سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنقد ومقالات

المسرح السوري.. ثنائية التغني به والتباكي عليه/ محمد صارم

12 يونيو 2025

من خارج الخشبة، ومن داخلها، أطلق المسرح السوري صرخته محاولاً كباقي الفنون الأخرى، تلمّس عناصره المصابة بالعجز والترهل اللذين أصاباه في سنوات الحرب، باحثاً عن أدواته الخاصة لينهض من جديد، متكئاً على مشروعية وجوده الإنساني، وعلّة أبوّته للفنون، ودوره التنويري المحمول على جناحي الترفيه والمتعة.

وعبر خطوات بطيئة ومنفردة في آنٍ معاً، صارع المسرح السوري لإثبات وجوده في فضاء مزدحم بالأسئلة والتفاصيل غير الممسوكة، وغياب شبه تام للرعاية الرسمية، التي انشغلت مؤخراً بتقديم الشعر كحالة منبرية واحتفالية، ولم يصدر عنها أي شيء بخصوص المسرح حتى الآن. وتاريخياً، شكّلت وزارة الثقافة الراعي الرسمي والغطاء الأبرز للمسرح السوري، وكانت الوزارة قد غابت كلياً عن الحكومة في الأشهر الأولى التي تلت سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي.

ولعل نهوض المسرح من تعثره وانطلاقته من جديد محكوم باختلافه، إلى حد ما، عن نهوض باقي الفنون ذات الطابع الفردي كالرواية والشعر والفنون التشكيلية والموسيقية، لأمر يتعلق بطبيعته؛ فالمسرح مشروط بتضافر حلقات متتابعة من الجهود الجماعية والإبداعات الفردية المتتالية، عليها أن تبدأ من بذرة الكتابة أولاً، والتي يشترط لتحويلها إلى ثمرة ناضجة أن تقترن بسلسلة من العمليات الإبداعية كالإخراج والتمثيل، والمؤثرات السمعية والبصرية، الأمر الذي يجعل حضور المسرح في العالم الواقعي مهمة ذات خصوصية أكثر تعقيدًا وصعوبة مما هو عليه في الفنون الأخرى.

عروض خجولة

شهدت العاصمة السورية دمشق أول عرض مسرحي بعد سقوط النظام، في الشهر الأول من هذا العام، قدّمه الأخوان ملص على خشبة مسرح الخيّام، وهو عمل من نوع مسرح الغرفة بعنوان “اللاجئان”، وسبق لهما عرضه في عدة أماكن خارج سورية، كما عرضاه في حلب. وللأخوان ملص تاريخ في مسرح “الغرفة” وعُرفا بنشاطهما المسرحي المعارض للنظام في الخارج قبل أن يعودا إلى دمشق بعد سقوط نظام الأسد.

وقدّم المسرحي زيناتي قدسية على خشبة المسرح الثقافي في مدينة حمص، عملاً في شهر مايو/ أيار الفائت بعنوان “المحرقة”، وهو من تأليفه وإخراجه وبطولته، واتكأ فيه على شخصية جحا التراثية، محملاً إياها مقولات عن نصرة الضعفاء في العالم، وداعياً إلى تحقيق العدالة والمساواة، وأشاد في الوقت نفسه بالنصر الذي تحقق، فحرر الفن والفنانين من سطوة القمع السابقة، وسمح لهم بالتحدث بحرية، كما ورد في وكالة سانا على لسانه.

ومن جديد، وفي الشهر الخامس، قدّم الأخوان ملص عملاً مسرحياً ثانياً لهما، تمَّ عرضه في منزلهما الكائن في حي العدوي، في دمشق  بعنوان “كل عار وأنتم بخير”، وحضره المئات، وركز العرض على فكرة التناقض بين أحلام المثقفين المنكسرة وأوهام العسكر العقائدية.

ويُنتظر خلال الأيام القادمة، تحديداً في الرابع عشر من حزيران/ يونيو الجاري انطلاق عمل مسرحي جديد على خشبة مسرح القباني في دمشق، بعنوان “سوق الأسئلة”، لغزوان البلح، وإخراج محمد حميرة، وهو مأخوذ عن رواية “الرصاصة” للكاتب الراحل فؤاد حميرة. وأدى المسرحي بسام داوود المقيم في ألمانيا دور الحكواتي خلال أنشطة جمعية أصدقاء السلمية، وضمن فعاليات تجمع “كلمة”، وجاء العمل بعنوان “عودة الحكواتي” أثناء زيارته لسورية.

