المثقف السوري من الثورة إلى الدولة: أدوار جديدة أم أعباء قديمة/ مهيب الرفاعي

03/06/2025
يروي المثقف السوري حكاية معقدة من الخوف والحياد والتواطؤ، تتقاطع فيها السياسة بالثقافة وتتشابك فيها معارك المعرفة مع سطوة الاستبداد، منذ أن استولى حزب البعث على السلطة عام 1963. حينها، بدأ المثقف السوري يعيش تحت وطأة سلطة تسعى لاختراق المجال الثقافي وتطويعه خدمةً لأهدافها السياسية وترويجًا لسرديتها الأمنية والعسكرية وتوظيف النخب الثقافية متحدثين باسم هذه الرواية. تعمّد فيها نظام الأسد ( الأب والابن) رسم سياسة مزدوجة تجاه النخب الثقافية: سياسة احتواء ناعمة وسياسة إقصاء عنيفة؛ وسياسة إرضاء وسياسة ترهيب، ليسير المشهد الثقافي بطريقة مخابراتية أمنية لا مجتمعية فكرية.
في سياق الاحتواء، أُنشئت اتحادات رسمية مثل اتحاد الكتاب العرب واتحاد الصحفيين، وقدّمت جوائز الدولة التشجيعية، وفتحت مساحات ترويج إعلامية للمثقفين الذين أبدوا استعدادًا لتجميل صورة النظام أو لتبرير سياساته. وجاءت نقابة الفنانين السوريين لتنظيم عمل فني جامع يضم الفنانين السوريين تحت سقف واحد، وهو السقف الذي حدده آل الأسد بحكمهم للبلاد. أبرز المدافعين عن سياسات النظام كان الشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس) الذي لم يتوانَ يومًا عن مهاجمة الثورة والمعارضة السورية متبنيًا رواية نظام الأسد في “حربه ضد الإرهاب”، ودريد لحام الذي كان يعلن ولاءه لنظام الأسد في كل محفل فني ولقاء تلفزيوني. هؤلاء دفعتهم رغبة جامحة بالتملق لسلطة الأسد، إذ رؤوا أن هذه السلطة هي سبيل الخلاص متجاهلين إرادة الشعب الحقة بالتغيير.
سابقًا، لم يتردد نظام الأسد الأب في اللجوء إلى القمع ضد من رفض الاصطفاف وراء تغريد جوقة البعث؛ فكان الاعتقال مصير كثيرين، مثل ميشيل كيلو وعارف دليلة، والمنع من النشر لاحق كتّابًا معارضين، والنفي أُجبر عليه آخرون أمثال صادق جلال العظم. هذه السياسات الثنائية أدت إلى إنتاج مشهد ثقافي مشوّه؛ بدا فيه المثقف إما تابعًا أو مقصيًا أو منكفئًا؛ ليتابع نظام الأسد الابن حملة القمع الممنهجة التي استهدفت المثقفين والفنانين الذين عبّروا عن دعمهم للحراك الشعبي أو انتقدوا سياسات النظام، ليكون من أوائل الفنانين والمثقفين الذين اعتقلهم النظام الناشطة الحقوقية ريما فليحان، الممثلة مي سكاف، والكاتبة والمؤلفة التلفزيونية يمّ مشهدي، وفادي زيدان، ونضال حسن، وسارة الطويل.
على الأرض، تنوّعت أساليب القمع بين الاعتقال التعسفي والتعذيب والتصفية الجسدية ومصادرة الممتلكات والتضييق المهني، ما دفع العديد منهم إلى المنفى أو الصمت القسري. ومن أبرز حالات الاعتقال والتصفية زكي كورديللو وابنه مهيار اللذان اعتقلا في أغسطس 2012 بعد مداهمة منزلهما في دمشق، ولا يزال مصيرهما مجهولًا حتى اليوم، وعدنان زراعي الكاتب الدرامي الذي اعتُقل في بداية 2012 وتعرّض لتعذيب شديد، وسمر كوكش الفنانة التي حُكم عليها بالسجن خمس سنوات بتهمة تمويل الإرهاب بعد اعتقالها دون محاكمة لمدة عام، ومحمد رشيد رويلي الكاتب والأديب الذي قضى تحت التعذيب في نوفمبر 2012 بمدينة دير الزور، ومحمد أكرم رسلان رسام الكاريكاتير الذي توفي تحت التعذيب في مراكز الاحتجاز التابع للنظام. ولم تقتصر ممارسات النظام على الاعتقال والتعذيب، بل شملت أيضًا مصادرة الأملاك إذ أصدر النظام قرارات بمصادرة ممتلكات عدد من الفنانين المعارضين، منهم أصالة نصري وفارس الحلو ويارا صبري وكندة علوش وعبد الحكيم قطيفان وجمال سليمان. كما تعرّض عدد كبير من الفنانين للتهجير القسري بعد تلقيهم تهديدات بالقتل أو الاعتقال، منهم جمال سليمان وسامر المصري ويارا صبري وعبد الحكيم قطيفان، والمخرج هيثم حقي وفارس الحلو وكندة علوش ومكسيم خليل وجهاد عبدو. وحتى الفنانين الذين حاولوا التزام الحياد لم يسلموا من التضييق إذ أُجبروا على إعلان الولاء العلني للنظام لضمان سلامتهم واستمرارهم المهني، وقد وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 14 فنانًا سوريًا، منهم أربعة قضوا تحت التعذيب، واعتقال 50 فنانًا لا يزال تسعة منهم قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري. تعكس هذه الانتهاكات حجم القمع الذي مارسه النظام السوري ضد المثقفين والفنانين الذين استخدموا أدواتهم الثقافية والفنية للتعبير عن تطلعات الشعب السوري، ورغم المخاطر استمر العديد منهم في النضال من أجل الحرية والكرامة سواء من داخل السجون أو من المنافي.
في ظل هذا الواقع، تشكلت أنماط مختلفة من المثقفين؛ فإضافة إلى المثقف الموالي الذي خدم النظام بوعي أو بدون وعي، مبررًا ممارساته القمعية ومدافعًا عن «ثوابت» الدولة الأمنية، مثل وائل رمضان وسلاف فواخرجي ودريد لحام وأدونيس، ظهر المثقف الصامت الذي اختار الانكفاء على ذاته، محافظًا على مسافة آمنة من السلطة، إما خوفًا من البطش أو قناعة بعبثية المواجهة؛ والمثقف المعارض والمنفي، الذي انحاز لقيم الحرية والديمقراطية ودفع ثمن ذلك سجنًا أو نفيًا أو تهميشًا كاملًا.
أسئلة مصيرية ووجودية
مع اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، طُرحت على المثقف السوري أسئلة مصيرية جديدة، وانقسم المثقفون حينها بين من انخرط بوضوح في الثورة ودعم حراك الشارع المطالب بالحرية والكرامة، وبين من اكتفى بالمراقبة، إما خوفًا من تعقيدات المشهد أو لعدم وضوح البدائل، وبين من واصل دعم النظام تحت ذرائع «الخوف من الفوضى» أو «المؤامرة». ورغم انخراط بعض الأسماء الثقافية الوازنة في صفوف الثورة، بقي صوت المثقف عمومًا أقل بروزًا مقارنة بالنشطاء السياسيين والميدانيين، لأسباب تعود إلى تآكل استقلاليته خلال عقود الاستبداد، وضعف تقاطع المثقفين مع قواعد اجتماعية أوسع.
ومع سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024، عاد النقاش حول «وظيفة المثقف» بقوة إلى الواجهة، ولا سيما في ظل التجاذبات بين النخبة والعوام وبين الرسمية والشعبوية. لقد صار واضحًا أن إعادة بناء سوريا الجديدة تقتضي ثقافة سياسية مختلفة جذريًا عن ثقافة الخضوع والتبعية. يُنتظر من المثقف اليوم أن يغادر موقع التبرير أو الحياد السلبي، ليصبح طرفًا فاعلًا في مشروع تأسيس دولة مدنية ديمقراطية. تقع على عاتقه مهمة استعادة استقلاليته الفكرية والمساهمة في صياغة خطاب جديد يعزز قيم الحرية والمواطنة والعدالة الاجتماعية، ويقطع مع إرث ثقافة الخوف والتواطؤ. إن سوريا ما بعد الاستبداد تحتاج إلى مثقف قادر على النقد والمساءلة وعلى تجسير الهوة مع المجتمع، بعيدًا عن النخب المعزولة أو المؤسسات الرسمية المفرغة من مضمونها.
المشاركة السياسية بين النقد والبناء
في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي تشهدها سوريا بعد سقوط النظام في ديسمبر 2024، يبرز سؤال محوري حول دور المثقف في بناء الدولة الجديدة: هل يجب أن يظل المثقف في موقعه النقدي الخارجي، أم أن المرحلة تفرض عليه الانخراط المباشر في مؤسسات الدولة والمساهمة في صياغة مستقبلها؟ في السياق السوري، يواجه المثقف تحديات كبيرة في تحديد موقعه ودوره في المرحلة الانتقالية. من جهة، هناك حاجة ماسة لحرية التعبير والرأي في سوريا الجديدة ما بعد الأسد. تتيح هذه الحرية للمثقفين السوريين المشاركة في صياغة الدستور وبناء مؤسسات العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، إضافة إلى تطوير سياسات التعليم والثقافة التي تعكس تطلعات الشعب السوري. ومن جهة أخرى، على المثقف أن يحافظ على استقلاليته الفكرية والنقدية، لتجنب الوقوع في فخ التبرير والدعاية الذي ساد في العهود السابقة؛ وألا يتحول إلى بوق سلطة يعيد تشكيل خطابها كما حصل مع مثقفي بلاط الأسد وحاشيته. ربما يكمن التحدي الأكبر الذي يواجه المثقف السوري اليوم في كيفية التوازن بين الانخراط في بناء الدولة الجديدة والحفاظ على دوره النقدي المستقل. فالمشاركة السياسية للمثقف يجب أن تكون مبنية على قيم الحرية والعدالة والمساواة، وأن تهدف إلى تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي الوقت نفسه، يجب أن يكون المثقف حذرًا من الانخراط المفرط الذي قد يؤدي إلى فقدان استقلاليته وتحوله إلى أداة في يد السلطة.
مع الحفاظ على استقلاليته الفكرية والابتعاد عن التسييس المفرط، المثقف الحقيقي هو الذي يسهم في بناء الدولة، دون أن يفقد قدرته على النقد والمساءلة؛ إذ إنه في امتدادٍ لمسؤوليات المثقف السوري في المرحلة الانتقالية، لا يتوقف دوره عند المساهمة في بناء مؤسسات الدولة الجديدة، بل يتعمق ليشمل إعادة صياغة الخطاب الثقافي برمّته، بحيث يتحول من خطاب نخبوي ضيق إلى خطاب وطني جامع يعزز المواطنة ويعكس التعددية الحقيقية للمجتمع السوري.
شأنهم شأن أي ثائر، دفع المثقفون السوريون ثمنًا باهظًا لمواقفهم الفكرية والسياسية. فوفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، لا يزال أكثر من 156,000 شخص، بينهم مثقفون وأكاديميون، معتقلين أو مختفين قسريًا حتى ديسمبر 2023 . كما تشير تقارير أخرى إلى أن آلاف المثقفين السوريين تعرضوا للاعتقال أو النفي خلال العقود الماضية، ما أدى إلى تفريغ الساحة الثقافية من الأصوات النقدية .
من بين هؤلاء، برزت شخصيات مثل مي سكاف، التي جمعت بين الفن والنشاط السياسي حتى وفاتها في المنفى، وسمر يزبك، التي وثّقت تجربة الحرب واللجوء من منظور نسوي وإنساني، وعبد الله فاضل وحسيبة عبد الرحمن مثالين على المثقفين اليساريين الذين عانوا السجن والتعذيب، لكنهم ظلوا متمسكين بقيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية .
في هذا السياق، يُستحضر مفهوم “المثقف العضوي” لأنطونيو غرامشي، الذي يرى أن المثقف يجب أن يكون مرتبطًا بقضايا مجتمعه، لا منعزلًا في برج عاجي. كما يُستأنس برؤية إدوارد سعيد في كتابه “المثقف والسلطة”، حيث يؤكد على ضرورة أن يكون المثقف صوتًا للحق في وجه السلطة، حتى وإن كان ذلك على حساب راحته الشخصية.
