لقاء الشرع-ترامب ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا تحديث 11 حزيران 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
—————————-
ضد سايكس بيكو مع كينغ – كراين/ طوني فرنسيس
رؤية ترمب للشرق العربي وتصريحات مبعوثه باراك… هل تعكسان قناعات جديدة؟
الاثنين 9 يونيو 2025 0:00
لم تكن الولايات المتحدة شريكاً في مشروع تقسيم المشرق العربي خلال الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة العظمى بعيدة من هذه الحرب وانتظمت فيها متأخرة إلى ما بعد الاتفاقية الإنجليزية الروسية الفرنسية، بل إن مساهمتها في رسم مستقبل المنطقة لم يؤخذ بها، واقتصرت تلك المساهمة على إرسالها لجنة كينغ – كراين إلى بلاد الشام لتستطلع رغبات مواطنيها ونخبها.
لم يكن التكهن بأولوية الاختراق السوري الذي أنجزه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في غير مكانه، وجاء تصريح سفيره في تركيا ثم مبعوثه الخاص إلى سوريا توم باراك ليضفي على هذا الاختراق أبعاداً تتخطى اللحظة السياسية الراهنة إلى أبعاد تاريخية ورؤية استراتيجية مختلفة قد تتبناها الإدارة الأميركية الجديدة.
في التركيز على سوريا، دعماً لنظامها الجديد وتسهيلاً لمهامه، بل وحماية له من خصم إسرائيلي في الجنوب وحليف تركي طامح في الشمال، رهان أميركي على تجربة تخوضها قوى سورية وصلت إلى السلطة نتيجة إصرار دؤوب، ومعارك متدحرجة وخيارات متنوعة، لكنها تعبر في العمق عن خيارات سورية أساسية، وهي حققت في آن واحد تغييراً لنظام أتعب الإدارة الأميركية على مدى عقود، وابتز محيطه لسنوات طويلة، كما وجهت ضربة حاسمة لخصوم أميركا الرسميين، من إيران التي فقدت رأس جسرها إلى المشرق، إلى روسيا التي تنتظر مصير وجودها العسكري في بلاد الشام على رصيف التطورات السورية.
والرهان الأميركي لا يقتصر على سوريا، بل يمتد إلى محيطها، ومحيطها المقصود هو المنطقة الممتدة من العراق إلى لبنان وفلسطين، وهو ما يعنيه السفير الأميركي لدى تركيا توم باراك، مبعوث ترمب إلى سوريا، ولاحقاً، كما يبدو، إلى لبنان، عندما قال في تصريح نهاية مايو (أيار) الماضي بضرورة تغيير نظرة الغرب إلى منطقة الشرق العربي الذي يضم البلدان المذكورة.
انتقد باراك اتفاقية سايكس – بيكو (البريطانية – الفرنسية الموقعة عام 1916 بمشاركة روسيا قبل أن تنسحب منها)، وقال “لقد فرض الغرب قبل قرن من الزمان خرائط وانتدابات، وحدوداً مرسومة، لقد قسمت اتفاقية سايكس – بيكو سوريا ومنطقة أوسع، ليس من أجل السلام، بل من أجل المكاسب الإمبريالية، وقد كلف هذا الخطأ أجيالاً عديدة”.
ويستنتج باراك، وهنا جوهر موقفه “لن نكرر هذا الخطأ مرة أخرى، لقد انتهى عصر التدخل الغربي، المستقبل هو للدبلوماسية التي تقوم على الحلول الإقليمية، والشراكات والاحترام، وكما قال الرئيس ترمب: لقد ولت الأيام التي كان فيها الغربيون يتدخلون في شؤون الشرق الأوسط ويذهبون إلى هناك ليعلموا الناس كيف يعيشون وكيف يديرون شؤونهم”.
لم تكن الولايات المتحدة الأميركية شريكاً في مشروع تقسيم المشرق العربي خلال الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة العظمى بعيدة من هذه الحرب وانتظمت فيها متأخرة إلى ما بعد الاتفاقية الإنجليزية الروسية الفرنسية، بل إن مساهمتها في رسم مستقبل المنطقة لم يؤخذ بها، اقتصرت تلك المساهمة على إرسالها لجنة كينغ – كراين إلى بلاد الشام لتستطلع رغبات مواطنيها ونخبها.
وخلصت أبحاث تلك البعثة عام 1919 إلى مطالبة غالبية السوريين واللبنانيين والفلسطينيين بالاستقلال في دولة تحمي الحريات والأقليات، كانت اللجنة من نتاج أفكار الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عشية مؤتمر السلام في باريس، ولاقت جولتها ارتياح وترحيب السكان، لكن الأوروبيين المنتصرين فرضوا رؤيتهم في النهاية وقرروا تقاسماً ذهب بنتيجته لبنان وسوريا إلى الانتداب الفرنسي والعراق وفلسطين وشرق الأردن إلى الوصاية الإنجليزية.
كان ينقص تصريح باراك (أو منشوره) الإشارة إلى نتائج أعمال تلك اللجنة ليستخلص أن الرؤية الأميركية لوقائع المنطقة تختلف عن رؤية “الإمبرياليين” منذ ما يزيد على قرن، لكن قرناً مر تتحمل فيه أميركا والشركاء الأوروبيون والدوليون المسؤولية عما آلت إليه أحوال الدول والشعوب التي تقاسمها السيدان جورج بيكو ومارك سايكس.
الآن يبدي ترمب آراء جديدة، بعض تعبيراتها نجدها في كلمات مبعوثه الخاص باراك الذي يشمل في اهتماماته تركيا الواردة في نصه الذي أثار جدلاً وتقييمات، وآراء ترمب ليست في حاجة إلى إيضاحات إضافية، وهي قابلة للتغيير، عرضها في البيت الأبيض في شأن غزة، وكانت آراء صادمة وكارثية، ووجهت بانتقادات ورفض ما جعله يخفف من الإلحاح عليها.
في شأن سوريا كان في تصريحاته قدر من التخلي وعدم الاهتمام، لكنه ظهر في مظهر آخر لدى زيارته السعودية وإثر محادثاته مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ولقائه القادة الخليجيين، وعد ترمب عندها بالسعي إلى اتفاق في غزة وتقدم خطوته الكبرى في اللقاء مع رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع ثم قراره رفع العقوبات عن سوريا، فيما كان يعلن عن فرصة أمام لبنان عليه الاستفادة منها لإعادة بناء دولته وترميم اقتصاده.
بدا ترمب في خطواته هذه وكأنه يترجم ما قاله في السعودية أيضاً، من أن أيام تدخل الغرب في إدارة الشعوب لشؤونها قد “ولَّت”، وعليهم هم أن يمسكوا أقدارهم بأيديهم بدفع أميركي صريح، بين الإعلان الأميركي وتطبيق مساراته على أرض الواقع مسافات لا بد من قطعها وهو ما ينتظره من أميركا أبناء المشرق العربي من بغداد إلى غزة.
تحمل تصريحات السفير باراك وتوجهات رئيسه في الظروف الراهنة رغبة بالقول إن المنطقة لا تتحمل مزيداً من التقسيم والشرذمة، أي أن تكرار سايكس – بيكو في صيغ جديدة غير مطروح على بساط البحث، وهذا يعني الإبقاء على حدود الدول الوطنية كما رسمت قبل قرن، مما يعني عدم السماح بتقسيم سوريا أو لبنان أو العراق، وإنما الذهاب إلى ترتيبات تحمي وحدة هذه الدول وتزيد في تماسك مكوناتها ضمن أنظمة ديمقراطية تعددية، ويعني ذلك دعم الاتفاق بين الأكراد ودمشق، وإشراك الأقليات جدياً في حكم سوريا بما في ذلك الدروز والعلويين، كما يعني تدعيم قيام الدولة في لبنان والانتهاء من ازدواجية سلطة السلاح وعصر الميليشيات الوكيلة، وما يصح في سوريا يصح في لبنان والعراق واليمن.
لا تتفق هذه الرؤية التي يقول بها الأميركيون، لا الآن ولا في المدى الأبعد، مع المشروع الإسرائيلي في فلسطين وتجاه الدول العربية المحيطة، فإسرائيل تتمسك بالدولة اليهودية وترفض قيام دولة فلسطينية، إنها في حال تصادم تاريخية مع سايكس – بيكو وحتى مع وعد بلفور، وكلها الآن موضع انتقاد أميركي متجدد.
إسرائيل واصلت حتى أيام قليلة ماضية تحريضها على الفوضى في سوريا، وهي تعتبر في خلفية مواقف حكومتها أنه لولا “انتصاراتها العسكرية” في معارك الأشهر الماضية، ما كان للحركة الدبلوماسية الأميركية أن تنشط وتحقق مكاسب في الإقليم، خصوصاً في سوريا ولبنان بعد الضربات التي تلقتها إيران و”حزب الله” وسقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
ستكون إسرائيل عقدة أساسية ومركزية تواجه المسعى الأميركي إلى رسم خرائط جديدة يأمل فيها ترمب، وسيكون الاختبار الأصعب أمام الرئيس الأميركي هو في كيفية التعامل مع الموقف العربي والدولي الحازم في شأن قيام دولة فلسطينية، فمن دون خطوة حقيقية في اتجاه الحل القائم على تسوية الدولتين لن يمكن استعادة الهدوء في الإقليم، وستتحول التصريحات عن مساوى سايكس – بيكو إلى مجرد “خطاب قومي” آخر وبائد، من مسؤول أجنبي هذه المرة، يدغدغ مشاعر لا تزال قائمة، شكلت دائماً وصفة للشرذمة والخراب.
——————————–
قلق أميركي على الرئيس السوري: جهوده قد تجعله عرضة للاغتيال
11 يونيو 2025
نقل موقع المونيتور الأميركي، عن توم باراك، المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سورية، أمس الثلاثاء، قوله إن الإدارة الأميركية قلقة من أن جهود الرئيس السوري أحمد الشرع لتعزيز الحكم الشامل والتواصل مع الغرب “قد تجعله هدفاً للاغتيال على يد مسلحين ساخطين”.
وقال باراك خلال مقابلة مع “المونيتور”: “نحن بحاجة إلى تنسيق نظام حماية حول الشرع”، مسلطاً الضوء على التهديد الذي تشكله الفصائل المنشقة من المقاتلين الأجانب الذين انضموا إلى الشرع في الحملة الخاطفة التي أطاحت رئيس النظام المخلوع بشار الأسد في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2024. وبينما تعمل القيادة السورية الجديدة على دمج هؤلاء المقاتلين ذوي الخبرة القتالية في جيشها الوطني، فإنهم مستهدفون للتجنيد من قبل جماعات مثل تنظيم “داعش”.
وقال باراك إنه كلما طال الوقت اللازم لإدخال الإغاثة الاقتصادية لسورية “زاد عدد المجموعات التي ستقول: هذه فرصتنا للتعطيل”، مردفاً: “علينا ردع أيٍّ من هؤلاء المهاجمين الأعداء المحتملين قبل وصولهم”. وأضاف أن ذلك يتطلب تعاوناً وثيقاً وتبادلاً للمعلومات الاستخبارية بين حلفاء الولايات المتحدة بدلًا من التدخل العسكري. ووصف باراك، الذي التقى الشرع مرتين، الأخير بأنه ذكي وواثق ومُركز”. وقلل من شأن الشكوك حول ماضيه الجهادي، مشيداً به باعتباره محاوراً مثيراً للإعجاب ذا وجه جامد.
وقال باراك: “أنا متأكد من أن مصالحنا ومصالحه متطابقة تماماً اليوم، وهي تحقيق نجاح كما فعل في إدلب في بناء مجتمع شامل وفعال، يكون إسلاماً ليناً، لا إسلاماً متشدداً”. واعتبر باراك أن “الشرع وحكومته الهشة يُدبّران الأمور على النحو الأمثل في ظل هذه الظروف”. وقال: “أُشيد بهؤلاء الرجال لتسخيرهم الموارد المتاحة لهم والحفاظ على رباطة جأشهم في وقتٍ تُحاول فيه مبادرات الآخرين إشعال الحرائق التي ستُنسب إليهم”.
لا شروط ولكن “توقعات”
وجاء حديث باراك مع “المونيتور” بعد أقل من شهر من لقاء ترامب بالشرع في الرياض في 14 مايو/أيار الفائت وإعلانه رفع جميع العقوبات الأميركية المفروضة على سورية. وقد مثّل ذلك تحولاً مذهلاً في السياسة الأميركية، التي كانت تتجنب التعامل المباشر مع الشرع وحكومته المؤقتة. وقال باراك: “اتخذ ترامب قرارًا لا يُصدق من تلقاء نفسه، وهو إزالة الضمادة اللاصقة”. وأضاف: “كان ترامب على سجيته، وكان قراراً رائعاً”.
وأكد أنه لا توجد شروط مرتبطة بتخفيف العقوبات، كما دعا البعض في إدارة ترامب. وقال: “نحن لا نُملي الأمور. نحن لا نُعطي شروطًا. نحن لا نبني أمة. لقد فعلنا ذلك، ولكنه لم يُفلح قط”. وأضاف أنه بدلاً من الشروط، هناك “توقعات” باستمرار الشفافية مع تنفيذ الشرع للعديد من الأولويات التي حددها ترامب خلال لقائهما، وتشمل هذه الإجراءات “قمع المسلحين الفلسطينيين، والسعي لانضمام البلاد في نهاية المطاف إلى اتفاقيات أبراهام، والتصدي لعودة داعش”.
تفاهم “صامت” بين إسرائيل وسورية
وردًا على سؤال عن الخطوات التي تتخذها الولايات المتحدة لتسهيل الحوار أو بناء الثقة بين إسرائيل وسورية، قال باراك: “أملنا هو أن كلا الطرفين، إسرائيل وحكومة الشرع، حتى لو لم يتحدثا معًا في هذه المرحلة، سيكون لديهما تفاهم صامت في ما بينهما بأن الانخراط (عسكرياً) الآن سيكون شيئًا فظيعًا لكليهما”.
وأشار باراك إلى سلسلة من التحديات التي تنتظر الشرع، بما في ذلك دمج القوات الكردية السورية في الجيش الوطني، ودمج وحدته من المقاتلين الأجانب المتشددين، ومعالجة معسكرات الاعتقال مترامية الأطراف في شمال سورية التي تحتجز أعضاء “داعش” المشتبه فيهم وعائلاتهم وتعتبر أرضًا خصبة للتطرف.
“إغراق المنطقة بالأمل”
ووصف باراك الهدف الرئيسي للولايات المتحدة في سورية بأنه إزالة العوائق أمام تعافيها الاقتصادي حتى تتمكن دول الخليج وتركيا والسوريون أنفسهم من التدخل لخلق علامات مرئية على التقدم. وقال مخاطبًا السوريين: “هل تريدون بناء وطنكم؟ بادروا”، مضيفًا: “كل ما نفعله هو إزالة القيود التي تعيق تدفق الأفكار الجيدة والأشخاص الأكفياء للمساعدة”. وقال إن ذلك “يهدف إلى إغراق المنطقة بالأمل”. وختم: “في هذه المرحلة، ذرة أمل واحدة تتغلب على مخزون من الواقع السيّئ”.
العربي الجديد
——————————————
منطقتنا والتحدّيات الخارجية والداخلية/ عبد الباسط سيدا
10 يونيو 2025
لم يأت تصريح المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية توم باراك، بشأن الإقرار بأخطاء نجمت من تطبيق اتفاقية سايكس بيكو 1916، والاتفاقات التي كانت ضمن إطارها العام، خصوصاً التي صيغت في مؤتمر سان ريمو 1920، والاتفاقية الفرنسية التركية (اتفاقية أنقرة الأولى 1921)، وصولاً إلى معاهدة لوزان 1953، والإقرار بإخفاق سياسة الولايات المتحدة تجاه سورية قرناً كاملا، لم يأتِ بجديد لا تعرفه شعوب منطقتنا، التي وجدت نفسها بعد انقشاع غبار الحرب العالمية الأولى محشورةً ضمن دائرة حدود رُسمت في مكاتب المسؤولين الغربيين بالمسطرة والفرجار. وكان ذلك وفق حسابات دولهم ومصالحها، لا بناءً على رغبات الشعوب أو مصالحها في تلك الكيانات الوليدة، التي أعلنت بعد الحرب دولاً قادتها أنظمةٌ حاكمةٌ مختلفةٌ، لكنّها تشاركت سمةً أساسيةً تمثّلت في تعاملها مع تلك الحدود بوصفها مقدّسة، رغم معرفة الجميع بأنها مفروضة من دول كانت بعد الحرب من القوة إلى الحدّ الذي مكّنها من فرض مشاريعها وإرادتها على دول المنطقة، والقوى الدولية المنافسة، في حين أن الشعوب في منطقتنا كانت مغلوبةً على أمرها، لا تمتلك قدرةَ الاعتراض، ولا المواجهة الفعلية. وحينما حاول الغيارى على أوطانهم وشعوبهم أن يعترضوا على ما كان يحصل، وخرجوا في انتفاضات وثورات، كانت الخسارات هي النتيجة في معارك غير متكافئة بكلّ الأشكال.
يتكامل كلام باراك (بل يتطابق) مع ما ذهب إليه الرئيس دونالد ترامب في أثناء زيارته الرياض، حين أشاد بتجربة السعودية من جهة نجاحها اللافت، والأكثر أهميةً في ذلك النجاح، أنه (وفق ما ذهب إليه ترامب) تحقّق بالانسجام مع خصوصية المجتمع السعودي، ولم يكن حصيلةَ تقليد نموذج وافد أو مقحم مفروض بنزعة تبشيرية من الغرب.
واليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على تقسيم المنطقة، ورسم الحدود السياسية بين شعوبها بناء على مصالح القوى الدولية الاستعمارية، أصبحت الدول المُستحدَثة، تلك التي تحكّمت الأنظمة العسكرية بمعظمها، أكثر ضعفاً نتيجة الفساد والاستبداد، في حين أن الدول المُتحكِّمة التي أوجدتها باتت أقوى ممّا كانت عليه بأضعاف أضعاف المرّات، بفعل التقدّم التكنولوجي غير المسبوق، سيّما في ميادين الذكاء الاصطناعي. هذا التقدّم الذي كان يُصنَّف قبل ثلاثة أو أربعة عقود في عداد الخيال العلمي. فهذه الدول هي اليوم في موقع القادر على فرض الخطط والمشاريع بأساليب القوة الناعمة، ومعاقبة الحكومات، وحتى تغييرها إذا لزم الأمر. وقد أدركت شعوب منطقتنا وقواها السياسية، ولو متأخّرةً، هذه الحقيقة، بينما لم يعترف أصحاب الأيديولوجيات، الذين غالباً ما يتبعون أجندات عابرة للحدود لا تحافظ على مصالح بلدانهم وشعوبهم، بهذه الحقيقة المرّة. والمقصود هنا الأيديولوجيات القومية والدينية، بالإضافة إلى اليسارية العلمانية، فهؤلاء يرفضون الإقرار بالحقائق الواضحة رغم معرفتهم الأكيدة بإنسداد الآفاق أمامهم، ويرفعون شعاراتٍ كُبرى تنسجم مع نزعتهم الشعبوية، ويهدّدون الخصوم بمختلف الأساليب، بما في ذلك اتهامهم بالخيانة والكفر، وهم يعيشون حالة انفصامٍ عن الواقع، يمارسون الغطرسة والتبجّح من دراسة الأمكانات وفهم المتغيّرات. وذلك كلّه يحول بينهم وبين التركيز في مشاريع وطنية كانت (وما زالت) تمثّل المَخرج الآمن للمحافظة على جغرافية دول ما بعد الحرب، وهي الدول التي كانت (وما زالت) ميداناً لنقاشات وجدالات عقيمة بين الماضويين، بتيّاراتهم المختلفة، بشأن السبق الزمني والأحقية التاريخية. واللافت اتهام كلّ طرف الآخر، أو الأطراف الأخرى، بالانتقائية والتزييف والتشويه. أمّا النتيجة، فتتشخّص راهناً في استمرارية المشكلات، وعدم التوصّل إلى حلول توافقية وطنية، كان من شأنها طمأنة الجميع وإرضائهم. هذه الإشكالات عانت منها (وما زالت تعاني) دول منطقتنا، التي تتسم بالتنوّع الديني والمذهبي والإثني، خصوصاً في العراق وسورية ولبنان، وفي الجزائر والسودان واليمن ودول أخرى، في حين أن المنطق السليم كان يوجب الإقرار بالواقع القائم والتعامل معه بعقلية إبداعية بعيدة النظر، تراعي الإمكانات والحاجات والتحدّيات.
وكان من شأن مثل هذا الإقرار أن يدفع أصحاب الشأن والتأثير نحو التفكير في كيفية تحسين قواعد العيش المشترك بين المكوّنات المجتمعية المتنوّعة، والعمل من أجل ذلك. ولبلوغ هذا الهدف، تُبرِز الضرورة أهمية إزالة الهواجس المتراكمة لدى الناس، على مستوى الجماعات والأفراد، وذلك بعقود مكتوبة واضحة لا تحتمل التأويل. فالناس، بناءً على التجارب المريرة السابقة في منطقتنا، وهي التجارب التي عاشوها، أو على الأقلّ قرأوها أو سمعوا بها، وعانوا من آثارها، لديهم خوف مشروع من المستقبل، خصوصاً في مناخات الغموض، وغياب الشفافية، والممارسات الهجينة غير المتّسقة. ولكن إلى جانب ذلك، علينا أن نأخذ في اعتبارنا حقيقة أن النصوص وحدها لا تكفي، بل تحتاج هذه الخطوة، على أهميتها، خطوة أخرى لا تقلّ عنها أهمية، بل ربّما تتجاوزها في هذا المجال، والمقصود بذلك تعزيز اجراءات الثقة، وهذا لن يتحقّق بالمجاملات والخطابات العاطفية المنمّقة، وإنما بخطوات فعلية حقيقية، يتم تلمّسها واقعاً في الأرض.
وحتى تكون هذه العملية متماسكةً متكاملةً مستدامةً، لا بدّ من التوافق على آلية لحلّ الخلافات التي ستحدث، شاء المرء أم أبى. والتباينات والاختلافات والخلافات من الظواهر الطبيعية، إن لم نقل الصحّية، ما دمنا نحترم حقّ الآخر المختلف في التعبير عن رأيه بحرية، وبممارسة النقد والاعتراض على ما يعتبره خللاً أو خطأً. لذلك سيكون من المفيد أن تكون هناك آلية للتعامل مع الخلافات بغية تذليلها، عبر مؤسّسات قانونية دستورية، صلاحياتها وقواعدها واضحة، وأحكامها القضائية نافذة، والجميع أمامها في قضايا المساءلة والمحاسبة سواسية من دون أي تمييز موجب أو سالب. إلا أن التوافق على هذه الخطوات الثلاث سيكون عسيراً (إن لم نقل مستحيلاً) في أجواء طغيان اللغة الطائفية المذهبية البغيضة، والقوموية العنصرية المقيتة، خصوصاً في مجتمعات متنوّعة متعدّدة، مثلما هو عليه الحال في كلّ من سورية والعراق ولبنان وغيرها من الدول. فهذه اللغة المنبثقة من عقلية جمعية ثأرية تفتقر إلى أبسط مقوّمات النضج الوطني، والاتساق العقلي المنطقي، وهي تعتمد أسلوب تبنّي الأحكام المسبقة، التي قد تكون في صيغة كليشهات مكرّرة ممجوجة، توصف بها مكوّنات دينية أو مذهبية أو قومية بأكملها، من دون أيّ بحث أو تدقيق، أو تكليف النفس بضرورة التمييز بين مواقف التيّارات والأحزاب والأفراد ضمن هذا المكوّن المجتمعي أو ذاك، وهذا مؤدّاه تكريس ذهنية “نحن وهم”. نحن “الأمّة المصطفاة” وهم “الأشرار”. نحن أصحاب الحقّ والوطن، وهم الدخلاء الأغيار مصدر الشرور والمخاطر. وغالباً ما يكون مصدر ترويج هذه الأطروحات الزائفة، وتلك المقابلة لها، مجموعة من الناس ممّن يجهلون التاريخ القديم والوسيط للمنطقة، بل يجهلون حتى مجريات التاريخ الحديث والمعاصر، وخلفياته، خلال مرحلة إعلان تشكيل هذه الدول بموجب الاتفاقيات الاستعمارية بعد الحرب. لذلك، يلاحَظ أن هؤلاء المروّجين يتعاملون مع الحدود القائمة بين الدول المعنية وكأنّها حدود مقدّسة كانت منذ الأزل، وينبغي أن تستمرّ إلى الأبد. ولعلّ هذا ما يفسّر اعتبارهم شركاء الوطن والمصير “خصوماً”، بعد أن حشرتهم اتفاقات سايكس بيكو وإفرازاتها ضمن كيانات جغرافية، اقتطعت ولصقت وفق حسابات المستعمرين الإمبريالية؛ ومن دون أن يكون للناس داخل تلك الأوطان، التي ستصبح دولاً، أيَّ رأي، بل حتى معرفة بما كان يجري.
واليوم يقرّ المبعوث الأميركي باراك بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها القوى العظمى بعد الحرب العالمية الأولى في منطقتنا، سيّما في سورية والعراق. والجدير بالذكر هنا أن مثل هذه الأخطاء، التي كانت بناءً على التوجّهات والاستراتيجيات الاستعمارية، ارتكبت في أفريقيا، وأماكن أخرى متعدّدة في آسيا، وغيرها. والاعتراف بالخطأ فضيلة، هذا إذا كان صادقاً مبنياً على مراجعات عقلية ضميرية، ولكنّه مع ذلك لا يغيّر من الأمر كثيراً ما لم يُقرَن بخطوات عملية تؤكّد أن الخطأ ذاته، أو شبيهه، لن يتكرّر مرّة أخرى، وبصيغة أخرى. وهنا تتحمّل مجتمعاتنا عبر قواها السياسية ونُخبها وتيّاراتها الشعبية مسؤولية الإسهام في تبلور مجتمعات وطنية حقيقية، لا تكون مجرّد تجمّع من الحارات الدينية والمذهبية، أو القومية أو الجهوية المناطقية، حارات متوجّسة من بعضها، تتكوّر على ذاتها، تمارس النفاق والتقيّة، وتتحيّن الفرصة للانتقام الذي تعتبره حقّها المشروع بناءً على سردية مظلوميتها التي تغدو مع الوقت جداراً عازلاً، يقطع الطريق أمام أيّ نفَس وطني انفتاحي، لا تستغني عنه الدول الطبيعية المتوازنة.
العربي الجديد
——————————————————-
ملاقاة التحول والفرص المهدورة/ سام منسى
ا9 يونيو 2025 م
في خضم التحولات المتسارعة بالمنطقة، يبقى سقوط نظام بشار الأسد وتسلّم أحمد الشرع رئاسة سوريا حدثاً استثنائياً تأسيسياً على مستوى سوريا والشرق الأوسط، ولعلَّه أحدُ أهم تداعيات «طوفان الأقصى» وما تلاه، وأخطرُ تحوّل استراتيجي تشهده المنطقة منذ نكسة عام 1967. فالأمر لم يقتصر على مجرد تغيير في رأس النظام السوري، بل امتد للبنية الإقليمية التي تشكّلت خلال العقود الماضية حول محور إيراني – سوري – لبناني، امتد تأثيره إلى العراق وفلسطين، وبدأت مرحلة جديدة أقفل فيها بابُ المشرق العربي أمام التمدد الإيراني، وعادت الولايات المتحدة للمنطقة من الباب العريض، مدعومة بإجماع عربي نادر حول ضرورة تفكيك منظومات النفوذ غير العربي التي ترسَّخت في العقدين الأخيرين.
استدعت هذه اللحظة اهتماماً عربياً ودولياً غيرَ مسبوق قادته بداية السعودية وتوّجه لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع الشرع، وبدأ سباق القوى الدولية إلى دمشق للمشاركة في إعادة تشكيل موقع سوريا ودورها في الإقليم. هذا الاهتمام الكثيف أثار في لبنان مشاعرَ الاستغراب والاستهجان، وطرح أسئلة مشروعة تقارن بين حجم وفاعلية الاهتمام والاحتضان العربي والدولي لسوريا مقارنة بلبنان، رغم تشكّل سلطة سياسية جديدة فيه خارج جناح الوصايتين السورية والإيرانية. فكيف ينسحب الضوء عن بلدٍ لطالما عُد «شاغلَ العرب»، و«مختبرَ التسويات الدولية»؟ وهل يعني ذلك أنَّ العالم قد حسم أمره بشأن بيروت؟
لبنان، الذي لطالما حظي باهتمام عربي ودولي كثيف منذ بداية الأزمة سنة 1969 مع الفلسطينيين، يضيع الفرصة تلو الأخرى وهو في طريق خسارة ما تبقى من ثقة المجتمع الدولي به، لا بسبب ضعف موارده أو هشاشة نظامه السياسي فحسب، بل بسبب غياب الرؤية الوطنية الموحدة والإرادة والإصلاح. فبينما كانت غالبية الدول العربية والقوى الدولية تنتظر منه مواقف واضحة في قضايا سيادية مصيرية بعد المتغيرات والانقلابات بالمنطقة وبالداخل اللبناني، مثل حصر السلاح بيد الدولة، ومحاربة الفساد، وترسيخ استقلالية القضاء، اختار لبنان مسارات ملتبسة، كأنه لم يدرك معنى المتغير السوري، والخروج الإيراني من المشرق، وتهاوي قوة «حزب الله»، وما إلى ذلك. محصلة ذلك ثلاثة أشهر على السلطة الجديدة، نتائجها المراوحة والمراهنة على الوقت والاستمرار في لعبة التوازنات الهشة والمساومات الصغيرة. بقي التردد سيد الموقف جراء الخوف من فزاعة الحرب الأهلية من جهة، وصعوبة تفكيك توغل «حزب الله» بأروقة الإدارة والأمن وبقية الأجهزة، إلى التلكؤ في فك الارتباط بين الطائفة الشيعية و«حزب الله» رغم دقته وصعوبته.
يبدو لبنان كأنه يُدفع به إلى خارج المشهد. فبينما حظيت سوريا بفرصة تاريخية بغطاء دولي وعربي واسع، لم يلق لبنان سوى وفرة مبادرات من دون دعم سياسي وازن، رغم تشكيل سلطة جديدة تحمل في تركيبتها إشارات رمزية على رغبة التغيير. ليس الأمر تجاهلاً متعمّداً، بقدر ما هو تعبير عن يأس متراكم من قدرة لبنان على التقاط اللحظة والتجاوب مع الرسائل الجليّة، ومفادها القرار السياسي الرسمي الواضح والمعلن بانتهاء عمل المقاومة المسلحة بكل أشكالها، وعدّ سلاح «حزب الله» سلاحاً غير شرعي، ووضع خطة زمنية معلنة بالتعاون مع القوات الدولية لسحبه، والسعي إلى هدنة دائمة مع إسرائيل على غرار هدنة 1949.
هذا الأمر ينزع كل الذرائع من يد إسرائيل التي لن تكون عاملاً مساعداً، بل معرقلة في كل من لبنان وسوريا. الحكومة الإسرائيلية الحالية اليمينية المتشددة، تعيش في حالة من البارانويا، وتتعامل مع أي تحوّل عربي كأنه تهديد مباشر. فهي تطالب بكل شيء دون تقديم أي تنازل سياسي، وتُفضّل الحسم العسكري على الانخراط في تسويات سياسية. فالنجاحات التي حققتها في حربها زادت تصلبها، وعزّزت وهم القدرة على فرض الوقائع بالقوة وحدها، ولو على حساب الاستقرار الإقليمي، وتوتير العلاقة مع إدارة ترمب الساعية إلى توسيع دائرة «اتفاقات أبراهام».
في نهاية المطاف، لا يكمن الفارق بين سوريا ولبنان في حجم الأزمة، بل في القدرة على الاستجابة لها. فسوريا شهدت بسقوط نظامها تحوّلاً بنيوياً واستراتيجياً استدعى تدافعاً دولياً وعربياً لملء الفراغ وإعادة رسم المعادلات. اللحظة السورية اليوم تشبه لحظة «ما بعد الحرب الباردة»: لحظة انكشاف، وإعادة تشكيل، والانفتاح على احتمالات جديدة. أما لبنان، فبقي في منطقة رمادية، لا ينهار بالكامل ولا ينهض فعلياً، يُدير الأزمات ولا يحلّها. وبينما تحوّلت دمشق إلى ساحة اختبار لنظام إقليمي جديد ولاعب متفاعل، فإن بيروت تخبو في نظر العالم.
دقّ جرس التحول، والفرص لا تنتظر من يتقن فن إضاعتها. الرهان على الزمن والمواربة لم يعودا يقنعان أحداً في عالم تحكمه الوقائع لا النيات.
—————————-
هذه سوريا ادخلوها آمنين/ علي قاسم
سوريا التي عانت لعقود تحتاج إلى قيادة تُعيد لها كرامتها، قيادة تفهم أن المستقبل لا يُبنى على الانتقام بل على الحوار ولا على العنف بل على إعادة إحياء الأمل.
الثلاثاء 2025/06/10
آن لسوريا أن تستريح
كان يكفي أن أقرأ النزر اليسير ممّا كتب عن أحمد الشرع، لأعلم أنه الشخص القادر على إخراج سوريا والسوريين من وضع مأساوي وصلت إليه البلاد. كان هناك شيء في كلماته يوحي بالأمل، بتغيير قادم لا يشبه أياً مما سبق، وبمرحلة جديدة لا تحكمها الدكتاتوريات القديمة ولا تقودها المصالح الضيقة. كانت رؤيته تتجاوز مجرد إسقاط نظام، كان يبحث عن سوريا أكثر عدلًا، أكثر تصالحًا مع ذاتها، وأكثر قدرةً على استعادة مكانتها الطبيعية في العالم.
عندما حذّر الآخرون من مستقبل مظلم، وتحدثوا عن مجازر متوقعة وأعمال ثأر وانتقام، كنت على يقين أن الحل بات قريبًا، وأنه سيأتي على أيدي الشرع وأصدقائه. المعارضة، كما أتباع النظام، كانت تتوقع مشهدًا أكثر دموية وتتحدث عن مجازر ستشهدها منطقة الساحل السوري، لكن ذلك لم يحدث. لم نشهد مذابح جماعية، ولم نرَ عمليات انتقام منهجية، باستثناء بعض الأحداث المعزولة التي أراد من خلالها بعض رجال النظام السابق بث الرعب بين الناس، في محاولة يائسة منهم لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
خمسة عقود انقضت منذ أن غادرت سوريا، لكنني لم أقطع صلتي بها. كنت أتنفسها في الأخبار، في القصص القادمة من دمشق وحلب واللاذقية. رحلتي الطويلة لم تمحُ الذكريات التي صنعتني، ولم تُنسِني الطرق التي مشيتها، والحواري التي كانت وجوه الناس فيها مألوفة. لقد عبرت سوريا كلها، من الساحل السوري إلى سهل الغاب وحمص وتدمر ودمشق، إلى جبل العرب والجزيرة، سيرا على الأقدام، هذا كان كافيا لأدرك أن هذا البلد يستحق أفضل من آل الأسد ليحكموه. سوريا، بتاريخها وثقافتها ومزيجها البشري الغني، تستحق أن تكون دولة يعيش شعبها بكرامة، دون أن يكونوا رهينة للأهواء السياسية والمصالح الضيقة.
في 9 ديسمبر 2024، كتبت مقالا تحت عنوان “آن لسوريا أن تستريح” قائلا “كل شيء غامض عن ماضي أحمد حسين الشرع وحاضره ومستقبله؛ ماذا يخفي هذا الشاب الأنيق الذي يتحدث بهدوء عن التسامح والمصالحة، ويحذر من ممارسة أعمال انتقامية، ويدعو إلى احترام حقوق الأقليات؟”
في ذلك اليوم، بدأتُ أرى بوضوح أن شيئًا ما يتغير في المشهد السوري، وأن سوريا تقترب من واقع جديد قد يحمل معه ملامح المستقبل الذي كان يحلم به الملايين من أبنائها. وفي اليوم التالي، كتبتُ مقالًا تحت عنوان “أحمد الشرع رئيسًا لسوريا.. لمَ لا!”
العالم كان قد فهم، بما فيه الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، لماذا غادر 12 مليون سوري بلادهم، ولماذا عبروا البحر بقوارب متهالكة، مضحين بأرواحهم.
اللقطات القادمة من سوريا كانت صادمة؛ أنفاق سجن صيدنايا وجدرانه الإسمنتية المسلحة، المصممة لحجب الضوء، زُج خلفها النساء والأطفال والشباب في مشاهد لا يمكن تخيلها حتى في أفلام الرعب. ومع صور المعتقلين المحررين، ظهرت دموع السوريين الذين حُرموا من دخول بلدهم لسنوات طويلة. أعادت تلك اللحظات والمشاهد تعريف العالم بالقضية السورية، وأجبرت القوى الكبرى على إعادة النظر في إستراتيجياتها تجاه هذا البلد المنهك.
الكلمة التي ألقاها الرئيس الأميركي السابق جو بايدن حول سوريا لم تكن مجرد خطاب سياسي معتاد؛ كانت نتيجة متابعة دقيقة لمشاهد صدمت الجميع. لقد فهم العالم، بما في ذلك واشنطن وبروكسل، أن سوريا تعيش مأساة تجاوزت في قسوتها كل التوقعات، وأنه لا يمكن الاستمرار في التعامل معها وكأنها مجرد ملف أمني أو سياسي هامشي.
ما لم يقله بايدن مباشرة لأحمد الشرع، قاله مواربة؛ الإدارة الأميركية ستعيد النظر في الحكم الصادر، لقد رأينا ورأى العالم ليس ما يكفي فقط لإصدار حكم البراءة، بل لتوجيه الشكر إليك. لقد فهمنا الآن أنك ومن معك قاتلتم من أجل قضية إنسانية حقيقية، ونعتذر إن كنا يومًا قد أسأنا الحكم على دوافعكم. ولكن، لنا عذرنا في ذلك، لم نكن ندرك حجم المعاناة التي عاشها السوريون لأكثر من نصف قرن. رغم ذلك، ما زلتم قادرين على المسامحة والنسيان.
منذ يومين، 7 يونيو 2025، شهد مجلس الشيوخ الأميركي صدور قرار تاريخي؛ إزالة اسم سوريا من قائمة “الدول المارقة”، وهو مؤشر واضح على رغبة واشنطن في فتح صفحة جديدة مع دمشق. وفقًا للبيان الصادر عن البيت الأبيض، فإن القرار جاء بدعم واسع من أعضاء مجلس الشيوخ، وأشار إلى أن سوريا لم تعد ضمن القائمة التي تضم إيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا.
يُذكر أن الولايات المتحدة صنّفت سوريا كدولة راعية للإرهاب منذ عام 1979، ما فرض قيودًا مشددة على المساعدات الخارجية، وحظرًا على صادرات الدفاع، بالإضافة إلى تضييق مالي خانق. ومن جهته، وصف المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك، موقف واشنطن تجاه سوريا بأنه “مفعم بالأمل”، مؤكدًا أن رؤية الإدارة الأميركية ليست فقط إيجابية، بل قابلة للتحقق.
الآن، أعود لأكرر ما قلته في المقال الذي نشرته يوم 10 ديسمبر 2024 “لا أعلم إن كان أحمد الشرع، أو كما يعرفه البعض، أبومحمد الجولاني، سيتقدم ليرشح نفسه لمنصب الرئاسة في سوريا عندما يحين الوقت. لكن، ما أعلمه هو أنني في حال ترشحه للمنصب سأكون حريصًا جدًا على أن يكون الشخص الذي أمنحه صوتي.”
هذا التصريح لم يكن مجرد انحياز شخصي، بل كان يعكس واقعًا جديدًا بدأت سوريا تقترب منه. في النهاية، التغيير في سوريا لن يكون مجرد خطوة سياسية، بل هو عملية طويلة من المصالحة وإعادة بناء الوطن. سوريا، التي عانت لعقود، تحتاج إلى قيادة تُعيد لها كرامتها، قيادة تفهم أن المستقبل لا يُبنى على الانتقام بل على الحوار، ولا على العنف بل على إعادة إحياء الأمل.
قد يكون أحمد الشرع أحد أولئك الذين يمكنهم تغيير المسار، أو ربما يكون جزءًا من لحظة تاريخية تُعيد تشكيل سوريا من جديد. أياً كان القادم، فإن سوريا تستحق أن تُمنح فرصة للشفاء، فرصة لا تعتمد على القوى الخارجية بقدر ما تعتمد على قوة أبنائها وإرادتهم الحقيقية في إعادة بناء وطنهم. وهذا هو التحدي الأكبر الذي ينتظرها.
إلى أن يحين ذلك الوقت، ها هي سوريا تفتح أبوابها، وتقول للجميع: هذه سوريا ادخلوها آمنين.
كاتب سوري مقيم في تونس
——————————–
شرح جديد لتخفيف العقوبات المفروضة على سوريا وأخطارها/ مات زويغ وماكس ميزليش
فشل الحكومة الجديدة في القطيعة مع ماضيها سيستدعي من واشنطن الاستعداد لإعادة فرضها
آخر تحديث 10 يونيو 2025
أعادت الولايات المتحدة رسم سياستها تجاه سوريا بشكل جذري في أواخر الأسبوع الماضي. ففي 23 أيار/مايو، أصدرت إدارة مراقبة الأصول الأجنبية التابعة لوزارة الخزانة الأميركية الترخيص العام رقم 25 الخاص بسوريا، كما منحت شبكة مكافحة الجرائم المالية إعفاء استثنائيا للمصرف التجاري السوري، وأصدرت وزارة الخارجية إعفاء مؤقتا بموجب “قانون قيصر” لحماية المدنيين في سوريا. وفي الثامن والعشرين من مايو/أيار، أتبعت وزارة الخزانة هذه الخطوات بتوضيحات إضافية حول تطبيق هذه الإجراءات، عبر نشر مبادئ توجيهية جديدة. وتشكل هذه الإجراءات مجتمعة التحول الأبرز في السياسة الأميركية تجاه سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد،. حيث انتقلت واشنطن من موقف العزلة شبه الكاملة لسوريا إلى موقف الدعم الواسع للتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار.
لفهم تداعيات هذا التخفيف، بما في ذلك الأخطار الكبيرة المرتبطة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التي نتجت منه، لا بد من دراسة نطاقه وحدوده، إلى جانب الحاجة الملحة إلى مراقبة الالتزام الصارم في الأسابيع والأشهر المقبلة لضمان تحقيق الأثر المنشود.
ما لم تُتخذ إجراءات إضافية فورية، يمنح الترخيص العام رقم 25 تفويضا دائما لإجراء معاملات كانت محظورة سابقا بموجب لوائح العقوبات المفروضة على سوريا. ويُعدّ هذا تعليقا فعليا لمعظم العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على سوريا، ولا سيما تلك الصادرة بموجب الأمر التنفيذي رقم 13582، مما يتيح إجراء معاملات في معظم قطاعات الاقتصاد السوري. ويشمل ذلك على نطاق واسع القيام باستثمارات جديدة، وتقديم خدمات مالية، والمتاجرة بالنفط أو المنتجات النفطية ذات المنشأ السوري.
ماذا يشمل التفويض الواسع للترخيص؟
بالإضافة إلى ذلك، ورغم أن هذه الخطوة لا ترقى إلى مستوى الاعتراف الديبلوماسي الكامل بالحكومة السورية الحالية، فإن الترخيص العام رقم 25 يجيز التعامل مع “حكومة سوريا… كما هي قائمة اعتبارا من 13 أيار/مايو 2025″، و”تشمل الرئيس السوري أحمد الشرع وحكومته”.
الجدير بالذكر أن التفويض الواسع الذي يمنحه الترخيص العام رقم 25 لا يشمل فقط المعاملات المرتبطة بالجيش السوري وأجهزة الاستخبارات، التي يشارك في بعضها أو يقودها مقاتلون جهاديون أجانب سبق أن فرضت الولايات المتحدة عليهم عقوبات بصفتهم “إرهابيين عالميين مصنفين بشكل خاص” أو لانتمائهم إلى “منظمات إرهابية أجنبية” مصنفة، بل يشمل أيضا أي “شخص يعمل أو سبق له أن عمل، أو يدّعي أنه يعمل، بشكل مباشر أو غير مباشر، لصالح “حكومة سوريا” الجديدة أو نيابة عنها. ويبدو أن هذا التعريف الواسع يتناقض مع النطاق المحدود للترخيصات العامة السابقة، مثل الترخيص العام رقم 24، الذي من المقرر أن تنتهي صلاحيته في 7 تموز/يوليو 2025 ما لم يُجدد، والذي لم يجز “أي معاملات تشمل كيانات عسكرية أو استخباراتية”.
من اللافت أن الترخيص العام رقم 25 يتضمن ملحقا يدرج أسماء أفراد وكيانات خاضعين للعقوبات، أصبح من المسموح الآن إجراء معاملات معهم، خارج نطاق التعاملات مع “حكومة سوريا” الجديدة. ويشمل ذلك الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الداخلية السوري أنس حسن خطاب، وكلاهما لا يزال خاضعا لعقوبات من الولايات المتحدة والأمم المتحدة نظرا الى علاقاتهما مع فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا، المعروف بـ”هيئة تحرير الشام”. كما يتضمن الملحق كيانات خاضعة للعقوبات، من بينها مصرف سوريا المركزي، ووزارة النفط والثروة المعدنية السورية، ووزارة السياحة السورية.
الإعفاء الموقت لـ”قانون قيصر”
يذكر أن الترخيص العام رقم 25 لا يلغي ولا يعدل الترخيصات العامة الأخرى، مثل الترخيصين العامين رقم 23 و24، اللذين لا يزالان ساريين لأغراض إنسانية محددة. ويعكس ذلك واقعا ينطوي على أخطار مستمرة، إذ إن التفويض الممنوح بموجب الترخيص العام رقم 24 يوسّع نطاق المعاملات ليشمل الحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” في سوريا، ويمتد ليطال “كيانات غير محددة مرتبطة بـ في جميع المناطق الجغرافية في سوريا”، مما قد يتعارض مع أهداف الأمن القومي والسياسة الخارجية الأميركية.
بالتزامن مع إصدار الترخيص العام رقم 25، منحت وزارة الخارجية إعفاء مؤقتا بموجب “قانون قيصر” لحماية المدنيين في سوريا، يستثني بعض الأنشطة من العقوبات المفروضة بموجب القانون الذي استهدف نظام الأسد وحلفاءه. ومن اللافت أن الوزارة لجأت إلى استخدام الصلاحية الأضيق من بين خيارين يتيحهما القانون، فاختارت تجميد جزء من العقوبات لفترة مؤقتة مدتها 180 يوما، عوض اللجوء إلى الصلاحية الأوسع التي تخولها تعليق القانون بأكمله. وأسفر ذلك عن فترة إعفاء مؤقتة تمتد 180 يوما، تُعلّق خلالها العقوبات الثانوية الإلزامية، بما يمنح الدول الأجنبية فرصة الانخراط في جهود إعادة إعمار سوريا، مع تقليل ملموس لأخطار التعرّض للعقوبات.
في هذه الأثناء، يتيح الإعفاء الاستثنائي الذي منحته شبكة مكافحة الجرائم المالية للمصرف التجاري السوري الى المؤسسات المالية الأميركية إمكان إنشاء حسابات مراسلة لهذا المصرف أو الحفاظ عليها، رغم استمرار خضوعه للعقوبات بسبب تورطه في تسهيل انتشار الأسلحة في سوريا وكوريا الشمالية.
أهمية الالتزام بقانون”باتريوت” الأميركي
ورغم أن الهدف من هذا الإعفاء هو تسهيل المعاملات الدولية، مثل المدفوعات التجارية والتحويلات المالية لدعم جهود تعافي سوريا، فإن الإرشادات الصادرة عن الشبكة لا تعفي المصرف من الالتزامات التنظيمية الأخرى، ولا تخفف العبء الرقابي المفروض على البنوك المراسلة. بل إن هذا الإعفاء يفاقم أخطار الامتثال لدى المؤسسات التي تختار إنشاء حسابات مراسلة لهذا المصرف أو الحفاظ عليها، إذ لا يعفيها من التزامات العناية الواجبة المنصوص عليها في المادة 312 من قانون “باتريوت” الأميركي. ويعني ذلك أن على هذه المؤسسات “إجراء تدقيق معزز على مثل هذا الحساب للوقاية من غسل الأموال، ورصد أي معاملات مشبوهة والإبلاغ عنها، بما يتماشى مع القوانين والأنظمة السارية”.
يذكر أن الإجراءات الثلاثة – الترخيص العام رقم 25، والإعفاء بموجب قانون قيصر، والإرشادات الصادرة عن شبكة مكافحة الجرائم المالية – تحظر صراحة أي معاملات تعود بالنفع على روسيا أو إيران أو كوريا الشمالية. كما أنها لا تنطبق على أي من أفراد نظام الأسد أو المتعاونين معه، أو المنظمات الإرهابية، أو منتهكي حقوق الإنسان، أو مجرمي الحرب، أو المتورطين في الاتجار بالمخدرات الخاضعين حاليا لعقوبات أميركية، ما لم يكونوا يتصرفون، أو يدّعون أنهم يتصرفون، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نيابة عن “حكومة سوريا”.
كذلك، لا تفضي هذه الإجراءات تلقائيا إلى رفع التجميد عن الأصول المحتجزة بموجب العقوبات السابقة على سوريا، ولا تلغي ضوابط التصدير أو القيود الأخرى المنصوص عليها في قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان، ولا تغير بأي شكل من الأشكال، تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب. كما أنها لا تلغي التصنيفات الصادرة في حق منظمات مختلفة تمارس سلطات حكم في سوريا، مثل “هيئة تحرير الشام”.
ويفاقم هذه التحديات استمرار ضعف الشفافية في الحكومة الانتقالية والاقتصاد السوري، مما يعقّد جهود إنفاذ القوانين، إلى جانب تنامي خطر التهرب من العقوبات عبر شبكات مالية غير واضحة المعالم. كما أن التنسيق مع شركاء دوليين تختلف أطرهم التنظيمية وأولوياتهم السياسية، سيزيد بدوره تعقيد المشهد.
ماذا عن المصارف والجرائم المالية؟
يشكّل هذا الثلاثي من الإجراءات – الترخيص العام رقم 25، والإعفاء بموجب قانون قيصر، والإعفاء الاستثنائي من شبكة مكافحة الجرائم المالية في ما يتعلق بالمصرف التجاري السوري – بداية فصل جديد في مسار سوريا، قد تتصدر فيه جهود التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار المشهد. غير أن نجاح هذا المسار يبقى رهنا بتوفر رقابة صارمة، وتعاون دولي فعّال، والتزام جاد من الحكومة السورية الجديدة بالاستقرار والإصلاح، وقطع الصلة بشكل حاسم مع ماضيها الإرهابي. وعلى الولايات المتحدة أن تعبّر بوضوح في هذا السياق عن المعايير التي تُعتبر مؤشرا الى نجاح الحكومة السورية الجديدة، وأن تحدد الخطوات المستقبلية التي قد تفتح المجال لمزيد من تخفيف العقوبات، أو حتى إلغاء النظام التنظيمي الذي يدعمها بالكامل.
فرصة ثمينة لدعم تعافي سوريا
لقد أُتيحت للحكومة السورية الجديدة فرصة ثمينة. إذ يعكس التحول في السياسة الأميركية استعداد إدارة ترمب وبعض أعضاء الكونغرس لدعم تعافي سوريا، شرط أن يستند هذا التعافي إلى الإصلاح لا القمع. ومع ذلك، لا يزال الرئيس السوري، خاضعا لعقوبات أميركية وأممية نتيجة قيادته حركة جهادية، كما تظل وزارات رئيسة متورطة مع جماعات إرهابية مدرجة على قوائم العقوبات. أما مصرف سوريا المركزي، الذي شكّل لفترة طويلة قناة للتمويل غير المشروع ونشاطات انتشار الأسلحة، فلا يزال بعيدا عن مسار إعادة التأهيل. وتُعد هذه المؤشرات بمثابة إشارات تحذيرية جدية، تتطلب رقابة صارمة من الولايات المتحدة وهيئات الرقابة الدولية، مثل مجموعة العمل المالي.
ويشمل ذلك تطوير آليات امتثال قوية وشفافة، وتعزيز التنسيق الدولي، مع التأكيد أن تخفيف العقوبات يظل مشروطا وقابلا للإلغاء إذا توقفت الإصلاحات أو استمرت الانتهاكات. فالطموح نحو سوريا مزدهرة وآمنة يبقى هدفا مشروعا يستحق السعي الحثيث لتحقيقه، غير أن فشل الحكومة الجديدة في القطيعة مع ماضيها الإرهابي والوفاء بالتزاماتها سيستدعي من واشنطن الاستعداد لإعادة فرض العقوبات بالكامل. فسياسة دعم التعافي لا يمكن أن تتحوّل إلى حصانة من المساءلة.
المجلة
———————————–
توماس باراك: واشنطن تدعم الشرع وتراهن على الأمل بدل التدخل العسكري في سوريا
11 يونيو 2025
أكد المبعوث الأميركي الخاص لسوريا توماس باراك، في مقابلة مع موقع “المونيتور”، دعم واشنطن الشامل للرئيس السوري أحمد الشرع، محذرًا من تهديدات أمنية واقتصادية تحيط بالحكومة السورية الجديدة، كاشفًا عن تحول جذري في موقف إدارة ترامب، تمثل برفع العقوبات وتعزيز فرص الاستقرار، ضمن رؤية أميركية تُراهن على ما وصفه بالأمل بدلًا من التدخل العسكري.
وقال باراك في هذه المقابلة إن الحكومة السورية الجديدة “بحاجة إلى تنسيق نظام حماية” للشرع، مشيرًا إلى التهديد الذي تشكّله الفصائل المنشقة من المقاتلين الأجانب الذين انضموا إلى الشرع في الحملة التي أطاحت بالرئيس المخلوع بشار الأسد في أوائل كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وأعاد الموقع التذكير بأنه وسط مساعي القيادة الجديدة في سوريا، والتي تهدف إلى دمج هؤلاء المقاتلين المخضرمين في الجيش الجديد، فإنه في المقابل تبرز محاولات لتجنيدهم من قبل جماعات مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).
ولفت باراك في المقابلة إلى أنه “كلما تأخرنا في تحقيق انفراج اقتصادي في سوريا، زاد عدد الفصائل التي ستقول: هذه فرصتنا لخلق الفوضى”، مؤكدًا على ضرورة “ردع أي من هؤلاء المهاجمين المحتملين قبل أن يتحركوا”، قبل أن يضيف مستدركًا أن ذلك يتطلب تعاونًا وثيقًا وتبادلًا استخباراتيًا بين حلفاء الولايات المتحدة، وليس تدخلاً عسكريًا.
ووصف باراك الرئيس السوري الذي التقاه مرتين بأنه “ذكي وواثق ومركّز”، مقللًا من أهمية الشكوك بشأن ماضي الشرع الجهادي، مشيدًا به كمفاوض بارع يتمتع بقدرة قوية على كتمان نواياه.
وحول هذه النقطة، قال باراك لـ”المونيتور”: “أنا واثق من أن مصالحنا ومصالحه اليوم متطابقة تمامًا”، معتبرًا أنها “تحقيق لنجاح مماثل لما فعله (الشرع) في إدلب ببناء مجتمع شامل وفعّال يقوم على إسلام معتدل، لا إسلام متشدد”.
وبحسب “المونيتور”، أثارت عمليات قتل انتقامية نفذتها فصائل موالية للحكومة، بما في ذلك موجة من العنف الطائفي في معقل الطائفة العلوية على الساحل السوري في شهر آذار/مارس الماضي، مخاوف بشأن قدرة الشرع على حفظ النظام وحماية الأقليات.
لكن باراك أشار إلى أن الشرع وحكومته الهشّة يتعاملون مع الوضع بأفضل ما يمكن ضمن هذه الظروف. وقال في هذا الصدد: “أنا فعلًا أحيي هؤلاء الأشخاص على استثمارهم للموارد المتاحة لهم، وعلى رباطة جأشهم في وقت يسعى فيه الجميع إلى إشعال الحرائق ثم نسبها إليهم”.
لا شروط.. بل “توقعات”
يشير “المونيتور” في التقرير إلى أن حديث باراك يأتي بعد شهر من إعلان ترامب من الرياض رفع العقوبات عن سوريا، في تحول مفاجئ بالسياسة الأميركية تجاه حكومة الشرع. وكان باراك، الصديق المقرب من ترامب، قد عُيّن مبعوثًا خاصًا لسوريا بعد عمله سفيرًا في تركيا، رغم تحفظات داخل الإدارة على خلفية ماضي الشرع الجهادي.
ووصف باراك مهمته بأنها تهدف إلى منع “الرقابة البيروقراطية” من تعطيل قرار الرئيس بشأن تخفيف العقوبات، لافتًا إلى أن ترامب “اتخذ قرارًا مذهلًا بمفرده لنزع الضمادة دفعة واحدة”، وأضاف “هذا كان ترامب الحقيقي، لا مستشاريه، وكان قرارًا عبقريًا”.
وأكد باراك أنه لا توجد شروط مرتبطة برفع العقوبات، بخلاف ما كان يطالب به بعض أعضاء الإدارة الأميركية، موضحًا ذلك بقوله: “نحن لا نفرض شروطًا. لسنا في طور الإملاء. لا نبني أمة. لقد جرّبنا ذلك من قبل، ولم ينجح أبدًا”.
وبدلاً من الشروط، هناك “توقعات” بمواصلة الشفافية بينما ينفّذ الشرع أولويات عدة تم الاتفاق عليها خلال لقائه مع ترامب، وفق ما أوضح باراك. وتشمل هذه الإجراءات كبح الجماعات الفلسطينية المسلحة، والسعي للانضمام إلى اتفاقات أبراهام، ومكافحة عودة تنظيم “داعش”.
وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد أصدرت في أيار/مايو الماضي رخصة عامة تسمح للأميركيين والشركات الأميركية بإجراء معاملات مالية مع مؤسسات سورية، بما في ذلك المصرف المركزي السوري. كما أعلنت وزارة الخارجية عن إعفاء لمدة ستة أشهر من العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين الصادر عام 2019.
وبموازاة ذلك، بدأ نواب من الحزبين الرئيسيين في الكونغرس الأميركي بصياغة تشريعات لإلغاء قانون قيصر. وبحسب باراك، فإن الإدارة الأميركية تعتزم تمديد الإعفاء حتى يلغى القانون بالكامل، فضلًا عن توجه ترامب لتوقيع أمر تنفيذي هذا الأسبوع لإلغاء مجموعة من العقوبات المفروضة على سوريا منذ عام 1979، وفقًا لـ”المونيتور”.
إغراق المنطقة بالأمل
ولفت باراك في حديثه لـ”المونيتور” إلى وجود سلسلة من التحديات التي تواجه الشرع، بما في ذلك دمج القوات الكردية في الجيش الوطني، واحتواء مقاتليه المتشددين الأجانب، والتعامل مع معسكرات الاحتجاز الواسعة في شمال سوريا التي تضم أفرادًا من تنظيم “داعش” وعائلاتهم، والتي تُعد بيئة خصبة للتطرف.
كما يجب على الشرع التعامل مع إسرائيل، التي وسّعت بشكل كبير عملياتها البرية في سوريا منذ الإطاحة بالأسد. فقد احتلت القوات الإسرائيلية المنطقة العازلة منزوعة السلاح في الجولان، والتي تبلغ مساحتها نحو 400 كم، فضلًا عن تنفيذها توغلات محدودة في جنوب سوريا، وشنّت غارات جوية قالت إنها تهدف لمنع تسرب الأسلحة إلى أطراف معادية.
وأعرب الشرع عن التزامه باتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل لعام 1974، وطرح احتمال تطبيع العلاقات مستقبلًا. وبحسب “المونيتور”، سبق أن دعا باراك إلى إبرام اتفاق عدم اعتداء بين سوريا وإسرائيل، واصفًا النزاع بأنه “قضية قابلة للحل”، لكن عندما سُئل عن الخطوات الأميركية لتسهيل الحوار أو بناء الثقة بين الطرفين، أجاب حذرًا.
وقال باراك حول هذه المسألة: “أملنا هو أن يتوصل الطرفان، إسرائيل والشرع، حتى لو لم يتحدثا مباشرة الآن، إلى تفاهم صامت بأن أي انخراط عسكري في هذه المرحلة سيكون كارثيًا عليهما معًا”.
كما لفت باراك إلى أن الطريقة الوحيدة لبقاء سوريا موحدة تتمثّل بـ”منع وجود كيانات مسلحة غير وطنية تقاتل بعضها داخل الأراضي السورية، والسماح لجميع الأقليات بممارسة ثقافاتها وتقاليدها، لكن بصفتهم سوريين”، محذّرًا من أن دمج القوات المسلحة في سوريا يرتبط بأسئلة أعمق تتعلق بالهوية، مضيفًا: “المسألة تتعلق حتى بالزي العسكري”.
