واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 11 حزيران 2025

متابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع
—————————-
ضد سايكس بيكو مع كينغ – كراين/ طوني فرنسيس
رؤية ترمب للشرق العربي وتصريحات مبعوثه باراك… هل تعكسان قناعات جديدة؟
الاثنين 9 يونيو 2025 0:00
لم تكن الولايات المتحدة شريكاً في مشروع تقسيم المشرق العربي خلال الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة العظمى بعيدة من هذه الحرب وانتظمت فيها متأخرة إلى ما بعد الاتفاقية الإنجليزية الروسية الفرنسية، بل إن مساهمتها في رسم مستقبل المنطقة لم يؤخذ بها، واقتصرت تلك المساهمة على إرسالها لجنة كينغ – كراين إلى بلاد الشام لتستطلع رغبات مواطنيها ونخبها.
لم يكن التكهن بأولوية الاختراق السوري الذي أنجزه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في غير مكانه، وجاء تصريح سفيره في تركيا ثم مبعوثه الخاص إلى سوريا توم باراك ليضفي على هذا الاختراق أبعاداً تتخطى اللحظة السياسية الراهنة إلى أبعاد تاريخية ورؤية استراتيجية مختلفة قد تتبناها الإدارة الأميركية الجديدة.
في التركيز على سوريا، دعماً لنظامها الجديد وتسهيلاً لمهامه، بل وحماية له من خصم إسرائيلي في الجنوب وحليف تركي طامح في الشمال، رهان أميركي على تجربة تخوضها قوى سورية وصلت إلى السلطة نتيجة إصرار دؤوب، ومعارك متدحرجة وخيارات متنوعة، لكنها تعبر في العمق عن خيارات سورية أساسية، وهي حققت في آن واحد تغييراً لنظام أتعب الإدارة الأميركية على مدى عقود، وابتز محيطه لسنوات طويلة، كما وجهت ضربة حاسمة لخصوم أميركا الرسميين، من إيران التي فقدت رأس جسرها إلى المشرق، إلى روسيا التي تنتظر مصير وجودها العسكري في بلاد الشام على رصيف التطورات السورية.
والرهان الأميركي لا يقتصر على سوريا، بل يمتد إلى محيطها، ومحيطها المقصود هو المنطقة الممتدة من العراق إلى لبنان وفلسطين، وهو ما يعنيه السفير الأميركي لدى تركيا توم باراك، مبعوث ترمب إلى سوريا، ولاحقاً، كما يبدو، إلى لبنان، عندما قال في تصريح نهاية مايو (أيار) الماضي بضرورة تغيير نظرة الغرب إلى منطقة الشرق العربي الذي يضم البلدان المذكورة.
انتقد باراك اتفاقية سايكس – بيكو (البريطانية – الفرنسية الموقعة عام 1916 بمشاركة روسيا قبل أن تنسحب منها)، وقال “لقد فرض الغرب قبل قرن من الزمان خرائط وانتدابات، وحدوداً مرسومة، لقد قسمت اتفاقية سايكس – بيكو سوريا ومنطقة أوسع، ليس من أجل السلام، بل من أجل المكاسب الإمبريالية، وقد كلف هذا الخطأ أجيالاً عديدة”.
ويستنتج باراك، وهنا جوهر موقفه “لن نكرر هذا الخطأ مرة أخرى، لقد انتهى عصر التدخل الغربي، المستقبل هو للدبلوماسية التي تقوم على الحلول الإقليمية، والشراكات والاحترام، وكما قال الرئيس ترمب: لقد ولت الأيام التي كان فيها الغربيون يتدخلون في شؤون الشرق الأوسط ويذهبون إلى هناك ليعلموا الناس كيف يعيشون وكيف يديرون شؤونهم”.
لم تكن الولايات المتحدة الأميركية شريكاً في مشروع تقسيم المشرق العربي خلال الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة العظمى بعيدة من هذه الحرب وانتظمت فيها متأخرة إلى ما بعد الاتفاقية الإنجليزية الروسية الفرنسية، بل إن مساهمتها في رسم مستقبل المنطقة لم يؤخذ بها، اقتصرت تلك المساهمة على إرسالها لجنة كينغ – كراين إلى بلاد الشام لتستطلع رغبات مواطنيها ونخبها.
وخلصت أبحاث تلك البعثة عام 1919 إلى مطالبة غالبية السوريين واللبنانيين والفلسطينيين بالاستقلال في دولة تحمي الحريات والأقليات، كانت اللجنة من نتاج أفكار الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عشية مؤتمر السلام في باريس، ولاقت جولتها ارتياح وترحيب السكان، لكن الأوروبيين المنتصرين فرضوا رؤيتهم في النهاية وقرروا تقاسماً ذهب بنتيجته لبنان وسوريا إلى الانتداب الفرنسي والعراق وفلسطين وشرق الأردن إلى الوصاية الإنجليزية.
كان ينقص تصريح باراك (أو منشوره) الإشارة إلى نتائج أعمال تلك اللجنة ليستخلص أن الرؤية الأميركية لوقائع المنطقة تختلف عن رؤية “الإمبرياليين” منذ ما يزيد على قرن، لكن قرناً مر تتحمل فيه أميركا والشركاء الأوروبيون والدوليون المسؤولية عما آلت إليه أحوال الدول والشعوب التي تقاسمها السيدان جورج بيكو ومارك سايكس.
الآن يبدي ترمب آراء جديدة، بعض تعبيراتها نجدها في كلمات مبعوثه الخاص باراك الذي يشمل في اهتماماته تركيا الواردة في نصه الذي أثار جدلاً وتقييمات، وآراء ترمب ليست في حاجة إلى إيضاحات إضافية، وهي قابلة للتغيير، عرضها في البيت الأبيض في شأن غزة، وكانت آراء صادمة وكارثية، ووجهت بانتقادات ورفض ما جعله يخفف من الإلحاح عليها.
في شأن سوريا كان في تصريحاته قدر من التخلي وعدم الاهتمام، لكنه ظهر في مظهر آخر لدى زيارته السعودية وإثر محادثاته مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ولقائه القادة الخليجيين، وعد ترمب عندها بالسعي إلى اتفاق في غزة وتقدم خطوته الكبرى في اللقاء مع رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع ثم قراره رفع العقوبات عن سوريا، فيما كان يعلن عن فرصة أمام لبنان عليه الاستفادة منها لإعادة بناء دولته وترميم اقتصاده.
بدا ترمب في خطواته هذه وكأنه يترجم ما قاله في السعودية أيضاً، من أن أيام تدخل الغرب في إدارة الشعوب لشؤونها قد “ولَّت”، وعليهم هم أن يمسكوا أقدارهم بأيديهم بدفع أميركي صريح، بين الإعلان الأميركي وتطبيق مساراته على أرض الواقع مسافات لا بد من قطعها وهو ما ينتظره من أميركا أبناء المشرق العربي من بغداد إلى غزة.
تحمل تصريحات السفير باراك وتوجهات رئيسه في الظروف الراهنة رغبة بالقول إن المنطقة لا تتحمل مزيداً من التقسيم والشرذمة، أي أن تكرار سايكس – بيكو في صيغ جديدة غير مطروح على بساط البحث، وهذا يعني الإبقاء على حدود الدول الوطنية كما رسمت قبل قرن، مما يعني عدم السماح بتقسيم سوريا أو لبنان أو العراق، وإنما الذهاب إلى ترتيبات تحمي وحدة هذه الدول وتزيد في تماسك مكوناتها ضمن أنظمة ديمقراطية تعددية، ويعني ذلك دعم الاتفاق بين الأكراد ودمشق، وإشراك الأقليات جدياً في حكم سوريا بما في ذلك الدروز والعلويين، كما يعني تدعيم قيام الدولة في لبنان والانتهاء من ازدواجية سلطة السلاح وعصر الميليشيات الوكيلة، وما يصح في سوريا يصح في لبنان والعراق واليمن.
لا تتفق هذه الرؤية التي يقول بها الأميركيون، لا الآن ولا في المدى الأبعد، مع المشروع الإسرائيلي في فلسطين وتجاه الدول العربية المحيطة، فإسرائيل تتمسك بالدولة اليهودية وترفض قيام دولة فلسطينية، إنها في حال تصادم تاريخية مع سايكس – بيكو وحتى مع وعد بلفور، وكلها الآن موضع انتقاد أميركي متجدد.
إسرائيل واصلت حتى أيام قليلة ماضية تحريضها على الفوضى في سوريا، وهي تعتبر في خلفية مواقف حكومتها أنه لولا “انتصاراتها العسكرية” في معارك الأشهر الماضية، ما كان للحركة الدبلوماسية الأميركية أن تنشط وتحقق مكاسب في الإقليم، خصوصاً في سوريا ولبنان بعد الضربات التي تلقتها إيران و”حزب الله” وسقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
ستكون إسرائيل عقدة أساسية ومركزية تواجه المسعى الأميركي إلى رسم خرائط جديدة يأمل فيها ترمب، وسيكون الاختبار الأصعب أمام الرئيس الأميركي هو في كيفية التعامل مع الموقف العربي والدولي الحازم في شأن قيام دولة فلسطينية، فمن دون خطوة حقيقية في اتجاه الحل القائم على تسوية الدولتين لن يمكن استعادة الهدوء في الإقليم، وستتحول التصريحات عن مساوى سايكس – بيكو إلى مجرد “خطاب قومي” آخر وبائد، من مسؤول أجنبي هذه المرة، يدغدغ مشاعر لا تزال قائمة، شكلت دائماً وصفة للشرذمة والخراب.
——————————–
منطقتنا والتحدّيات الخارجية والداخلية/ عبد الباسط سيدا
10 يونيو 2025
لم يأت تصريح المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية توم باراك، بشأن الإقرار بأخطاء نجمت من تطبيق اتفاقية سايكس بيكو 1916، والاتفاقات التي كانت ضمن إطارها العام، خصوصاً التي صيغت في مؤتمر سان ريمو 1920، والاتفاقية الفرنسية التركية (اتفاقية أنقرة الأولى 1921)، وصولاً إلى معاهدة لوزان 1953، والإقرار بإخفاق سياسة الولايات المتحدة تجاه سورية قرناً كاملا، لم يأتِ بجديد لا تعرفه شعوب منطقتنا، التي وجدت نفسها بعد انقشاع غبار الحرب العالمية الأولى محشورةً ضمن دائرة حدود رُسمت في مكاتب المسؤولين الغربيين بالمسطرة والفرجار. وكان ذلك وفق حسابات دولهم ومصالحها، لا بناءً على رغبات الشعوب أو مصالحها في تلك الكيانات الوليدة، التي أعلنت بعد الحرب دولاً قادتها أنظمةٌ حاكمةٌ مختلفةٌ، لكنّها تشاركت سمةً أساسيةً تمثّلت في تعاملها مع تلك الحدود بوصفها مقدّسة، رغم معرفة الجميع بأنها مفروضة من دول كانت بعد الحرب من القوة إلى الحدّ الذي مكّنها من فرض مشاريعها وإرادتها على دول المنطقة، والقوى الدولية المنافسة، في حين أن الشعوب في منطقتنا كانت مغلوبةً على أمرها، لا تمتلك قدرةَ الاعتراض، ولا المواجهة الفعلية. وحينما حاول الغيارى على أوطانهم وشعوبهم أن يعترضوا على ما كان يحصل، وخرجوا في انتفاضات وثورات، كانت الخسارات هي النتيجة في معارك غير متكافئة بكلّ الأشكال.
يتكامل كلام باراك (بل يتطابق) مع ما ذهب إليه الرئيس دونالد ترامب في أثناء زيارته الرياض، حين أشاد بتجربة السعودية من جهة نجاحها اللافت، والأكثر أهميةً في ذلك النجاح، أنه (وفق ما ذهب إليه ترامب) تحقّق بالانسجام مع خصوصية المجتمع السعودي، ولم يكن حصيلةَ تقليد نموذج وافد أو مقحم مفروض بنزعة تبشيرية من الغرب.
واليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على تقسيم المنطقة، ورسم الحدود السياسية بين شعوبها بناء على مصالح القوى الدولية الاستعمارية، أصبحت الدول المُستحدَثة، تلك التي تحكّمت الأنظمة العسكرية بمعظمها، أكثر ضعفاً نتيجة الفساد والاستبداد، في حين أن الدول المُتحكِّمة التي أوجدتها باتت أقوى ممّا كانت عليه بأضعاف أضعاف المرّات، بفعل التقدّم التكنولوجي غير المسبوق، سيّما في ميادين الذكاء الاصطناعي. هذا التقدّم الذي كان يُصنَّف قبل ثلاثة أو أربعة عقود في عداد الخيال العلمي. فهذه الدول هي اليوم في موقع القادر على فرض الخطط والمشاريع بأساليب القوة الناعمة، ومعاقبة الحكومات، وحتى تغييرها إذا لزم الأمر. وقد أدركت شعوب منطقتنا وقواها السياسية، ولو متأخّرةً، هذه الحقيقة، بينما لم يعترف أصحاب الأيديولوجيات، الذين غالباً ما يتبعون أجندات عابرة للحدود لا تحافظ على مصالح بلدانهم وشعوبهم، بهذه الحقيقة المرّة. والمقصود هنا الأيديولوجيات القومية والدينية، بالإضافة إلى اليسارية العلمانية، فهؤلاء يرفضون الإقرار بالحقائق الواضحة رغم معرفتهم الأكيدة بإنسداد الآفاق أمامهم، ويرفعون شعاراتٍ كُبرى تنسجم مع نزعتهم الشعبوية، ويهدّدون الخصوم بمختلف الأساليب، بما في ذلك اتهامهم بالخيانة والكفر، وهم يعيشون حالة انفصامٍ عن الواقع، يمارسون الغطرسة والتبجّح من دراسة الأمكانات وفهم المتغيّرات. وذلك كلّه يحول بينهم وبين التركيز في مشاريع وطنية كانت (وما زالت) تمثّل المَخرج الآمن للمحافظة على جغرافية دول ما بعد الحرب، وهي الدول التي كانت (وما زالت) ميداناً لنقاشات وجدالات عقيمة بين الماضويين، بتيّاراتهم المختلفة، بشأن السبق الزمني والأحقية التاريخية. واللافت اتهام كلّ طرف الآخر، أو الأطراف الأخرى، بالانتقائية والتزييف والتشويه. أمّا النتيجة، فتتشخّص راهناً في استمرارية المشكلات، وعدم التوصّل إلى حلول توافقية وطنية، كان من شأنها طمأنة الجميع وإرضائهم. هذه الإشكالات عانت منها (وما زالت تعاني) دول منطقتنا، التي تتسم بالتنوّع الديني والمذهبي والإثني، خصوصاً في العراق وسورية ولبنان، وفي الجزائر والسودان واليمن ودول أخرى، في حين أن المنطق السليم كان يوجب الإقرار بالواقع القائم والتعامل معه بعقلية إبداعية بعيدة النظر، تراعي الإمكانات والحاجات والتحدّيات.
وكان من شأن مثل هذا الإقرار أن يدفع أصحاب الشأن والتأثير نحو التفكير في كيفية تحسين قواعد العيش المشترك بين المكوّنات المجتمعية المتنوّعة، والعمل من أجل ذلك. ولبلوغ هذا الهدف، تُبرِز الضرورة أهمية إزالة الهواجس المتراكمة لدى الناس، على مستوى الجماعات والأفراد، وذلك بعقود مكتوبة واضحة لا تحتمل التأويل. فالناس، بناءً على التجارب المريرة السابقة في منطقتنا، وهي التجارب التي عاشوها، أو على الأقلّ قرأوها أو سمعوا بها، وعانوا من آثارها، لديهم خوف مشروع من المستقبل، خصوصاً في مناخات الغموض، وغياب الشفافية، والممارسات الهجينة غير المتّسقة. ولكن إلى جانب ذلك، علينا أن نأخذ في اعتبارنا حقيقة أن النصوص وحدها لا تكفي، بل تحتاج هذه الخطوة، على أهميتها، خطوة أخرى لا تقلّ عنها أهمية، بل ربّما تتجاوزها في هذا المجال، والمقصود بذلك تعزيز اجراءات الثقة، وهذا لن يتحقّق بالمجاملات والخطابات العاطفية المنمّقة، وإنما بخطوات فعلية حقيقية، يتم تلمّسها واقعاً في الأرض.
وحتى تكون هذه العملية متماسكةً متكاملةً مستدامةً، لا بدّ من التوافق على آلية لحلّ الخلافات التي ستحدث، شاء المرء أم أبى. والتباينات والاختلافات والخلافات من الظواهر الطبيعية، إن لم نقل الصحّية، ما دمنا نحترم حقّ الآخر المختلف في التعبير عن رأيه بحرية، وبممارسة النقد والاعتراض على ما يعتبره خللاً أو خطأً. لذلك سيكون من المفيد أن تكون هناك آلية للتعامل مع الخلافات بغية تذليلها، عبر مؤسّسات قانونية دستورية، صلاحياتها وقواعدها واضحة، وأحكامها القضائية نافذة، والجميع أمامها في قضايا المساءلة والمحاسبة سواسية من دون أي تمييز موجب أو سالب. إلا أن التوافق على هذه الخطوات الثلاث سيكون عسيراً (إن لم نقل مستحيلاً) في أجواء طغيان اللغة الطائفية المذهبية البغيضة، والقوموية العنصرية المقيتة، خصوصاً في مجتمعات متنوّعة متعدّدة، مثلما هو عليه الحال في كلّ من سورية والعراق ولبنان وغيرها من الدول. فهذه اللغة المنبثقة من عقلية جمعية ثأرية تفتقر إلى أبسط مقوّمات النضج الوطني، والاتساق العقلي المنطقي، وهي تعتمد أسلوب تبنّي الأحكام المسبقة، التي قد تكون في صيغة كليشهات مكرّرة ممجوجة، توصف بها مكوّنات دينية أو مذهبية أو قومية بأكملها، من دون أيّ بحث أو تدقيق، أو تكليف النفس بضرورة التمييز بين مواقف التيّارات والأحزاب والأفراد ضمن هذا المكوّن المجتمعي أو ذاك، وهذا مؤدّاه تكريس ذهنية “نحن وهم”. نحن “الأمّة المصطفاة” وهم “الأشرار”. نحن أصحاب الحقّ والوطن، وهم الدخلاء الأغيار مصدر الشرور والمخاطر. وغالباً ما يكون مصدر ترويج هذه الأطروحات الزائفة، وتلك المقابلة لها، مجموعة من الناس ممّن يجهلون التاريخ القديم والوسيط للمنطقة، بل يجهلون حتى مجريات التاريخ الحديث والمعاصر، وخلفياته، خلال مرحلة إعلان تشكيل هذه الدول بموجب الاتفاقيات الاستعمارية بعد الحرب. لذلك، يلاحَظ أن هؤلاء المروّجين يتعاملون مع الحدود القائمة بين الدول المعنية وكأنّها حدود مقدّسة كانت منذ الأزل، وينبغي أن تستمرّ إلى الأبد. ولعلّ هذا ما يفسّر اعتبارهم شركاء الوطن والمصير “خصوماً”، بعد أن حشرتهم اتفاقات سايكس بيكو وإفرازاتها ضمن كيانات جغرافية، اقتطعت ولصقت وفق حسابات المستعمرين الإمبريالية؛ ومن دون أن يكون للناس داخل تلك الأوطان، التي ستصبح دولاً، أيَّ رأي، بل حتى معرفة بما كان يجري.
واليوم يقرّ المبعوث الأميركي باراك بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها القوى العظمى بعد الحرب العالمية الأولى في منطقتنا، سيّما في سورية والعراق. والجدير بالذكر هنا أن مثل هذه الأخطاء، التي كانت بناءً على التوجّهات والاستراتيجيات الاستعمارية، ارتكبت في أفريقيا، وأماكن أخرى متعدّدة في آسيا، وغيرها. والاعتراف بالخطأ فضيلة، هذا إذا كان صادقاً مبنياً على مراجعات عقلية ضميرية، ولكنّه مع ذلك لا يغيّر من الأمر كثيراً ما لم يُقرَن بخطوات عملية تؤكّد أن الخطأ ذاته، أو شبيهه، لن يتكرّر مرّة أخرى، وبصيغة أخرى. وهنا تتحمّل مجتمعاتنا عبر قواها السياسية ونُخبها وتيّاراتها الشعبية مسؤولية الإسهام في تبلور مجتمعات وطنية حقيقية، لا تكون مجرّد تجمّع من الحارات الدينية والمذهبية، أو القومية أو الجهوية المناطقية، حارات متوجّسة من بعضها، تتكوّر على ذاتها، تمارس النفاق والتقيّة، وتتحيّن الفرصة للانتقام الذي تعتبره حقّها المشروع بناءً على سردية مظلوميتها التي تغدو مع الوقت جداراً عازلاً، يقطع الطريق أمام أيّ نفَس وطني انفتاحي، لا تستغني عنه الدول الطبيعية المتوازنة.
العربي الجديد
——————————————————-
طلاب سورية يستعدون لامتحانات موحدة بعد سنوات من الانقسام/ هاديا المنصور
11 يونيو 2025
يعيش طلاب سورية وأسرهم هذا العام أجواء ارتياح وطمأنينة غير مسبوقة منذ سنوات طويلة بعد توحيد امتحانات الشهادة الثانوية، وهو أحد التغييرات على إثر إسقاط نظام الأسد الذي كان يجبر طلاب المناطق الخارجة عن سيطرته على السفر إلى مناطقه لتقديم الامتحانات في ظل ظروف أمنية واقتصادية صعبة.
وشهدت السنوات السابقة معاناة آلاف الطلاب السوريين، خصوصاً في الشمال والشرق، من الاضطرار إلى اجتياز مئات الكيلومترات والمرور عبر حواجز أمنية محفوفة بالمخاطر من أجل تقديم امتحانات الشهادة الثانوية المعترف بها دولياً، ودفع تكاليف باهظة للإقامة والنقل، ما شكل عبئاً نفسياً ومادياً كبيراً على العائلات. لكن العام الحالي، اعتمد نظام موحد للامتحانات والمناهج، ما أنهى الحاجة إلى الرحلات الشاقة والخطيرة.
تقول حنان السلوم، والدة أحد طلاب الثانوية العامة من مدينة إدلب، لـ”العربي الجديد”: “عشنا في السنوات الماضية حالة رعب قبل الامتحانات، ليس من الأسئلة، بل من الطريق والخوف من الاعتقال أو الفقدان، واليوم سيُقدم ابني امتحانه في مدرسته من دون خوف وبلا مصاريف تفوق طاقتنا”. أضافت: “كنت أجمع راتبي الذي لا يتجاوز 125 دولاراً كي أغطي مصاريف دراسة ابني وانتقاله إلى دمشق خلال فترة الامتحانات، وكنت طوال الامتحانات أعيش في رعب على سلامته”.
وأبدى الطالب أحمد الخطيب (18 عاماً) من ريف حلب الغربي سعادته، وقال لـ”العربي الجديد”: “نشعر بأن مستقبلنا لم يعد مرهوناً بمكان إقامتنا أو سيطرة جهة على منطقتنا. أشعر للمرة الأولى بأننا نعيش ضمن دولة. كان أهلي يتكبدون مصاريف سفري وإقامتي الباهظة في دمشق لتقديم الامتحانات، وهذا باستثناء المخاطر الأمنية التي قد يخسر فيها طالب حياته في أي لحظة”.
وفي خطوة وُصفت بأنها مفصلية، توصلت الحكومة السورية أخيراً إلى اتفاق شامل مع قيادة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لتوحيد الامتحانات في كل الأراضي السورية، وأعلنت وزارة التربية والتعليم فتح خمسة مراكز امتحانات لطلاب شهادتي التعليم الأساسي (التاسع) والثانوية العامة (البكالوريا) في مناطق “قسد”، وتأجيل امتحانات الشهادتين. جاء ذلك في بيان أصدره وزير التربية محمد تركو في 8 يونيو/حزيران الجاري، وتضمن أيضاً تأجيل الامتحانات لمدة أسبوع لاستكمال الإجراءات اللازمة لسير الامتحانات بما يلبي مصلحة الطلاب.
وينظر السوريون إلى الاتفاق على أنه أولى خطوات دمج مناطق شمال شرقي سورية مع باقي المناطق ضمن سلطة الدولة، ويرى سوريون أنها واحدة من أبرز مؤشرات عودة الاستقرار بعد أكثر من عقد من النزاع، ورمز لبداية مرحلة جديدة من إعادة بناء التعليم والمؤسسات الوطنية.
وبموجب الاتفاق، اعتمد منهج موحد بإشراف وزارة التربية والتعليم، وأُنشئت مراكز امتحانات رسمية في مناطق الحسكة والقامشلي والرقة وصرين ودير الزور، بإدارة مشتركة وبإشراف مراقبين تربويين من الطرفين، كذلك أُتيح للطلاب تقديم الامتحانات في مناطقهم من دون الحاجة إلى التنقل إلى مناطق أخرى، ما خفف الأعباء المادية والنفسية عن آلاف الأسر.
نضال مصطفى، والد أحد طلاب الثانوية العامة من مدينة الطبقة، قال لـ”لعربي الجديد”: “أشعر للمرة الأولى أن الدولة تتعامل معنا كمواطنين متساوين. أنهى الاتفاق القلق التي عاشته الأسر عند كل موسم امتحانات، وهو يعكس توجهاً جدياً لدمج كل أبناء سورية ضمن نظام تعليمي واحد يهدف إلى ضمان الاعتراف المتساوي بالشهادات، وتكافؤ الفرص في التقدم الجامعات والمهن مستقبلاً.
من جهته، قال محمد العلي، وهو طالب من الحسكة لـ”العربي الجديد”: “كنا نشعر بالتمييز سابقاً، وكأن شهادتنا أقل قيمة. الآن سنقدم الامتحانات نفسها في دمشق أو حلب ومحافظات أخرى. وهذا يمنحنا دافعاً كبيراً للدراسة ومواصلة تحقيق أحلامنا”.
ومع اقتراب موعد الامتحانات في 12 يوليو/ تموز المقبل، أمل العلي في أن تشكل هذه التجربة التعليمية الموحدة نقطة انطلاق نحو مصالحة حقيقية تشمل كل نواحي الحياة.
العربي الجديد
————————————
=========================