إن تجديد الخطاب الثقافي السوري يتطلب مراجعة نقدية للإرث الثقافي، وتحريره من رواسب البعثية والطائفية، وإعادة الاعتبار للتعددية الثقافية. كما يتطلب دعم حرية التعبير، وتشجيع ثقافة الحوار، وإنتاج سرديات وطنية جامعة. وفي ظل الثورة الرقمية، يمكن للمثقف استثمار الفضاء الرقمي لإعادة بناء الفضاء العمومي، وتوسيع دائرة التأثير الثقافي.
تجديد الخطاب الثقافي
في امتداد لمسؤوليات المثقف السوري في المرحلة الانتقالية، لا يتوقف دوره عند المساهمة في بناء مؤسسات الدولة الجديدة، بل يتعمق ليشمل إعادة صياغة الخطاب الثقافي برمّته، بحيث يتحول من خطاب نخبوي ضيق إلى خطاب وطني جامع يعزز المواطنة ويعكس التعددية الحقيقية للمجتمع السوري. فبعد عقود من تسخير الثقافة لخدمة الأيديولوجيا البعثية، التي طمست التعددية الثقافية السورية وروّجت لخطاب قومي مركزي ضيق، بات من الضروري الشروع في مراجعة نقدية للإرث الثقافي السوري. فعليًا، لا عني هذه المراجعة محو الماضي، بل غربلته بوعي مطلق لينتج لدينا تحرير الإنتاج الثقافي من رواسب البعثية والطائفية والأيديولوجيات المغلقة التي هيمنت على العقود الماضية، وإعادة الاعتبار للثقافات المهمّشة وللهويات الوطنية المتعددة ضمن نسيج اجتماعي واحد. في هذا السياق تبرز أهمية إعادة تعريف دور “المثقف العضوي”، ليصبح المثقف السوري جسرًا بين النخب والجماهير، وليس ناطقًا باسم السلطة أو منعزلًا في أبراجه العاجية. لم يعد مقبولًا أن يبقى المثقف حبيس الحلقات الضيقة أو المؤتمرات المغلقة، بل عليه أن ينخرط عمليًا في الحياة العامة، مسهمًا في بناء سياسات تعليمية وثقافية جديدة، مشاركًا في صياغة الدستور، وفي تعزيز العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
ومع تغيير طاقم وزارة الثقافية السورية، لا بد من إيجاد أدوات تجديد الخطاب الثقافي في سوريا تتطلب دعمًا فعليًا لحرية النشر والتعبير، وتشجيع ثقافة الحوار النقدي والتسامح، مع إنتاج سرديات وطنية جامعة تُعيد الاعتبار للتنوع السوري بمختلف مكوناته العرقية والدينية والمناطقية. كما تفرض المرحلة المقبلة على المثقف مواجهة تحديات معقدة، أبرزها التصدي لخطابات الكراهية والانقسامات الطائفية التي عمّقتها الحرب، والعمل على توثيق ذاكرة الانتهاكات بهدف بناء ذاكرة جمعية عادلة تكون جزءًا من عملية المصالحة الوطنية. ومع صعود الفضاء الرقمي، صار أمام المثقف فرصة نوعية لتوسيع دائرة تأثيره عبر استثمار وسائل الإعلام الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي لإعادة بناء الفضاء العمومي السوري، وتعزيز الحوار المفتوح وتسهيل تداول الأفكار بين مختلف فئات المجتمع، داخل الوطن وخارجه.
إن تجديد الخطاب الثقافي السوري ليس مشروعًا نخبويًا معزولًا، بل رافعة أساسية لبناء سوريا الجديدة، دولة مدنية ديمقراطية تتسع للجميع، وتصون حقوق الأفراد والمجموعات في ظل نظام سياسي تعددي حديث. المثقف السوري اليوم مطالب بألا يكتفي بالتنظير ولا بالتاريخ، بل أن يكون جزءًا من عملية إعادة التأسيس الثقافي على أسس الحرية والكرامة والمواطنة المتساوية، وهذه مسؤولية لا يجوز التفريط بها بعد كل هذا الثمن الذي دفعه السوريون.
مجلة رمان