أبناء «الإخوان المسلمين» في العهد السوري الجديد/ حسام جزماتي

الذاكرة، والعلاقة مع العالم، والمهارات، وتلاقي الأجيال
10-06-2025
بات واضحاً أن تعيينات المسؤولين في السلطة السورية، التي تبلورت خلال الأشهر الستة الماضية، تنحو باتجاه تفضيل المنتسبين إلى هيئة تحرير الشام، ثم العاملين السابقين في «حكومة الإنقاذ» في إدلب، الذين قد يكونون أصلاً من «الهيئة» التي لا تُعلَن عن عضويتها.
غير أن شرائح أخرى لا بد أن ترفد هؤلاء؛ كيلا يبدو الاستئثار فاقعاً من جهة، وبحكم الحاجة إليهم من جهة ثانية، ولإرضاء بعض المكونات الطائفية أو المعادلات المحلية، أو الحسابات الشخصية أخيراً.
ومن بين مصادر التوظيف الرسمي هذه خطٌ يرجع، بفعل الولادة والأرومة الشخصية، إلى جماعة الإخوان المسلمين في سورية، كما تدل متابعة بعض الأسماء التي عُيّنت في مناصب متوسطة، خاصة في وزارة الخارجية. ورغم أن هؤلاء ليسوا عدداً كبيراً، إلا أن تحليل السياق الذي أتى بهم يفيد في فهم الحالة الإسلامية السورية، وطبيعة الحكم الجديد للبلاد، بشكل يتجاوز أهميتهم الذاتية والفاعلية الحصرية لمناصبهم، وهي ليست قليلة على أي حال.
يُقصد بمصطلح «أبناء الإخوان» ذرية بضعة آلاف من الجماعة، أُتيحت لهم فرصة الهروب من البلاد إبان أحداث الثمانينيات، فيما لاقى زملاؤهم حتفهم بالقتل أو بالإعدام، أو سُجنوا لسنوات طويلة شهيرة.
خرج هؤلاء، الناجون بالصدفة أو بالقدر، على أمل عودة سريعة، من دون أفق واضح ولا خطط للمستقبل. ومع انكسار الجماعة نهائياً في حماة عام 1982، وتوالي السنوات المُحبِطة، وجدوا أن عليهم تدبر أمور حياتهم الخاصة في الخارج؛ متابعةً للدراسة أو بدءاً لها من جديد، وزواجاً أو استقداماً للأسرة الناشئة – إذ كان معظمهم في العشرينيات والثلاثينيات – وبحثاً عن عمل ثابت.
وكما تنوعت مصائرهم، توزعت البلدان التي استقروا فيها. بين من بقي في الأردن الذي كان محطة اللجوء الأولى في الغالب، أو في العراق، الموئل الثاني، أو في السعودية ودول الخليج، الموطن الثالث المفضّل لكثيرين؛ وبين من وجد طريقه إلى المهاجر الأوروبية أو الأميركية. مما شكّلَ مروحة واسعة من الدول لم تستثنِ أفغانستان، رغبة في متابعة طريق «الجهاد»، واليمن عندما لا يُتاح غيره. واحتفظ هؤلاء بعلاقات معقدة متفاوتة مع الجماعة، تراوحت بين العمل التنظيمي النشط، قدر الإمكان، وبين الانسحاب مع البقاء في الجو العاطفي والشخصي، حباً أو نقداً لاذعاً.
وفي كنف هؤلاء نشأ جيل أعقد من الشبان والشابات، يشبه أفرادُهُ بعضهم بتأثير وحدة الفضاء الأيديولوجي للبيت وعلاقاته الاجتماعية، وبفعل شعور الاغتراب في بلاد لم يختاروها عن بلد لم يعرفوه، والمعاناة في وثائق السفر والإقامة.
لم ينتسب معظم هؤلاء إلى الجماعة، التي تبددت حدود عضويتها، لأن جيل آبائهم لم يشأ أن يورثهم الملاحقة الأمنية كاملة، أملاً في أن تتاح لهم زيارة البلد والتعرّف إلى العائلة الكبيرة، وفرصة الدراسة في الجامعات السورية إذا تَعقَّدَ الوضع في الخارج. وهو ما حصل للكثيرين مع تخفيف نظام الأسد إجراءاته الاستئصالية الشمولية ضد «الإخوان» وغيرهم.
أما من النواحي الفكرية والسياسية ونمط الحياة اليومية، فقد سار الأبناء في طريقين، ما بعد إخوانيَّيَن، مُتباعدَين. فمن جهة كانت الجماعة، التي سبق أن خاضت، طوعاً أو كرهاً، عملاً عسكرياً، مفتوحة على الفضاء الإعلامي والرمزي للجهاد الأفغاني، خاصة مع صعود نجم الحركات الإسلامية المسلحة على حساب الإخوانية الإصلاحية التقليدية. فيندر من بين الأبناء من لم ينفعل بمشاهدة إصدار جهادي أو من لم تشده شخصية أسامة بن لادن، من دون أن يتحول ذلك إلى اختيار هذا المنهج عملياً. ومن جهة أخرى عمدَ الآباء، وقد أتيحت لأكثرهم فرص البحبوحة المتراكمة، إلى توجيه أولادهم لدراسة اختصاصات واعدة، كتكنولوجيا المعلومات وإدارة الأعمال والعلاقات السياسية، في جامعات غربية، أو شبه غربية في الدول العربية. وقد منحَ ذلك للجيل الجديد فرصة إتقان اللغات والانفتاح على العالم، وقاده إلى نوع من الإسلام الحضاري اللايت، لكن أيضاً من دون أن يسير في هذا الخط نهائياً. وهكذا تجمَّعت، في كثير من نماذج الأبناء، مؤثرات متناقضة لكنها متعايشة، يغلّفها التهذيب الذي نشأ بفعل التربية الدينية غير بعيد عن تقية المنفيين.
على الضفة الأخرى كانت هناك «هيئة تحرير الشام»، طبعة ثالثة ومُنقّحة عن «جبهة النصرة» التي ارتبطت سابقاً بكل من تنظيمي «الدولة الإسلامية في العراق» و«القاعدة»، وكان على رأسها جيل من مواليد الثمانينيات هو الآخر، أتى من خلفيات اجتماعية غير دينية، كما يتضح الآن من المعلومات التي صارت متوافرة عن عائلات أبرزهم أحمد الشرع وأسعد الشيباني وأنس خطاب على سبيل المثال.
وعبر طريقهم الخاص وصل هؤلاء ورفاقهم إلى خلطة مشابهة لتلك التي تركبت في شخصيات أبناء الإخوان؛ ذاكرة جهادية تُناظر مخيلة أولئك، ورغبة في الانفتاح على العالم واستخدام أدواته والدخول في علاقاته، مما بدا أن المغتربين يمتلكونه، ولا بد من استثمار مهاراتهم فيه لتعويض نقص الخبرات المحلية التي لم تتمكن من متابعة تعليم مرموق.
وفي إطار أشمل، كانت تحولات إيديولوجيّة تحمل الطرفين إلى بعضهما. ففي الخارج كان الشيخ الدرعاوي محمد سرور زين العابدين قد ولّف بين التطلعات الإخوانية لتغيير المجتمع وبين الأساس السلفي، في تيار اشتهر باسمه وعُرف دراسياً بوصف «السلفية الحركية» وإعلامياً باسم «الصحوة». وتأثر به أبناء الإخوان بسبب علاقاتهم الجامعية والمسجدية، ولا سيما في دول الخليج أو في المراكز الإسلامية المتصلة بمؤسساتها الدينية في العالم. وفي الداخل كانت قيادة «هيئة تحرير الشام»، الباحثة عن طريق للنزول عن ذروة سنام «السلفية الجهادية»، تجد نفسها تلقائياً في هضبة السلفية الإخوانية المشار إليها أعلاه، طالما أن الانعطافة المفاجئة ربما تكسر عنق الجماعة، كما يتضح من اضطرابها المنهجي بعد التمدُّن المفرط الذي أبدته منذ معركة «ردع العدوان».
لكن هل يعني ذلك انفتاحاً من «الهيئة»، التي حلت نفسها ظاهرياً في نهاية شهر كانون الثاني المنصرم، على الجماعة المحظورة في البلاد منذ أوائل ستينيات القرن العشرين؟ لا يبدو أن شيئاً من هذا حاصلٌ أو على وشك الحدوث. فما زالت السلطة تصر على معاملة «الإخوان» على أنهم حزب يسري عليه منع النشاط حتى استعادة الحياة السياسية يوماً ما. وما زالت الجماعة تنظر بعين ريبة صامتة إلى ما يجري رغم أن أعضاء فيها، وربما على مستويات تنظيمية أكبر، مَنحوا الرضا لأبنائهم للإسهام في التجربة الجديدة، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
موقع الجمهورية