الجرافيتي والرسم الكاريكاتيري.. عندما يتحول الفن لفعل ثوري/ لونا الراشد

2025.06.12
عندما رسم الإنسان الأول على جدران الكهوف، بهدف توثيق حياته اليومية وجعل تلك الرسومات وسيلة للتواصل مع أقرانه ومع بيئته في آن معاً، لم يدرك أنه سوف يتحول ذلك بعد حين لفن له لغة خاصة تعكس الوعي وتوثق الوجود وتتحدى الواقع من خلال تفسيره ومحاولة التأثير به.
تطورت الفنون عبر العصور لتشمل أشكالاً عدة ومنها الرسم على الجدران أو ما يسمى اليوم بالجرافيتي، والذي كان مرافقا للحظات التحول الكبرى وفترات الغليان الثوري، فتحول فن الجرافيتي إلى أسلوب صريح ومعلن يعبر عن نقد المجتمع إما عن طريق رسمة أو عبارة تهكمية وساخرة من الحكام، فعبرت عن رغبة الإنسان في ترك أثر يحدث فرقاً في بيئته ومجتمعه، وكان الجرافيتي وسيلة فعالة وغير مكلفة لنشر رسائل التمرد والرفض، ولا يمكن تجاهل الجانب الجمالي في مثل هذه الفنون، حيث باتت جزء من عمليات تزيين وتجميل المدن بألوان وأفكار تعكس ثقافة الشارع الموجودة.
وأيضاً الكاريكاتير، يتميز هذا الفن بالصبغة الفكاهية التي يضفيها من خلال التضخيم والمبالغة في رسم الشخصيات أو تصوير حالة اجتماعية معينة، فتظهر بطريقة هزيلة وساخرة تترك أثراً بصرياً راسخاً لدى المتلقي، واستخدم هذا الفن كسلاح سياسي لانتقاد الحكام والأنظمة وكذلك للتعبئة الجماهيرية خلال الثورات والحروب، وتكمن قوة هذا النوع من الفن من خلال تبسيط القضايا المعقدة وإيصالها لجميع شرائح المجتمع، فكان بمنزلة مرآة عكست الواقع من خلال تصوير الحالة السياسية والاجتماعية وكذلك الاقتصادية من خلال إظهار الفروق الطبقية والتناقضات الاجتماعية بطريقة فكاهية.
وفي كل تحول كبير أو بأي ثورة في العالم يقف فن الجرافيتي والرسم الكاريكاتيري في ضفة مقابلة وموازية لأي فعل مسلح وعنيف يرافق الثورات، فيكون هذا الفن الأداة السلمية التي تفتح أفاقاً أرحب للتغيير الحقيقي في الوعي الإنساني.
الثورة الفرنسية وماذا فعل الكاريكاتير
في القرن الثامن عشر ميلادي بدأت الثورة الفرنسية والتي تعتبر من أبرز الثورات العالمية وأكثرها إلهاماً لأي فعل ثوري، كانت بلا شك ثورة دموية شهدت العديد من أعمال العنف وسقطت العديد من الرؤوس تحت المقصلة، حيث كان العنف أداة لا بد منها لكسر قبضة الاستبداد وإقامة الجمهورية، إلا أن أبرز ما بقي من آثار هذه الثورة ليس فقط تحقيقها لأهدافها، وإنما الرسومات الكاريكاتيرية الساخرة التي ملأت الصحف آنذاك وبقيت إلى الآن رمزاً ملهماً للشعوب الثائرة.
كان للرسم الساخر من الملك لويس السادس عشر وماري أنطوانيت كخنازير جشعة وهزيلة لا تبالي بفقر الشعب، الأثر البالغ في زعزعة ثقة الجمهور بالملكية، حيث تجاوزت تلك الرسومات حواجز الأمية والطبقية، ودخلت معظم البيوت الفرنسية، واستطاعت كسر هيبة العرش المترسخة في الأذهان لقرون، فتحولت من فن ساخر إلى فعل تحريضي وثوري عملت على تعبئة الجماهير وزرعت بذور السخط في الوعي الجمعي.
لم يكن الكاريكاتير فقط من كان له الأثر الأعمق، بل كانت اللافتات والشعارات التي كتبت على جدران المدن الفرنسية والتي نادت بالحرية والمساواة والأخوة الأثر نفسه في وعي الشعب الفرنسي، وهذا ما يجعل الفرنسيين من أكثر الشعوب تنظيماً للحركات الاحتجاجية والإضراب عند أي خطأ ترتكبه الحكومات.
“تشي” أيقونة ثورية التقطتها عدسة الكاميرا
في كوبا على الرغم من اتخاذ الثورة شكلاً مسلحاً كلاسيكياً، فكانت أقرب لما يسمى بحرب العصابات بقيادة فيديل كاسترو وأرنستو “تشي” جيفارا ضد ديكتاتورية باتيستا، “تشي” الطبيب الذي تحول إلى رمزاً ثورياً وقائداً عسكرياً، أثر في أجيال ثائرة شبابية حول العالم، وكان لصورة “تشي”، “المقاتل البطل” التي التقطها المصور الكوبي ألبرتو كوردا عام 1960 خلال جنازة ضحايا انفجار سفينة ” الكوبري” في هافانا، الأثر الأعمق حيث امتلأت الجدران واللافتات وحتى القمصان بتلك الصورة، وأشار موردا نفسه إلى أن تعابير وجه “تشي” في الصورة عكست مدى الغضب والألم.
لم تنتشر الصورة بشكل واسع في كوبا، ويعتبر الانتشار الحقيقي الصورة بعد وفاة “تشي” عام 1967 حيث قام المصور الإيطالي جيان جاكامو فيلتريني بالحصول على حقوق نشرها في إيطاليا واستخدمها على نطاق واسع في ملصقات تدعو إلى التضامن مع الحركات الثورية، تجاوزت هذه الصورة الحواجز اللغوية والثقافية، وباتت بمنزلة أداة بصرية تحث على التمرد والتحرر وإلهاماً لكل من يسعى للتغيير الثوري، فأصبحت الجداريات التي حملت صورته بياناً ثورياً وسياسياً بحد ذاته.
“أبو نضارة” أول مجلة عربية ساخرة
يعقوب روفائيل صنوع كاتب مسرحي وصحفي مصري، أسس مجلة “أبو نضارة” والتي تعتبر أول مجلة عربية استخدمت الرسم الكاريكاتيري كوسيلة ناقدة للوضع السياسي والاجتماعي في مصر آنذاك، أطلقت المجلة في باريس بعد تعرض صنوع للنفي من قبل الخديوي اسماعيل، حيث تابع نشاطه ونقده اللاذع تجاه سياسة الخديوي من منفاه وكتب العديد من المسرحيات التي تناولت مواضيع تتعلق بالواقع المصري مثل الفقر وتردي الحالة الاقتصادية، وبسبب النفس النقدي المعارض ليعقوب أدى لمصادرة المجلة فعمل على تغيير اسمها أكثر من مرة إلى “رحلة أبو نضارة”، و”النضارة المصرية” لحين تم إغلاقها نهائياً، وبعدها واصل يعقوب عمله الصحافي وأصدر بعدها مجلة “أبو صفارة” و”الثرثارة المصرية” وغيرها العديد التي اتسمت بالمعارضة والنقد الساخر الموجه نحو السلطات المصرية.
لا يسعنا قول الكثير عن حنظلة، فقد بات حنظلة رمزاً راسخاً في وجدان المواطن العربي، الطفل الفلسطيني ذو العشرة أعوام الذي يدير ظهره رافضاً لكل المشاريع والمعاهدات والاتفاقيات التي حدثت على أرض فلسطين، مستنكراً لكل المواقف العربية المخزية تجاه القضية الفلسطينية، حنظلة يمثل شخصية الرسام ناجي العلي الذي غادر فلسطين في سن العاشرة، ويقول ناجي العلي: إن حنظلة سيبقى بعمر العاشرة إلى أن يعود لفلسطين، فالزمن لدى حنظلة توقف منذ مغادرته فلسطين.
في معظم البلدان العربية لم تكُ الشرارة الأولى للحركات الثورية رصاصة أو خطاب ثوري، بل كانت مجرد فرشاة أو بخاخ ومساحة جدارية فارغة، امتلأت بعبارات وكلمات عبرت عن غضب الشارع العربي تجاه الحكومات.
في مصر تحولت جدران ميدان التحرير لمعرضاً فنياً يخلد لحظات الثورة ويكتب الشعارات التي وحدت الشعب، وكذلك في تونس وليبيا كانت الجدران الفضاء العام للتعبير عن النقد الموجه للأنظمة الحاكمة.
في سوريا بدأ الأمر بطريقة مشابهة، عبارة “جاييك الدور يا دكتور” التي كتبت على جدران المدارس في درعا والموجهة ضد النظام البائد هي الشرارة التي أدت إلى ردود الفعل العنيفة من النظام والتي حوّلت الحراك السلمي إلى حراك ثوري مسلّح، في ذلك الوقت امتلأت جدران المحافظات السورية بكلمة واحدة “حرية”، دفع السوريون كثيراً من التضحيات على مدى 15 عاماً من أجل نيلها.
وكانت لافتات كفرنبل التي قام بها مجموعة من الشبان السوريين، فكتبوا ووصفوا الأحداث السياسية والأمنية في سوريا، ورسموا العديد من الكاريكاتيرات الساخرة والناقدة للحكم الأسدي التي أسهمت بنقل حقيقة واقع الثورة السورية للمجتمع الدولي، ولا تزال تلك اللافتات منذ 2013 وحتى الآن خالدة حافظة ومؤرشفة لمرحلة مهمة من الثورة السورية.
كيف طوّع الإنسان يده لخلق الفن استجابة للعقل
على الرغم من أن الإنسان الأول لم يدرك أن رسمه كان فناً، فقد كان ثائراً على أدواته موثقاً وحافظاً لما يحدث من حوله، فكان الفن فعل تمرد بمضمونه، وهذا ما حمله الإنسان إلى اليوم، التمرد على واقع لا يرضيه والبحث عن وجود أغنى، إضافة لاكتساب خبرة من دون أن يتعرض للمخاطر، فيرسم على الجدران ليلاً ليتخفى نهاراً ويراقب ما أثر تلك الرسومات.
وربما إن كلمة الحرية التي خطت على جدران معظم البلدان والتي رفعت على اللافتات في كل لغات العالم، استحقت ليس فقط حركات تمرد بل أيضاً التعرض للمخاطر من أجل الحصول عليها.
وبهذا تكون اليد البشرية بدءاً من التقاطه للثمار وضم كفيه لجمع الماء هي الأداة والركيزة الأساسية للحضارة، وصولاً لخضوع اليد لأفكار العقل الساعية نحو التغيير ومن ضمنها الفن، فعلى الرغم من الأوضاع الاجتماعية المتباينة، فهناك في الفن شيء يعبر عن حقيقة ثابتة يجعل من الأجيال الحالية، أجيالاً مستجيبة ومتفاعلة للرسوم المنقوشة على جدران الكهوف في عصر ما قبل التاريخ، أو للأغاني التي انقضت عليها عشرات وعشرات السنين.
والفن وليد عصره وهو يمثل الإنسانية بقدر ما يتلاءم مع الأفكار السائدة في وضع تاريخي محدد ومع مطامع هذا الوضع وحاجاته وآماله، لكن الفن يمضي إلى أبعد من هذا المدى، فهو يجعل كذلك من اللحظة التاريخية المحددة لحظة من لحظات الإنسانية، لحظة تفتح الأمل نحو تطور متصل.
تلفزيون سوريا