مسار تطييف السنّة في سورية المعاصرة/ حسام جزماتي

نشر في 9 حزيران/يونيو ,2025
تعريفات
أستخدم هنا تمييزًا كان قد كتبه الأستاذ حسن منيمنة، بترجمة كلمة Communitarianism بالطائفية، وكلمة Sectarianism بالمذهبية. ووفقه تعني الأولى «العصبية القائمة على الهوية الدينية، دون أن تشترط التديّن». فالطائفي من يتمسّك بجماعته ويطعن بغيرها لاعتبارات متفاوتة تبدو، في معظمها، عرضية وطارئة، وإن شملت إسقاط معتقد الطوائف الأخرى. أما المذهبية فهي «العصبية المبنية على العقيدة الدينية، أي عصبية القناعة لا عصبية الدم». فحدود الجماعة ليست الطائفة، إذ يُخرج منها من لم يلتزم المذهب، ويقوم الطعن بالآخر أساسًا على اختلاف المعتقد. وأخيرًا، أستخدم مصطلح الإسلامية Islamist للتعبير عن التيار السياسي والفكري المعروف بذلك.
وعلى إيقاع هذه المفردات الثلاث، أحاول رصد تمظهر الهوية السنّية، العربية على وجه الخصوص، منذ انطلاق الثورة السورية حتى الآن[i].
الطريق إلى المذهبية Sectarianism
من المعروف أنّ الاحتجاجات في سورية بدأت، بوجهها العام الظاهر على الأقل، بشعارات مدنية جامعة تطالب بحقوق كل مواطني البلاد دون تمييز، في الحرية والكرامة والمساواة أمام القانون، وما يتفرّع عن هذه الأقانيم الكبرى من تغييرات سرعان ما وصلت إلى إسقاط النظام، بسبب مراوغته في الحوار واستخدامه القوى الأمنية ثم العسكرية.
ولكيلا يواجه بشار الأسد صفًّا متماسكًا من سوريين انتفضوا عليه، عمد إلى تنويع التعامل بين مختلف المناطق، مما يسهّل اجتذاب مجموعات بشرية هنا وتحييد أخرى هناك، سعيًا وراء إخماد الحراك. فميّز في الأسلوب بين الأرياف والمدن، ولا سيّما الكبيرة منها، وفي مقدمتها العاصمة دمشق، وبين العرب والأكراد، وبين الطوائف بمختلف تنويعاتها. وهنا كان يهتمّ جدًا لمنع انخراط العلويين في الثورة، وكذلك لتحجيم مشاركة الإسماعيليين والدروز والمسيحيين، وصولًا إلى انكفائهم عن الصورة لتغدو “صافية” كما يريد؛ سنّة عربًا يسهل اتهامهم بدعاية نمطية، تبدأ بولائهم لجماعة «الإخوان المسلمين» التي اصطدم معها في الثمانينيات، وتصل إلى «القاعدة» التي سارع إلى الترويج لوجودها قبل أن تضع قدمها الفعلية في سورية لاحقًا.
ومع انطلاق الحراك باكرًا في مدن وأرياف ذات حساسية سنّية علوية كامنة ومتململة، كبانياس وحمص واللاذقية وجبلة، بدأت الاحتكاكات التي تحولت إلى خطف متبادل، ثم إلى مجازر ارتكبتها قوات «الدفاع الوطني» وما سبقها. فقد تبين أن العلويين لا يحتاجون إلى كثير من الاستثارة لتستيقظ عندهم مخاوف تاريخية متناقلة شفويًا عن الذبح واغتصاب النساء، وهواجس حديثة عن انهيار النظام وفقدانهم موقعهم التمييزي نسبيًا فيه، والأهم فتح جردة حساب أجهزة المخابرات والسجون العسكرية؛ تدمر وصيدنايا، مما كان مطلبًا بديهيًا للثوار، وخطرًا أكيدًا على أجيال المرتكبين وأنصارهم.
بالمقابل، كان المحتجون، في المناطق التي لم تخضع للقمع وقتئذ، يزدادون محافظة. ومع شعار «ما لنا غيرك يا الله»، الذي أطلقوه تعبيرًا عن خيبة الأمل بتدخل دولي أو عربي لإنقاذهم من التنكيل، كانت تنتشر بينهم الصلاة وتُرخى اللحى. ومع الوقت أخذت مسألة الخروج للتظاهر من الجوامع، التي كانت تعني للكثيرين مكان تجمع آمن، تأخذ معناها. وبالتأكيد جرى كل ذلك تحت مظلة الشعور باحتمال الموت في أي لحظة، بالرصاص أو بالقصف، مما يدفع في العادة إلى الاستعداد له، عبر «إخلاص نية» القتال أو الصمود لتكون «في سبيل الله» بمحتوى عام مختلط.
الطفرة الإسلامية Islamist
في مطلع العام 2012، أعلنت «جبهة النصرة» عن نفسها، وفي السنة ذاتها بدأت طلائع المجاهدين العرب عبور الحدود إلى سورية. لكن انفجار التوجهات الإسلامية لم يحصل حتى العام التالي، ففيه بدت «حركة أحرار الشام الإسلامية»، السلفية الجهادية المحلية، أكبرَ الفصائل وبتوزع جغرافي معقول يتجاوز منبتها في أرياف حماة وإدلب، و«جيش الإسلام»، السلفي المجاهد، الكتلة الأبرز في الغوطة قرب دمشق، و«جبهة النصرة» التي كان يُنظر إليها بوصفها السلاح الأمضى بالتفخيخ والقتال. ولم يؤثر انشطار هذه الجماعة إلى قسمين، ثانيهما «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، في إضعاف هذا التيار الذي أخذ يستقبل أعدادًا غير مسبوقة من «المهاجرين» من البلاد العربية والغربية، الذين انخرط أكثرهم في حلم بناء «الدولة الإسلامية» المنشودة.
من جهة أخرى، كانت قوات ما عرف بعنوان «الجيش الحر» أقرب إلى الفوضى وضعف الانضباط والتجاوزات، كما يُتوقع من مقاومة شعبية غالبيتها من المدنيّين أصلًا، وبعضهم التحق بها بدافع الحميّة المحلية أو للانتقام من السلطة التي كان بينه وبينها ثأر قد لا يكون سياسيًا. وفي وجه محاجّة إسلامية كانت تزداد صلابة ويكثر ممثلوها، لم يكن بوسع قادة فصائل «الجيش الحر» سوى أن يهزوا رؤوسهم بتأثر صادق أو مدّعى. وكانت أعلام قواتهم تتحرك باتجاه اللون الأسود، أو تحمل عبارة الشهادة، وأسماء مجموعاتهم تلتحق بالجو العام فتضيف لاحقة «الإسلامي» كيفما اتفق، تجنبًا لصدام قد يكون قاضيًا أو لاتهامات ربما تطيح بالسمعة ثم بالحياة.
سقوط النظام والانكفاء إلى الطائفية Communitarianism
انهارت (داعش)، في آذار 2019، ليؤذن ذلك بانحسار التيار الجهادي في عموم المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد. فمن جهتها كانت «حركة أحرار الشام» قد تراجعت خطوة أو أكثر عن هذا المنهج، فضلًا عن انقساماتها العديدة بعد مقتل قادتها المؤسسين دفعة واحدة. وكانت الجماعات الجهادية الصغيرة، التي تشكلت على ضفاف الشقاق بين «جبهة النصرة» وداعش، التحقت بإحدى هاتين الكتلتين الكبيرتين أو تلاشت أو ضعفت إلى حد كبير. ومع سقوط (داعش) تحت ضربات «التحالف الدولي» وقوات «قسد»، أخذت «جبهة النصرة» تتحسس رأسها. وخلال السنوات اللاحقة، ولا سيما بعد خسارتها الكبرى أمام قوات النظام أثناء معارك العامين 2019 و2020، قنعت من الغنيمة بالسيطرة على مدينة إدلب وأجزاء من حولها، لتقيم في تلك المنطقة دويلتها التي ابتعدت عن الجهادية بخطوات محسوبة، وحاولت تبييض سمعتها الخارجية، حتى انطلقت معركة «ردع العدوان» التي توجت بالوصول إلى دمشق بسرعة فاجأت حتى من خاضوها.
أثناء المعركة، وفور انتصارها أخذ كثيرون يعرفون شخصية أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) لأول مرة بشكل جدي ومتمعن. وإذا كانت الإشارات بين ماضيه الجهادي وحاضره المدني بدت مشوِّشة لجمهور عريض؛ فإن علاماته السنّية بدت واضحة منذ السجود أول دخول المدينة وحتى افتتاح زياراته بالجامع الأموي. وبعدها ستنطلق حملة «أموية» عريضة، ولا سيما لدى الإعلام الرديف الصاعد مع السلطة الجديدة الذي اشتهر رموزه بسرعة صاروخية. ورغم الخطاب المطمئن للطوائف غير السنية، الذي واكب المعركة وما بعدها، فقد بدا ذلك، في غمرة الإشارات المختلطة وبالاعتماد على الرئيسي منها، تسامح «فاتحين» يحيون صورًا من التاريخ الذي اختاروه أمويًا.
ما يدفعنا إلى وصف هذه الحقبة من وعي السنّة بذاتهم بالطائفية المجتمعية غير المتدينة هو انخراط رماديين من السنّيين فيها أفواجًا، بمجرد التأكد من سقوط النظام، ومن دون أن يشترط ذلك تدينًا بالضرورة. ففي دمشق شعَر كثير من السكان أنهم «استعادوا مدينتهم»، و«إلى يوم القيامة» كما قالت جملة استخدمها وزير الثقافة الذي سيعيّن لاحقًا وصارت شعارًا رائجًا. وفي دير الزور، انتفض العرب السنّة، من دون أن يكونوا متفقين مع «هيئة تحرير الشام»، مطالبين إدارة العمليات أن تصل إليهم. ويمكن قول أشياء مشابهة عن جماهير كانت هاجعة في مدينة حماة، وأخرى كانت متأقلمة مع الوضعية الأسدية في أحياء من اللاذقية وحمص.
باستثناء قلة من السنّة المنخرطين في أعمال تشبيح سابقة، لا يمكن تجاهل آثارها على المستوى العام أو المحلي، أبدت المائدة السنية المفتوحة قبولًا لكل أبناء العشيرة، سواء أكانوا من الثوار القدامى أم من الصامتين خلال سنوات طويلة. إذ اتسع خطاب الهوية النهم والمراوغ لهؤلاء الأخيرين، بوصفهم حلفاء طبيعيين كانوا «خلف خطوط العدو» مهما تخاذلوا. وبالتدريج، بات على معارضين وثوار مبكرين من أبناء الأقليات أن يستخرجوا وثيقة حسن سلوك لا يبدو الحصول عليها ممكنًا، حتى الآن، إلا بالالتحاق بالمشروع السنّي الناهض وتأييده غير المشروط.
من جانب آخر، أسهمت العلاقات الوطيدة التي نسجتها السلطة الجديدة بسرعة، مع تركيا من جهة، ومع مجمل دول الخليج من جهة أخرى، بالإشارة الواضحة إلى الاتجاه الذي ستسير عليه الأمور. وقد التقطت هذا جماهير سنّية في بلاد مجاورة، ولا سيما العراق ولبنان، لتعدّ النصر السوري نصرًا خاصًا بها أيضًا، في معركتها القطرية مع الفصائل الشيعية في بلادها، وفي حربها الإقليمية ضد تمدد النفوذ الإيراني.
خاتمة
الأرجح أن هذا الظهور الأحدث للهوية السنّية، الذي لا يشترط سوى المنبت تقريبًا، هو الأشمل عدديًا والأقرب إلى العصبية الأهلية المحشِّدة من دون الحاجة إلى “ثقافة” بأي معنى. وهذا ما بدا من “الفزعة” التي انطلقت إلى الساحل ليلة السابع من آذار الماضي، ومن تحفّز خطاب الكراهية ضد الدروز حاليًا. ومع وجود أمشاج باقية من المرحلتين السابقتين ضمن جيولوجية الوضع الحالي، أصبح منطقيًا أن يضيع دم الضحايا بين القبائل، من السلفية الجهادية “المنضبطة” بفتاوى استئصالية ضدّ الفرق الإسلامية الأخرى، إلى تلك الباحثة عن الانتقام العشوائي، “غير المنضبطة” التي تستغل الفوضى. في حين يراوح السنّة المذهبيون بين محاولة الحدّ من أثر الغلوائين بخطاب وسطي وطني، يبدو قليل الفاعلية، وبين التغاضي عما يحدث والسعي إلى التقليل من أهميته النهائية، أملًا في أن يكون عابرًا أو مجرد ردة فعل على سنوات القهر.
[i] – لا تعني عنونةُ المرحلة بسمةٍ عامةٍ محددةٍ غيابَ ملامح من التعريفين الآخرين المستخدمين، بل تغلّبَ الوصف المعتمَد لتمثيل المرحلة مع تسلل مسحات من مراحل أخرى ومحافظتها على حيوية نسبية، ريثما تحصل على دورها أو تستعيده.
تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “الأزمة الطائفية في سورية”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير
تحميل الموضوع
مركز حرمون