ووصف باراك الهدف الرئيسي للولايات المتحدة في سوريا بأنه إزالة العوائق أمام تعافيها الاقتصادي، وهو ما يسمح لدول الخليج وتركيا والسوريون أنفسهم بالتدخل وخلق مؤشرات ملموسة على التقدم.
وأوضح باراك ذلك في حديثه قائلًا: “هل تريدون بناء دولتكم بأنفسكم؟ تفضلوا. كل ما نفعله هو إزالة القيود التي تعيق تدفق الأفكار الجيدة والأشخاص الجيدين للمساعدة”، واصفًا هذه الاستراتيجية بأنها “إغراق المنطقة بالأمل”.
واختتم المبعوث الأميركي إلى سوريا حديثه لـ”المونيتور” قائلًا: “حتى لو لم يحصل الناس بعد على المزيد من الماء أو الكهرباء، فإنهم سيرون مولّدًا يُبنى”، مؤكدًا أن “في هذه المرحلة، قطرة أمل واحدة تغلب خزانًا من الواقع المرير”.
—————————————-
التحولات الأميركية في المنطقة.. التسويات أو مشاريع التفتيت الإسرائيلي؟/ صهيب جوهر
2025.06.10
لم تُغفل الإدارة الأميركية، بقيادة دونالد ترمب، الملف اللبناني كما يُشاع، بل أبقته ضمن أولوياتها الاستراتيجية، وإن كانت أنظارها قد تحوّلت مؤقتاً نحو سوريا بفعل المعطيات الجيوسياسية المتغيّرة هناك. فلبنان، بالنسبة لواشنطن، يبقى ساحة مترابطة مع مجمل ملفات المنطقة، وخاصة تلك المتعلقة بإيران، إسرائيل، وسوريا. وقد عكست تصريحات ترمب، خلال جولاته الخليجية، هذا الترابط بوضوح، إذ أشار أكثر من مرة إلى الوضع اللبناني ضمن رؤيته الإقليمية الأوسع.
في الواقع، جاءت الحرب الأخيرة في غزة لتُعيد ترتيب أوراق النفوذ في الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة، عبر انتشارها العسكري والاستخباراتي، استعادت زمام المبادرة في مناطق كانت بدأت تميل لصالح قوى مثل روسيا والصين. ومن خلال قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي، عززت واشنطن هيمنتها الجوية والاستخباراتية، فارضة على القوى الأخرى، وعلى رأسها روسيا في سوريا، التنسيق معها مسبقاً قبل تنفيذ أي نشاط عسكري.
ضمن هذا الإطار، ظهر خلاف داخلي في المؤسسة الأميركية حول مستقبل المنطقة: فريق يدعو إلى إعادة ترسيم النظام الإقليمي من خلال تسوية شاملة مع إيران، وآخر، ممثل باللوبي اليهودي، يطرح رؤية تقوم على إعادة تفكيك الدول العربية إلى كيانات مذهبية صغيرة تُضعف التهديد الاستراتيجي لإسرائيل.
الرؤية الأولى تنطلق من قراءة واقعية للداخل الإيراني. فصحيح أن النظام الإيراني أيديولوجي الطابع، إلا أنه – بحسب التحليل الأميركي – يدرك تماماً حجم التراجع الذي أصاب “محور المقاومة”، ويدرك أيضاً أن استمرارية النظام نفسه باتت مرهونة بتنازلات عقلانية تضمن له النفاذ مجدداً إلى الساحة الدولية. هذا ما يفسّر النقاشات داخل معسكر المحافظين الإيرانيين بين اتجاهين: الأول يطالب بالصمود والمراهنة على الفوضى الإقليمية، والآخر يرى ضرورة التكيّف مع المعطيات الجديدة، خصوصاً بعد الانهيارات التي أصابت النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان.
لكن في المقابل، يسود داخل اللوبي الإسرائيلي اقتناع بأن تسوية كهذه مع طهران ستكون بمنزلة عقبة أمام مشروع أكبر يجري الدفع نحوه، وهو تفكيك الكيانات الكبرى في المنطقة لصالح كيانات طائفية هشّة لا تشكل تهديداً لإسرائيل. هذا التوجّه يرى في مشهد ما بعد غزة فرصة نادرة، ويعتقد أن الضفة الغربية ستكون المرحلة التالية لإعادة رسم الواقع الفلسطيني.
على خلفية هذه الثنائية في الرؤية، يظهر التوتر القائم بين واشنطن وتل أبيب، خصوصاً بشأن توقيت وشكل التعامل مع إيران. ففي حين تسعى إدارة ترمب لتوظيف مفاوضات نووية في خدمة مشروع اقتصادي وأمني أوسع، تُصرّ إسرائيل، بدعم اللوبي اليهودي، على مقاربة أكثر راديكالية، قوامها توجيه ضربات عسكرية مباشرة لطهران.
وتكمن خلفية الموقف الأميركي في اعتبارات اقتصادية واستراتيجية مركّبة. فالإدارة السابقة، التي واجهت خطر التراجع الاقتصادي، سعت إلى عقد شراكات استثمارية ضخمة، بما فيها مع دول الخليج وأوكرانيا (خاصة في المعادن النادرة). ومن هنا، فإن تسوية مع إيران، بما تمتلكه من موارد طبيعية واحتياطات استراتيجية، قد تكون في نظر ترمب فرصة اقتصادية، إلى جانب كونها ورقة ضغط إقليمية ضد التمدد الصيني والروسي.
أما على مستوى السياسات الداخلية، فقد تزامن تراجع شعبية ترمب مع ضغوط متزايدة من معارضي سياساته الجمركية، ما دفعه إلى إعادة حساباته في ملفات عديدة، من بينها رفع الرسوم الجمركية، العلاقة مع أوروبا، والانسحاب من الصراعات. وفي هذا السياق، عادت شعبيته لترتفع تدريجياً، وهو ما جعله أكثر اندفاعاً لإنجاح مفاوضات طهران، ضمن منظور يخدم الأمن الأميركي والاقتصاد معاً.
في المقابل، تبقى إسرائيل مصممة على منع أي تسوية طويلة الأمد في غزة أو لبنان. فنتنياهو ومعسكره اليميني لا يزالون يتمسكون بفكرة استمرار الاشتباك، سواء عبر رفض وقف دائم لإطلاق النار في غزة، أو إبقاء الوضع في جنوبي لبنان متوتراً. فالحرب – بالنسبة إليهم – لم تنته، بل يُراد لها أن تُستأنف في الوقت المناسب، ضمن خطط توسعية تشمل الضفة الغربية أيضاً.
أما في سوريا، فرغم دعم واشنطن لحكم الرئيس أحمد الشرع، إلا أن مؤسسات القرار الأميركي تدرك ضعف سيطرته على كامل الأراضي السورية، وتصاعد حراك الجماعات غير المنضوية تحت سلطته، إلى جانب عودة تنظيم “داعش” للواجهة. في حين يعتبر اللوبي اليهودي أن رهان واشنطن على الشرع مبالغ به، ويُخفي تهديدات كامنة، سواء من الداخل العلوي أو من الجنوب الدرزي.
وفي لبنان، تركّز السياسة الأميركية على فك الارتباط بين “الشيعة كجماعة وطنية” وبين إيران كمرجعية سياسية. وترى واشنطن أن هذا الفصل لا يمكن أن يتم من دون نزع سلاح “حزب الله” وتجفيف موارده المالية، والتي يمثّل “القرض الحسن” نموذجاً رئيسياً لها. ولهذه الغاية، كُلّفت مورغان أورتاغوس بمهام ضغط منتظم على بيروت، عبر زيارات دورية، لإبقاء هذه السياسة قيد التنفيذ.
وبرغم التحليلات المتداولة في بيروت، إلا أن إدارة ترامب – بحسب مصادر ديبلوماسية – تواصل دعمها الكامل لكل من الرئيس جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، في حين تبدي تحفّظها فقط على أداء بعض الوزراء وبطء العمل الحكومي. وتحتفظ واشنطن بثقتها بالمؤسسة العسكرية، التي تعتبرها أداة أساسية لأي استقرار مستقبلي.
ختاماً، تتعامل إيران مع هذه المتغيرات بدقّة. فزيارة عباس عراقجي الأخيرة إلى بيروت، والموقف الذي أعلنه حول تقدّم محتمل في الملف النووي، يُفهم ضمن محاولة لطمأنة “حزب الله” إلى شكل التفاهم مع واشنطن، لكن من دون إغفال أن إسرائيل تراقب هذه المؤشرات عن كثب، وقد تلجأ إلى مفاجآت عسكرية إذا شعرت أن المفاوضات تسير بعكس مصالحها.
تلفزيون سوريا
——————————–
=========================