السياسة بوصفها أداة تغيير/ حسان الأسود

2025.06.12
لكنّ الهُوية في بعض معانيها تشمل التضامن المجتمعي، إذ علينا أن نحمي بعضنا من استفراد مجموعة ما بالسلطة. وإذا كانت الانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية لمنع الاستبداد وللمشاركة في الفضاء العام، إلا أنها لا تعني وحدها أننا أصبحنا سياسيين، بل يجب أن تتوفر شروط معينة حتى يصبح المواطن كائنًا سياسيًا
من أنا؟ من نحن؟ من هم؟ أسئلة تتردد في صدور السوريين منذ أربعة عشر عامًا، وخلال الشهور الستة المنقضية من تاريخ التحرر تكاثرت الإجابات على هذه الأسئلة. حتى يجيب الإنسان عن سؤال الهُوية يمكنه أن يسلُك طرقًا كثيرة، لكنّها غالبًا ما تنطلق من رسم الحدود أو أن تصل إليها. الهُويّة وصفٌ، والوصف تحديدٌ، والتحديد قيدٌ، والقيدُ ضدّ الحرية! فكيف نصلُ إلى هُويتنا دون أن نتخلى عن الحريّة إذن؟ إنّه سؤال يجيب عنه الواقع، فكلّما كانت آفاقُ الحوار واسعةً، وكلما كان القبول بالرأي ومقابله ممكنًا، كانت النتائج دالّة على مضمون الهُويّة دون قيدها الكامن في تعريفها. هذا هو بالضبط عمل السياسة، التي هي الآلية الوحيدة التي أبدعها البشر لحماية أنفسهم احتكار مجموعة منهم السلطة أو الحقيقة أو المعرفة. السياسة حسب تعريف وزيرة الثقافة الجزائرية السابقة د. مليكة بن داودة، هي: “ما يسمح لنا بتنظيم العيش المشترك ولا يوجد أي اختراع آخر لتنظيمها، هي ما يصالحنا مع تنوّعنا”.
يقول المفكر الإسلامي الباكستاني محمد إقبال في إحدى قصائده: “سألني ربّي هل ناسبك هذا العصر وانسجم مع عقيدتك؟ قلتُ لا يا ربي، فقال لي: حطّمه ولا تبالي”. فهل هذا بمتناولنا جميعًا، وهل يمكننا أن نحطّم قيودنا التي لا تتوافق وفطرتنا الإنسانية؟ وهل يمكننا أن نصل إلى هُويتنا وحريتنا معًا بعد أن حطّمنا واقعنا القهري الذي حنّطه الاستبداد قَدرًا شاخصًا أمامنا؟ هل يمكننا أن ننظر إلى المستقبل وأن نعيش الحاضر قبل أن نجيب على أسئلة الهويّة المطروحة؟ الإجابة البسيطة والمباشرة هي: نعم، نستطيع. لكنّ التفاصيل تأتي بمعرفة الكيفية، وهذه الأخيرة تجيب عنها السياسة التي هي فعلٌ (Action) حسب تعبير حنّا أرندت. الناس التي تفعل، أي التي تعمل بالسياسة هي التي تقوم بترتيب البيت المشترك للوجود بشكل هادئ متعايش سلمي في العالم. أمّا الناس المنشغلون بقوت يومهم فهم لا يجدون الوقت للفعل، أي للسياسة. فقط الذين يفعلون هم الذين يجعلون العالم سياسيًا، ليس بالمعنى الحكوماتي الإداري، بل بمعنى الوجود السياسي وفق المفهوم الأرسطي. وحسب حنا أرندت يجب أن يكون كل فرد سياسيًا، وهو الضمانة لئلا يستفرد أحدٌ بالسلطة ويستبد بها فيقع الظلم والتجاوز للحريات. وحتى عندما يكون الفرد ضمن مجموعٍ معبّرٍ عنه بالأحزاب والاتحادات والنقابات، فإنّ ذلك لا يكفي وحده لتحوّل الفرد إلى فاعلٍ سياسي، فيجب أن يكون كل فرد واعيًا بما يكفي بموقعه في بلده ومحيطه وفي العالم أيضًا. هذا هو التحطيم الذي عناه محمد إقبال في قصيدته، تحطيم الثابت، وكسر القيود، والقفز في مغامرة العقل من قيود الهُويّة المحدّدة إلى فضاء الحرية المطلقة.
لكنّ الهُوية في بعض معانيها تشمل التضامن المجتمعي، إذ علينا أن نحمي بعضنا من استفراد مجموعة ما بالسلطة. وإذا كانت الانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية لمنع الاستبداد وللمشاركة في الفضاء العام، إلا أنها لا تعني وحدها أننا أصبحنا سياسيين، بل يجب أن تتوفر شروط معينة حتى يصبح المواطن كائنًا سياسيًا، أي ألا يكون منشغلًا بهموم الحياة اليومية، بحيث لا تكون أعباؤها ثقيلة عليه فلا يكون عنده متسع من الوقت أو حيز من الوقت للتفكير بالشأن العام. الأحرار فقط هم الكائنات السياسية، لكنّ الإنسان المكبّل بالمشاكل اليومية للأكل والشرب فهو لا يمكن أن يكون كذلك. لهذا سماهم أرسطو بالعبيد، ليس من باب التمييز العنصري، بل من باب أنّهم يكونون في العمل، ولكن ليس في الفعل. إذن الشرطية الأولى للحرية هي توفر مقومات الحياة الكريمة حتى يكون لدينا حرية وفعل سياسي، وحتى نصبح كائنات سياسية. وإذا كان المواطنون الأوروبيون، بالمعنى الأرسطي الذي تتكلم عنه حنا أرندت، ليسوا أحرارًا، لأنهم باتوا مواطنين مستهلكين لا يبحثون إلا عن متع الحياة الشخصية، عن المزيد من السفر والمساحة الشخصية، فما هو حالنا نحن الذين لم نحقق الطبقة الثانية بعدُ على هرم ماسلو، أي أننا لم نتخطَّ بعدُ حاجز الاحتياجات الفيزيولوجية والنفسية، لنصل إلى تحقيق الحاجات الثقافية للإنسان، أي الهُوية والانتماء!؟
فإذا ما كانت الهُوية تتحدد بفعل الثقافة، وإذا ما كان المتحكّم بالأخيرة، في حالات التعصّب القومي والصراعات المسلحة وعدم الاستقرار كما في بلادنا، هو صنم التوحش الذي يُقصي من اعتباره وجود ثقافات أخرى، فإننا سنجد أنفسنا دائمًا في الدائرة ذاتها من الانعزال والتقوقع. لقد بنينا أسوارًا عالية بيننا في بقعتنا الجغرافية المحدودة، وبدل أن يصبح الوطنُ بستانًا يزخر بالتنوّع، صار غابة يخشى فيها كلٌ منا الآخر. الحدود التي كبرت واتسعت لتسوّر هُوياتنا الفرعية خلال الصراع المحتدم، هي ذاتها التي أصبحت سدًا يمنعنا من التفكير خارج الصندوق ومن السباحة خارج التيار. لم نمتلك شجاعة الوقوف ضد المألوف، بل وضد ذواتنا لنقترب من الآخرين المختلفين عنّا، وهذا كان المدخل الذي أسعف الديكتاتور لينفذ منه إلى عقولنا وقلوبنا، فيحطمها ويستلبها ويمسح منها كل صفات التضامن الإنساني التي هي شرط السياسة الأول. أصبحت مجتمعاتُنا صحراءَ قاحلة، لأننا أُجبرنا على الانكفاء، ولأننا أُكرهنا على النظر إلى داخلنا باحتقار العبيد، فصار الآخر انعكاسًا لنا في مرآة الحياة اليومية، ولهذا صار عدوًا بدل أن يكون شريكًا في النضال من أجل بناء الوطن والهُويّة والمستقبل.
الخطوة الأولى لبناء الهويّة إذن هي إصلاح التربة التي تنبت فيها الثقافة، أي نبذ التعصّب والسطحية، فالثقافة في النهاية ليست جزءًا من الترفيه، فهي ليست مهرجاناتٍ ولا معارضَ ولا خطبًا حماسية، وهي ليست سلاحًا نحارب به الآخرين، بل هي شجرةٌ كلّما كبرت فإنّ ثمارها يمكن أن تسقط على الجيران، وهذا من فضل الله علينا، لأنّه سيجمعنا مع المحيطين بنا فيساهم في تذليل الصعوبات وجعل الخصوصيات التي تميزنا وتميز غيرنا عنّا قيمة نوعية محتفى بها لأنها تدلّ على التنوّع، لا حجر عثرة في طريق عيشنا المشترك. الثقافة بهذا المعنى هي ما يصالح الفرد مع كينونته وهويته مع تاريخه، هي ما يجعله مدركًا للتنوّع في بيئته ومجتمعه.
لكن بالمقابل، هل تتوفر هذه الشروط كلها في بلادنا التي ترزح تحت خطّ الفقر والفاقة الآن، وكيف لمن لا يجد قوت يومه أن يفكر بالثقافة والهُويّة وما بينهما؟ هل يمكن لهذا المواطن السوري أن يتحوّل من كونه كائنًا لا “سياسي”، بل ومعاديًا للسياسة بسبب انشغالاته اليومية التي تستنزفه، ليصبح النقيض فيدافع عن حقوقه وليمارس السياسة إذا ما شعر بالخطر؟ هل يمكنه أن يفعل مثل الفرنسيين الذين هبّوا واتّحدوا في وجه اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة حين تكاتفوا لإزاحة خطر ماري لوبين؟ لا نعرف هذا بيقينٍ مطلق، فالشهور الستة الأولى تبقى بكل الأحوال فترة قصيرة جدًا للحكم على الناس وردود أفعالهم، فنحن جميعًا ما زلنا نعيش صدمة ما بعد التحرر، ثم أتتنا صدمات أخرى مثل الذي حصل في الساحل وفي بعض مدن الجنوب وسوء التعامل مع ملف العدالة الانتقالية وغيره. لكن علينا بكل الأحوال أن نسارع للسياسة باعتبارها أداة التغيير الوحيدة الممكنة أمامنا، علّنا ننجو معًا من هذه المحنة.
تلفزيون سوريا