مقالات سينمائية

استبدال الصالة أم استبدال الفيلم السينمائي؟/ نجيب نصير

13 يونيو 2025

لا تزال المهرجانات الكبرى لا تعترف بالفيلم السينمائي إلّا إذا عُرض تجارياً، في شروط التلقّي الجماعي. هذا حصل مع “الأيرلندي” (2019) لمارتن سكورسيزي في “أوسكار”، إذِ اضطرّ منتجوه إلى عرضه في صالات تجارية لـ27 يوماً، ليُرشّح لتلك الجوائز، فبدا الموضوع إشارة إلى أنّ الشرط السينمائي لا يكتمل في الدراما المُصوّرة إلّا بعرضه في صالة، يدفع جمهورٌ ثمن تذاكر الحضور فيها. إشارة أخرى: انتقال ثقل كمية المشاهدة من الصالات إلى وسائط تكنولوجية معاصرة، تتّصف بسهولة الاستعمال، كالفيديو والإيميل والمنصّات الرقمية التي تغطي العالم، أو كلّ مكان توجد فيه تغطية إنترنت.

تكتمل العروض بصفاتها، بمعنى ولادة أفلمة جديدة للحكايا الدرامية. ربما احتاجت، في وقتنا هذا، إلى تنظير سينمائي مختلف عن التنظير الذي يشرح السينما على أنها “شريط وصالة وجمهور”. هنا، يبقى الشرط الاقتصادي موجوداً وثابتاً، وربما مستقبلياً أيضاً. بهذا، يبقى الشريط والصالة بحاجة إلى تنظير مختلف، يرصد الفوارق ويعرّفها، للمحافظة على الصالة ـ الشرط، بوصفها مرحلة إبداعية تستمرّ جنباً إلى جنب مع مستجدّات التكنولوجيا، المتسابقة على تحصيل أكبر عدد من المشاهدين.

لكنْ، يُطرح سؤال: هل في هذه الخاصيّة التجارية يكمن الخلاف بين عروض الصالات وعروض الفيديو والمنصات؟ يبدو السؤال خصباً، لو أسقطناه على العالم العربي، المعروف أنّه مُستهلك للتكنولوجيات لا مُنتج لها. هذا يعود إلى استسهال استخدام التكنولوجيات من جهة، والنظرة إلى الفنون من جهة ثانية، ما يجعل هذه الخاصيّة التجارية أنْ تضعه أو تصنّفه أحدَ طرفي معادلة منتج ـ مستهلك.

من ثم، يظهر أنّ التكيّف الثقافي إحدى مشكلات العصر في هذا العالم العربي، ليتحوّل السؤال إلى كيف نستفيد من أحد التصنيفين، من دون تكيّف معرفي ـ ثقافي مع هذا المُنتج العالمي، أي القبول بكل استحقاقات استهلاك العروض البصرية، في الصالة والمنزل والطائرات. هذا يتطلّب ردات أفعال اجتماعية، تفتح الباب على الثقافة العالمية، حيث الانغلاق على الخصوصية، والرعب من اندثارها، محور تدور حوله أغلب التنظيرات في هذه المسألة. إنّه رعبٌ غير مُبرّر. فأي خصوصية تظهر في أي منتج بالضرورة؟ وأي إغفال عن الانفتاح يساهم في التصنيف الآنف من دون مواربة؟ يصبح الحوار ضرورة، فالفرق بين المنتج والمستهلك وجوديٌّ، إذا اعتبرنا أنّ هناك صراعاً بينهما.

أقرب تعريف لمنصة البث الرقمي: نموذج “أعمال” قائم على استخدام التكنولوجيا. هذا يستتبع مجموعة تطويرات في تقنيات الإنتاج والتسويق، أو بمعنى آخر “تكيّف” معرفي، يجعل عمليتيِ الإنتاج والتلقّي ـ الاستهلاك قابلتين للتطبيق العملي. هنا، لم نعد في حاجة إلى إعادة تعريف السينما والعروض البصرية، بل الكشف عن الفائدة الحقيقية من وجودها، أي الانفتاح والتواصل وتبادل المعلومات، فتبدو المنصة الرقمية استكمالاً معرفياً لسينما شريط الـ”سللويد”، الذي يندثر، مُقابل الكاميرا الرقمية التي ستستمرّ بالتغيّر والارتقاء، لكنها ستظلّ في إطار السينما والعروض البصرية، تماماً كما حصل مع المنصة الشهيرة “إتش بي أو (هوم بوكس أوفيس)”، التي بدأت عام 1972 بيع الأفلام والبرامج بتقنية “الكابل” ناقل الصورة، لتصير منصة إنترنت تصل إلى العالم كلّه.

كما أنها تقوم بكلّ الأعمال الإنتاجية للأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية وبثّها، مُتكيّفة مع الواقع الثقافي ـ المعرفي المستجدّ، من دون صراعات ثقافية. تبعتها في ذلك “نتفليكس” و”أمازون” و”والت ديزني” و”شاهد” وغيرها. كأنّنا أمام سلسلة من التطوّر السينمائي، الذي يرافق تطوّر الثقافة الاجتماعية. في هذا محاكاة تنبني عليها الفنون عامة، بوصفها وسيلة فضلى للجدل بين المنبر والحضور.

هذه القفزات النوعية في شروط العرض البصري السينمائي، جعلتنا غير قادرين على توقع القفزة التي تلي عروض المنصات الرقمية، التي يمكن مرافقتها بعروض بروجيكتور، بما يشبه، قليلاً أو كثيراً، العرض السينمائي، في صالة أو مقهى أو حديقة عامة. هذا لا ينطبق على كلّ المجتمعات، أي المشاهدين، من ناحية التكيّف الثقافي المناسب لعالمية الصورة المتحركة، إذْ يرتفع سقف الرقابة اللاحقة (ما بعد الإنتاج) إلى حدود غير مسبوقة، لتبقى قضية التكيّف الثقافي هذه عقدة تطوّرية، تمنع سقف الرقابة السابقة من الارتفاع، ما يؤدّي إلى شيطنة الارتقاء التكنولوجيّ برمّته، واستجدائه لصنع إنتاجات مناسبة “اجتماعياً”، تحت ذرائع الخصوصية والتقاليد.

مع ذلك، شاءت المنصات الرقمية أنْ تتغلغل في أشدّ الاجتماعات البشرية حرصاً على “القيم”، بشتّى الطرق والوسائط. فالسينما، الساعية دائماً إلى حصد تذاكر الجمهور المتلهّف على التسلية والترفيه، بوصفها خصلة اجتماعية إجبارية، استمرّت في جني الأرباح، مُحقّقة الغاية الأساسية منها، الى مقدرتها على حمل القيم الجمالية وبثّها للعامة.

في هذا السياق، كان لا بُدّ للمنصات الرقمية، القادرة على انتقاء طريقة التعبير الجالبة للمكاسب، أنْ أنتجت لنفسها أفلاماً، روائية ووثائقية وكرتون. لكنّ إنجازها الأعظم كان المسلسلات ذات المواسم، بحلقات أقلّ عدداً لكلّ موسم، مع قابلية هائلة للتشويق وعرض الجماليات، وكذلك المحتويات غير المطروقة اجتماعياً، مُعوّلة على عدد المشتركين في المنصات: 270 مليون مشترك في “نتفليكس”، بإحصاء 2024، و81 مليون مشترك في “إتش بي أو”. تتضاعف هذه الأرقام مع المشاهدين المرافقين للمشتركين، وهذا يستوجب جهداً تخطيطياً وتنظيمياً جبّاراً لحصد الإعجابات.

من هنا، تبدو هذه المنصات كأنّها استطاعت تطوير مفهوم السينما بطريقة لا تُردّ، وغير قابلة للانتكاس. لأنها، ببساطة، حالة معرفية، لا تعترف بقيمة الاكتمال. هذا فعلته السينما (الشريط ـ الصالة ـ الجمهور)، فلم تبقَ على حالها الأول، بل تطوّرت والتصقت بكل المُنجزات التكنولوجية، حتّى صارت لها تكنولوجيا خاصة بها، مُجبرة الفيديو والكابل والمنصات على استخدام أساليبها الخاصة في التعبير البصري.

لكنّ المنصات، بوصفها حالة سينمائية تطوّرية، أضافت إليها الشريط “الفيلم” الطويل جداً في الموسم الواحد. فما نشاهده عليها من مسلسلات ذات المواسم، أفلاماً سينمائية صُنعت ونُفّذت في شروط مرتاحة زمنياً (زمن العرض)، تجعل متابعة تفاصيل الحكايات الفيلمية جزءاً تأسيسياً فيها، وتؤدّي إلى إشباع الفكرة الدرامية. فكلّ عناصر الفيلم السينمائي موجودة فيها. هنا، تظهر السمة التطوّرية الرئيسية في صناعة الأفلام وتلقّيها.

اليوم، مع الشحّة التاريخية للمؤسّسات السينمائية في العالم العربي، التي أدّت إلى فقدان المعرفة العمومية بهذا الفن الحداثي، تأخذ منصات العرض الرقمي حصتها من الجمهور واشتراكاتهم، حاصدة اشتراكات الذين يقبعون أمام شاشات التلفزيون والفيديو، لتدخلهم عصر الرقميات، من دون الولوج إلى جدالات اجتماعية، تؤدّي إلى الخلاف. فالمشاهدة فردية، والمتعة فردية، والرأي فردي، ولو كان أشخاص عديدون في الشقة نفسها يشاهدون العمل نفسه، لكنْ كلّ منهم في غرفة.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى