاصل الجيوسياسية الدولية ناثرًا مشاريعه الواعدة في كل ركن، منذرًا بإزاحة الغرب من موقع الريادة في قيادة النظام الدولي.
وقد أثبتت التطورات أن الساحة الشرق أوسطية تنطوي على مصالح أميركية، توازي، إن لم تتفوّق على مصالح واشنطن في جنوب شرق آسيا، التي رصدت لها موارد ضخمة. وفي ظل تقدير أميركي بأن مواجهة الخطر الصيني لا تتم بترك فراغات كبيرة له ليتمدد بها، مقابل حصاره في بحر الصين، وصحارى الشرق الأوسط وبحاره وممراته المائية، كعناصر مهمة في هذه اللعبة الجيوسياسية التي يتسع نطاقها ليشمل العالم برمته.
وتبعًا لذلك، وفي ضوء توازن القوى العالمي الجديد، بعد أن قلصت التكنولوجيا الصينية الفوارق بدرجة كبيرة، تجد إدارة ترامب نفسها مضطرة للبحث عن آليات جديدة لضمان استمرار التفوق، وهذا ما أكدته زيارة ترامب لدول الخليج العربي، وإيجابية مواقفه تجاه مطالبها، حيث شكّل دعم سوريا محورها الأساسي.
ورشة مفاوضات
ثمّة ما يمكن وصفه بـ “ورشة مفاوضات” انطلقت فعالياتها في أكثر من عاصمة إقليمية ودولية: أبو ظبي، وباكو، وتل أبيب، وربما أماكن أخرى. ما يجري حتى اللحظة يبدو أنه اختبار أو مرحلة تعارف بين المفاوضين، وتقديم كل طرف أطروحاته، والتي غالبًا ما تكون بسقف مرتفع، يجري بعد ذلك تشذيبها للتوافق مع المنطق والواقع. لم يرشح أي شيء عما يدور في كواليس هذه المفاوضات، لكن هناك مؤشرات عديدة على انطلاقها، من ضمنها توقف القصف الإسرائيلي والانفتاح الأميركي المتسارع على دمشق، كذلك تغير الخطاب السياسي تجاه الإدارة السورية الجديدة في كل من تل أبيب، وواشنطن.
لا يعني ذلك أن الأمور تسير بسلاسة وأننا بتنا على بعد أمتار قليلة من التوصل إلى تفاهمات صلبة، بقدر ما يعني تهيئة بيئة مناسبة للمفاوضات، تبدأ بالتهدئة الميدانية ووقف الهجوم الإعلامي الإسرائيلي ضد السلطة السورية الجديدة، وهو شهد بالفعل تحولًا، من خطاب يدعو لعدم الثقة بهذه السلطة إلى خطاب يؤكد على عدم الرغبة بالتدخل بالشأن السوري، وفق وزير خارجية إسرائيل جدعون ساعر.
من الطبيعي أن يتم التركيز في هذه المرحلة على الملفات الأمنية، وأن يقود المفاوضات المختصون بالمسائل الأمنية، على ذلك تأخذ المفاوضات طابعًا تقنيًا بحتًا، بعيدًا عن الأيديولوجيا والمواقف السياسية والحساسيات المختلفة، ولا سيما أن بين البلدين تاريخًا متواصلًا من الترتيبات الأمنية كان يجري تحديثها بعد كل تطور، وآخر الإجراءات كانت المنطقة العازلة التي أعقبت حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، والتزم بها الطرفان حتى سقوط نظام الأسد.
حاجة دمشق للسلام
منذ وصول الإدارة الجديدة للسلطة في دمشق أعلنت بشكل غير موارب، أن الاستقرار والسلام يقفان على رأس جدول أولوياتها في المرحلة القادمة، وبالتالي ليست معنية بلعبة الصراع التي انخرط بها نظام الأسد، على الأقل نتيجة انتمائه لـ”حلف الممانعة” وتسهيل نشاط إيران المناوئ لإسرائيل، والواضح أن إدارة الشرع قرأت جيدًا التحوّل في المزاج الإقليمي الرافض لاستمرار الحروب، ومنطق العسكرة الذي فرضته إيران وحاولت تاليًا التكيف مع متطلبات هذا التحوّل.
لكن أيضًا، متطلبات المرحلة، وضرورة الخروج من واقع، أقل ما يُقال عنه أنه واقع معقد إلى أبعد مدى، فرضت على دمشق تبني خيار البحث عن فرصة السلام، للهرب من واقع موازٍ حقيقي وليس افتراضيًا، سمته الانهيار الاقتصادي والعزلة الدولية، قد يصبح هو التعريف الأساسي لسوريا المستقبلية.
تدرك دمشق أن لها حسابات حساسة في المعادلات التي يجري تأسيسها في المنطقة، وأنها لاحقة لضلع إقليمي أكبر، وربما نقطة غير مرئية في دائرة من الفاعلين الإقليميين الأقوياء، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، وأنها مضطرة للعب تحت ظلال هذه القوى، ما دامت قد دخلت اللعبة بدون أدوات قوّة، على كل الصعد، وبحمل ثقيل من الأزمات والاحتياجات.
وفق ذلك، رأت دمشق أن الانخراط ضمن الهندسة التي تجريها واشنطن، بالتنسيق مع الفاعلين الإقليميين، في الخليج العربي وتركيا، فرصة أرادت التقاطها، ورافعة للخروج من دائرة التهميش والدمار، إذ لا يمكن تحقيق الاستقرار بجوار كيان يعتقد أنه يمتلك ناصية المنطقة، ولا يمكن جذب أموال الاستثمار بدون وضع مستقر، ما يعني تحويل سوريا إلى نموذج الدولة الفاشلة، وهو الكابوس الذي حاول حكّام سوريا الجدد الهروب منه، مع إدراكهم أنه لن يكون في جعبتهم، وهم يجلسون على طاولات التفاوض، سوى تقديم التنازلات.
إسرائيل والسلام بالإكراه
ليست هذه اللحظة المناسبة التي ترغب بها إسرائيل للانخراط في عملية سلام مع سوريا، فلا المزاج الإسرائيلي ولا النخب المؤثرة في وارد السير في هذا المسار الآن، والتفكير الإسرائيلي في هذه المرحلة في مكان آخر، حيث تصحو إسرائيل، بعد طوفان الأقصى، على واقع إستراتيجي مختلف لم تشهد ذاكرتها مثيلًا له منذ قيامها، ولا حتى بعد حرب عام 1967 حينما انهارت بوابات دول الطوق العربي وبات بإمكان الدبابات الإسرائيلية العبور إلى العواصم دون أي عوائق لوجيستية أو عسكرية سوى عائق التوازنات الدولية في خضم الحرب الباردة وحدود النفوذ المرسومة بين مناطق أميركية وأخرى سوفياتية.
الطموح الإسرائيلي في سوريا أكبر من سلام قد يتم التراجع عنه يومًا إذا تغيرت المعطيات، حيث تتجه تفضيلات إسرائيل إلى صناعة كيانات موازية للدولة السورية، كيانات تعتمد في بقائها على الدعم الإسرائيلي، وتدفع دمشق وحكامها إلى الانكفاء نهائيًا عن المطالبة بأراضٍ تحتلها إسرائيل، وتزيد عليها الجنوب حيث المياه الوافرة والأراضي الزراعية وقوة العمل التي تحتاجها المزارع والورش في حيفا والجولان والجليل، واعتقاد قادة إسرائيل أن تحقيق هذا الطموح لن يكلف كثيرًا، وكل ما ستفعله تل أبيب الإشراف على إدارة الصراعات في جنوب سوريا لخدمة مصالحها الجيوسياسية.
لكن التطور المفاجئ تمثل في موقف تركيا ودول الخليج العربي من التغيير في سوريا، ودفع واشنطن إلى احتضانه وجعله مصلحة للأمن القومي الأميركي، الأمر الذي أثار ريبة إسرائيل من احتمال إخراجها من الترتيبات التي هي في الواقع أكبر من مجرد استيعاب سوريا، بقدر ما هي تشكيل لواقع شرق أوسطي مرتبط بدوائر عالمية أوسع، ومشاريع جيوسياسية على نطاق أكبر، وبالتالي فإن إسرائيل تدخل مرحلة التفاهمات مع دمشق كنوع من الاختبار لمسارات التحرك الإقليمي والدولي، ولا سيما بعد تهميشها من تحركات الرئيس ترامب الأخيرة في المنطقة، وحالة الجفاء مع أوروبا، التي بدورها بدأت الانخراط المكثف في دهاليز الملفات الشرق أوسطية.
هل الصفقة وشيكة؟
بناء على هذه المقدمات، لا يبدو أن ما يدور بين دمشق وتل أبيب في هذه المرحلة هي مفاوضات سلام نهائية، بقدر ما هي مباحثات للتوافق على إطار أمني جديد بعد تراجع إسرائيل عن الترتيبات السابقة، وثمة عوامل كثيرة تؤكد هذا الاحتمال:
اختلال توازن القوى بشكل كبير يمنع دمشق من الذهاب إلى مفاوضات سلام تحتاج لأوراق قوّة تجبر إسرائيل على التنازل عن الجولان.
تحتاج الإدارة السورية الجديدة إلى مدى زمني أطول للقيام بخطوة عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، إذ بالرغم من تفضيل قطاعات واسعة من السوريين التركيز على الجوانب الاقتصادية والإعمار، وبالتالي الابتعاد عن الحروب الخارجية؛ لا تزال الصورة غير واضحة بالنسبة للنظام الجديد في دمشق، وبالتالي يشكّل خوضها في عملية سلام، قد تقدم خلالها تنازلات جغرافية مغامرة خطرة.
عدم حاجة إسرائيل إلى سلام يرتّب عليها التزامات بحجم التنازل عن أراضٍ تحتلها في الجولان، ومن مصلحة إسرائيل إبقاء الوضع الأمني هشًا على جبهتها الشمالية، وإبقاء دمشق تحت ضغط الإحساس بعدم الأمان من جهة إسرائيل، إلى حين نضوج ظروف مواتية للحصول على تنازلات كبيرة باطمئنان.
لا تطرح الأطراف التي تحتضن النظام السوري الجديد: الإقليمية والدولية، مسألة التوصل إلى اتفاق سلام بين دمشق وتل أبيب، في هذه المرحلة، لإدراكها أن الظروف غير ناضجة، وأن من شأن الاختلاف في أي مرحلة من مراحل التفاوض قد يفجر جولات صراعية تطيح بالاستقرار السوري الهشّ، لذا فالأفضل هو التوصل لترتيبات أمنية صارمة بين الطرفين تضمن الهدوء إلى حين التوصل لإطار سلام قابل للتطبيق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب سوري
الجزيرة
—————————–
الأموال السورية المجمدة في الخارج.. أماكن وجودها وفرص استعادتها/ سامر سيف الدين
9 يونيو 2025
أصدرت وزارة الخزانة الأميركية، يوم 24 أيار/مايو، ترخيصًا عامًا رقم 25 (GL 25) يقضي بالتخفيف الفوري للعقوبات على سوريا، والتي كانت مفروضة بموجب قانون قيصر، والسماح بإجراء المعاملات التي كانت محظورة سابقًا. وهذا الإعفاء مدته 180 يومًا بموجب أمر تنفيذي، مع إمكانية إعادة فرضها بعد ستة أشهر.
وشمل الإعفاء البنك المركزي السوري والمصرف التجاري، والشركتين السورية للغاز والسورية للنفط، والخطوط الجوية السورية، والإذاعة والتلفزيون، وموانئ اللاذقية وطرطوس، بالإضافة إلى الكثير من المؤسسات المصرفية واللوجستية. وبعض الشخصيات والكيانات. وبحسب بيان الخزانة الأميركية، يهدف هذا الإعفاء إلى المساعدة في إعادة بناء الاقتصاد السوري، والقطاع المالي، والبنية التحتية، بما يتماشى مع مصالح السياسة الخارجية الأميركية. ومن المتوقع أن يسهل هذا القرار استرداد الأموال السورية المجمدة والتي تقدر بالمليارات، وتتوزع على العديد من بلدان العالم. فلماذا جُمدت هذه الأموال وأين تتركز، وما هي أهمية استردادها، وما محددات ذلك؟
العوامل التي أدت إلى تجميد الأصول السورية
تم تجميد الأصول السورية في عدد من الدول الأوروبية بسبب عوامل عدة، تتعلق بالسياسات الدولية تجاه النظام السوري السابق وسلوكياته. حيث بدأت الدول الأوروبية، بقيادة الاتحاد الأوروبي، بفرض عقوبات على سوريا منذ عام 2011 كرد فعل على القمع العنيف الذي مارسه النظام ضد المتظاهرين السلميين. وشملت هذه العقوبات تجميد أصول شخصيات بارزة في النظام، بما في ذلك بشار الأسد، بالإضافة إلى حظر السفر ومنع التعاملات المالية مع مؤسسات الدولة السورية.
وقد اعتبرت الدول الأوروبية الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السوري، بما في ذلك استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين وعمليات التعذيب واستخدام الأسلحة الكيميائية ضد السكان، مبررًا لاتخاذ إجراءات صارمة لتقييد قدرة النظام على الوصول إلى الموارد المالية.
وتشير التقارير إلى أن جزءًا كبيرًا من الأموال المجمدة يعود إلى فساد النظام السوري وسوء إدارته للموارد. وهذه العقوبات المفروضة على سوريا كانت جزءًا من جهود دولية أوسع للضغط على النظام لتغيير سلوكه، وتحسين الأوضاع الإنسانية في البلاد.
أهم الدول التي تتوزع فيها الأصول السورية المجمدة
تحتفظ عدة دول في العالم بأموال سورية مجمدة نتيجة العقوبات المفروضة على النظام السوري. من بين هذه الدول: سويسرا التي تحتفظ حاليًا بحوالي 99 مليون فرنك سويسري (حوالي 112 مليون دولار أميركي). والمملكة المتحدة، التي تشير التقارير بأنها تحتفظ بأصول سورية مجمدة تقدر بحوالي 163.2 مليون جنيه إسترليني، وهو ما يعادل تقريبًا 200 مليون دولار.
وهناك تقارير تشير إلى أن ألمانيا تحتفظ أيضًا بأموال سورية مجمدة، لكن التفاصيل الدقيقة حول المبالغ غير متاحة بشكل واسع. كما أن النمسا عملت على تجميد الأصول السورية كجزء من العقوبات الأوروبية، ولكن المعلومات المحددة حول المبالغ المجمدة غير متوفرة.
كما تحتفظ فرنسا أيضًا بأموال سورية مجمدة، وهي من أوائل الدول التي دعت إلى إعادة النظر في العقوبات المفروضة على النظام السوري في ظل التغيرات السياسية.
وهناك إشارات إلى أن إيطاليا تحتفظ بأموال سورية مجمدة، ولكن التفاصيل حول هذه الأصول ليست واضحة.
وكانت الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات على النظام السوري منذ عام 1979، وتجميد الأصول السورية جزء من هذه العقوبات. ومع ذلك، لا توجد تقديرات دقيقة لقيمة الأصول المجمدة في الولايات المتحدة.
كما قامت تركيا أيضًا بتجميد أصول الحكومة السورية، لكن المعلومات الدقيقة حول قيمة هذه الأصول غير متوفرة بشكل واسع. وهناك تقارير تشير إلى أن بعض الدول العربية مثل مصر والأردن تحتفظ بأموال سورية مجمدة، لكن القيم الدقيقة لهذه الأصول غير محددة. فيما يُعتقد أن الأموال المجمدة في لبنان تتراوح بين 20 إلى 50 مليار دولار.
أيضًا كان بارزًا في الأيام الأخيرة المحادثات بين مسؤولين سوريين مع بعض مسؤولي مملكة البحرين، حيث تسعى الحكومة السورية جاهدةً لاستعادة الأموال المودعة في البنوك البحرينية، وتحديدًا تلك التابعة للمصرف التجاري السوري.
وتشمل هذه الأصول المجمدة، الحسابات المصرفية والاستثمارات والعقارات المرتبطة بعائلة الأسد وشركائها المقربين. وأفادت التقارير بتجميد مليارات الدولارات من الثروة المتراكمة خلال الحرب السورية في أوروبا. بينما يدير مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) في الولايات المتحدة هذه الأصول المُحتفظ بها في مؤسسات مالية أميركية، وتشمل أموالًا مقيدة بموجب لوائح العقوبات المفروضة على سوريا.
ولا تزال المواقع والمبالغ الدقيقة غامضة جزئيًا نظرًا لتعقيد الأنظمة المالية الدولية وتباين ممارسات الإفصاح. ويزعم البعض أن إجمالي الأموال المجمدة يبلغ 173 مليار دولار، لكن هذا الرقم يفتقر إلى التحقق المستقل، ويجب اعتباره غير قاطع.
أهمية استرداد الأموال المجمدة لسوريا
يُمكن أن يُوفر الوصول إلى هذه الأموال دفعةً ضروريةً للغاية للاقتصاد السوري، الذي تأثر بشدة بسنوات من الصراع والعقوبات. يُمكن استخدام هذه الأموال في جهود إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
ومن المؤكد أن يُعزز استرداد هذه الأصول بنجاح ثقة الجمهور بالحكومة وقدرتها على إدارة الاقتصاد، وهو أمر ضروري لاستقرار طويل الأمد في بيئة ما بعد الصراع.
كما أن القدرة على استرداد الأصول المُجمّدة سيحسن مكانة سوريا في العلاقات الدولية، مما قد يُؤدي إلى مزيد من التفاعلات الدبلوماسية والشراكات الاقتصادية.
وقد تم اقتراح استخدام الأصول المجمدة لتمويل مشاريع تنموية وإعادة إعمار في سوريا. حيث أقر البرلمان الأوروبي مشروع قرار يسمح باستخدام هذه الأصول لدعم عملية الانتقال السياسي وإعادة الإعمار، مما يتيح الفرصة لتوجيه الأموال نحو القطاعات الحيوية مثل الطاقة، المياه، والصحة.
كذلك يمكن تخصيص جزء من الأصول المجمدة لتعويض ضحايا الحرب، مما يساعد على معالجة الأضرار التي لحقت بالمدنيين نتيجة النزاع. وهذا يتطلب آليات قانونية واضحة لضمان توزيع هذه التعويضات بشكل عادل.
هل ستسترد سوريا أموالها قريبًا؟
إن الإفراج عن الأصول المجمدة يتطلب التنسيق مع الحكومات والمؤسسات المالية الأجنبية، مما قد ينطوي على إجراءات قانونية مطولة للتحقق من الملكية وضمان الامتثال للقوانين الدولية.
وقد يُثني الوضع السياسي والأمني الهش في سوريا الجهات الأجنبية عن الإفراج عن الأموال حتى تشكيل حكومة مستقرة.
ويعتمد الاسترداد على استعداد دول مثل الولايات المتحدة الأميركية، ودول الاتحاد الأوروبي، وسويسرا لرفع تجميد الأصول، والذي قد يكون مشروطًا باستيفاء سوريا لمعايير معينة تتعلق بالحوكمة أو مكافحة الفساد.
يُعزّز الترخيص العام رقم 25 الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية بشكل كبير احتمالات استرداد هذه الأصول من خلال إزالة عوائق العقوبات، على الرغم من أن التحديات القانونية والسياسية والإدارية قد تُؤخّر الاسترداد الكامل. وفي حين أن طريق استرداد الأموال السورية المُجمّدة محفوفٌ بالتحديات، فإن التغييرات الأخيرة في سياسة العقوبات الأميركية تُعطي بصيص أملٍ للحكومة السورية وجهودها لإنعاش الاقتصاد.
————————–
أبعد من مصالح اقتصادية.. الدور السوري الجديد في الرؤية الأميركية/أحمد الكناني
8 يونيو 2025
شكل لقاء الرئيس الشرع في الرياض بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، نقطة تحول في مسار العلاقات السورية الدولية، إذ أعطى ترامب برفعه العقوبات الضوء الأخضر للدول الحليفة لواشنطن بإعادة تموضعها في سوريا، وذلك عبر الاستثمارات وإبرام الاتفاقيات الاقتصادية، لاسيما توقيع دمشق لاتفاق بـ 7 مليار دولار مع شركات توليد الكهرباء القطرية والتركية والأميركية، وإعادة تفعيل الدور السوري في الشراكات العالمية.
إلا أن السياسة الأميركية لم تتوقف عند رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، بل تجاوزتها إلى إجراء بعض التغييرات في سياستها، عبر تقديم الدعم لدمشق لتسريع تنفيذ الاتفاق المبرم، برعايتها، بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في العاشر من آذار/ مارس الماضي، إضافة إلى الإيعاز لـ”قسد” بتسليم مخيم الهول والسجون لدمشق، والموافقة على دمج آلاف المقاتلين الجهاديين السابقين الأجانب في الجيش السوري، ما طرح العديد من التساؤلات حول طبيعة الدعم الأميركي لدمشق، وفيما إذا كانت واشنطن سوف تعتمد سوريا الجديدة كحليف أساسي لها في المستقبل.
دعم المركزية شمال شرق سوريا
يعتقد الباحث في الشؤون الدولية، عزيز موسى، أن الدعم الأميركي لدمشق في الملف الكردي يأتي انطلاقًا من رغبة واشنطن في الاستفادة من خبرات قوات قسد داخل الجيش السوري، في مكافحة الإرهاب، ولهذا السبب، تضغط واشنطن على قسد باستمرار لتسريع عملية الاندماج مع الجيش السوري الجديد، تزامنًا مع تفكيك أهم القواعد الأميركية في شمال شرق سوريا وتخفيض أعداد قواتها.
ويضيف موسى، في حديثه لـ”الترا سوريا”، أن واشنطن سحبت عددًا من الأوراق من قسد لصالح دمشق، خاصة فيما يتعلق بإدارة سجون تنظيم داعش التي تضم ما يقارب 10 آلاف مقاتل، ومخيم الهول في الحسكة، وهذا يمكن أن يقرأ أيضًا في سياق الاختبار لقدرة الإدارة السورية على التعامل مع هذه الملفات.
فيما يرى الباحث في مركز عمران، أسامة الشيخ علي، في حديثه لـ”الترا سوريا”، أن الإجراءات الأميركية لا تعني التخلي عن قسد لصالح دمشق، إلا أن واشنطن باتت تركز على دعم الدولة المركزية بشكل أكبر، لاعتقادها بـ “عدم جدوى دعم الفواعل (قسد) دون الدولة”، خاصة وأنها قدمت المال والسلاح والخبرة، وباتت تضغط لدمج هذه الإمكانيات لصالح الجيش السوري، ويعزز ذلك الضمانات التي قدمها الرئيس الشرع بما يتعلق بمحاربة تنظيم داعش، والابتعاد عن التنظيمات المتطرفة، والاتفاق السلمي مع قوات سوريا الديمقراطية.
ضبط الفاعلين الإقليميين
من وجهة نظر الباحث السياسي سركيس قصارجيان، فإن واشنطن وفقًا لسياسية الرئيس الأميركي، تعمل على تهيئة الظروف الإقليمية في سوريا لإنشاء مشاريع اقتصادية طويلة الأمد، دون أي منغصات أو تنافسات إقليمية، وعليه تعمل السياسة الأميركية على دعم قرار دمشق من بوابة إنشاء التوافقات بين جميع الفاعلين بالملف السوري بالحد الأدنى، لا سيما العلاقات الجيدة السورية مع تركيا والخليج وحتى مع قسد، وهو أحد أبرز أسباب الدعم الأميركي لدمشق.
وفي هذا السياق يعتقد الباحث موسى أن الانفتاح الدولي والإقليمي على سوريا يحمل قلقًا تركيًا ضمنيًا نظرًا لدور الولايات لمتحدة كموازن للقوى وضابط للإطار العام لسياسات حلفائها الإقليميين تجاه دمشق بما لا يسمح بتفوق كامل لأحد الفاعلين على الآخر في النفوذ، إضافة للدور السعودي الذي يتمتع بخصوصية عربية سياسية واقتصادية والحضور في أكثر من ملف يتعلق بسوريا، ما يدفع تركيا للعمل نحو توسيع دائرة نفوذها بامتلاك مفاتيح ملفات أمنية وسياسية.
روسيا والصين في الأجندة الأميركية
ينوه الباحث في الشؤون الدولية عزيز موسى إلى أن واشنطن تنظر إلى سوريا كمنصة ضغط غير مباشرة يمكن توظيفها ضمن منظومة الردع الاستراتيجي ضد روسيا، خاصة مع استمرار الحرب في أوكرانيا منذ العام 2022، إذ تعمل واشنطن على إبقاء الساحة السورية ضمن معادلة ربط الملفات، بحيث تكون دمشق طرفًا محوريًا يمكن من خلالها تعديل سلوك روسيا في مناطق نزاع أخرى، مثل أوكرانيا أو القوقاز، وبناء على ذلك تتركز الجهود الأميركية في توسيع رقعة نفوذها في سوريا عبر التنسيق مع حلفاء إقليميين.
فيما يرى الباحث في الشؤون السياسية، سركيس قصارجيان، وجود هدف محتمل بالنسبة للموافقة الأميركية على تجنيد المقاتلين الأجانب في الجيش السوري، خاصة أنه يثير قلقًا كبيرًا سواء بالنسبة للصين أو حتى روسيا، وهما خصما أميركيا التقليديان، لافتًا إلى أنه في الوقت الحالي ليس من الأولوية الأميركية إنهاء التواجد الروسي في سوريا، وإلا كانت وضعته شرطًا أساسيًا لرفع العقوبات عن دمشق.
مسار الاتفاق الابراهيمي
يرى الباحث قصارجيان أن التفاهمات السورية مع واشنطن تأتي في إطار مصلحة إسرائيل، إذ إن واشنطن لن تتخلى عن دعمها ومراعاتها للمصالح الإسرائيلية في المنطقة، وبالتالي التفاهمات مع دمشق تدعم مسار التطبيع السوري مع إسرائيل.
الترا سوريا
———————————-
===================