وبعيداً عن حكم القيمة للأعمال المسرحية المقدمة، إلا أنها بدت جميعها وكأنها محاولات سريعة لملء الفراغ الناشئ مسرحياً، ويمكن الاستدلال على ذلك بمحدودية زمن العرض والتقشف الشديد في الديكور والأزياء والأكسسوارات، واقتصار العروض على المسرحيات ذات الشخوص القليلة، ويمكن النظر إليها كمشاريع فردية لمسرحيين أرادوا أن يقولوا “نحن ما زلنا هنا”.

ويعزو المسرحيون التباطؤ في حركة إقلاع المسرح السوري إلى جملة من العناصر المرتبطة بالتغيّرات السياسية والاجتماعية والأمنية السائدة في البلاد، بالإضافة إلى انعدام التيقّن من مساحة هوامش الحريات المتاحة، والحدود الرقابية المستجدة. لكن هذا الفراغ لم يمنع المسرحيين السوريين من التحرك باتجاه تكوين تجمعات مسرحية تهدف إلى توحيد الجهود المشتركة ومحاولة تجسيدها. فتم إطلاق تجمع ثقافي أهلي باسم “تجمع أصدقاء سلمية”، وانبثق عنه تجمع “كلمة” لرعاية جميع الفنون ومنها المسرح. كما شكل المسرحي داوود أبو شقرا وثلة من الكتاب المسرحيين “نادي أصدقاء جمعية المسرح” المنبثقة من اتحاد الكتاب العرب، وتهدف بحسب داوود أبو شقرا إلى تأهيل مجموعة من المسرحيين المحترفين وهواة المسرح لتقديم أعمال مسرحية، وأيضًا تهدف إلى إقامة دورات للكتابة المسرحية تمكنهم من كتابة أعمال مسرحية ترصد التغيرات الراهنة في المجتمع السوري، وتسهم في إعادة الألق للفن المسرحي، لتأصيله وتجذير علاقته بالمجتمع والجمهور، بما يحقق معادلة المتعة والفائدة معاً.

تراجيديا أم عبث؟

وكان المسرح السوري قد أصيب بانتكاسة كبيرة في زمن الحرب، فلم يعد ممكناً طرح مواضيع حساسة أو ذات مضامين تتناقض مع الرواية الرسمية للنظام، واقتصر الهم الرسمي على الاستمرارية الشكلية للمسرح، بغض النظر عن القيمة الفنية. وحاولت الجهات الرسمية الهروب من مضامين المسرح ومواضيعه إلى ابتكار عروض احتفالية مختلطة بالسرد والغناء والرقص والموسيقى. وأدت هجرة مسرحيين إلى فقر في الكوادر المسرحية، كما حالت ظروف الحرب والنتائج السياسية دون سفر المسرحيين ومشاركاتهم في المهرجانات العالمية والعربية، مما حال دون اكتسابهم خبرات ومعارف جديدة.

كما حالت الرقابة المشددة دون إنتاج نصوص محلية ذات مضامين راهنة للواقع في حينه، وغالباً هرب المسرحيون إلى اقتباسات وتعريب نصوص عالمية، للإشارة إلى أو لتهريب مضامين معينة ضمن نصوصهم، لكن هذا الكولاج نادراً ما كان يتناسب مع البيئة المحلية، فبدا غريباً عنها وعن هموم السوريين. ففي حين بدت سورية كلها وكأنها خشبة مسرح تراجيدي، لم يعد كافياً ولا مقنعاً حتى بالحد الأدنى الاكتفاء بتلك الإحالات الرمزية المتناثرة في النصوص المقتبسة والمعربة. حدث ذلك كله في ذات الوقت الذي فشل فيه المسرحيون السوريون في كتابة التراجيديا الخاصة بهم.

ولعل السؤال الذي طرحه النقاد حول اتجاهات ومضامين المسرح السوري في زمن الحرب (تراجيديا أم عبث؟) يشير إلى أن نتاج الفشل في الإمساك بعنصر التراجيديا الحقيقية قد أحالها بشكل تلقائي إلى مضمار العبث.

ومهما قيل عن المسرح السوري، فإنه ما يزال عالقاً بين ثنائية التغنّي به والتباكي على غيابه، ولا توجد مؤشرات راهنة على حدوث متغيرات كبرى في مسيرته ضمن الأفق المنظور. وعلى الأرجح، سيكون الأمر منوطاً بانتظار ولادة حركات مسرحية سورية، محمولة على نصوص محلية، تنمو في ظل ظروف ثقافية مواتية وقابلة للحياة، لإنتاج مسرح تفاعلي مع المجتمع السوري وقضاياه الإنسانية.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى